Digital Corpus for Graeco-Arabic Studies

Aristotle: Topica (Topics)

〈الارتياض فى الجدل〉

فأما ما يحتاج إليه فى التخرج والارتياض والمعاناة للأقاويل التى تجرى هذا المجرى فقد ينبغى أولاً أن نتعود عكس الأقاويل، لأنا نكون بذلك أشد استعداداً واتساعاً فى مناقضة الأمر المقول، ويتهيأ لنا أن نأتى فى الأشياء اليسيرة بأقاويل كثيرة. وذلك أن النقض إنما هو تبديل النتيجة مع المقدمات الباقية. وإذا فعلنا ذلك نقضنا واحداً من الأشياء المعطاة، لأنه يجب ضرورةً إن كانت النتيجة غير موجودة أن ترتفع واحدة من المقدمات، إن كان متى وضع جميعها وجب من الاضطرار أن تحدث النتيجة.

وينبغى فى كل موضع أن نبحث عن الأمر المطلوب: هل هو بهذه الحال، أم لا؟ وأن تكون إذا وقفت على ذلك التمست له النقض فى أول وهلة؛ فإنك بهذا الوجه تكون مرتاضاً متخرجاً فى أن تسأل وتجيب. وان لم يكن ذلك مع غيرك، فمع نفسك.

فأما الاحتجاجات فقد ينبغى أن يختار منها فى الأمر الموضوع ما كان مقابلا بعضه لبعض، فإن ذلك يسهل لك السبيل — إلى أن تلزم الشىء قسرا — غاية التسهيل، ويعين أكبر معونة على التبكيت والنقض متى تسهل للإنسان السبيل إلى أن يعلم أن هذا الشىء هو بهذه الحال أو ليس هو كذلك.

وهذه الصناعة ليست بصغيرة. وذلك أنها تعلم الإنسان التحفظ من التناقض عند المحاورة، وأن يكون مقتدراً فى العلم والفهم الفلسفى على أن يتأمل الأشياء التى تلزم عن كل واحد من الأصلين الموضوعين، بل على أن يكون قد تأمله وفرغ منه. والذى يبقى فى الأمر أن يصيب فى اختيار أحدهما. ويحتاج فى ذلك إلى أن يكون جيد الطبع. وجودة الطبع بالحقيقة فليست شيئاً غير أن يكون قادرا على حسن الاختيار لما يختار والهرب من الكذب. وإنما يقدر على فعل ذلك على سداد من طبع طبعاً فاضلا. وذاك أن الذين يحبون ما بدا منهم محبة فاضلة هم الذين يتهيأ لهم اختيار الأمر الأفضل.

وقد ينبغى أن تكون عندنا أقاويل عتيدة مهيأة للمسائل الجدلية التى كثيرا ما تعرض، لاسيما الأوضاع المتقدمة. فإن المسؤول عن أمثال هذه الأشياء قد يستصعب الجواب عليه أحيانا عنها وينكر ما يدل عليه منها.

وأيضا فقد ينبغى أن نعد حدود الأشياء المحمودة والتى هى مبادئ لتكون مهيأة لنا، فإن القياسات بها تكون.

وقد ينبغى أن نتكلف حفظ الأشياء التى كثيرا ما تعرض المجادلة فيها. وكما أنه قد يتقدم تعلم كتاب «الاسطقسات» والارتياض فيه التصرف فى علم الهندسة والعلم بها؛ وفى علم الأعداد أن يكون الإنسان أولاً عالما بتضعيف الأعداد الأول، متمهرا فيها (إذا كان ذلك من أكبر الأعوان فى أن يحكم تضعيف سائر العدد)، كذلك يتبغى أن يكون الأمر جاريا عليه فى الأقاويل والمقدمات حتى يكون الإنسان حافظا لها على طرف لسانه. وكما أنه قد يعنى فى كتب التذاكير أن يثبت فيها المواضع فقط، فيكون ذلك مذكرا بما يحتاج إلى ذكره فى أول وهلة، — كذلك يثمر لنا حفظ هذه الأشياء، فإنه قد يجعلنا حذاقا بالطريق، القياسى من قبل أن هذه الأشياء إنما تنحو نحو الأشياء المحدودة والمحصلة. وقد ينبغى أن يستعمل فى التحديد والمقدمات أيضا الموضع العامى خاصةً، فإن ذلك عون على القول أو الذكر. وذاك أن وجود الأمر المحيط يتبعها والمبدأ العام لها بحال اعتدال مما يصعب ويتعذر.

وأيضا فقد ينبغى أن تتعود تفريع القول الواحد أقاويل كثيرة ليتهيأ لك بحسب الإمكان أن تخفى الشىء حتى لا يعرف. وهذا فإنما يتهيأ متى تباعد الإنسان بمقدار طاقته عن الإلمام بالأشياء التى يجرى القول فيها. وقد يكون من الأقاويل ما هو فى غاية الصعوبة، وهى الأقاويل التى يمكن أن يعرض ذلك فى كلياتها خاصة — مثال ذلك أن علم الأشياء التى فى غاية الكثرة ليس واحدا، لأنك تجد ذلك فى الأشياء المضافة وفى المتضادة وفى الأشياء المتوالية على نظام.

وقد ينبغى أن نجعل تذاكير الأقاويل كليا، وإن كان القول فى الأمر الجزئى، لأنك بهذا الوجه تكون قادراً على أن تجعل الكثير واحدا. وكذلك ينبغى أن يجرى الأمر فى القياسات باضمار من القياسات البلاغية. وأما أنت، فقد ينبغى لك أن تجتهد — بحسب طاقتك — أن تهرب من أن تأتى من القياسات بما هو كلى، وأن تنقر دائما عن الأقاويل لتعلم هل هى مقولة على طريق العموم، أم لا. وذاك أن جميع الأشياء الجزئية قد يتهيأ أن تبين بيانا كليا. وقد يوجد فى الأشياء الجزئية برهان كلى، من قبل أنه ليس يمكن أن ينتج شىء على طريق القياس خلواً من الأشياء الكلية.

وقد ينبغى أن يستعمل فى الجدل: أما مع ذوى السلامة من الناس، فالأقاويل الأستقرائية؛ وأما مع المرتاضين، فالأقاويل القياسية. وقد ينبغى أن تلتمس أخذ المقدمات من أصحاب القياس، وأخذ الأمثال من أصحاب الاستقراء، إذ كان كل واحد منهما مرتاضا فيما يناسب مذهبه.

وفى الجملة، إنا بالارتياض فى الجدل يتهيأ لنا أن نأتى فى الشىء إما بقياس، أو بنقض، أو بمقاومة؛ وأن نعلم أن السؤال مستقيم أو غير مستقيم: إما الذى يصدر عنا، وإما الذى يصدر عن غيرنا؛ والسبب فى كل واحد منهما، لأن القوة فى الجدل إنما تصير لنا من هذه الأشياء، والارتياض إنما يراد لاقتناء هذه القوة ولينتفع به خاصةً فى الاستكثار من الحجج وفى المقاومات. وذاك أن الجدلى على الإطلاق هو الذى يأتى بالحجج ويقاوم. وتكلف الحجج ليس هو غير أن يجعل الشىء الواحد كثيرا فى الغاية (وذاك أنه ينبغى للذى يكون القول متوجها نحوه أن يجعل الجزىى كليا)، وللمقاوم أن يجعل الواحد كثيرا، إلا أنه يفعل ذلك إما على طريق القسمة أو على طريق النقض، فيسلم بعض ما يقع السؤال عنه، ويمنع بعضاً.

وليس ينبغى أن يجادل فى كل شىء، ولا يجادل أيضا من اتفق من الناس. وذاك أن الضرورة تدعو فى مناظرة قوم من الناس إلى أن تكون الأقاويل خسيسة. فأما فى مجادلة من يحاول أن يظهر من أمره أنه قد فلح، فمن العدل أن يروم استعمال القياس لا محالة. إلا أن ذلك غير لائق. ولذلك قلنا إنه لا ينبغى لنا أن نسارع إلى مقاومة كل من اتفق، لأنه يلزم من ذلك ضرورةً قول ردئ. وذاك أن المرتاضين فى الجدل لا يقدرون على الامتناع من نزل الكلام على المجاهدة.

وقد ينبغى أن يكون عتيدا لنا من الأقاويل ما يصح استعماله فى الجواب عن أمثال هذه الأشياء، 〈لا اليقينية〉 بل الجدلية، وفى أشياء كثيرة غيرها، وأعنى بذلك الأقاويل التى يتعذر وجودها. بسرعة.

][ تمت المقالة الثامنة من كتاب «طوبيقا» بنقل إبراهيم بن عبد الله. وهى آخر الكتاب. قوبل به وصح ][