Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Aristotle: De Anima (On the Soul)

〈الفكر والإدراك والخيال〉

والذى حدوا به النفس هو شيئان: حركة الانتقال، وإدراك الأشياء بالفهم والقضاء عليها. وقد يظن أن الإدراك بالفهم يشبه الإدراك بالحس (وذلك أن النفس فى الأمرين جميعاً تعرف وتقضى) وكذلك رأت القدماء — منهم أنبادقلس وأوميرش الشاعر — أن الإدراك بالعقل شبيه الإدراك بالحس وأنه شىء جسمانى، وهكذا كان ظن جميعهم ؛ وإن من فهم إنما يفهم بالمثل كالحاس إذا أحس فانما يحس بالمثل كالذى فصلنا فيما تقدم من كلامنا. فالواجب كان عليهم مع هذا أن ينظروا فى الغلط العارض فى الفهم والحس، لأنه أليق بالحيوان لمكان أهليته: فذو النفس قد يقيم فى الغلط زمناً طويلا. ولا بد بالاضطرار إما أن يكون ما قال أقوام حقاً: أن جميع ما ظهر من الأشياء حق، وإما أن مماسة غير المثل غلط وكذب، 〈لأن〉 هذا مضاد لإدراك المثل بالمثل. والعلم والغلط شيئان مضادان. وقد استبان بهذا أن الإدراك بالحس والإدراك بالعقل ليست حالهما حالا واحدة: وذلك أن أحد الأمرين موجود فى الجميع، والآخر لا يكون إلا فى أقل الحيوان. وليس الإدراك بالعقل (دون الإدراك إذا صح أولم يصح إدراكاً واحداً، وذلك أن صحة الإدراك بالعقل فهم وعلم وثبت صادق، والإدراك به على غير صحة خلاف لهذا كله)، وليس من هذه شىء مشاكل للإدراك بالحس، ذلك أن الحس أبداً صادق فيما كان خاصاً به وموجود فى جميع الحيوان — وقد يمكن أن يكون التفكر 〈كاذباً〉، ولا يكون فى من لا نطق له. — وأما التوهم فانه غير الحس وغير التفكر، ولا يكون ظن بغير توهم. ومن الظاهر البين أن التوهم ليس هو تفكراً ولا ظناً، وذلك أن التوهم إلينا (إذا شئنا نكتسبه من بين أعيننا، كالذى يفعل المذكرون لأنفسهم بنصبهم أوثاناً وأمثالا بين أيديهم لئلا يذهب عليهم الذكر)، فأما الظن فليس إلينا، بل نحن مضطرون فى ذلك أن نكون إما محقين وإما كاذبين. وإذا ظننا ظناً مخيفاً أو مشجعاً لنا فيغيرنا ذلك الظن من ساعتنا؛ وإنما حالنا فى التوهم كحال من رأى أشياء فى صورة مخيفة أو غير مخيفة.— والظن أيضاً فصول: منها علم ومنها رأى، ومنها حكم، وما كان مخالفاً لهذه. والكلام فيها قول غير هذا.

ولكن إذ كان الإدراك بالفهم غير الإدراك بالحس، وبعض إدراك العقل توهم وبعضه ظن، فلنحد أولا القول فى التوهم ثم نصير إلى ما بعد ذلك. إن التوهم حال يتخيل لنا فيها شىء ليس بموجود بالحقيقة، ولا نقول إن التوهم شىء منقول اسمه فيكون واحداً من التى يقضى بها: فاما صدقاً وإما كذباً. والتى يقضى بها هى الحس والظن والعلم والعقل.

وقد استبان مما قيل أن التوهم ليس بحس. وذلك أن الحس: إما كان فى حد قوة، وإما فى حد فعل، كقولنا: بصير، والإدراك بالبصر؛ ومن الظاهر أن التوهم ليس بأحد هذين: 〈على نحو〉 ما يكون منا فى النوم. — وأيضاً الحس أبداً غير مفقود، وليس التوهم كذلك. ولو كان التوهم أبداً موجوداً بالفعل لكان فى الإمكان وجوده فى جميع الدواب ولسنا نراه موجوداً فى جميعها مثل النمل والزنبور والديدان فانه ليس لها توهم. — ومن ذلك أيضاً أن الحواس أبداً صادقة وأن أكثر التوهم كذب. — ولسنا نقول إذا استقصينا حال الشىء المحسوس إنه فى ظاهر أمره إنسان؛ وإنما نقول هذا القول فنكون إذاً كاذبين فى توهمنا، وإما صادقين إذا لم يكن إدراكنا إدراك استقصاء، كالذى قلنا أولاً إنه يظهر لنا تخييل عند إغماضنا الأعين.

〈و〉أيضاً ليس التوهم من التى تصدق أبداً كالعقل أو العلم، وذلك 〈أن〉 التوهم قد يمكن أن يكون كذباً. والذى بقى علينا النظر: فعسى أن يكون التوهم خطر بالهاجس، فان الخطر قد يكون صدقاً، وقد يكون كذباً، أوعسى أن يكون رأياً، لأن التيقن آية اللاحق بالرأى (وذلك أنه لا يمكن أحداً أن يرى رأياً لا يتيقنه)، وليس لشىء من الدواب تيقن، والتيقن موجود لأكثرها، والتيقن لاحق لكل من يرى 〈رأياً〉، والقنوع لاحق بالتيقن، والنطق يتبع القنوع؛ والتوهم يكون للقليل من الدواب، وليس لها نطق ألبتة. — فبهذا قد استبان أنه ليس التوهم ظناً، لا مع حس ولا بحس ولا التركيب من الظن والحس توهم، ولا شك أن الظن لا يكون إلا لمن له حس؛ وأزعم أن التركيب الذى يكون من الحس بالأبيض، والنطق فيه هو التوهم، وليس التوهم من ظن الخير وإدراك الأبيض، والذى يظهر هو الذى يظن وإياه يدرك حساً بغير عرض. وتظهر أشياء وهى كذب والنطق بها صادق: كما أن الشمس تظهر بمقدار قدم، واليقين بها أنها أعظم من الدنيا. ينتج من ذلك إما أن يطرح الإنسان الظن الذى كان منه، وهو سالم فى الأمر لم يتألم ولا أنه نسيه ولا أنه قنع بغيره فانتقل عنه، وإما أن يقيم على ذلك الظن فيكون ظنه بالاضطرار صدقاً وكذباً 〈معاً〉. وإنما يكون ظنه كاذباً إذا ذهب علم الشىء عليه جملة، أو تغير الأمر. فلا محالة أن التوهم لا يكون من هذه التى ذكرنا أولا، ولا هو فى نفسه شىء منها.

ولكن إذا كان فى الإمكان أن يتحرك الشىء فيحرك غيره، والتوهم فيما يرى حركة وليست بكائنة بغير حس، وإنما يكون فى ذوى الحس، وفى الإمكان أن تحدث حركة عن فعل الحس فتكون بالاضطرار شبيهة بالحس — فالتوهم إذاً حركة لا يمكنها أن تخلو من الحس فلا تكون فيما لا حس له، ومن كانت له هذه الحركة فعل وتألم بها كثيراً، وفى الإمكان أن تكون هذه الحركة صادقة وكاذبة. — وإنما يعرض هذا فيها من أجل ما نحن قائلوه. إن الحس صادق فيما كان خاصاً له وقل ما فيه من الكذب. وإنما يجوز أن يغلط فيكذب إذا عرض له عارض: وليس يغلط فى أن الأبيض أبيض، ويغلط فى أن كان هذا أبيض أم الآخر، فهذا ضرب ثان من الخطأ. والغلط الثالث يكون منه فى الأمور الشائعة التابعة للأعراض: كقولك: الحركة والعظم، فانما تعرض للأشياء المحسوسة، وفى مثلها خاصةً يغلط الحس. وبين حركة فعل الثلاثة الحواس فرق: فالحركة الأولى صادقة ما كان الحس حاضراً، والأخريات كاذبات: حضر الحس المحسوس أو لم يحضر، ولا سيما إذا كان الشىء المحسوس نائياً بعيداً. — فان لم يكن مما قلنا شىء غير التوهم، وهو الذى نتكلم عليه، فالتوهم حركة من فعل الحس. وإذا كان البصر حساً 〈بالمعنى الأكمل〉، يسمى التوهم باليونانية باسم مشتق من الضوء لأنه بغير ضوء لا يمكن أن يرى أحد شيئاً، وليس يكون أكثر التوهم إلا من البصر. فلأن يكون الحيوان باقياً صار أكثر فعله عن التوهم، والبهائم من أجل أنه ليس لها عقل صار لها توهم — 〈و〉كان التوهم لذوى العقول، وهم الناس، من أجل أن العقل ربما عرض له عارض فحجبه، مثلما نراه يعرض له فى وقت المرض والنوم.

وقد قيل عن التوهم ما هو، ولم كان.