Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Aristotle: De Anima (On the Soul)

〈الحس المشترك: وظيفتاه الثانية والثالثة〉

ولكن إذ كنا مدركين لما رأينا وسمعنا، وجب بالاضطرار أن يكون إدراك البصر لما رأى: إما بنفسه، وإما بشىء غيره. أو يكون مدركاً نفسه، ومدركاً للون الموضوع. من أجل ذلك إما كان شيئان يدركان شيئاً واحداً، وإما كان البصر مدركاً نفسه. وإن كان للبصر حس هو غيره فذاك ما ذهب على القسمة إلى ما لا غاية له، أو رجع فكان مدركاً نفسه؛ ويلزم هذا القول الحس الأول. — وفى هذا أيضاً مسألة: لأنه إن كان الادراك بالبصر هو النظر إلى الشىء، والمنظور اليه لون أو كان له لون، فالانسان إذا نظر إلى المنظور فأول ما ينظر إلى لون، فاللون أول منظور اليه. وبهذا يستبين أن الادراك بالبصر ليس هو شيئاً واحداً: لأنا قد نرى وإذا لم نر، فنحن قاضون على الضوء والظلمة، لا على نحو واحد. وأيضاً إنما حال الناظر حال بقدر تلونه، لأن الحس يقبل المحسوس بغير هيولى؛ لذلك تثبت فى الحواس صور المحسوس وآثارها بعد مفارقتها إياه.

وصار فعل المحسوس والحس شيئاً واحداً، إلا أنه فى حد آنيته ليس بشىء واحد. ومثال ذلك القرع والسمع بالفعل: فقد يكون سمع لسامع فلا يسمع، وقرع لذى قرع فلا يقرع. فاذا فعل الذى يمكنه القرع والسمع قرعاً وسمعاً، عند ذلك يصير السماع والقرع بالفعل معاً. — وإن كانت الحركة والفعل والألم فى المؤلم والمفعول فبالاضطرار أن القرع والسمع بالفعل هما بالقوة فى حد الآنية؛ لأن فعل الفاعل وحركة المحرك إنما تنتهى إلى المفعول به، لذلك لم يكن المحرك مضطراً أن يتحرك. ففعل ذى القرع قرع، وفعل السميع سماع وإنصات: وذلك أن السمع على جهتين، والقرع على جهتين. وعلى هذا النحو يجرى القول فى سائر الحواس والمدركة بالحواس. وكما أن الفعل والانفعال إنما يكونان فى المفعول لا فى الفاعل، كذلك فعل الحس والمحسوس فى الحاس. إلا أن هذا الفعل فى بعض الأشياء مسمى، وفى بعض الأشياء ليس بمسمى. ففعل البصر يسمى نظراً، والفعل من اللون لا يسمى؛ وفعل حس الذوق يسمى ذوقاً، ولا يسمى الذى يكون عن الكيموس. — فاذا كان فعل المحسوس والحاس فعلا واحداً، وليسا من جهة الآنية بشىء واحد، فبالاضطرار أن السماع والقرع والكيموس والذوق على هذا النحو قد يفسد ويحفظ معاً 〈وكذلك سائر الحواس والمحسوسات. أما المحسوسات التى〉 حالها بالقوة فليست بمضطرة إلى هذا، وإن 〈الفسيولوجيين〉 القدماء الذين تكلموا به فى الأشياء الطبيعية لم يحسنوا فيما قالوا، وذلك أن الظن غلب عليهم فى أنه لا أبيض ولا أسود بغير بصر 〈ولا كيموس بغير ذوق〉. فهذا القول من جهة يصح ومن جهة لا يصح. وذلك أن الحس والمحسوس مقول على جهتين: أحدهما بالقوة، والآخر بالفعل، 〈ففى الأخيرة〉 يعرض ما قلنا، ولا يعرض ذلك لغيرها؛ وكان أولئك يقولون قولا كلياً فيما لا يجوز عليه معنى الكلية.

وإن كان الاتفاق فى الأصوات صوتاً، والصوت والسمع شيئان فى حال واحد، واتفاق الأصوات معنى من المعانى، فبالاضطرار أن السمع معنى. ولذلك صار كل مفرط من حاد وثقيل يفسد السمع، وكذلك المفرط من الكيموس يفسد المذاق، 〈و〉فى الألوان المفرط فى النور والأبيض جداً مفسد للبصر، وكذلك حال الشم كانت التى شديدة: إما فى الشدة من الحلاوة، وإما فى شدة من المرارة فذلك مفسد قوة الشم — وهذا دليل أن الحس معنى من المعانى. من أجل ذلك كانت المحسوسة لذيذة عند الحس، إذا دنت اليها 〈بعد أن كانت نقية〉 وليست مخالطة لغيرها: كالحامض، والحلو والمالح. والخلط فى الجملة 〈أكثر〉 اتفاقاً 〈من الخفيف أو الثقيل〉؛ والحار والبارد عند اللمس كذلك. وأما الحس فهو المعنى، ومتى أفرطت هذه أفسدت به وأفسدته.

فكل حس إنما هو لمحسوس موضوع فى عضو خاص، ويقضى على فصول ذلك الموضوع: كقولك البصر يفصل بين الأسود والأبيض، والذوق يفصل بين الحلو والمر. وعلى هذا النحو يجرى القول فى سائر الحواس. ولكنا إذ كنا نقضى على الأبيض والحلو وعلى كل واحد من المحسوسة، فبماذا ندرك فصلها، إلا بالحس إذ كانت محسوسة؟ وهذا دليل أنه ليس فى جزء اللحم غاية الحس، وإلا كان يجب بالاضطرار أن يقضى على كل شىء يماسه. ولا يمكن القاضى، فى حد القضاء، أن يقضى على أشياء متفرقة فيقول إن هذا الحلوغير الأبيض، ولكن ينبغى أن يكون الأمران جميعاً واضحين له. وكذلك لو أحسست أنا بشىء وأحسست أنت بغيره، لكان يخفى علينا أن هذا غير ذلك فى المدرك منهما، والواجب أن يكون الواحد فاصلا بين الأمرين وقائلا إن الحلو غير الأبيض، وهو قائل لا محالة؛ وكما يقول، كذلك يفكر ويحس. — وقد استبان أنه لا يمكن المنفرد أن يقضى على أشياء متفرقة؛ وكذلك أيضاً لا يمكن أن يكون هذا القضاء منه فى زمان متفرق، لأن الواحد يقول إن هذا خير وهذا شر، كما أن يفصل بينهما. كذلك وإذا قال بأحدها لم يقل بعرض من الزمان، وذلك أنه الآن إن هذا غير ذلك، وليس بالآن صار غيره، إلا أنه يقول بالآن من أجل أنه يلزمه ذلك الآن، فلا محالة أنهما معاً غير متفرقين فى زمان غير متفرق.

إلا أنه لا يمكن الشىء بعينه أن يتحرك حركات متضادة، وهو غير مجزأ فى زمان لا قسمة له لأن الشىء الحلو — إذا كان — يحرك الحس بضرب من الضروب، ثم يحرك الشىء المر حركةً مضادةً لحركة الحلو، ثم يتلوه الأبيض يفعل مثل ذلك. — فقد وجب أن يكون القاضى عليها فى العدة والزمان فى حد معاً غير مجزأ وغير مقسوم، إلا أنه فى حد الآنية مباين. فادراك الحس لذات الأقسام ربما كان بتجزئة له فى الأضداد؛ ومن جهة آنيته ليست حاله هكذا، بل هو عند الفعل مجزأ. — ولا يمكن أن يكون إدراكه الأبيض والأسود معاً ولا التألم بصورها معاً، إذا كان الحس والفهم بهذه الحال. — فكما أن النقطة التى سماها أقوام نقطة إنما هى نقطة إذا كانت واحدة أو إذا كانت اثنين، فهى مجزأة من هذه الجهة، كذلك المدرك للأشياء فرد يقضى عليها معا؛ً ومن هذه الجهة لا تجزئة له، ومن قبل استعماله النقطة مرة بعد أخرى يجب له التجزئة؛ فإذا كانت اثنتان لطرف، كان المقضى عليه اثنتين متباينتين؛ وإذا كانت نقطة واحدة، كان واحداً معاً.

هذا ما فصلنا فى أولية الحيوان التى بها صار حساساً دراكاً.