Data Entry
١ — إنا متكلمون فى صنعة الشعر فى ذاتها وأى قوة لكل نوع من أنواعها، وكيف ينبغى أن تقوم القصة إذا طمح بالشعر إلى حال الجودة، وقائلون أيضاً من كم جزء يتكون الشعر، وما هى أجزاؤه، وكذلك نتكلم فى كل ما يتصل بهذا المبحث، مبتدئين فى ذلك كله — وفقاً للطبيعة — من المبادئ الأولى.
فشعر الملاحم وشعر التراجيديا، وكذلك الكوميديا والشعر الدثورمبى، وأكثر ما يكون من الصفر فى الناى واللعب بالقيثار — كل تلك، بوجه عام، أنواع من المحاكاة، ويفترق بعضها عن بعض على ثلاثة أنحاء: إما باختلاف ما يحاكى به، أو باختلاف ما يحاكى، أو باختلاف طريقة المحاكاة. فكما أن من الناس من إنهم ليحاكون الأشياء ويمثلونها بحسب ما لهم من الصناعة أو العادة بألوان وأشكال، ومنهم من يفعل ذلك بوساطة الصوت، فكذلك الأمر فى الفنون التى ذكرناها، فجميعها تحدث المحاكاة بالوزن والقول والإيقاع، إما بواحد منها على الانفراد أو بها مجتمعة.
فالإيقاع والوزن — مثلا — يستعملان وحدهما فى الصفر فى الناى
وصنعة الضرب على القيثار، وما قد يكون من صنائع لها مثل قوتهما،
كصفارة الراعى. والوزن وحده — بغير إيقاع — يستخدم فى الرقص،
فإن الرقص أيضاً يحاكى الخلق والانفعال والفعل بوساطة الأوزان
الحركية. أما الصنعة التى تحاكى باللغة وحدها منثورة أو منظومة — ومن
النظم ما يكون فى جملة أعاريض مجتمعة، ومنه ما يكون فى جنس واحد
من الأعاريض — أما هذه الصنعة فلم يعرف لها اسم حتى الآن، فليس
لدينا تسمية عامة لمشاهد سوفرون وكسنارخوس ومحاورات سقراط،
ولا لما قد يعمل من المحاكاة فى العروض الثلاثى أو الإليجى أو غيرهما
من الأعاريض. إلا أن الناس يلحقون كلمة الشعر — أو العمل (يوياين)
— بالعروض المقول فيه، فيطلقون اسم «الشعراء إلاليجيين» على
فريق، واسم شعراء الإيى على فريق آخر، لا يرجعون فى تسمية هؤلاء
وأولئك شعراء إلى المحاكاة بل إلى العروض دون تمييز بين محاك منهم
وغير محاك، حتى لقد جرت عادتهم أنه إذا وضعت مقالة طبية
أو طبيعية فى كلام منظوم سموا واضعها شاعراً. على أنك لا تجد شيئاً
مشتركاً بين هوميروس وأمبدوكليس ما خلا الوزن، بحيث يحق
لك أن تسمى الأول منهما شاعراً، أما الثانى فيصدق عليه اسم «الطبيعى»
أكثر من اسم «الشاعر». وعلى هذا القياس ينبغى أيضاً أن نسمى
شاعراً من يأتى بالمحاكاة فى مزيج من الأعاريض. كما فعل خايريمون
ثم إن من الصنائع ما يستعمل جميع الوسائط التى ذكرنا: أعنى الوزن والغناء والعروض، كالشعر الديثرمبى والنومى، وكالتراجيديا والكوميديا. غير أن الفرق بين هذه الصنائع أن الأولين تستخدمان الوسائط الثلاثة مجتمعة، على حين أن الأخريين تستخدمانها مفرقة فى جزء جزء. هذا قولى فى الفروق بين الصنائع التى بها يحدثون المحاكاة
٢ — وإذا كان من يحدثون المحاكاة إنما يحاكون أناساً يعملون،
وكان هؤلاء المحاكون — بالضرورة — إما أخياراً وإما أشراراً (فإن
الأخلاق تخضع غالباً لهذين القسمين، لأن الرذيلة والفضيلة هما
اللذان يميزان الأخلاق كلها) فينتج من ذلك أن المحاكين إما أن يكونوا
خيراً من الناس الذين نعهدهم أو شراً منهم أو مثلهم، كما هى الحال فى
التصوير: فقد كان بولوجنوتس يصور الناس خيراً مما هم وباوزون
يصورهم أسوأ مما هم وديونوسيس يصورهم كما هم. فبين إذن أن
كل واحد من المحاكيات التى ذكرت له هذه الفصول، وأنه يكون
مختلفاً بأن يحاكى أشياء مختلفة على هذا النحو الذى وصفنا. فإن هذه
الفروق قد توجد أيضاً فى الرقص والصفر بالناى واللعب بالقيثار،
كما توجد فى الكلام المنثور والشعر الذى لا تصاحبه الموسيقى،
فهو ميروس مثلا يصور الناس خيراً مما هم، وكليوفون يصورهم كما
هم، وهيجيمون الثاسى الذى كان أول من نظم المساخر ونيقوخاريس
الذى كتب «الديليادا» يصورانهم شراً مما هم، وقد تقع المحاكاة فى
وبهذا الفرق أيضاً تختلف التراجيديا عن الكوميديا: فهذه تمثل أناساً أخس ممن نعهدهم وتلك تمثل أناساً أفضل ممن نعهدهم.
٣ — ثم إن الثالث لهذه الفروق هو الطريقة التى يمكن أن يحاكى بها كل. فقد تقع المحاكاة فى الوسائط نفسها والأشخاص أنفسهم تارة بطريق القصص — إما بأن يتقمص الشاعر شخصاً آخر كما يفعل هوميروس، إما بأن يظل هو هولا يتغير — وتارة بأن يعرض أشخاصه جميعاً وهم يعملون وينشطون.
فالمحاكاة — إذن — لها هذه الفصول الثلاثة كما قلنا منذ البدء: ما يحاكى به، وما يحاكى، وطريقة المحاكاة. فيكون سوفوكليس — من جهة — محاكياً مثل هوميروس لأن كليهما يحاكى أشخاصاً فضلاء، ومن جهة أخرى مثل أرسطوفانيس، لأن كليهما يحاكى أشخاصاً يعملون ويفعلون، ومن هنا قال قوم إن هذه الأشعار سميت «دراماتا» لأنها تمثل أشخاصاً فى حال الفعل (درونتاس).
ولذلك أيضاً ادعى الدوريون أنهم أصحاب التراجيديا والكوميديا معتمدين دلالة الأسماء (أما الكوميديا فادعاها ميغاريو هذه البلادقائلين إنها نشأت من نظامهم الديموقراطى، كما ادعاها ميغاريو صقلية إذ كان منهم إييخارمس الشاعر وهو أقدم كثيراً من خيونيدس وما جنس، وكذلك ادعى بعض دوريى اليلويونيز أنهم أصحاب التراجيديا)
فهم يقولون إن القرى المطيفة كانت تسمى عندهم «كوماس»، على حين كان الأثينيون يسمونها «ديموس»، فعلى رأيهم لا يكون الكوميديون قد سموا بهذا الاسم أخذاً من الفعل، «كومازدين» (التفريح) بل لطوافهم فى القرى (كوماس) إذ كانوا محقرين من أهل المدينة. ثم هم يقولون إن الاسم الذى يطلقونه على معنى العمل هو «دران»، على حين أن الأثينيين يسمونه «يراتين». هذا قولنا فى تعداد فصول المحاكاة وبيان أى هى هذه الفصول.
٤ — ويبدو أن الشعر — على العموم — قد ولده سببان، وأن
ذينك السببين راجعان إلى الطبيعة الإنسانية. فإن المحاكاة أمر فطرى
موجود للناس منذ الصغر، والإنسان يفترق عن سائر الأحياء بأنه
أكثرها محاكاة، وأنه يتعلم أول ما يتعلم بطريق المحاكاة.
ثم إن الالتذاذ بالأشياء المحكية أمر عام للجميع. ودليل ذلك
ما يقع فعلا: فإننا نلتذ بالنظر إلى الصور الدقيقة البالغة للأشياء التى
نتألم لرؤيتها، كأشكال الحيوانات الدنيئة والجثث الميتة. وسبب ذلك —
مرة أخرى — أن التعلم ليس لذيذاً للفلاسفة وحدهم بل لسائر الناس
أيضاً، ولكن هؤلاء لا يأخذون منه إلا بنصيب محدود. فيكون التذاذ
هؤلاء برؤية الصور راجعاً إلى أنهم حين ينظرون إلى الأشياء يتفق
لهم أن يتعلموا ويجروا قياساً فى كل منها، كأن يقولوا: هذا هو ذاك.
فإنه إذا اتفق أن لم تكن قد رأيت الشئ قبلا فإن اللذة لا تكون
حينئذ ناشئة عن المحاكاة بل عن الإتمام أو عن اللون أو عن سبب آخر
فأصبح فريق من الشعراء القدامى صناعاً لأناشيد البطولة،
وفريق آخر صناع أهاج. وكما كان هوميروس خير صانع للشعر
الجدى الرصين (لأنه هو وحده كان يقرن سمو الشعر بتمثيلية
المحاكاة)، كذلك كان هو أول من خطط قواعد الكوميديا، فلم
ينظم أهاجى بل مثل المضحك بشعره، فإن نسبة قصيديته «المارجيتيس»
إلى الكوميديات كنسبة الإلياذة والأودسية إلى التراجيديات. ولما
ظهرت التراجيديا والكوميديا جنح الشعراء إلى كل من هذين النوعين
مسوقين بطائعهم الخاصة، فأصبح بعضهم صناع كوميديات عوضاً
عن كونهم صناع أهاج، وأصبح بعضهم الآخر أساتذة للتراجيديا
بعد أن كان أسلافهم شعراء ملاحم، فإن التراجيديا والكوميديا
كانتا شكلين أعظم وأرفع من الشكلين السابقين. ولكن البحث فى
أن التراجيديا قد استكملت كل أنواعها أو تستكملها، وهل
ينظر إلى هذا الموضوع فى ذاته أو بالقياس إلى النظارة — هذه مسألة
وكان أيسخولوس أول من زاد عدد الممثلين من واحد إلى
اثنين، وقلل نصيب الجوقة، وجعل للحوار المقام الأول فى التمثيل،
أما سوفوكليس فزاد عدد الممثلين إلى ثلاثة، وأدخل رسم المناظر.
ثم إن التراجيديا لم تزل حتى اكتسبت الفخامة والرونق تاركة شكل
التمثيلية الساتورية، ومستبدلة الطول والعظم من صغر القصة وسماجة
العبارة. أما العروض فقد تغير من الرباعى (الروخائى) إلى الأيامبى؛
فقد استعمل العروض الرباعى أول ما استعمل لأن الشعر كان
ساتيريا وكان أقرب إلى الرقص فلما أدخل الحوار فى التمثيل اهتدت
الطبيعة نفسها إلى العروض المناسب. فإن العروض الأيامبى هو
٥ — أما الكوميديا فهى — كما قلنا — محاكاة الأدنياء؛ ولكن
لا بمعنى وضاعة الخلق على الإطلاق، فإن «المضحك» ليس إلا قسماً
من القبيح، والأمر المضحك هو منقصة ما وقبح لا ألم فيه ولا إيذاء.
اعتبر ذلك بحال القناع الذى يستخدم فى الإضحاك، فإن فيه قبحاً
والملحمة تتفق مع التراجيديا فى كونها محاكاة للأخيار فى كلام
موزون، وتختلف عنها فى أن الملحمة ذات عروض واحد وأنها
تجرى على طريفة القصص. وهى مخالفة لها فى الطول، فالتراجيديا
تحاول جاهدة أن تقع تحت دورة شمسية واحده، أو لا تتجاوز
٦ — سنتكلم فيما بعد عن الشعر المحاكى ذى العروض السداسى وعن الكوميديا، أما الآن فلنتحدث عن التراجيديا مستخلصين مما تقدم ذكره تعريفها الدال على حقيقها. فالتراجيديا هى محاكاة فعل جليل، كامل، له عظم ما، فى كلام ممتع تتوزع أجزاء القطعة عناصر التحسين فيه، محاكاة تمثل الفاعلين ولا تعتمد على القصص، وتتضمن الرحمة والخوف لتحدث تطهيراً لمثل هذه الانفعالات. وأعنى «بالكلام الممتع» ذلك الكلام الذى يتضمن وزنا وإيقاعا وغناء، وأعنى بقولى تتوزع أجزاء القطعة عناصر التحسين فيه أن بعض الأجزاء يتم بالعروض وحده على حين أن بعضها الآخر يتم بالغناء.
وإذ كانت المحاكاة يقوم بها أناس يعملون فيلزم أولا أن تكون
تهيئة المنظر جزءاً من أجزاء التراجيديا، ويلى ذلك الغناء والعبارة
وبهذه الثلاثة تتم المحاكاة. وأعنى «بالعبارة» نظم الأوزان نفسه.
أما الغناء فلا يخفى معناه على أحد. ثم إذ كانت التراجيديا محاكاة
لفعل، وكان يقوم بها أناس يعملون، وهؤلاء يلزم أن تكون لهم
خصائص ما فى الخلق والفكر (فإننا ننسب إلى الخلق والفكر حينما
نصف الأعمال بصفات ما، وينتج من ذلك أن للأفعال سببين هما
الفكر والأخلاق، وعنهما يحدث كل نجاح وكل إخفاق) فبناء على
ذلك تكون «القصة» هى محاكاة الفعل. وأعنى بالقصة نظم الأعمال،
وبالأخلاق ما ننسب إليه وصفنا للفاعلين بصفات ما، وبالفكر
ما به يدل القائل على شئ أو يثبت رأياً. فيلزم أن يكون لكل
تراجيديا ستة أجزاء هى التى تعين صفتها المميزة: وهى القصة،
والأخلاق، والعبارة، والفكر، والنظر، والغناء. فالوسائط التى
بها تقع المحاكاة جزآن من هذه الأجزاء الستة، وطريقة المحاكاة جزء
وأعظم هذه الأجزاء نظم الأعمال؛ فإن التراجيديا ليست
محاكاة للأشخاص بل للأعمال والحياة، وللسعادة والشقاء، والسعاده
والشقاء هما فى العمل. و«الغاية» هى فعل ما، وليست كيفية ما؛
على أن الكيفيات تتبع الأخلاق، أما السعاده أو ضدها فتتبع الأعمال.
فالتمثيل إذن لا يقصد إلى محاكاة الأخلاق ولكنه يتناول الأخلاق من
طريق محاكاة الأفعال، ومن ثم فالأفعال والقصة هى غاية الترجيديات،
والغاية هى أعظم كل شئ. ثم إنك لا تجد تراجيديا قد خلت من
محاكاة فعل، ولكنك قد تجد تراجيديا خالية من محاكاة الأخلاق،
فإن تراجيديات أكثر المحدثين لا تتناول الأخلاق، وهذه حال كثير
فالقصة إذن هى نواة التراجيديا، والتى تتنزل منها منزلة الروح، وتليها الأخلاق. وشبيه بذلك أمر التصوير: فإن أجمل الأصباغ إذا وضعت فى عير نظام لم يكن لها من البهجة ما لصورة مخططة بمادة بيضاء. فالتراجيديا إذن هى محاكاة لفعل، وهى إنما تحاكى الفاعلين من طريق محاكاة الأفعال.
والعنصر الثالث هو الفكر، وهو القدرة على قول الأشياء
والرابع من الأجزاء التى ذكرناها هو العبارة. وأعنى بالعبارة
— كما قيل من قبل — التعبير بوساطة الكلمات، وقوته، واحدة فى
الكلام المنظوم والمنثور على السواء. أما عن الجزأين الباقيين فالغناء
هو أعظم المحسنات الممتعة فى صنعة التراجيديا، والمنظر— وإن
كان مما يستهوى النفس — فهو أقل الأجزاء صنعة وأضعفها بالشعر
٧ — وإذ قد فرغنا من هذه الحدود فلنبحث كيف ينبغى أن يكون نظم الأعمال، إذ كان ذلك أول شئ وأعظم شئ فى التراجيديا. وقد سبق لنا القول إن التراجيديا هى محاكاة فعل كامل تام له عظم ما، فقد يكون شئ تام ليس بعظيم. والتام — أو الكل — هو ما له مبدأ ووسط ونهاية، والمبدأ هو ما لا يكون بعد شئ آخر بالضرورة، ولكن شيئاً آخر يكون أو يحدث بعده على مقتضى الطبيعة. أما النهاية فهى — على العكس — ما يكون هو نفسه بعد شئ آخر على مقتضى الطبيعة إما الضرورة، أو بحكم الأغلب، ولكن لا يتبعه شئ آخر. والوسط هو ما يتبع آخر ويتبعه آخر أيضاً. فينبغى إذن فى القصص المحكمة ألا تبدأ من أى موضع اتفق ولا تنتهى إلى أى موضع اتفق، بل تصطنع الأشكال التى ذكرناها.
ثم إنه لما كان الشئ الجميل — سواء فى ذلك الكائن الحى أو كل
٨ — والقصة لا تكون واحدة — كما يظن قوم — إذا كانت تدور
حول شخص واحد. فإن الواحد تقع له أمور كثيرة بلا نهاية، لا يعد
شئ منها «واحداً»، وكذلك قد يكون لشخص واحد أفعال كثيرة
لا تكون فعلا واحداً بحال. ومن هنا — فيما يبدو — أخطأ جميع
الشعراء الذين نظموا «قصة هرقليس» أو «قصه ثيسيوس» أو ما شابههما
من المنظومات، ظناً منهم أنه مادام هرقليس واحداً فيلزم من ذلك
أن قصة هرقليس واحدة. ولكن هوميروس يبدو هنا — كما امتاز فى
سائر الأمور — صائب النظر إما صناعة أو فطرة. فهو حين نظم
الأوديسية لم ينظم كل ما اتفق لأوديسيوس، كإصابته بجرح فى
البارناسوس أو ادعائه الجنون عند احتشاد الجمع، فإن إحدى
هاتين الحادثتين لا تتبع الأخرى بالضرورة أو بمقتضى الرجحان؛
ولكنه نظم الأوديسية حول فعل واحد على ما ذكرنا، وكذلك
صنع بالألياذة. فكما أنه سائر الفنون المحاكية تكون المحاكاة الواحدة
لموضوع واحد، كذلك يجب فى القصة — من حيث هى محاكاة
عمل — أن تحاكى عملا واحداً وأن يكون هذا العمل الواحد تاماً،
وأن تنظم أجزاء الأفعال بحيث أنه لو غير جزء ما أو نزع لانفرط
الكل واضطرب، فإن الشئ الذى لا يظهر لوجوده أو عدمه أثر
٩ — وظاهر مما قيل أيضاً أن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع
بل ما يجوز وقوعه وما هو ممكن على مقتضى الرجحان أو الضرورة؛
فإن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منثور
(فقد تصاغ أقوال هيرودوتس فى أوزان فتظل تاريخاً سواء وزنت
أم لم توزن) بل هما يختلفان بأن أحدهما يروى ما وقع على حين أن
الآخر يروى ما يجوز وقوعه. ومن هنا كان الشعر أقرب إلى الفلسفة
وأسمى مرتبة من التاريخ؛ لأن الشعر أميل إلى قول الكليات،
على حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات. والكل هو ما يتفق
لصنف من الناس أن يقوله أو يفعله فى حال ما على مقتضى الرجحان
أو الضرورة، وذلك ما يقصده الشعر حين يضع الأسماء للأشخاص؛
أما الجزئى فهو — مثلا — ما فعله ألكبياديس أو ما حل به. وبين أن
ذلك هو ما حدث فى الكوميديات: فإن الشاعر بعد أن ينظم القصة
على ما يقتضيه الرجحان يضع لها الأسماء المناسبة، لا كما كان الشعراء
الأيامبيون يقولون الشعر فى أفراد الناس. أما فى التراجيديات فإن
الشعراء يتمسكون بالأسماء الواقعة. وسبب ذلك أن الممكن هو
مقنع، وما لم يقع فلسنا نصدق بعد أنه ممكن، أما ما وقع فبين أنه
وأردأ القصص والأفعال جميعاً هو ما كان مقطعاً. وأعنى بالقصة المقطعة تلك التى تتتابع قطعها على غير مقتضى الرجحان أو الضرورة. والشعراء الضعفاء يصنعون هذه الأشعار منقادين لطبعهم، أما الشعراء الحذاق فيصنعونها متبعين للمثلين، فإنهم كثيراً ما يضطرون إلى أن يجوروا على التسلسل الطبيعى حين يدخلون فى المسابقات ويمدون القصة أكثر مما تطيق. على أنه لما كانت المحاكاة ليست لعمل كامل فحسب بل لأمور تحدث الخوف والشفقة، وأحسن ما يكون ذلك حين تأتى هذه الأمور على غير توقع، وتكون مع ذلك مسببة بعضها عن بعض، فإنها تحدث — على هذا الوجه — روعة أعظم مما تحدثه لو وقعت من تلقاء نفسها أو بمحض الاتفاق. فإن الأمور التى تقع بمحض الاتفاق تبدو أشد إثارة للروعة أيضاً على قدر ما يبدو أنها وقعت عن قصد. وذلك كما سقط تمثال ميتوس فى أرجوس على من كان سبباً لموت ميتوس فقتله، بينما كان يشهد حفلا، فمثل هذه الأمور يبدو أنها غير راجعة إلى المصادفة. فيلزم إذن أن تكون القصص التى تجرى على هذا النحو أجود وأبرع.
١٠ — ومن القصص ما يكون بسيطاً ومنها ما يكون معقداً. فإن الأفعال — والقصص محاكيات لها — توجد بمثل هذين الحالين. وأعنى بالفعل البسيط ذلك الذى يكون حدوثه — كما سبق أن حددنا — متصلا وواحداً، ويقع فيه التغير دون انقلاب أو تعرف. أما الفعل المعقد فهو ما يكون فيه التغيير بانقلاب أو بتعرف أو بهما معاً. وينبغى أن ينتج الانقلاب والتعرف من نظم القصة نفسه، بحيث يقعان مترتبين على الأمور السابقة فى القصة، إما على طريق الضرورة أوعلى طريق الرجحان. وفرق كبير بين أن تكون هذه بسبب تلك، وأن تكون بعد ذلك.
١١ — والانقلاب هو التغير إلى ضد الأعمال السابقة، ويكون
على سبيل الرجحان أو بطريق الضرورة، مثال ذلك أن الرسول
الذى يجئ إلى أوديبوس فى تراجيدية «أوديبوس» ليبشره ويخلصه
من خوفة على أمه لا يكاد يظهر من هو حتى يأتى بضد ما أراد.
وكذلك فى تراجيدية لنقيوس إذ يقاد لنقيوس إلى الموت ويتعبه داناوس
أما التعرف فهو — كما يدل عليه اسمه — التغير من جهل إلى معرفة، تغيراً يفضى إلى حب أو كره بين الأشخاص الذين أعدهم الشاعر للسعادة أو للشقاء. وأحسن التعرف ما اقترن بالانقلاب، كما هو الشأن فى قصة «أوديبوس». وثمة أنواع أخرى من التعرف. فقد يقع ذلك فى الجهادات حتى أهونها شأناً. ومن التعرف أيضاً أن يعلم أن شخصاً قد فعل أمراً أو لم يفعله. ولكن التعرف الأليق بالقصة والفعل هو ذلك الذى ذكرناه. فإن ذلك التعرف والانقلاب يحدث شفقة أو خوفاً، والأفعال التى تحدث الشفقة أو الخوف هى ما تعتمد التراجيديا محاكاته. ثم إن الشقاء والسعادة يحصلان من مثل هذه الأفعال. وإذا كان التعرف بين أشخاص فقد يحدث من واحد للآخر فقط، وإذا كان أحدهما يعرف صاحبه، وربما وجب أن يتعرف كلاهما الآخر، كما أن أورستيس عرف إيفيجانيا من إرسال الكتاب، غير أنه كان يلزم تعرف آخر من إيفيجانيا لأورستيس.
فللقصة جزءان يدوران حول مثل هذه الأشياء، وهما الانقلاب والتعرف، والتأثير جزء ثالث. وقد تكلمنا فى الانقلاب والتعرف، أما التأثير فهو فعل يتضمن الموت والعذاب، كأفعال الموت على المسرح وكالآلام الشديدة والجراح وما إلى ذلك.
١٢ — قد تقدم لنا القول فى أجزاء التراجيديا التى ينبغى أن تستعمل على أنها أشكال، أما الأجزاء المتميزة التى تنقسم إليها التراجيديا بحسب الكمية فهى هذه: المقدمة، القطعة، الخروج، غناء الجوقة: وهذا الجزء الأخير قسمان: العبور والوقفة. وهذه الأجزاء عامة لجميع التراجيديات، ويختص بعضها بغناء المسرح والانتحاب. فالمقدمة جزء تام من الترجيديا، يسبق عبور الجوقة، والقطعة جزء تام من الترجيديا يتوسط أغنيتين تامتين للجوقة والخروج جزء تام من الترجيديا لا يكون بعده غناء للجوقة، والعبور — فى غناء الجوقة — هو أول كلام تام للجوقة، والوقفة هى غناء الجوقة الذى يخلو من الأوزان الأنابستية والأوزان التروخائية، والانتحاب غناء حزين تشترك فيه الجوقة ومن على المسرح.
قد تقدم لنا القول فى الأجزاء التى ينبغى أن تستعمل فى التراجيديا، وهذه هى الأجزاء المتميزة التى تنقسم إليها بحسب الكمية.
١٣ — أما ما ينبغى توخيه وما ينبغى توقيه عند نظم القصص،
وكيف يكون للتراجيدايا فعلها الخاص، فهذا ينبغى أن يتكلم فيه تبعاً
لما قلناه الآن. فيما أن أجمل التراجيديات هى ما كان نظمها معقداً
لا بسيطاً، وما كانت محاكية لأمور تحدث الخوف والشفقة (لأن
ذلك هو خاصة هذا الضرب من المحاكاة)، فظاهر أولا أنه لا ينبغى
إظهار أناس طيبين تتغير حالهم من سعادة إلى شقاء، لأن هذا لا يحدث
خوفاً ولا شفقة بل يحدث غيظاً وحزناً؛ ولا إظهار أناس خبيثين
يستبدلون من بؤس نعمى، فإن هذا أبعد شئ من التراجيديا،
لأنه لا ينطوى على عاطفة إنسانية من خوف أو شفقة، فهذه تنصرف
إلى من لا يستحق الشقاء عندما يشقى، وذاك ينصرف إلى الشبيه:
الشفقة تنصرف إلى من لا يستحق الشقاء، والخوف ينصرف إلى من
يشبهنا، فهذا الذى وقع — إذن — لا يحدث شفقة ولا خوفاً. فيبقى
فيلزم إذاً لتكون القصة جميلة أن تكون مفردة الغرض،
لا مزدوجته كما يزعم قوم، وأن تتغير لا من شقاء إلى سعادة بل —
على العكس — من سعادة إلى شقاء، لا بسبب الخبث والشر بل
بسبب زلة عظيمة، لمثل من ذكرناهم من الأشخاص أو لأفضل منهم،
لا لشر منهم. والواقع يدل على ذلك. فقد كان الشعراء أولا يتناولون
ما يتفق لهم من القصص بمحض المصادفة، أما الآن فإن أجمل
التراجيديات تنظم حول أسر قليلة، فتنظم مثلا حول ألكمايون
وأوديبوس وأورستيس وملياجرس وثواستيس وتليفوس وما وقع
لمثل هؤلاء من الأمور رهيبة احتملوها أو فعلوها. فأجمل التراجيديات
من حيث الصناعة هى ما روعيت فى نظمها هذه القواعد. ومن هنا
يخطئ من يعيبون أورييديس بأنه يفعل ذلك فى التراجيديات وأن
كثيراً من تراجيدياته ينتهى إلى شقاء، فهذا — كما قلنا — صائب مستقيم.
وأعظم دليل على ذلك أن مثل هذه التراجيديات حين تمثل على
المسرح وحين تعرض فى المسابقات تظهر أقرب إلى معدن التراجيديا
والطريقة الثانية فى النظم — وبعض القوم يفضلها — هى ما كان نظمها مزدوجاً، كما فى الأوديسية، وانتهاؤها، بالقياس إلى الأخيار والأشرار، على خلاف ما سبق. وإنما يبدو أن هذه الطريقة أفضل لضعف المشاهدين، فإن الشعراء يتبعون فيما يصنعونه أذواق النظارة. وليست هذه هى اللذه التى تلتمس من صناعة التراجيديا، بل هى ألصق بالكوميديا، فهنا يفترق الأشخاص الذين كانوا فى القصة أعداء ألذاء، مثل أورستيس وإيجيستوس، يفترقون وقد أصبحوا أصدقاء، ولا يقتل أحد أحداً.
١٤ — والخوف والشفقة قد يحدثان عن المنظر المسرحى،
وقد ينتجان من نظم الأفعال، وهو أفضل الأمرين وأدلهما على حذق
الشاعر. فإنه يجب أن تنظم القصة غير معتمدة على النظر، حتى
إذا سمع المرء الأمور التى تجرى أخذته الرعدة أو هزته الشفقة،
كما يحدث لمن يسمع قصة أوديبوس. أما التوصل إلى ذلك بوساطة
المنظر فليس فيه شئ من الصنعة، ثم هو يحتاج إلى نفقة كثيرة.
فأولئك الذين إنما يتوصلون بالنظر إلى إحدث الاستبشاع — لا
وحسبنا ما قلناه فى نظم الأعمال وما ينبغى أن تكون عليه القصة.
١٥ — أما فى الأخلاق فينبغى أن تعتمد أمور أربعة: فأحدها —
وأولها — أن تكون حسنة. والمرء يكون ذا خلق إذا كانت أقواله أو أفعاله
تدل على اختياره، ويكون ذا خلق حسن إذا كان اختياره حسناً. وهذا هو
الشأن فى كل جنس: فقد يكون للمرأة والعبد خلق حسن، على أن
المرأة ليست شريفة جداً، والعبد ليس شريف على الإطلاق. والأمر
الثانى هو أن تكون مناسبة. فالرجولة خلق يوجد للرجال، ولكن
المرأة لا يناسبها أن تكون ذات رجولة. والأمر الثالث هو أن تكون
الأخلاق شبيهة بالواقع، وهذا غير كونها حسنة أو مناسبة كما قيل.
والأمر الرابع هو أن يكون الخلق سوياً. فإذا كان المرء الذى يقصد
بالمحاكاة غير سوى وكان متصفاً بهذا الخلق فينبغى أيضاً أن يكون
سوياً فى عدم استوائه. فمثال الخلق الوضيع فى غير ضرورة خلق
منلاوس فى «أورستيس»؛ ومثال الخلق غير المناسب توجع أوديسيوس
وينبغى فى الأخلاق ما ينبغى فى نظم الأعمال من التزام الضرورى
والراجح دائماً، بحيث يكون المرء الذى له خلق ما جارياً فى أقواله
وأفعاله على مقتضى الضرورة أو الرجحان، كما يكون حدوث
أمر بعد آخر جارياً على مقتضى الضرورة أو الرجحان. وبين من ذلك
أن نهاية القصص ينبغى أن تصدر عن القصة نفسها لا عن حيلة مسرحية
كما فى تراجيدية «ميديا»، أو كرجوع السفن فى «الإلياذة»، فينبغى
إلا تستعمل الحيلة المسرحية إلا فى الأمور الخارجية عن حدود التمثيلية
والواقعة قبلها، والتى لا يكون للمرء سبيل إلى معرفتها، أو فى الأمور
التالية التى يحتاج إلى التنبؤ بها وإعلأنها، فإننا ننسب إلى الآلهة أنهم
وبما أن التراجيديا هى محاكاة لأناس أفضل ممن نعرف فينبغى أن يصنع بها مثل صنيع المصورين الحذاق فى صورهم، فهؤلاء — مع اعتمادهم أداء هيئة من يحاكون — يصورونهم شبيهين بالواقع وإن كانوا أجمل منه. وكذلك يجب على الشاعر حين يحاكى أناساً سريعى الغضب أو بليدى الحس أو بأخلاقهم عيب كهذين — يجب عليه أن يصورهم كذلك وإن جعلهم أحسن مما هم، كما صور أجاثون أو هوميروس خلق أخيل. هذا ما ينبغى أن يلاحظ، وينبغى أن يراعى معه عمل الحواس الذى يرتبط ضرورة بصنعة الشعر. فكثيراً ما يقع الخطأ فيه. وقد تكلمنا فى ذلك كلاماً كافياً فى مقالاتنا التى أذعناها.
١٦ — قد بينا فيما سبق أى شئ هو التعرف. وأول أنواع
التعرف وأقلها براعة وأكثرها أن يستعمل لضعف الفكر، هو
التعرف بالعلامات. ومن العلامات ما يكون طبيعياً مثل «الحربة التى
تظهر فى أجسام بنى الأرض» أو النجوم التى فى «ثواستيس»، تراجيدية
والنوع الثانى هو ما يفتعله الشاعر، ومن أجل ذلك يكون خالياً من الصنعة، كما يعرف أورستيس فى «إيفيجانيا» حين يعلن أنه أورستيس وتعرف إيفيجانيا بكتابها، ولكن أورستيس إنما يعلن ما يريده الشاعر، لا ما تريده القصة. وهذا الضرب من التعرف قريب من ذلك الذى وصفته بالخطأ، لأن أورستيس كان يستطيع أن يظهر بعض العلامات فى جسمه. ومن ذلك صوت عصا الحائك فى تمثيلية «تيرى» لسوفوكليس.
والنوع الثالث ما يكون بالتذكر، كأن يرى الإنسان شيئاً فيحصل
له إحساس، كما فى «القبرصيون» لديكايوجينوس، فإن شخصاً يدمع
لرؤية صورة، وكذلك فى حكاية ألكينوس فإن أوديسيوس يتذكر
ويدمع حين يسمع الضارب على القيثار. والنوع الرابع هو التعرف
وأفضل هذه الأنواع جميعاً هو التعرف الذى ينشأ من الأعمال
نفسها، فإن الدهشة تحدث عندئذ من طريق المعقول، كما فى
«أودييوس» و«إيفيجانيا» لسوفوكليس؛ فإنه من المعقول أن تريد
إبفيجانيا أن تبعث بكتاب. فمثل هذا التعرف؛ دون غيره — يستغنى
١٧ — وينبغى للشاعر حين ينظم قصصه ويتممها بالعبارة أن يتمثلها بعينه على قدر ما يستطيع. فإنه حين يرى الأشياء أوضح ما تكون، وكأنه كان شاهداً الأعمال نفسها، يجد ما يليق بها ولا يغيب عنه شئ من ضد ذلك. ودليل ذلك ما نقد به كاركينوس فإن «أمفياراوس» يصعد من الهيكل، ومن لا يشهد المنظر لا يتنبه لذلك، ولكن القصة سقطت على المسرح إذ لم يحتمل النظارة ذلك.
وكذلك ينبغى أن يتم الشاعر — حهد طاقته — عمله بالإشارات، فإن أقدر الناس على التأثير — إذا تماثلت الطبائع — هم من يكونون فى حال الانفعال، والهائج والغاضب يهيجان ويغضبان بأعظم ما يكون من الصدق. ومن أجل ذلك كان الشعر نابعاً عن موهبة أو عن ضرب من الجنون، فالموهوبون يحسنون أن يلبسوا لبوساً مختلفة، والآخرون لا يصعب عليهم أن يخرجوا عن طورهم.
وينبغى للشاعر سواء أكان الموضوع الذى يتناوله قديماً أم مبتدعاً،
أن يبدأ بتخطيط عام له ثم يفصل قطعه ويمد أطرافه. وأعنى بالتصور
ثم إذا فرغ من وضع الأسماء من بعد فينبغى أن تتناول القطع
فينظر فى كونها مما ينتمى إلى الموضوع؛ فثمة فى أمر أورستيس مثلا:
جنونه الذى أدى إلى أخذه، والتطهيرالذى أفضى إلى خلاصه. والقطع
فى التمثيليات قصار أما الملاحم فتكتسب بفضلها طولا. فإن الموضوع
فى الأوديسية غير طويل: فهو أن رجلا غاب عن وطنه سنين طوالا
وظل يوسيدون يترصده حتى وجد نفسه وحيداً، واتفق من حال
بيته أن الخطاب كانوا يأكلون ماله ويأتمرون بابنه. فيعود بعد أن تقاذفته
١٨ — وفى كل نراجيديا عقدة وحل. فالأمور التى تقع خارج التراجيديا وبعض الأمور التى تقع داخلها هى العقدة، وسائرها فهو الحل. وأعنى بالعقدة ما يكون من البدء إلى ذلك الجزء الذى يحدث منه التحول إلى سعادة أو إلى شقاء. وبالحل ما يكون من بدء التحول إلى النهاية. فالعقدة فى «لنقيوس» لثيودكتس مثلا هى كل الأفعل المتقدمة على التمثيلية، وأخذ الطفل، ثم ... والحل ما كان من بدء الاتهام بالقتل حتى النهاية.
وللتراجيديا أربعة أنواع، وهى التى قلنا أنها أجزاؤها: فمنها
المعقدة التى تقوم كلها على الانقلاب والتعرف، ومنها الانفعالية
كتراجيديات «أياس» و«إكسيون»، ومنها الأخلاقية كتراجيديات
«نساء فثيا» و«بيليوس». والنوع الرابع... مثل تراجيديات «بنات
فوركيس» و«بروميثيوس» وسائر التراجديات التى تجرى
مناظرها فى هادس (الجحيم). والخير أن يجمع الشاعر بين ذلك كله،
وليس من الصواب فى شئ أن يقال إن هذه التراجيدية غير تلك
أو إنها هى هى اعتماداً على أن القصة واحدة اومختلفة، بل يصح ذلك
إذا كانت العقدة واحدة والحل واحداً. وكثير من الشعراء يحسنون
العقدة ولا يحسنون الحل، ولكن كليهما ينبغى أن يكون جديراً
بالاستحسان. كذلك يجب أن يتذكر ما قلناه مرات كثيرة من أن نظم
التراجيديا لا ينبغى أن يصنع على مثال الملحمة، وأعنى بمثال الملحمة
ما كان متعدد القصص، كما لو صنع إنسان من الإلياذة كلها قصة
تراجيدية. فإن طول الملحمة يتيح لكل جزء أن يستوفى حظه من
العظم، أما فى التمثيليات فإن هذه الأجزاء تقع مبهمة بعيدة عن
الإدراك. ودليل ذلك أن من صنعوا تراجيديات شاملة لأمر خراب
إيليون كله، بدل أن يصنعوها فى جزء منه كما ما صنع أوريبيديس
فى «نياوبى»، أو كما صنع أيسخيلوس، هؤلاء إما أن يسقطوا
أو يتأخروا فى المسابقات؛ فإن أجاثون إنما سقط لهذا السبب وحده،
أما أمثلة الانقلاب وأما الأفعال البسيطة فقد أصاب فيها مواقع الاستحسان
وجاء فى ذلك بما يروع. وذلك أنها تجمع بين الشعور التراجيدى
وبين العاطفة الإنسانية، كما يحدث حين ينخدع الرجل الحصيف
اللئيم — مثل سيسيفوس — أو يغلب الشجاع الظالم. فهذا — على قول
أما الجوقة فيجب أن تعتبر كواحد من المثلين، فتكون جزءاً داخلا فى الكل، وتشترك فى التمثيل لا كما عند أوريبيديس بل على طريقة سوفوكليس. ولكن أغانى الجوقة عند أكثر الشعراء ليست أكثر تعلقاً بالقصة منها بتراجيدية أخرى، فهى إنما تغنى لتفصل التمثيل، وكان أجاثون أول من ابتداً هذه الطريقة، ولكن أى فرق بين أن يجعل الغناء فواصل وبين أن ينقل حديث أو قطعة كاملة من تمثيلية إلى أخرى؟
١٩ — وقد بقى أن نتكلم فى العبارة والفكر بعد أن فرغنا من
الكلام على الأجزاء الأخرى. أما الحديث عن الفكر فمحله المقالات
الخاصة بالخطابة، فإنه أخص بذلك البحث. وكل ما عبر عنه باللغة فهو من
قبيل الفكر. وأجزاؤه: الإثبات، والمناقضة، وإثارة الانفعالات
والخوف والغضب وغيرها، والتعظيم والتحقير. وظاهر أن هذه
الأشكال نفسها ينبغى أن تتخذ فى الأعمال أيضاً، حين يراد أن تهيأ
هيئة تدعو إلى الإشفاق أو الفزع أو التعظيم أو القبول. ومبلغ الفرق
أن التأثيرات التى يتوصل إليها بالأعمال ينبغى أن تظهر بدون دلالة
لفظية، أما التأثيرات التى تكون بالكلام فينبغى أن بعدها المتكلم، وأن
تنتج عن الكلام. فماذا عسى أن يكون عمل المتكلم إذا ظهرت الأفكار
ومن بين المسائل التى تتصل بالعبارة مسألة أشكال العبارة، ولكز هذا الباب يخص صنعة الإلقاء وأربابها. فمما يتناوله معرفة ما الأمر وما الدعاء وما الخبر وما الوعيد وما الاستفهام إلى نحو ذلك. ولا عبرة بالنقد الذى يوجه إلى الشاعر بناء على علمه أو جهله بهذه الأمور.
فمنذا الذى يسلم بأن الشاعر أخطأ فى ذلك الموضوع الذى نقده عليه بروتاجوراس، وهو أنه جعل الكلام فى صورة أمر وهو يحسب أنه دعاء حين قال: «غنى أيتها الآلهة غضب أخيل»؟ فإن الطلب لفعل شئ أو تركه هو — على قول ذلك الناقد — أمر. فلندع هذا البحث الذى ينتمى إلى صناعة غير الشعر.
٢٠ — هذه هى الأجزاء الداخلة فى العبارة بوجه عام: الخرف، والمقطع، والرباط، والاسم، والفعل، والتصريف، والكلام.
فالحرف صوت لا ينقسم، ولكن ليس كل صوت لا ينقسم
بل ذلك الذى يمكن أن ينشأ منه صوت مركب. فإن للبهائم أصواتاً غير
والمقطع صوت غير دال، مركب من حرف صامت وحرف صائت، فإن الجيم والراء بدون ألف هما مقطع، ومع الألف هما مقطع كذلك — ΓΡΑ. ولكن البحث فى هذه الفروق أيضاً هو مما يخص صناعة الأوزان.
والرباط لفظ غير دال، لا يمنع ولا يسبب الصوت الواحد المركب من أصوات كثيرة، ويوضع فى الطرفين أو فى الوسط، أو صوت غير دال يمكن أن يركب من أصوات كثيرة — كل منها دال — صوتاً واحداً دالا. مثل ἀμφὶ و (περὶ ونحوهما. أو صوت غير دال يشير إلى ابتداء جملة أو انتهائها أو تفصيلها، ولا يصلح أن يستقل بنفسه فى أول الجملة، مثل μὲν و (ἤτοι و (δέ
والاسم صوت مركب، دال، لا يتضمن الزمان، وليس لجزء من أجزائه دلالة بمفرده. فإن الاسم المركب لا يستعمل جزء من أجزائه على أنه دال بمفرده، فالهبة مثلا غير معنية بكلمة δϖρος من Θεόδωρος (هبة الله).
والفعل صوت مركب، دال، يتضمن الزمان، ولا يدل جزء من أجزائه على انفراده كما فى الأسماء. ف«رجل» و«أبيض» لا يدلان على الزمان، أما «يمشى» و«مشى» فيتضمنان الدلالة على الزمان، فالأول يدل على الزمن الحاضر والآخر يدل على الزمن الماضى.
والتصريف للاسم والفعل يدل على علاقة «له» أو «إليه» ونحوهما، أو على المفرد والجمع، كالأناسى والإنسان، أو على السؤال أو الطلب، فقولك «هل مشى؟» أو «ليمش» هو تصريف الفعل وهذه هى أحواله.
والكلام هو صوت مركب دال، بعض أجزائه يدل على انفراده، إذ ليس كل كلام مركباً من أفعال وأسماء — كحد الإنسان مثلا، فقد يكون كلام بدون أفعال. على أنه لايخلو أبداً عن جزء دال، مثل «كليون» فى قولك «كليون يمشى». والكلام يكون واحداً على ضربين: إما بأن يدل على أمر واحد، وإما بأن يؤلف من أقوال كثيرة، فالإلياذة مثلا واحدة بالتأليف، وحدا لإنسان واحد بدلالته على أمر واحد.
٢١ — وأنواع الاسم هى: الاسم البسيط، وأعنى بالبسيط
ما لم يكن مركباً من أجزاء دالة، مثل γῆ (أرض). والاسم
المضاعف، ومنه ما يتركب من جزء دال وجزء غير دال، كما أن
وكل اسم فإما أصيل أو لغة أو استعارة أو زينة أو موضوع أو ممدود أو مقصور أو مغير. وأعنى بالأصيل ما نستعمله كلنا، وباللغة ما يستعمله أهل بلد آخر، وبين من ذلك أن فى قوة الاسم أن يكون أصيلا وأن يكون لغة، ولكن لا للأشخصاص أنفسهم، فكلمة σίγυνον (رمح) أصيلة عند أهل قبرص ولغة عندنا.
والاستعارة هى نقل اسم شئ إلى شئ آخر، فإما أن ينقل من
الجنس إلى النوع، أو من النوع إلى الجنس، أو من نوع إلى نوع،
أو ينقل بطريق المناسبة. أعنى بنقل اسم الجنس إلى النوع مثل قوله:
«هذه سفينتى قد وقفت» فإن الرسو ضرب من الوقوف. وبنقل
اسم الجنس إلى النوع مثل: «أما لقد فعل أوديسيوس عشرة آلاف
مكرمة» فإن «عشرة آلاف» كثيرة، وهى مستعملة هنا بدلا من
وأقول إن هناك مناسبة إذا كانت نسبة الاسم الثانى إلى الأول
كنسبة الرابع إلى الثالث، فيصح عندئذ أن يستعمل الرابع بدلا من
الثانى والثانى بدلا من الرابع، وربما زادوا على ذلك فذكروا بدلا
من الشئ الذى هو موضوع القول ما ينسب إليه هذا الشئ.
أعنى — مثلا — أن نسبة الكأس إلى ديونيسوس كنسبة الدرع إلى آرس،
فيسمى الكأس «درع ديونيسوس» وتسمى الدرع «كأس آرس»،
ونسبة الشيخوخة إلى العمر كنسبة المساء إلى النهار، فيسمى المساء شيخوخة
النهار» وتسمى الشيخوخة «مساء العمر»، أو «مغرب العمر» كما يقول
أمبدوكليس. وربما كان بعض المتناسبات غير موضوع له اسم،
فهنا أيضاً نعبر بالمناسب. فإلقاء الحب فى الأرض يسمى بذراً، أما إلقاء
الشمس بنورها علينا فليس له اسم يدل عليه، ولكن نسبة هذا الفعل
إلى الضوء هى كنسبة البذر إلى الحب، فلذلك قيل: «تذر نورها
والاسم الموضوع هو الذى لم يسبق لأحد استعماله فى هذا المعنى، بل جاء به الشاعر من عنده، ويبدو أن ثمة كلمات من هذا القبيل، مثل ἔρνυγας (النابتة) للقرون و ἀρητήρ (المتضرع) للكاهن... والاسم الممدود أو المقصور هو ما بولغ فى مد حرف صائت فيه، أو زيد فيه مقطع، أو ما اقتطع منه شئ. فمن الممدود مثلا: πόληος بدلا من πόλεως و (Πηληιάδεω بدلا من (Πηλείδου. ومن المقصور κρῖ و δῶ) و ὄψ) كما فى μία γίνεται ἀμφοτέρων ὄψ، ويكون الاسم مغيراً إذا احتفظ بجزء منه وغير جزء آخر، كما فى δεξιτερὸν κατὰ μαζόν بدلا من δεξιὸν
والأسماء أنفسها منها المذكر والمؤنث والمتحايد، فما كان منتهياً
بالنون أو الراء أو السين Σ، Ρ، Ν أو ما يتركب من السين
(وهما الحرفان Ψ و Ξ) فهو مذكر، وما كان منتهياً بحرف من
الحروف الصائتة التى تمد دائماً كإلاى والأو أو التى تقبل
المد كالآ فهو مؤنث. فينتج أن المذكر والمؤنث متساويان فى عدد الحروف
التى ينتهيان بها، لأن المركبين من السين لا يخرجان عن كونهما سينا.
ولا ينتهى اسم من الأسماء بحرف صامت ولا بصائت قصير، وإنما
٢٢ — وجودة العبارة فى أن تكون واضحة غير مبتذلة.
فالعبارة المؤلفة من الأسماء الأصيلة هى أوضح العبارات، ولكنها
مبتذلة، ومن أمثلتها شعر كليو فون وستانلس. وأما العبارة السامية الخالية
من السوقية فهى التى تستخدم ألفاظاً غير مألوفة. وأعنى بالألفاظ غير
المألوفة: الغريب والمستعار والممدود وكل ما بعد عن الاستعمال.
ولكن العبارة التى تؤلف كلها من هذه الكلمات تصبح لغزاً أو رطانة،
فملؤها بالاستعارات يجعل منها لغزاً، وملؤها بالغريب يجعل منها
رطانة، فإن حقيقة اللغز هى قول أمور واقعة مع التأليف بيها على
وجه يجعلها مستحيلة. وليس يمكن ذلك بالتركيب العادى للألفاظ
«ما كان محباً لخريقه». οὐκ ἄν γ᾽ ἐράμενος τὸν ἐκεῖ νον ὀλλέβορον
وإنه لمضحك أن يبدو الشاعر مستخدماً لهذه الطريقة فى قريب من
هذا، ولكن الاعتدال أمر واجب فى جميع الأجزاء، فإنك قد تحدث
هذا الأثر بعينه باستخدام الاستعارات والألفاظ الغريبة والأنواع
الشبيهة بهذين استخداماً غير لائق لقصد الإضحاك. وما أبعد هذا عن
فوضع أويبيديس «تنهش» (Θουνᾶται) فى مكان «تأكل» (ἐσθίει) وكذلك البيت:
«والآن قد أمسى ضئيلا عاجزا منخوباً».
لو قلته مغيراً بكلمات مستعملة لأصبح: «والآن قد أمسى صغيراً ضعيفاً مهدماً». وكذلك:
«بعد أن جاء بكرسى زرى وتلاه بخوان ساذج»: لو غيرته لقلت: «بعد أن جاء بكرسى حقير وخوان صغير».
وكذلك لو أبدلت «والشطآن تزأر» لقلت: «والشطآن تصيح»
وكان أريفراديس يهزأ بالشعراء التراجيديين لأنهم يستعملون عبارات لا ترد فى الحديث قط، مثل قولهم: «عن المنازل بعيداً» بدلا من «بعيداً عن المنازل» ومثل: σέθειν و ἐγέ δὲ νιν وقولهم: «أخيل ما فى شأنه» لا «ما فى شأن أخيل» وما يجرى هذا المجرى. على أن مجئ هذه الأساليب على خلاف العادة فى الاستعمال هو الذى يجعلها تنأى بالعبارة عن الابتذال، ولكن أريفراديس ما كان يشعر بذلك.
ومن المهم أن تراعى المناسبة فى استعمال كل من هذه الأنواع التى ذكرناها، وفى استعمال الكلمات المضاعفة والغريبة؛ ولكن أعظم هذه الأساليب حقاً هو أسلوب الاستعارة؛ فإن هذا الأسلوب وحده هو الذى لا يمكن أن يستفيده المرء من غيره، وهو آية الموهبة، فإن إحكام الاستعارة معناه البصر بوجوه التشابه.
والمضاعفة من الأسماء أليق بالشعر الدثورمبى وشعر الملاحم،
والاستعارات أليق بالشعر الأيامبى. وكل الأنواع التى ذكرناها
وحسبنا الآن ما قلناه فى التراجيديا والمحاكاة التمثيلية.
٢٣ — أما عن صنعة المحاكاة التى تقوم على السرد الروائى
وتصاغ فى الكلام منظوم فبين أن القصة يجب أن تنظم نظماً يعتمد على
الحركة والعمل كما فى التراجيديات، وإن تدور حول فعل واحد تام
مكتمل له أول ووسط وآخر، حتى تكون كالحيوان الواحد التام
فتحدث اللذة الخاصة بها. وينبغى ألا يكون نظم الحوادث كما فى
التاريخ، حيث يلزم ألا يمثل فعل واحد بل زمن واحد، فتستقصى
الحوادث التى وقعت فى هذا الزمن لفود أو لجماعة، والتى لا ترتبط
بعضها ببعض إلا ارتباطاً عارضاً. فكما أن معركة سالاميس البحرية
وحرب القرطاجنيين فى صقلية قد وقعا فى زمان واحد، دون أن
يتجها إلى غاية واحدة، فكذلك الحال فى الأزمنة المتتابعة، فقد يقع
٢٤ — ثم ينبغى أن يكون للشعر الملحمى من الأنواع مثل ما للتراجيديا، فيكون بسيطاً أو معقداً أو أخلاقياً أو انفعالياً. والأجزاء هى بعينها أجزاء التراجيديا ما خلا الغناء والمنظر، فإن الملحمة تحتاج إلى انقلاب وتعرف وأمور مشجية. ثم ينبغى أن يكون الفكر والعبارة فيها جميلين. وقد كان هوميروس أول من استعمل ذلك كله ووفاه، فإن كلتا قصيدتيه مركبة: أما الإلياذة فبسيطة وانفعالية، وأما الأوديسية فمعقدة (لأنها مملوءة بمناظر التعرف) وأخلاقية. وعدا ذلك فالفكر والعبارة لا يباريان.
ولكن الملحمة تخالف التراجيديا من حيث عظم بنائها ومن حيث وزنها. فأما العظم فقد بينا من قبل حده المناسب وهو أن يستطيع النظر إدارك أوله وآخره معاً، ويتحقق ذلك إذا كانت الملاحم أقصر من ملاحم القدماء، وكانت مناسبة فى طولها لمجوع التراجيديات التى تعرض فى جلسة واحدة.
على أن الملحمة تمتاز خاصة بقبولها لأن تمتد أبعادها، وسبب ذلك أنه لا يستطاع فى التراجيديا محاكاة أجزاء كثيرة فعلت فى وقت واحد، بل يجب أن يوقف عند الجزء الذى يجرى على المسرح وبين الممثلين؛ أما الملحمة فيمكن — بفضل أسلوبها الروائى السردى — أن يؤتى فيها بأجزاء كثيرة تفعل فى وقت واحد، وهذه الأجزاء إذا أحكم ربطها بالموضوع زادت القصيدة بهاء. وامتياز الملحمة من هذه الناحية يفضى إلى امتيازها بروعة التأثير والتنقل بالسامع وتخفيف القصة بلواحق مختلفة، فإن التشابه سرعان ما يحدث السأم ويؤدى بالتراجيديات إلى السقوط.
أما عن العروض فقد أثبت الوزن السداسى — أو الملحمى — صلاحه بحكم التجربة. فلو أن قصيدة روائية نظمت فى وزن آخر أو فى جملة أوزان لبدت نافرة قلقة؛ ذلك بأن الوزن السداسى هو أرزن الأوزان وأبهاها، وأنه أكثر قبولا للغريب والاستعارة، وهما بعض ما تتميز به المحاكاة الروائية. أما الوزن الأيامبى والوزن التروخائى فوزنان تشيع فيهما الحركة، فأحدهما مناسب للرقص والثانى مناسب للعمل. وأبعد من هذا عن التوفيق أن تمزج هذه الأوزان كما كان يفعل خيريمون. ولذلك لم تنظم قط قصيدة على شئ من الطول فى وزن غير الوزن السداسى، فإن الطبيعة نفسها — كما قلنا — تعلمنا اختيار الشئ المناسب.
وإن هوميروس — مع استحقاقه للثناء من نواح كثيرة أخرى — لأعظم به جدارة إذ هو الوحيد من بين الشعراء الذى يعرف ماذا ينبغى أن يكون دوره. فالشاعر يجب أن يتكلم بلسان نفسه أقل كلام ممكن، لأنه ليس محاكياً بفضل هذا النوع من الكلام؛ ومن الشعراء من يشغلون المسرح هم أنفسهم طول القصيدة، فلا يحاكون إلا قليلا ونادراً، أما هوميروس فلا يكاد يمهد بكلمات قليلة حتى يأتى برجل أو امرأة أو بشخص آخر لا نجد أحداً منهم مفتقراً إلى خلق، بل هم جميعاً ذوو أخلاق.
ومع أن عنصر الروعة ينبغى إدخاله فى التراجيديا فإن الشعر
الملحمى أشد قبولا لغير المعقول، لأن الشخص لا يرى وهو يعمل،
ومخالفة العقل هى أكبر ما يعتمد عليه عنصر الروعة. فمطاردة
هتكور مثلا لو وضعت على مسرح لأضحكت. فاليونانيون واقفون
لا يشتركون فى المطاردة، وأخيل يمنعهم أن يفعلوا. أما فى الملاحم
فلا يلحظ ذلك. والأمر العجيب يلذ، ويكفى لإثبات ذلك أن كل
وينبغى أن يؤثر الشاعر استعمال المستحيل المعقول على استعمال الممكن غير المعقول. فلا يصح أن تؤلف القصة من أجزاء غير معقولة بل يجب أن تخلو من كل ما هوغير معقول، إلا أن يكون ذلك خارج القصة، كما جهل أوديبوس كيف مات لايس، لا داخلها كما فى «إلكترا» من حديث الرسول عن الألعاب البيثية، أو كما فى «الميسيون» من مجئ شخص من تيجيا إلى ميسيا دون أن ينطق بحرف. ومن المضحك أن يقال إنه لو لا ذلك لتداعت القصة، فمثل هذه القصة ما كان ينبغى أن تؤلف أصلا. أما إذا جئ بها وبدت معقولة فينبغى أن تقبل على الرغم من سخافتها. فإن القطع غير المعقولة فى الأوديسية — تلك التى تدور حول طرح أوديسيوس على شاطئ إيثاكا — ما كانت لتحتمل لو تناولها شاعر آخر، أما الآن فإن الشاعر يحجب سخافتها بما يضفيه عليها من ضروب الإجادة.
وينبغى أن يعتنى ببراعة العبارة فى الأجزاء الراكدة التى تخلو من عنصرى الأخلاق والفكر. فإن الإسراف فى تنسيق الأسلوب — على العكس — يطمس عنصرى الأخلاق والأفكار.
٢٥ — أما عن وجوه النقد وحلولها. وعددها وأنواعها، فلعل ذلك يتضح مما يلى:
لما كان الشاعر محاكياً — شأنه فى ذلك شأن الرسام وكل صانع صورة — فيجب ضرورة أن يسلك فى محاكاة الأشياء أحد طرق ثلاثة: إما أن يحاكيها كما كانت أو تكون، وإما أن يحاكيها كما تقال أو تظن، وإما أن يحاكيها كما ينبغى أن تكون. وهو يعبر عنها باللغة، إما بالأصلى الشائع منها وإما بالغريب وإما بالمستعار. وثمة وجوه كثيرة أخرى للتصرف فى اللغة يسمح بها للشاعر. أضف إلى ما تقدم أن المعايير التى تطبق على الشعر غير تلك التى تطبق على السياسة، وغير التى تطبق على الصنائع الأخرى. والخطأ الشعرى نوعان: خطأ يتبع الشعر نفسه، وخطأ يتبع أعراضه. فإذا أراد الشاعر محاكاة المستحيل لعجزه وضعف شاعريته، فالخطأ راجع إلى الشعر؛ أما إذا أخطأ لسوء اختياره فرسم جواداً يمد أماميتيه معا، أو أخطأ فى أمر من أمور صناعة بعينها كالطب أو غيره، فليس هذا الخطأ راجعاً إلى صناعة الشعر نفسها. هذه هى الأوجه التى ينبغى أن نبحث عليها اعتراضات النقاد وأن نحلها.
فلنتكلم أولا فى الأمور التى ترجع إلى صنعة الشاعر. إذا كان
الشاعر يصور المستحيل فهو مخطئ، ولكن الخطأ يمكن أن يعتذر
عنه إذا بلغت به الغاية (وقد بينا فيما سبق معنى الغاية)، أعنى: إذا
زاد روعة هذا الجزء أو أى جزء آخر من القصيدة. ومثال ذلك
مطاردة هكتور. أما إذا أمكن أن تبلغ الغاية بمثل هذه القوة أو بأعظم
منها مع المحافظة على أصول الصناعة فلا وجه للاعتذار، إذ يجب
أن يجتنب كل خطأ يمكن اجتنابه. ثم نسأل: هل يرجع الخطأ إلى
وإذا اعترض بأن التصوير غير مطابق للحقيقة فقد يمكن أن يجاب بأن الشاعر إنما مثل الأشياء كما ينبغى أن تكون، كما كان سوفوكليس يقول إنه يصور الناس كما ينبغى أن يكونوا، على حين أن أوريبيديس يصورهم كما هم. وبهذا يرتفع الاعتراض. أما إذا لم يكن التصوير من هذا النوع ولا من ذاك النوع فقد يمكن للشاعر أن يجب بأنه يصورهم كما يظنهم الناس. ويصدق هذا على الحكايات التى تروى عن الآلهة، فقد يكون صحيحاً أن هذه الحكايات ليست أسمى من الحقيقة ولا مطابقة للحقيقة بل كما يقول عنها اكسينوفانيس: ولكن هذا ما يقوله الناس.
ثم قد لا يكون التصوير أسمى من الحقيقة، ولكن يجاب بأن هذا هو ما كان. وذلك كما فى قوله يصف السلاح: «وقفت الحراب على كعوبها»، فقد كانت هذه هى العادة، وهى عادة الإليريين إلى اليوم.
أما البحث فى حال العبارة أو العمل أو عدم جمالها فينبغى ألا يقصر على النظر فيما عمل أو قيل أشريف هو أم خسيس، بل يجب أن ينظر أيضاً فى القائل أو الفاعل، ومن قيل أو فعل له، ومتى، ولم؛ كأن يبحث مثلا: أكان هذا القول أو الفعل لكسب منفعة أكبر أو لدفع مضرة أكبر؟
ومن النقد ما يرد بالنظر فى العبارة، كما فى οὐρῆας μέν πρῶτον
τὸ μέν εὐ (σύ) καταπύθεται δίδομεν (διδόμεν) δὲ οἱ ὄμβρω
وقد يحل المشكل بتقسيم الكلام، كقول أنباد قليس: «فجأة أصبح
فانياً ما كان قبل خالداً، وما كان صريحاً قبل اختلط». وقد يرجع
وإذا كانت كلمة تؤدى إلى شئ من التناقض فيجب أن ننظر
كم معنى يمكن أن تحمل عليه فى سياقها. ففى قوله: «هناك وقفت
الحربة البرنزية» ينبغى أن نسأل كم معنى يمكن أن يحمل عليه «الوقوف».
وهذه خير طريقة للفهم. وهى ضدما ذكره جلاوكون من أن بعض
النقاد يتعجلون الحكم بدون علة، وبعد أن يثبتوا التهمة يأخذون فى
البرهان، ويدينون ذلك المعنى الذى توهموه — كأنما هو ما قاله
الشاعر — إذا وجدوه مناقضاً لما يؤمنون به. وهذا ما كان منهم فى
قضية إيكاريوس، فقد توهم النقاد أنه كان من أهل لا كيدايمون:
واستنكروا أن تيليما خوس لم يلقه عندما ذهب إلى هناك، ولعل ما رواه
أهل كفالينيا هو الحق فى ذلك. فهم يقولون أن أوديسيوس قد تزوج
والأمور التى تبدو متناقضة يجب أن تبحث بالقواعد نفسها التى تتبع فى المناقضات الجدلية: فينظر آلشئ المعنى واحد؟ أمنسوب هو إلى شئ واحد ؟ أكيفية النسبة واحدة؟ فينبغى إذا أن نحل المشكل بالرجوع إلى ما يقوله الشاعر نفسه، أو إلى ما تواضع عليه العقلاء.
والأمور غير المعقولة والخلق الخسيس معيبان إذا لم تكن ثمة ضرورة إلى مخالفة العقل كما صنع أوريبيديس: «إيجى» أو إلى سوء الخلق كحال منلاوس فى «أورستيس».
فالمآخذ التى تؤخذ على الشعراء ترجع إذاً إلى خمسة أنواع: الاستحالة أو مخالفة العقل، أو إيذاء الشعور، أو التناقض، أو الخروج على أصول الصناعة. والحلول ينبغى أن يبحث عنها فى الأحوال التى أحصيناها، وهى اثنتا عشرة.
٢٦ — وقد يسأل سائل: أى النوعين أفضل: المحاكاة الملحمية
أو المحاكاة التراجيدية؟ فإذا كان أفضلهما هو أبعدهما عن الابتذال،
وأبعدهما عن الابتذال دائماً هو ما يتجه إلى نظارة أفاضل، فظاهر
إذاً أن النوع الذى يحاكى كل شئ هو الأخس. فالممثلون يسرفون
فى الحركات كأن النظارة لا قدرة لهم على الشعور إلا إذا أضاف الممثل
شيئاً من عنده. شأن سوقة النافخين فى الناى الذين يلتوون ويدورون
إذا أرادوا أن يصوروا قذف القرص، ويجذبون رؤسهم إذا
أرادوا أن يمثلوا السعلاة. فالتراجيديا يصدق عليها الحكم الذى كان
الممثلون القدامى يحكمونه على الناشئين بعدهم: فقد كان مينيسكوس
يسمى كاليبيديس «القرد» لإسرافه فى الحركة، وكذلك كان الرأى فى
ونقول أولا: إن هذا الحكم لا يقال على صنعة الشعر بل على
صنعة التمثيل والإلقاء. فإن الشاعر المنشد قد يبالغ الإشارات
أيضاً كما كان يفعل سوسيستراتس، وربما فعل الشاعر المغنى مثل
ذلك، كدأب مناسيتيوس الأوبونطى. ثم إننا لا ينبغى أن نسئ
الظن بكل نوع من الحركة كما لا ينبغى أن نسئ الظن بكل نوع
من الرقص، بل بذلك النوع الذى يقوم به السوقة. وذلك ما عيب
على كاليبيديس وغيره من أهل زماننا، الذين انتقدوا لأنهم يحاكون
النسوة السافلات. زد على ذلك أن الترجيديا تفعل فعلها الخاص
بدون حركة كالملحمة، فإن قوتها تظهر بالقراءة لا غير. فإذا كانت
تفضل الملحمة من سائرالوجوه فليس بضرورى أن تفضلها من
فإذا كانت التراجيديا تفضل الملحمة من جميع هذه الوجوه وتزيد أنها تحدث الفعل الخاص بصناعتها (فإنه لا ينبغى أن تحدث أى لذه كانت بل تلك التى أشرنا إليها) فبين أنها أفضل لأنها أقدر على بلوغ الغاية من الملحمة.
وحسبنا ما قلناه عن التراجيديا والملحمة بذاتها، وعن أنواعهما وأجزائهما: كم هى وبم تفترق؛ وعن أسباب الجودة والرداءة فيهما، ومآخذ النقاد وحلول هذه المآخذ....