Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Sectis ad eos qui introducuntur (On Sects for Beginners)

الرأس التاسع في مناظرة أصحاب التجارب لأصحاب الحيل

ثمّ انزل: أنّ صاحب التجربة حضر بعده، فقال:

أنا لست أعرف شيئاً أكثر من الأشياء الظاهرة. ولا أتضمّن أنّ عندي شيئاً أدقّ، ولا أبعد غوراً في الحكمة من الأشياء التي عاينتها مراراً كثيرة.

فإذا كنت، يا هذا، تستهين بالشيء الظاهر، كما قد كان من السوفسطائيّين من يدفع العيان ويستهين به، فإنّي تاركك، ومقبل علی من يفضّل الشيء الظاهر، ويؤثره علی ما سواه.

وتكون أنت حينئذٍ قد ظفرت ظفر انبي قاذامس.

وإن كنت تقول — كما قد سمعتك منذ أوّل كلامك — إنّ كلّ أمر خفيّ فلا يحتاج إليه، وتقرّ بأنّك إنّما تتبع وتلزم الأمور الظاهرة المكشوفة، فعليّ أن أريك غلطك بأن أذكرك بشيء ظاهر: وهو أنّ رجلين عضّهما كلب كلب، فذهب كلّ واحد منهما إلی معرفة له من الأطبّاء يطلب منه مداواته. وكان الجرح في كلّ واحد منهما يسيراً جدّاً، حتّی أنّه لم يكن نفذ في ثخن الجلد كلّه، فقصد أحد الطبيبين بالعلاج إلی الجرح وحده، ولم يبحث عن شيء سواه، فلم يمرّ بالعضو الذي فيه العضّة إلّا أيّام يسيرة حتّی برئ منها. وعلم الطبيب الآخر أنّ الكلب الذي عضّ الرجل كان كلباً، فلم يبادر إلی إدمال الجرح. وبلغ من بعده من القصد لذلك أنّه جعل يعظم الجرح ويوسّعه دائماً أوّلاً فأوّلاً، ويستعمل الأدوية القويّة الحادّة التي من شأنها أن تجتذب السمّ وتجفّفه. وعانی ذلك زماناً طويلاً. وحمل المعضوض في ذلك الزمان علی شرب الأدوية التي زعم أنّها تنفع من عضّة الكلب الكلب.

فكان من عاقبة أمر كلّ واحد منهما أنّ أحدهما سلم، وبرئ، وصحّ، وهو الذي شرب الأدوية. وحدث علی الآخر وهو الذي أغفل ما كان، وليس يظنّ أنّ به قلبة، أن فزع من الماء، وتشنّج، ومات.

أفتراك تظنّ أنّ طلب السبب البادئ فيمن كانت هذه حاله باطل وعبث؟

أو تتوهّم أنّه كان سبب موت أحد الرجلين شيئاً سوی إغفال طبيبه البحث والمسئلة عن السبب البادئ، وتركه استعمال العلاج الذي قد حفظ بطول التجارب أنّه نافع لأصحاب ذلك السبب؟

أمّا أنا فلست أری أنّ السبب في ذلك كان غير هذا فقط. لأنّي إنّما أتبع الأمر الظاهر. ولست أقدر أن أتجاوز شيئاً من أشباه هذه الأسباب.

وكذلك أيضاً لا أقدر أن أتجاوز السنّ، وأستهين بها، لأنّ العيان يضطرّني إلی التصديق بالحاجة إلی النظر فيها. لأنّي أجد المرض الواحد قد يكون في بدنين، وليس بين أحد المرضين وبين الآخر فرق في وجه من الوجوه ولا يكون علاجهما في جميع الوجوه واحداً، لاكنّه ربّما كان بين علاج أحدهما وبين علاج الآخر من الفرق في شيئين مختلفين، لا أن يكون الفرق بينهما في مقدار الشيء الذي يعالج به، أو في طريق استعماله، لكنّ في جنسه.

من ذلك: أنّ صاحب ذات الجنب، إذا كان شابّاً قويّاً، قد رأيناكم، فضلاً عن غيركم، تفصدون له العرق. وما رأيناكم قطّ تقدمون علی فصد شيخ فانٍ، ولا صبيّ صغير. ولا رأينا أحداً غيركم فعل ذلك.

وأمّا قولكم فيما قال أبقراط من أنّ استعمال الدواء المسهل يعسر قبل طلوع الشعری العبور، وفي وقت طلوعها، وبعده، وأنّ الأولی أن تنفض الأبدان بالأدوية في الصيف من أعلی الجوف، وفي الشتاء من أسفله.

وهل ترون أنّه صدق أو كذب؟

فإنّي لا أحسب أنّ لكم جواباً، لا إن كذبتموه، ولا إن صدقتموه.

وذلك أنّكم إن قلتم إنّه كذب، فقد استهنتم بالعيان والأمر الظاهر الذي قلتم إنّكم تفضّلونه، وتقبلونه، لأنّه يظهر أنّ الحقّ هو ما قاله أبقراط.

وإن قلتم إنّه صدق، فقد قبلتم أمر أوقات السنة التي قلتم إنّها لا ينتفع بها.

وإنّي لأتوهّم عليكم أنّكم لم تبعدوا قطّ عن منازلكم، ولا سافرتم، ولا خبرتم اختلاف البلدان. لأنّكم لو كنتم فعلتم ذلك، لكنتم قد علمتم حينئذٍ لا محالة أنّ أهل البلدان المسامنة للدبّ الصغری والكبری — وهي بنات نعش — لا يحتملون استفراغ الدم. وكذلك لا يحتمله أهل البلدان التي تلي خطّ الاستواء.

فأمّا أهل البلدان التي بين هاتين الناحيتين، فكثيراً ما ينتفعون انتفاعاً بيّناً بفصد العروق.

فإنّ أمركم عندي لعجب جدّاً، مفرط الشناعة في ترككم النظر في أمر أعضاء البدن. وذلك أنّ هذا أمر مضادّ للحقّ. وهو مع ذلك ضدّ ما تفعلون، إذ تقولون:

حيث كان الورم فعلاجه علاج واحد، في الرجل كان، أو في الأذن، أو في الفم، أو في العين.

فما بالي أراكم كثيراً ما تبطّون الورم بالمبضع إذا كان في الرجل، وتغرقونه بالدهن، ولم أركم قطّ فعلتم ذلك بالعين الوارمة. وما بالي أراكم تداون ورم العين بالأكحال القابضة، ولا أراكم تكحلون الرجل بتلك الأكحال.

وما بالكم لا تداون الأذن المتورّمة بالأدوية التي تعالجون بها العين المتورّمة، والعين المتورّمة بأدوية الأذن المتورّمة. لكنّ دواء ورم الأذن عندكم غير دواء ورم العين.

مثال ذلك: أنّ الخلّ مع دهن الورد دواء جيّد لورم الأذن الحارّ. إلّا أنّي لست أظنّ أنّ أحداً منكم يقدم علی أن يقطر ذلك في عين متورّمة. وإن يقدم علی ذلك، فسيجرّب أنّ تقدّمه يكسبه غرماً ثقيلاً.

وثمرة الشوكة المصريّة دواء جيّد لورم اللهاة، والشبّ اليمانيّ أيضاً دواء جيّد لها.

أقتراكم تظنّون أنّ هذه الأشياء من الأدوية لورم العين، أو ورم الأذن علی حال واحدة؟ والأمر علی ضدّ ذلك. وضررهما في العين والأذن غاية الضرر.

وقولي هذا كلّه، وقد سلّمت لكم أصلكم الأوّل: أنّ الورم إذا كان في الرجل، أو في اليد، فينبغي أن يحلّل؛ ولا ينبغي أن يحلّل الورم إذا كان في العين، أو في اللهاة، أو في الأذن.

فإنّي أنا أريكم أنّه ليس متی كان الورم أيضاً في الرجل، أو في اليد، فلا بدّ من أن يحلّل، لعلّكم أن تعلموا — إن عقلتم — كم مبلغ غلطكم.

وأنا أجعل قولي الآن أيضاً إذكاراً بأمر ظاهر، وهو أنّه ليس أحد ممّن حدث به ورم في عضو من أعضائه، أيّ عضو كان، من غير ضربة، أو صدمة، وإنّما ابتدأ حدوث الورم به من قبل نفسه — والحال التي يقال لها كثرة الأخلاط والامتلاء في بدنه موجود — يحتاج إلی تحليل ذلك العضو دون أن يستفرغ بدنه كلّه. لأنّك إن فعلت ذلك، زدت في ورمه، فضلاً عن أن تنقصه. ولذلك إنّما يعالج ذلك العضو في ذلك الوقت بالأشياء التي تبرّد، وتقبض.

فإذا استفرغنا البدن كلّه، حينئذٍ يحتمل العضو الوارم الأدوية المحلّلة.

فإن كنت لم أبلغ بقولي ما قلت إقناعكم، كما قلت في مبدأ قولي، فأنا تارككم ومقبل علی من يقبل الأمر الظاهر ويؤثره.