Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Elementis ex Hippocrate (On the Elements According to Hippocrates)

ولم يتبين بعد كم عددها.

فلنبحث عن هذا فيما بعد.

على أنه خليق أن يكون الأجود أن نقدم أولا القول فى المعنيين اللذين ذكرتهما قبل، فقلت إنه يعمهما أن كل جسم يمكن أن يناله الوجع، فتركيبه عن استقصات قابلة للتأثير، والاستحالة.

وذلك أنه يوجد فى هذا الباب بطريق القسمة جميع الأقاويل التى يمكن أن يقال إنها أربعة:

أولا: أن تركيب الأجسام من اسطقسات لا تحس، ولا تقبل التأثير.

والثانى: أن تركيبها عن استقصات حساسة غير قابلة للتأثير.

ويعم هذين القولين أن تركيب الأجسام عن استقصات لا تقبل التأثير.

فلما بيننا أن ذلك غير ممكن أن يكون، صددنا الناظر عن القول بذينك القولين جميعا.

وبقى قولان:

أحدهما: أن تركيب الجسم الذى يحس عن استقصات حساسة، تقبل التأثير.

والثانى: أن تركيبه عن استقصات لا تحس لكنها تقبل التأثير.

وقد يعم هذين القولين أن تركيب الجسم الذى يحس عن استقصات تقبل التأثير.

فلننظر هل أحد هذين القولين محال، أم القولان جميعا ممكنان، إلا أن أحدهما ليس هو ممكن فقط، لكنه مع ذلك حق يقين.

وذلك هو ما بقى علينا أن نبحث عنه.

فأقول:

إنك إن نظرت نظرا شافيا بذهنك، وجدت القولين جميعا ممكنين. وذلك أنك إن آثرت أن تمتحن أجزاء الجسم الحساس أنفسها بالتجربة، وبالقياس، وجدتها كلها حساسة، قابلة للأثر، كما قلنا قبيل فى أمر اللحم.

وإن نظرت فى الاسطقسات الأول التى منها تركيبه، وجدتها قد يمكن أن تكون تلك غير حساسة، الا أن لها أن تعمل، ويؤثر بعضها فى بعض، ويقبل التأثير بعضها من بعض على أنحاء كثيرة، مختلفة، حتى يحدث عنها بكثرة تلك الاستحالات — الحادث منها شىء بعد شىء — جسم حساس.

وذلك أن كل مركب من أشياء شتى، فلا يخلو من أن تكون تلك الأشياء باقية على حالها التى لم تزل عليها دائما. وإذا كان ذلك، لم يحدث عنه صورة محدودة لم تكن فى تلك الأشياء التى منها كان التركيب. أو تكون تلك الأشياء التى منها كان التركيب تستحيل، وتتغير بأنواع شتى من الاستحالة، والتغير. وإذا كان ذلك، فقد يمكن أن يحدث للمركب شىء آخر لم يكن فى الاسطقسات الأول التى منها كان تركيبه مخالفا فى الجنس لكل ما كان فيها.

وخليق أن يكون قد يحتاج فى هذا القول كيما يصح ويستبين إلى مثال يتبين به.

فأقول:

إن تركيب البيت يكون من اللبن، والحجارة، والخشب، والقراميد. وليس يحدث فيه شىء آخر لم يكن فى الأشياء التى كان عنها تركيبه مخالفا فى الجنس لجميع ما كان فيها.

ومن ذلك أن كل واحد من تلك الأجزاء التى عنها كان تركيب البيت قد كانت معه صلابة، وثقل، وشكل، ولون، ومقدار. وهذه الأشياء بأعيانها هى الموجودة فى المؤلف عنها. وذلك أن كل واحد من الصلابة، واللون، والثقل موجود بعينه فى جملة ذلك البيت كالذى كان فى الأجزاء التى تركب منها. وذلك أنه لم تكن تلك صلبة، فصار البيت المؤلف منها لينا، ولا كانت تلك ثقيلة، فصار هذا خفيقا. ولا كانت تلك حمراء، فصار هذا أسود. فأما الشكل والمقدار فكل واحد منها موجود فى البيت من قبل أنه قد كان موجودا فى الأجزاء التى ركب منها. لكنها ليس هو بعينه فى جملة المركب كالذى كان فى كل واحد من الأجزاء التى عنها ركب، لا المقدار، ولا الشكل، لكنه ليس قصدنا هذا فى النظر أن ننظر هل البيت أكبر من اللبن، أو هل البيت مستطيل، واللبن مربع. لكنه إنما قصدنا فى النظر أن ننظر هل إنما صار للبيت المقدار والشكل من قبل أنهما قد كانا للأجزاء التى ركب منها البيت. وإلا فمن لا يعلم أن الخط المستقيم القاطع للمربع من الزاوية إلى الزاوية يقسمه إلى مثلثين، وأن من تأليف ذينك المثلثين يصير مربعا واحدا. لكن كل واحد من المثلث والمربع إنما هو شكل. ونصفا الدائرة أيضا إذا ألفا، حدثت عنهما جملة الدائرة.

فيجب من هذا أن تقر بأنه قد يحدث عن الشكل غيره فى هذا التركيب. لكن الشىء الحادث ليس هو مخالفا فى الجنس للشىء الذى حدث عنه. وذلك أن الشكل إنما يحدث عنه شكل، ويحدث عن المقادير الصغار مقادير كبار. وليس يحدث عن الأشكال مقادير، ولا عن المقادير أشكال.

فيجب من هذا متى كانت الأصول التى عنها يكون التركيب لا تتغير فى كيفياتها ألا يمكن أن يحدث عنها شىء مخالف فى الجنس لما كان فى تلك الأصول. لكن ذلك يمكن متى كانت تلك الأصول تتغير.

وذلك أنه قد يمكن بالتغايير الحادثة شىء بعد شىء أن يصير الشىء الذى قد كان أسود أبيض، والشىء الذى قد كان أبيض أسود، والشىء الذى قد كان غير حساس يصير حساسا.

فمن قال: إنه قد يحدث عن النار، والماء، والهواء، والأرض — إذا امتزجت بكليتها، واستحالت — جسم من الأجسام المركبة عنها حساس، فلم يقل إلا ممكنا.

وأما من قال: إن ذلك يحدث عنها وهى باقية على حالها، بأن خالط بعضها بعضا فقط كمخالطة الحنطة للشعير، والحمص للباقلى فى صبة واحدة، فدعواه محال.

ولا فرق بين أن يقال: إن النار، والماء، والهواء، والأرض متى ائتلفت، واجتمعت، حدث عنها جسم حساس، وبين أن يقال كما قال القوم الذين ذكروا قبل هؤلاء فى الأجرام التى لا تتجزأ.

وذلك أنه ليس يمكن أن تكون الاستقصات التى هى باقية على حالها لا تقبل التأثير إذا اجتمعت عدة كثيرة منها لا حس فيها حدث عنها جسم واحد حساس.

وذلك لأنا قد بينا أنه ليس يمكن أن يلحق الأشياء — إذا ركبت — عن تركيبها شىء يخالف فى الجنس أصلا لما كان فيها قبل أن تتركب.

والحس شىء مخالف فى الجنس أصلا للشكل، والثقل، والصلابة التى كانت موجودة فى الأجرام التى لا تتجزأ.

وكذلك أيضا الحس فإنه مخالف فى الجنس لتلك الأشياء الأخر التى كانت موجودة فى النار، والأرض، والهواء، والماء.

وذلك أن جنس الحس غير جنس الألوان، وغير جنس الطعوم، وغير جنس الروائح. وبالجملة: غير جنس جميع ما فى الأجسام.

فقد وجب أنه لا يمكن أن يحدث الجسم الحساس لا من أجرام لا تتجزأ، ولا من النار، والأرض، والماء، والهواء، بعد أن تكون باقية على حالها لم تتغير عن طبائعها التى كانت عليها.

فقد وجب ضرورة أن يكون حدوث الشىء الذى من شأنه أن يحس إما من استقصات أول حساسة، وإما عن استقصات — وإن كانت غير حساسة — إلا أن من شأنها أن تتغير، وأن تستحيل.

فهذا مما يتبين لك به أن الاستقصات لا محالة أكثر من واحد، وأنها قابلة للتأثير.

وليس يتبين به بعد هل حدوث الجسم الحساس يكون عن استقصات أول حساسة كلها، أو غير حساسة.

وذلك أنه يجوز أن يكون الأمران جميعا ممكنين.

إلا أنه يدلك على أن بعض الاسطقسات غير حساس ما ترى من أن بعض الأجسام المركبة أيضا غير حساس.

وإذ قد بينا هذا بيانا كافيا لمن قد ارتاض فى فهم سياقة البرهان. فالأجود أن أردف ذلك بوصف شىء قد بينته مرارا كثيرة فى مواضع كثيرة من كتب أبقراط، وهو أنه يذكر شيئا واحدا من أشياء شتى، متفقة فى الجنس، ويلغى ذكر الباقية، اتكالا منه على أنا نضيف إلى ذلك القول سائر ما قوته قوة ذلك الشىء الذى ذكره.

وأنا أرى أنه قد فعل ذلك فى هذا الموضع.

وذلك أنه قد بين أن هذا القول الذى تقدم محال من شىء واحد من الأشياء التى تظهر فى العيان.

فنبهنا بذلك على تبيين ذلك القول على أنحاء شتى لسائر الأشياء التى قوتها قوة ذلك الشى والذى بين هو به. وذلك أن حدوث الألم بنا واحد مما يظهر فى العيان. وقد بين أن ذلك لا يمكن أن يكون دون قبول الأثر. ولزم من هذا أيضا أن الاستقصات لا محالة أكثر من واحد. وذلك أن الواحد لا يمكن أن يقبل الأثر، لأنه ليس له شىء يؤثر فيه.

فكما بين هو ما بين من الأجسام التى ينالها الألم، كذلك نقدر أن نتبين ذلك من الأجسام التى تلتذ.

وكما يتبين من ذلك، كذلك يتبين من الأجسام التى تحس، كما فعلت أنا فى كتابى هذا فى مواضع كثيرة متعمدا.

ويجب — إذ كان ليس فى الاستقصات التى لا تقبل التأثير لا لذة، ولا مرجع، ولا حس أصلا — ألا يكون فيها أيضا حفظ، ولا ذكر، ولا تخيل.

وذلك أن الحس لهذه كلها كالأصل، والينبوع. فإن لم يكن من هذه كلها شىء موجود فى تلك الاستقصات، فليس يوجد فيها شىء أصلا مما سوى ذلك من الأفعال النفسانية.

فيجب من ذلك أن لا يوجد فيها أيضا النفس.

وإن فى وجازة كلام القدماء لموضع تعجب.

وذلك أن أبقراط أشار إلى هذه المعانى كلها، ودل عليها بأقل ما يكون من الكلام. وبين بيانا قويا أن أصل الأشياء ليس هو شيئا واحدا.

وإذ قد وصفنا هذا، فلننظر كيف نردف القول الذى تقدم ذكره بالقول الذى يتلوه.

وهذا قوله بلفظه:

وأما أنا فأقول: إنه لو كان الإنسان شيئا واحدا، لما كان يألم أصلا، وذلك أنه لو كان شيئا واحدا، لما كان له شىء يؤلمه.

ولو أنزلنا أنه كان يألم، لوجب ضرورة أن يكون ما يشفيه شيئا واحدا.

واستعماله أيضا ما استعمله من القول فى الشفاء إنما أجراه على ذلك النحو من الشكل القياسى الذى أجرى عليه قوله فى الوجع.

وذلك أنه أخذ أولا، وثانيا. والثانى لازم للأول. ثم عاد، فأخذ ضد الثانى، فأنتج من بين ذلك ضد الأول. على هذا المثال:

لو كان الإنسان شيئا واحدا، لما كان يألم. وقد نجده يألم. فليس هو إذا بشىء واحد.

وعلى هذا المثال بعينه أجرى قوله فى الشفاء، كأنه قال:

لو كان الإنسان — وهو شىء واحد — يألم، لكان طريق شفائه طريقا واحدا. وليس طريق شفائه طريقا واحدا، فليس الإنسان — وهو شىء واحد — يألم.

وقد ينبغى لنا أن نفعل فى هذا القول كما فعلنا فى القول المتقدم، فتبين أن الثانى لازم للقبول، وأنه قد أحسن فى أخذ ضد الثانى، فنجعل ذلك شرحا، وتبيينا لهذا القول.

وقد بينا فيما تقدم قبل هذا القول من الأقاويل أنه لو كان الإنسان شيئا واحدا، لما كان يألم.

ومن أبلغ ما يتبين لك به أنه لو أنزلنا أنه كان يألم، لكان ينبغى أن يكون طريق شفائه طريقا واحدا، أن نتفكر فى أن الشىء الذى يألم، وألمه ليس من شىء سواه، فقد بقى أن يكون ألمه من طبيعته التى تخصه.

وإذا كانت طبيعة كل واحد من الأشياء التى تخصه طبيعة واحدة، فواجب أن يكون ألمه ألما واحدا، أو يلزمه لا محالة أن تكون عودته إلى حاله الطبيعية عودة واحدة. وعودته إلى حاله الطبيعية هى شفاؤه، فيجب من ذلك أن يكون شفاء الشىء الذى يألم من تلقاء نفسه شفاء واحدا، والشىء الذى يشفيه شيئا واحدا.

وليست بى حاجة إلى إن أقول أن جميع هذه المقدمات التى وضعت فى هذا القول باطل، لكنها تلزم المقدمة التى وضعت أولا.

وقد سلم أبقراط تلك المقدمة على أنها من أمحل المحال كله. فبين منها أيضا، ومن تلك المقدمة الباطلة التى سلمها، صحة الشىء الذى قصد لتبيينه منذ أول قوله، ليس بدون تبيين الأول على طريق الاستظهار فى البيان.

فإن قول القائل: إنه لو كان الاسطقس واحدا، لما كنا نألم، قول حقيقى.

فأما وضع الواضع: أنا نألم، وإن كان الاسطقس واحدا، فليس بحق.

لكنه على حال قد سلم هذا لقائله، فيتبين مما يلحقه أنه — وإن سلم هذا له — فإنه ينتقض به أصله.

وذلك أنه يلزم منه أن يكون المرض واحدا، وأن يكون طريق الشفاء واحدا، وأن يكون الشىء الذى يكون به الشفاء شيئا واحدا. وليس الشىء الذى يكون به الشفاء شيئا واحدا.

فالأصل إذا الذى أصل: وهو أن الاسطقس واحد، باطل.

ومما يظهر عيانا أن الشىء الذى يكون به الشفاء ليس هو شيئا واحدا: أنك تجد بعض الناس يكون شفاؤه بالسخونة، وتجد آخر يكون شفاؤه بالبرودة، وتجد آخر يكون شفاؤه بالترطيب، وتجد كثيرا من الناس يكون شفاؤهم بالتجفيف. وأنت وإن وجدت بعض الناس يكون شفاؤه بالأشياء القابضة، أو بالأشياء المرة، فليس تجد جميع الناس يكون شفاؤهم بذلك. لكنك قد تجد من يكون شفاؤه بالأشياء المالحة، أو بالأشياء الحلوة، وتجد بعض الناس يكون شفاؤه بما يعقل البطن، وتجد آخر يكون شفاؤه بما يطلقه. وتجد واحدا يكون شفاؤه بما يكثف، وآخر يكون شفاؤه بما يسخف.

وفى جملة القول: ليس يمكن أن يوجد طريق من الشفاء يكون، إلا وقد يوجد ضده يكون أيضا.

فقد بان صوابه فى قوله:

إن الشىء الذى يكون به الشفاء ليس هو شيئا واحدا.

وقد ينتج مما بين هذه المقدمة وبين المقدمة الأخرى التى وضعها على طريق التسليم أن الأسطقس ليس هو واحدا حتى يصير القول كله مؤلفا على هذا المقال:

إن كان الإنسان — وهو شىء واحد — يألم، فإن طريق شفائه تصير طريقا واحدة. وليس طريق شفائه بطريق واحدة، فليس إذا الإنسان — وهو شىء واحد — يألم.

فليست بنا بعد هذا حاجة إلى البحث عما قاله بقراط فى أول كتابه، ولا إلى أن نتأوله بخلاف ما تأولناه فى هذا الموضع. إذ قد علمنا مقالة الرجل كلها، ووقفنا عليها وقوفا بينا.

لكن إذا وجدناه يقول هذا القول:

أما من قد اعتاد أن يسمع من الكلام فى طبيعة الإنسان شيئا خارجا مما يليق من الكلام فيها بالطب، فليس يوافقه سماع هذا الكلام. وذلك أنى لا أقول إن الإنسان فى جملته من هواء، ولا من نار، ولا من ماء، ولا من أرض، ولا من شىء غير ذلك أصلا مما ليس يظهر مفردا فى الإنسان.

فإذ قال هذا القول — ولا ينبغى أن تحذف من الكلام قوله: «مفردا» كما فعل قوم كثير من أتباع بقراط، لكن ينبغى أن تقر أن قوله «مفردا» على حاله، حتى يفهم قوله عنه كأنه قال:

وذلك أنى لا أقول إن الإنسان فى جملته من هواء، ولا من نار، ولا من ماء، ولا من أرض، ولا من شىء غير ذلك أصلا مما ليس يظهر وحده مفردا فى الإنسان.

ومما يدلك على أن قوله الأول كله إنما هو فى أنه ليس الاسطقس واحدا ما تقدم من قولنا.

ومما يدلنا على ذلك أيضا ما قاله بقراط فى صدر كتابه بعد هذا القول الذى قصعته قبيل.

وهذا هو قوله بلفظه:

وذلك أنهم يزعمون أن الموجود شىء واحد، وذلك هو الواحد، وهو الكل. إلا أنه يخالف بعضهم بعضا فى الأسماء. فبعضهم يقول إن ذلك الشىء الذى هو الواحد والكل هو الهواء، وبعضهم يزعم أنه النار، وبعضهم يزعم أنه الماء، وبعضهم يزعم أنه الأرض.

ثم قال بعد هذا:

فأما الأطباء فزعم بعضهم أن الإنسان من دم، وزعم بعضهم أنه من مرار، وزعم بعضهم أنه من بلغم.

ثم إنه بعد ذلك لما أن أخذ فى مناقضتهم، كتب أولا ذلك القول الذى تقدمت، فشرحته، وفيه إبطال لقول من ادعى الباطل فى طبيعة الإنسان من أصحاب النظر فى الطبائع، ومن الأطباء.

فلما ناقضهم بذلك القول مناقضة مشتركة، قصد لمناقضة الأطباء منهم خاصة بهذا القول:

وأنا أسئل الذى يزعم أن الإنسان إنما هو من دم فقط، وأنه ليس هو شيئا غير ذلك، أن يرينيه بحال لا تختلف فيها صورته، ولا يشوبه فيها جميع أنحاء التغير، أو يرينى وقتا، من أوقات السنة، أو من أوقات أسنان الإنسان يظهر عندنا فيه الدم وحده مفردا. فقد يجب أن يكون وقت من الأوقات يوجد فيه الشىء الذى هو منه وحده مفردا.

وهذا قولى أيضا لمن زعم أن الإنسان من بلغم، ومن زعم أنه من مرار.

فلما فرغ من هذا القول، اتبع ذلك بأن قال: أما أول الأمر فقد يجب ضرورة أن يكون حدوث الكون لا من شىء واحد.

وكيف يمكن — وهو واحد — أن يولد شيئا آخر، إن لم يخالطه شىء.

ثم قال بعد:

فكيف يمكن أن يتولد من الواحد شىء واحد، ونحن لا نجد الشىء يتولد مما هو أكثر من واحد إن لم يتفق لتلك الأشياء أن يكون مزاجها بعضها عند بعض مزاجا جيدا.

ثم قال أيضا بعد:

فيجب ضرورة إن كانت طبيعة الإنسان على هذه من الحال، وطبيعة كل شىء من الأشياء غيره، أن لا يكون الإنسان شيئا واحدا.

ثم قال أيضا بعد:

فيجب ضرورة — إذ كانت بهذه الحال كلها من المخالفة بعضها لبعض فى صورها، وقواها — ألا تكون شيئا واحدا. إذ كان الماء والنار ليس هما واحدا.

فهو فى هذه الأقاويل كلها، وفى الأقاويل أيضا التى بعدها لم يقصد لشىء غير مناقضة من زعم أن الإنسان من اسطقس واحد. فبين بيانا شافيا أن معناه كان قيما افتتح به قوله المعنى الذى شرحناه، وهو أنه ليس الإنسان من هواء وحده مفردا، ولا من ماء وحده، ولا من غير ذلك مما ليس يظهر وحده مفردا فى البدن.

وقد قال أبقراط أيضا مما دل به على صحة هذا المعنى هذا القول:

فأما الذين زعموا أن الإنسان من شىء واحد، فأحسبهم إنما قالوا ذلك على هذا المعنى.

فإنه فى هذا القول أيضا إنما يصف ما الذى دعا قوما إلى أن قالوا إن الإنسان شىء واحد.

ولما قصد أيضا لمناقضتهم قال هذا القول:

هذا على أنا لا نجد أحدا ممن أفرط عليه الاستفراغ بالقىء، أو بالإسهال مات. وإنما خرج منه المرار وحده.

ثم أجرى قوله على هذا المثال فى سائر الأخلاط، ليبين أنه ليس واحد منها أصلا لطبيعة الإنسان فى الجملة، يعنى الاسطقس الذى كان عنه حدوثه، لكن الأخلاط الأربعة — فلم يقصد فى هذا لقول ليبين شيئا غير ما تضمنه منذ أول قوله، وهو أنه ليس الإنسان شيئا واحدا، وأن هذا القول، أعنى قول من ادعى من الفلاسفة الناظرين فى الطبائع، ومن الأطباء أن الأشياء كلها، أو الإنسان حدث عن اسطقس واحد، لقول خارج عن المعقول، أرعن.