Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Aristotle: De Anima (On the Soul)

〈العقل المنفعل〉

فلننظر فى جزء النفس الذى به تدرك النفس وتعقل: أمفارق هو كمفارقة الجسم الجسم؟ أو إنما مفارقته بالمعنى وليس هو بمفارق ألبتة؟ وأى فصل له؟ وكيف يكون منه الفهم؟ — 〈هل هو〉 كمثل الإدراك بالحس فيألم بالمعقول بضرب من ضروب الآلام، أو هناك نوع آخر؟ و〈لا〉 ألم فيه ولا يحتمل التغير. وكيف قبوله: بالصورة أم بالقوة؟ — لا بحال واحدة، فيكون العقل عند المعقول بمنزلة الحس عند المحسوس، أم قبوله الصورة بضرب آخر؟ وبالاضطرار إذا كان هذا الجزء يعقل الجميع، ألا تكون المعانى يخالط بعضها بعضاً فيكون ذلك الجزء ممسكاً لها كما قال أنكساغورس، وإنما يكون هذا منه لكى يعرف القريب، فاذا ظهر له منعه ودفعه. لذلك ليس له طباع إلا طباع الامكان. فلا محالة أن عقل النفس المسمى عقلا (وهو الذى يتفكر به فيرى الرأى أيه) ليس بموجود فى شىء من الأشياء بالفعل قبل أن يدرك الشىء بفهمه. ولذلك لا يجب أن يكون مخالطاً للجرم ولا يوجب أن يكون متكيفاً إما حاراً وإما بارداً، ولو كان مثل الحاسة وجب ذلك له؛ إلا أنه ليس كشىء منها. وجاد ما قال القائلون إن النفس مكان «للصور»، إلا أن هذا المعنى ليس لكل نفس ما خلا النفس العاقلة فقط فانها مكان للصور بحد القوة لا بالفعل. — والدليل على الفرق بين المدرك للأشياء بالعقل، وبين المدرك لها بالحس ما نراه من حال الحاس والأعضاء الحاسة، وأن الحس لا يدرك إدراك الدون إذا أدرك المفرط من المحسوس: قرعاً كان، أو ناصعاً من الألوان، أو شديداً فى بشاعة رائحته: فلا البصر عند مثل هذا يبصر، ولا المنخر يشم، ولا السمع يسمع. ولا يمتنع الفعل إذا أدرك شيئاً من ذوى اللطافة والغموض من أن يكون دراكاً لما دونه بأكثر مما أدرك ذاك الأول: والحس لا يكون بغير جسم، فأما العقل فيفارق الجسم. فاذا كان كل ما ذكرنا بالحال التى قلنا قبل: إن العقل مثل العالم الفعال (وإنما يكون هذا إذا أمكنه أن يبدأ به الفعل) وبعد أن يعلم إذ علم أنه عالم فى حد القوة، ولا سواء قبل أن علم وقبل أن وجد العلم؛ ويمكنه فى ذلك الوقت أن يعقل نفسه.

وقول القائل: «جسم» غير قوله: «للجسم» ، وقوله: «ماء» غير قوله «للماء» (ويجرى القول على هذا النحو فى أشياء كثيرة، لا فى الجميع، وفى طوائف من الأشياء 〈يستوى الأمر〉): قول القائل: «جزء اللحم» و «لجزء اللحم» شىء واحد، فالعقل يقضى على الآخر فى الجنس، وعلى الآخر فى حال القسمة، وذلك أن «جزء اللحم» لا يكون بغير هيولى بل يقضى على الأفطس: كشىء مثل شىء فى شىء. فبالحس يقضى على الحار والبارد، وبموضع النطق يقول ما جزء اللحم ويقضى على الغيرية: إما كشىء مفارق وإما كخط أعوج عند نفسه إذا مر هكذا قضاؤه على ما كان لجزء اللحم — 〈وكذلك فيما يتصل بالكائنات المجردة، المستقيم يماثل الأفطس، لأنه مرتبط بالمتصل. ولكن ماهيته شىء آخر، لو كانت ماهية المستقيم مختلفة عن المستقيم: ولنفرض أنه المثنى. وإذن فنحن ندركه بملكة أخرى، أو بالأحرى ندركه بحال أخرى 〈للملكة نفسها〉. وبالجملة فانه كما أن موضوعات 〈المعرفة〉 منفصلة عن مادتها فكذلك فى عمليات العقل〉.

وللسائل أن يسأل فيقول: إن كان العقل شيئاً مبسوطاً لا يحتمل ألماً ولا تغيراً، ولا يشرك شيئاً من الأشياء كما زعم أنكساغورس، فكيف يفعل شيئاً، إذا كان إدراك الشىء بالعقل تألما؟ لأنه يكون يشرك الأمرين فيكون بحال فاعلا، وبحال مفعولا به. — وأيضاً إن كان العقل معقولا، فلاشك أن العقل لسائر الأشياء، إلا أن يكون معقولا بجهة غير الجهة التى منها ندرك الأشياء، وما عقل بالصورة فهو واحد من المدركة بالعقل؛ وإما أن يكون له خلط وهو يعقله مخلوطاً كسائر الأشياء. — وإنما قيل إنه يألم من قبل التجزئة، وإن العقل هو المعقول بحد القوة، وليس هو عقلا بالفعل قبل أن يدرك ما أدرك. ويجب أن يكون حال العقل مثل لوح ليس فيه كتابة بالفعل. — وهو أيضاً معقول مثل سائر المعقولة واللاتى لا هيولى فيها العاقل والمعقول منها شىء واحد، لأن العلم بحاث مفكر. وما كان من هذه الجملة معلوماً فحاله حال واحدة (ولكن انظر ما العلة لئلا يكون العقل أبداً مدركاً!) وأزعم أن المعقول فى دون الهيولى إنما هو معقول بحد القوة فقط. ولذلك لم يكن للأشياء الهيولانية عقل، لأن العقل من جهة القوة ليس فى هيولى. وأما المعقول فانه للعقل، منسوب إليه.