Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Galen: De Sectis ad eos qui introducuntur (On Sects for Beginners)

وتلك الأشياء التي يأخذ منها أصحاب الرأي والقياس الاستدلال علی ما ينتفع به، فمنها بأعيانها يأخذ أصحاب التجارب الرصد والتحفّظ.

وذلك أنّ اجتماع الأعراض التي وصفناها قبيل في المحموم يرون فيها مثل ما يری أصحاب القياس.

ومن عادتهم أن يسمّوا هذا الاجتماع «المقارنة» التي تدلّ صاحب الرأي والقياس علی الاستفراغ، وتذكّر صاحب التجربة بما رصده وحفظه.

وذلك أنّه لمّا كان قد رأی مراراً كثيرة أنّ الاستفراغ قد نفع من كانت هذه حاله، صيّره ذلك إلی الرجاء إذا استعمله الآن أن ينتفع به.

ويعلم أيضاً أنّ صاحب سنّ منتهی الشباب يحتمل الاستفراغ الكافي بلا مشقّة ممّا قد رآه وشاهده مراراً كثيرة.

وكذلك أيضاً يعلم أنّ الاستفراغ يحتمل في الربيع أكثر ممّا يحتمل في الصيف، وفي البلد المعتدل أكثر من غيره. وإن كان أيضاً قد اعتاد المريض الاستفراغ إمّا بانفتاح أفواه العروق التي في المقعدة، وإمّا برعاف، فانقطع عنه، فإنّ صاحب الرأي والقياس يستفرغ من الدم بسبب ذلك مقداراً أكثر ممّا يبعثه ويدلّه عليه نفس الشيء.

وأمّا صاحب التجربة فإنّه يفعل ذلك، لأنّه كذلك رصد وحفظ.

وبالجملة: فإنّ أصحاب التجربة وأصحاب القياس يستعملون في المرض الواحد علاجاً واحداً، إلّا أنّهم يختلفون في طريق استخراج ذلك العلاج ووجوده.

وذلك أنّ الفريقين ينظرون إلی الأعراض التي تظهر في الأبدان.

ثمّ إنّ أصحاب الرأي والقياس يأخذون من تلك الأعراض دلائل علی السبب، ويستخرجون من علم السبب العلاج والمداواة.

وأصحاب التجربة يتذكّون بها ما رصدوه وحفظوه مراراً كثيرة، فوجدوه علی حال واحدة.

وإذا لم يجد أصحاب الرأي عرضاً بيّناً في المريض يستدلّون به علی سبب مرضه، لم يمتنعوا عن مساءلته عن السبب الذي يسمّی «البادئ».

مثال ذلك: أن يروا نهشة، ولا يعلمون ممّا هي، فيسئلون: هل كانت من كلب كلب، أو أفعیً، أو غيرهما، ممّا أشبههما.

لأنّ نفس القرحة إمّا أن لا يكون بينها وبين سائر القروح التي من النهش، منذ أوّل أمرها إلی آخره، فرق؛ وإمّا أن يكون بينها وبين سائر القروح فرق لا محالة.

أمّا إن كانت من نهشة كلب كلب فهي منذ أوّل أمرها إلی آخره شبيهة بالقرحة العارضة من نهشة غيره.

وأمّا إن كانت من نهشة أفعیً فإنّها في الأيّام الأول تكون شبيهة بالقرحة العارضة من نهشة غيرها، ثمّ إنّها بأخرة — إذا ساءت حال المنهوش — حدثت فيها أعراض رديئة مهلكة.

وكلّ نهشة تكون من ذوات السموم، إذا لم تتدارك، فتداوی من أوّل أمرها علی ما ينبغي، فإنّها تؤول بأخرة إلی حال رديئة مهلكة.

والعلاج الصواب في ذلك هو أن يستفرغ السمّ الذي صار في بدن المنهوش بالنهشة. ولذلك لا يبادرون إلی إدمال القرحة وختمها في مثل هذه الحال. لكنّهم يفعلون ضدّ ذلك، وهو أنّهم كثيراً ما يزيدون فيها بالشقّ، ويوسعونها إذا كانت ضيّقة جدّاً، ويستعملون الأدوية الحارّة الحادّة التي من شأنها أن تجتذب السمّ، وتجفّفه.

ولهذا السبب بعينه قد يستعمل أيضاً أصحاب التجارب هذه الأدوية بأعيانها. وليس استدلالهم علی منفعة هذه الأدوية من حال المعالج بها، بل من تذكّرهم لما ظهر بالتجربة من ذلك.

وكما أنّهم يتعرّفون العلاج بالتجربة بحسب الأسنان، وأوقات السنة، وكلّ واحد من هذه الأشياء التي ذكرناها، كذلك أيضاً يتعرّفون العلاج بالتجربة بحسب سبب العلّة الكائن من خارج الذي عنه يكون ابتداؤها، وهذا السبب يسمّی السبب البادئ.

ولو اتّفقت هاتان الفرقتان علی أنّ طريقي استخراج العلاج اللذين يستعملونهما كليهما صحيحان، لما طال بينهما الكلام.