Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: Ars Medica (The Art of Medicine)

وإذا كان البدن ناقصاً من أفضل هيئاته، ثمّ لم يكن نقصانه عن ذلك كثيراًّ، فإن العلل الذي تحفظ صحّته تكون زائلة عن الاعتدال بقدر زواله عنه.

وأصناف الأبدان التي هي على هذه الصفة كثيرة. فقد ينبغي أن نفرد لكلّ صنف منها كلاماً على حدة، فأقول: إنّ البدن الذي قد تجاوز الاعتدال في مزاجه، ولم يغادر الاعتدال في تركيب أعضائه الآليّة، فإنّ أسباب صحّته صنفان:

أحدهما: يحفظ مزاجه على ما هو عليه، والآخر: ينقل مزاجه إلى أفضل المزاج.

والأسباب التي تحفظ مزاجه منحرفة عن الأسباب التي تحفظ المزاج الذي هو في غاية الاعتدال بقدر انحراف مزاج ذلك البدن الذي يحفظ عن المزاج الذي هو في غاية الاعتدال.

وذلك أنّ الأبدان التي هي أسخن منه تحتاج من التدبير إلى ما هو أسخن من التدبير الذي يحتاج إليه صاحب ذلك المزاج الأوّل.

والأبدان التي هي أبرد منه تحتاج من التدبير إلى ما هو أبرد.

والأبدان التي هي أجفّ تحتاج من التدبير إلى ما هو أجفّ.

والأبدان التي هي أرطب تحتاج من التدبير إلى ما هو أرطب.

وعلى هذا التركيب أيضاً: فإنّ الأبدان التي هي أسخن وأجفّ تحتاج من التدبير إلى ما هو أسخن وأجفّ.

وعلى قياس هذا يجري أمر الثلثة الأصناف الأخر المركّبة.

وإنّما يقدر أن يستعمل هذه الأشياء التي قلنا إنّها إذا صرّفت تصريفاً جيّداً، صارت أسباباً للصحّة، على ما ينبغي، من عرف قواها التي طبعت عليها.

مثال ذلك: أنّ الحركة، والإقلال من الطعام والشراب، والسهر، والاستفراغ، وجميع الأعراض النفسانيّة تجفّف البدن. وأضداد هذه ترطّب البدن.

وكذلك الحال في الأشياء التي تسخن، وتبرّد من الأعمال، والأطعمة، والأشربة. وبالجملة: فإنّ من عرف أصناف جميع الأشياء التي تعمل في البدن، وقواها، قدر أن يجعلها أسباباً للصحّة بأن يختار منها للبدن ما شاكله، وشابهه، إذا أراد حفظ مزاجه على حاله التي يجدها عليها.

وإذا أردنا أن ننقله، ونقصيه إلى مزاج هو أجود من مزاجه، فإنّ له في هذا الباب جنساً آخر من أسباب الصحّة مضادّ للأسباب التي ذكرناها، وبعده من الأسباب المعتدلة المتوسّطة التي قلنا إنّها توافق صاحب المزاج المعتدل الفاضل إلى خلاف الجهة التي ميل ذلك البدن إليها بعداً سواء. وذلك أنّ البدن إذا كان أسخن، وأجفّ، فليس التدبير المسخن، المجفّف يردّه إلى الاعتدال الصحيح، بل التدبير الذي هو أبرد، وأرطب من المزاج المعتدل بقدر فضل سخونة ذلك المزاج، ويبسه على المزاج المعتدل. وهذا الجنس من الأسباب يصلح المزاج الرديء بالطبع، والجنس الآخر الذي ذكرناه قبل يحفظ المزاج الرديء بالطبع على حاله. والطبيب يحتاج إليهما جميعاً في أوقات مختلفة. وذلك أنّه متى كان لصاحب المزاج الرديء فراغ طويل، ويمكنه معه أن يصلح مزاجه الرديء الذي بالطبع، فإنّ الطبيب يقصد فيه إلى ذلك الجنس من العلل، فينقل به البدن قليلاً قليلاً عن مزاجه إلى المزاج الذي هو أفضل. لأنّ الطبائع لا تحتمل الانتقال دفعة. فإذا كان صاحب المزاج الرديء بالطبع مشغولاً بأشغال اضطراريّة، فبالحرى أن يحفظه الطبيب على مزاجه الطبيعيّ.

فإن قلت: ما بالنا نسمّي هذا الجنس من الأسباب حافظاً، والأولى كان يسمّى ناقلاً، وشافياً، ومصلحاً للأوقات الطبيعيّة؟ قلنا إنّا نضيف هذه الأسباب إلى جنس الصحّة، لا إلى أصنافها، ونسمّي جميع الأسباب التي تحفظ أبدان الأصحّاء على صحّتها حافظة، كانت ممّا مع حفظها للصحّة تنقل المزاج بأسره إلى الذي هو أفضل، أو كانت ممّا يحفظ المزاج على حاله الأولى. ونسمّي جميع الأسباب التى تنقل المزاج إلى ما هو أردأ أسباباً ممرّضة. وإذا كان المزاج الرديء في جميع الأعضاء واحداً، فمداواته واحدة.

وإذا كان المزاج الرديء ليس في جميع الأعضاء واحداً فليس مداواة ذلك البدن مداواة واحدة. وذلك أنّه قد يمكن أن تكون المعدة أبرد ممّا ينبغي، والرأس أسخن ممّا ينبغي، فيحتاج كلّ واحد منهما إلى ما يوافقه. وكذلك أيضاً الحال في كلّ واحد من سائر الأعضاء إذا كان أرطب من المزاج المعتدل، أو أجفّ منه، أو أبرد، أو أسخن، فإنّه يحتاج من التدبير إلى ما يوافق مزاجه. فيجب متى كان مزاج أعضاء البدن مختلفاً أن تكون رياضة أعضاء البدن كلّها بالسواء، ولا يكون ترطيبها، أو تجفيفها، أو غير ذلك ممّا يفعل بها على مثال واحد.

وسنشرح ذلك شرحاً أكثر من هذا في كتابنا في تدبير الأصحّاء.