Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Elementis ex Hippocrate (On the Elements According to Hippocrates)

وإن أولى الأمر عندى بالتعجب كيف يلقى الناس من ادعى هذه الدعوى ببعض القبول، وكانوا عندهم فى حد من يعنى بقوله، أو من يعجز عن دفعه.

إلا أن بقراط على حال قد قصد لمناقضة أصحاب هذا القول. ولم يفعل ذلك وهو يرى أنه يأتى أمرا عظيم العناء. لكنه إنما فعل ذلك لما انتشر لأصحاب هذه الأقاويل من الذكر فى الناس، مع خمولهم، وذلك أن هؤلاء الذين أدعوا أن أصل الأشياء هو شىء واحد، لم يستعملوا الأقاويل فى تثبيت حجتهم، ولا ما يقنع به على طريق التمويه، أو يتعذر نقضه، فضلا عما سوى ذلك. لكن شتاعة حجتهم بينة، واضحة، لا يعسر على أحد الوقوف عليها.

وذلك أن من زعم أن الماء هو أصل الأشياء إنما أدعى أنه اسطقس الأشياء، وأصلها من قبل أنه إذا سخف، ورق، صار تارا. وإذا اجتمع، وتلزز، صار أرضا. وإذا سخف، وتخلخل صار هواء. فإن سخف، وتخلخل أكثر من ذلك، صار نارا.

ومن زعم أيضا أن الهواء أصل الأشياء، إنما ادعى أنه استقص الأشياء، وأصلها من قبل أنه إذا كثف وتلزز صار ماء. فإن صار إلى ماء أزيد من ذلك من الكثافة، والتلزز، صار أرضا.

ومن زعم أن الأرض هى أصل الأشياء إنما أدعى أنها اسطقس الأشياء، وأصلها من قبل أنها إذا تخلخلت، ورقت قليلا، صارت ماء، وإذا سخفت، وتخلخلت أكثر من ذلك، صارت هواء، وإذا أفرط ذلك عليها، انتقلت إلى النار.

ومن زعم أيضا أن النار هى أصل الأشياء، فإنما أدعى أنها اسطقس الأشياء وأصلها من استعماله هذا القياس بعينه، أعنى من أن النار إذا اجتمعت، وتلززت، صارت هواء. وإذا قوى ذلك عليها، وتزيد التلزز فيها، صارت ماء، وإذا أفرط عليها التلزز، والكثافة صارت أرضا.

وشناعة هذه الأقاويل بينة، واضحة.

وذلك أن جميع هؤلاء القوم إنما وصفوا أمر الاستحالة الاسطقسات بعضها إلى بعض، ثم لم يشعروا أن ذلك هو ما بينوا، بل ظن كل واحد منهم أنه إنما بين أمر الشىء الذى سماه كل واحد منهم اسطقسا.

وليس القول فى استحالة الهواء، والنار، والماء، والأرض بعضها إلى بعض هو القول فى الاستقصات.

وذلك أنه ليس إنما صار كل واحد من هذه أسطقسا من قبل أنها تستحيل بعضها إلى بعض، لكن كل واحد منها إنما صار استطقسا من قبل أنه أول، مفرد، ليس وراءه غاية.

وقد تكلم أفلاطون فى استحالتها بعضها إلى بعض فى كتابه المسمى طيماووس، عدما قصد ليبين أن لها كلها عنصرا واحدا، مشتركا، به قوامها.

إلا أن أفلاطون، لما كان يدرى كيف يبين، لم يستعمل القول فى استحالة الأجسام الأول بعضها إلى بعض إلا حيث كان ينبغى أن يستعمله.

فأما ثالس، وأنا كسمانس، وأنبا دقليس، وأنقسمندرس، وأرقليطس فادعى كل واحد منهم أن واحدا من هذه الأشياء، أيها شاء كل واحد منهم، هو اصطقس الأشياء، وأصلها.

ثم راموا تبيين ما ادعوا من ذلك من استحالتها بعضها إلى بعض.

والأمر عندى فى جميع هؤلاء القوم أنهم راموا ذلك العنصر المشترك الذى به قوام جميع الاستقصات، إلا أن رؤيتهم له كانت رؤية خفية، كأنها منام. فلما رأوا أن ذلك العنصر واحد، ظنوا أن الاسطقس أيضا واحد. وكان الواجب عليهم — إن كان ولا بد — أن يقولوا إن العنصر العام المشترك لجميع الأجسام الأول واحد.

فإن كل واحد من الهواء، والماء، والنار، والأرض هو اسطقس.

فتركوا ذلك، وتجاوزوه، وقصدوا قصد الواحد من تلك الأربعة — أى واحد كان — فقالوا إنه هو اسطقس.

واستعملوا كلهم فى تبيين ما ادعوا معنى واحدا، مشتركا، ولم يدع كلهم اسطقسا واحدا بعينه.

وقد ذم ذلك منهم، وتنقصهم فيه بقراظ، فقال فى أول كتابه هذا القول:

وكلهم يستعمل معنى واحدا بعينه، لكنهم ليس يدعون دعوى واحدة. ثم أردف ذلك بأن قال هذا القول:

لكنهم يجعلون حجتهم فى معناهم حجة واحدة. إلا أنهم ليس يدعون دعوى واحدة.

وقد وصفنا قبل ما تلك الحجة: وهى أن المدعى أن الأرض هى الاسطقس، إنما يقيس، فينتج أن الأرض هى الاسطقس من أنها إذا تخلخلت، صارت ماء. وإذا انحلت أكثر من ذلك، وسخفت صارت هواء. ثم إذا أفرطت عليها السخاقة صارت نارا.

وكذلك يحتج عن زعم أن الهواء هو اسطقس الأشياء، ومن زعم النار هى اسطقس الأشياء، ومن أدعى أن الماء هو اسطقس الأشياء، كما بينت قبل.

فقد بان أن جميعهم يحتج بحجة واحدة على ضروب من الدعوى مختلفة.

ومن أول خطائهم أنهم ليس ينتجون من قياسهم ما يجب عنه.

وذلك أن النتيجة التى تجب عن القياس الذى جاءوا به إنما كانت أن يقولوا: إنه قد يجب عن ذلك أن العنصر المشترك لجميع الأجسام الأول، والجوهر العام الذى به قوامها، هو واحد.

والثانى من خطائهم: أنهم لم يعلموا هذا أيضا: أن جميعهم يروم أن يأتى ببرهان واحد على أربعة أنواع مختلفة من الدعوى.

وقد ذم بقراط منهم هذين الضربين من الخطأ ذما بينا. فقال فى أول هذا القول:

ويأتى كل واحد منهم على قوله بشواهد، ودلائل ليست بشىء.

فدل بهذا القول دلالة بينة على أنهم إنما يأتون بهذيان ليس يبين منه شىء، ويستعملون الخطأ من القياس مكان القياس الصواب.

وقال فى خطائهم الثانى هذا القول:

ويستعملون معنى واحدا بعينه من غير أن يدعوا دعوى واحدة، فسيدل ذلك منهم على أنهم لا يعلمون ما يأتون.

فدل بهذا القول أيضا على أنهم يدعون أقاويل مختلفة، متضادة، ثم يرومون أن يأتوا عليها ببرهان واحد بعينه، من غير أن يشعروا. ولذلك قال:

إن الذى يتهيأ له منهم أن ينبسط لسانه عند العوام بأكثر ما ينبسط لسان غيره هو الذى يظن أنه الغالب فى الحجة.

وأحسن فى تسمية الرعاع من الناس ممن لم يعرف قط ما البرهان «عواما». ولذلك قد أتى بعد هذا القول بقول آخر، فأصاب فيه، حين قال:

والأمر عندى فى هؤلاء القوم أنهم ينقضون قول أنفسهم بألفاظهم بسبب جهلهم، ويصوبون قول مالسيس. وذلك أن ميلسيس قد قال فى الكل قولا شنيعا، وهو أنه شىء واحد، لا يتغير، ولا له نهاية.

إلا أن القول الذى يأتى به من يدعى أن الواحد والكل هو الهواء، والماء، والنار، أو الأرض، فى الاحتجاج ليثبت أقاويلهم، قد يوهم أن الصواب إنما هو فى قول ميلسيس.

وذلك أنه متى وقعت الحيرة بين قولين هما من الشناعة على مثل ما عليه هذان القولان، فإنه يكاد قول ميلسيس أن يكون أقرب إلى العقل.

وذلك أن الشىء الذى ادعاه فى أصل قوله منذ أول الأمر ليس يعود فينقضه فيما يأتى به من بعد، كما يفعل هؤلاء.

وذلك أن هؤلاء أدعوا أن اسطقس الأشياء وأصلها واحد. ثم عادوا بعد ذلك فكرروا أن له استحالة. فجعلوا الأشياء الموجودة أربعة.

والأجود كان أن يدعوا أن ذلك الواحد لا يستحيل، ولا يتغير، إن كان بالحقيقة واحدا. وذلك أنه إن كان يستحيل، ويتغير، لم يكن واحدا.

فبالواجب قال بقراط: إن جميع هؤلاء الذين يزعمون أن الماء هو اسطقس الأشياء، واصلها، أو هو الهواء، والماء، والنار، والأرض قد يصوبون قول مالسيس، على أن قوله شنيع جدا، مخالف لجميع ما يظهر فى المشاهدة، والعيان، حتى لا يحتاج إلى مناقضة.