Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Febrium Differentiis (On the Differences of Fevers)

٥ وأمّا الجنس الثالث من الحمّيات المفارقة، وهو الربع الخالضة، فلأنّه يكون من الخلط السوداويّ، إذا كان مفرداً لا يشوبه شيء، وكان مزاج ذلك الخلط يابساً بارداً، فإنّ اشتعاله يكون قليلاً قليلاً على نحو ما يبطئ الحجر أو الخزف أو العظم أو غير ذلك من الأجسام الباردة اليابسة في قبول الحرارة. فإذا اشتعلت منه حمّى، لم تبق تلك الحمّى في البدن بقايا دخانيّة من بعد النوبة ولا شيئاً هو على شرف احتراق.

ولذلك يكون الاستفراغ من هذا الخلط، إذا تولّدت منه الحمّى، أكثر ممّا يكون من الخلط البلغميّ، إذا تولّدت منه الحمّى. وترى البدن في وقت فترة الحمّى السوداويّة كالنقيّ النقاء الصحيح من قبل أنّ جميع ما يشتعل في هذه الحمّى من الخلط السوداويّ يستفرغ ويتحلّل. ولذلك أيضاً صار النافض الذي يعرض لأصحاب هذه الحمّى خاصّة شبيهاً بما يعرض لمن أصابه برد شديد من برد الهواء، لا بمنزلة ما يعرض لمن يبلغ منه حرّ الشمس، أو لمن تكون به قرحة، فيوضع عليها بعض الأدوية الحارّة اللذّاعة. ويجب ضرورة أن تتقدّم هذه الحمّى الأشياء التي تجمع في البدن المرّة السوداء من المهن والتدبير وحال الهواء ووقت السنة والبلدان، وأن تكون طبيعة المريض وسنّه ممّا يميل إلی السوداء.

ونوبة هذه الحمّى في مقدار طول لبثها شبيهة بنوبة حمّى الغبّ، وربّما كانت أطول منها، وهي بعد ربع خالصة، وذلك من قبل أنّ تولّدها من خلط هو أبرد. والسبب في هذه الحمّى وفي غيرها من جميع الحمّيات الذي من قبله يختلف مقدار طول النوائب، كما قلت قبيل في الغبّ الخالصة، هو اختلاف الأمر في مقدار الخلط المولّد للحمّى وفي كيفيّته، وفي قوّة المريض وضعفه وفي حال بدنه. فإنّ الحال في ذلك وفي غيره من جميع الأمور في هذه الحمّى تكون على قياس ما يكون عليه في الحمّى المتولّدة من المرار المرّ.

من ذلك أنّ الخلط السوداويّ، إن لم يعفن ولم يتحرّك حركة شديدة فيجري ويمرّ بأعضاء حسّاسة، لم يحدث دور ربع خالصة. ونظير ما يعرض من الصفراء من اليرقان ما يعرض من السوداء من رداءة اللون الشبيهة بلونها في البدن كلّه عند العلّة المتقادمة التي تكون في الطحال. ونظير ما يعرض من المرّة الصفراء من الورم الحارّ المعروف بالحمرة ومن القروح المعروفة بالنملة ما يعرض من السوداء من الورم المعروف بالسرطان ومن القرحة المعروفة بالآكلة.

وليس تحدث الحمّى ضرورة في هذه العلل ولا في علّة الوسواس السوداويّ دون أن يعفن الخلط السوداويّ. وذلك أنّ الطبيعة تلتمس دائماً باستعمال ما لها من القوى أن تشبّه بالأشياء التي تغتذي كلّ ما يمكن أن يصير إلی حال الصلاح، وتقذف ما كان على خلاف ذلك. فإن لم تقدر في وقت من الأوقات على دفع الشيء الرديء وقذفه، إمّا لغلظ الفضل، وإمّا لكثرته، وإمّا للزوجته، وإمّا لضرب من ضروب الضيق يكون في المجاري، وإمّا لضعف منها هي، فإنّه يجب ضرورة أن يطول لبث ذلك الفضل الرديء في البدن فيفسد.

وذلك أنّه ليس شيء من سائر الرطوبات يمكن أن يبقى في البدن على الحال التي كان عليها أوّلاً، فضلاً عن هذه الرطوبة التي قد بلغ من رداءتها ألّا تقبل إصلاح الطبيعة لها، لكن كلّ رطوبة تبقى في البدن، فلا بدّ لها من أن تصير إلی إحدى حالين، إمّا أن تنضج، فتتشبّه بأعضاء البدن الثابتة وتصير زيادة فيها، وإمّا أن تفسد وتعفن.

ولذلك صار أصحاب اليرقان وأصحاب الوسواس السوداويّ، إذا بقيت تلك الأخلاط التي هي من جنس المرّتين في أبدانهم مدّة أطول، وهي كثيرة غالبة، حدثت عليهم منها حمّيات. وربّما كان الجالب للحمّى العلّة التي تكون في الكبد أو في الطحال، إذا كان السبب الفاعل لتلك الأعراض ورماً أو سدداً. وعلى هذا القياس أيضاً ليس، متى كثر الخلط البلغميّ وغلب في البدن، حدثت منه حمّى، دون أن يعفن.

وقد رأيناه حدث عن ذلك الخلط شيء قد كان القدماء يظنّون أنّه لا يمكن أن يكون. وذلك الشيء هو النافض الذي يكون من غير حمّى، وقد رأينا ذلك كان في بعض الناس مرّة واحدة، ثمّ انقضى، وفي بعضهم كان نائباً على دور أيّاماً كثيرة، أو كان دائماً متّصلاً منذ أوّل الأمر إلی آخره، وكان إمّا أن يكون من القلّة والضعف بحال لا يشعر معها صاحبه أنّه به ما دام ساكناً ولا يحسّه حتّى يتحرّك، وإمّا أن يكون من الشدّة والقوّة بحال يتأذّى به معها صاحبه وإن لم يتحرّك.

إلّا أنّ هذا الخلط أيضاً، إذا عفن على طول المدّة، لم يكن النافض وحده يحدث فقط، لكن تحدث معه الحمّى. والحمّى التي تحدث من هذه الأسباب تكون حمّى طويلة مزمنة جدّاً عسرة الانقضاء في شكل الحمّى المعروفة بالنائبة في كلّ يوم.