Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Febrium Differentiis (On the Differences of Fevers)

١٤ فأقول إنّ الفضل الذي يتحلّب إلی العينين قد يوافقنا جميع الناس على أنّه إنّما ينحدر من الرأس. إلّا أنّهم ليس يقدرون أن يخبرونا بالسبب الذي من أجله صار ذلك الفضل ينحدر إلی العينين كثيراً على دور محدود، وذلك أنّهم لم ينظروا نظر المؤثر للحكمة في القوى الطبيعيّة التي كتبنا فيها ثلاث مقالات بيّنّا فيها أنّ جميع القوى الطبيعيّة أربع بها يكون تدبير أمر النبات والحيوان.

وإحدى تلك القوى القوّة التي تجتذب الشيء المشاكل، والثانية القوّة الماسكة لذلك، والثالثة القوّة المغيّرة له، والرابعة القوّة الدافعة للشيء الغريب المخالف. والشيء الغريب المخالف في جميع الأشياء ضربان، أحدهما مخالف في كمّيّته والآخر في كيفيّته. وذلك يجتمع بسبب ما يكون في الأعضاء من قوّة القوى وضعفها. وذلك أنّ القوى، إذا كانت متساوية متعادلة، وكانت المجاري التي تخرج فيها الفضول بالحال الطبيعيّة، كانت الأعضاء صحيحة.

وإذا أتى عضواً من الأعضاء شيء أكثر من المقدار الذي يمكن أن يستحيل فيه، فلا بدّ من أن يكون ذلك الفضل الذي يبقى فيه يندفع من القوّة الدافعة التي فيه. فإن ضعفت تلك القوّة، فلا بدّ من أن يبقى ذلك الفضل في ذلك الموضع. فإن كان كثيراً، أثقله ومدّده، وإن كان حادّاً، لذّعه وقرصه، وكذلك أيضاً إن كان حارّاً، أسخنه، وإن كان بارداً، برّده. وذلك يظهر ظهوراً بيّناً فيما يكون في المعدة.

وذلك أنّه كثيراً ما يتناول بعض الناس الطعام فيكثر منه، فربّما اضطرّ بعضهم إلی أن يقيئه لغثيان يعرض له، وربّما عرض لبعضهم الاختلاف. فالذي يعرض هناك من قذف الشيء الفضل حتّى يبرز ويخرج بأعظم المجاري وأوسعها، هو بعينه الذي يعرض في سائر أعضاء بدن الحيّ من نقلة الفضل ومسيله في المجاري الضيّقة، لا إلی خارج البدن، لكن من عضو إلی عضو، بأن تدفعه الأعضاء التي هي أقوى، وتقبله الأعضاء التي هي أضعف. ثمّ يندفع أيضاً من تلك الأعضاء إلی أعضاء أخر، ثمّ من تلك إلی أعضاء أخر، إلی أن ينتهي إلی أضعف الأعضاء كلّها. وليس يمكن أن يعود فيرجع من تلك الأعضاء إلی ما هو أقوى منها، ولذلك صار عند اجتماع الفضل والامتلاء والخلط الرديء في البدن إنّما يصاب من الأعضاء أضعفها، فتحدث في بعضها الأورام الدميّة، وفي بعضها أورام الصفراء التي تعرف بالحمرة، وفي بعضها القروح الساعية التي تكون منها العلّة المعروفة بالنملة، وبعضها تحدث فيه علّة من غير ذلك من العلل، وبعضها تحدث فيه الحال المعروفة بتحلّب الفضل إلی العضو، وقد وصفنا أمر تلك الحال في كتاب أفردناه لها.

فليس بعجب أن يكون الدماغ أو الرأس كلّه، إذا اجتمع فيه فضل من الفضول، يدفعه إلی عضو من الأعضاء التي هي أضعف منه، إمّا إلی العين وإمّا إلی الأذن وإمّا إلی الصدغ وإمّا إلی الشفة وإمّا إلی الخدّ وإمّا إلی الأسنان وإمّا إلی الحنك وإمّا إلی اللثّة وإمّا إلی اللهاة والنغانغ واللحم الرخو الذي هناك، وإذا لم يكن شيء من تلك الأعضاء ضعيفاً، أن يدفعه إلی الصدر أو إلی الرئة أو إلی الحلق أو إلی المريء أو إلی المعدة.

فكما أنّ الرأس كثيراً قد يكون سبباً للمرض لكلّ واحد من هذه الأعضاء التي ذكرتها، كذلك قد يولّد الورم الذي يكون في الكبد أو في الطحال أو يزيد فيه واحد من الأعضاء المجاورة لهما أو من الأعضاء البعيدة منهما، واحداً كان ذلك العضو أو شتّى، ويجعل نوائب ذلك المرض جارية على دور.

وليس بعجب أن يعرض لتلك الأعضاء شبيه بما يعرض في خروج الفضول من البطن. فكما أنّ إنساناً لو رأى ما يخرج من تلك الفضول في كلّ يوم، ثمّ لم يعرف السبب في خروجه، كان سيعجب من لزومه للطريقة الواحدة التي هو لازم لها. كذلك من لم يعلم السبب الاضطراريّ في تولّد الفضول المتولّدة في الرأس ولا في خروجها، ولم يعلم أيضاً لِمَ صار بعض تلك الفضول يجري إلی خارج وبعضها يجري إلی عضو آخر، تحيّر وعجب من انتظام ما يجري منها على قياس واحد. وكذلك من لم يعلم أيّ الأعضاء هي الدافعة للفضل على الكبد، ولا السبب في اندفاعه، عجب من استواء قياس الحمّيات التي تكون من الكبد. فأمّا من علم أنّ الفضل المندفع على الكبد هو الفاعل للحدوث الأوّل من الورم فيها، وهو السبب في هيجان علّتها على النوائب فيما بعد، زال عنه التعجّب.