Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Aristotle: De Anima (On the Soul)

〈مذاهب الناس فى النفس〉

فاذا نظرنا وفكرنا فى أمر النفس فواجب أن نحصر آراء القدماء وما رأوا فيها مع الفحص عما تجب المسألة فيه والاستعانة بمن قال فيها قولا قاطعاً، فنكون قد أخذنا جيد ما قيل حقاً فيها، واستدفعنا ما قيل على خلاف ذلك.

وأول الطلب إثبات ما لا يشك فيه أنه لازم لطباع النفس. فالفرق بين ذى النفس وما لا نفس له فرقان: أحدهما بالحركة، والآخر بالحس. وهذان الشيئان أكثر ما أخذنا عن أسلافنا فى النفس.

وقد قال بعضهم إنه أحرى بالنفس أن تكون أول محرك. فلما ظنوا أن ما ليس بمتحرك لا يمكنه أن يحرك غيره، فانهم 〈قالوا〉 إن النفس بعض الأشياء المتحركة. ومن هاهنا قال ذومقراط إن النفس نار وشىء حار، وإن المفردات من الأشياء ذوى الأشكال لانهاية لكثرتها، وليس بين جميعها شىء مستدير كرى ما خلا النار والنفس مثله الهباء المنبث فى الجو الذى يستبين لنا بشعاع الشمس الداخل من الكوى — زعم ذومقراط أنه عنصر لجميع الطبائع (وبهذا القول كان يقول لوقيفوس). فما كان من هذا الهباء مستديراً فى شكله فذلك بزعمه نفس، من أنه [وما كان مثله] مداخلة الأجسام والنفوذ فى الأشياء وتحريكها؛ فظنوا أن هذا الهباء هو النفس معطية الحيوان الحركة، ولذلك وضعوا التنفس حد الحياة. لأن الجو المحدق بالجسوم يجمع الهباء فيدفع منه ما يمكنه الكسور أبداً فى اسطقسه المستدير فيعطى الحيوان الحركة، فالوارد منه معين على التنفس لما تقدم ومانع من أن ينقضى أو يخرج من الحيوان مع حبس جميعها، الجو حابس الجسوم ومجمدها. فالحياة قائمة ما أمكن الهباء أن يفعل هذا الفعل. — ويشبه أن يكون أشياع فيثاغورس أرادت هذا المعنى له: قال بعضهم إن النفس هو الهباء الظاهر فى الجو؛ وقال آخرون منهم إن محرك الهباء ضوء النفس. وقد أخبرنا لأية علة قالوا هذا القول فى الهباء. والعلة لهذه أن الهباء فى ظاهر أمره أبداً يتحرك، ولو كان همود من الريح أولاً. — وربما بهذا القول يقول من زعم أن النفس محركة لنفسها لأن كلهم قالوا بأن الحركة أخص بالنفس وأن الأشياء إنما تتحرك من أجزاء النفس وهى حركة نفسها؛ وهذه حجتهم: زعموا أنهم لم يروا شيئا فاعلا إلا أن يكون أيضاً هو متحركاً. — وكذلك قال انكساغورس: زعم أن النفس هى الحركة، وغيره ممن قال إن العقل هو محرك الكل. إلا أنهم لم يحتموا حتم ذيمقراط فى قوله: النفس والعقل فى الحقيقة شىء واحد، وأن الظاهر من الأشياء هو الحق؛ ولذلك أحسن أوميرش فى شعره إذ قال: «إن اقطر متغير بالعقل» وقال ذيمقراط ليس يستعمل العقل كقوة من القوى فى إدراك الحق، ولكنه يقول إن النفس والعقل شىء واحد. أما أنكساغورس فقلما شرحه فى كلامه عن النفس والعقل، وذلك أنه فى مواضع كثيرة يزعم أن العقل علة إدراك حقائق الأشياء وصحتها، 〈و〉فى موضع آخر يزعم أن النفس والعقل شىء واحد وأن العقل موجود فى جميع الحيوان فى الأكابر منها والأصاغر والشريف والوضيع. وليس بيناً أن العقل، 〈وهو〉 إدراك مميز الأشياء ومفصلها، موجوداً بحال واحدة فى جميع الحيوان أو الناس.

والذين نظروا فى الحركة التى تكون من حيث الأنفس قالوا إن المحرك هو النفس، والذين نظروا فى معرفة ذوات الأنفس وإدراكها للأشياء بحسها قالوا إن الأوائل هى النفس: ومنهم من جعل هذه الأوائل كثرة، ومنهم من قال إن الأولية واحدة كمثل انبادقلس فانه يزعم أن الأولية واحدة من جميع العناصر، وأن كل عنصر نفس على حياله. وهذا قوله:

«تعرف الأرض بالأرض والماء بالماء

«والهواء بالهواء ، والنار بالنار.

«والمودة — هى الاتفاق — بمثلها، والغلبة — هو الفساد — بفساد ومهلك مثله».

ولذلك يقول أفلاطن فى كتابه إلى «طيماوس» إن النفس من العناصر، وإنما يعرف الشىء غيره بما فيه مما يشبه المعروف عنده، وإن الأشياء إنما تكون عن أوائلها، وكذلك فصل قوله فى الحيوان فى كتابه الذى وضع فى كلام الفلسفة فقال إن الحيوان الذى من صورة الطول الأول والعرض الأول والعمق الأول وسائر الأشياء على مثل هذا النحو. وقد قال أيضاً بجهة أخرى إن العقل فرد، وإن العلم اثنان متوحدان، وإن عدد السطح رأى، عدد الكيف حس. فالأعداد يقال إنها أوائل الأشياء وصورها هى من العناصر؛ والأشياء نقبض عليها إما بعقل، وإما بعلم، وإما بالرأى، وإما بحس، فصور الأشياء هذه الأعداد. — ولما كانت النفس محركة ذات معرفة جمع أقوام لهذين الأمرين وأثبتوا [فيهما فى] أنها عدد محرك نفسه. — وقد اختلف أقوام فى الأوائل: فى عددها، وخاصة الذين قالوا بالجسوم فانهم خالفوا على من قال من بين الحس، وخالف على هذين جميعاً الذين خلطوا الأمرين فجعلوا الأوائل منها. — فمنهم من قال إن الأولية واحدة، ومنهم من قال إنهن كثيرات، وألحقوا بهن القول فى النفس فظنوا على غير صحة أن المحرك للأشياء هو الطبائع الأوائل. — وكذلك ظن أقوام أن النفس نار، من أجل أنها دقيقة الأجزاء وحرية أن تكون من بين العناصر لا جسم لها، وأنها تحرك غيرها بالذات لا بالعرض. — فأما ذيمقراط فقد أثبت فى هذا إثباتاً غامضاً وقال: لو كانت النفس والعقل شيئاً واحداً؛ وهذا قوله: زعم أنها من الجسوم الأول التى لا قسمة لها، وأنها محركة من أجل صغر أجزائها، وأن الشكل المستدير الكرى هو 〈من〉 بين الأشكال جميعاً أيسر حركة من غيره، وكذلك العقل والنار فى اسطقسهما واحد. فأما أنكساغورس فيشبه أن يكون قوله فى النفس غير قوله فى العقل، وأن كل واحد منهما كالذى أخبرنا عنه أولا، إلا أنه يستعملها جميعاً كطباع واحد، ويقدم العقل على كل شىء؛ وزعم أنه من بين الأشياء مبسوط لا خلط فيه. ثم ينعته بالحركة والمعرفة، ويرفعهما جميعا اليه ويقول إن العقل محرك الكل. — وثاليس الحكيم يشبه أن يكون ظنه بالنفس، على ما نجد من ذكره، بأنها محركة فاعلة، لاسيما إذ كان يثبت نفساً لحجر المغنطيس لمكان جذبها الحديد. — وذيوجانس كان يرى أن النفس جو، كغيره ممن رأى ذلك فيها لرقة أجزاء الجو 〈و〉لطافتها. وقال إن النفس صارت علامة محركة من جنس إحداهما أولية، فبجهة أوليتها تعرف ما خلفها من الأشياء، والجهة الأخرى أنها لطيفة الأجزاء: فبلطافة أجزائها صارت محركة. — وايراقليطس زعم أيضاً أن أولية نفس محركة. وكيف لا يقول هذا القول وهو القائل إن البخار ليس بجسم، وعنه تكون سائر الأشياء، وهو أبداً حار سائل؛ والمتحرك إنما يعرفه متحرك مثله، وهكذا كان يرى مع كثير من الناس أن الأشياء فى حركة. — وألقماون الحكيم مقارب لايراقليطس فيما يراه فى النفس. ويزعم أنها ليست بميتة من أجل أنها شبيهة باللائى لا تموت وإنما يثبت ذلك لها لدوام حركتها وكذلك جميع العالية: الشمس والقمر وسائر النجوم وجميع الفلك — حركها حركة مستديرة متصلة دائمة. — وقال أقوام فى النفس قولا جافياً بمنزلة الوقر الثقيل، وهذا قولهم: زعموا أن النفس ماء، وممن قال بهذا القول رجل يقال له هيفن والذى أداهم إلى أن قالوا هذا القول ما رأوا من النطفة وحالها فى أنها أرطب جميع الأشياء؛ وبهذا كان يرد هيفن على من قال إن النفس دم، وكان يرى أن النطفة هى النفس الأول. — وقال آخرون إنها دم كما قال اقرطياس: والذى دعاهم أن قالوا هذا القول ظنهم بأن الحس أخص الأشياء بالنفس، وأنه لطباع الدم دون غيره. — وقد نصت الحكماء على جميع العناصر، ما خلا الأرض فانه لم يقل أحد منهم فيها قولا قاطعاً، بل زعموا أن الأرض من جميعها.

وجميعهم حدوا النفس بثلاثة أشياء: بحركة، وحس، وأنها ليست بجسم. وكل واحد من هذه الثلاثة يرفع إلى الأوائل. ومن أجل الذين حددوها بالمعرفة جعلوها: إما عنصر، وإما من العناصر. فقارب بعضهم بعضا بالقول ما خلا واحداً منهم، فانه زعم أن المثل يعرف بالمثل؛ فلما كانت النفس عارفة بجميع الأشياء، أثبتوا أنها من جميع الأوائل. — والذين زعموا أن العلة واحدة والعنصر واحد أثبتوا أن النفس شىء واحد: إما نار، وإما هواء. والذين قالوا إن الأوائل كثيرة جعلوا الأنفس هى أيضاً كثيرة — إلا أنكساغورس وحده فانه زعم أن العقل لا يألم، وليس تشترك سائر الأشياء فى شىء من حالاته ولم يقل، بعد أن وصفه بهذه الصفة، كيف يعرف الأمور ولأية علة صار عالماً بالأشياء، ولا اتضح لنا هذا مما قاله فيه. — والذين جعلوا فى الأوائل تضاداً قالوا إن النفس من أشياء متضادة. والذى قال منهم بأحد الأضداد: إما بحرارة، وإما ببرودة، أو بغير ذلك مما أشبهها أجرى كلامه على هذا المجرى: إذ أن النفس واحد منها. واتبعوا الأسماء فى تأويل معانيها: فقال الذين سموا النفس شيئاً حاراً إنها سميت بهذا من أجل أن الحياة والحركة من الحرارة، وعلى هذا دل اسم الحياة 〈ζῆν〉 باليونانية؛ والذين سموا النفس شيئا بارداً زعموا أنها إنما سميت بهذا الاسم من أجل أن التنسم والتنفس إنما يكون بالبرودة، وتفسير اسم النفس 〈ψυχή〉 باليونانية: الشىء المبرد.

وهذا ما قال القائلون فى النفس مما أدى إلينا عنهم، وما أثبتوا من لعلل فيها.