Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Aristotle: De Anima (On the Soul)

〈فى القوة الغاذية〉

ومن أراد أن ينظر فيما قلنا فهو مضطر إلى أن يعلم ما واحد 〈واحد〉 منها، ثم يطلب بعد ذلك ما يتلوها وما خلف ذاك من سائر الأشياء. وينبغى أن نعرف ما كل واحد منها لنعلم ما الحاس وما الغاذى مع تقدمنا أولاً معرفة ما الذى يفهم، وما الذى يحس فان الأعمال والأفعال متقدمة فى الحد القوى؛ وأخرى تقدم على ما كان مخالفاً لها، ويجب النظر أيضاً فيما خالفها، فمن أجل هذه العلة أولى ما نفصل فيه القول أولا: الغذاء، والشىء المحسوس، والمعقول. فلنقل أولاً فى الغذاء والتولد.

فان النفس الغاذية هى أول ما يوجد فى سائر الأشياء، وهى قوة شائعة بها يحيا الجميع. وعملها التوليد واستعمال الغذاء. وأحق أعمال الحيوان بالطبيعة إذا كان الحيوان بالغاً كاملا غير منقوص وليس كونه منه وبه أن يلد آخر مثله، كقول القائل: الحيوان يلد حيواناً، والنبات نباتاً مثله لتشرك الأبدى الروحانى بقدر طاقتها. فان كل شىء له يتشوق 〈و〉إياه يريد، وكل ما فعله فاعل بالطباع فمن أجله يفعله. ومعنى «من أجل» على جهتين: إحداهما له، والأخرى فيه. فلما لم يكن للفاعل الطبيعى أن يشرك الأبدى الروحانى باتصال البقاء، من أجل أنه ليس فى طباع ذوى الفساد البقاء على انفراد الوحدانية، فيكون الشىء باقياً بعينة وشخصه — صار كل واحد من لأشياء إلى مشاركته من حيث استطاع وأمكنه: فبعض أكثر، وبعض أقل؛ فالشىء كأنه هو الباقى، وليس هو الباقى بعينه فى العدد، إلا أنه داخل فى معنى توحد الصورة.

والنفس علة الجرم الحى. وهذا قول متصرف على أوجه: لأن النفس «علة» على الثلاثة الأنحاء التى ذكرنا آنفاً؛ وذلك أنها علة ابتداء الحركة، ومن أجل ذلك كان الجرم، وهى جوهر الأجسام ذوى الأنفس. — ومن الظاهر أنها علة كجوهر من الجواهر، لأن الجوهر علة آنية جميع الأشياء، وماهية الآنية تثبت معنى الحياة للحيوان، والنفس علة الحيوان. أيضاً الانطلاشيا هى بمعنى الشىء ذى القوة [الفاسدة]، والنفس هى انطلاشيا الجرم ذى القوة. — وكذلك الأمر بين فى أنه علة الشىء الذى من أجله كان الجرم. وكما أن العقل لا يعقل شيئاً بغير علة، كذلك الطباع لا يعقل شيئاً بغير علة، وتلك العلة هى غايته. وهكذا حال النفس فى الحيوان، لأن جميع الأجرام الطبيعة هى آلة النفس، وكما أن هذا موجود فى الحيوان كذلك نجده فى النبات، لأن النبات إنما كان من أجل النفس النامية. وقد أخبرنا أن لفظة «من أجل» مقولة على جهتين. — وأيضاً إن الذى منه كان ابتداء حركة المكان ذاك نفس؛ وليس هذه القوة موجودة فى جميع الحيوان. وبالنفس تكون الاستحالة والتربية، لأن الحس إنما هو ضرب من ضروب الاستحالة، وليس يحس ما لا نفس له. وعلى هذا المعنى يجرى القول فى الزيادة والنقصان، لأنه لا يزيد شىء ولا ينقض إلا أن يكون مغتذياً بالطباع، وليس يجب الغذاء لشىء إلا أن تشارك 〈فى〉 معنى الحياة.

وقد قال فى ذلك أنبادقلس قولا فلم يحسن: زعم أن النبات إنما يزداد تربية من ناحية العمق من أجل أن فى طباع الأرض الهبوط إلى السفل، وكذلك تكون الزيادة فيها إلى ناحية العلو من أجل أن الطباع فى النار يجذبها فى العلو. فتأول ولم يحسن التأويل فى العلو والسفل، لأنهما ليسا بحالة واحدة فى جميع النامية، وإنما أصول الشجر بمنزلة رأس الحيوان، والآلة وإن اختلفت فالعمل يجمعها. ومع هذا للسائل أن يسأل فيقول: ما الذى يحبس النار والأرض من ألا يذهبا على مجراهما؟ فانه إن لم يكن لهما حابس تشذبتا وتفرقتا. وإن كان هناك حابس فذلك هو النفس، وهو علة الغذاء والتربية.

وقد ظن أقوام أن طباع النار علة الغذاء، لأن النار فى ظاهر أمرها تغتذى من بين الجسوم والعناصر وتربو؛ لذلك جاز للظان أن يظن أن هذا من فعلها فى النامية والحيوان. — وإنما النار مع علة الغذاء ليست بنفسها علة الغذاء، بل النفس علة ذلك. والنار، ما أمكنتها الهيولى، كانت زيادتها لا غاية لها؛ وجميع ما ينميه الطباع له غاية معروفة، ولعظمه وتربيته حد من الحدود. وهذا من فعل النفس وليس من فعل النار، ولعله كان 〈من الصورة، لا〉 من الهيولى.

فلما كانت قوة هذه النفس قوة غاذية مولدة، وجب بالاضطرار أن يكون أول ما نحدد الكلام فى الغذاء، من أجل أن انفصال هذه القوة من سائر القوى لا يكون بهذا العمل الذى هو الغذاء. وقد رأى أقوام أن الغذاء إنما يكون من الضد إلى الضد، إلا أن ذلك ليس يكون فى كل شىء ما خلا الأضداد التى يكون بعضها من بعض — وقد بينتها — كذلك قد تكون أشياء كثيرة من أضداد، وليس جميع الأشياء هكذا: من ذلك أنه يكون صحيح من سقيم. والأشياء التى زعموا أنها تغتذى بالتضاد ليس يظهر أنه يغذو بعضها بعضاً بنوع واحد، وذلك أنا نرى الماء غذاء للنار، ولا تغذو النار الماء. وحرى أن يكون هذا فى الأجرام المبسوطة فيصير بعضها غذاء، وبعضها يغتذى. — فهذا القول مسئلة معاناة، لأن بعض الناس رأى أن المثل يغذو المثل ويربيه. ورأى آخرون — كما ذكرنا — خلاف ذلك أن الضد يغذو الضد، وهذه حجهم: زعموا أن المثل لا يألم من مثله، وأن الغذاء لا يكون إلا بالاستحالة، والنضج والاستحالة لا يكون من ضد إلى ضده أو إلى واسطة بين هذين. وأيضاً أن الغذاء قد يألم من الشىء المغتذى به، وليس ذلك من قبل الغذاء، كما أن النجار لا يألم من الخشب، بل الخشب الذى يألم من النجار، وأما النجار فانه يستحيل من لا فعل إلى فعل. — وينبغى أن نعلم ما الغذاء: هل الغذاء آخر ما فيه الزائد فى البدن؟ أم الأول منه هو الغذاء؟ فان 〈بين〉 هذين فصلاً. وإن كانا جميعاً غذاء، وأحدهما ليس ينضج والآخر نضج، يمكن أن يسميا كلاهما غذاء: إلا أن الذى لم ينضج هو الذى يغذى الضد، والنضج منهما هو المثل الذى يغذو مثله. وبهذا اتضح ما قال الفريقان من صواب وغير صواب. فاذا لم يكن شىء يغتذى، ما خلا ذا الحياة، فلا محالة أن الجرم ذا الحياة الذى يغتذى، وأن الغذاء لذى النفس لا بالعرض.

ولهذا معنى غير معنى المربى، فأحدهما من جهة الكمية صار مربياً ذا نفس، والآخر من أنه جوهر صار غذاءً، من أجل أنه يحفظ الجوهر قائماً ما كان مغتذياً به. ثم يفعل توليداً: ليس الذى كان يغتذى به، بل مثل الذى ينال الغذاء: وليس شىء يلد نفسه، ولكنه يحفظها لذلك. فيجب أن يكون بدء هذه النفس قوة يمكنها حفظ ما هى فيه، والغذاء معين له على الفعل، من أجل أنه إذا عدم الغذاء بطل كونه. — فلما كانت ثلاثة عدداً: المغتذى، والغاذى، والذى يغتذى به قابل الغذاء؛ وكانت النفس الشىء الغاذى، وكان المغتذى حاملها وهو الجرم، وكان الذى يغتذى به نفس الطعم، صار أول ما سميت به الأشياء التسمية من غايات أفعالها. وغاية فعل هذه النفس أن تولد مثلها. ولذلك وجب أن تكون النفس الأولى فى المرتبة النفس المولدة مثلها. — وأما «الذى يغذو البدن» فهو على جهتين، كما أن سائس السفينة إنما يسوسها بشيئين: أحدهما يده، والآخر سكانه. فأحدهما فاعل ومفعول به جميعاً، وآخر فاعل فقط وباضطرار أن كان كل غذاء فيه إمكان للنضج، وفاعل النضج الحرارة: من أجل ذلك وجبت الحرارة لكل ذى نفس.

فقد قيل بالجليل من القول ما الغذاء. وسنوضح القول فيه أخيراً إذا صرنا إلى الكلام الخاص به.