Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Aristotle: Topica (Topics)

بسم الله الرحمن الرحيم

المقالة الثامنة من كتاب «طوپيقا» بنقل إبراهيم بن عبد الله الكاتب، من السريانى بنقل إسحق 〈العمل بالجدل〉

〈قواعد السؤال〉

وقد ينبغى لنا بعد ذلك أن نتكلم فى الترتيب، وكيف يجب أن يكون السؤال. — فيجب أولا: إذا كنت معتزما على السؤال أن تستنبط الموضع الجدلى الذى منه ينبغى أن تأتى بالحجة؛ وثانيا: أن تعد السؤال وترتب كل شىء بحسب الموضع الجدلى؛ وثالثا: — وهو الباقى — أن تخاطب بذلك غيرك.

والفيلسوف والجدلى مشتركان فى الفحص إلى أن يتهيأ استنباط الموضع الجدلى. فأما الترتيب والمسألة فهما يخصان الجدلى من قبل أن جميع ما يجرى هذا المجرى إنما يستعمل فى حال المحاورة.

وأما الفيلسوف ومن يتفرد بالفحص لنقسه فليس يبالى، إذا كانت المقدمات التى عنها يحدث القياس صادقة معروفة، ألا يقبلها المجيب إن كانت فى غاية القرب من المطلوب الأول وكان قد تقدم فلحظ ما يتبعها ويلزم عنها. وعساه قد يجتهد بمبلغ الطاقة أن تكون القضايا الواجب قبولها أشد قربا وأعرف، إذ كانت القياسات العلمية إنما تحدث وتأتلف من أمثال هذه المقدمات.

وقد وصفنا آنفا المواضع الجدلية ومن أين ينبغى أن تؤخذ. وينبغى الآن أن نتكلم فى الترتيب والسؤال بأن نقسم المقدمات التى يجب أخذها، وهى المقدمات الخارجة عن المقدمات الضرورية؛ وأعنى بقولى: ضرورية، المقدمات التى عنها يحدث القياس. قأما المقدمات الخارجة عنها فهى أربع: وذاك أنها إما أن توجد بسبب الاستقراء لكى تسلم المقدمة الكلية، أو فى الأستكثار من الكلام الاتساع فيه، أو فى إخفاء النتيجة، أو فى أن يكون الكلام أوضح وأظهر. وما سوى ذلك من المقدمات فليس ينبغى أن يستعمل شىء منه، ولكن بتلك المقدمات التى وصفناها ينبغى أن نروم السؤال والاستكثار من القول.

وها هنا مقدمات تستعمل فى إخفاء النتيجة وينتفع بها فى المجاهدة. ولما كانت هذه الصناعة بأسرها إنما تصلح لأن يستعملها الإنسان مع غيره وجب ضرورةً أن يستعمل فيها أمثال هذه الأشياء.

فأما المقدمات الضرورية التى عنها يحدث القياس فليس ينبغى أن تأتى بها فى أول وهلة، بل ينبغى أن ترتقى ما استطعت إلى ما هو أعلى منها — مثال ذلك أنك إن أردت أن تبين أن العلم. بالأضداد واحد، فليس ينبغى أن تذكر الأضداد أولاً، بل تجعل مكان الأضداد المتقابلات. فإن الأمر إذا جرى على ذلك نتج أن العلم بالأضداد واحد، إذ كانت الأضداد هى أيضا متقابلات. فإن لم تضع الكلية فقد ينبغى أن تؤخذ من الاستقراء، بأن تتعاطى إحضار جميع المقدمات التى فى غاية الظهور، من قبل أن الأمر الذى يلزم ويتبع يكون أشد غموضا بالارتقاء إلى ما هو أعلى وأبعد وبالاستقراء، وأن تتكلف مع ذلك إحضار المقدمات النافعة متى لم يمكنك استعمال المقدمات على الجهة الأخرى.

وما كان خارجا عما ذكرناه فإنما ينبغى أن يقتضب من أجل ما وصفناه، وأن يكون استعمالنا إياه على هذا النحو. — أما فى حال استعمالك الاستقراء فإنك تتدرج من الأشياء الجزئية إلى القضية الكلية، ومن الأشياء المعروفة إلى التى هى غير معروفة. والأشياء التى هى أعرف هى المدركة بالحس: إما على الإطلاق، وإما عند الجمهور.

فأما إذا قصدت لإخفاء النتيجة فقد ينبغى أن تتقدم فتحصل بالقياس المقدمات التى بها يتهيأ أن يعمل قياس على المطلوب الأول، وأن يكون بحسب ما يمكن فى غاية الكبر؛ وذلك يكون ليس بأن تحصل المقدمات الضرورية فقط، بل تحصل بالقياس أيضا غيرها مما يصح استعماله معها. وقد ينبغى أيضا ألا يصرح بالنتائج، بل يأتى بها على طريق الإجمال جملةً فى آخر الأمر، فإن بهذا الوجه يتهيأ لك أن تتباعد فى الغاية من المطلوب الأول. وفى الجملة من القول، فعلى هذا الوجه ينبغى أن يكون سؤال من يقصد فى سؤاله إلى الإغماض، حتى يكون إذا استوفى السؤال إلى آخره وذكرت النتيجة كانت المطالبة بـ«ـلم» تعدً واقعة. وهذا إنما يكون خاصةً بالوجه الذى تقدم ذكره. وذلك أنك إذا ذكرت النتيجة الأخيرة وحدها فقط لم يصح كيف لزمت، إذ كان المجيب لم يتقدم فيعلم الأشياء التى عنها لزمت، لأنه لم يتقدم فيحصل القياسات التى هى أقدم. وقد يكون القياس على النتيجة أقل تحصيلا متى لم نأت بالمقدمات التى عنها يحدث، وأتينا بالمقدمات التى ينتج عنها القياس.

وقد ينتفع أيضا فى ذلك بألا تستعمل القضايا الواجب قبولها التى عنها تحدث المقاييس على الاتساق والاتصال، بل يبدل ترتيبها لتجب عنها نتائج مختلفة. وذلك أنه متى وضعت القضايا المتناسبة على ترتيب، كان الأمر الذى يلزم عنها أشد ظهوراً.

وقد ينبغى أن نلتمس الحد أيضا فى الأشياء التى يمكن فيها أخذ المقدمة الكلية، ولكن لا نجعل التماسنا ذلك فيها بأعيانها، بل فى نظائرها، فإن الشبهة تدخل عليهم متى أخذ أحد الحد من النظائر، ولا يشعرون بأنهم قد سلموا المقدمات الكلية — مثال ذلك أنك إن احتجت إلى أن تأخذ أن الغضبان هو الذى يتشوق إلى الانتقام، فقد ينبغى أن تأخذ أن الغضب هو الشوق إلى الانتقام لما يقع فى الوهم من الامتهان. فإنا متى فعلنا هذا، حصل لنا لا محالة ما أردناه. فأما الذين يلتمسون ذلك فى الأمور بأعيانها فقد يعرض أحيانا بأن يأىى المجيب قبول ما يأتون به لأنه يجد فيه موضعا للمناقضة، إذ كان له أن يقول: ليس كل من يغضب يتشوق إلى الانتقام لا محالة. وذلك أنا إذا نغضب على أصدقائنا إلا أنا لا نتشوق إلى الانتقام منهم. وعسى أن تكون هذه المعارضة غير صحيحة، إذ كان قد يجرى أن ينتقم من بعض الناس بأن يغموا يجعلوا نادمين على ما فعلوا: إلا أن فى تلك المناقضة إقناعا ما، يبقى عنها ما يتوهم من أن دفع ما احتج به فى هذا المعنى كان بغير واجب. وأما فى تحديد الغضب، فليس يسهل وجود المناقضة على ذلك المثال.

وأيضا فقد ينبغى أن يؤتى بالحجة من حيث لا يوقف على أنها من أجل الشىء المطلوب بعينه، لكن على أنها تكلفت من أجل غيره. وذلك أنهم يتهيبون الأشياء التى يصلح استعمالها فى الأمر الموضوع.

وفى الجملة من القول، فقد ينبغى أن تجتهد ما أمكنك فى أن يكون ما تأتى به غير بين حتى لا تدرى هل قصدت بأخذك إياه نحو الشىء الذى تريده أو نحو الأمر المقابل له: وذلك أنه إذا كان الأمر المنتفع به فى القول غير واضح ولا بين، كانوا أشد انقياداً لوضع الأمر الذى يرونه.

وقد ينبغى أن يكون سؤالك أيضا من الأشياء المتشابهة؛ وذلك أن فيها إقناعا ويخفى معها الأمر الكلى خفاءا شديدا ولا يشعر به — مثال ذلك أن العلم بالأضداد وغير العلم بها هى شىء واحد بعينه؛ وكذلك أيضا الحس بالأضداد واحد بعينه؛ وبعكس ذلك من قبل أن الحس بالأضداد واحد بعينه، فالعلم بها أيضا كذلك. وهذا المأخذ يشبه طريق الاستقراء، غير أنه ليس هو بعينه، لأن هناك إنما يؤخذ الأمر الكلى من الجزئيات. فأما فى المتشابهة فليس الأمر المأخوذ فيه هو الكلى الذى تحته جميع المتشابه.

وقد ينبغى لك أن تعارض نفسك أحيانا، وذلك أن المجيبين قد يجرون عندهم مجرى من لا يستفاد به، لا سيما متى ظهر لهم من أمرهم أنهم قد تحروا الأنصاف فى القول.

ومن الأشياء المنتفع بها أيضا أن تقول فى احتجاجاتك إن العادة قد جرت بهذا وأمثاله، وإنه من الأشياء المقبولة، وذاك أنهم قد يتثاقلون عن دفع ما قد جرت به العادة، ولا سيما متى لم تحضرهم معارضة له. ومع ذلك، فإنهم لما كانوا قد يستعملون أمثال هذه الأشياء، صاروا يتوقون دفعها.

وأيضا، فلا ينبغى أن يظهر منك حرص على شىء ما بعينه، وإن كان الانتفاع به كثيرا، فتشتد مقاومتهم لما يرونك حريصا عليه ومعاندتهم إياه.

وقد ينبغى أيضا أن تأتى بالشىء الذى يقال على طريق المثل، لأنهم أشد قبولا ووضعا لما يؤتى به من أجل غيره، منهم لما ينتفع به من أجل ذاته.

وأيضا فلا ينبغى أن تأتى بالشىء الذى تريد أخذه بعينه، بل تأتى بما ذلك الشىء تابع له ضرورةً: فإنك إذا فعلت ذلك كانوا أشد موافقة لك، من قبل أن ذكرك الشىء الذى ما تحاول أخذه تابع له ليس يجرى فى الظهور مجراه. وإذا أخذ هذا، فقد أخذ أيضا ذاك.

وقد ينبغى أن يؤخذ السؤال عن الشىء الذى يريد أخذه خاصةً، إذ كان من عادتهم أن تشتد مقاومتهم ومعاندتهم للأشياء التى يتقدم السؤال عنها، من قبل أن أكثر من يسأل إنما يقدم ذكر الأشياء التى هو شديد العناية بها.

وقد ينبغى فى محاورة بعض الناس أن يجعل أمثال هذه الأشياء من أول ما يتكلف إحضاره، وذلك أن المعتاصين من الناس يوافقون خاصة على الأشياء المتقدمة (متى لم يكن الأمر اللازم عنها، مع ذكرها، فى غاية الظهور والبيان)، غير أنهم فى آخر الأمر يعتاصون. وكذلك يجرى أمر القوم الذين يظنون أنهم يسرعون فى الجواب، إن كنا فى حال الجواب. وذلك أنهم إذا وضعوا أكثر الأشياء يقع السؤال عنها اعتاصوا فيما يؤتى به أخيرا، من قبل أنه لا يلزم عندهم من الأشياء الموضوعة. وإما يضعون ما يضعون اعتمادا على اقتدارهم وظنا بأنه لا يتهيأ 〈أن〉 تثبت حجة عليهم.

وأيضا، فليعتمد الإسهاب فى القول وإن يحشى بالأشياء التى لا ينتفع بها أصلا فى القول المقصود، كما يفعل الذين يرسمون رسوما كاذبة. فإنه إذا كثرت هذه الأشياء، كان الكذب أخفى وأغمض. ولذلك صار الذين يسألون يغالطون أحيانا بإدخالهم فى أضعاف القول الأشياء التى لو أتى بها مفردةً مجردة لم تقبل ولم توضع.

فهذه الأشياء وما جانسها يجب أن تستعمل فى إخفاء ما يحاول إخفاؤه. فأما فى تنميق القول وتحسينه، فقد ينبغى أن نستعمل الاستقراء وقسمة الأشياء المتجانسة. وقد تقدم العلم بالاستقراء: ما هو؟ وأى الأشياء هو؟ فأما التقسيم فهو على ما أصف: قد يقال إن علما أفضل من علم: إما لأنه أصح وإما لأن معلوماته أفضل. وإن العلوم منها نظرية، ومنها فعلية، ومنها عملية. فإن هذه الأشياء وما يجرى مجراها إنما تحسن القول وتنمقه فقط، وليس فيها شىء يحتاج إليه ضرورة فى إظهار النتيجة. وأما فى باب إيضاح القول وتلخيصه فقد يجب أن يؤتى بمثالات والغاز، وأن تكون المثالات خاصية، وما نستفيد به علما بمنزلة ما هو منها سائر فى شعر أوميروس دون شعر خوريلس: وذلك أن ما يوفى به على هذه الجهة يكون أشد وضوحا.