De Febrium Differentiis (On the Differences of Fevers)
٣ فأقول إنّ من البيّن عند جميع الناس أنّه قد يرى قوم يحمّون من إعياء ومن غضب ومن حزن وغمّ يصيبهم ومن حرّ الشمس ومن البرد ومن السهر ومن التخم ومن الإكثار من النبيذ ومن الأورام الحارّة، وإنّما عرف ذلك جميع الناس من ظهوره لهم عياناً. وليس يذهب على أحد أيضاً ممّن له فهم أنّ الحال التي تكون للهواء في وقت الموتان تجلب الحمّى، وكذلك الحال أيضاً في أنّ ملابسة من يمرض مرض الموتان خطر . وذلك أنّه لا يؤمن أن يُعدي كما يُعدي الجرب والرمد. ومن الخطر أيضاً ملابسة أصحاب السلّ، أعني قرحة الرئة، ومساكنتهم، وبالجملة كلّ من تكون حال الهواء الذي يخرج منه في النفس حال عفونة، حتّى يغلب النتن على البيوت التي يأويها. وقد علم أيضاً بطول التجربة أنّ الذين يكونون قد تعوّدوا الرياضة، فيدعونها، قد تعرض لهم الحمّى مع أمراض أخر غيرها، وعلم أيضاً أنّ الحال التي يقال لها الامتلاء تجلب الحمّيات وأطعمة ما من الأطعمة الرديئة وبعض الأدوية والحرّ الذي يكون عند طلوع الشعرى العبور وغير ذلك ممّا أشبهه. وهذا كلّه ممّا قد عرفه جميع الناس في المثل.
فأمّا الحال التي تحدث في الأبدان من هذه الأشياء التي تكون منها الحمّى، فلا يعلمها جمهور الناس ولا كثير من الأطبّاء. والأطبّاء الذين يجهلون أشباه هذه الأشياء صنفان، أحدهما صنف الذين يقتصرون على التجربة فقط ويقولون إنّه ليس يمكن أن توجد بالقياس طبيعة شيء من الأشياء، والصنف الآخر جماعة كثيرة من الناس يظنّون بأنفسهم أنّهم حكماء، وحالهم في الجهل حال الذين ذكروا قبلهم، إلّا أنّهم يتوهّمون أنّ عندهم معرفة. وإنّما عرض لهم الجهل من قبل أنّهم لم يتقدّموا فيرتاضوا أوّلاً في طرق القياس والمنطق التي بها يعرف ويميّز بين القضايا البرهانيّة وبين القضايا التي هي مقنعة، إلّا أنّه ليس يمكن أن يستخرج منها أمر صحيح حقيقيّ ولا يبرهن. ثمّ اجتمع فيهم مع هذا الجهل زهو وطغيان، فبلغ ببعضهم من قلّة الحسّ أو من الإقدام ألّا يقرّوا بالأشياء التي يعرفها جميع الناس لصحّتها عندهم بالتجربة أنّها من أسباب الحمّيات.
وقد تكلّمت كلاماً كافياً في تلك الأشياء في مقالة وصفت فيها أمر الأسباب التي يقال لها البادئة، فلست أحتاج في هذا الموضع أن أذكر غباوتهم وهذيانهم بالباطل، لأنّي لم أقصد بكلامي هذا للقول في الأسباب ولا لنقض المغالطات، لكنّي إنّما قصدت فيه لسياقة علم صحيح وطريق تعليم، وأبني الأمر فيه على أصول قد أتيت بالبرهان عليها في كتب أخر وأخبر فيه بأصناف الحمّيات.
والأصول التي أبني الأمر في كلامي هذا عليها، هي أنّ الحارّ والبارد واليابس والرطب هي أركان الأبدان، وأنّ الأمراض الأول إنّما تكون لسوء مزاج هذه، وأنّ الحمّى هي أحد أصناف سوء المزاج وتكون إذا صارت في القلب حرارة خارجة من الطبيعة.
وأصناف تلك الحرارة التي كان كلامنا فيها تؤخذ من أصناف العناصر التي تقبل حرارة الحمّى، وهي ثلاثة أجناس. وذلك أنّا قد قلنا إنّ تلك الحرارة إمّا أن تشتعل أوّلاً في نفس جرم القلب، وإمّا في الأخلاط، وإمّا في الروح.
وإنّ ابتداء حدوث جميع الحمّيات يكون بأسباب يعرفها جميع الناس، وهي التي ذكرتها قبل، وصاحب التجربة قد يتسبّب من تلك الأسباب ممّا قد حفظ ببعض ما يحتاج إليه في العلاج. فأمّا صاحب القياس، فيترقّى منها إلی نفس طبيعة المرض، فيأخذ منه على طريق الاستدلال أشياء يحتاج إليها في تقدمة المعرفة بما هو كائن وفي وجود العلاج الصواب، ويستعمل جميع ما يستخرج بالتجربة ويضيف إليها أشياء كثيرة تستخرج بطريق القياس.
وسندلّ في كتاب غير هذا أيّ الأشياء يوجد بكلّ واحدة من هتين الآلتين أعني التجربة والقياس. وأمّا الآن، فغرضي أن أذكر أيّ حال يحدث في البدن من كلّ واحد من الأسباب البادئة، حتّى تلتهب منه حمّى.