Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Aristotle: De Anima (On the Soul)

〈نقد نظرية النفس الحركة نفسها〉

فهلم فلننظر فى حركة النفس أولاً. فعسى أن يكون قول القائل فى أن جوهرها محرك نفسه أو محرك غيره كذباً، وليس كذباً فقط بل عمى أن لا يمكن أن تكون لها حركة.

وقد قيل أولاً إن المحرك الفاعل ليس بمضطر أن يكون متحركاً فى نفسه. — وكل متحرك إنما يتحرك على جهتين: إما بالذات، وإما بالعرض. وكل ما كان فى شىء متحركاً — وإنما حركته بسبب ذلك الشىء المحرك له — فحركته بالعرض، ومثل ذلك السائرون فى السفينة فان تحركهم فيها ليس بشبيه بحركة السفينة المحركة لهم، لأن السفينة تتحرك بذاتها، والسائرون فيها يتحركون بحركتها. وأعضاؤنا دليل على هذا: لأن المشى أبين الحركات بالأرجل وأن الناس إذا مشوا تحركوا بذاتهم، وركاب السفينة ليسوا يمشون وهم متحركون. — وإذا كان المتحرك على جهتين، هلم لننظر فى حركة النفس: أبذاتها تتحرك، أو إنما تصير إلى الحركة بغيرها؟ والحركات أربعة: حركة انتقال، واستحالة، واضمحلال، وحركة نماء؛ فالنفس إن تحركت فاما أن تتحرك بواحدة من هؤلاء الأربع حركات، وإما بأكثرها، وإما بجميعها. فان كانت حركتها ليست بالعرض فهى طبيعية. فان ثبت هذا فقد ثبت بحركتها المكان، لأن جميع هذه الحركات التى ذكرنا توجب المكان. — وإن كان جوهر النفس، وهو المحرك لها، فليس تحركها بالعرض كمثل ما نرى تحرك الأبيض وذى الأذرع الثلاثة، فان هذه ومثلها قد تتحرك، إلا أن حركته بالعرض، لأن الجسم الذى هى له هو المتحرك، ولذلك ليس هو بمكان لها. ويلزم المكان للنفس إن كانت حركتها طبيعية. — وأيضاً إن كانت تتحرك بالطباع فحركتها حركة اضطرار، وإن كانت حركة اضطرار فهى حركة طباعية. وعلى هذا النحو يجب القول فى السكون، لأن الموضع الذى تحركت فيه بالاضطرار فيه تسكن بالاضطرار. — ولو أردنا الادعاء والتجنى، لما وجدنا السبيل إلى أن نقول أية حركات تكون بين النفس باضطرار، وأى سكون منها بالقهر والاضطرار. — وإن كانت حركتها مصعدة فهى نار، وإن كانت هابطة فهى أرض، لأن بهذه الحركات تعرف هذه الأجساد. وهذا القول يلزم الحركات اللاتى بين هاتين. — وإن كان الظاهر من النفس أنها محركة الجرم، فواجب أن تكون تحركه الحركات التى تتحرك هى فى نفسها؛ وإن كان هذا هكذا، فالعكس واجب: أن الحركة التى 〈بها〉 تتحرك الجسوم هى حركة النفس. وقد بين 〈أن〉 الجرم يتحرك حركة الانتقال، فكذلك يجب أن تكون النفس متنقلة فى الجسم: إما كلها، وإما بأجزائها. وإن ثبت هذا القول ففى الامكان أن تخرج من الجسم ثم تعود اليه، ويلحق بهذا القول أن يقوم الحيوان الميت. — وإن كانت حركة النفس حركة عرض، فهى حركة حفز ودفع، كالذى نرى من الحيوان إذا حفز غيره، ليس ينبغى لما كانت حركته من ذاته وفى جوهره أن يكون محركه غيره إلا أن يكون بالعرض، كما أنه لا ينبغى للجواد فى نفسه أن يكون جواداً بسبب شىء آخر، والمرغوب فيه لذاته مطلوب لغير ذاته. وقد يجوز لقائل أن يقوم إن النفس قد تحركها الأشياء المحسوسة إذا كانت فى نفسها متحركة لأنها وإن كانت محركة نفسها إلا أنها حين تحريكها نفسها قد تتحرك لذلك، إذ كانت حركة كل شىء من الأشياء انتقاله وتزحزحه بجهة حركته التى هى له. فالنفس إذاً قد تحول عن جوهرها بذاتها، إذ لم تكن محركة نفسها بالعرض، وكانت حركة جوهرها بذات النفس ثابتة. — وقد قال بعض الناس إنها تحرك جرمها الذى هى فيه بمثل ما تتحرك هى بنفسها. وقد قال ذومقراط قولا مقارباً لقول فيلبس معلم هجاء الناس فانه زعم أن رجلا يقال له دادالس هيأ صنما من خشب للزهرة وكان يتحرك من ذاته من أجل ما صب فيه من الفضة المسبوكة (وهى الزئبق). 〈وكذلك يقول〉 ذومقراط إن الأجزاء المستديرة التى لا تتجزأ، من أجل أنها أبداً تتحرك، كذلك تجتذب الجرم وتحركه. ونحن نسأله فنقول: إذا كان هذا بعينه من النفس، أتفعل أيضاً سكوناً؟ والجواب يصعب فى الاخبار عن السكون كيف يكون منها. وعسى أن لا يمكن أن يقال فيه شىء، وذلك أن تحريك النفس للحيوان لا يكون من هذه الجهة ألبتة، وإنما يكون بضرب من ضروب الاختيار والعزم.

وقد قال أفلاطن فى كتابه إلى «طيماوس» عندما فحص الخبر عن طباع النفس إنها [إذا] تحرك الجرم بتحركها من أجل أنها مرابطة له ومقارنة. وإنما كونها من العناصر، وهى ذات أقسام كعدد التأليف، ولكى يكون لها حس طبيعى من التأليف، ولتتفق حركات الكل حنى الخالق خطها المستقيم [...] فجعله دائرة ثم قسم الدائرة الواحدة بدائرتين تلتقيان على قطبين، فقسم أحدهما بسبعة أفلاك فصير حركات الفلك حركات النفس. هذا 〈قول أفلاطن〉 — وقبل كل شىء فانه لا يصح قول القائل إن النفس جسم، لأنه إذا قال هذا القول ألزم نفس الكل معنى الجسم، ونفس الكل هو العقل الذى يسمى عقلا، وليس هذه حال النفس الحاسة أو النفس النامية، لان حركاتها ليست حركات مستديره فلكية. فأما العقل فحركته حركة مفردة متصلة كمثل الفهم، والفهم هو المعنى. وهذه من جهة التوالى شىء واحد كمثل العدد، وليس مثل العقل، لذلك لم يكن العقل بهذه الجهة متصلا، بل هو فى نفسة لا أقسام له. وليس اتصاله مثل اتصال الجسم. — وإلا فكيف يدرك الجسم وهو جسم؟ ولابد من أن يكون إدراكه إما بجزء من أجزائه (إن جاز أن نقول إن له جزءاً ما) 〈أو〉 بنقطة بعد نقطة وإن كان إدراكه الشىء بنقطة بعد نقطة، والنقطة تزيد 〈إلى غير نهاية〉 فليس تنقطع النقط ولا تنفد، فلا يأتى على إدراك ما أراد إدراكه وإن كان إدراكه الشىء إنما يكون بجسم، فهو مدرك الشىء بعينه إما مراراً كثيرة، وإما مراراً غير محصلة. وقد رأينا إدراك الشىء مرة واحدة من الممكن، وإن كان يكتفى فى حد الادراك أن يماس الشىء بجزء من أجزائه، فما حاجته إلى حركة الدور، أو أن يكون له جسم ألبتة؟ وإن كان فى موضع الادراك مضطراً أن يماس الشىء بحركة دورة، فما معنى مماسة الشىء بحركة دورة؟ وما معنى مماسة الشىء بأجزائه؟ أو كيف يعقل ذو الأقسام ما لا قسم له؟ أوما لا جزء له كيف يدرك ذا الأجزاء؟ وباضطرار، إذا كانت حركة العقل حركة دورة، أن العقل فلك وإنما حركة العقل الادراك، وحركة الفلك الاستدارة؛ فالعقل إذاً فلك إن كانت استدارته إدراكاً. — ويجب أن يكون أبداً مدركاً شيئاً، إذ كانت حركة استدارته حركة سرمدية. وقد ينتهى الفكر فى الأعمال ولها نهاية (لأن جميعها إنما تكون من أجل غيرها) ونهايات الفكر فى العلم محدودة بالقول أيضاً؛ والقول حد وبرهان، وجميع البراهين لها من ابتدائها مخرج إلى غايتها، وغايتها جمع مقدماتها أو نتائجها وإن لم ينتج البرهان، فليس يحتمل العكس على مقدماته. ومتى ما صار للبراهين واسطة وطرف استقام مذهبها، وإن الاستدارة قد ترجع عاطفة على أو لها. وجميع الحدود لها غايات ونهاية. — وإذا كانت حركة العقل حركة دور غير منقطعة، فمدرك الشىء قد يدركه بعينه مراراً كثيرة. — والادراك بالعقل، بالسكون أشبه منه بالحركة، وكذلك السلوجسموس وهو القياس. فجميع المقدمات أشبه بالسكون منه بالحركة. وما كان يعسر أمره فلسنا به مغتبطين. فان كانت حركة النفس ليس من جوهرها، فحركتها خارجة من الطباع. — واختلاطها بالجرم يورثها وجعاً وأذى، إذ لا يمكنها التخلص منه، وليهرب 〈منه〉 العقل، كما جرى القول فى العادة ورآه الكثير، فلا يكون مع الجسم — خير له وأصلح لشأنه. — وتبقى علة السماء المحركة لها حركة الدور مجهولة غير معروفة، لأنه ليس جوهر النفس بعلة لحركة دورتها، ولكنها تتحرك هذه الحركة بالعرض . والجرم أيضاً ليس بعلة لحركة نفسه، بل النفس أحرى أن تكون علة حركة. ولا يمكن أن نقول إن هذه الحركة خير للنفس من غيرها، وإلا رجع القول على الخالق فقلنا: كان ينبغى لله عز وجل أن يجعل حركة النفس حركة دورة، لأن تحركها بهذه الجهة خير من أن تسكن، وأن تكون متحركة بهذه الجهة خير من غيرها.

ولكن إذا كان هذا ومثله من النظر 〈أجدر〉 بغير هذا القول، 〈فلندعه الآن〉. — وفى قول الأكثرين مما قالوا فى النفس 〈أمر〉 فظيع قبيح، لأنهم ضموا النفس إلى الجرم وأنزلوها منزلة من لم يحدوا له فى ذلك حداً، ولم يبينوا فى ذلك علة لم كان ذلك كذلك، مع أن هذا قد يكون بالاضطرار: وإنما الجسم والنفس من أجل اشتراكهما: بعضها يفعل وبعضها ينفعل، أحدهما محرك والآخر متحرك. وليس من هذين تثبت حجة من رأى هذا الرأى. ومنهم من قصد الخبر عن النفس وما هى ولم يحد حداً فى الجرم القابل للنفس، كالذى قال فيثاغورس وأصحابه من خرافاتهم فى أنه يمكن النفس الانتقال إلى أى جرم وافت من الأجرام، 〈وهذا باطل〉 فان كل شىء له شبح وصورة خاصية. ومن قال بهذا القول كان مقارباً لقول قائل لو قال إن صناعة النجارة تستعمل آلة الزمير: ولا ينبغى للصناعة أن تتخذ إلا آلتها، فكذلك النفس: أن 〈لا〉 تستعمل إلا جرمها.