Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Sectis ad eos qui introducuntur (On Sects for Beginners)

الرأس الرابع في ثلب أصحاب القياس أصحاب التجربة

لكن لمّا كان أصحاب الرأي يثلبون التجربة، وينسبها بعضهم إلی أنّها لا يثبت بها شيء البتّة، وبعضهم إلی أنّها ليست بتامّة، وبعضهم إلی أنّها ليس معها الإحكام الصناعيّ.

وكان أصحاب التجربة أيضاً يثلبون القياس وينسبونه إلی أنّه مقنع، وأنّه ليس يؤدّي إلی حقيقة.

صار الكلام بين كلّ واحد من الفريقين وبين الآخر مضاعفاً طويلاً.

لأنّ كلّ واحد منهما مرّة يحتجّ علی الآخر فيثلبه، ومرّة يحتجّ عن قول نفسه فينصره.

فإنّ الكلام الذي ناقض به أسقلبيادس أصحاب التجربة، وهو يريد — بزعمه — أن يبيّن أنّه ليس يمكن أن يری شيء من الأشياء علی حال واحدة مراراً كثيرة، إنّما أراد به أنّ التجربة لا يثبت بها شيء البتّة، ولا يصل أحد إلی أن يستخرج بها إلّا اليسير من الأمور.

وأمّا الكلام الذي قاله إراسيسطراطس في مناقضته لأصحاب التجربة — وهو يسلّم لهم أنّه قد تستخرج بالتجربة الأدوية المفردة للأمراض المفردة، مثل أنّ البقلة الحمقاء دواء جيّد للضرس، ولا يسلّم لهم أنّ الأدوية المركّبة في الأمراض المركّبة تستخرج بالتجربة — فإنّما أراد به أنّه قد يوصل إلی أن تستخرج بها أشياء ما، إلّا أنّه ليس يكتفي بها في استخراج جميع ما يحتاج إلی استخراجه.

وأمّا الكلام الذي قاله القوم الذين سلّموا لأصحاب التجربة أنّه قد تستخرج بها هذه الأشياء، إلّا أنّهم ذمّوا منها أنّها لا تحصر، ويطول أمرها، ولا تلزم الطريق القاصد، ثمّ إنّهم يضمنونها بالقياس، فإنّما أرادوا به لا أنّ التجربة لا تقوم، ولا تثبت، لكنّها كأنّها أمر ليس له إحكام صناعيّ.

الرأس الخامس في ثلب أصحاب التجارب أصحاب القياس

فدعا ذلك أصحاب التجربة إلی أن يحتجّوا علی أصحاب كلّ واحد من هذه الأقاويل، ويروموا أن يثبتوا أنّ التجربة أمر تامّ، قائم، ثابت، وأنّها كافية، كاملة، وأنّها صناعة محكمة.

ويقعون هم أيضاً في القياس علی ما خفي بما ظهر الذي يستعمله أصحاب القياس بأنواع من الوقيعة.

فيضطرّ أيضاً أصحاب القياس أن يحتجّوا في كلّ نوع من الأنواع بما يثبت به.

وذلك أنّ أصحاب القياس يتضمّنون معرفة طبيعة مزاج البدن الذي هو له بالطبع، والذي ينتقل إليه، فيحتاج إلی نقله عند ردّه إلی الذي هو له بالطبع، وتولّد الأمراض، وقوی كلّ ما يتداوی به ويستشفی به، فيعاندهم أصحاب التجربة، فيثلبون جميع هذه الأشياء، ويقولون إنّها إنّما هي أمور تقنع بالقول وتجب بطريق الأخلق والأولی، وليس يوقف بها علی علم يقين، ولا ما له حقيقة.

وربّما سلّموا لهم أنّهم قد يعرفونها، ثمّ يرومون أن يثبتوا أنّه لا ينتفع بمعرفتها.

وربّما وافقوهم أيضاً علی أنّه قد ينتفع بمعرفتها، ثمّ يرومون أن يثبتوا أنّ معرفتها فضل لا يحتاج إليه.

فهذه هي، بالجملة، الخصومات التي تجری بين أصحاب التجربة وأصحاب القياس.

وأمّا في شيء شيء من الأشياء الجزئيّة، فبينهم خصومات كثيرة في كلّ واحد من هذه الأبواب.

مثال ذلك: أنّ أصحاب القياس في طلب استخراج الأشياء الخفيّة يمدحون التشريح، والاستدلال من الشيء علی ما يحتاج إليه فيه، وعلم المنطق.

لأنّ هذه الأشياء هي لهم آلات يتصيّدون بها الأشياء الخفيّة.

وأصحاب التجربة لا يسلّمون أنّه يستخرج شيء بالتشريح. ويقولون: إنّه وإن استخرج به شيء، فليس ذلك الشيء ممّا يحتاج إليه ضرورة في هذه الصناعة.

ويزعمون: أنّه ليس استدلال البتّة. ولا يمكن أن يعرف شيء من شيء غيره، وأنّ كلّ شيء يحتاج أن يعرف من نفسه. وأنّه ليس دليل يدلّ علی شيء هو في طبعه خفيّ. وأنّه ليس شيء من الصناعات يحتاج إلی علم المنطق.

ثمّ إنّهم يقولون أشياء في نقض أصول المنطق، ونقض الحدود.

ويقولون: إنّه ليس برهان بتّة يدلّ علی أمر خفيّ.

ويقولون أشياء في ثلب الطرق الرديئة من البرهان التي من عادة أصحاب القياس استعمالها في كلّ قياس من الشيء الظاهر علی الشيء الخفيّ. وإنّ هذا القياس لا يقدر أحد أن يستخرج به ما يتضمّن أصحابه أنّه يستخرج به. ولا يكون به قوام صناعة من الصناعات. ولا يتعامل به الناس في تصرّفهم.

ويقولون: إنّ القياس الذي ينتفع به إنّما هو القياس علی الأشياء الظاهرة، وإنّ منفعته في ذلك أنّه يتبيّن به الشيء الذي قد التبس في حال ما. ويعنون بالشيء الملتبس في حال ما كلّ ما كان من جنس الأشياء الظاهرة، إلّا أنّه لم يظهر بعد.

وينتفع به أيضاً في كشف خطأ من يقدم علی مخالفة العيان.

وينتفع به أيضاً في تبيين ما يغلط فيه من الأشياء الظاهرة.

ويقدر صاحبه أن ينقض به الأغاليط من غير أن يفارق العيان والشيء الظاهر، لكنّه يلزم دائماً الشيء البيّن الظاهر.

وليس كذلك عندهم القياس علی الشيء الخفيّ. لكنّه يبتدئ من الأشياء الظاهرة وينتهي إلی أمور دائمة الخفاء. ولذلك يتغيّر علی أنحاء شتّی.

وذلك أنّ أصحاب هذا القياس يبتدئون بقياسهم من شيء واحد ظاهر، وينتهي كلّ واحد منهم إلی شيء من الأشياء الخفيّة غير الذي انتهی إليه غيره. ويقع بينهم اختلاف ليس لهم فيه حكم يفصل بينهم، ويجمعهم علی أمر واحد.

ويقولون: إنّ هذا الاختلاف دليل علی أنّ الشيء الذي اختلف فيه لا يدرك.

ويعنون بالإدراك: المعرفة الصحيحة، اليقين.

ويعنون بخلافه ضدّ ذلك.

ويقولون: إنّ العجز عن الإدراك وامتناعه هو علّة الاختلاف الذي لا يقع فيه حكم فاصل. وهذا الاختلاف أيضاً دليل علی عدم الإدراك.

والاختلاف الذي لا يقع فيه حكم فاصل عندهم هو الاختلاف في الأشياء التي تخفی، لا في الأشياء التي تظهر، من قبل أنّ في الأشياء التي تظهر إذا تبيّن الشيء وانكشف وظهر كيف هو، شهد للصادقين عليه، وكذب وفضح المتكذّبين عليه.

فمثل هذه الخصومات تجري فيما بين أصحاب التجربة وأصحاب القياس كثيراً.

وعلاج الفرقتين في المرض الواحد علاج واحد، إذا كان كلّ واحد من الفرقتين لازماً للطريق الصواب علی مذهب أهل فرقته.