Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Febrium Differentiis (On the Differences of Fevers)

٦ وأمّا سخونة الهواء المحيط بالأبدان مثل السخونة التي تعرض فيه عند طلوع الشعرى العبور، فإنّها تسخّن القلب خاصّة بما يصل إليه منها في الهواء الذي يدخل في التنفّس بغير متوسّط. وإذا كان الهواء أيضاً محيطاً بالبدن كلّه، فإنّه يسخّنه بأسره، وخاصّة العروق الضوارب منه، إذ كانت معما ينالها من حرّ الهواء الحارّ قد تجتذب من نفس جوهره شيئاً إليها. ويجب ضرورة أن يستحيل القلب باستحالة جميع تلك الأعضاء، حتّى إذا أفرطت عليه تلك الحرارة، صارت فيه أوّلاً الحال الحمّائيّة، ثمّ أدّاها إلی البدن كلّه.

فأمّا عند حال الهواء التي يعرض منها الموتان، فإنّ الذي يدخل من الهواء بالتنفّس يكون خاصّة سبب الحمّى، وقد تكون بسبب الأخلاط التي في البدن، إذا كانت مستعدّة متهيّئة لقبول العفونة، عند أدنى سبب يكون من الهواء سبباً لابتداء حدوث الحمّى، إلّا أنّ أكثر ذلك إنّما تبتدئ من قبل الهواء

الذي يدخل بالنفس، إذا كان ذلك الهواء قد أفسده بخار عفن خالطه.

وابتداء العفونة يعرض في الهواء إمّا من جثث كثيرة من جثث الموتى لم تحرق كما قد يعرض في الحروب، وإمّا من بخار يرتفع من نقائع أو من آجام في وقت صائف. وربّما كان ابتداء الأمر من حرارة مفرطة تكون في الهواء مثل ما عرض في الموتان الذي حدث على أهل أثينا الذي قال فيه ثوقيذيذس إنّهم أووا إلی أخبئة مختنقة ومدة في وقت صائف، فعرض لهم الموتان. وتكون الأخلاط التي في البدن بسبب التدبير الرديء مستعدّة متهيّئة لقبول العفونة، فيكون من قبل ذلك ابتداء الحمّى الوبائيّة. ولعلّه أن يكون أيضاً جرى في الهواء للاتّصال من بلاد الحبشة إلی الموضع الذي كان فيه أهل أثينا شيء من البخار العفن، فكان سبباً لتولّد الحمّى في الأبدان التي كانت مستعدّة إلی أن تسرع إليها الآفة والضرر منه.

فقد ينبغي أن تكون حافظا لهذا في جميع ما يجري من قولي دائماً أنّه ليس يمكن أن يعمل في البدن شيء من الأسباب دون أن يكون البدن مستعدّاً متهيّئاً لقبول ما يؤثّر فيه ذلك السبب. ولولا ذلك، لكان كلّ من أطال اللبث في الشمس الصيفيّة سيحمّ، وكذلك كلّ من تحرّك فضل حركة، أو غضب أو اغتمّ، ولكان، فيما أحسب، جميع الناس سيمرضون عند طلوع الشعرى العبور، وكان الناس كلّهم سيموتون عند حدوث الموتان، إلّا أنّ الأمر على ما وصفت من أنّ أقوى الأسباب في توليد الأمراض إنّما هو استعداد البدن القابل للآفة لقبولها. وأنا ضارب لك في ذلك مثلاً لتفهم به ما وصفت من هذا.

فأنزل أنّه قد شاب الهواء شيء من الوباء، وأنّ الأبدان التي يلقاها، منها مملوءة فضولاً من كلّ نوع مستعدّة من أنفسها دون الهواء أن تعفن، ومنها نقيّة لا فضل فيها، وليكن مع ذلك في الأبدان الأول سدد في المجاري في مواضع كثيرة والحال التي يقال لها الامتلاء، وليكن أصحابها مستعملين للخفض والدعة والإسراف في المطعم والمشرب والجماع وما لا بدّ من أن يتبع هذه وهو التخم، وفي الأبدان الأخر النقيّة التي لا فضل فيها، فليكن معما فيها من الخير أن تكون جميع مجاريها حسنة التنفّس ولا سدد فيها ولا ضغط، وليكونوا مستعملين من الرياضة المقدار المعتدل ومن التدبير التدبير المقتصد. فإذا وضعت هذا، فاخطر ببالك ما ينبغي أن يكون من حال كلّ واحد من هذين الصنفين عند دخول ما يدخل من ذلك الهواء العفن بالنفس إلی الأبدان. أتراك لا تعلم أنّ الأبدان التي فيها الفضول منذ أوّل ما يرد عليها ذلك الهواء بالتنفّس تبتدئ فيها العفونة ويبلغ من نكايته فيها كلّ مبلغ؟ فأمّا الأبدان النقيّة التي لا فضل فيها، فمنها ما لا يؤثّر فيه ذلك الهواء أصلاً، ومنها ما يؤثّر فيه أثراً يسيراً حتّى يكون رجوعها إلی الحال الطبيعيّة بأسهل الوجوه وأسرعها.

وكذلك أيضاً متى زال مزاج الهواء عن الحال الطبيعيّة زوالاً مفرطاً إلی الرطوبة والحرارة، فإنّه يجب ضرورة أن تعرض أمراض وبائيّة، إلّا أنّ الذي يبتلى بتلك الأمراض خاصّة الأبدان الممتلئة من الرطوبة الكثيرة الفضول. فأمّا من يستعمل من التعب المقدار المعتدل ومن التدبير الطريق المقتصد، فإنّه لا يكاد يبتلى بشيء من تلك الأمراض عند جميع تلك الحالات.

وهذا القول قد قلته الآن في شيء واحد لأجعله مثالاً، وهو يصحّ مثل صحّته في هذا في جميع أجناس الأسباب. ومن أحبّ أن يستكمل الارتياض فيه، فليقرأ مقالة جعلتها في الأسباب البادئة. وأمّا أنا، فإنّي الآن إشفاقاً من التطويل أجمل هذا كلّه جملة واحدة أحصره فيها ثمّ أدعه.

فأقول إنّه ينبغي أن ننظر في كلّ واحد من الأسباب بأيّ قوّة يمكنه خاصّة أن يمرض، ثمّ ننظر أيّ الأبدان حالها حال موافقة له وأيّها حالها حال مقاومة له، ونعلم علماً يقيناً أنّ الآفة منه تسرع إلی الأبدان التي حالها حال موافقة له. فأمّا الأبدان التي تضادّه وتقاومه، فبحسب مبلغ قوّة مضادّتها له يكون امتناعها من غلبته عليها وثباتها له.

وإنّي لأعلم أنّه قد كانت حدثت مرّة في الهواء الحال التي وصف بقراط أنّها حدثت بقرانون، فحدث بسببها لكثير من الناس القروح التي تسمّى الجمر، وكان تولّد تلك القروح وجميع الأعراض التي كانت معها على الطريق الذي وصفه بقراط بعينه. وأعلم أيضاً أنّه حدثت للهواء حال أخرى مثل الحال الوبائيّة التي ذكرها في المقالة الثالثة من كتاب إبيذيميا. فكان جميع ما عرض فيها مثل ما عرض في تلك. وكانت جملة تلك الأشياء التي حدثت كما قد دلّ على ذلك بقراط العفونة، ولمّا تقدّمت فعلمت ذلك، بادرت منذ أوّل ما ابتدأت تلك الحال في الهواء، فتفقّدت الأبدان، فما كنت أراه منها رطباً، فإنّي كنت ألتمس تجفيفه بكلّ وجه أقدر عليه، وما كنت أجده منها يابساً، فإنّي أحفظه على طبيعته الأولى، وما كنت أجد فيه منها فضولاً، فإنّي كنت أداويه بالاستفراغ بالإسهال والقيء، وكنت أتلطّف لتفتيح السدد التي في آلات البدن، فأجلوها وأنظّفها.

إلّا أنّ هذه الأشياء كلّها سالكة لطريق الحيلة للبرء، وسأشرحها شرحاً أكثر من هذا في ذلك الكتاب. وإنّما ذكرتها في هذا الموضع، لمّا دعاني إليه اتّصال الكلام الذي قصدت لأخبر فيه بالطريق الذي من قبله يعرض السبب الواحد القويّ لأبدان شتّى، فمنها ما يعرض له منه الحمّى، ومنها ما لا يعرض له منه ذلك، وهو أنّ حالات الأبدان حالات مختلفة غير متشابهة، فمنها ما يغلبه ويهزمه ذلك السبب الفاعل سريعاً لاستعداده لقبول الأثر من فعله فيه، ومنها ما هي بعيدة جدّاً من أن يغلبها ويهزمها ذلك السبب.

ورمت أن آتي بالبرهان على هذا القول، فاضطررت إلی ذكر المداواة. فعرض لي من ذلك ما عرض لبقراط حين قال في بعض المواضع في كلام شبيه بهذا ذلك القول المشهور وهو قوله: ويدلّ على ذلك برؤه.