Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Elementis ex Hippocrate (On the Elements According to Hippocrates)

وقد بالغ أرسطوطاليس فى صفة شناعتة فى المقالة الأولى من كتاب سمع الكيان. وكان أرسطوطاليس أيضا قد استعمل فى كلامه ذلك المذهب الذى سلكه بقراط.

أما النظر هل الموجود شىء واحد، غير متحرك، فليس من النظر فى الطبائع بشىء.

ثم بين ذلك، فأتى عليه ببرهان. ثم أوجب من قبل ذلك أنه لا يحتاج فى قول مليسيس، وقول بارمانيدس إلى مناقضة. إذ كان يظهر من أمر كل واحد منهما عيانا أنه شنيع. لكنا نجده لما أمعن فى كتابه قد ناقضهم.

وقد سلك ابقراط أيضا هذا المسلك. وذلك أنه بين أن من زعم أن اسطقس الأشياء، وأصلها واحد يبطل صناعة الطب أصلا. وأنه لا يوافقه سماع هذا القول. ثم إنه بعد ذلك قصد لنقض قوله. والأمر فى أن من ادعى أن الموجود شىء واحد يبطل أصول العلم بالطبائع كما ذكر أرسطوطاليس، وأصول الطب كما ذكر بقراطن، بين، واضح.

وذلك أن العلم بالطبائع إنما هو العلم بالأجسام التى هى فى الكون والفساد. وبالجملة: فى التغيير. فإن كان الموجود شيئا واحدا، فقد بطلت تلك.

وكذلك أيضا يبطل الطب.

أما أولا: فمن قبل أن الطب إنما هو كالخادم للكون، والفساد. فإن لم نسلم أن الكون والفساد موجودان، يبطل ببطلانهما الطب.

ثم من بعد ذلك أيضا فإن أنحاء العلاج والشفاء تلك الكثيرة، المختلفة فقد يبطلها من زعم أن الموجود واحد. وذلك أنه إن كان الموجود شيئا واحدا، فإن أبداننا إما أن لا تصاب أصلا بشىء من الأسقام، وإما إن نالها شىء من الأمراض، فليس ينالها إلا ضرب واحد منها. فيجب من ذلك أن يكون شفاؤها بشىء واحد. فإن كان ذلك حقا، فقد هدر الطب عن آخره. وذلك أنه إن كان الشفاء إنما يكون بأشياء كثيرة فقد يحتاج إلى الطبيب ليستخرج ما الذى يوافق فى كل واحد من الأمراض، حتى يكون به الشفاء. فإن كان الشىء الذى يكون به الشفاء فى الصورة واحدا، والسبب المحدث للمرض واحدا، فليس يخاف الخطأ أصلا.

فقد بان أن أبقراط قد أحسن فى قوله منذ أول افتتاح كتابه حين قال:

إن من اعتاد أن يسمع من القول فى طبيعة الإنسان ما هو خارج عما يصلح فى صناعة الطب، فليس يوافقه سماع هذا القول

ثم أتبع ذلك بأن قال:

وذلك أنى لست أزعم أن الإنسان فى جملته هواء، أعنى أنه ليس هو بكليته من الهواء، ولا هو من الماء وحده.

فإن القائل بهذا القول يحكم بما هو خارج من صناعة الطب، فيبطل أصولها.

وذلك أنه قد يحتاج الأطباء إلى أن يسلم لهم أن أصناف الأمراض كثيرة، وأصناف العلاج الذى يكون به الشفاء أيضا كثيرة. وليس هم إلى أن يسلم لهم شىء أحوج منهم إلى أن يسلم لهم هذا. فمن لم يسلم لهم هذا، فقد أبطل أصول الطب. فقوله إذا خارج عن صناعة الطب.

وذلك أن المناقض لم يبطل أصول صناعة من الصناعات، أى صناعة كانت، فليس هو صاحب تلك الصناعة التى يروم إبطالها، وإبطال أصولها، لكنه غيره.

وقد يصح لك ذلك من قول أرسطوطاليس حين قال: فكما أنه ليس للمهندس قول يعاند به من يبطل أصول الهندسة، لكن القول فى ذلك إما من صناعة أخرى، وإما من صناعة مشتركة لجميع الصناعات.

كذلك ليس لصاحب النظر فى الطبائع أيضا قول يعانده به من يبطل أصول ذلك العلم. وذلك أن من أبطل ما يظهر عيانا، فقد ينبغى إما لجميع الناس عامة أن يقصدوا إليه بالذم، إذ كان يبطل ما هم فيه من تصرفهم، وإما أن ينصبوا له صناعة تنصر الأصول سوى سائر الصناعات الجزئية كلها. أو يسلك فى كل واحدة من الصناعات الجزئية طريقها على أصولها بعد أن نسلم لأصحابها.

فقد نجد أرسطوطاليس وأبقراط يذهبان فى قولهما مذهبا واحدا.

فأما المفسرون لقول أبقراط فتجدهم لم يفهموا عنه قوله.

وذلك أن أبقراط لم يقل إن قوله ليس يوافق من قد اعتاد أن يسمع فى طبيعة الإنسان ما هو خارج عما يوافق الطب، وهو من يستجهل من قال إن النار، والماء والهواء والأرض ليس هى الاسطقسات.

لكنا نجده منذ أول قوله إلى آخره إنما يذم من ادعى أن الواحد منها — أى واحد كان — هو الاسطقس.

وإلا فهذا من أبعد الأشياء من المعقول أن يقال إنه لما كان ليس يظهر فى البدن واحد من الأربعة خالصا، وجب ضرورة أن يدفع أنها كلها أسطقسات البدن.

وما ذلك إلا بمنزلة قول من دفع أن يكون المرهم المعروف بالأخلاط الأربعة مركبا من شمع، وراتينج، وزفت، وشحم، من قبل أنه ليس ترى فيه واحدا من هذه الأخلاط الأربعة مفردا على حدته خالصا.

وما حاجتى إلى ذكر ما قد خالط بعضه بعضا بالكلية على هذا المثال.

وأنا أجد الأدوية اليابسة المؤلفة من التوتيا، والإثمد، والنحاس المحرق، بعد أن تسحق سحقا ناعما، لا يبقى فيها من الأدوية المفردة شىء منفرد خالص على حدته. ولا تقدر أن تأخذ منها جزءا — ولو أقل القليل — فنجد فيه واحدا من هذه الأربعة الأخلاط — أيها كان — مفردا، خالصا، لا يشويه غيره.

فيجب من ذلك فى أبدان الحيوان أيضا ألا يكون — متى لم تجد واحدا من الاسطقسات الأربعة مفردا خالصا على حدته — تدفع أن يكون قوامه من امتزاجها.

ولا يجب من هذا أن نسلم أن العالم مؤلف من الاسطقسات الأربعة، وندفع تولد الحيوان منها، كأن الحيوان شىء ورد العالم من خارج، ولم يكن تولده فيه.

ولا تطالبنى بأن أوجدك أيضا فى بدن الحيوان أرضا خالصة لا يشوبها شىء. وأنت لا تقدر أن توجدنى فى العالم أرضا هذه حالها. لأن أى جزء تناولته منها، فإنك تجد فيه لا محالة شيئا من الحرارة، ومن البرودة، ومن جوهر الهواء.

على أن الأرض الحرة التى لا يخالطها، ولا يشويها شىء هى التى نتوهمها اسطقسا فى غاية التلزز، والثقل، واليبس، والبرد.

لكن كما تقدر أن ترينى فى العالم الحجر جسما أرضيا، كذلك أقدر أن أريك فى أبدان الحيوان جنس العظام، والغضاريف، والشعر. ومن هذا الجنس الخزف فى الحيوان الذى له خزف. وذلك أن الخزف من ذلك الحيوان قد بلغ من حاله فى اليبس، والتلزز أن صار فى حد الأرض الخالصة.

فإن أنت طالبتنى أن أوجدك فى بدن الحيوان أرضا، أوجدتك فيه مثل الأرض التى نجدها فى العالم. فأما الأرض الخالصة، المفردة، التى لا يخالطها، ولا يشويها شىء، فليس نجدها ولا فى العالم أيضا بسهولة. وكذلك لا نجد ماء خالصا، نقيا لا يخالطه، ولا يشوبه شىء من غيره. ولا نارا ولا هواء. وذلك أنها قد يشوبها شىء من غير جنسها. أو يخالط بعضها بعضا. ونجد فى بعضها من بعض شيئا، إما أكثر، وإما أقل. إلا أنه على حال قد يظهر مع اختلاطها صورة الشىء الغالب فى كل واحد منها. فلا تطالبنى إذا ولا فى أبدان الحيوان بشىء لا يخالطه، ولا يشوبه شىء. لكن اكتف منى إذا أوجدتك شيئا يابسا، باردا، ملززا أن يذكرك بالأرض أيضا. وإذا أوجدتك شيئا سخيفا، سيالا، رطبا أن يخطر بباك منه الماء. وتذكرك الحرارة الكثيرة التى فى أبدان الحيوان بالنار. وطبيعة الروح التى لا يمكن أن يكون قوام الحيوان إلا بها، فلتذكرك بالهواء خاصة، وتذكرك معه أيضا طبيعة النار. ولا تطلب منى وجود الأرض خالصة على حدتها فى بدن الحيوان، ولا شىء من سائر الاسطقسات صرفا. وإلا فأوجدنى أنت أولا فى المرهم المعروف بالأربعة الأدوية الشمع مفردا.

ومن العجيب عندى إن كنت ليس تتوهم أن الحنطة، والشعير، والتين، والبلوط، وكل واحد من سائر الحبوب والثمار ليس حدوثه عن الأرض، والماء وأنت ترى عيانا تولده يكون منهما. أفتحسب أنه ليس يشوب تولدها شىء من جوهر الهواء، والنار؟

وأنت تجد الأرض إذا عجنتها بالماء، لم يحدث عنهما شىء سوى الطين. وكل واحد من الثمار، والحبوب ليس بطين. وإنما خالف الطين لأنه يشوبه شىء من النار، والهواء ممازجين لجملة جوهره.

وأخلق بك أن تسلم فى التين، والبلوط أنهما من استقصات العالم، وتسلم ذلك قبلهما فى جملة النبات، إذ كنت ترى البزر من كل واحد من أصناف النبات يقع فى الأرض، وهو يسير، صغير، حتى لا يكون ولا جزءا من عشرة آلاف جزء من جملة النبات الذى هو من بزره، وترى سائر جوهره كله إنما يتولد من اسطقسات العالم.

وتشك فى أمر الحيوان ليس غذاؤه من النبات. وذلك أنك ترى الغنم، الضأن، تأكل الحشيش. وترى الخنازير تأكل مع الحشيش البلوط. وترى الماعز يأكل مع ذلك الغصن من أغصان الشجر. ومن ذلك يتولد فيها الدم. وتغتذى به أبدانها. ويتولد منها أولادها، وتنمى. فما تظن؟ أترى أن الغنم، والخنازير حدثت عن استقصات العالم، والناس الذين يأكلون الغنم، والخنازير كان أول حدوثهم، ونموهم، وغذائهم بعد ذلك من شىء غير استقصات العالم؟

وكل هذا خارج عن القياس، شنيع، قبيح، يدل من قائله على جهل كثير. وذلك أن الحبوب، والثمار كلها إنما حدثت عن استقصات العالم. ومن هذه يكون تولد الحيوان، وغذاؤه، ونموه.

وينبغى أن تتقدم بالثقة فتحكم أن النار، والأرض، والماء، والهواء اسطقسات مشتركة لجميع الأجسام.

وذلك أنك ليس تجد فى العالم أجساما هى أقدم، ولا أبسط منها. فأما سائر الأجسام من النبات، والحيوان فإنما تركيبها من تلك.

وما اقتصر بقراط على أن حكم فى كتابه فى طبيعة الإنسان — لما أمعن فيه — بأن هذه الأجسام هى اسطقسات جميع الأجسام التى فى العالم حتى حدد أولا للناس كيفياتها التى من شأنها أن يفعل بعضها فى بعض، ويقبل الأثر بعضها من بعض.