Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Febrium Differentiis (On the Differences of Fevers)

١١ وأمّا حمّى الدقّ، فهي صنفان، كما قد لخّصت قبيل. فأنا آخذ في صفة طريق تعرّف هذين الصنفين. فأقول إنّ حمّى الدقّ التي تعرض مع الذبول هي من أسهل الحمّيات وأقربها تعرّفاً. وذلك أنّك من قبل أن تجسّ العرق وتلمس البدن لتعرّف حرارته، ترى العينين غائرتين جدّاً كأنّهما في حفرتين، من قبل أنّ الجوهر الرطب الذي كان فيهما قد نفد كلّه، حتّى ترى حروف العظام التي تتّصل بها الجفنان ناتئة. وترى في العينين رمصاً يابساً وحالاً من اليبس أشبه شيء بحال من قد سار في غبار نهاره كلّه في شمس حارّة. ويذهب أيضاً عن لونهما نور الحياة، وذلك يعرض أيضاً في الوجه كلّه، وترى في الجلدة التي على الوجه كلّها يبساً مفرطاً، وخاصّة في جلدة الجبهة، حتّى تجدها ليبسها صلبة متمدّدة. وترى صاحب هذه الحال لا يقدر أن يقلّ جفنيه على ما ينبغي، لكن حاله دائماً شبيهة بحال الناعس، وتجده أيضاً في أكثر الحالات مغمض العينين، كأنّه نائم. وليس ما يعرض له من ذلك بنوم، لكنّه إنّما هو ضعف وعجز من الانتباه. وتجد اللحم الذي في الصدغين قد ذاب، حتّى ترى مواضعهما لاطية غائرة.

فما بدن صاحب هذه الحال كلّه شيء سوى العظام والجلد؟ حتّى إن عرّيته وتأمّلت بطنه، توهّمت أنّه لم يبق من أمعائه ولا من أحشائه شيء، وترى ما دون الشراسيف منه قد انجذب إلی فوق إلی ناحية الصدر انجذاباً شديداً. وإن آثرت أن تلمسه، وجدت الجلد منه قحلاً في غاية القحل، وإن أخذت موضعاً منه بأصابعك فمدّدته إلی فوق، بقي قائماً بمنزلة الجلود المدبوغة. ووجدت نبضه دقيقاً صلباً ضعيفاً متواتراً. ووجدت حرارة بدنه في أوّل ما تضع عليه كفّك ضعيفة، ثمّ إنّك بعد قليل تتبيّن منها الحدّة والقرص، ولا سيّما إن أطلت مدّة اللمس. وما بي حاجة بعد هذا إلی ذكر سائر الدلائل في هذه العلّة، إذ كان أمرها من البيان على ما وصفت. والأجود أن أقبل على الذبول الذي هو بعد في حال ابتدائه.

فأعني بالذبول الذي هو في حال ابتدائه، إذا كانت الرطوبة الغريزيّة المبثوثة في كلّ واحد من الأجسام في مواضع الخلل الذي فيما بين الأجزاء المتشابهة التي منها تغتذي تلك الأعضاء بلا توسّط قد أشرفت على أن لا تكون موجودة في جرم القلب. وذلك أنّه ما دام شيء من تلك الرطوبة باقياً، فإنّ الحمّى إنّما هي حمّى دقّ فقط، وليس معها بعد ذبول. فإذا أشرف القلب على ألّا يكون بقي فيه شيء من تلك الرطوبة أصلاً، فإنّه قد حلّ به الذبول الصحيح.

والحال في حمّيات الدقّ كلّها حال صعبة، إذا كانت قد جاوزت مدّة ابتدائها. ولست أحدّ ابتداءها بعدد من الأيّام أو من الساعات، كما لست أفعل ذلك في سائر الأمراض، لكنّي إنّما أحدّه بكيفيّة الحال. وذلك أنّ البدن في أوّل زواله وخروجه عن اعتدال مزاجه الطبيعيّ لا تكون رطوبته بعد نفدت ولا قوّته ضعفت، لكنّه إنّما يحدث له أوّلاً كالغليان في رطوبته، وفي ذلك الوقت تكون هذه الحمّى أسهل ما تكون علاجاً، لأنّ الآفة بعد لا تكون نالت القوّة. ثمّ من بعد، فإنّ تلك الرطوبة تأخذ في الفناء من ذلك الغليان ولا يزال ذلك يتزيّد، حتّى تصير الأجسام المتشابهة الأجزاء التي منها تركيب القلب أجفّ ممّا كانت وأهزل، وتضعف القوّة بحسب مقدار ما غلب على القلب من اليبس والحرارة، وقد كان يكفي أن يغلب أحدهما حتّى تضعف القوّة.

وهذه الحمّى متوسّطة بين حمّى الدقّ التي معها ذبول التي لا تبرأ بتّة، وبين حمّى الدقّ التي وصفتها قبيل التي هي في حال ابتدائها، وهي أسهل ما تكون منها علاجاً وأسرع برءاً. ولها في ذلك أيضاً عرض كثير جدّاً، لأنّ الحال فيها ليس التفاضل في الأكثر والأقلّ فيها بيسير. فالحمّى التي بعدها من كلتي الحمّيين بعداً سواء، أعني من الحمّى التي معها ذبول صحيح ومن الحمّى التي ليس معها بعد شيء من الذبول أصلاً، هي أيضاً كأنّها متوسّطة في البرء، وميلها إلی كلّ واحد من الجانبين بين الخوف والرجاء. والحمّى التي هي إلی حمّى الذبول أقرب، فإنّها قريبة من الخطر، وكذلك أيضاً الحمّى التي هي قريبة من الحمّى الأولى، الرجاء فيها قويّ. وينبغي الآن أن نقبل على صفة دلائل هذه الحمّيات، ونذكر أوّلاً دلائل الحمّى التي هي منها سهلة سريعة البرء، إلّا أن يقع صاحبها في يد واحد من أطبّائنا هؤلاء الكثيرين.

وهذه الحمّى، متى كانت مفردة وحدها، لم يعسر تعرّفها، ومتى تركّب معها شيء من الحمّيات التي تكون من عفونة الأخلاط، عسر الوقوف عليها لموضع الاختلاط. فأنزل أوّلاً أنّها حدثت وحدها مفردة من بعض الأسباب التي ذكرتها قبل، وأنّه ظهر في أوّل يوم من الحمّى جميع الدلائل التي تدلّ على الجنس من الحمّى المعروف بحمّى يوم. وقد يظهر مع هذه الحمّيات منذ أوّل أمرها إمارات تدلّ على السبب البادئ الذي منه حدثت، وسنبيّن ذلك أيضاً فيما يستأنف من القول.

وقد يمكنك أيضاً أن تسائل العليل فتعلم، إن كان لا ينكر شيئاً من جميع أحواله، ثمّ حدث له غضب شديد أو غمّ أو غيره ممّا أشبهه، فحدثت به الحمّى من قبل ذلك فقط. فإن رأيت الأمر على هذا من الحال، ورأيت الحمّى قد دامت بصاحبها في اليوم الثاني وليست تسكن فتقلع، ولا تشتدّ فتقوى، ورأيت البدن أزيد يبساً وجفوفاً، فاتّهم تلك الحمّى بأنّها تؤول إلی الدقّ.

فإن بقي أيضاً على ذلك إلی اليوم الثالث وآثر أن يمسك عن الطعام إلی أن يجوز الأوقات التي يتوقّع فيها حدوث النوبة الكائنة غبّاً، فرأيت الحمّى لم تزدد ولم تنتقص زيادة أو نقصاناً ذا قدر، لكن رأيت بقايا الحمّى الأولى تلك اليسيرة قد امتدّت ودامت مع يبس وجفوف من البدن، ووجدت الحرارة في أوّل ما تضع كفّك على البدن هادئة ليّنة، فإذا طال لبث كفّك على البدن، أحسست منها بحدّة ولذع ويبس، فاعلم أنّ تلك الحمّى حمّى دقّ.

وأعظم دليل يستدلّ به على طبيعة هذه الحمّى وأبعده من الشكّ دليل يظهر لك، إذا غذوت المريض بعد أن يجوز جميع الأوقات التي تتوقّع فيها لحمّاه نوبة، وهو أنّه بعد أن يتناول المريض الغذاء بساعة أو ساعتين، يصير إلی حال يتوهّم عليه معها جميع من يلمسه، أنّه قد حدث له في حمّاه تزيّد. ويكون من أناله ذلك الغذاء غير بعيد من أن يلومه لائم على أنّه غذّاه في غير وقته، وأنّه إنّما غذّاه في وقت نوبة حمّاه، وأنّه كان ينبغي له أن يؤخّر غذاءه مدّة أكثر، وأنّ نوبة حمّاه تأخّرت. وليس الأمر كذلك.

لكن هذا أمر خاصّ غير مفارق لجميع من به حمّى الدقّ، أن يكون، إذا تناول الغذاء، تلتهب به الحرارة ويقوى ويتزيّد نبضه عظماً وسرعة، حتّى يظنّ من رآه أنّه حدث له في حمّاه ابتداء نوبة ليس معها تضاغط. وأعني بقولي ليس معها تضاغط، إذا لم يكن مع النوبة اقشعرار، ولا برد في الأطراف، ولا حال سبيهة بالميل إلی النوم، ولا كسل بيّن، ولا اختلاف أصلاً في الحرارة ولا في النبض، ولا صغر في النبض ولا ضعف، ولا شيء من أشباه هذه الأعراض أصلاً، لكن يصير النبض عظيماً سريعاً أعظم وأسرع ممّا كان، كما يصير في غير من هذه حاله إذا اغتذى.

وقد يكون في بعض الحالات في غير الدقّ من الحمّيات تزيّد من الحرارة من غير تضاغط. وبحسب هذا قد يتوهّم المتوهّم أنّ هذا العارض ليس هو بخاصّ غير مفارق لحمّى الدقّ. إلّا أنّ الفرق بين ما يعرض منه في الدقّ وبين ما يعرض في غيرها ليس باليسير، إذا نظرت في جملة الدلائل التي وصفنا كلّها. وذلك أنّ ابتداء النوائب التي تكون على هذه الصفة في سائر جميع الحمّيات إنّما يكون من غير أن يكون من تحدث به تناول الغذاء.

وهذا الذي يعرض من تزيّد الحرارة في حمّى الدقّ على ضدّ ذلك كلّه، إذ كان ليس يعرض فيها إلّا بعد تناول الغذاء، وليس يحدث لهذه الحمّى في وقت من الأوقات نوبة، لكنّها دائمة متّصلة مثل الحمّى التي تسمّى خاصّة الحمّى المطبقة، ويسمّيها بعض اليونانيّين سونوخس. إلّا أنّه يلقى الكفّ في تلك الحمّى من الحرارة شيء شبيه بلهيب نار كثيرة، ويكون مع ذلك النبض على أعظم ما يكون وأسرعه وأشدّه تواتراً. فأمّا حمّى الدقّ، فليس يلقى الكفّ منها حرارة كثيرة، ويكون النبض فيها أصغر وأبطأ وأشدّ تفاوتاً من النبض في الحمّى المطبقة بحسب نقصان حرارتها عن حرارة تلك.