Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Febrium Differentiis (On the Differences of Fevers)

١٦ فأقول إنّ الفضل الذي اندفع من عضو من الأعضاء إلی عضو غيره ربّما كان من الكثرة والرداءة بحال يضرّ بها بالعضو القابل له، وربّما كان بحال من القلّة وقلّة العادية لا يضرّ معها بذلك العضو القابل له. فإن بلغ من إضراره بالقوّة أن يصيرها إلی حال الضعف وإلی أن يثقلها حتّى لا تضبط ما كانت تضبطه قبل ذلك، فإنّه يجب ضرورة أن يعفن حينئذٍ الدم أيضاً الذي في ذلك العضو لسببين، أحدهما أنّ الرطوبة التي لا تضبطها ولا تستولي عليها الحرارة الطبيعيّة التي في العضو لم يبق لها من الحال إلّا الانتقال إلی العفونة، والآخر أنّ ذلك الدم يعفن بعفونة تلك الفضول. فإن لم يبلغ من إضرار ذلك الفضل بالقوّة أن تخور وتنحلّ بعملها أصلاً، صار الدم عند ذلك في حال يكون فيها على الطرف من الرداءة والعفونة، وذلك أنّه يعفن بعض العفونة بمجاورة تلك الفضول التي تعفن له، ويبقى على شيء من حاله الطبيعيّة بسبب القوّة التي تصلحه.

وأيّ الحالين كانت حاله، فإنّ الحرارة المتولّدة من عفونته تلك الأولى هي لا محالة أميل إلی الحدّة والتلذيع من الحرارة الطبيعيّة، ولا تزال تلك الحرارة تتزيّد بحسب ما يمكن في طبيعة تلك الفضول من البقاء. فإنّ قياس تلك الفضول إلی الحرارة التي تتولّد عنها قياس الحطب إلی النار. فإنّ النار إنّما تتولّد من الحطب باستحالته إليها، وليس يبقى الحطب على تلك الاستحالة مدّة لا نهاية لها، شالته حدّاً تنتهي عنده، وهو فناء اللدونة التي فيه. فإنّه لا يزال الحطب يمكن فيه الاحتراق ما دام فيه شيء من لدونته الغريزيّة. فإذا نفدت تلك اللدونة، زال عنه الاحتراق وبقيت منه بقيّة تسمّى رماداً.

وكذلك أيضاً حرارة الأخلاط التي تعفن لا تزال باقية إلی أن تبلغ غاية الاحتراق. وقد يجب أن تكون البقيّة الأرضيّة التي تبقى من الأخلاط، إذا احترقت، يسيرة، لا كثيرة كالبقيّة التي تبقى من الحطب، إذا احترق، وذلك من قبل غلبة الطبيعة الرطبة على جوهرها، لا الطبيعة اليابسة. وكذلك إن عمدت إلی شيء من هذه الرطوبات التي برّاً فطبخته، مثل الزيت أو الخمر، كان الذي يبقى منه من الشيء الأرضيّ يسيراً جدّاً، وباقيه كلّه يرقّ ويلطف ويتحلّل، فيصير في طبيعة البخار والهواء فينفد.

والأخلاط أيضاً التي يحدث فيها الغليان بسبب العفونة ترقّ وتلطف من الحرارة التي تتولّد فيها، فيتحلّل جوهرها كلّه ويتبدّد في الهواء في أوقات منتهى نوائب الحمّى وأوقات انحطاطها، ولا يبقى منها إلّا إمّا الشيء اليسير جدّاً، وإمّا أن لا يبقى منها شيء أصلاً. أمّا الأخلاط التي هي إلی الغلظ أميل، فيبقى منها شيء يسير، وأمّا الأخلاط الرقيقة المائيّة، فلا يبقى منها شيء أصلاً.

فإن لم يكن حدث للقوّة التي في العضو الذي حدث فيه الورم ضعف، ولم ينبعث إليه ثانية فضل، فإنّ مرضه قد انقضى، وليس يعرض لصاحبه الحمّى ثانية، لا في اليوم الثاني ولا في الثالث ولا في الرابع. فإن انبعث إليه فضل بالسبب الذي كان انبعث إليه به أوّلاً، أو لم ينبعث إليه فضل، إلّا أنّه بقي فيه ضعف من القوّة، فلا بدّ من أن يحمّ صاحبه ثانية.

فأنزل أوّلاً أنّ قوّة العضو قويّة، إلّا أنّه يجتمع في المدّة من الزمان الذي بعد انقضاء الحمّى الأولى في الأعضاء التي كانت دفعت عليه الفضل شيء شبيه في كيفيّته وفي مقداره بما كان اندفع عليه أوّلاً. وإنّما يكون كذلك فيمن تبقى فيه حال تلك الأعضاء التي يندفع منها الفضل على مثال واحد، وتبقى كمّيّة الغذاء الذي ينجذب إلی العضو وكيفيّته على حال واحدة. فإنّه قد يجب ضرورة، فيما أحسب، أن يكون الشيء الذي مقداره مساوٍ لمقدار غيره وحاله مثل حاله، إذا استحال من قوّة واحدة بعينها، يتولّد منه من الفضول ما هو مساوٍ في مقداره وشبيه في حاله بما يتولّد من ذلك.

ويجب أيضاً ضرورة أن تكون مدّة الزمان التي تجتمع فيها فضول هذا مساوية لمدّة الزمان التي تجتمع فيها فضول ذلك. وذلك أنّ الأعضاء التي تغتذي ما دامت حالها حالاً واحدة وغذاؤها غذاء واحداً، فإنّ ما يجتمع فيها من الفضل يكون متساوياً في كمّيّته وعلى مثال واحد في كيفيّتة وفي مدّة واحدة من الزمان. وتكون أيضاً حركتها لدفع تلك الفضول على الأعضاء التي هي أضعف منها على دور واحد بعينه، إذ كانت القوّة الدافعة إنّما تبتدئ فتهيج لأن تفعل فعلها، إذا ثقلت عليها الفضول لكثرتها أو آذتها بكيفيّتها.

وقد بيّنت أمر جميع هذه الأشياء في كتابي في القوى الطبيعيّة، وقد ينبغي أن يرتاض في ذلك الكتاب من أراد أن يعلم ما أنا في صفته ببرهان، إذ كان قد يستفيد من هذا العلم فوائد عظيمة المنفعة في علم الطريق بحيلة البرء. وأنا تارك الآن سائر كلّ ما أنا واصفه في ذلك الكتاب مقتصر على ذكر شيء واحد أمره بيّن سهل جدّاً، وقد فعلناه مراراً كثيرة في رمد كان يهيج وينوب على أدوار. فإنّ من سمعه كان حثّه له على تعلّم هذا العلم الذي نحن فيه ليس باليسير.

وهو أنّا لا نزال نداوي هذا الرمد بخلاف ما يداويه به القوم الذين يصفون أنفسهم بعلاج العين. وذلك أنّ أولائك إنّما يكدّون العين دائماً بما يعالجونها به. وأمّا نحن، فربّما داوينا أصحاب ذلك الرمد بالحمّام، وربّما داويناهم بالإسهال، وربّما داويناهم بأن نسقيهم الشراب الصرف، كما قال بقراط، وربّما داويناهم بالفصد، وربّما داويناهم بهما جميعاً، أو بالحقنة مع الفصد، فربّما برئوا، حين يستعمل ذلك فيهم، وربّما احتاجوا معه إلی عناية وتعاهد للرأس. فجميع من عولج بهذا العلاج، إمّا لم تحدث عليه نوبة من رمده أصلاً، وإمّا أن حدثت له نوبة كان ذلك مرّة واحدة فقط، وكان ما ينوب عليه منها أنقص كثيراً ممّا كان أوّلاً.

وليس هذا موضع ذكر الشرائط والدلائل التي يحتاج إليها في العلاج، لكنّا إنّما نقصد في كلامنا هذا إلی أن نبيّن أنّه قد يمكن في بعض الحالات أن يكون الرأس لم تحدث فيه آفة أصلاً، إلّا أنّه يغتذي بدم رديء كثير الفضول، فتجتمع فيه بسبب ذلك فضول أكثر وأردأ ممّا كانت تتولّد فيه أوّلاً، حتّى لا تكفيها المجاري والمنافس الطبيعيّة، لكن تضطَر الطبيعة إلی أن تدفع الفضل على شيء من الأعضاء التي هي أضعف منه، أو تكون الأخلاط على الحال الطبيعيّة وتكون قد حدثت بالرأس آفة، أو اجتمع الأمران، فاجتمعت بسبب ذلك الفضول واندفعت على بعض الأعضاء.

وذلك أنّه ما دام الدم الذي يجري إلی الرأس بحال واحدة وحال الرأس بحال واحدة، فإنّ الفضول لا تزال تجتمع في مدّة واحدة من الزمان، وهي بحال واحدة وبمقدار واحد، وتكون نوائب أورام العين بحال واحدة. وعلى هذا المثال بعينه أيضاً، متى حدثت لبعض الأعضاء التي في الرأس دون الرأس كلّه، إمّا الدماغ وإمّا الأغشية التي تحيط به، حال ما، حتّى يجتمع فيه من ذلك الغذاء الذي يغتذي به فضل له مقدار من المقادير وحال من الحالات، ويكون اجتماعه في مدّة من مدد الزمان، ثمّ يدفع ذلك الفضل عند أوّل تأذّيه به ما له قدر من التأذّي. فإنّه قد يعرض عند ذلك أيضاً أن تحدث علّة تنوب على دور، إمّا في العين، وإمّا في الأذن، وإمّا في غيرهما ممّا يشبههما من الأعضاء التي يندفع إليها الفضل بسبب أنّها أضعف من الأعضاء التي تدفعه عليها.

فإذ كنّا قد نرى عياناً العلل التي تحدث في العينين والأذنين والقدمين وفي أعضاء كثيرة غيرها ممّا أشبهها تهيج منها نوائب على أدوار، كما بيّنّا، فأيّ شيء بعجب من أن يكون في ذات الجنب وفي ذات الرئة وفي سائر الأعضاء التي لا يدرك ورمها بالنظر ما يجري من الفضل إليها بحال واحدة، وما يتولّد عنه من الحمّى على مثال واحد، ولم يحدث للعضو الذي فيه الورم من الآفة شيء خاصّ كان بسببه تولّد ما وصفنا، سوى أنّه في ذلك الوقت أضعف من الأعضاء التي تدفع عليه الفضل؟

وليس بعجب أيضاً، إذا كان الأمر على هذا، أن تكون الفضول ليست تجتمع كلّها في مقدار واحد من مدّة الزمان. وذلك أنّه، لمّا كان الدم الذي يجيء إلی العضو الذي يغتذي به ليس يكون على حال واحدة دائماً، ولا العضو الذي يغتذي يكون أيضاً على حال واحدة دائماً، كانت مدّة الوقت الكافية لأن يجتمع فيها من الفضل المقدار الذي تتأذّى به طبيعة العضو أوّل تأذّيها، وتضطرّ أن تدفع عنها ذلك الشيء الذي يؤذيها لمنافرته لها، مختلفة في الأبدان المختلفة.

ولا ينبغي أن تعجب أيضاً، إذ كان الأمر على هذا، من أنّ مقدار طول النوائب ليس بمتساوٍ. وذلك أنّه، لمّا كانت الفضول ليست نوعاً واحداً، ولا مقدارها مقداراً واحداً، وجب ألّا يكون اشتعالها وتحلّلها على مثال واحد في جميع الأبدان. وذلك أنّ الفضول التي هي أكثر ومعها لزوجة وغلظ وهي إلی البرد أميل، فإنّها تحدث نوائب أطول، والفضول التي هي أقلّ وأسخن وأرقّ تحدث نوائب أقصر، وممّا يعين على ذلك معونة ليست باليسيرة، هيئة البدن كلّه في ذلك الوقت ومقدار القوّة فيه.

وذلك أنّ البدن الذي هو أسخف يجعل النوائب من تلقائه أقصر، والبدن الذي هو أكثف يجعلها أطول، والقوّة، إذا كانت أقوى، جعلت النوائب أقصر، وإذا كانت أضعف، جعلت النوائب أطول. وذلك أنّ القوّة القويّة تدفع عنها الشيء المنافر لها بأسهل وأسرع ممّا تدفعه الضعيفة. وإذا كان البدن سخيفاً متخلخلاً لم يحتبس فيه الفضل، فيجب ضرورة فيمن تلك حاله أن يستفرغ الفضل سريعاً، وإن كانت سائر الحالات متساوية. وعلى هذا القياس بعينه قد يجب ضرورة فيمن بدنه على ضدّ هذه الحال، أن يكون استفراغ الفضول منه أبطأ، إذا كانت القوّة تدفع الفضول بضعف، وكان ضيق المجاري يحبس الشيء الذي يجري فيها.

وإذا اجتمعت جميع الأسباب معاً، كانت النوبة على أطول ما تكون، أو على أقصر ما تكون، أمّا على أطول ما تكون، فلغلظ الفضل وكثرته وضعف القوّة وضيق المجاري، وأمّا على أقصر ما تكون، فلرقّة الفضل وقلّته وشدّة القوّة وسعة المجاري.