Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Aristotle: De Anima (On the Soul)

〈القوة الحاسة〉

فإذ قد فصلنا ما قلنا فى هذه وشبهها، فهلم لنقول قولا جامعاً فى كل حس. وقد أخبرنا أن الحس إنما يكون إذا ألم وتحرك بالانفعال، وذلك أنه ضرب من ضروب الاستحالة. وقد قال أقوام إن المثل يألم من مثله؛ وقد قيل كيف ذلك 〈يمكن〉 أو لا يمكن، ولا سيما فى جوامع الكلام قد قلنا عن الفعل والانفعال. ولسنا بقائلين عنهما شيئاً واحداً فى وقتنا هذا. — ولنا فى الحواس مسألة: لم كانت لا تحس أنفسها، ولم لا تفعل حساً بغير وارد يرد عليها من خارج، إذ كان فيها نار وأرض وسائر العناصر التى عنها يكون الحس بذاته، أو بما عرض له؟ وهذا دليل على أن المدرك بالحس ليس هو حارس المدرك له إلا بالقوة وحدها، لا بالفعل. ولذلك لا يحس منه مثل الشىء المحترق، فان المحترق لا يحترق فى نفسه دون المحرق له: ولو كان يحرق نفسه لقد كان ناراً بالفعل ولم يكن ليحتاج إلى غيره. — والإدراك بالحس مقول على جهتين: (وذلك أنا نقول إن البصير والسميع بالقوة هما بصيران سميعان ولو كانا قائمين) والحس الفاعل أيضاً مفعول على جهتين: إحداهما بالقوة، والأخرى بالفعل.

فلنقل أولاً إن التحرك والتألم، والفعل الذى لم يصل إليه — شىء واحد؛ وقد قيل فى غير هذا الموضع إن الحركة فعل، إلا أنه ناقص. وإنما يألم كل شىء ويتحرك بقعل يبدو من الفاعل فيصل إليه. لذلك قد يكون الشىء يألم من مثله، ويكون شىء يألم من غير مثله، كالذى ذكرنا آنفاً. وإنما يألم الشىء ما كان فى نفسه غير مثل، فاذا وصل إليه التغير فألم، عند ذلك يصير مثلا.

ولنقسم أيضاً القوة والفعل، ولنقل فى وقتنا فى هذا [فيها] قولا مجملا. يزعم أن الإنسان من ذوات العلم وممن يتخذ العلم؛ ونقول إن الذى يحسن النحو ذلك «عالم». وليس حال كل واحد من هذين فى التمكين من العلم بحال واحدة، لأن أحدهما إنما قيل «عالم» كجنس من الأجناس وكهيولى، وأنه إذا أراد أمكنه النظر، إلا أن يعوقه عائق من النوائب العارضة له من خارج. والآخر إنما قيل «عالم» كمن قد نظر نظر العقل فعلم بالحقيقة أن هذا الحرف المشار إليه «ألف». فهذان جميعاً عالمان علماً بالقوة، إلا أن أحدهما استحال ليعلم وانتقل عن حال التضاد، والآخر فيه جدة العلم وحسه، فمثل الآخر ما طبيعته ألا يرى أنه لا ببدأ فعله. — والانفعال أيضاً ليس بحال واحدة ولا مبسوطة، لأن منه ما هو فساد ضده، ومنه ما هو سلامة الذى بالقوة، فسلامته إنما تكون من ذى الفعل الشبيهة به. وليس يكون بحاثاً نظاراً إلا من كان له علم بذاته، وما كان هكذا لا يجوز أن يستحيل (لأن منه وفيه تكون الزيادة، وإنما ابداء الانطلاشيا وهو الفعل التام) 〈أو〉 ليس من جنس الاستحالة. لذلك لا يحسن لقائل أن يقول إن الحكيم إذا حكم كان ذلك منه استحالة، كما أنه لا يحسن أن يقول فى البناء إذا بنى: استحال. فليس فى الحق أن تسمى إحالة حركة ذى القوة إلى الانطلاشيا فى موضع العلم والفهم تعليما، بل يجب أن يكسب لها اسم غير التعليم. وأما ذو القوة مستفيد العلم والقابل له من العالم ذى الانطلاشيا فذاك قد قلنا إما أنه لم يألم ولم يتغير بما استفاد كالذى ذكرنا أولاً، وإما كان تغيره أحد ضربين: أحدهما الانتقال عن حال العدم، والآخر الانتقال إلى الغزيزة والطباع.

وأما الحاس فأول تغيره فانما يكون عنه من ساعته يصير إلى التعلم، كتغير النفس بالعلم. فأما الإدراك بفعل الحس فحاله مثل الحال من النظر والفكر؛ والفصل بينهما أن دواعى الحس إنما تكون من خارج مثل الشىء المنظور إليه والمسموع به — وعلى هذا يجرى القول فى سائر الحواس. وذلك أن الحس بالفعل لا يكون إلا من الأشخاص المفردة، وأن العلم للكل؛ وهذه ومثلها للنفس. والتفكر إليه إذا شاء، وليس الحس إليه لأن إدراك المحسوس من الحس إنما يكون منه بالاضطرار. وكذلك حالنا فيما ندرك من المحسوسة لعلمنا من أجل هذه العلة بعينها، لأن المدركة بالحس إنما تدركها الأشخاص المفردة.

وسنوضح القول فيها فى غير هذا الوقت. وأما الآن لنفصل بقدر ما نثبت أن «ذا القوة» لا يقال بجهة واحدة: وذلك أن منه ما هو شبيه بقول القائل إن الصبى تمكنه الفروسية، ويمكن من كان فى قامته مدركاً: وكذلك حال الشىء الحاس. ولكن لما كان الفيصل فيه لا تسمية له، لخصناه بالكلام أن ذا غير ذا، وأخبرنا كيف ذاك الغير، وألجئنا إلى استعمال لفظة التألم والاستحالة كأنها أسماء مسوقة على الحقائق. والحاس بالقوة شبيه بالمحسوس بالفعل كما قيل؛ فالشىء يألم ما لم يكن مثل حتى إذا ألم صار شبيهاً مثل ذلك الذى منه كان الفعل.