Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Sectis ad eos qui introducuntur (On Sects for Beginners)

وأنا واصف لك كيف تقدر أن تستبرئ وتختبر أمرهم علی طريق العدل، فتعلم هل عمّوا عن الرشد والأمر النافع، أو هم دون الناس أصابوا في حذف ما هو فضل.

فإنّه ليس هذا البحث عندي بصغير، ولا يسير القدر. ولا يرجع الاختلاف فيه إلی الكلام فقط، كالاختلاف بين أصحاب التجارب وأصحاب القياس في طريق استخراج العلاج، وهم في العلاج متّفقون. لكن يرجع الاختلاف فيه إلی القول والفعل.

فلا بدّ من أحد أمرين: إمّا أن يدخل علی أعمال الطبّ من رأي هذه الفرقة الثالثة مضرّة عظيمة، أو ينال منها منفعة عظيمة.

واختبار الأشياء يكون علی وجهين: أحدهما بالقياس وحده، والآخر بالأشياء التي تظهر للحسّ.

والاختبار الذي يكون بالقياس وحده أعلی من طبقة المتعلّمين، فليس هذا وقت ذكره.

وأمّا الاختبار الذي يكون بالعيان والحسّ فمشترك للناس كافّة. فليس شيء يمنع من أن نستعمله أوّلاً، إذ كان يقرب من طبقة المتعلّمين، وكان أصحاب هذه الفرقة الثالثة يقبلونه، ويفضّلونه، لأنّهم لا يحمدون شيئاً سوی الشيء الظاهر، وعليه اعتمادهم في كلّ شيء. وكلّ شيء خفيّ عندهم لا ينتفع به.

فهلمّ بنا ننظر أوّلاً في أمر الأسباب التي يقال لها البادئة، ونجعل الأصل في ذلك الأمر الظاهر المكشوف.

الرأس الثامن في مناظرة أصحاب الحيل لأصحاب القياس وأصحاب التجارب

فانزل: أوّلاً أنّ صاحب هذه الفرقة الثالثة حضر، فقال:

ما حاجتكم، يا معشر أصحاب القياس وأصحاب التجارب، إلی البحث والتفتيش بالباطل عن الحرّ والبرد، والسكر، والتخم، والإكثار من الطعام والإقلال منه، والتعب، والخفض، وكيفيّات الأطعمة، ومخالفة العادات؟

لعلّ من رأيكم أن تدعوا الأمراض الحادثة في البدن، وتداوا هذه الأسباب التي ليس شيء منها بتّة حاضراً في البدن، لكنّه إنّما أثّر فيه أثراً ما، ثمّ بطل، وبقي الأثر الذي حدث منه في البدن، وهو الذي ينبغي أن يقصد له فيداوی، لأنّه هو المرض.

فقد ينبغي أن ننظر أيّ مرض هو. فإن كان استمساكاً، فينبغي أن يحلّل؛ وإن كان استرسالاً، فينبغي أن يسدّد، من أيّ سبب كان كلّ واحد منهما.

وأيّ شيء ينفع السبب إذا كان الاسترسال لا يحتاج في حال من الأحوال إلی التحليل، والاستمساك لا يحتاج في حال من الأحوال إلی التسديد؟

وما يحتاج إلی ذلك في وجه من الوجوه، كما قد يدلّك نفس الشيء.

وكلام أصحاب هذه الفرقة في الأسباب الخفيّة التي يقال لها «الموجبة» شبيه بهذا. إلّا أنّهم يقولون إنّ طلب تلك الأسباب أيضاً فضل، إذ كان المرض يدلّ علی ما يحتاج إليه فيه من العلاج من غير أن يعرف السبب الذي منه كان.

ويستعملون هذا الطريق من الكلام أيضاً في أمر أوقات السنة، والأسنان، والبلدان.

ويعجبون في ذلك أيضاً من قدماء الأطبّاء كيف لم يفهموا هذا الأمر الجليل البيّن.

وذلك أنّهم يقولون: إنّ الورم — وهو مرض احتقان — ليس يحتاج متی كان في الصيف إلی ما يحلّله، ومتی كان في الشتاء إلی غير ذلك. لكنّه يحتاج في الوقتين جميعاً إلی شيء واحد، وهو الشيء المحلّل.

وليس أيضاً متی كان الورم في صبيّ يحتاج إلی الأشياء المحلّلة، ومتی كان فيمن هو أكبر سنّاً من الصبيّ يحتاج إلی الأشياء التي تسدّده.

ولا يحتاج أيضاً الورم إذا حدث بمصر إلی ما يحلّله، وإذا حدث بأثينية إلی ما يسدّده.

وفي خلاف الورم أيضاً.

فإنّ مرض الانبعاث لا يحتاج في حال من الحالات إلی الأشياء المحلّلة، لكنّه إنّما يحتاج دائماً إلی الأشياء المسدّدة، شتاء كان أو صيفاً، أو ربيعاً كان أو خريفاً، وصبيّاً كان المريض أو شابّاً أو شيخاً، وببلاد تراقيا أو ببلاد الصقالبة، أو في بلاد اليونان.

فليس يحتاج إذن إلی معرفة شيء من هذه الأشياء، ولا ينتفع به، لكنّ البحث عن جميعها فضل.

وأيّ شيء يقولون في أعضاء البدن؟

أليس النظر فيها فضلاً وعبثاً في الاستدلال علی ما تعالج به أمراضها؟

وهل يجترئ أحد أن يقول: إنّ الورم إذا كان في عضو عصبيّ فينبغي أن يحلّل، وإذا كان في عضو لحميّ، أو الغالب عليه طبيعة العروق الضوارب أو غير الضوارب، فينبغي أن يسدّد.

وهل يستجيز أحد، بالجملة، أن يقول: إنّ عضواً ما من الأعضاء قد حدث فيه احتقان لا ينبغي أن يحلّل، وإنّ عضواً من الأعضاء قد حدث فيه انبعاث لا ينبغي أن يسدّد.

فإذا كانت طبيعة العضو لا تبدّل ولا تغيّر شيئاً من طريق العلاج، لكنّ استخراج العلاج دائماً علی حسب جنس المرض، فقد تبيّن أنّ النظر في أمر العضو لا يحتاج إليه.

فهذا هو، بالجملة، قول صاحب هذه الفرقة.