Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Febrium Differentiis (On the Differences of Fevers)

٤ وقد نرى أنّ توّلد الحرارة وتزيّدها ليس يكون بطريق واحد، وكذلك نجد الأمر في النار، لكنّا نرى الحرارة إمّا من قبل حركة، وإمّا من قبل عفونة، وإمّا من قبل ملاقاة حرارة أخرى لها، وإمّا من قبل احتقان شيء حارّ يتحلّل، وإمّا من قبل مخالطة جوهر آخر حارّ لها، كأنّها من ينبوع تفور، إمّا أن تتوّلد عند حسّنا، وإمّا أن تتزيّد. فيجب ضرورة أن تضاف أسباب الحمّى إلی هذه الطرق التي ذكرنا.

من ذلك أنّ الحرارة المؤذية التي يقبلها البدن من الشمس وغيرها من كلّ حرارة يكتسبها، هي حرارة خارجة من الطبيعة، وليست بحمّى ما دامت لم تسخّن القلب. وهذا الجنس كلّه من الأسباب يكون من ملاقاة الشيء المسخّن، كان ذلك شمساً أو ناراً أو دواء حارّاً يلقى البدن من خارج، وسواء عليّ متى قلت يلقي، أو يماسّ، أو يدنو، أو يلاقي، أو يلامس، أو كيف شئت أن تقول.

فأمّا الغضب، فكأنّه غليان أو حركة شديدة من القوّة الغضبيّة المغروزة في جرم القلب، ويسخّن بسخونة القلب أحياناً جوهر الروح، وأحياناً جوهر الدم أيضاً. وإن اتّفق أن يكون هذان الجوهران مستعدّين متهيّئين لقبول تلك الحرارة والتمسّك بها مدّة طويلة، فإنّ حركة القلب تلك وإن سكنت، بقي ذانك حارّين حرارة خارجة من الطبيعة، ويجب عند ذلك أن يحمّ صاحب تلك الحال.

فهذه الحمّى إنّما أصلها وابتداؤها حركة الحرارة الغريزيّة وغليانها. وأمّا الحمّى التي تكون من الحزن والغمّ، فليس أصلها وابتداؤها غليان الحرارة الغريزيّة، لكن حركتها فقط. وأمّا الحمّى التي تكون من الإعياء، فأصلها أيضاً وابتداؤها فضل حركة تكون من العضل والعصب والرباطات والمفاصل. فإنّ هذه الأعضاء هي التي تسخّن عند التعب أوّلاً، ثمّ إنّ الحرارة تسعى وتتأدّى من هذه الأعضاء إلی القلب لاتّصال الأعضاء بعضها ببعض، وعند ذلك تكون الحمّى.

وأمّا الحمّى التي تكون من تكاثف الجلد واستحصافه مثل الحمّى التي تعرض خاصّة كثيراً لمن برد جلده أو تقبّض من شيء قابض، فإنّما تكون من قبل اجتماع الشيء اللذّاع الذي كان يتحلّل من البدن فيه. فإنّ جميع أبدان الحيوان تتنفّس دائماً على وجهين، أحدهما أنّ الفضول البخاريّة والدخانيّة التي تتولّد فيها تتحلّل وتخرج من البدن دائماً، والآخر أنّه يجتذب إلی داخل البدن شيء من جوهر الهواء، فيبرّد ويروّح الحرارة الطبيعيّة.

فإذا لقي البدن سبب من الأسباب قويّ وكثّف الجلد وضمّ تلك المسامّ التي يكون بها ذلك التنفّس والتحلّل، فإنّه ربّما اجتمع من ذلك في البدن امتلاء، وذلك يكون إذا كان ذلك الشيء الذي كان يتحلّل من البدن فاحتقن بخاراً صالحاً عذباً. وربّما حدثت من ذلك حمّى، وذلك يكون إذا كان ذلك الشيء الذي كان يتحلّل من البدن فاحتقن بخاراً لذّاعاً، وعند ذلك خاصّة يكون ممّا يزيد في الحرارة تعذّر اجتذاب ما يجتذب إلی داخل البدن من الهواء ليبرّد من حرارته.

وإنّما يكون الفضل الذي يتحلّل من البدن لذّاعاً فيمن كان دمه بالطبع رديئاً، أو يأكل أطعمة رديئة، أو يتخم كثيراً، وخاصّة متى كان الماء الذي يشرب على هذه الأطعمة ماء عكراً من ماء النقائع ومواضع الحمأة أو من ماء الآجام والغياض أو من أيّ ماء كان بعد أن يكون فاسداً عفناً. وكذلك أيضاً يكون ما يتحلّل من البدن فيمن يسرف في التعب أو في الاهتمام أو في السهر أو يديم تناول بعض الأدوية الحادّة.

وأعني بالأطعمة الرديئة الأطعمة التي هي في طبعها كذلك مثل البصل والثوم والحرف والكرّاث والكرنب والباذروج والقرّيص وسائر البقول التي تسمّى البرّيّة مثل هذا الخردل البرّيّ الذي ينبت عندنا، والأطعمة التي هي في طبعها محمودة، إلّا أنّها إذا نالتها عفونة، صارت بها إلی حال مساوية في الرداءة لحال تلك الأول التي ذكرنا وأزيد منها مثل الحنطة والشعير وسائر الحبوب إذا عتقت، حتّى تصير إلی حال العفونة، أو عرض لها التكرّج من قبل سوء خزنها، أو نالتها آفة في أوّل تولّدها من شوب أو يرقان أصابها.

فقد اضطرّ قوم كثير في زماننا هذا إلی أن أكلوا أشباه هذه من الأطعمة بسبب جدب، فمنهم من مات، ومنهم من عرضت له حمّيات عفونة ووباء، ومنهم من عرضت له بثور من جنس الجرب والعلّة التي يقال لها التقشّر. فمتى كان البدن مملوءاً من هذه الأخلاط، ثمّ لم يكن في شيء من الأحشاء شيء من السدد أصلاً، ولم يكن مانع يمنع البدن كلّه من التنفّس والتبرّد بمسامّ الجلد، فإنّه يبقى صحيحاً، إلّا أنّ صحّته تكون غير وثيقة ولا مأمونة بل قريبة من الخطر. ومتى كانت حال البدن تلك الحال، ثمّ استحصف سطحه الخارج أو عرضت له سدد في مجاريه الباطنة، فإنّه يعرض له من استحصاف الجلد هذا الجنس من الحمّى الذي ذكرته، ويعرض له من السدد الجنس من الحمّى الذي أنا ذاكره بعد قليل.

فليس إذاً بعجب أن يكون بعض من يتخم يحمّ، وبعضهم لا يحمّ. وذلك أنّ من كان دمه رديئاً وليس يتنفّس بدنه ويتحلّل على ما ينبغي، وكان يتعب في غير وقته ويعجل في الدخول إلی الحمّام، فإنّ الحمّى تسرع إليه. وأمّا من كان دمه دماً جيّداً محموداً وبدنه يتنفّس ويتحلّل على ما ينبغي، ويستعمل إذا عرضت له التخمة السكون وإسخان نواحي المعدة والكبد، فليس يمكن أن يحمّ. وذلك أنّ الشيء الذي قد فسد يبقى كلّه هناك وينضج على طول المدّة قليلاً قليلاً، حتّى يصير جيّداً محموداً.

فأمّا من استعمل بعد التخمة حركة قويّة أو تعرّض لشمس حارّة صيفيّة أو لحمّام أو لاستحمام بماء حارّ، فإنّ ذلك الشيء الذي قد فسد ينتشر ويتفرّق كلّه في بدنه. وكذلك أيضاً من خرج منه من أسفل ذلك الطعام الذي قد فسد، فإنّه لا تلحقه حمّى، إلّا أن تعرض له بسبب آخر مثل إعياء يصيبه من كثرة القيام والترداد، أو من به ورم يحدث فيما يلي المعدة.