Data Entry
قال: ينبغى أن نضع أولاً ما الاسم وما الكلمة؛ ثم نضع بعد ذلك
ما الإيجاب وما السلب، وما الحكم وما القول. — فنقول: إن ما يخرج
بالصوت دال على الآثار التى فى النفس؛ وما يكتب دال على ما يخرج
بالصوت. وكما أن الكتاب ليس هو واحدا بعينه للجميع، كذلك ليس ما يخرج
بالصوت واحدا بعينه لهم. إلا أن الأشياء التى ما يخرج بالصوت دال عليها
أولاً — وهى آثار النفس — واحدة بعينها للجميع؛ والأشياء التى آثار النفس
أمثلة لها، وهى المعانى، توجد أيضا واحدةً للجميع. لكن هذا المعنى
من حق صناعة غير هذه. وقد تكلمنا فيه فى كتابنا «فى النفس». — وكما
أن فى النفس ربما كان الشىء معقولا من غير صدق ولا كذب، وربما
كان الشىء معقولا قد لزمه ضرورةً أحد هذين الأمرين، كذلك الأمر فيما
يخرج بالصوت: فإن الصدق والكذب إنما هى فى التركيب والتفصيل.
فالأسماء والكلم أنفسها تشبه المعقول من غير تركيب ولا تفصيل: مثال ذلك
قولنا: إنسان أو بياض، متى لم يستثن معه بشىء، فإنه ليس هو بعد حقاً
فالاسم هو لفظة دالة بتواطؤ، مجردة من الزمان، وليس واحد من أجزائها دالاً على انفراده. وذلك أن قلپس إذا أفرد منه «اپس» لم يدل بانفراده على شىء كما يدل فى قولك «قالوس اپس»، أى: فرس فاره. — وليست الحال أيضا فى الأسماء المركبة كالحال فى الأسماء البسيطة، وذلك أن الجزء من الاسم البسيط ليس يدل على شىء أصلا، وأما الاسم المركب فمن شأن الجزء منه أن يدل على شىء، لكن ليس على الانفراد، مثل قولك: «فيلوسوفس»، أى مؤثر الحكمة. — فأما قولنا: «بتواطؤ» فمن قبل أنه ليس من الأسماء اسم بالطبع إلا إذا صار دليلاً، فإن الأصوات أيضا التى لا تكتب بحدها فتدل، مثل أصوات البهائم، إلا أنه ليس شىء منها اسما.
وأما قولنا «لا — إنسان» فليس باسم؛ ولا وضع له أيضا اسم ينبغى
أن يسمى به، وذلك أنه ليس بقول ولا 〈قضية〉 سالبة، فليكن اسما
وأما الكلمة فهى ما يدل — مع ما تدل عليه — على زمان، وليس
واحد من أجزائه يدل على انفراده، وهى أبداً دليل ما يقال على غيرها — ومعنى
قولى أنه [تدل] مع ما تدل عليه تدل على زمان هذا المعنى الذى أنا واصفه:
أما قولنا «صحة» فاسم، وأما قولنا «صح» إذا عنينا الآن فكلمة، وذلك
أن هذه اللفظة تدل مع ما تدل عليه على أن الصحة قد وجدت للذى قيل
وأما قولنا «لا صح»، أو قولنا «لا مرض» فلست أسميه كلمة، فإنه وإن كان يدل، مع ما يدل عليه، على زمان فكان أيضا 〈دالاً〉 دائما على شىء، إلا أنه ليس لهذا الصنف اسم موضوع. فلتسم كلمة غير محصلة، وذلك أنها تقال على شىء من الأشياء موجودا كان أو غير موجود على مثال واحد. — وعلى هذا المثال قولنا «صح» الذى يدل به على زمان المضى، أو «يصح» الذى يدل به على الزمان المستأنف، ليس بكلمة، لكن تصريف من تصاريف الكلمة. والفرق بين هذين وبين الكلمة أن الكلمة تدل على الزمان الحاضر، وهذين وما أشبههما تدل على الزمان الذى حوله.
وأقول إن الكلم إذا قيلت على انفرادها فهى تجرى مجرى الأسماء فتدل على شىء، وذلك أن القائل لها يقف بذهنه عليه؛ وإذا سمعه منه السامع قنع به. إلا أنها لا تدل بعد على أن الشىء 〈هو〉 أو ليس هو، فإنه ولا لو قلنا «كان» أو «يكون» دللنا على المعنى. وكذلك قولنا «لم يكن» أو «لا يكون»؛ فلا لو قلنا «إنه» مجرداً على حياله، دللنا عليه، وذلك أنه فى نفسه ليس هو شيئا، لكنه يدل مع ما يدل عليه على تركيب ما؛ وهذا التركيب لا سبيل إلى فهمه دون الأشياء المتركبة.
وأما القول فهو لفظ دال، الواحد من أجزائه قد يدل على انفراده على طريق أنه لفظة، لا على طريق أنه إيجاب. وأعنى بذلك أن قولى «إنسان» مثلاً قد يدل على شىء، لكنه ليس يدل على أنه موجود أو غير موجود، لكنه يصير إيجابا أو سلبا إن أضيف إليه شىء آخر. فأما المقطع الواحد من مقاطع الاسم فليس يدل، لكنه حينئذ صوت فقط. وأما فى الأسماء المضعفة فقد يدل المقطع من مقاطعها دلالةً ليست بذاته، — على ما تقدم من قولنا.
وكل قول فدال، لا على طريق الآلة، لكن كما قلنا على طريق المواطأة. وليس كل قول بجازم، وإنما الجازم القول الذى وجد فيه الصدق أو الكذب؛ وليس ذلك بموجود فى الأقاويل كلها. ومثال ذلك: الدعاء، فإنه قول ما، لكنه ليس بصادق ولا كاذب. — فأما سائر الأقاويل غير ما قصدنا له منها فنحن تاركوها، اذ كان النظر فيها أولى بالنظر فى الخطب أو الشعر. وأما القول الجازم فهو قصدنا فى هذا النظر.
فأقول إن القول الواحد الأول الجازم هو الإيجاب؛ ثم من بعده السلب. وأما سائر الأقاويل كلها فإنما تصير واحداً برباط يربطها.
وقد يجب ضرورةً فى كل قول جازم أن يكون جازما عن كلمة أو عن تصريف من تصاريف كلمة. وذلك أن قول الإنسان ما لم يستثن معه أنه الآن، أو كان، أو يكون، أو شىء من نظائر هذه فليس هو بعد جازماً. وإنما صار قولنا: حى مشاء ذو رجلين، واحدا لا كثيراً لأنه يدل على واحد، لا من قبل أنه قيل على تقارب بعضه على أثر بعض. إلا أن هذا المعنى من غير ما قصدنا له.
فالقول الجازم يكون واحداً متى كان دالاً على واحد أو كان بالرباط واحداً؛ ويكون كثيراً متى كان دالا على كثير، لا على واحد، ولم يكن مرتبطا — فيحصل الآن أن كل واحد من الاسم والكلمة لفظة فقط إذ كان ليس لقائل أن يقول إنه يدل فى لفظ على شىء يحكم به: إما فى جواب سائل، وإما فى غير ذلك مما يبتدؤه من تلقاء نفسه.
وأما الحكم البسيط الكائن من هذه فبمنزلة إيقاع شىء على شىء، أو انتزاع شىء من شىء. والمؤلف من هذه فبمنزلة القول الذى قد صار مركبا. والحكم البسيط لفظ دال على أن الشىء موجود أو غير موجود على حسب قسمة الأزمان.
وأما الإيجاب فإنه الحكم بشىء على شىء؛ والسلب هو الحكم بنفى شىء عن شىء. — وإذ كان قد يمكن أن يحكم على ما هو موجود الآن بأنه ليس بموجود، وعلى ما ليس بموجود بأنه موجود، وعلى ما هو موجود بأنه موجود، وعلى ما ليس بموجود بأنه ليس بموجود، وفى الأزمان أيضا الخارجة 〈عن〉 الزمان الذى هو الآن، قد يمكن مثل ذلك — فقد يمكن فى كل ما أوجبه موجب أن يسلب، وفى كل ما سلبه أن يوجب. فمن البين إذاً أن لكل إيجاب سلبا قبالته، ولكل سلب إيجاباً قبالته. — فليكن التناقض هو هذا: أعنى إيجابا وسلبا متقابلين. وأعنى بالمتقابل أن يقابل الواحد بعينه فى المعنى الواحد بعينه، ليس على طريق الاتفاق فى الاسم، وسائر ما أشبه ذلك مما استثنيناه كلماً لمطاعن المغالطين.
ولما كانت المعانى بعضها كليا وبعضها جزئياً، وأعنى بقولى «كليا» ما من شأنه أن يحمل على أكثر من واحد، وأعنى بقولى «جزئيا» ما ليس ذلك من شأنه: ومثال ذلك أن قولنا «إنسان» من المعانى الكلية ، وقولى «زيد» من الجزئيات — فواجب ضرورةً متى حكمنا بوجود أو غير وجود أن يكون ذلك أحيانا لمعنى من المعانى الكلية، وأحيانا لمعنى من المعانى الجزئية.
متى كان الحكم كليا على كلى بأن له شيئاً موجوداً أو غير موجود، كان
الحكمان متضادين. وأعنى بقولى حكما كليا على معنى كلى مثل قولك:
«كل إنسان أبيض» وقولك: «ولا إنسان واحداً أبيض». — ومتى
كان الحكم على معنىً كلى ولم يكن هو كلياً لم يكن الحكمان فى أنفسهما
متضادين، غير أن المعنيين اللذين يستدل عليهما بهما قد يمكن أحيانا أن
يكونا متضادين. وأعنى بقولى: «الحكم غير الكلى على المعنى الكلى»
مثل قولك: «الإنسان هو أبيض»، «الإنسان ليس هو أبيض».
فإن قولنا «إنسان»، وإن كان كليا، غير أن الحكم عليه لم يستعمل كليا.
وذلك أن: «كل» تدل على أن الحكم كلى، لا المعنى متى كان كليا. —
فأقول الآن إن الإيجاب والسلب يكونان متقابلين على طريق «التناقض» متى كان يدل فى الشىء الواحد بعينه أن الكلى ليس بكلى.
ومثال ذلك:
كل إنسان أبيض. — ليس كل إنسان أبيض.
ولا إنسان واحداً أبيض. — قد يكون إنسان واحد أبيض.
ويكونان متقابلين على طريق «التضاد» متى كان فيهما الإيجاب الكلى والسلب الكلى. ومثال ذلك:
كل إنسان أبيض. — ولا إنسان واحداً أبيض.
〈كل إنسان عادل. — لا إنسان عادل〉.
ومن قبل ذلك صارت هاتان لا يمكن أن تكونا معا صادقتين. فأما
المقابلتان لهما فقد يمكن ذلك فيهما فى المعنى الواحد بعينه: مثل قولك،
ومن البين أن السلب الواحد إنما يكون لإيجاب واحد، وذلك أن
السلب إنما يجب أن يسلب ذلك الشىء بعينه الذى أوجبه الإيجاب، ومن
شىء واحد بعينه: من المعانى الجزئية كان أو من المعانى الكلية، وكليا
كان أو جزئيا، وأعنى بذلك ما أنا ممثله: «زيد أبيض»، «ليس زيد
أبيض». فأما إن كان الشىء مختلفا أو كان واحداً بعينه إلا أنه من شىء
مختلف لم يكن مقابلا، لكنه يكون لدال آخر غيره. والمقابل لقولنا:
فقد حصل من قولنا: أن الإيجاب الواحد إنما يكون مقابلا على جهة المناقضة لسلب واحد، وذكرنا ما هما؛ وأن المتضادين غيرهما؛ وأنه ليس كل مناقضة فهى صادقة أو كاذبة، ومن قبل أى شىء، ومتى تكون صادقة أو كاذبة.
والإيجاب أو السلب يكون واحداً متى دل لشىء واحد على شىء واحد:
إما كلى على معنى كلى، وإما لا على مثال واحد؛ مثل ذلك: «كل إنسان
أبيض»، «ليس كل إنسان أبيض»؛ «الإنسان هو أبيض»،
«الإنسان ليس هو أبيض»؛ و«لا إنسان واحداً أبيض»، «قد يكون
إنسان ما أبيض» — هذا إن كان قولنا «أبيض» إنما يدل على معنى واحد.
فإما إن كان قد وضع لمعنيين اسم واحد فمن قبل المعنيين اللذين
لهما صار ليس بواحد لا يكون الإيجاب واحدا، مثل ذلك أنه إن وضع
واضع للفرس والإنسان اسماً واحدا كقولك: «ثوب» مثلا، فإن قوله
ونقول إن المعانى الموجودة الآن أو التى قد كانت فيما مضى فواجب ضرورةً أن يكون الإيجاب أو السلب فيها إما صادقاً وإما كاذباً. أما فى الكلية على معنى كلى فأحدهما أبداً صادق، والآخر كاذب. وكذلك فى الأشخاص على ما قلنا. وأما الكلية التى لا تقال على معنى كلى فليس ذلك واجباً فيها. وقد قلنا فى هذه أيضا.
فأما المعانى الجزئية المستقبلة فليس يجرى الأمر فيها على هذا المثال.
وذلك أنه إن كان كل إيجاب أو سلب إما صادقا وإما كاذبا، فواجب
فى كل شىء أن يكون موجودا أو غير موجود. فإن قال قائل فى شىء من
الأشياء إنه سيكون، وقال آخر فيه بعينه: لا، فمن البين أنه يجب ضرورةً
فليس شىء من الأشياء إذاً مما يتكون أو مما هو موجود يكون بالاتفاق أو بأحد الأمرين اللذين لا يخلو شئ منهما أيهما كان؛ ولا شىء من الأشياء مزمع بأن يكون أو لا يكون على هذه الجهة، بل الأمور كلها ضرورية. وليس يكون شىء منها على أى الأمرين اتفق، وذلك أن الموجب يصدق فيها أو السالب. ولو لم تكن كذلك لكان كونها وغير كونها على مثال واحد. وذلك أن الشىء الذى يقال فيه إنه يكون على أى الأمرين اتفق، فليس هو بأحد الأمرين أولى منه بالآخر، ولا يصير كذلك.
وأيضا إن كان شىء من الأشياء أبيض فى الوقت الحاضر، فقد كان
القول فيه من قبل بأنه «سيصير أبيض» صادقا، فيجب أن يكون القول
فى شىء من الأشياء مما يتكون — أيها كان — بأنه سيكون قد كان دائما
صادقا. وإن كان القول فى شىء بأنه فى هذا الوقت أو سيكون فيما بعد
وأيضا فليس يجوز أن يقال إنه ليس ولا واحد من القولين حقا؛ كأنك قلت: القول بأن الشىء سيكون، والقول بأن الشىء ليس يكون — أما أولاً فلأنه يلزم من ذلك أن يكون الإيجاب — وهو كذب — سلبه غير صادق، والسلب — وهو كذب — إيجابه غير صادق. ثم مع ذلك فإنه إن كان القول فى الشىء بأنه أبيض وبأنه أسود صادقاً، فيجب أن يكون الشىء الأمرين جميعا. وإن كان القول فيه بأنه يصير كذلك فى غد صادقا، فواجب أن يصير كذلك فى غد. وإن كان القول فيه بأنه لا يصير كذلك وليس لا يصير كذلك فى غد حقا فليس هو على أى الأمرين اتفق. ومثال ذلك الحرب: فإنه يجب لا أن تكون حربا ولا ألا تكون.
فهذا ما يلزم من الأمور الشنعة وغيره مما أشبهه إن كان كل إيجاب وسلب — إما مما يقال كلياً على معنى كلى، وإما مما يقال جزئيا — فواجب ضرورةً أن يكون فيه أحد المتقابلين صادقاً والآخر كاذباً، ولم يكن فيما يحدث ما يكون حدوثه على أى الأمرين اتفق، بل الأشياء جميعا وجودها وكونها واجب ضرورةً. وعلى هذا القياس فليست بنا حاجة إلى أن نروى فى شىء ولا أن نستعد له أو نأخذ أهبةً، كأنا إن فعلنا ما يجب كان ما يجب؛ وإن لم نفعل ما يجب لم يكن ما يجب. فإنه ليس مانع يمنع من أن يقول قائل فى شىء من الأشياء إنه يكون إلى عشرة ألف سنة مثلا، ويقول آخر إنه لا يكون، فيصح لا محالة أحد الأمرين اللذين كان القول حينئذ بأنه يكون صادقا. وأيضا فلا فرق فى هذا المعنى بين أن يقال المناقضة وبين ألا يقال، وذلك أنه من البين أن الأمور تجرى مجاريها وإن لم يوجب موجب شيئا منها ولم يسلبه آخر. وذلك أن الشىء ليس إنما يكون أو لا يكون، من قبل أنه قد أوجب أو قد سلب، ولا حكمه بعد عشرة ألف سنة غير حكمه بعد زمان آخركم كان مقداره. فإن كانت حاله فى الزمان كله حالا يصدق فيه معها أحد القولين دون الآخر فواجب ضرورةً أن يكون ذلك الصدق حتى يكون كل واحد من الأشياء التى تكون حاله أبداً حال ما يكون ضرورةً. وذلك أن ما كان القول فيه بأنه سيكون صادقا فى وقت من الأوقات فليس يمكن ألا يكون؛ وما يكون فقد كان القول فيه بأنه سيكون صادقاً أبداً.
فإذ كانت هذه الأشياء محالاً. (لأنا قد نرى أمورا يحدث مبدؤها من الروية فيها وأخذ الأهبة لها، وقد نجد بالجملة فى الأشياء التى ليست مما يفعل دائما الإمكان لفعل شىء وترك فعله على مثال واحد حتى يكون فيها الأمران جميعا ممكنين، أعنى أن يكون الشىء وألا يكون. وها هنا أشياء كثيرة بين من أمرها أنها بهذه الحال. ومثال ذلك أن هذا الثوب قد يمكن أن يتمزق فلا يتمزق، بل يسبقه إليه البلى، وعلى ذلك المثال قد يمكن ألا يتمزق، فإنه لم يكن البلى ليسبق التمزيق إليه لو لم يكن إلا يتمزق. وكذلك يجرى الأمر فى سائر ما يتكون مما يقال على هذا الضرب من القوة)، فظاهر إذاً أنه ليس جميع الأشياء فوجودها أو كونها ضرورة، بل بعض الأشياء يجرى على أى الأمرين اتفق، وليس الإيجاب بأحرى من السلب بالصدق فيها؛ وبعضها أحد الأمرين دون الآخر أحرى فيها وأكثر، إلا أنه قد يمكن أن يكون الأمر الآخر ولا يكون ذلك.
فنقول الآن إن الوجود للشىء إذا كان موجوداً ضرورى؛ وإذا لم يكن
موجودا فنفى الوجود عنه ضرورى. وليس كل موجود فوجوده ضرورى،
ولا كل ما ليس بموجود فعدم الوجود له ضرورى. وذلك أنه ليس قولنا
إن وجود كل موجود فهو ضرورةً إذا وجد، هو القول بأن وجوده ضرورةً
ولما كان الإيجاب دليلا على أن شيئاً يقال على شىء، وهذا الشىء هو اسم أو ما لا اسم له، وكان يجب أن يكون ما يقال فى الإيجاب واحداً على واحد، وكنا قد وصفنا الاسم وما لا اسم له فيما تقدم، فقلنا إنا لا نسمى قولنا «لا إنسان» اسما، بل نسميه غير محصل، لأن الاسم غير المحصل أيضا إنما يدل من وجه على شىء واحد؛ وكذلك أيضا قولنا «لا صح» ليس بكلمة بل كلمة غير محصلة. فواجب أن يكون كل إيجاب أو سلب مؤلفا إما من اسم غير محصل أو كلمة غير محصلة.
وليس يكون إيجاب ولا سلب خلواً من كلمة؛ فإن قولنا «كان» أو «يكون» أو «سيكون» أو «يصير» أو غير ذلك مما أشبهه إنما هو مما قد وضع كلمة، وذلك أنه يدل، مع ما يدل عليه، على زمان.
فيكون على هذا القياس الإيجاب والسلب الأول قولنا «الإنسان يوجد»، «الإنسان لا يوجد»، ثم بعده «لا إنسان يوجد»، «لا إنسان لا يوجد»؛ وأيضا: «كل إنسان يوجد»، «ليس يوجد كل إنسان»، «كل لا إنسان يوجد»، «ليس يوجد كل لا إنسان». وهذا بعينه قولنا فى الأزمان التى حول الزمان الحاضر.
فأما إذا كانت الكلمة الدالة على الوجود ثالثا محمولا إلى ما يحمل، فإن التناقض حينئذ يقال على ضدين. ومثال ذلك قولنا: «يوجد إنسان عدلا»، فقولنا «يوجد» شىء ثالث مقرون بها فى هذا الإيجاب: إما اسم وإما كلمة، فيحصل من قبل ذلك أربعة: اثنان منها يكون حالهما فى المنزلة عند الإيجاب والسلب كحال العدميتين عندهما؛ والاثنان 〈الآخران〉 ليسا كذلك. وأعنى بقولى هذا أن قولنا «يوجد» إما أن يقرن ويضاف إلى قولنا «عدل» أو إلى قولنا «لا عدل»، وكذلك السلب أيضا، فيصير أربعة.
وأنت قادر على فهم ما نقوله من رسمنا هذا:
〈١〉
〈ا〉 〈ٮ〉
يوجد إنسان عدلا سلب هذا القول: ليس يوجد إنسان عدلا
〈حـ〉 〈ء〉
يوجد إنسان لا عدلا سلب هذا القول: ليس يوجد إنسان لا عدلا
فإن قولنا فى هذا الموضوع «يوجد» و«لا يوجد» قد أضيف إلى قولنا «عدل» و«لا عدل». فهذه الأقاويل نسقت فى هذا الموضع على ما تقال عليه فى كتبنا «فى التحليل بالقياس».
وعلى ذلك المثال يجرى الأمر إن كان الإيجاب لاسم كلى. ومثال ذلك:
〈٢〉
〈ا〉 〈ٮ〉
كل إنسان يوجد عدلا سلب هذا القول: ليس كل إنسان يوجد عدلا
〈حـ〉 〈ء〉
كل إنسان يوجد لا عدلا ليس كل إنسان يوجد لا عدلا
غير أنه ليس على ذلك المثال يمكن أن تصدق معاً المقدمات التى على القطر؛ وإن كان قد يمكن أن تصدق المتقاطرتان فى حال من الأحوال.
فهاتان اثنتان متقابلتان. وها هنا اثنتان أخريان تحدثان من قولنا «لا إنسان» إذا جعلناه كالشىء الموضوع، فنقول:
〈٣〉
〈اً〉 〈ٮً〉
يوجد لا إنسان عدلا ليس يوجد لا إنسان عدلا
〈حًـ〉 〈ءً〉
يوجد لا إنسان لا عدلا ليس يوجد لا إنسان لا عدلا
وليس ها هنا مناقضات أكثر من هذه. وهاتان المتقابلتان هما مفردتان بأنفسهما غير ما قيل من قبل، لأن الذى استعمل فيها اسم غير محصل وهو قولنا «لا إنسان».
وما كان منها لا يصح فيه كلمة الوجود مثل ما وقع فيه منها «يصح» أو «يمشى» فإن هذا الصنف من الكلم يفعل فيها إذا وضع هذا الوضع ذلك الفعل بعينه الذى كان يفعله حرف «يوجد» أو ما أشبهه لو قرن بها. ومثال ذلك: «كل إنسان يمشى»، «ليس كل إنسان يمشى»، «كل لا إنسان يمشى»، «ليس كل لا إنسان يمشى». فإنه ليس يجوز أن يقال «ليس كل إنسان» بل إنما ينبغى أن يوضع حرف السلب وهو قولنا «لا» على قولنا «إنسان»؛ فإن قولنا «كل» ليس يدل على أن المعنى كلى، بل على أن الحكم كلى. وقد تبين ذلك من قولنا «الإنسان يمشى»، «الإنسان ليس يمشى»، «لا إنسان يمشى»، «لا إنسان ليس يمشى»، فإن الفرق بين هذه وبين تلك أن هذه ليس الحكم فيها كليا. فقد بان من ذلك أن قولنا «كل» أو قولنا «ولا واحد» ليس يزيدان على أن يدلا أن الإيجاب والسلب للاسم كله؛ فأما الباقى فيجب أن تكون الزيادة فيه واحدةً بعينها.
ولما كان السلب الدال على أنه «ولا حيوان واحدا يوجد عدلا» ضد الذى يقال به إن «كل حيوان يوجد عدلا» فمن البين أن هذين لا يكونان فى حال من الأحوال لا صادقين معا ولا على أمر واحد بعينه. فأما المقابلان لهما فقد يكونان فى حال من الأحوال، ومثال ذلك: «ليس كل حيوان يوجد عدلا» و«قد يوجد حيوان ما عدلا».
فأما التى تلزم وتتبع فهى هذه: أما قولنا: «كل إنسان يوجد عدلا»، فإنه يلزمه قولنا: «ولا إنسان واحدا يوجد عدلا»؛ وأما قولنا: «قد يوجد إنسان ما عدلا»، فإنه يلزمه المقابل له وهو قولنا: «ليس كل إنسان يوجد لا عدلا»؛ وذلك أنه يجب ضرورةً أن يوجد واحد.
ومن البين أيضا أنا فى الأشخاص إذا كنا صادقين فى الجواب عن المسئلة بالإيجاب بالسلب، 〈صدقت قضية موجبة كذلك〉. ومثال ذلك جوابنا فى المسئلة عن سقراط: «هل هو عدل؟» بأن نقول: «لا»، فإنا نقول: «فسقراط إذاً لا عدل». وأما فى الحكم الكلى فليس ما يقال فيه على هذا المثال حقا؛ وإنما الصادق فيه السلب. ومثال ذلك: «أكل إنسان حكيم؟» «لا»، «فكل إنسان إذاً لا حكيم»، فإن هذا القول كذب؛ والقول الصادق إنما هو: «فليس كل إنسان إذاً حكيما». وهذا القول هو القابل لذلك القول؛ فأما ذلك فإنه مضاد له.
فأما المتقابلة من قبل الأسماء والكلم غير المحصلة — ومثال ذلك
فى قولنا «لا إنسان» أو «لا عدل» فإنه يظن بها أنها بمنزلة
السلب من غير اسم أو من غير كلمة، وليست كذلك، وذلك أنه واجب
ضرورةً فى السلب أن يصدق أو يكذب. ومن قال «لا إنسان» فليس
وقولنا إن «كل لا إنسان يوجد عدلا» ليس يدل على مثل ما تدل عليه واحدة من تلك، ولا المقابل لهذا القول وهو قولنا: «ليس كل لا إنسان يوجد عدلا». فأما قولنا «كل لا إنسان يوجد لا عدلا» «فإنه يدل على مثل ما يدل عليه قولنا: «ليس يوجد شىء لا إنسان عدلا».
والأسماء والكلم إذا بدلت أماكنها فدلالتها تبقى بحال واحدة بعينها. ومثال ذلك: «يوجد إنسان عدلا»، «يوجد عدلا إنسان». فإن الأمر إن لم يكن كذلك وجب أن يكون لمعنى واحد بعينه سوالب أكثر من واحدة. غير أنا قد بينا أن الإيجاب الواحد إنما له سلب واحد، وذلك أن سلب قولنا: «يوجد إنسان عدلا» هو قولنا «ليس يوجد إنسان عدلا». فأما سلب قولنا «يوجد عدلا إنسان» إن لم يكن هذا القول وقولنا «يوجد إنسان عدلا» واحداً بعينه فهو: إما قولنا «لا يوجد عدلا لا إنسان»، وإما قولنا «لا يوجد عدلا إنسان»، لكن الأول منهما هو سلب قولنا «يوجد عدلا لا إنسان»، والثانى سلب قولنا «يوجد إنسان عدلا» — فيكون قد صار لإيجاب واحد سلبان. فقد بان أن الأسماء والكلم إذا بدلت أماكنها كان الإيجاب والسلب واحداً بعينه.
فأما إيجاب واحد لكثير أو كثير لواحد، أو سلبه منه متى لم يكن ما يستدل عليه من الكثير معنى واحدا، فليس يكون إيجابا واحداً أو سلبا واحدا. وأعنى بقولى «واحداً» ليس متى كان الاسم الموضوع واحدا ولم يكن الشىء الذى من تلك معنى واحدا، مثل قولنا «الإنسان» مثلا «حى، ذو رجلين، آنس»، فإن الشىء المجتمع من هذه معنى واحد أيضا. فأما المجتمع من قولنا «أبيض» وقولنا «إنسان» وقولنا «يمشى» فليس هو معنى واحدا. فليس يجب إذاً إن أوجب موجب لهذه شيئا واحدا أن يكون القول إيجاباً واحدا، لكن اللفظ حينئذ يكون واحدا؛ فأما الإيجاب فكثير. ولا إن أوجبها الشىء واحداً كان الإيجاب واحدا، بل كثيرا على ذلك المثال.
فلما كان السؤال المنطقى يقتضى جوابا إما بالمقدمة وإما بالجزء الآخر من المناقضة، وكانت المقدمة جزءاً ما من مناقضة واحدة، فليس يجب أن يكون الجواب عن هذه واحدا؛ إذ كان السؤال أيضا ليس بواحد ولو كان حقا. وقد تكلمنا فى هذه فى كتابنا «فى المواضع».
فمع ذلك فإنه من البين أن السؤال عن شىء: ما هو — ليس سؤالا منطقيا، وذلك أنه يجب أن يكون قد أعطى فى السؤال المنطقى أن يختار المسئول أحد جزئى المناقضة — أيهما شاء — حتى يحكم به. وقد ينبغى أن يكون السائل يجرى فى تحديد السؤال هذا المجرى حتى يقول: هل الإنسان كذا، أو ليس هو كذا؟
ولما كانت الأشياء التى تحمل فرادى، بعضها تحمل إذا جمعت حتى يكون
المحمول كله واحدا، وبعضها ليس كذلك، فينبغى أن نخبر بالفرق فى ذلك.
فإن إنساناً من الناس قد يصدق القول عليه فرادى بأنه حى، وبأنه
ذو رجلين؛ ويصدق أيضا أن يقال عليه هذان كشىء واحد. وقد يصدق
القول عليه بأنه إنسان وبأنه أبيض؛ ويصدق أيضا أن يقال عليه هذان
كشىء واحد. وليس متى كان القول عليه بأنه بصير حقا، والقول عليه
بأنه طبيب حقا فواجب أن يكون طبيباً بصيراً. وذلك أنه إن كان لأن
كل واحد من القولين حق، فقد يجب أن يكون مجموعها حقا — لزم من
ذلك أشياء كثيرة شنعة. وذلك أن قولنا على إنسان من الناس إنه إنسان
حق، وقولنا عليه إنه أبيض، فيجب أن يكون القول عليه بذلك كله صادقا
أيضا. فإن كان أيضا القول عليه بهذا وحده، أعنى بأنه أبيض، صادقا،
فيجب أن يكون القول عليه بذلك أجمع صادقا أيضا حتى يقال عليه بأنه
إنسان — أبيض — أبيص ... ، ويمر ذلك بلا نهاية. وقد يقال أيضا عليه
فنحن الآن نصف كيف ينبغى أن يوضع فنقول:
إن ما كان من المعانى التى تحمل ومن المعانى التى عليها يقع الحمل إنما يقال على شىء واحد بعينه أو بعضا على بعض بطريق العرض، فإن هذه ليس تصير شيئا واحدا. ومثال ذلك قولنا فى إنسان من الناس إنه أبيض وطبيب. فليس قولنا إنه أبيض وإنه طبيب معنى واحدا، وذلك أنهما جميعا عرضان لحقا شيئاً واحداً. وإن كان القول أيضا بأن الأبيض طبيب صادقا، فليس يجب ولا من ذلك أن يكون معنى أنه طبيب ومعنى أنه أبيض معنى واحدا. وذلك أن الطبيب بطريق العرض ما كان أبيض، فيجب من ذلك ألا يكون أنه أبيض وأنه طبيب معنى واحدا. ومن قبل ذلك صار الطبيب ليس بصيرا على الإطلاق، بل هو حى ذو رجلين. وذلك أن هذين ليسا بطريق العرض، ولا ما كان أيضا الواحد منه محصوراً فى الآخر. ولذلك كثيراً ما لا يمكن أن يقال أبيض، ولا أن يقال إن الإنسان إنسان حى أو ذو رجلين. وذلك أنا قد حصرنا فى قولنا إنه إنسان انه حى، وأنه ذو رجلين.
لكن قد يصدق القول على الشخص على الإطلاق. ومثال ذلك القول على الإنسان من الناس بأنه إنسان، والقول على الإنسان الأبيض بأنه أبيض. إلا أن ذلك ليس أبدا. لكن متى كان محصورا فى المزيد فى القول شىء من المتقابل الذى تلزمه مناقضة فليس يكون حقا، بل كذبا. ومثال ذلك أن يقال فى الإنسان الميت إنه إنسان. ومتى لم يكن ذلك، فقد يصدق. بل نقول إنه متى وجد ذلك فيه فهو أبدا غير صادق؛ ومتى لم يوجد فليس أبدا يصدق. ومثال ذلك قولنا: «أوميروس موجود شيئاً ما»، كأنك قلت: شاعرا. فهل هو موجود أو لا؟ فإن قولنا «موجود» إنما حملناه على أوميروس بطريق العرض. وذلك أنا إنما قلنا إنه «موجود شاعراً» ولم نحمل «موجودا» على أوميروس بذاته.
فقد يجب من ذلك أن ما كان مما يحمل ليس يوجد فيه تضاد متى قيلت فيه الأقاويل مكان الأسماء وكان محمولا بذاته لا بطريق العرض؛ فإن القول فيما هذه سبيله إنه شىء ما على الإطلاق — صادق —. فأما ما ليس بموجود فليس القول بانه «شىء موجود» من قبل قولنا فيه إنه يوجد متوهما قولا صادقا. وذلك أن التوهم فيه ليس أنه موجود، بل أنه غير موجود.
وإذ قد لخصنا هذه المعانى، فقد ينبغى أن ننظر كيف حال أصناف الإيجاب والسلب بعضها عن بعض: ما كان منها فيما يمكن أن يكون، وما لا يمكن، وفيما يحتمل أن يكون، وما لا يحتمل، وما كان منها فى الممتنع والضرورى. فإن فى ذلك مواضع للشك.
وذلك أنه إن كانت المناقضات فى الأقاويل المؤلفة إنما يكون العناد بينها بعضها لبعض فيما كان منها مبنيا على قولنا: موجود ولا موجود — ومثال ذلك أن سلب قولنا «يوجد إنسان» قولنا «ليس يوجد إنسان»، لا قولنا «يوجد لا إنسان»؛ وسلب قولنا «يوجد إنسان عدلا» قولنا «ليس يوجد إنسان عدلا»، لا قولنا «يوجد إنسان لا عدلا». لأنه إن كان يقال على كل شىء إما الإيجاب وإما السلب، فقد يصدق إذاً فى الخشبة القول بأنها توجد إنسانا لا عدلا. فإذا كانت المناقضات إنما ينبغى أن توجد على هذا القياس، أعنى قولنا فيها «يوجد» أو «لا يوجد»، وكانت أيضا الأقاويل التى لا يلفظ فيها بحرف الوجود، فإن ما يقال لهما يقوم مقام ذلك الحرف، يفعل فعله بعينه. ومثال ذلك أن سلب قولنا «إنسان ليس يمشى» ليس يكون قولنا «لا إنسان يمشى»، بل قولنا: «إنسان ليس يمشى». وذلك أنه لا فرق بين قولنا «إنسان يمشى»، وبين قولنا «يوجد إنسان ماشيا».
فإذ كان الأمر يجرى هذا المجرى فى كل موضع، فينبغى أن يكون أيضا سلب قولنا «يمكن أن يوجد» قولنا «يمكن ألا يوجد» لا قولنا لا «يمكن أن يوجد». غير أنه قد يظن أن قولنا «قد يمكن أن يوجد» وقولنا «قد يمكن ألا يوجد» معنى واحد بعينه. وذلك أن كل ما كان ممكنا أن ينقطع أو أن يمشى فيمكن ألا ينقطع وألا يمشى. والحجة فى ذلك أن كل ما كان ممكنا على هذا النحو فليس أبدا يفعل؛ فلذلك قد يكون له السلب أيضا. وذلك أنه قد يمكن ألا يمشى المشاء، وألا يرى الرائى. إلا أنه ليس يمكن أن يصدق فى شىء واحد بعينه الحكمان المتقابلان. فليس إذاً سلب قولنا «قد يمكن أن يكون» قولنا «قد يمكن ألا يكون» لأنه يلزم من ذلك إما الإيجاب والسلب معا لمعنىً واحد بعينه فى معنى واحد بعينه؛ وإما أن تكون زيادة اللواحق التى يصير بها القول إيجابا أو سلبا ليس 〈أن〉 نلحق قولنا «يكون» أو «يوجد» أو قولنا «لا يكون» أو «لا يوجد». فإذا كان الأول من هذين ممتنعاً، فيجب أن يكون الثانى مؤثرا.
فالسالب إذا لقولنا «يمكن أن يوجد» إنما هو قولنا «لا يمكن أن
يوجد». وهذا بعينه القول فى قولنا أيضا «يحتمل أن يوجد». وذلك
أن سلب هذا القول أيضا هو قولنا «لا يحتمل أن يوجد». والأمر
فى الباقية يجرى على هذا النحو، أعنى فى الواجب وفى الممتنع. فكما أن فى تلك
وعلى هذا المثال سلب قولنا: «واجب ضرورةً أن يوجد» ليس هو
قولنا: «واجب ضرورةً ألا يوجد» بل قولنا: «ليس واجباً ضرورةً أن يوجد».
وأما سلب قولنا: «واجب ضرورة ألا يوجد» فإنه قولنا: «ليس واجباً
ضرورةً ألا يوجد»؛ وأيضا سلب قولنا: «ممتنع أن يوجد» ليس هو قولنا:
وبالجملة، فإنما ينبغى كما قلنا أن يتنزل قولنا «يوجد» و«لا يوجد» منزلة الموضوع، ويلزم الإيجاب والسلب هذه المعانى: ثم تقرن بقولنا «يوجد» وقولنا «لا يوجد».
فإن هذه الأحكام ينبغى أن يعتقد أنها الأحكام المتعاندة:
ممكن... ... لا ممكن.
محتمل... لا محتمل.
ممتمع... لا ممتنع.
واجب... لا واجب.
حق... لا حق.
فأما اللوازم فهكذا يجرى نسقها:
إذا وضعت: يلزم من قولنا «ممكن أن يوجد» — قولنا «محتمل أن يوجد»
(وهذا ينعكس على ذلك)، ويلزم منه ويلزمه أيضا — قولنا «ليس ممتنعا أن
يوجد» وقولنا «ليس واجبا أن يوجد». ويلزم قولنا «ممكن ألا يوجد»
وقولنا «محتمل ألا يوجد» — قولنا «ليس واجبا ألا يوجد» وقولنا «ليس
فلنتأمل ما نصفه من هذا الرسم الذى نرسمه:
〈الترتيب الأول〉 〈الترتيب الثالث〉 (١) ممكن أن يوجد. (١) ليس ممكنا أن يوجد.
(٢) محتمل أن يوجد. (٢) ليس محتملا أن يوجد.
(٣) ليس ممتنعا أن يوجد. (٣) ممتنع أن يوجد.
(٤) ليس واجبا أن يوجد. (٤) واجب ألا يوجد.
〈الترتيب الثانى〉 〈الترتيب الرابع〉
(١) ممكن ألا يوجد. (١) ليس ممكنا ألا يوجد.
(٢) محتمل ألا يوجد. (٢) ليس محتملا ألا يوجد.
(٣) ليس ممتنعا ألا يوجد. (٣) ممتنع ألا يوجد.
(٤) ليس واجبا ألا يوجد. (٤) واجب أن يوجد.
فقولنا «ممتنع» وقولنا «لا ممتنع» يلزمان قولنا «محتمل» وقولنا
«لا محتمل» وقولنا «ممكن» وقولنا لا ممكن لزوم المناقضة، إلا أن ذلك
فأما الواجب، نعنى الضرورى، فينبغى أن ننظر كيف الحال فيه. فإنه من البين أنه ليست هذه حاله، لأن الذى يتبع فيه إنما هو الأضداد. فأما المناقضة فعلى حيالها. وذلك أنه ليس سلب قولنا «واجب ألا يوجد» قولنا «ليس واجبا أن يوجد» وذلك أنه قد يجوز أن يصدق القولان جميعا فى المعنى الواحد بعينه: فإن ما كان واجباً ألا يوجد فليس واجبا أن يوجد. والسبب فى أن اللزوم فى ذلك ليست الحال فيه كالحال فى الآخر أن الممتنع حقه فى القول بضد الواجب. فإن كان الممتنع والواجب قوتهما واحدة بعينها — وذلك أن ما كان ممتنعا أن يوجد فالواجب ليس أن يوجد، بل ألا يوجد؛ وما كان ممتنعا ألا يوجد فواجب أن يوجد — فقد يجب، إن كانت تلك تجرى على مثال ما تجرى عليه التى لقولنا ممكن ولا ممكن، أن تكون هذه على الضد، فإن الواجب والممتنع قد يدلان على معنى واحد بعينه، غير أن ذلك على جهة القلب.
أو نقول: إنه ليس يجوز أن توضع المناقضات فى الواجب هذا الوضع
الذى وضعناه؟ وذلك أن ما كان واجبا أن يوجد فممكن أن يوجد؛ وإن
ولعل الإنسان أن يسأل فيقول: هل يلزم قولنا «واجب أن يوجد»
قولنا «ممكن أن يوجد»؟ فإنه إن لم يكن يلزمه فنقيضه يتبعه وهو قولنا
«ليس يمكن أن يوجد». وإن قال قائل إن هذا القول ليس هو نقيض
ذلك، فواجب أن يقول إن نقيضه قولنا «يمكن ألا يوجد». والقولان
جميعا كاذبان فيما وجوده واجب. غير أنا قد نرى أيضا أن الشىء الواحد
بعينه يمكن 〈أن〉 يقطع وألا يقطع، ويمكن أن يوجد وألا يوجد؛
فيجب من ذلك أن يكون ما هو واجب أن يوجد يحتمل ألا يوجد، وهذا
أيضا باطل. فنقول إنه ليس كل ما هو ممكن، أى فى قوته أن يوجد
أو أن يمشى، فقد يقدر على ما هو مقابل لذلك، بل هاهنا أشياء لا يصدق
فيها المقابل، وأول ذلك فى الممكنة التى ليست قواها بنطق، ومثال ذلك
«النار» تسخن كل ما لقيته، وقوتها ليست بنطق. فالقوى التى تكون
بنطق هى واحدة بأعيانها لأشياء كثيرة ولأضدادها. فأما القوى التى
ليست بنطق فليس كلها كذلك؛ لكن الأمر على ما قلنا فى النار، وذلك
أنه ليس ممكنا أن تحرق وألا تحرق، وكذلك غيرها مما تفعل دائما.
إلا أن بعض الأشياء مما قوته بغير نطق قد يمكن فيها أيضا أن تقبل معا
المتقابلات. وإنما قلنا هذا القول ليعلم أنه ليس كل إمكان فهو للأشياء المتقابلة
وعسى أن يكون أيضا مبدؤها كلها قولنا: واجب، وقولنا: ليس
واجب أن يوجد أو لا يوجد. ثم ينبغى أن نتأمل كيف 〈يكون〉 لزوم
سائر تلك الباقية لهذه. وقد ظهر مما قلنا أن ما وجوده واجب ضرورةً
وقد ينبغى أن ننظر هل ضد الإيجاب إنما هو السلب، أو الإيجاب ضد الإيجاب؛ وهل قولنا «كل إنسان عدل» هو ضد قولنا [و]«لا إنسان واحدا اعدل»، وإنما هو ضد قولنا «كل إنسان جائر»، كأنك قلت: «سقراط عدل»، «سقراط ليس بعدل»، «سقراط جائر» — أى الاثنين من هذه هما المتضادان؟
فإنه إن كان ما يخرج بالصوت تابعاً لازما لما يقوم فى الذهن، وكان
فى الذهن ضد الاعتقاد إنما هو اعتقاد ضد — ومثال ذلك أن اعتقادنا
أن كل إنسان عدل ضد اعتقادنا أن كل إنسان جائر — فواجب ضرورةً
أن يكون أيضا الحال فى الإيجابين اللذين يخرجان بالصوت على
ذلك المثال. وإن لم يكن هناك اعتقاد الضد هو الضد لم يكن أيضا الإيجاب
وأعنى بذلك هذا المعنى: هاهنا عقد صادق فى خير، وهو أنه خير؛
وعقد آخر كاذب وهو أنه ليس بخير؛ وعقد غيره وهو أنه شر — فأى هذين،
ليت شعرى، هو ضد العقد الصادق؟ وإن كان واحدا (أى إن كان معناهما
واحداً) فالمضادة فى أيهما هو. فنقول:إن ظننا أن العقدين المتضادين
إنما يحدان بأنهما لسببين متضادين، باطل؛ وذلك أن الاعتقاد فى خير أنه
خير، والاعتقاد فى شر أنه شر خليق أن يكون واحدا بعينه، بل هو حق:
واحداً كان أو أكثر من واحد؛ بل من قبل أنهما بحال تضاد: — فإذ كان
هاهنا عقد فى خير، أنه خير؛ وعقد أنه ليس بخير، وعقد أنه شىء آخر ليس
هو موجودا ولا يمكن أن يوجد — فليس ينبغى أن يوضع الضد واحداً من
تلك الأشياء التى الاعتقاد فيها فيما ليس بموجود أنه موجود، أو فيما هو
موجود بأنه ليس بموجود. وذلك أن الصنفين جميعا بلا نهاية، أعنى ما يقع
فيه منها الاعتقاد فيما ليس بموجود أنه موجود، وما يقع فيه منها الاعتقاد
فإذ كان الشىء الخير هو خيرا وليس بشر، وكان الأول له بذاته، والثانى بطريق العرض، وذلك أنه إنما عرض له أن يكون ليس بشر، وكان العقد الذاتى فى كل واحد من العانى أحرى بالصدق متى كان حقا، أو بالكذب متى كان باطلا، وكان العقد فى خير ما أنه ليس بخير عقداً باطلا لأمر ذاتى، والعقد فيه أنه شر عقدا باطلا لأمر عرضى — فقد يجب من ذلك أن يكون اعتقاد السلب فى الخير أحرى بالكذب من اعتقاد ضده؛ والذى هو أحرى بالكذب فى كل واحد من المعانى هو المعتقد لضده، وذلك أن الضدين هما المختلفان غاية الاختلاف فى المعنى الواحد بعينه. فإذ كان الضد هو أحد هذين، وكان النقيض أشد مضادة، فمن البين أن هذا هو الضد. فأما الاعتقاد فى الخير أنه شر، فإنه اعتقاد مقرون بغيره، لأن المعتقد لذلك فهو لا محالة خليق أن يخطر بباله أيضا فيه أنه ليس بخير.
وأيضا فإن كان واجباً فى غير ما ذكرنا أن يجرى الأمر على هذا المثال،
فقد يرى أن ما قيل فى ذلك صواب، وذلك أنه قد يجب إما أن يكون
اعتقاد النقيض هو الضد فى كل موضع؛ وإما ألا يكون فى موضع من
وأيضا فإن العقد فيما هو خير أنه خير، والعقد فيما ليس بخير أنه ليس بخير يجريان على مثال واحد. ومع ذلك أيضا العقد فيما هو خير أنه ليس بخير، والعقد فيما ليس بخير أنه خير، والعقد فيما ليس بخير أنه ليس بخير، وهو عقد حق، أى عقد، ليت شعرى، هو ضده! فإنه ليس يجوز أن يقال إن ضده اعتقاد أنه شر. وذلك أنه قد يمكن فى حال من الأحوال أن يصدقا معا من قبل أن من الأشياء ما ليس بخير وهو شر، فيلزم فى ذلك الشىء أن يكونا صادقين معا؛ ولا ضده أنه ليس بشر، فإن هذا أيضا صدق. فقد بقى إذاً أن يكون ضد العقد فيما ليس بخير أنه ليس بخير العقد فيما ليس بخير أنه خير. وذلك أن هذا باطل. فيجب من ذلك أن يكون ضد العقد فيما هو خير أنه العقد فيما هو خير أنه ليس بخير.
ومن البين أنه لا فرق فى ذلك، وإن جعلنا الإيجاب كليا؛ وذلك أن
الضد يكون حينئذ السلب الكلى. ومثال ذلك أن ضد العقد: أن كل ما هو
خير فهو خير — العقد أنه ولا واحد من الخيرات خير. وذلك أن العقد فى الخير
أنه خير — الذى يعقد الخير على المعنى الكلى هو العقد بعينه فى أى خير
فإذ كان الأمر فى الاعتقاد يجرى هذا المجرى، وكان الإيجاب والسلب فى اللفظ دلائل ما فى النفس، فمن البين أن ضد الإيجاب أيضا إنما هو السلب لذلك المعنى بعينه على الحكم الكلى. ومثال ذلك، أن ضد قولنا: «كل خير فهو خير» أو قولنا: «كل إنسان فخير» قولنا: «ولا خير واحد»، أو قولنا: «ولا إنسان واحد». فأما نقيضه 〈فهو〉 قولنا: «ليس كل خير» أو «ليس كل إنسان» 〈خيرا〉.
ومن البين أنه ليس يمكن أن يكون حق ضد الحق: لا رأى لرأى؛ ولا نقيض لنقيض؛ فإن وجود التضاد إنما هو فى الأشياء المتقابلة. غير أنه قد يمكن فى هذه أن يصدق المتقابلان فى الواحد بعينه. فأما الضدان فليس يمكن أن يوجدا معا فى شىء واحد بعينه.
[تم كتاب أرسطوطاليس «پارى أرمينيس» أى «فى العبارة». نقل إسحق بن حنين. نقل من نسخة بخط الحسن بن سوار، نسخها من من نسخة يحيى بن عدى التى قابل بها دستور إسحق وبخطه. قوبل به نسخة كتبت من خط عيسى بن إسحق بن زرعة، نسخها من خط يحيى بن عدى المنقول من دستور الأصل الذى بخط إسحق بن حنين، فكان موافقا].