Data Entry
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر
كتاب أرسطوطاليس فى النبات تفسير نيقولاوس ترجمة إسحق بن حنين، باصلاح ثابت بن قرة وهو مقالتان المقالة الأولى من كتاب النبات لأرسطوطاليسقال الفيلسوف أرسطوطاليس:
إن الحياة موجودة فى الحيوان والنبات؛ غير أن حياة الحيوان بينة ظاهرة،
وحياة النبات خفية غامضة يحتاج فيها إلى بحث واستقصاء حتى يوصل إلى سبيل
الحق فيها. ليت شعرى! للنبات نفس، وقواها كالقوة المشهية والقوة المميزة
للغم واللذة، أو ليس له شىء من ذلك؟ أما أنكساغورس وهمفدوقلس
فزعما أن للنبات شهوة وحساً وغماً ولذة. وزعم أنكساغورس أنه حيوان،
وأنه يفرح ويحزن، وزعم أن دليله على ذلك انتثار ورقه فى حينه. وأما
والواجب علينا أن نتكلم فى الأشياء الظاهرة، ثم نتكلم فى الأشياء الخفية
فنقول: إن الشىء المغتذى له شهوة، وهو يجد اللذة عند الشبع والأذى
عند الجوع، وهذه الحالات إنما تكون مع الحس. فقد صح أن رأى الذى زعم
أن للنبات حساً وشهوة رأى عجيب. فأما أنكساغورس وهمفدوقلس
وديمقراطيس فزعموا أن للنبات عقلا وفهماً. إلا أنه ينبغى لنا أن نمسك عن
هذه الأقاويل القبيحة ونبدأ بالقول الصحيح: ليس للنبات حس ولا شهوة،
لأن الشهوة إنما تكون بالحس، ومنتهى إرادتها راجع إليه. ولسنا نجد للنبات
وما وقعت هذه الاختلافات إلا فى مواضعها؛ لأن معرفة الشىء المتوسط
بين الحياة وعدمها صعب جداً. ولعل قائلا يقول: إن كان النبات
ذا حياة فهو حيوان. وقد يصعب علينا أن نوجد للنبات رئيساً
سوى رئيس حياة الحيوان. فأما الذى يدفع أن يكون حياً 〈لأنه〉 لا حس له،
فقد نجد فى الحيوان 〈ما〉 لا معرفة له ولا عقل. على أن الطبيعة مهلكة لحياة
الحيوان بالموت، ومثبتة لأجناسه بالتولد والتناسل. ومع هذا فانه بشع أن
نضع بين ما لا نفس له وبين ما له نفس شيئاً يتوسطهما. نحن نعلم أن خراطيم
الماء والأصداف حيوان لا معرفة له ولا عقل، وأنه نبات وحيوان. فما الذى
فأما الذى هو ابتداء حياة هذا الحيوان، وما يخلص جنس الحيوان الكريم
من الشك العظيم، كالذى نجد ذلك فيما تحويه السماء من الكواكب، وغير ذلك
لأنه ليس خارج السماء شىء محسوس ينقاس شىء عليه، وكذلك فى
الشمس وفى جميع الكواكب وذلك لأنها غير واقعة تحت الألم، والحس هو الألم
وانفعال فى الحس. وليس للنبات حركة فى ذاته لأنه مربوط بالأرض،
والأرض غير متحركة. بماذا نقيس الحياة؟ وبماذا نشبهها؟ ما نجد لها
شيئاً عاماً. ولكن ينبغى لنا أن نقول إن العام للحياة هو الحس، لأن الحس هو
المميز للحياة من الموت؛ وأما السماء، فلأن لها رئيساً أكرم وأجل
من رئيسنا، فهى متباعدة عن هذه الأشياء. وينبغى أن يكون للحيوان الكامل
〈وينبغى〉 أن نفحص عما سلف من قولنا فى شهوة النبات وحركته ونفسه وما يتحلل منه. وليس للنبات نسيم، على أن أنكساغورس زعم أن له نسيماً، وقد نجد كثيراً من الحيوان ليس له نسيم. ونجد عياناً أن النبات ليس له نوم ولا يقظة، وذلك أن اليقظة هى من فعل الحس، والنوم هو ضعف فى الحس، وليس يوجد شىء من هذا فى الشىء الذى يغتذى فى جميع الأوقات على حال واحدة وهو فى طبيعته غير حاس. وأحسب أن الحيوان إذا اغتذى وترقى البخار من غذائه إلى رأسه نام، وإذا انقطع البخار المرتقى إلى رأسه استيقظ من نومه. وارتفاع هذا البخار فى بعض الحيوان كثير، ووقت نومه طويل؛ وارتفاعه فى بعضه قليل ووقت نومه قصير. والنوم سكون الحركة، والسكون راحة للمتحرك.
وأخص الأشياء كلها بهذا العلم البحث عما قال همفدوقلس: هل يوجد
فى النبات إناث وذكور، أو نوع جامع للذكر والأنثى — على ما زعم؟ لأن
من شأن الذكر أن يولد الولد فى غيره، ومن شأن الأنثى أن تلد من غيرها،
وأن يكون [فى] كل واحد منهما معتزلا عن صاحبه. وليس يوجد فى النبات
شىء من هذا، لأن كل نوع من النبات الذكر منه ما كان خشناً صلباً،
والأنثى كثيرة الثمر. وينبغى أن نبحث: هل يوجد الصنفان فى نبات واحد بعينه
كما زعم همفدوقلس؟ أما أنا فما أحسب أن هذا شىء يكون، لأن الشىء
الذى يختلط ينبغى أولاً أن يكون مفرداً فى ذاته، وكل ما كان منه ذكراً
وأنثى ثم اختلط، واختلاط الشىء إنما يكون من أجل كونه. فقد كان النبات
ومن الناس من يظن أن النبات تام كامل من أجل القوتين اللتين له ومن أجل غذائه المعد ولطول بقائه ومدته. وأنه إذا أورق وولد دامت له حياته وعاد إليه شبابه؛ ولم يتولد فيه شىء من الفضول. والنبات مستغن عن النوم لأسباب كثيرة، وذلك لأن النبات منتصب مغروس فى الأرض مربوط بها وليس له حركة من ذاته، ولا لأجزائه حد محدود، ولا له حس، ولا حركة إرادية ولا له نفس كاملة، بل إنما له جزٗ من أجزائها. والنبات إنما خلق من أجل الحيوان، ولم يخلق الحيوان من أجل النبات. وإن قلت إن النبات محتاج إلى غذاء خسيس ردىء، فانه يحتاج منه إلى شىء كثير قائم متصل غير منقطع. وإن صح أن للنبات على الحيوان فضلاً، وجب أن تكون الأشياء الغير متنفسة أكرم من الأشياء المتنفسة؛ وفعل من أفعال الحيوان أفضل وأشرف من النبات. وقد نجد للحيوان جميع فضائل النبات وفضائل كثيرة معها. وقد أصاب همفدوقلس فى زعمه أن النبات تولد والعالم ناقص لم يستتم كاملا؛ فلما كمل وتم، تولد الحيوان. غير أنه ما قال قولا مستقيما، لأن العالم بكليته أزلى دائم، لم يزل يولد الحيوان والنبات وكل نوع من أنواعها. وفى كل نوع من أنواع النبات رطوبة وحرارة غريزية، فاذا فقدها مرض وهرم وفسد وجف. ومن الناس من سمى هذا فساداً، ومنهم من لا يسميه ذلك.
ومن الشجر ما له صمغ كالراتينج واللوز والمر والكندر والصمغ العربى
وكما أن فى الحيوان أعضاءً متشابهة الأجزاء، كذلك فى النبات أيضاً.
وكل جزء من أجزاء النبات نظير لعضو من أعضاء الحيوان، لأن قشر النبات
نظير لجلد الحيوان، وأصل النبات نظير لحم الحيوان، والعقد التى فيه
نظيرة لأعصاب الحيوان، وكذلك سائر الأشياء التى فيه. وكل جزء من هذه
الأجزاء تتجزأ على جهة الأجزاء متشابهة، وتتجزأ لأجزاء غير متشابهه (لأن
الطين يتجزأ على جهة التراب فقط، ويتجزأ على جهة الماء والتربة؛ واللحم
يتجزأ فتصير أجزاؤه لحماً، وهو يتجزأ على جهة أخرى للاستقصات والأصل).
وليس تنقسم اليد ليد أخرى، ولا الأصل لاٴصل آخر، ولا الورق للورق؛
ولكن فى الأصل والورق تركيب. وأما الثمار فمنه ما هو مركب من أجزاء يسيرة،
فقد صح أن أجزاء النبات غير محدودة: إن كانت هذه الأجزاء هى أجزاء
النبات، وإن كانت غير أجزائه. وقبيح بنا أن نقول فى الشىء الذى به ينمو
الحيوان ويكمل إنه ليس بجزئه؛ ومما ينبغى لنا أن لا نجعل ثمر النبات من أجزائه،
وينبغى لنا أن نتكلم فى الأشياء التى ذكرنا آنفاً، وأن نأخذ فى ذكر الأجزاء الخاصية والعامية والاختلاف الذى فيه. فنقول: فى أجزاء النبات اختلاف عظيم فى الكثرة والقلة والصغر والكبر والقوة، وذلك لأن الرطوبة التى فى الكبار: منها ما هو لبن مثل لبن التين، ومنها ما هو شبيه بالزفت مثل الرطوبة التى فى الكرم، ومنها صعترى مثل الرطوبة التى فى الصعتر والنبات المعروف بأوريغانون. وفى جملة القول إن من النبات نباتاً له أجزاء محدودة معروفة، ومنها ما له أجزاء محدودة غير متشابهة ولا مستوية، ومنها ما له أجزاء متشابهة وغير متشابهة، ليس مكانها فى موضع. واختلاف النبات فى أجزائه معروف من شكله ولونه، وسخافته وكثافته، وخشونته ولينه، وسائر ما يعرض فيه من الاختلاف فى الاستواء وزيادة العدد ونقصانه ومن كبره وصغره. ومنه ما لا يكون على حال، بل فيه اختلاف كثير، على ما قلنا.
أعنى 〈أن〉 من النبات ما يحمل ثمره فوق ورقه، ومنه ما يحمل ثمره
تحت ورقه؛ ومنه ما ثمره معلق بقامته، ومنه ما ثمره معلق فى أصله مثل
ومن النبات ما يسمى شجراً، ومنه ما هو بين الشجر والحشيش ويسمى
بامبراخيون ومنه ما يسمى حشيشاً، ومنه ما يسمى عشباً. والنبات كله —
والنبات كله منه أهلى، ومنه بستانى، ومنه برى. وكذلك الحيوان أيضاً منه كذلك. وأحسب أن كل نوع من النبات إذا لم يعن بفلاحته صار برياً. ومن النبات ما يحمل الثمار، ومنه ما لا يحصل؛ ومنه ما يخرج الزهر، ومنه ما لا يخرج؛ ومنه ما له ورق، ومنه ما ليس له ورق، ومنه ما ينثر ورقه، ومنه ما لا ينثر ورقه. واختلاف النبات بعضه من بعض فى الكبر والصغر، والحسن والسماجة، وجودة الثمر ورداءته كبير جداً. والأشجار البرية أكثر ثماراً من البستانية، والبستانية أجود ثماراً من البرية. ومن النبات ما يكون فى مكان جاف يابس، ومنه ما ينبت فى البحار، ومنه ما ينبت فى الأنهار، ومنه ما ينبت فى البحر الأحمر: يكون كبيراً، وفى غيره يكون صغيراً. ومن النبات ما ينبت على شاطىء الماء، ومنه ما ينبت فى الآجام. وأما النبات الذى يكون فى المواضع اليابسة فان منه ما ينبت فى الجبال، ومنه ما ينبت فى البقاع، ومنه ما يعشب فى الصخر أكثر من عشبه فى غيره، ومنه ما يعشب على التلول، ومنه ما يعشب على البر والماء مثل العرف والطرفاء والأشنة. والنبات يتغير فى الأماكن تغيراً عظيما، فلذلك احتجنا إلى إحصاء اختلافه وتغيره.
والنبات لاصق بالأرض غير مفارق لها. ومن الأماكن مكان أجود
وأما القطرات التى فى الثمار فمنها مشروبة خمرية، مثل ثمر الكرم والتفاح
والرمان والتوت والآس. ومنها عصارة دسمة كالزيتون والجوز والصنوبر؛ ومنها
حلوة عسلية كالتمر والتين؛ ومنها حارة حريفة كالسعتر والخردل؛ ومنها عصارة
مرة مثل عصارة الافسنتين والقنطوريون. والثمار أيضاً منها ما هو مركب من
ومن النبات ما له رائحة طيبة فى قشره، ومنه ما له ذلك فى زهره، ومنه فى خشبه، ومنه ما طيبه فى أجزائه كلها، مثل البلسان.
وبعض النبات ينبت إذا غرس، وبعضه إذا زرع، ومنه ما ينبت من تلقاء نفسه. والنبات المغروس إما يقطع من أصله فيغرس، وإما من قامته، وإما من أغصانه أو قضبانه أو بزره، أو كله؛ أو إذا دقت قطع صغار منه. ومنه ما يغرس فى الأرض، ومنه ما يغرس فى الشجر مثل الشىء الذى يطاعم. وإنما ينبغى أن يطاعم الشجر بما يشبه ويشاكله، لأنه إذا فعل ذلك نما نمواً حسناً، أعنى أن يطاعم التفاح مع الكمثرى، والتين مع التين، والكرم مع الكرم وقد يطاعم الشجر مع الشجر المختلف الجنس كالفستق فى اللوز، والبطم بالزيتون، والعليق فى أشجار كثيرة، والشجر البرى مع البستانى. والنبات كله لا يخرج بزراً شبيهة ببزره، لكن من النبات ما يخرج بزراً أجود من بزره. ومنه ما يخرج البزر الردىء شجراً جيداً كاللوز المر والرمان الحامض ومنه ما إذا ضعف لم يخرج بزراً أصلا مثل الصنوبر والنخل. وليس ينبت من البزر الردىء نبات جيد بسهولة، ومن البرز الجيد نبات ردىء. وأما فى الحيوان فقد يتولد من الردىء جيد ومن الجيد ردىء.
والشجر الصلب القشر الذى لا يثمر إن شق إنسان أصله وأدخل فيه حجراً
اثمر. فأما النخل فاذا انتثر فى طلعه من طلع النخل الذكر مع دقيقه وقشره
ومن النبات ما يتغير ويصير شيئاً بدل شىء، مثل الجوز إذا شاخ.
ويزعمون أن النمام ربما تغير وصار نعنعاً، والباذروج إذا حصد
وصير بقرب البحر الأحمر ربما صار شاهسفرم. وأما الحنطة والكتان فانهم
يزعمون 〈أنهما〉 ربما تغيرا وصارا شيلماً. وأما اللبخ فقد كان فى أرض
فارس قتالا فنقل إلى أرض مصر والشام فصار مأكولا. واللوز والرمان يتغيران
ومن الشجر ما يورق من أصوله، ومنه ما يورق من عيونه، ومنه ما يورق
من خشبة الأملس، ومنه ما يورق من كل مكان فيه، ومنه ما يقرب فيه
التوريق، ومنه ما يتأخر فيه، ومنه ما يتوسط فى ذلك، ومنه ما يختلف وقت
توريقه. ومن النبات ما يحمل فى السنة مرة واحدة، ومنه ما يحمل فى السنة
مراراً كثيرة ولا تنضج ثمارة، بل تبقى فجة غير نضيجة، ومنه
وينبغى لنا إذا نقدنا هذه الأشياء أن نتفرس فى الشجر على حدته، وكذلك أيضاً فى الحشيش والشعب. وسندكر قول القدماء فيها ونمارس علومهم وكتبهم الموضوعة فى هذه الأشياء. ونحن قادرون على فحص أقدر من هذا، أعنى أنما نفحص عن العشب البعلى، وعن العشب الذى يكون منه البزر وعن النبات الخمرى الشرابى، وعن النبات الطبيعى، وعن نبات الأدوية، وعن النبات القتال. وهذه الأشياء كلها معروفة من الأشجار والنبات. فأما علم أسبابها فينبغى أن نطلب ابتداء كونها وكيف صار بعضها ينبت فى مكان دون مكان وفى زمان دون زمانها وحين نباتها، وأصولها، واختلاف عصاراتها وروائحها ولبنها وصموغها وجودة كل واحد منها وردائه وبقاء ثمارها وفناؤه ولم صار ثمار بعضها يعفن سريعاً وبعضها لا يعفن، وأن منها ما تلين ثماره ومنها ما لا تلين ثماره؛ ونفحص عن خواص سائر النبات وبخاصة عن الأصول، وكيف صار بعضها يهيج شهوة الجماع، وبعضها يجدلب النوم، وبعضها قتال؛ ولبعضها اختلاف كثير عظيم.
تمت المقالة الأولى من كتاب النبات لأرسطوطاليس والحمد لله رب العالمين
قال أرسطو:
إن النبات له ثلاث قوى: قوة من جنس الأرض، وقوة من جنس الماء،
وقوة من جنس النار. فأما ما كان من جنس الأرض فهو ثبات النبات،
وما كان من جنس النار فهو تأليف النبات، 〈وما كان من جنس الماء فهو
وحدة النبات〉. وكثيراً ما يشاهد هذا فى الفخار: فان فيه ثلاثة أشياء:
أولها الطين الذى ينبت عليه أس الفخار، والثانى الماء الذى يتربى فيه
الفخار، والثالث النار الذى تجتمع فيه أجزاء الفخار حتى يتم كونه به. فاظهار
التأليف كله بالنار، وذلك أن فى الفخار تخلخلا فى أجزائه، فاذا أحرقه النار
انبثت مادة الرطوبة وتلاصقت أجزاء الطين وقام اليبس مقام الرطوبة بالغلبة.
والطبخ فى كل الحيوان والنبات والمعادن، فان الطبخ حيث تكون الرطوبة
والحرارة إذا تناهى فى الفعل؛ ويكون فى طبخ الأحجار والمعادن.
فأما الحيوان والنبات فليس كونه كذلك، لأن أجزاءه غير منحصرة، ولذلك
وكذلك الأنهار التى تحت الأرض، فان كونها من الجبال، ومادتها من الأمطار. فاذا كثرت المياه واحتقنت تولد من ذلك بخار حار لاحتقانها فخرق الأرض كلها ذلك البخار فظهرت العيون والأنهار، وقد كانت قبل ذلك باطنة.
وقد قدمنا العلة لظهور الأنهار والعيون فى «الكون العلوى» بأن الزلازل
قد تظهر أنهاراً وعيوناً لم تكن قبل ذلك عند انشقاق الأرض بالبخار، فتظهر
العيون والأنهار؛ وقد تخفى العيون والأنهار إذا كانت الزلزلة منقلبة. فأما النبات
فلا يعرض له ذلك، لأن الهوائية فى تخلخل أجزائه. والدليل على ذلك أن الزلزلة
لا تكون فى الرمال، وإنما تكون فى الأجرام الصلبة، أعنى مواضع المياه والجبال.
وكذلك الزلازل تكون غالبة فيها، لأن الماء مصمت والأحجار مصمتة، ومن
شأن الهواء الحار اليابس أن يتصاعد. فاذا اجتمعت أجزاؤه قوى فشق الموضع
فخرج منه ذلك البخار. فلو كان متخلخلا لخرج أولاً فأولاً. فلما كان مصمتاً
لم يتهيأ للبخار أن يخرخ أولاً أولاً فاجتمعت أجزاؤه وقوى فخرق الموضع أوشقه
فهذه علة الزلزلة فى الأجرام المصمته. ولذلك كان الحيوان والنبات
لا تكون فى أجزائه الزلزلة؛ فأما فى سائر الأشياء فتكون الزلزلة — وقد نجد ذلك
فى الخزف والزجاج وسائر المعادن كلها. فأما ما كثر تخلخله فمن شأنه أن يعلو،
لأن الهواء خلخله. وقد يشاهد ذلك إذا رمى شىء من الذهب وغيره فيغرق
من ساعته؛ ويرمى بكل خشب متخلخل فلا يغرق. فليس من أجل الوزن
غرق (الذهب) ولا من الثقل، ولكن غرق لأنه مصمت. فأما المتخلخل
فلا يغرق بتة، ولذلك صار خشب الأبنوس وما قرب من شكله يغرف لأن
التخلخل فيه يسير ولا يكون الهواء يشيله إلى العلو فيغرق، لأن أكثر أجزائه
مصمتة. فأما الأدهان كلها والورق فتطفو فوق الماء كلها. وقد بينا ذلك،
لأنا قد علمنا أن فى الدهن والورق رطوبة وحرارة، ومن شأن الرطوبة أن تلحق
بأجزاء الماء، ومن شأن الحرارة أن تلحق بأجزاء الهواء، ومن شأن الماء أن
يحملها إلى بسيطه، ومن شأن الهواء أن يعليها ولذلك صار بسيطاً لا يعلو عليه
والدليل أيضاً على أن البحر على الرمل أن الأرضين كلها عذبة المذاق،
فان وقف الماء امتنع الهواء وصير فى ذلك الموضع ماء محصوراً لم يصعده الهواء
وغلبت عليها أجزاء الأرض فملحت التربة وجمدت أولا فأولا، فان الطين الحر
فى الأنهار العذبة لسلولة الماء وللطافته، فاذا غلب على الماء يبس الأرض صار
الماء من جنس الأرض أو قريباً من ذلك فكدس كل واحد منهما صاحبه ثم دام
اليبس بدوام ثبات الأرض ووقوف الماء يفصل أجزاء الطين صغاراً صغاراً،
فلذلك صارت تربة البحار كلها رملية وكذلك البرارى إذ ليس لها ستر من الشمس
وهى بعيدة من الماء العذب ونشفت الشمس أجزاء الرطوبة العذبة وبقى ما كان
من جنس الأرض. ولما دامت الشمس فى هذا الموضع وكان غير مستتر تفصل
أجزاء الطين وكان منه الرمل. ويستدل على ذلك الموضع أيضاً أًنا
وكذلك الحشائش والعقاقير إنما تتولد بالتركيب، لا بالطبع المبسوط
مثل ملوحة ماء البحر وكون الرمال. لأن البخارات الصاعدة، إذا عقدت،
أمكنت الحشائش ووقع الندى وخلخل الموضع فتألف منه على حسب
قوى الكواكب أشكال ذلك الزرع. فأما المادة فواحدة، أعنى مادة الماء،
وإن كان كثير اختلاف الأجناس، ولن يصعد من الماء إلا الماء العذب،
وكذلك الماء المالح فى الوزن أكثر؛ وكذلك الشىء الصاعد من الماء ألطف
من الماء. فاذا جذبه الهواء لطف وتصاعد إلى العلو، فمن هنا صارت العيون
والأنهار فوق الجبال وصعد البلغم والدم إلى الدماغ، وكذلك الأغذيه كلها
تتصاعد إلى العلو. وكذلك جميع المياه: فأما الماء المالح فيتصاعد عذباً
〈حيث〉 تنفتق الحرارة إلى جنس الهوائية. فلما كان الهواء فوق الماء، كان
ما يتصاعد من الماء المالح عذباً. وقد نجد ذلك فى الحمام: وذلك أن الماء
وأما الحشائش التى تنبت فى الملح فليس يجب كونها لإفراط البرد واليبس.
وذلك أن النبات يحتاج إلى شيئين أحدهما المواد له، والثانى الموضع الملائم لطبعه.
فاذا كانت الخصلتان حاضرتين، وجب كون النبات. وقد نجد الثلج فى أقصى
الطبائع خارجاً عن الاعتدال، وليس فى الإفراط إلا منع ما يجب كونه فى المكان
المعتدل فلا يجب كون ما كان فى الثلج؛ وقد نرى النبات ظاهراً، ومن سائر
الحيوان ولا سيما الدود (فانه يتولد فى الثلج)، والريباس وكل حشيشة مرة.
فأما الثلج فلا يجب أن يكون فيه ذلك؛ ولكن علة كون الثلج. وذلك أن الثلج
ينزل شبيهاً بالدخان فتجمده الريح ويضغطه الهواء، فيكون بين أجزائه تخلخل
فيحقن الهواء ويحمى ويرشح من الماء ماء متعفن لما حصره من الهواء. فاذا كانت
الحرارة شديدة الاتساع والشمس من علو الموضع خرق الهواء المستكن فى الثلج
وكذلك المواضع الكثيرة الملوحة، وظهرت الملوحة المتعفنة، فانعقدت بحر
أما 〈فى〉 المواضع الحارة، لأن الماء فيها عذب والحرارة فيها يسيرة، فيقع الطبخ من جهتين: من فعل الموضع بالهواء المستكن فيه وطبخ الهواء مع حرارة الشمس فى ذلك الموضع. وأما الجبال فانها تجذب الرطوبات ويعينها صفو الهواء فيسرع الطبخ، ولذلك كان أكثر النبات فى الجبال. فأما البرارى فان الملوحة تغلب هناك، كما أعلمنا آنفاً، فيبقى بين أجزاء الرمل تخلخل وهو شبيه بعضه ببعض، ولا يكون للشمس من القوة ما يثبت أصول كون النبات، ولا تكون فى البرارى عقاقير خاصية، بل يشبه بعضها بعضاً.
فأما النبات الذى يعرض على وجه الماء فانه يكون مع غلظ الماء، وذلك
أن البخار إذا لامس الماء ولم يكن للماء جرية، تحرك الماء فصار عليه شبيه
بالسحابة وحصره بستر فتعفنت تلك الرطوبة وجذبتها الحرارة وانبسطت على
وجه الماء وليس لها أصل، لأن الأصول تكون فى المواضع الجاسية من الأرض
والماء متفرق الأجزاء منبسط، فجذبت الحرارة تلك العفونة المتولدة
على وجه الماء، فمن هناك لم يكن له أيضاً ورق لبعده عن الاعتدال ولم تكن
وأما غذاء الحيوان من النبات فانه يكون فى المواضع الحارة اللينه العالية، ولا سيما فى الإقليم الرابع والثالث، وما قرب من الغذاء فى المواضع العالية الباردة. ولذلك تكثر العقاقير فى المواضع الباردة العالية بجذب الرطوبات واعتدال حر الشمس فى أيام الربيع. وكذلك الطين الحر يسرع فيه النبات الدهنى لاحتقأنه ورطوبته فى الماء العذب، كما أعلمنا بذلك آنفاً.
فأما النبات الذى يكون فوف الصخر المصمت فانه يعرض فى الزمان الطويل، وذلك أن الهواء المنحصر فيه يطلب العلو، فاذا لم يجد السبيل لقوة الحجر تراجع ذلك الهواء وحمى وجذب الرطوبة الفاضلة فى الحجر إلى العلو، فخرج البخار مع تلك الرطوبة مع زوايا صغار من الحجر، فلما باين الحجر عقده وأعانته الشمس على طبخه فكان منه النبات، ولا يكاد يعلو إلا أن يقرب من تراب أو رطوبة. فأما باقى النبات فيحتاج إلى التراب والماء والهواء. وننظر إلى النبات: فان كان فى أدنى شمس، فانه يسرع، وإن كان إلى الغرب فأنه يبطىء. والنبات إذ غلبت عليه المياه احتقن الهواء فلم يصعد شيئاً فلا يتغذى النبات. وكذلك اليبس إذا غلب صرف الحرارة الغريزية فى الأطراف وحصر المواضع السالكة فيها المياه، فلا يتغذى النبات.
أما النبات كله فيحتاج إلى أربعة أشياء (وكذلك الحيوان يحتاج): إلى
فأما جميع الحشائش كلها وجميع ما ينبت على الأرض وفى الأرض فأقسامها خمسة: أحدها بالبزور، والثانى من المتعفن، والثالث من رطوبة الماء، والرابع غرس، والخامس ينشأ على عقار آخر. وهذه الخمسة أصول للنبات.
وحمل جميع الأشجار على ثلاثة: إما أن يكون حمله قبل ورقه،
وإما أن يكون حمله مع ورقه، وإما أن يكون حمله بعد ورقه. ومن النبات
ما لا حمل له ولا ورق، ومن النبات ما يطلع حسناً لا حمل فيه ولا ورق
كالساج والخيزران. وسأبين هذه الثلاثة أفاعيل: أما الذى يطلع ثمره قبل ورقه
فانه كثير اللزوجة، فاذا طبخت بالحرارة التى فى طبيعة النبات أسرع النضج
وامتد وعلا فى أغصان النبات ومنع الرطوبة أن تصعد منه فيسبق ثمره ورقه.
وكذلك فى النبات الذى يطلع ورقه قبل ثمره. فأفعال الرطوبات تكون
فى ذلك النبات كثيرة. فاذا أخذت الحرارة وتفرقت أجزاء الماء إلى العلو جذبت
الشمس أجزاء تلك الرطوبة وأبطأ النضج، لأن طبخ الثمرة لا يكون إلا عند
انعقاده فيسبق الورق الثمر. فأما النبات الذى يكون ورقه مع ثمره فان ذلك
النبات كثير الرطوبة، وقد تعرض له اللزوجة، فاذا طبخته الحرارة تعلى
فأما الشوك فليس هو من جنس النبات فى الطبيعة، ولكن يكون فى النبات تخلخل ويكون فى الابتداء طبخ فتصعد البرودة والرطوبة ومعها شىء من طبخ، فتسلك فى ذلك التخلخل فتجذبه فى شمس فيكون من ذلك الشوك، ولذلك يكون شكله مخروطاً لأن الجذب أولاً فأولاً يبتدىء رقيقاً، ويغلظ أولاً فأولاً، لأن الهواء إذا تباعد النبات فيه لطفت أجزاؤه عند امتداد المواد. وكذلك كل نبت أو شجرة يكون طرفه مخروطاً.
فأما الخضرة فوق النبات فقد ينبغى أن تكون أعم ما فى الشجرة الخضرة،
وقد نرى أعم ذلك البياض، والخضرة من خارج، وذلك أن المواد تستعمل
فأما أشكال النبات فعلى ثلاث جهات: منه ما يخرج
إلى العلو، ومنه ما يخرج إلى أسفل، ومنه ما يخرج بين هاتين الجهتين. فأما
ما يسلك إلى العلو فان المادة تظهر من لب النبات فتجذبه الحرارة ويضغطه الهواء
الذى فيما بين التخلخل، 〈وينخرط〉 كما تنخرط النار عند المواد، فيعلو.
فأما إذا كان إلى السفل فان المجارى تطبق، فاذا انطبخت المادة ثخن الماء
الذى فيه لب النبات فخرج لطيفه إلى العلو وتراجع الباقى فى الجهات وأخذ نحو
السفل بثةله. فأما ما كان بين الجهتين، فان الرطوبة تلطف والمادة تقرب
من الاعتدال فى الطبخ وتكون المجارى متوسطة فتأخذ المواد إلى العلو والسفل
الطبخ الأول فى أسفل النبات الباطن فى الأرض، والطبخ الثانى فى اللب الخارج
عن الأرض الذى هو فى وسط النبات، ثم تظهر المواد فتقسم ولا تنطبخ طبخاً
ثالثاً، لأن الطبخ الثالث فى الحبوان انما وجب [الطبخ الثالث] لاختلاف
الأعضاء وتباعد طبائعها. فأما النبات فقريب بعضه من بعض، ولذلك
كثر فى جميع المواضع، وأكثر النبات ما كان إلى أسفل سلوك
مواده. — فأما أشكال النبات فعلى مقدار البزور؛ وأما زهر النبات وثمره
فللمياه والمواد. وجعل الحركة الأولى النضج والطبخ فى جميع الحيوان المغتذية
〈وسقوط الأوراق من الأشجار يرجع إلى الميل إلى السقوط الناشىء عن سرعة تكون التخلخل. فاذا أخذت الرطوبة مع الغذاء اتخذت صورة هرمية فاتسعت المجارى الداخلية ثم تضيق من بعد؛ فاذا ظهر أن الغذاء طبخ، أغلق المجارى، فلا يكون للأوراق غذاء، فتجف. فاذا حدث عكس هذا، كما قلنا، لم تسقط الأوراق من الأشجار. وإذا غلبت البرودة على النبات أثرت فى لونه بسبب إفراز الحرارة فى داخل النبات ووجود البرودة فى الخارج عند الأطراف؛ فتصبح الأوراق زرقاء داكنة ولا تسقط، كما فى الزيتون والآس وما شابههما. وإذا حدث من النبات أو الشجر جذب شديد، نتج الثمر مرةً فى العام؛ وإذا لم يكن منه جذب، أحدثت الطبيعة الطبخ فى مرات متواليات، وفى كل طبخ ينتج ثمر، ولهذا كان بعض النبات يحمل ثمراً مرات عديدة فى العام. وما كان من النبات طبعه كالماء لا يكاد يحمل ثمراً إلا بصعوبة، لغلبة الرطوبة عليه واتساع مجاريه وميل جذوره إلى السقوط؛ وإذا غلبت الحرارة، كان الطبخ أسرع وتخلخل بسبب الماء ولم يتجمد؛ وهذه حال جميع الأعشاب وفى بعض البقول.
〈ويحدث اللون الأغبر إذا كانت التربة شديدة الحرارة: إذا فيها تقل
الرطوبة وتضيق المجارى، فاذا أرادت الطبيعة إحداث الطبخ لم تجد رطوبة تكفى
الغذاء فتضيق المجارى. لهذا تنعكس عملية الطبخ وتجعلها الحرارة تستمر، فيظهر
〈والنبات الغليظ اللحاء ينمو ويزداد بفضل ضغط الرطوبة وقوة الحرارة؛
وهذا أمر نراه فى الصنوبر والنخيل. والنبات الذى يعطى عصيراً لبنياً يكون هذا
العصير فى داخله؛ إذ تكون فى داخله حرارة شديدة وتكون فيه مادة دهنية.
فاذا بدأت الحرارة فى إحداث الطبخ، تحولت المادة الدهنية إلى رطوبة،
وجمدتها الحرارة شيئاً يسيراً، وتحدث حرارة موضعية، فينشأ سائل دهنى شبيه
باللبن، ويصعد البخار من الرطوبة التى تجذب المادة اللبنية إلى أطراف النبات،
وتحتفظ الرطوبة بالحرارة التى تظهر. ولا تتجمد المادة اللبنية، لأن وظيفة
الحرارة أن تجمدها. فاذا ظهر فى المادة اللبنية تجمد كبير، فمرجع ذلك يكون
إلى وجود البرودة فى النبات. وتتجمد المسادة اللبنية إذا تركت وضعها الأصلى
فى الشجرة، وعن هذا يكون الصمغ. والصمغ يفرز حاراً من الشجر
بالتقطير، فاذا اتصل بالهواء جمد. وبعض الصمغ يسيل فى المناطق المعتدلة،
ويكون قوامه كالماء؛ وبعضه الآخر يسيل ثم يصبح جامداً كالحجر أو المحار.
والصمغ الذى يتساقط قطرة فقطرةً يحتفظ بشكله، مثلما يحدث فى الشجر المعروف
باسم Aletafur. والصمغ الذى يتحول إلى مادة حجرية يكون بارداً
〈ومرارة الثمر تنشأ عن كون الحرارة والرطوبة لم تتما عملية الطبخ (فالبرد
والجفاف يمنعان من إتمام هذه العملية)، فيصبح الثمر مراً. ويتضح هذا من
كون ما هو مر إذا وضع على النار أصبح حلواً. والأشجار التى تنمو فى المياه
المرة تحمل ثمراً حلواً، لأن الملوحة بمعونة حرارة الشمس تجذب ما هو من صفتها،
أى البرودة والجفاف، فتظهر السوائل الحلوة فى داخل الشجرة، ويصبح قلب
الشجرة حاراً حينما تشرق الشمس عليه باستمرار، وبعد هذا يصبح طعم الثمرة
مراً، فاذا تم الطبخ انحلت المرارة تدريجياً حتى تختفى، وهنالك تظهر الحلاوة.
وتبعاً لهذا تصير الثمرة حلوة، بينما الأوراق وأطراف الشجرة تكون حامضة. فاذا
تم الطبخ، صارت الثمرة مرة: وهذا راجع إلى إفراط الحرارة وقلة الرطوبة.
ثم تزول الرطوبة، وترفع الثمرة الحرارة، ولهذا تصبح الثمرة مرة، والأحجار فى
الثمرة تكون هرمية الشكل بسبب جذب الحرارة إلى أعلى وجذب البرودة إلى أسفل
أما〉 الاهليلج فانه يكون فى ابتداء كونه عند ظهور الثمر
حلواً، ثم يكون عفصاً، ثم يكون فى تمامه مراً. وذلك أن شجره متخلخل جداً،
تمت المقالة الثانية من كتاب «النبات» لأرسطوطاليس وبتمامها تم الكتاب والحمد لله رب العالمين