Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Febrium Differentiis (On the Differences of Fevers)

١٧ وليس يعسر أيضاً على هذا القياس أن تعلم السبب الذي من أجله صارت بعض نوائب الحمّيات تقلع وبعضها لا تقلع. وذلك أنّه، متى كانت مدّة النوبة الأولى من القصر بحال تنقضي معها قبل أن تبتدئ النوبة الثانية، صار ذلك الوقت كلّه الذي بين انقضاء النوبة الأولى وبين ابتداء النوبة الثانية وقت إقلاع ونقاء من الحمّى. ومتى سبقت النوبة الثانية، فحدثت قبل أن تنقضي النوبة الأولى الانقضاء الصحيح، لم يبق بينهما وقت أصلاً ينقّى فيه البدن من الحمّى.

وقولي ما قلت من هذا كان على أنّ القوّة التي في العضو القابل للفضول باقية على حالها، أعني أن تكون محتملة بعد للدم الذي يحويه ذلك العضو الذي هي فيه مستقلّة بذلك على ما لم تزل. فإن حدث لتلك القوّة في حال من الأحوال ضعف، فكان ذلك سبباً لأن يكون الدم الذي في ذلك العضو يعفن فضلاً عن تلك الفضول ويولّد حمّى، كان ذلك أصلاً آخر لحدوث نوائب تجري على أدوار. فإن بقي أيضاً ذلك الأصل الذي ذكرته أوّلاً، كانا صنفين من الحمّى مركّباً أحدهما مع الآخر. فإن انقضى ذلك الأصل الذي ذكرته أوّلاً، وبقيت حال العضو الذي قبل الفضل الذي جرى إليه، فافهم عنّي ما قلته لك في العضو الذي يبعث عليه ذلك الفضل في هذا العضو الذي قبله.

فإنّ هذا العضو أيضاً قد يتولّد فيه الفضل على ضربين مثل ما يتولّد في الباعث له، أحدهما أنّ الدم الذي فيه دم رديء، والآخر أنّ قوّته ضعيفة. وكذلك أيضاً، متى حدث بسبب من الأسباب لقوّة عضو من الأعضاء في حال من الأحوال من الضعف ما يكون معه الدم الذي يحويه ذلك العضو إنّما هو ثقل على القوّة التي فيه، لا غذاء له، فإنّ ذلك الدم يفسد. فإن كان حارّاً، فإنّه يعفن سريعاً، وإن كان بارداً مائلاً إلی البلغم، فإنّه، وإن لم تكن تلك الحال تحدث له على المكان، فإنّها بعينها تحدث له على طول المدّة. وإذا لم يقدر أيضاً عضو من الأعضاء أيّ عضو كان في حال من الأحوال أن يدفع ما يتولّد فيه من الفضول على غيره، حدث فيه من أصل تولّد الحمّى مثل ذلك الأصل الذي يحدثه في عضو غيره العضو الباعث له.

والسبب الأوّل في ألّا يقدر العضو أن يدفع فضوله على غيره، هو من قوّة الباعث والقابل، ولذلك سبب آخر من سدد المجاري التي من شأنها أن تكون من الأخلاط التي معها لزوجة أو غلظ أو كثرة. فليس إذاً بعجب أن يكون عضو من الأعضاء، من غير أن يبعث عليه غيره شيئاً من الفضول، كما يبعث الرأس على العين، يصير من الحال بسبب فضوله التي تبقى فيه إلی حال العضو الذي يقبل فضول غيره. وذلك أنّ الفضول، إذا سدّت المجاري الطبيعيّة، فلا بدّ على طول المدّة من أن تعفن وتصير سبباً لكثرة الفضول في ذلك العضو لمنعها إيّاه من أن تستفرغ وتتحلّل، كما كانت تستفرغ وتتحلّل قبل ذلك. فيعفن أيضاً مثل عفونة ذلك الفضل الأوّل الفضل الذي يجتمع بآخره، فتتولّد من جميعها الحرارة الحمّائيّة التي تحدث في ذلك العضو.

وقد بيّنت فيما تقدّم أنّه حيث تولّدت أو تزيّدت حرارة، قد يجري إلی ذلك العضو الدم الذي في سائر الأعضاء. فيجب ضرورة في الوقت الذي جرى فيه أن تبرد الأعضاء التي جرى منها لنقصان الدم فيها، ويثقل ويتمدّد العضو العليل الذي جرى إليه ذلك الدم، ويستحيل ويتغيّر ذلك الدم الذي جرى لسببين، أحدهما أنّه يخالط الفضول التي قد أخذت فيها العفونة، والآخر أنّه يغتصّ ويلحج فيبقى، وليس له متنفّس.

ثمّ يكون عمل الحرارة فيه مثل عملها في حطب رطب قد ألقى منه شيء كثير دفعة على نار يسيرة، وتلك المدّة كلّها يقال لها ابتداء نوبة الحمّى. فإذا استولت الحرارة على تلك المادّة، فإنّ ذلك الوقت يقال له وقت تزيّد النوبة. ولا تزال تلك الحرارة التي في ذلك العضو تتزيّد وتكثر، حتّى لا يقف لهيبها وإحراقها عند ذلك الموضع الذي هو بمنزلة المستوقد للعفونة، لكنّه يسعى على اتّصال، فيسري في البدن كلّه. فإذا بلغت تلك الأخلاط التي التهبت فيها الحرارة غاية لهيبها وغليانها، فإنّ ذلك الوقت يسمّى وقت منتهى النوبة، وترى بدن العليل كلّه في ذلك الوقت قد حمي، وانتشرت الحرارة فيه كلّه بالسواء.

ثمّ إنّه بعد ذلك، إن اتّفق أن تكون تلك الأخلاط رقيقة، وأن تكون القوّة قويّة، وأن يكون البدن سخيفاً متخلخلاً، استفرغ جلّ ما التهب وغلى من تلك الأخلاط بأن يتحلّل فيصير عرقاً. فإن كانت تلك الأخلاط غليظة، أو كانت القوّة الدافعة ضعيفة، أو كانت المجاري ضيّقة، لم يجر من البدن شيء محسوس، لكنّه إنّما يجري منه ما يرقّ ويلطف، حتّى يصير في طبيعة البخار. وهذا الوقت يقال له وقت تنقّص نوبة الحمّى وانحطاطها، وهو وقت تحلّل تلك الأخلاط التي التهبت وغلت.

ومتى كانت تلك الحال باقية في ذلك العضو، فلا بدّ من أن يتولّد فيه فضل آخر، إذ كانت قوّته لا تستولي على ما يجتذبه بعد من الغذاء عن آخره استيلاء صحيحاً. وذلك أنّ الفضل أيضاً، كما قلت فيما تقدّم، لا تلبث أن تبتدئ فيه العفونة بسبب ما بقي في ذلك العضو من بقايا الفضول العفنة، وبسبب رداءته في نفسه. فإذا سخن ذلك العضو سخونة قويّة، جرى إليه أيضاً الدم من سائر الأعضاء على مثل ما وصفت قبيل، فكان أيضاً على ذلك المثال لنوبة الحمّى ابتداء وتزيّد ومنتهى وانحطاط. ولا يزال ذلك يحدث على دور، ما دامت الحال التي في العضو الأوّل المولّد للفضول باقية.