Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Febrium Differentiis (On the Differences of Fevers)

١١ ومن أجلّ ما بقي عليّ أن أنظر فيه هو أن أنظر هل يكون من الدم، إذا عفن، صنف من الحمّى، كما تكون أصناف منها من المرّتين والبلغم. فإنّي قد قلت إنّ الدم، إذا سخن فقط من غير أن يعفن، فإنّه تكون منه الحمّى المعروفة بحمّى يوم. وقد ينبغي أن نبحث الآن عن الصنف من الحمّى الذي يكون من عفونته، فإنّه لا بدّ من أن يكون الدم أيضاً قد تناله العفونة. ولعلّنا أن نعلم أيّ صنف من الحمّى يكون من الدم إذا عفن، إذا علمنا أوّلاً كيف يعفن الدم.

فأقول إنّ أرسطوطاليس قد أحسن عندي في قوله أنّ العفونة تكون من الحرارة الغريبة، ويعني بالغريبة الحرارة التي هي من خارج، لا غريزيّة ولا خاصّة بكلّ واحد من الأجسام. فإنّ الحرارة الغريزيّة من شأنها أن تنضج، فأمّا الحرارة الغريبة، فمن شأنها أن تفسد، وذلك هو أن تعفّن.

والحرارة التي تعرض للدم من خارج قد تعرض عند نكاية حرّ الشمس في الأبدان وعند حالات الهواء الوبائيّة، وبالجملة في جميع الحمّيات من أيّ سبب كان حدوثها. وإذا اجتمع أيضاً في عضو من أعضاء البدن من الدم مقدار أكثر، حتّى يكون مقداره فوق ما تحتمله قوّة ذلك العضو، فسد، وخاصّة متى حدثت منه سدد بسبب غلظه فيما في ذلك العضو من العروق الدقاق أو اغتصّ ولحج فيها بسبب كثرته كالذي يعرض في الأورام التي تكون في اللحم الرخو الذي في الحالب وغيره، وبالجملة في جميع الأورام الحارّة.

فإنّ الدم في تلك الحالات يفسد لسببين، أحدهما أنّه لا يكون له متنفّس، والآخر أنّ الطبيعة لا تضبطه وتستولي عليه. وقد نرى عياناً أنّ الشيء، إذا لم يكن له متنفّس، عفن في جميع الأشياء التي خارج، أعني الثمار والبزور وغيرها، حتّى الثياب. وممّا يؤكّد الأمر عندنا تأكيداً كافياً في هذا الأمر الذي أنا في صفته، ما نرى من الحال في ذات الجنب.

فإنّ بعض من تصيبه تلك العلّة يقذف شيئاً شبيهاً بالرغوة زبديّاً، وبعضهم يقذف شيئاً أصفر، وبعضهم يقذف شيئاً أحمر، وذلك إنّما هو صديد من الخلط الغالب في الورم لا يضبطه موضع الورم، لكنّه يرشح ويخرج منه لرقّته. وربّما رأيت ذلك الصديد أسود، وليس يرى ذلك منذ أوّل الأمر، لكن بعد تطاول من المدّة وبعد أن يقذف قبله في أكثر الأمر شيء أصفر، والشيء الأصفر يدلّ على غلبة المرار الأصفر، والشيء الزبديّ يدلّ على غلبة البلغم، والشيء الأحمر يدلّ على غلبة الدم.

فيشبه أن يكون قد تعفّن الدم أيضاً في المواضع التي تحدث فيها الأورام الحارّة، وأن تكون الحمّى المتولّدة منه أسكن وأقلّ عادية من الحمّيات التي تكون من سائر الأخلاط، إلّا أنّ قياس نوائبها يكون قياس أدوار الغبّ خاصّة. فإنّا كذلك نرى الأمر يكون في أصحاب ذات الجنب أيضاً، إذا كان الشيء الذي ينفثونه أحمر. فإن أفرط عليه الاحتراق، فإنّ أرقّ ما فيه وأكثره ينقلب لا محالة إلی المرّة الصفراء، وأغلظ ما فيه ينقلب إلی السوداء، كما قد نرى الأمر يكون في القروح التي تعرف بالجمر أيضاً. فإنّ في تلك القروح أيضاً يحدث للدم انقلاب من حال غليان شديد يعرض له إلی أن يصير سوداويّاً. وينبغي أن تفهم عنّي من قولي سوداويّاً في هذا الموضع أنّ ذلك الخلط لم يصر بعد مرّة سوداء خالصة صحيحة، لكنّه شيء بين الحدّين.

فالحمّيات تكون على حسب طبائع الأخلاط التي ينقلب عليها الدم، وليس بينها من الفرق، إلّا أنّ تلك خبيثة وهذه ليست بالخبيثة. فإنّ الحمّيات التي تكون من الدم بعد انقلابه إلی تلك الأخلاط أهدأ وأقلّ عادية في جميع حالاتها، وخاصّة في هدوء حرارتها وطيبها. فإنّ حرارة تلك الحمّيات، وإن كانت خاصّة توجد كثيرة جدّاً في ملمسة اليد، إلّا أنّها لا محالة هادئة طيّبة مثل الحرارة التي توجد في البدن بعد الحمّام. وذلك أنّ كثرة حرارة الحمّى إنّما تكون دائماً بحسب كثرة ما يتحلّل من البدن. فأمّا عاديتها وكراهتها عند اليد التي تلقاها من خارج، فإنّما تكون بحسب ما مع الخلط من الحدّة والحرافة.

وليكن هذا عندك من أعظم دليل يستدلّ به على الخلط المولّد للحمّى، أعني الحال في كيفيّة الحرارة. فإنّ الحرارة، متى كانت أميل إلی البخاريّة وأقلّ عادية وأذىً للّمس، فهي من الدم. ومتى كانت مؤذية لذّاعة قارصة للّمس، فإنّما تكون من المرّتين، ومتى وجدت الحرارة في أوّل ما تلمس البدن إلی البخاريّة أقرب، وليست معها حدّة، وإذا طال لبث كفّك عليه، أحسست منها بتلذيع يتزيّد قليلاً قليلاً، وفيها خاصّة مع ذلك اختلاف حتّى يخيّل إليك أنّها كأنّها تنفذ بالمصفى أو بالمنخل، فاعلم أنّ تلك الحمّى إنّما حدثت عن بلغم قد عفن.