Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Aristotle: De Anima (On the Soul)

〈اللمس والملموس〉

والقول يجرى على هذا النحو فى اللمس والملموس، لأن اللمس إن لم يكن حساً واحداً مفرداً وكان كثيراً فى العدد، فحرى أن يكون الملموس من جهة الإدراك معادلا له فى الكثرة. ولسائل أن يسأل: أكثيرة أصناف حس اللمس؟ أو إنما هى واحد مفرد؟ — وما الجزء الحاس المدرك لحس اللمس: اللحم، أو غيره؟ أو إنما هو شىء متوسط، والحاس الأول غيره وهو داخل؟

وكل حس إنما يقضى على تضاد واحد: كالبصر على الأبيض والأسود، والسمع على الحاد والثقيل، والذوق على المر والحلو؛ فأما الملموس فان فيه تضاد أشياء: حار وبارد، ورطب ويابس، وجاس ولين، وما أشبه ذلك. — ولهذه المسألة جواب، وهذا جوابها: أن سائر الحواس 〈يدرك〉 تضاداً كثيراً: 〈مثل〉 الذى نراه فى الصوت، فان السمع يقضى على الحاد من الأصوات والثقيل، وعلى العظيم والصغير 〈و〉على اللين والخشن، وعلى كثير من فصول الأصوات. واللوان أيضاً 〈له〉 فصول كثيرة. إلا أنه ليس يتبين أن موضوع اللمس شىء واحد، كالقرع للسمع.

〈ولكن، هل عضو الحس〉 موضوع داخل، 〈أو ليس كذلك〉، 〈أو لعله هو اللحم نفسه؟〉 واللحم إذا مس ففعل على ملامسة اللامس إياه لم يكن ذلك بدليل على شىء. وذلك لو أن رجلا مد شغاف اللحم على سطح اللحم، لكان إذا مس مدركاً بحسه ما كان يدركه قبل ذلك؛ وهذا يستدل أن الحس فى اللحم. ولو أن الشغاف انشق انشقاقاً، كان ذلك أسرع فى نفوذ الحس. لذلك فان هذا الجزء الحاس من الجرم يصير إلى أن يكون ملامساً لنا كاحداق الجو بنا. وقد كان يجوز الظن فى أن إدراكنا حس القرع واللون والرائحة إنما هو لشىء واحد حساس، لو لا أن الذى به تكون حركاتها ظاهر الفصل، فان كل واحد منها غير الآخر. وليس هو ببين فى حس اللمس. — لأنه لا يمكن الجرم ذا النفس أن يكون من هواء وماء، لأنه لابد له من أن يكون كثيفاً. والكثيف لابد من أن يكون خلط من أرض وغير ذلك، مما يكون جزء منه اللحم. لذلك وجب بالاضطرار أن يكون الجرم متوسطاً بين اللامس والملموس، وبه كانت الحواس كثيرة. والدليل على أنها كثيرة إدراك اللمس وحسه، لأن الحيوان يدرك بهذا العضو جميع الأشياء الملموسة ويدرك الكيموس. ولو كانت سائر أجزائها من اللحم تدرك الكيموس، أظن أن الذوق واللمس 〈يبدوان لنا حينئذ كأنهما〉 حس واحد: وقد نراهما اثنين، 〈وذلك〉 أن العكس لا يجب.

ولسائل أن يسأل فيقول: لكل جسم عمق، والعمق أحد ثلاثة أنحاء الجسم، وكل جسمين يتوسطهما جسم فليس يماس بعضها بعضاً، والرطب ليس يكون بغير جسم، وكذلك الهواء ليس بغير جسم، بل يلزمه بالاضطرار: إما كان ماء أو يكون فيه شىء من ماء؛ والتى يماس بعضها بعضاً فى الماء، إذا لم تكن فى غاية اليبس، يلزم بالاضطرار أن يكون منها ماء، وتكون أطرافها وأواخرها نازلة من ذلك الماء؛ وإن كان هذا حقاً فليس يمكن شيئين مماسة بعضهما بعضاً فى الماء؛ وعلى هذا النحو يجرى القول فى الهواء (فكذلك حال الهواء عند ما فيه مثل حال الماء عندما فيه؛ إلا أنه يذهب علينا، فلا نعلم أم كل ما فى الهواء يماس بعضه بعضاً كمماسة الحيوان الذى فى الماء).

ولكن: هل جميع الحيوان على نحو واحد تدرك بحسها، أم هناك فصول تفرق بعضها من بعض، كالذى يظن بالمذاق واللمس فانهما يدركان الأشياء باللمس، وسائر الحواس لا تدراك الأشياء إلا من بعد؟ إلا أن ذا ليس كذا: لأنا لا ندرك الجاسى واللين بأشياء أخر مثل إدراكنا ذا الصوت والمنظور اليه والمشموم، إلا أن بعضها عن بعد، وبعضها عن قرب: لذلك يخفى علينا، ونحن مدركون جميعها، المتوسط بينها. 〈ونحن على كل حال ندرك الأشياء جميعها عن طريق متوسط〉، إلا أن ذاك خفى فى بعضها. وكما قلنا أولا، لو أن شيئاً رقيقاً كان بيننا وبين الأشياء الملموسة لأدركناها، ويخفى ذلك الشؤء الدقيق علينا، كالذى يصيبنا فى مماستنا الماء والهواء: فانا نظن أنا نماسها بغير شىء متوسط بيننا وبينها. إلا أن بين الملموس، وبين المنظور اليهما وذوات القرع — فرقاً لأن الادراك المنظور اليه والمسموع إنما يكون بما يحدث عن المتوسط مما يفعله بنا. وليس إدراكنا الملموس بالمتوسط وحده، ولكنا ندركه مع المتوسط، كالذى يكون قرع 〈من خلال〉 الترس، فانه لم يقرع ثم قرع من بعد، لكنه عرض أن أحدنا قرع الفريقين معاً. — وفى الجملة كما أن حال الهواء والماء عند البصر والسمع والاشتمام كذلك حال جزء اللحم واللسان عند حس اللمس. فأما إذا أحس العضو الحاس من البصر والسمع والاشتمام، فليس هناك حس لا من بعيد ولا من قريب، كقولك إن وضع أحد جزءاً ما فى غاية البياض على بصره. 〈ومن هذا يتبين أنه〉 فى داخل الحس 〈تكون〉 المدركة لذوات اللمس، 〈وبهذا النحو وحده〉 كان الذى يعرض له كالذى يعرض لغيره من الحواس: لأنه إذا وضع الشىء على العضو الحاس، ما خلا حس اللمس، فليس يدرك؛ وإذا وضع على جزء من أجزاء اللحم أحس به؛ لذلك قلنا إن اللحم متوسط بين اللامس والملموس.

ففصول الجرم، من جهة جرمه، ملموسة جميعاً: وأزعم أن هذه الفصول المفرقة بين الاسطقسات: بين الحار والبارد وبين اليابس والرطب التى قيل عليها أولا فيما تكلم من العناصر. وحسها اللمس، والجزء الذى هو الحس له أول بالقوة؛ فأما الادراك به فانه ضرب من ضروب التألم، فكما حال الفاعل على حد فعله كذلك حال ذى القوة فى قوته. ولذلك لسنا نحس بالحار والبارد والجاسى واللين إذا كانت متشابهات، وإنما ندرك ما تأتى فأفرط، لأن الحس كشىء واحد واسط بين تضاد المحسوسة. ولذلك يقضى عليها، والمتوسط أبداً قاض فاصل، لأنه عند كلا الطرفين كواسط واحد منهما بالسواء. وكما أن المهيأ لادراك الأبيض والأسود بحسه فينبغى أن لا يكون بالفعل واحداً منهما بل يجمعهما بالقوة (كذلك ينبغى لسائر الحواس)، 〈فكذلك〉 اللمس خاصة لا يكون حاراً ولا بارداً. — وكما أن البصر قاض على المنظور اليه وما ليس منظوراً (وسائر الحواس على ما أشبه ذلك من التضاد)، فكذلك اللمس يقضى على الملموس وغير الملموس. وإذ قلنا غير ملموس فذاك أحد شيئين: إما شىء ليس له فصل ذوات اللمس، إلا أقل قليل يكون، كالهواء، أو ما كان مفرطاً فى حد اللمس مفسداً للحس.

قد قيل 〈فى كل〉 واحدة من الحواس على المنهاج.