Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Aristotle: De Anima (On the Soul)

〈استمرار البحث فى نظرية النفس عدد محرك لذاته — نظرية النفس الحالة فى كل شىء. — وحدة النفس〉

ثم يعرض لنا ما قلنا من شركة من قال إن النفس جسم لطيف الأجزاء، أو لمن قال بقول ذيمقراط وأتباعه، لأنه إن كان النفس فى جميع الجسد الحاس 〈فمن〉 الاضطرار أن فيه جسمين، إن كانت النفس جسما؛ ويلزم القائلين إن النفس عدد إثبات نقط كثيرة فى نقطة واحدة، وأن لكل جسم نفساً، إلا أن يكون هناك عدد غير عدد النقط الموجودة فى الجرم. — ويعرض أيضاً من قولهم إن تحرك الحيوان لا يكون إلا من عدد، كالذى ذكرنا عن قول ذيمقراط، ولا فرق بين من قال إن المحرك للنفس أجسام صغيرة مستديرة، وبين من قال إن الآحاد العظيمة تحركها: لأن قائلى هذين القولين جميعاً يوجبان للحيوان التحرك بتحرك الآحاد والهباء المستدير. — هذا وكثير غيره من قبيح القول يعرض لمن أضاف الحركة إلى العدد، فزعم أنهما محركان للنفس. ومثل هذا القول لا يمكن أن يكون حداً للنفس، ولا حداً للعرض. وإنما يستبين ذلك متى طلب أحد استخراج علم أفعال النفس من هذا الحد أو علم الآفات المعترية لها كقولك: الفكر، والادراك بالحس، واللذاذة والحزن وغير ذلك مما يشاكل هذا الضرب. وليس يسهل هذا ولا يسوغ ولو أردنا المعنى والقصد، كالذى قلنا.

والضروب التى يحدون النفس بها حدود ثلاثة: منهم من حدها فأثبت لها الحركة وأنها محركة نفسها؛ ومنهم من قال إنها جسم ألطف أجزاءً من سائر الحيوان. وقد تقدمنا فقلنا ما يلزم من قال بهذا القول من المسائل والمعاياة، وأخبرنا بما فى قوله من التناقض والاختلاف. وقد بقى علينا النظرفى القول الثالث، وهو قول من رأى أن النفس من العناصر. — لنعلم كيف قالوا هذا القول. والذى دعاهم، بزعمهم، إلى أن يقولوا هذا القول إثبات الادراك لها، ليكون إدراك الأشياء عاماً لكل واحد منها. وقد يعرض فى هذا القول بالاضطرار أشياء كثيرة غير ممكنة، وذلك أنهم وضعوا فى أصل كلامهم أن المثل يعرف بالمثل، فجعلوا النفس كأنها هى الأشياء؛ وليست الأشياء المعروفة عند النفس كل الأشياء ولا غيرها، بل هناك غيرها كثير وعسى أن تكون لا غاية لعددها. — فإن جعل النفس تعرف ما منه كانت وتحس بكل جزء منها؛ فجملة الأشياء: بماذا تعرفها وبماذا تحسها؟ كقولك: بأى شىء تعرف الله، أو الانسان، أو جزء اللحم، أو جزء العظم وما شاكل ذلك من ذوى التركيب؟ فان عناصر كل واحد من هذه لم يتواف على البحث أو كيفما جاء، إنما توافى وائتلف بقدر من أقدار التركيب، كما قال أنبادقلس فى العظم:

«إنه توافت ثمانية أجزاء لكونه: أربعة من النار

«واثنان من الأرض

واثنان من الهواء، فصارت العظام من أجل هذه بيضا».

فلا منفعة فى أن تكون العناصر فى النفس، إلا أن تكون فيما صوره الكائنة عنها عند تراكيبها. وإنما يعرف كل شىء مثله، فالعظم أو الانسان إذاً ليس بشىء يعرف إلا أن يكونا فى النفس. ولسنا نحتاج فى أن هذا غيرممكن إلى كلام؛ فمن يراه يستجيز المسألة فى أن كان فى النفس حجراً أوإنساناً؟ وكذلك كان القول فى 〈الخير واللاخير، وفى〉 سائر ما هناك.

فلما كان الموجود الذى يسمى «هو» يقال بوجوه كثيرة (فمرةً يدل على آنية الشىء وجوهره، ومرة على الكمية، ومرة على الكيفية، أو على أحد النعوت التى جزئت) طلنا أن نعلم: أمن جميعها النفس، أو ليست من جميعها؟ والاسطقسات ليست اسطقسات لجميع الأشياء. وان كانت أصناف الجواهر إنما هى من هذه العناصر وحدها، فكيف تعرف الجواهر من سائر الأشياء؟ أوإنما يقولون إن لكل جنس عنصراً 〈ومبادئ〉 أولية خاصة، وعن هذه الأوائل والعناصر تكون النفس؟ لا محالة، إن كان هذا هكذا، أن النفس كيفية، وكمية، وجوهر. إلا أنه لا يمكن الجوهر أن يكون من عناصر الكمية فتبطل الكمية. لأن هذا وغيره يعرض فى كلام من قال إن النفس مع جميع الاسطقسات. — ومن القبيح أن يقال إن المثل لا يألم من مثله، وإنما يعرف الشىء بمثله، وهم مقرون بأن الادراك بالحس تحرك وانفعال، وكذلك الادراك بالفهم والمعرفة.

والذى نقول شاهد على أن الاعتياص كثير فى معاياة من قال بمثل قول أنبادقلس إن كل واحد من الأشياء إنما يعرف الأشياء بالعناصر ومما أشبهها فيه من المثل، لأن ما كان بالحقيقة فى أجرام الحيوان من الأرضية عظماً كان أو عقباً أو ظفراً فليس لها حس يدرك به شيئاً من الأشياء، وكذلك يجب ألا يحس بمثلها. — وبقوله ينبغى أن يكون أيضاً الجهل أكثر فى الأوائل من المعرفة، وذلك أن الواحد منهن إنما يعرف شيئاً واحداً ويجهل الكثير، من أجل أن الجميع من سائر الأشياء. 〈و〉يعرض فى قول أنبادقلس تجهيل الله، لأنه فرد أحد لا يقبل الفساد ولا يعرفه؛ ويعرف الموات جميع الأشياء لأنها عن جميعها تكونت. — وفى الجملة، لأية علة لم يكن لجميع الأشياء نفس إذ كان كل شىء إما عنصراً، وإما عن عنصر واحد، أو من كثير، أو من الجميع؟ — فقد يجب لها بالاضطرار أن تعرف إما شيئاً واحداً، وإما أشياء، وإما جميع الأشياء. ويجوز لسائل أن يسأل: ما الذى يؤلف العناص؟ ويشبه أن يكون المؤلف للهيولى وممسك الشىء ما كان هو أشرف 〈و〉أفضل وأكرام. فأما النفس فليس يمكن أن يكون شىء أشرف منها رئاسة، وأحرى ألا يكون يكون فى الامكان شىء أفضل من العقل. ونحن 〈نقر〉 له أن يكون بالطباع مالكاً متقدماً. فأما العناصر فانها متقدمات على الأشياء.

وجميع من قال إن النفس عن العناصر كانت، من أجل معرفتها وإدراكها الأشياء بحسها ومن حدودها بالحركة، لم يقل هذا القول فى كل نفس، لأن كل ذى حس ليس بمتحرك، فقد نرى بعض الحيوان راتبة فى أماكنها؛ والنفس لا تحرك الحيوان من جميع الحركات إلا حركة الانتقال. وعلى هذا أجرى كلام من جعل العقل والحس من العناصر، ومن الظاهر أن النبات حى وليس له حركة انتقال ولا حس، ويرى كثير من الحيوان وليس له فكرة. ولو أضرب أحد عن هذه ثم جعل العقل جزءاً من النفس، وجعل القوة الحاسة كذلك، لما كان قوله قولا عن كل نفس: لا عن الكلية ولا عن الفردية. — وبهذا القول كان يقول أرفيوس، إذ زعم أن الرياح تحمل النفس من الكل فتصيرها إلى داخلها فى حال تنفسها. وليس يمكن أن يعرض هذا لذوات النبات، ولا لطائفة من الحيوان، لاسيما إذا لم يكن جميعها متنفساً، إلا أن هذا ذهب عن أصحاب هذا الرأى. — لكن ينبغى أيضاً للنفس إذا فعلت أن يكون فعلها من الاسقطسات، فليس بها حاجة إلى جميعها، ولا أن يكون فعلها من جميعها، فقد تقدم جزء واحد من المختلفة بالقضاء على نفسه وعلى ما خالفه، كالذى يعرف بالخط المستقيم، فانا نعرف بالخط المستقيم نفسه والأعوج، وذلك أن المسطرة قاضية على الأمرين جميعاً؛ فأما الخط الأعوج فليس يقضى على نفسه ولا على الخط المستقيم.

وقد زعم أقوام أن النفس مخالط الكل؛ وأخلق بثاليس الحكيم أن يكون على ظنه بأن الكل مملوء روحانية عالية، من هذه الجهة. — ويلزم هذا القول مسائل عدة: منها أن يقول القائل لأية علة لم تقعل النفس التى فى الجو وفى النار حيواناً، وفعلت ذلك فى ذوى الخلط من الأشياء، وهى فى المبسوطة من الأشياء أفضل وأكرم؟ (وللطالب أن يطلب أيضاً فيقول: لم كانت النفس التى فى الجو أفضل من التى فى الحيوان وأشد بعداً من الموت؟). ويعرض للقولين جميعاً السماجة والفظاعة، لأن من قال إن الجو والنار حيوان فقد قال فظيعاً، ومن ترك إثبات الحيوان عند وجود النفس فقد فعل فعلا قبيحاً سمجاً. — وأخلق بهم أن يكون ظنهم بالنفس أنها فى النار وفى الجو، ومن أجل أنهما فى كلتيهما مساويان فى الصورة لأجزائهما، ولذلك اضطروا إلى أن قالوا إن النفس مساوية فى الصورة لأجزائها، إذ كان الجزء من الجو إذ صار فى الحيوان جعل الحيوان ذا نفس. فان كان الجو إذا تشرب وتفرق مساوياً فى صورته وليست النفس متسابهة الأجزاء، فهو بين أن بعضها موجود وبعضها غير موجود. ويلزمها بالاضطرار إما كانت متسابهة الأجزاء، وإما ألا تكون فى جزء من أجزاء الكل.

وقد استبان مما قيل أن المعرفة لم تصر للنفس من قبل العناصر، وأن من قال إنها متحركة لم يقل حقاً ولا صدقاً.

ولكن إذا كانت المعرفة والادراك بالحس والارتياء، والشهوة والارادة والأدب للنفس؛ ومنها حركة الانتقال فى الحيوان، ومنها الغذاء والنماء والضمور، فينبغى أن تعلم إن كان كل واحد من هذه لكلها أو لبعضها. إذا فهمنا 〈هذا〉، أفكلها يفهم ويحس ويتحرك ويفعل ويألم، أو بعض هذه يكون بأجزاء من أجزائها، وغيرها بأجزاء أخر؟ وفى الحياة أيضاً نقول كذلك: أفى واحد من هذه الحياة، أو فى أكثرها، أو فى كلها، أو لها علة أخرى؟ — وقد قال أقوم إن النفس ذات أقسام، وإن الجزء الذى تدرك به [معرفة] الأشياء غير الجزء الذى يشتهى به. فما الممسك للنفس إن كانت ذات أجزاء أو أقسام؟ والجرم لا يفعل ذلك بها، بل النفس أحرى أن تكون ممسكة الجرم، وذلك أنها إذا خرجت عنه تحلل ففسد. فان كان الذى فعل النفس فرداً شىء غيرها، فذلك أحرى أن يكون نفساً. ثم يحتاج إلى الطلب ليعرف ذلك: أواحد هو أو شىء كثير الأجزاء؟ فان كان واحداً مفرداً، فلأية علة لم تجعل النفس واحدة مفردة؟ وإن كان ذا أقسام، فالطلب واجب إلى أن تعلم بالمحيط به الجامع له، ثم تذهب العقول على هذا المجرى إلى ما لا غاية له. وللسائل أن يسأل عن أجزاء النفس فيقول: أية قوة لكل واحدة من هذه التى ذكرنا فى الجرم؟ لأنه إن كانت النفس كلها ممسكة الجرم، فجائز أن تكون الأشياء تمسك شيئاً بعد شىء من الجرم. وهذا ما لا إمكان فيه: ولو أردنا أن نبدع فى ذلك قولا فنخبر كيف يمسك العقل جزءاً من أجزاء الجرم، اعتاص ذلك علينا أو لم نجد إليه سبيلا.

وقد نرى النبات (حيأ) بعد التجزئة، ونرى طائفة من الحيوان التى تسمى «انطوما» التى لا رئة لها إذا جرئت بقيت أجزاؤها أحياء حافظة النفس التى تصورتها وإن لم تكن قائمة على حيالها بالعدد، إلا أن الأجزاء لها حس وحركة انتقال إلى وقت من الزمان. ولكن إن لم يكن ذلك منها دائماً، فليس تبطل الحجة من أجل أنه ليس لها آلة حافظة طباعها ، ولا يمنع ذلك من أن تكون جميع أجزاء النفس فى كل واحد من أقسام ذلك الحيوان التى جزئت. والأجزاء مساوية بعضها بعضا فى الصورة ومساوية لكليتها، وإنها مساويات بعضها بعضاً من أجل أنها ليست بمباينة ولا مفارقة، ومساواتها لكلية النفس من أجل أنها ذات أقسام. — والأولية التى للنبات والشجر تشبه أن تكون نفساً، لأن النامية والحيوان إنما يشركان بعضها بعضاً بهذه النفس فقط، إلا أن النفس الحاسة مفارقة لها؛ وليس لشىء من الأشياء حس بغير النفس النامية.

تمت المقالة الأولى من كتاب «النفس» لأرسطو والحمد لله وحده.