Data Entry
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر برحمتك
المقالة الأولى من كتاب الحاس والمحسوس لأرسطو تلخيص القاضى أبى الوليد ابن رشد وهو ثلاث مقالاتقال: لما تكلم فى كتاب الحيوان فى أعضاء الحيوان وما يعرض لها، وتكلم بعد هذا فى النفس وفى أجزائها الكلية — شرع ها هنا فى الكلام فى القوى الجزئية منها، وتمييز العام منها لجميع الحيوان من الخاص. وبالجملة، فهو يفحص هنا عن القوى التى توجد للحيوان من جهة ما هو متنفس. ولما كانت هذه القوى صنفين: صنفاً ينسب إلى جسد الحيوان من أجل وجود النفس له، مثل: الحس والحركة؛ وصنفاً للنفس من أجل الجسد — وهذه أجناس: منها النوم واليقظة، ومنها الشباب والهرم، ومنها الحياة والموت، ومنها دخول النفس وخروجه، ومنها الصحة والمرض، ومنها طول العمر وقصره. وقد كان تكلم فى الصنف الأول منها فى كتاب النفس كلاماً كلياً؛ فابتدأ ها هنا يتكلم فيها كلاماً جزئياً، أعنى أنه يذكر من أسباب تلك القوى مثل ذلك الكلام فى كتاب النفس فى القوة المحركة للحيوان فى المكان: ما هى؟ وكيف تحرك؟ — وبقى عليه ها هنا أن يقول ما هى الأعضاء والآلات التى بها تتم هذه الحركة.
ثم إنه بعد ذلك يذكر الصنف الثانى من هذا القول. وهذا الصنف هو ضرورى فى وجود الحيوان: وذلك أن كل قوة منها تشتمل قوى كثيرة من قوى النفس، وهى كالجنس لها؛ ولذلك كانت أكثر ضرورية من الصنف الأول، مثل النوم واليقظة: فان النوم سكون جميع الحواس، واليقظة هى حركاتها؛ وكذلك الموت والحياة والهرم والشباب والصحة والمرض. والذى يلنى لأرسطو فى بلادنا هذه من القول فى هذه الأشياء التى وعد فى صدر هذا الكتاب بالتكلم فيها — إنما هى ثلاث مقالات فقط: (المقالة الأولى) يتكلم فيها فى القوى الجزئية التى فى الحاس والمحسوسات؛ وبهذا الجزء لقب هذا الكتاب. و(المقالة الثانية) يتكلم فيها فى الذكر والفكر، والنوم واليقظة، والرؤيا. و(المقالة الثالثة) فى طول العمر وقصره.
فنتكلم نحن أولاً فى هذه المقالات الموجودة له على عادتنا. فان أنسأ الله فى العمر فسنتكلم فى الأمور الأخر.
ولنبدأ بالقول فى الحاس والمحسوس. والكلام فى ذلك منحصر فى أربعة أقسام: منها معرفة ماهية هذه القوى، وماهية جزء جزء منها؛ ومعرفة الآلات التى بها يتم فعل هذه القوى؛ ومنها معرفة مدركات هذه القوى وهى المحسوسات؛ ومنها معرفة كيفية إدراك هذه القوى بهذه المحسوسات. — وهذه كلها قد تكلم فيها فى «كتاب النفس» بكلام كلى. وهو يروم ها هنا أن يستوفى الكلام فى الأمور الجزئية الموجودة لها، والخواص التى تختص بها هذه القوى فى أنفسها وفى حيوان حيوان، والخواص التى تتضمن، ويعرف ما بقى من طبيعة المحسوسات، فان هذا لم يتكلم فيه إلا بقول فى غاية الكلية. فنقول:
إن القوى الحسية: منها ما هى ضرورية فى وجود الحيوان، ومنها ما هى
موجودة لمكان الأفضل. وهذه كلها تختلف أيضاً فى الحيوان بالقوة والضعف.
فأما التى وجدت فى الحيوان من أجل الضرورة فهى حاسة اللمس وحاسة الذوق.
ويخص آلات الثلاث قوى، أعنى السمع والبصر والشم، أنها منسوبة
إلى البسائط: فالعين إلى الماء، والسمع إلى الهواء، والشم إلى الحار النارى
فقد قلنا فى آلات هذه الحواس. فلنقل فى المتوسطات الثلاث التى تحتاج إليها الحواس الثلاث وفى خواصها وفى لوازمها. والمتوسط الذى تستعمله هذه الحواس إما هواء فى الحيوان البرى، أو ماء فى الحيوان المائى. والدلالة على حاجة هذه الحواس الثلاث إلى المتوسط أنها إذا وضعت محسوساتها على الحاسة لم تدركها؛ وكذلك إذا قامت بينها وبين المحسوسات أجسام غليظة مما ليس يصلح أن يكون متوسطاً. وبالجملة، فتظهر حاجة هذه الحواس وفعلها إلى المتوسط من قبل أنه متى فسد المتوسط فسد فعلها. ولهذا يخص المتوسطات من جنس الآلات الخاصة بها، أعنى أن يكون قابلا للمحسوسات بنوع ما، من نوع قبول الآلات. وسيظهر السبب فى ذلك إذا تبينت طبيعة الحواس المختلطة بالمتوسطات. ويخص قوة البصر من هذه الآلات أنها تحتاج مع المتوسط إلى الضوء. والدليل على ذلك أنها لا تبصر فى الظلمة. وإذا حدث فى الهواء دخان أو بخار يعوق نفوذ الضوء فيه ضعفت الرؤية. ولهذا إذا غضب المرء وهاجت الحرارة فى عينيه أظلم بصره لمكان البخار. وربما رأى الشىء الواحد — كما قلنا — شيئين. وليس الضوء شيئاً يؤخذ من طبيعتها، وإنما يدخل عليها من خارج. ولو كان من نفس طبيعتها لأبصرت الأشياء فى الظلمة. ولهذا يرى الذين يغمضون أعينهم: إذا فتحوها أن لا يروا الشىء على حقيقته إلا بعدما يستنير بصرهم. وقد يعرض للبصر أنه يرى الشىء رؤية روحانية قبل أن يراه من خارج على الحالة التى هو عليها. وسنبين علة ذلك فيما بعد. وهذه الرؤية إنما تعترى المبصر فى الأكثر فى الظلمة وعند السكون. ومن خاصة هذا الإدراك أنه لا يكون جيداً إلا فى الضوء المعتدل، لا فى الضوء الشديد ولا فى القليل.
فقد بان من هذا أن الحواس الثلاث يخصها أنها تدرك محسوساتها بمتوسط،
وأن البصر يخصه — مع وجود المتوسط — حضور الجسم المضىء. وقد قيل فى
الضوء والمستضىء والإشفاف والمشف فى «كتاب النفس». وواجب أن تكون
وإذ قد تبينت خواص هذه القوى فى الآلات والمتوسطات فلنقل فى المحسوسات الخاصة بهذه القوى. وقد قيل فى «كتاب النفس» فى هذه المحسوسات قول كلى. والكلام فيها ها هنا أقرب إلى الجزئى كما يقول أرسطو. فنقول إنه قد قيل هنالك إن المحسوسات الخاصة بالإبصار: هى الألوان، وبالسمع: الأصوات وبالشم: الروائح، وبالذوق: الطعوم، وباللمس: الملموسات. والذى يغنى عن القول فيها هو تقريب طبائعها. فنقول:
إنه لما كانت الأسطقسات تختلف بكثرة التشفيف وقلته كالهواء والماء،
وكان المشف من شأنه أن يقبل الضوء ويستكمل به، فاذا قبل المشف الضوء
واتحد به تولد عن ذلك ألوان مختلفة بحسب قوة الضوء وضعفه وكثرة التشفيف
وقلته. وذلك ظاهر من الألوان المختلفة التى تحدث عند اتحاد ضوء الشمس
بالغيم والسحاب، فانه من البين أن تلك الألوان إنما تحدث عن بياض الضوء
وسواد السحاب من الألوان التى تحدث عن قوس قزح وغير ذلك. فواجب أن
يكون اللون إنما يحدث عند امتزاج الجسم المضىء مع الشفاف، وكانت جميع
المركبات إنما تتولد عن الأسطقسات الأربع، وكان المشف من الأسطقسات
هو الماء والهواء، والمضىء منها هو النار. وذلك أيضاً إذا تشبثت
فقد بان من هذا أن الألوان إنما تحدث عن امتزاج النار مع الأجسام
المشفة، وأن الضوء هو السبب فى توصيل الألوان إلى البصر، بل وفى وجودها.
وأقول أيضاً: كما أن اللون الأبيض المتولد عن الامتزاج أخس من لون الضوء
إذ كان متولداً عنه — كذلك أيضاً سائر الألوان أخس من اللون الأبيض
فأما الأصوات فقد قيل فى «كتاب النفس» فيها.
وأما المشمومات، وهى ذوات الروائح والطعوم، فينبغى أن نقول فيها قولا مفصلا، فنقول: إنه من البين أنه ليس لواحد من الأسطقسات طعم ولا رائحة، وأن الطعم والرائحة إنما يوجدان للممتزج من جهة ما هو ممتزج. ولما كان كل ممتزج إنما صورته منسوبة إلى غلبة كيفيتين من الكيفيات الأربع عليه، فيجب أن ننظر إلى أى الكيفيات ينبغى أن ينسب الطعم فى الجسم ذى الطعم، فنقول: إنه لما كان الذوق غذاء للحيوان، وكان الغذاء من شأنه أن يكون شبيهاً بالحيوان، وكان بدن الحيوان منسوباً إلى غلبة الحرارة الرطوبة عليه — وجب أن يكون الطعم منسوباً إلى الحرارة والرطوبة. وإنما كان ذلك كذلك، لأن طبيعة الرطب، الذى هو الماء، أشد مناسبة للحيوان من طبيعة الأرض. وقد يدل على أن الرطوبة هى سبب الطعم الممتزج. إلا أن الأشياء المطعومة: منها مطعومة بالقوة، ومنها بالفعل. وأما التى بالفعل فهى المطعومة بالقوة؛ وإنما تكون مطعومة بالفعل إذا صارت رطبة بالفعل كالملح وما أشبهه، فانه لا يتطعم إلا أن ينحل بترطيب. وإذا كان ذلك كذلك، فالطعم إنما يحدث ضرورة عن اختلاط الجزء اليابس بالجزء الرطب إذا نضج عن الحرارة نضجاً ما. — وأصناف الطعوم إنما تختلف باختلاف هذين الشيئين فى القلة والكثرة: فالحلاوة منسوبة إلى الحرارة. 〈والمرارة〉 منسوبة بالإضافة إلى رطوبة الحلاوة. وما بين هذين من الطعوم متولد من هذين الطعمين، كما تتولد الألوان عن الأبيض والأسود.
وأما الروائح فيظهر من أمرها أن هيولاها هى الطعم المتولد عن مخالطة
اليبوسة للرطوبة. وذلك أنه يظهر بالاستقراء أن كل ما له رائحة فله طعم. إلا أن
الروائح، لما كانت من جنس الأبخرة الدخانية، وبهذه الجهة كان الهواء حاملا
وقد يشهد أن طبيعة المشمومات طبيعة الدخان أن كثيراً من الأشياء ليس لها رائحة، فاذا أدنيت من النار كان لها رائحة. وبهذه الجهة كان الإنسان له خاصية فى إدراك روائح الأشياء بالفرك باليد؛ وذلك أن هذه الآلة بحرارتها وبنيتها من شأنها أن تثير هذا الجوهر من الشىء ذى الرائحة. ولذلك يشبه أن يكون الإنسان أجود تفصيلا فى إدراك فصول محسوسات الشم من سائر الحيوان؛ وكثير من سائر الحيوان أقوى منه إدراكاً للروائح على البعد.
فقد قلنا فى خواص آلات هذه الحواس واستوفينا القول فى طبيعة محسوساتها. فينبغى أن نستوفى القول فى كيفية إدراكها، فان ذلك إنما قيل فى «كتاب النفس» قولا كلياً.
فنقول: إن الآراء التى كانت للقدماء فى كيفية إدراك النفس محسوساتها
أربعة: أحدها رأى من كان يعتقد أن صور المحسوسات فى النفس بالفعل وأنها
ليست تستفيدها من خارج، وإنما الصور التى من خارج منبهة ومذ كرة
بما عندها منها. وهذا هو رأى أفلاطون، أو قريب منه. — والثانى رأى من كان
〈يقول〉 إنه ليس فى النفس شىء من المحسوسات بالفعل،
وإنما تستفيدها من خارج، وهؤلاء انقسموا فرقتين: فرقة رأت أن استفادتها
الصور التى من خارج واستكمالها بها استفادة جسمانية لا روحانية، ومعنى ذلك
أنه يكون وجودها بالنفس على الحالة التى هى عليها خارج النفس؛ وفرقة رأت
ونحن نقول: أما أن الرؤية وما يعرض فيها لا يتم إعطاء أسباب ذلك
إلا بتوهم هذه الخطوط والشكل الصنوبرى — فصحيح؛ لكن نقول إن هذه
الأبعاد ليس الحامل لها ولا الموضوع شيئاً غير المتوسط وهو الجسم الشفاف:
فان من شأن هذا الجسم أن يقبل الضوء واللون، بهذا النوع من القبول. وسنعدد
ما يلزم هذا الرأى من المحالات التى عددها أرسطو. — فنرجع إلى حيث
كنا فنقول: أما من زعم أن صور المحسوسات موجودة بالنفس بالفعل، وأنها
إنما تحتاج إلى المحسوسات من خارج ليتذكر وينتبه فقط — فقد يدل على بطلانه
وأما من رأى صور المحسوسات تنطبع فى النفس انطباعاً جسمانياً، فقد يدل على بطلانه أن النفس تقبل صور المتضادات معاً، والأجسام ليس يمكن فيها ذلك؛ وليس تلفى هذه للنفس فقط، بل وللمتوسطات: فانه يظهر أن بجزء واحد من الهواء يقبل الناظر اللونين المتضادين إذا نظر شخصين أحدهما أبيض والآخر أسود. وأيضاً فان كون الأجسام العظام مدركة للبصر بالحدقة على صغرها حتى إنها تدرك نصف الكرة من العالم — دليل على أن الألوان وما يتبعها ليست تحل فيها حلولا جسمانياً بل حلولا روحانياً، ولذلك يقول: إن هذه الحواس إنما تدرك معانى المحسوسات مجردة من الهيولى: فتدرك معانى اللون مجرداً من الهيولى، وكذلك تدرك معنى المشموم والمطعوم وسائر المحسوسات.
وإذ قد تبين أن هذا الإدراك روحانى، فيقال لمن أنكر أن يكون
إدراك المحسوس بمتوسط: إن المعانى التى تدركها النفس إدراكاً روحانياً منها
جزئى وهى المحسوسات، ومنها كلى وهو المعقولات. ولا يخلو هذان
الصنفان من المعانى أن يكون إدراك النفس لهما بجهة واحدة من الجهات
الروحانية، أو بجهتين. ولو كانت بجهة واحدة لكانت المعانى الكلية والجزئية
واحدة — وذلك مستحيل. وإذا كان هذا هكذا، فهى تدرك المعانى الكلية بجهة،
والجزئية بجهة. أما المعانى الكلية فتدركها إدراكاً غير مشارك لمادة أصلا، ولذلك
لا يحتاج فيها إلى متوسط. وأما المعانى الجزئية فتدركها بأمور مناسبة للأمور
الجزئية، وهى المتوسطات؛ ولولا ذلك لكانت المعانى التى تدرك كلية لا جزئية
وأرسطو يبطل قول من قال إن القوة المبصرة تمتد من العين حتى تصل إلى الشىء المنظور فيه — بحجج: منها: إن كان ما يجب بحسب هذا الرأى أن ينظر البصر إلى الأشياء فى الظلمة كما ينظر إليها فى الضوء؛ وإن من يقول بامتداد الأشعة لا يحتاج البصر عنده إلى المتوسط ولا إلى الضوء.
ومنها: أنه لو كانت قوة النفس، أعنى الجنس المشترك، هو الذى يمتد إلى الأشياء حتى يحسها لم يحتج إلى الشباك التى فى العين، أعنى الطبقات، ولما كان يجب أن يدخل على هذه القوة فساد إذا تعطلت منها شبكة.
الحجة الثالثة منها: لو كانت النفس تمتد حتى تلقى المحسوس،
لكان إدراكها لجميع المبصرات واحداً: النائية والقريبة. وبالجملة، من يقول
بالأشعة الخارجة من العين فلابد له من أحد أمرين: أحدهما إما أن يضع
أما جالينوس فقد بلغ من غلطه فى هذا المعنى أن ظن أن الهواء حساس.
وإذ قد تبين كيف إدراك النفس بالقول الكلى، فلننظر كيف يترتب هذا
الإدراك بمتوسط فى الحواس الثلاث التى تدرك بمتوسط فنقول: إن الهواء،
بتوسط الضوء، يقبل صور الأجسام أولا ثم يؤديها إلى الشبكة الخارجة، وتؤديها
الشبكة الخارجة إلى سائر الشباك حتى تتأدى الحركة إلى الشبكة الأخيرة التى
الحس المشترك موضوع خلفها، فتدرك صورة الشىء؛ وفى وسط هذه
ومثال مراتب هذه الصورة فى هذه القوى وتنقلها من مرتبة إلى مرتبة ألطف منها، كما يقول أرسطو، مثال من أخذ مرآة ذات وجهين فنظر فى أحد وجهيها وصير الوجه الثانى منها مما يلى الماء وكانت المرآة رقيقة شفافة صافية، فانه لهذا الناظر أن تنطبع صورته أولا فى المرآة، ثم تنطبع من المرآة فى الماء. وإن نظر أحد إلى الوجه الثانى من المرآة، أعنى الوجه الذى يلى الماء رأى تلك الصورة بعينها قد انطبعت مرة ثالثة فى المرآة. فصورة الإنسان الناظر هى مثال المحسوس، والمرآة هى مثال الهواء المتوسط، والماء هو مثال العين، ومثال انطباعها فى الوجه الثانى من المرآة هى القوة الحساسة، ومثال الإنسان المدرك مثال القوة المتخيلة. فاذا لم ينظر الناظر فى هذه المرآة اضمحلت الصورة منها واضمحلت من الماء، ويبقى الناظر فى الوجه الثانى من المرآة يتوهم الصورة. وهذا هو شأن القوة المتخيلة مع الصورة التى فى الحس المشترك فانه إذا غاب المحسوس غابت صورته عن الحس المشترك وبقيت الصورة المتخيلة متوهمة.
فقد بان من هذا أن رسم الصورة إنما يراه الحس المشترك بتوسط
العين، والعين بتوسط الهواء، ويراها فى الرطوبة المائية التى فى العين بتوسط
فقد تبين من هذا كيف يكون الإبصار بالمتوسطات.
وأما كيف يكون الشم بتوسط الهواء والماء، فان ذلك يكون بما فى الهواء من الاستعداد لقبوله للجسم الدخانى المشموم وما فى الماء أيضاً من ذلك. وذلك أن من شأن هذه الأسطقسات أن يؤدى بعضها إلى بعض الأبخرة المتولدة، للمجانسة التى بينها: فالأرض تؤدى البخار اليابس إلى الماء، والماء يقبله لمشاكلته له فى الرطوبة، والهواء يؤدى إلى النار للمشاركة التى بينهما فى الحرارة.
وأما كيف يؤدى الهواء الصوت، فقد قيل فى «كتاب النفس».
وأما خصوصية إدراك هذه الحواس الخمس فى الحيوان، فانها ليست على جهة واحدة. وذلك أنها فى الإنسان تدرك فصول الأشياء ومعانيها الخاصة، وهى التى تتنزل من الشىء المحسوس منزلة اللب من الثمرة. وفى الحيوان، إنما تدرك الأمور التى من خارج، وهى نسبتها إلى الأشياء نسبة القشر إلى اللب من الثمرة. والدلالة على ذلك أن البهائم لا تتحرك عن هذه الحواس حركة الإنسان عنها، فان الإنسان يطرب عند سماع الألحان ولا تطرب البهائم، إلا أن قيل ذلك باشتراك الاسم. وكذلك يتحرك الإنسان عن رؤية الأشكال والأصباغ حركة لا تتحركها البهائم. وكذلك الأمر فى أصناف المطاعم والمشمومات، وإن كانت مشاركة البهائم فى هذا أكثر لمكان جسمانيتها. وكذلك الأمر أيضاً فى قوة اللمس فان ليد الإنسان فى ذلك خاصية ليست لغيره: فالإنسان يستدل بالشم على الطعم الموافق والضار؛ ويتداوى بالمشمومات كما يتداوى بالمطعومات. وإنما كانت المشمومات سبباً للبرء من أمراض الرأس، لأن الرأس بارد رطب، والمشموم فى أكثر الأمر حار يابس.
والسمع فى الإنسان هو الطريق إلى التعلم، لأن التعلم إنما يكون بالكلام، والكلام إنما يتأدى إليه من طريق السمع. إلا أن فهم دلالة الألفاظ ليس هو للسمع، وإنما هو للعقل.
وكل حاسة من هذه الحواس فى الإنسان هى الطريق إلى المعقولات الأول الحاصلة له فى ذلك الجنس، وبخاصة السمع والبصر. ولهذا يقول أرسطو إن الذين لم يعدموا هاتين الحاستين هم أكثر عقلا وأجود إدراكاً.
فهذه هى جمل الأشياء التى فى هذه المقالة على أكثر ما أمكننا من الإيجاز. وأما ما يذكر فى آخر هذه المقالة من إعطاء السبب فى جودة قوة الذكر وضعفها فالموضع اللائق به هو عند الكلام فى المقالة الثانية فى القوة الذاكرة.
تمت المقالة الأولى من «كتاب الحاس والمحسوس» والحمد لله رب العالمين
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر برحمتك
المقالة الثانية من كتاب «الحاس والمحسوس» لارسطو تلخيص القاضى أبى الوليد بن رشد، رضى الله عنهم!يبتدىء بالفحص فى هذه المقالة عن الذكر والتذكر. وهو أولا يطلب الرسم الذى به يفترق هذا الإدراك من سائر إدراكات النفس؛ ثم يطلب لأى قوة هو من قوى النفس، وبمشاركة أى قوة يكون فى الحيوان الذى يذكر؛ ثم يبين كيف يكون الذكر والتذكر.
وأما مرتبة هذه القوة من قوى النفس، ولم كان بعض الناس جيد الذكر ردىء الحفظ، وبعضهم بالعكس — إلى سائر لوازم هذه القوى وما يعرض لها فنقول:
إن الأشياء المدركة لنا: إما أن تكون فى الآن والزمان الواقف مثل مدركات
الحس، وإما أن تكون متوقعة فى الزمان المستقبل، وهذه هى الأمور المظنونة؛
وإما أن تكون مدركة فى الزمان الماضى. وبين أن الذكر إنما يكون فى هذه،
فانا لسنا نسمى ذكراً ماحصلت معرفته لنا الآن، ولا مما يتوقع وجوده، وإنما
يذكر المرء ماقد حصلت له المعرفة به من قبل فى الزمان الماضى. فالذكر
هو استرجاع فى الزمان الحاضر للمعنى الذى كان مدركاً فى الزمان الماضى.
والتذكر هو طلب هذا المعنى بارادة إذا نسيه الإنسان وإحضاره بعد غيبته بالفكرة
فيه. ولذلك يشبه ألا يكون التذكر إلا خاصاً بالإنسان. وأما الذكر فانه لعامة
الحيوان المتخيل. فانه يظن أن أجناساً كثيرة من الحيوان لا تتخيل كذوات الأصواف.
والفرق بين الذكر والحفظ أن الحفظ لما لم يزل قائماً بالنفس من وقت
وإذا كان ظاهراً من أمر هذه القوى أنها جزئية وأنها محتاجة فى فعلها إلى
أن تتقدمها قوتان: قوة الحس وقوة التخيل، فلننظر بماذا تفترق هذه القوة من
قوة التخيل. فانه يظهر من أمرها إن لم تكن هى فهى لها مشاركة فى فعلها.
فنقول: إنه من البين أنه وإن كان كل ذكر وتذكر فانما يكون مع تخيل، فان
معنى الذكر غير معنى التخيل، وأن فعل هاتين القوتين متباين، وذلك أن فعل
قوة الذكر إنما هو إحضار معنى الشىء بعد فقده والحكم عليه الآن: أنه ذلك
المعنى الذى أحس وتخيل. فها هنا إذن أربعة أشياء: خيال، ومعنى ذلك
الخيال، وإحضار ذلك المعنى، والحكم على أنه معنى ذلك الخيال الذى كان
للمحسوس المتقدم. وإحضار الخيال واجب أن يكون لقوة غير القوة التى تدرك
المعنى. وهذه القوة توجد بحالتين: إن كان إدراكها متصلا سميت
حافظة، وإن كان منفصلا سميت ذاكرة. وأما الحكم على أن هذا المعنى هو
لهذا التخيل فهو فى الإنسان للعقل لأنه الحاكم بالإيجاب والسلب، وهو فى الحيوان
الذاكر شىء شبيه بالعقل، لأن هذه القوة تكون فى الإنسان بفكر وروية،
فهاهنا ثلاثة أفعال لثلاث قوى: الاثنتان منها تأتى بالشيئين البسيطين اللذين تتركب الصور المركبة منهما اللذين أحدهما خيال الشىء، والثانى معنى خيال الشىء. والقوة الثالثة تركب ذين المعنيين أحدهما إلى الآخر، وذلك أن فى الصورة المتخيلة شيئاً يتنزل منزلة الموضوع، وهو التخطيط والشكل، وشيئاً يتنزل منزلة الصورة وهو معنى ذلك الشكل. وذلك أن الشخص خارج النفس لما كان مركباً عرض له أن يكون فى النفس على نحو ذلك، وأن يكون قبول الجزئين اللذين منهما تركب — لقوتين مختلفتين، وأن يكون تركيبها لقوة ثالثة.
فقد تبين من هاهنا ثلاث قوى: قوة محضرة لمعنى ذلك الخيال
وقوة مركبة من ذلك المعنى إلى خياله. ولذلك إنما يتم التذكر بتعاون هذه القوى
الثلاث وإحضار كل واحدة منها ما يخصها. وأرسطو يعتمد فى بيان أن هذه القوة،
أعنى الذاكرة، غير القوة المصورة، وأنهما اثنتان بالماهية والموضوع — أنا قد
ندرك أحياناً معنى الصورة المتخيلة، وأحياناً ندرك الصورة المتخيلة، وأحياناً
ندرك الصورة دون أن نجرد منها معنى الصورة. ولذلك يمكننا أن نحفظ أشياء
كثيرة معاً، ولا يمكننا أن نتخيلها. وقد قلنا إن قوة الحفظ والذكر واحدة
بالموضوع، اثنتان بالجهة. والتى تدرك القوة المتخيلة من شخص زيد المشار إليه
إنما هو رسمه الراسم من ذلك فى الحافظ. والذى يدرك القوة الذاكرة إنما هو معنى
ذلك الرسم، ولذلك كان معنى الشىء فى القوة الذاكرة أكثر روحانية منه فى
القوة المتخيلة. ولما كان فعل هذه القوى فى الصورة المحسوسة أحد فعلين:
إما تركيب، وإما تحليل — وذلك أنها إذا استرجعت التى قد أحست ففعلها
إنما هو تركيب، وذلك يكون كما قلنا بأن تحضر كل واحدة من القوة المعنى البسيط
ولما كانت هذه القوى مختلفة الأفعال، كانت مختلفة المواضع من الرأس. ولما كان الحاس إنما يحس أولا، ثم يصور المصور، ثم يميز المميز، ثم يقبل الحافظ ما ميز المميز — وجب ضرورة أن يكون المصور فى أفق الحاس من من الدماغ، ثم يليه المفكر، وذلك فى الموضع الأوسط. ثم يلى المفكر الذاكر والحافظ، وذلك فى المؤخر من الدماغ، وذلك بحسب المشاهدة من هذه القوى فى هذه المواضع بالاعتدال اللاحق لقوة قوة من هذه القوى باختلال موضع موضع من تلك المواضع. وذلك أنه متى اعتل مزاج مقدم الدماغ فقط، اختل خيال ذلك الرجل، ولم يختل فكره ولا ذكره. فاذا اعتل وسطه، اختل فكره. وإذا اعتل مؤخره، اختل ذكره وحفظه. وهذا معروف عند الأطباء. ولذلك كانت هاهنا مراتب خمس: أولها جسمانى كثير القشر وهو الصورة المحسوسة خارج النفس؛ والمرتبة الثانية وجود هذه الصورة فى الحس المشترك وهى أول مراتب الروحانية؛ والمرتبة الثالثة وجودها فى القوة المتخيلة، وهى 〈أكثر〉 روحانية من الأولى؛ والمرتبة الرابعة وجودها فى القوة المميزة؛ والخامسة وجودها فى القوة الذاكرة، وهى أكثر روحانية فانها تقبل لباب ما ميزته الثلاث وصفته من القشر.
فقد تبين من هذا القول أى وجود هو وجود هذه القوى، وما جوهرها؛
وأنها غير المصورة وغير المميزة، وأنها إنما يتم فعلها بمشاركة المميزة والمصورة،
وذلك إما فى هذا التركيب، أو فى حد التفصيل. وبين أن الحفظ إنما هو
استصحاب وجود المعنى المحسوس فى هذه القوة من غير أن ينقطع، وأن النسيان
هو ذهابه، وأن الذكر هو رجوعه بعد النسيان، وأن التذكر هو استرجاعه
وأنه خاص بالإنسان. ولذلك قد يجب أن ننظر كيف يتذكر المتذكر ما قد أحسه
ونسيه فنقول: إن تذكر المرء شيئاً قد نسيه إنما يكون ضرورةً باحضار معنى
وباجتماع هذه الثلاث قوى يحضر الشىء المنسى عند التذكر. فان اعتاص إحضار الشىء على المرء فانما ذلك لموضع ضعف واختلال لحق إحدى هذه القوى، فاعتل سائرها لاختلال تلك القوة الواحدة. وهذا الاختلال يعرض لبعض هذه القوى من بعض، إنما يعرض أكثر للأعلى من الأسفل — مثال ذلك أن المصور يألم يختل باختلال الحس ويتدنس بتدنسه، ولا يألم الحس بألم المصور. وكذلك القوة المميزة تألم بألم المصور، ولا يألم المصور بألمها. وإنما كان ذلك كذلك، لأن الروحانى يألم بألم الجسمانى، ولا يألم الجسمانى بألم الروحانى. وكذلك الأكثر روحانية منها تألم بألم الأقل روحانية، ولا تألم الأقل روحانية بألم الأكثر روحانية. وليس يعرض عن اجتماع هذه القوى وتعاونها إحضار الشىء الذى قد أحس ونسى، بل وقد يحضر فى بعض الناس عند اجتماعهما صور الأشياء المحسوسة من غير أن يحسها، وإلا نقلت إليه صفاتها، كما حكى أرسطو عن بعض القدماء أنه كان يصور أشياء نقلت إليه بالسماع من غير أن يكون شاهدها. فاذا امتحنت تلك الصور وجدت على ما شاهدت عليه وبهذه الجهة يمكن أن يتصور الفيل من لم يره قط. وهذا إنما يعرض للمرء عند اتحاد هذه القوى الثلاث. واتحادها إنما هو من قبل النفس الناطقة، أعنى من قبل طاعتها لها؛ كما أن افتراقها إنما يكون من النفس البهيمية. واتحادها عسر صعب على المرء لكونه من قبل النطق. وراحة النفس البهيمية إنما هى فى افتراقها. ولذلك إنما يعرض الاتحاد للذين يجهدون أفكارهم فى الخلوات ويقطعون عن أنفسهم الشواغل التى تشغل الحواس، فيعود الحس المشترك فيهم إلى معونة هذه القوى. ولذلك قد تتحد هذه القوة فى النوم فتطلع على عجائب العالم فى الأحوال الشبيهة بالنوم، مثل الإغماء الذى يعرض للذين يقال إنهم عرج بأرواحهم.
وقد تبين، كما يقول أرسطو، أن لا تحتاج هذه القوى بعضها إلى معونة بعض فى إحضار ما لها أن تحضر، بل قد تحضر كل ما لها أن تحضره دون معونة صاحبتها. وقد لا يتفق لها أن تحضر الشىء إلا بمعونة بعضها بعضاً. والفرق بين حركة النفس على أجزاء الشىء وإحضاره على جهة التذكر، وبين حركة النفس على أجزاء الشىء وإحضاره على جهة الحفظ أن حركتها على أجزاء الشىء المتذكر حركة متقطعة، بل على جهة الانتقال من أمور غريبة إلى أجزاء الأشياء المتذكرة، وذلك أنها إنما تتذكر بشبيهه ومثاله. والحفظ ليس يحتاج فيه إلى ذلك. فالحركة المستوية على أجزاء الشىء المحض هى حفظ. وحركة التذكر على أجزاء الشىء المذكور ليست بمستوية، لأنها إنما تنتقل من مناسب الشىء إلى الشىء. ولذلك كان فعل الحفظ أشرف من فعل الذكر، لأن الحركة المستوية أشرف من المنقطعة المختلفة. فالقوة الحافظة بالجملة إنما تخص معانى أجزاء الشىء المحفوظ على التوالى والاتصال. فاذا أحضرتها ركب بعضها إلى بعض المميز ورسمها المصور. والقوة الذاكرة إنما تحضر أجزاء الشىء بحركة منقطعة غير متصلة. وإذا كان وجود أجزاء الشىء ظاهراً فى هذه المدارك الثلاثة وكان قليلا من جهة المميز والمصور، كان تذكره أسهل؛ وإن كان كثير القشر من هاتين الجهتين كان تذكره عسراً. والمعانى الكلية إنما تتذكر من جهة المتخيلات التى تستند إليها، ولذلك كان النسيان يلحقها كما يلحق المعانى الجزئية. — الذكر إنما يكون للصور السهلة الاسترجاع، والصور السهلة الاسترجاع هى التى تكون عند القوة المتخيلة والحس المشترك، وهى كثيرة الجسمانية قليلة الروحانية. والسور العسرة الاسترجاع هى الصور الروحانية القليلة الجسمانية. وإنما كان ذلك كذلك، لأن الصورة الكثيرة الجسمانية يطول فعل الحس المشترك فى تمييز روحانيتها من جسمانيتها، فيعرض له أن تثبت فيه تلك الصورة، وبخاصة إذا قبلها قليل القشر.
فقد تبين من هذا كيف يكون التذكر، وما الفرق بينه وبين الحفظ. وقد بقى من لواحق هذه القوى التى يذكرها أرسطو مطلبان: أحدهما: لم كان المتذكر يألم ويلتذ من غير أن يكون الملتذ به موجوداً بالفعل؟ — فنقول: إن المتذكر يلتذ بذكر الأشياء التى ليست موجودة بالفعل من جهة أن الأشياء التى تبعثه على التذكر هى أشياء موجودة، وهى ضرورة مناسبة كالأشياء المتذكرة. فلكون شبيه الشىء له بالفعل يلحق المتذكر من اللذة أو الأذى عند ذلك ما كان يلحقه لو كان ذلك الشىء موجوداً بالفعل؛ فكأنه يتوقع خروج ذلك الشىء إلى الفعل، وكأنه عند النفس فى حد الممكن. وذلك أنه إذا وجد شبه ذلك الشىء، كان الشىء ممكناً أن يوجد، فالنفس إذا تذكرت شيئاً من أجل محسوس مناسب لذلك الشىء لأمر بها، أشعرها العقل أن ذلك المحسوس من جنس ما كان عندها مخرجاً وموجوداً بالقوة، وأنه يمكن أن يخرج إلى الفعل كما خرج إلى الفعل هذا الشبيه الذى نبهنا. فيعرض عند ذلك من الألم بالشىء المتذكر واللذة مثل ما يعرض لو كان موجوداً بالفعل.
وأما الجيد الذكر من الناس فهو البطىء الحركة الذى يثبت فى نفسه ما يمر
به من المحسوسات، وذلك هو مزاج مؤخر دماغه متمسك بالصورة الحاصلة؛
وهذا هو الذى تغلب على مزاج ذلك الموضع منه اليبوسة أكثر من
غلبة الرطوبة، فان اليبوسة من شأنها أن يعسر قبولها؛ فاذا قبلت الصورة فمن
شأنها أن تثبت فيها وتتمسك بها زماناً طويلا، بخلاف الأمر فى الرطوبة. ولذلك
كان الذين مزاج أدمغتهم هذه الأمزجة — جيدى التذكر، لأن جودة التذكر
إنما تكون عن بقايا رسم الصورة المنطبعة فى القوة المتخيلة. — أما الذين تغلب
على هذا الموضع منهم الرطوبة فانهم لا يتذكرون الأشياء لقلة ثبوت الصور فى
الرطوبة؛ ولكنهم يحفظون سريعاً لسهولة الرطوبة. ولهذا كان الكثير اليبس قليل
الحفظ كثير التذكر؛ وكان الكثير الرطوبة سريع الحفظ مثير النسيان عسر
الذكر. والمتوسط فى هذا المزاج تجتمع له جودة الحفظ وجودة الذكر؛ ولهذا
كانت جودة الذكر منسوبة إلى سن الشباب بالطبع، وكان النسيان يعرض
للصبيان والشيوخ: أما للصبيان فلموضع الرطوبة الطبيعية، والمشايخ 〈لموضع
فقد قلنا فى هذه القوة وفى لواحقها فلنقل فى النوم واليقظة، والنظر فيهما أولا: هل هما خاصان بالنفس، أو بالجسد؟ أو هما مما تشترك فيه النفس والجسد؟ وإن كانا مما تشترك فيه النفس والجسد فلأى جزء من أجزاء النفس تنسب هاتان القوتان؟ ولأى عضو من أعضاء البدن؟ وهل ما يوجد له من الحيوان إحدى هاتين القوتين توجد له الأخرى؟
فنقول: إن النوم والسهر يرسمان برسوم: أحدها أن النوم حس لا بالقوة،
أى لأشياء موجودة بالقوة؛ فانه ظاهر أن النائم يرى أنه يأكل ويشرب ويحس
بجميع حواسه الخمس. وأما اليقظة فانه حس لا بالفعل. — ومن
هذين الرسمين يظهر أن النوم عدم اليقظة، لأن ما بالقوة عدم ما بالفعل. والحس
الذى بالقوة فى النوم قد يتفق أن يخرج إلى الفعل، وذلك فى المنامات الصادقة
والإنذارات العجيبة. وحينئذ يكون الحس الذى بالقوة أشرف من الحس الذى
بالفعل. وأما الكاذب من الحس الذى بالقوة فخسيس، والذى بالفعل أشرف
منه. ويشبه أن يكون الأمر كما يقول أرسطو: إن الحس الذى بالفعل جسمانى،
والذى بالقوة روحانى، والجسمانى أشرف عند الحاس الجسمانى، والروحانى أشرف
عند المدرك الروحانى، وليس الروحانى أشرف عند الجسمانى، ولا الجسمانى
أشرف من الروحانى عند الروحانى. وأما الروحانى على الإطلاق فهو أشرف من
الجسمانى، والحس الروحانى إنما يوجد فى النوم فقط، بل يوجد فى اليفظة
عند اجتماع القوى الثلاث واتحادها كما سلف من قولنا، ومن هذين الرسمين أن
ورسم قوم النوم بأنه الذى يحدث عن ضعف القوى الحسية. وليس كل نوم يحدث عن ضعف القوى الحسية، فانه قد يحدث عن إعمال الفكر فى شىء ما، فيعرض للحس المشترك لمعونة الفكر، لا لأنه لحقه ضعف، بل فعله مع سائر القوى فى ذلك الوقت أقوى منه فى حين اليقظة.
والدليل على أن القوى الحسية تنقبض عند النوم أن المرء إذا عسر عليه المعنى وفكر فيه عرض له النوم. وقد يبلغ هذا المعنى ببعض الناس أن يعرض لهم شبيهاً بالموت، أعنى لضعف قواهم الخارجة لمكان تصرف القوى الداخلة الروحانية وإدراكها للأمور الجزئية واطلاعها على الأمور الروحانية الموجودة فى العالم كالملائكة والسموات وغير ذلك، وهؤلاء هم الذين يقال إنه عرج بأرواحهم.
ولما كان الحس المشترك من جهة واحداً، ومن جهته كثيراً: أما الجهة التى هو بها واحد فمن جهة أنه يدرك جميع المحسوسات الخمس؛ وأما كثير فمن جهة الآلات، أعنى من جهة أن له عيناً وأذناً وأنفاً، وكان هذا الحاس النوم واليقظة، وهو عام لقوى كثيرة من قوى الحس. فتبين أن النوم واليقظة يشتمل قوى كثيرة من قوى الحيوان. ولذلك ما يقول أرسطو: إنه واجب أن يعدل المرء بين هاتين القوتين، ولا يميل لإحداهما دون الأخرى، وذلك أنه متى ملنا إلى النوم أكثر مما ينبغى تبلدت النفس والآلات الطبيعية التى بها تفعل. ومتى ملنا إلى اليقظة فسدت القوى والآلات الطبيعية التى تخصها.
فقد ظهر من هذا الأمر: لأى قوة من قوى النفس يوجد النوم والسهر. ولما كانت هذه القوى لا بد لها من موضوع خاص، وذلك هو العضو الذى فيه هذه القوة، فينبغى أن نفحص عن هذا العضو: أى عضو هو، وإن كان يوجد لأكثر من عضو واحد، ولأيما يوجد أولا. ولأيها يوجد ثانياً، وعن أى سبب يوجد، وكيف يوجد.
فنقول إنه قد تبين فيما سلف مبدأ الحس المشترك إنما هو فى القلب،
وأن الدماغ هو أحد الآلات الممتة لهذر الفعل من جهة التعديل الموجود فيه.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان النوم هو غرض الحس المشترك إلى
داخل البدن، فبين أن مبدأ هذه الحركة فى السهر هو من القلب ومنتهاها إلى
الدماغ. وأما فى النوم فمبدؤها من الدماغ، ومنتهاها إلى القلب. وعلى الحقيقة
فمبدؤها فى الأمرين إنما هو من القلب، لكن الدماغ هو سبب فى النوم بجهة ما
أكثر منه فى السهر. وبالجملة فكل واحد منهما سبب فى ذلك، لأن القلب هو
ولانقباض الحار الغريزى فى وقت الطبخ عن آلات الحواس سبب آخر
أيضاً: وذلك أن النفس لما كانت واحدة من جهة، كثيرة من جهة — كان لها
فى هذه القوى تصرف ما بمجموعها. فاذا انتهى فعل من أفعال النفس وصرفت
الآلات المستعملة فى غير ذلك الفعل إلى الفعل لتقوى به على ذلك الفعل المقصود
لها. فلذلك ينصرف الحار الغريزى فى وقت إنضاج الغذاء إلى قوة فعل القوة
الغاذية، وذلك إنما يكون فى الموضع الذى فيه فعلها، وذلك هو داخل البدن.
وهذا هو أحد الأسباب التى يحدث النوم من أجلها عن التعب،
فان ذلك لسببين: أحجهما من جنس هذا، وذلك أن الحار الغريزى إذا تبدد
وقل من جهة الحركة، أعنى الحركة فى المكان، وحركة الإدراك، أعنى
الحس، تحركت فيه النفس نحو عمق البدن ليفعل به فيما هنالك من بقايا الغذاء
فالنوم، بالجملة، يعرض لمكان تغير الحار الغريزى فى كميته وكيفيته. أما النوم الذى يحدث عن الغذاء فلمكان رطوبته وبرده. وأما الذى عن التعب فلمكان نقصانه وبرده. فأما لم كان الحيوان يعرض له هذا العارض فلموضع الضرورة، لأنه لما كان من ضرورة هذا للأجسام أن يلحقها الكلال والتعب عند الحركة وكانت مغتذية — احتاجت إلى النوم لمكان الراحة وضرورة الاغتذاء، وذلك بخلاف ما عليه الأمر فى الأجرام السماوية، فان تلك لما لم يلحقها الكلال ولم تكن مغتذية، لم تكن محتاجة إلى النوم.
فقد تبين من هذا القول ما هو النوم، ولأى جزء من أجزاء النفس ينسب، ولأى عضو من أعضاء البدن، وكيف يعرض، ولمن يعرض.
وحسن بنا — بعد معرفة النوم — أن نعرف طبيعة الرؤيا وما كان من جنسها من الإدراكات الإلهية التى ليست منسوبة إلى اكتساب الإنسان ولا ينبغيه — فنقول:
إن هذه الإدراكات منها ما يسمى «رؤيا» ومنها ما يسمى «كهانة»،
ومنها ما يسمى «وحياً» — وقوم من الناس حجدوا وجود هذه ونسبوا وجود
ما يشاهد من ذلك إلى الاتفاق، وقوم أثبتوها، ومنهم من أثبت بعضها وافى
بعضاً ومدافعة وجودها، وبخاصة وجود الرؤيا الصادقة، فانه ما من إنسان
إلا وقد رأى رؤيا أنذرته بما يحدث فى المستقبل. وإذا اعتبر المرء الذى فى نفسه
أفاده ذلك الاعتبار أن العلم الحاصل عنها إنما هو بالذات وعن طبيعة فاعلة
لذلك، لا عن اتفاق، والمدرك الآخر وإن لم يشاهدها فهى مشهورة جداً؛
والمشهور عند الجميع إما أن يكون معدوداً فى الواجب بالكل، أو بالجزء: فانه
وأرسطو إنما تكلم من هذه فى الرؤيا فلنقل فيها فنقول:
إن الرؤيا صنفان: كاذبة، وصادقة؛ فينبغى أن ننظر فيها أولا إلى أى جزء من أجزاء النفس ينسب كل واحد من هذين الصنفين؛ وما السبب الفاعل لكل واحد من صنفى الرؤيا، أعنى الصادقة والكاذبة؛ ولماذا تكون الرؤيا الصادقة، وكيف يمكن أن تكون؛ وكم أصنافها؛ وفى أى الأجناس والمعلومات تكون؛ ولم كانت تختص بوقت النوم؛ ولما كان بعض الناس متفاضلا فيها: فبعضهم يرى رؤيا صادقة، وذلك فى الأكثر، وبعضهم كاذبة فى الأكثر، ولم كان بعض الناس يحسن تعبير الرؤيا بعضهم لا يحسن. فان هذه هى أصول المطلوبات المتشوقة فى الحس. فنقول:
إنه لما كان النائم يحس كأنه يبصر ويشم ويذوق ويلمس، ولم يكن
هنالك محسوسات من خارج، فواجب أن يكون مبدأ هذه الحركة فى النوم هو
من منتهاها فى اليقظة يبتدئ من المحسوسات التى من خارج إلى أن ينتهى إلى
قوة الذكر، وهى المرتبة الخامسة، فقد كان يجب أن يكون مبدؤها من هذه
القوة. إلا أن قوة الفكر والذكر غير فاعلة فى النوم، إنما الفاعلة فى النوم
المتخيلة، لأن هذه الحركة هى حركة دائمة وفعل متصل، وإن التصوير
والتمثيل والانتقال من خيال إلى خيال، وتارة ذلك من المعانى التى فى الذكر،
وتارة تفعل ذلك من الآثار التى فى الحس المشترك، وتارة تتلقى هى معنى ذلك
الشىء الذى تصويره من مبدأ من خارج — على ما سنبين — وذلك على أحد
فقد تبين من هذا القول أن الرؤيا — سواء كانت صادقة أو كاذبة —
منسوبة إلى قوة التخيل. فلننظر فى الأسباب الفاعلة لهذين الصنفين من الرؤيا
فنقول: أما الرؤيا الصادفة فلما كانت تدل على معرفة وجود شىء مجهول الوجود
عندنا بالطبع قبل هذه المعرفة، وهو فى وقت المعرفة فى الأكثر معدوم
وكان هذا التصديق الحاصل لنا بعد الجهل ليس يحصل عن معرفة متقدمة عندنا
فاعلة له، ولا بعد فكر وروية بمنزلة ما تحصل المعرفة التصديقية الحاصلة لنا عن
المقدمات — فانه قد تبين فى «كتاب البرهان» أن المعرفة التصديقية والتصويرية
يتقدمها بالطبع صنفان من المعرفة: فاعل ومعطى. وأما هذه المعرفة التى تحصل
فى النوم فظاهر أنه ليس يتقدمها الصنف الفاعل؛ فأما هل يتقدمها الصنف
المعطى ففى ذلك نظر. وإذا كانت هذه المعرفة حاصلة لنا بعد الجهل وموجودة
بالفعل بعد أن كانت موجودة بالقوة، ولم يكن فينا معرفة لهذه المعرفة، فبين أن
الحال فى حصول هذه المعرفة لنا كالحال فى حصول المقدمات الأول. وإذا كان
والشك هاهنا فى موضعين: أحدهما: كيف تحصل له الأمور الجزئية؟ والثانى: لم اختص هذا الإعطاء من الجزئيات الخاصة بالإنسان الذى ألقى إليه هذا العلم بذلك؟ فان القول بهذه الأشياء — وإن كان معتاصاً بحسب إدراك الإنسان، فواجب أن يبلغ من ذلك أقصى ما فى طباعه أن يبلغه إذا كان جوهر السعادة ليس شيئاً أكثر من هذا. فنقول: إن الأمور التى تحدث: منها أشخاص جواهر، ومنها أشخاص أعراض. وأشخاص الجواهر منها ما هى أشخاص جواهر بسيطة وهو أحد الأسطقسات، ومنها ما هى أشخاص جواهر مركبة وهذه صنفان: إما ذوات نفوس كالحيوان والنبات، وإما غير ذوات نفوس كالمعادن وما كان من جنسها.
وأما أشخاص الأعراض نفسها: فمنها أعراض موجودة فى أشخاص الجواهر البسيطة، ومنها أعراض حادثة فى ذوات النفوس، وإما أعراض موجودة غير ذوات النفوس.
وكل واحد من هذين الصنفين موجد إما عن الطبيعة، وإما عن المادة.
فأما أشخاص الجواهر فجميعها محدودة لأسباب الفاعلة لها على ما تبين فى العلم
الطبيعى، إذ كان ليس يوجد شخص جوهر بالاتفاق. فانه قد تبين فى كتاب
«الكون والفساد» أن حدوث أجزاء الأسطقسات وتغير بعضها إلى بعض مرتب
محفوظ منظوم من قبل حركة الأجرام السماوية وبذلك أمكن أن يكون
الكون والفساد فى أجزائها على التعادل، وأن تبقى أبداً محفوظة بكلياتها. وكذلك
تبين أيضاً فى ذلك الكتاب بعينه أن الأجسام المتشابهة الأجزاء الحادثة أولا عن
وأما أشخاص الأعراض فمنها ما يوجد عن الأسباب الطبيعية، ومنها ما يوجد عن الأسباب الإرادية، ومنها ما يوجد عن الاتفاق — وذلك فى الجنسين جميعاً، أعنى فى الأشياء الإرادية والأشياء الطبيعية. فما كان موجوداً عن الاتفاق فليس له طبيعة معقولة، إذ ليس له أسباب محدودة، ولذلك ليس يمكن أن تقع للإنسان مغرفة بما يحدث من هذه إلا بضرب من العرض. — وأما الصنف الثانى من الأعراض المحدودة الأسباب فلها ضرورة طبيعية كلية معقولة هى السبب الأول فى وجدها، فانه واجب ضرورةً أن يكون ما تحصل معرفته بالذات أن تكون له أسباب موجودة بالذات. وإذا كانت هنالك أسباب موجودة بالذات فهى ضرورة معقولة عند الطبيعة، سواء عقلناها نحن أو لم نعقلها. وإنما كانت هذه الشخوص الحادثة لا تحصل لنا معرفة حدوثها بقياس، وذلك فيما تباعد منها زمانه، لأن تلك الأسباب غير محصلة الوجود؛ فانا إنما ندرك الجليل من هذه الأسباب والكليات العامة، وبين المراتب والأطوار التى ندركها نحن من ذلك والتى هى محدودة عند الطبيعة المعقولة التى تتقبل ما عندها، من ذلك الطبيعة المحسوسة وتحرك عنها كما تتحرك الآلات عن صورة الصناعة — مراتب دقيقة يمكن أن تكون غير متناهية. ولذلك ما نرى أنه ليس يحدث شخص من الأشخاص بالذات عن الطبيعة إلا بعلم متقدم، فان آلة صاحب المهنة إنما تتحرك بقدر علم صاحب المهنة.
وأما فى هذا الإدراك الروحانى الذى يكون فى النوم أو فيما يشبه فهو يعطى القوة المتخيلة الكمال الأخير، وكما أن الطبيب الماهر مما ينذر بما يحدث لجسم زيد وفى وقت محدود بمقدمتين: إحداهما كلية معقولة، والأخرى جزئية محسوسة — كذلك هو الإنذار والعلم يلتئم من الكلى الذى يعطيه العقل ومن معنى الجزئى الذى تأتى به القوة المتخيلة المناسب لذلك الكلى. فأما لم كان الإنسان إنما يدرك من هذه الامور الجزئية ما كان خاصاً بزمانه ومكانه وبلده وقومه دون سائر الأمور الجزئية المشاركة لها فى الطبيعة الكلية، فالسبب فى ذلك أنه لا بد أن يكون عند الإنسان فى هذا الإدراك أحد جنسى المعرفة المتقدمة للتصديق، وهى المعرفة المعطية للتصديق؛ أعنى معرفة التصور المتقدمة على التصديق. فالإنسان إنما تحصل له هذه المعرفة وهذا العلم فى الأشخاص الذين قد تقدم معرفتهم، وبخاصة فى الذين سبق لهم بهم عناية. وأما فيما كان منها مجهولا عنده فليس يمكن أن يحصل عنده علم بما يحدث لذلك الشخص، فان هذا التصديق — وإن لم يكن من شرطه أن تتقدمه معرفة عند الإنسان فاعلة — فلا بد أن يكون من شرطه أن تتقدمه معرفة معطية.
فأما لم كانت القوة المتخيلة ليس تأتى فى الأكثر بالمعنى الشخصى الحقيقى
الداخل تحت ذلك الكلى، 〈بل〉 يعطيه العقل؛ وإنما تأتى بالمعنى المحاكى —
فذلك لأن للشىء صورتين: روحانية، وهى الصور المحاكية، وجسمانية
وهى صورة الشىء المحسوس نفسه لا الصورة المحاكية له؛ والصورة المحاكية
إنما كانت أكثر روحانية لأنها أقرب إلى طبيعة الكلى من صورة الشىء الحقيقية
ولذلك كانت القوة المتخيلة تقبل المعنى المعقول يلتئم ما يمكن فى جوهرها أن
تقبله الروحانية، وقد تقبله أحياناً جسمانياً، فيرى الرائى فى النوم الصورة نفسها
لا ما يحاكيها. وأما لم اختص هذا الإدراك بالنوم فاعلة فى ذلك أن النفس لما كانت
واحدة بالموضوع كثيرة بالقوى. فهى إذا استعملت بعض القوى الباطنة
ضعفت عن البعض مثل ضعف قوة الخيال عند إعمال قوة الفكر، وقوة فعل
وإذا كان هذا كله كما وصفنا، فواجب أن يكون فعل القوة الخيالية أكمل وأكثر روحانية، لأن النفس فى حال النوم قد عطلت الحواس الظاهرة وآلاتها، ومالت بذلك نحو الحس الباطن. والدليل على أن القوى الباطنة أتم فعلاً عند سكون القوى الخارجة أن الذين يستعملون الفكر كثيراً تميل قواهم الحسية إلى داخل البدن حتى إنه يغشاهم النوم بتسكين الحواس الخارجة لتجرد لهم الفكر ولهذا السبب كان الذين يولدون عدماء حاسة البصر وحاسة السمع أتم أفعالا فى القوى الباطنة. ولهذا بعينه كان الوحى إنما يأتى فى حالة شبيهة بالإغماء، وذلك أن هذه القوى الباطنة إذا تحركت حركة قوية انقبضت الخارجة حتى إنه ربما عرض عن ذلك شبيه بالغشى، مثل ما يعترى الذين يقال إنهم عرج بأرواحهم.
فقد تبين من هذا لم كان هذا الإدراك فى النوم، ولم يكن فى اليقظة. وليس يبعد أن يوجد شخص يدرك من ذلك فى اليقظة مثل ما يدرك النائم، بل ربما رأى صورة الشىء الخاصة بعينها فى مكانها، كما حكى عن الأنبياء عليهم السلام.
وأما لم كانت الرؤيا فلموضع العناية التامة بالإنسان. وذلك أن الإنسان
خاص المعرفة والإدراك فى القوة العقلية الفكرية التى بها يدرك حدوث الأمور
النافعة والضارة فى المستقبل ليستعد للشىء ويتأهب له ويبشر أيضاً وفود الخير
ويعلم وقوعه إذ مدت هذه القوة بهذه الآلة الشرعية والإدراك الروحانى.
ولذلك قيل إنه جرى كذا وكذا من النبوة؛ وذلك بين فى الرؤيا التى رآها الملك
وأما المعبر فهو الرجل المهيأ النفس بالطبع لفهم المحاكاة التى تكون فى الرؤيا. وهو الذى يفيض عليه العقل المعانى الجسمانية التى حوكيت فى النوم بالمعانى الروحانية. فمن شرطه أن يكون عالماً بالمحاكاة التى تعم جميع الأمم، والمحاكاة التى تخص أمة أمة وصنفاً صنفاً من الناس؛ فان الأمم يختلفون فى ذلك من جهتين: إحداهما بحسب الطبع وذلك بحسب قوة أنفسهم وبحسب الخاصة بهم فى مدنهم وبلادهم؛ الثانية بحسب المحاكاة والآراء التى نشأوها على قبولها وعودوا التصديق بها منذ الولادة، وذلك فى المبدأ الأول وفى الملكية وفى جوهر السعادة الإنسانية.
وينبغى — كما يقول أرسطو — للمعبر أن يكون متعاهداً لنفسه بالفكرة والنظر والنظافة، وأن يكون عفيفاً غير مائل بأن يغلق النفس البهيمية روحانياً. وربما عرض للمرء أن يدرك عبارة الرؤيا فى رؤى أخرى يراها، كما عرض لهرقل الملك فى الرؤيا التى حكاها عنه أرسطو، فانه رأى رؤيا غريبة أخطأ المعبر عبارتها. فلما نام عبرت له تلك الأشياء التى رآها، وبقى مشغول النفس بتلك الأمور التى أنذر بحدوثها حتى حدثت.
وربما عرض للمرء أن يرى الرؤيا وينساها، وربما يذكرها، وربما لم يذكرها أول 〈ما〉 استيقظ، وإذا تذكرها فانما يتذكرها على النحو الذى يتذكر الأشياء التى أحسها فى الزمان الماضى. — وقد قيل كيف ذلك.
وإنما كان بعض الناس أصدق رؤيا من بعض، وأكثر رؤيا فى النوم
من بعض، لموضع تفاضلهم فى هذه القوة، أعنى قوة التخيل. وهؤلاء هم
ذوو الأمزجة السوداوية الباردة اليابسة. وذلك أن الرطوبة من شأنها أن تغمر
والذى يلائم هذا الفعل إنما هو المزاج البارد اليابس. وذلك أن البرد يوجب بطء الحركة، واليبس يوجب ثبوت الصورة. ولذلك يوجد سلطان هذه القوة فى أصحاب المرة السوداء، حتى إنهم يدركون فى اليقظة ما يدركون فى النوم.
وأما هل يكون هذا الإدراك فى الأمور الثلاثة، أعنى الماضية والحاضرة والمستقبلة — وذلك أن المقصود منها بالإنذار إنما هو ما يحدث فى المستقبل، إلا أنه ليس يبعد أن يقع فى الماضى والحاضر إذا كان مجهولا عندنا.
وأما فى أى جنس من أجناس المعلومات يكون هذا الإدراك، فان المعلومات
— كما قيل — إما علوم نظرية، وإما صنائع عملية، وإما قوى فكرية جزئية.
وهو ظاهر من أمر هذا الإدراك أنما يكون أكثر ذلك فى الأمور المستقبلة التى
يختص إدراكها بالقوى الفكرية الجزئية التى تستعمل فى إدراك النافع
والضار فى الأمور المستقبلة. وأما الصنائع العملية فقد يظن أنه قد تحصل أشياء
منها فى النوم، مثل كثير من الأشياء التى كان أصل العلم بها فى الطب إنذاراً
منامياً. وأما العلوم النظرية فيبعد أن يكون ذلك فيها؛ ولو كان فاما أن يكون
باطلا وعبثاً — وذلك أن فى طباع الإنسان أن يدرك العلوم النظرية بما فطر عليه
أولا من المقدمات الأول. فلو كان يدركها دون مقدمات، لكانت المقدمات
الأول فيه عبثاً، كما أنه لو أمكنه السعى دون القدمين لكانت القدمان فيه عبثاً
فقد قيل فى ماهية الرؤيا الصادقة، وبماذا تحدث، وعن ماذا تحدث،
وكيف تحدث. فلنقل فى أسباب الرؤيا الكاذبة. وهذه الرؤيا بالجملة
إنما تكون عن سببين: أحدهما عن فعل القوة الخيالية عند النوم فى الآثار
الباقية فى الحس المشترك من المحسوسات التى من خارج، وعن فعل هذه القوة
فى المعانى المودعة فى القوة الذاكرة والمفكرة من تلك الأمور المحسوسة، فان تصرف
هذه القوة دائم، أعنى قوة التخيل إنما هو فى خزانة هاتين القوتين: أعنى خزانة
الفكر والذكر، وخزانة الحس المشترك. والسبب الثانى هو حدوثها عن المتشوقات
الطبيعية التى للنفس، فان شأن النفس البهيمية إذا اشتاقت شيئاً، أعنى وجوه
فقد قلنا فى ماهية الرؤيا الصادقة والكاذبة وإعطاء أسبابها الأربعة وأسباب ما يعرض فيها ويلحقها.
وهنا انقضت المعانى الملتقطة من هذه المقالة.
تمت المقالة الثانية والحمد لله رب العالمين
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر برحمتك
المقالة الثالثة 〈فى أسباب طول العمر وقصره〉وهو غرضه فى هذه المقالة الفحص عن أسباب طور العمر وقصره، فنقول:
إنه من المسلم أن ها هنا أسباباً طبيعية هى السبب فى هذين العرضين، وأن جميع ما ينسب إلى الحيوان من الكون والفساد، والنشوء والاضمحلال، والنوم واليقظة، وبالجملة ما يلحقه من التغير إنما ينسب إلى الكيفيات الأربع، أعنى الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، لا إلى الكم ولا إلى غير ذلك من الكيفيات مثل الثقل والخفة والسواد والبياض والخشونة والملاسة، إلا أن ينسب ذلك بالعرض وذلك شىء قد تبين فى كتاب «الكون والفساد».
فاذا تقرر هذا فطول العمر وقصره ليس منسوباً إلى شىء إلا إلى هذه الكيفيات الأربع، وهى الفاعلة لهذين العرضين فى الحيوان والنبات. فينبغى أن ننظر على كم جهة تقال هذه المقايسة وتوجد هذه النسبة فى الحيوان والنبات. ثم من بعد ذلك تفحص عن الكيفيات التى تختص بهذين العرضين فنقول:
إن طول العمر وقصره يقالان على وجوه: أحدها بالمقايسة إلى الجنس، أعنى مقايسة جنس إلى جنس، مثلما نقول إن النبات بالجملة أطول عمراً من الحيوان؛ والثانى عند مقايسة نوع إلى نوع مثلما نقول إن الإنسان أطول عمراً من الفرس، وإن النخلة أطول عمراً من شجرة التين؛ والثالث عند مقايسة صنف إلى صنف، مثلما نقول إن أهل البلاد الحارة الرطبة أطول عمراً من أهل البلاد الباردة اليابسة؛ والرابع عند مقايسة شخص إلى شخص، مثلما نقول إن زيداً أطول عمراً من خالد، وإن هذه النخلة أطول عمراً من هذه النخلة. فهذه هى جميع الوجوه التى يقال عليها طول العمر وقصره.
وإذ قد تقرر ذلك، فينبغى أن نفحص عن أسباب ذلك فنقول:
إنه قد تبين فى الرابعة من «الآثار العلوية» أن الكون إنما يتم إذا غلبت القوى الفاعلة
فى المتكون القوى المنفعلة، أعنى إذا غلبت الحرارة والبرودة الرطوبة واليبوسة؛
وأن الفساد إنما يعرض من قبل ضدها، أعنى أنه إذا غلبت الكيفيتان
المنفعلتان الفاعلتين وقهرتهما. وإنما كان ذلك كذلك لأن الحرارة المقدرة بالبرودة
هى التى تفيد المتكون الصورة الطبيعية التى له، بل هى الصورة بعينها،
والرطوبة المقدرة باليبوسة هى التى تقبل الصورة والشكل. فما دام الموجود الطبيعى
والقوتان الفاعلتان فيه قاهرة للقوى المنفعلة وتستولى عليهما انحفظ وجوه، وإذا
ضعفتا عن ذلك استولت على تلك القوى قوى أخرى فاعلة خاصة بموجود آخر
ففسد ذلك الموجود — مثال ذلك أن الحرارة الطبيعية، وهى المقدرة بالبرودة
الطبيعية، ما دامت مستولية على الأخلاط لم تحدث هنالك عفونة؛ فان ضعفت
عن نضج الأخلاط وطبخها أو أفرطت فى ذلك، حدثت هنالك حرارة غريبة
مفسدة. وإنما يعرض الفساد بالجملة إذا بطلت النسبة الطبيعية التى بين القوى
الفاعلة والمنفعلة فى موجود موجود. وكلما كانت هذه النسبة أعظم، كان ذلك
الموجود أقل بواراً وأبعد من الفساد. وكلما كانت فيه أصغر، كان أسرع للبوار
وأشد قبولا للفساد. ولذلك ما كان من الموجودات خلط الماء والنار فيه
غالب على خلط الأرض والهواء. كان أطول بقاء، لأن الماء والنار فيهما الكيفيتان
الفاعلتان أقوى منهما فى الأرض والهواء. وإنما كان الموجود بهذه الصفة أكثر بقاء
لأنه ليس تبطل هذه النسبة فيه من التغير اليسير الذى يدخل على القوى الفاعلة
من خارج. وذلك أن النسبة الطبيعية التى بين القوى الفاعلة والمنفعلة إذا كانت
كبيرة لم يعرض لها أن تبطل إلا من تغير كبير وفى زمان طويل؛ وذلك أن الفساد
ليس شيئاً أكثر من العفوية الحادثة عن ضعف القوى الفاعلة وعسر المنفعلة.
ولذلك من كان مزاجه هذا المزاج، قل فيه تولد الأخلاط الرديئة الكيفية.
وذلك أن المزاج الطبيعى إنما هو فى النسبة الطبيعية التى بين القوى الفاعلة والمنفعلة.
فمتى كانت القوى الباردة الفاعلة أقل مما ينبغى، كان ذلك 〈مؤدياً إلى〉 عدم
والسبب الثانى أن يكون أن النسبة الطبيعية التى بين القوتين
الفاعلتين إحداهما إلى الأخرى، والنسبة التى بين المنفعلتين فى جنس ما،
أو نوع ما، أو صنف ما، أو شخص ما آخر. والنسبة الطبيعية التى للحيوان
والنبات فى هذا المعنى أن تكون الحرارة فيه أغلب من البرودة، والرطوبة أغلب
من اليبوسة للأسباب التى قيلت فى غير هذا الموضع. فكل ما كان من الحيوان
والنبات الحرارة والرطوبة أغلب عليه، وكانت القوى الفاعلة فيه غالبة للمنفعلة،
كان طويل العمر. والفساد إنما يدخل على الحيوان والنبات متى عدم إحدى
هاتين النسبتين أو كلتيهما: وذلك أنه متى ضعفت القوى الفاعلة عرض للمادة
أن تنجلى عن الصورة لمكان فساد النضج ورداءة كيفية المادة. ومتى لم تكن
الرطوبة فيه وافرة جداً عرض للحيوان والنبات أن يجفا سريعاً، فان الحرارة
من شأنها أن تفش الرطوبة وتتشبث بها وتحيلها إلى جوهرها إذ كانت كالمادة لها
اقتنتها فشدت الحرارة وغلب اليبس والبرد. وكلما انفشت الرطوبة غلبت اليبوسة
والبرودة، فان اليبوسة تشبه أن تكون هى المادة الملائمة للبرودة، كما أن الرطوبة
هى المادة الملائمة للحرارة. وأنواع الحيوان إنما تتفاضل فى طول البقاء
وقصره بتفاضلها فى الحرارة والرطوبة وتفاضلها فى استيلاء القوى الفاعلة على
المنفعلة. وبهذين الشيئين يتفاضل أصناف الناس وأشخاصهم فى أعمارهم.
والفساد إنما يلحق الأشخاص على أحد وجهين: أما بالطبع فعندما تفنى الحرارة
الطبيعية التى فى ذلك الشخص فيغلب عليه البرد واليبس فيفسد، وأما بالعرض
فعندما يتولد فيهم من فضلات الهضم ما لا تفى الطبيعية بتمييزه فتعرض لهم أمراض
قاتلة. وهؤلاء الشخوص هم الذين لا يتفق لهم أن تكون قواهم الفاعلة غالبة
للمنفعلة: فان القوى الفاعلة متى كانت بالطبع غالبة فى شخص كما للقوى المنفعلة
ولم يعرض سبب من خارج مضاد له من الأشياء التى من شأنها أن تغير المزاج
من داخل، فبالواجب أن يكون فساد هذا الشخص الفساد الطبيعى. ثم إن هذه
ومن الدليل على أن سبب طول العمر إنما هو كثرة الحرارة والرطوبة وغلبتهما على المزاج مع استيلاء الحرارة على الرطوبة، وبالجملة القوى الفاعلة على القوى المنفعلة أن ضد الحياة الموت، والموت فى الظاهر برد ويبس. فاذا كان علة الموت برداً ويبساً فعلة الحياة الحرارة والرطوبة. ولذلك كان مزاج الشباب حاراً رطباً، ومزاج الشيوخ بارداً يابساً. ومن الدليل على ذلك أن الذين يكثرون الجماع أقصر أعماراً من الذين يقلونه، وأن الخصيان أطول أعماراً من غير الخصيان، والشيوخ الذين هم أكثر لحماً من الذين لحمهم قليل، لأن علة كثرة اللحم الحرارة والرطوبة؛ ولعلة قلة الجماع كان البغل أطول عمراً من الفرس والحمار، مع أنه متولد عنهما، والإناث أطول أعماراً من الذكور؛ والذين يسكنون البلاد الحارة الرطبة أطول أعماراً من الذين يسكنون البالد الباردة اليابسة. وإنما تطول أعمار أهل هذه البلاد لسبب عرضى وهو قلة العفن. والحيات والهوام التى تكون فى جزائر البحر الكثيرة الرطوبة والحرارة أطول أعماراً من الحيات والهوام التى تكون فى المواضع الحارة اليابسة أو الباردة اليابسة أو الباردة الرطبة؛ ولذلك الناس، أعنى أهل الجزائر البحرية، أطول أعماراً من البرارى. والحيوان البحرى أطول عمراً من البرى، لأن ماء البحر حار رطب، ولذلك كان الحيوان البحرى أسخن من البرى. وبالجملة فكل ما كان أحر وأرطب كان أقل إسراعاً إلى اليبس، وكلما كان أكثر أرضية كان أشد إسراعاً إلى اليبس.
فالسبب الحافظ لبقاء الحيوان من ذاته إنما هو وفور الحرارة والرطوبة فى
ويشبه أن يكون المزاج — الذى وصفناه أنه مختص بطول العمر هو الذى
يوجد فى فصل تركيبه ذان الشرطان — إما مجهولا فى صناعة الطب، وإما أن يكون
وتفاضل الناس فى أعمارهم هو بحسب تفاضلهم فى هذه النسبة المزاجية التى تختص بالطويل العمر. فطول العلر وقصره بالجملة يكون عن جنسين من الأسباب: أحدهما الأشياء التى من خارج، والجنس الثانى الأسباب التى فى ذات الشىء، وهى — كما وضعنا: وفور الحرارة والرطوبة، واستيلاء القوى الفاعلة على المنفعلة؛ وفى النبات سبب ثالث مؤثر فى طول بقائه وهو أنه يفسد وينشأ فى أجزائه، أعنى أنه إذا جف منه غصن أمكن أن يتولد فيه غصن آخر. وهو مع هذا يستفيد الحرارة الغريزية التى فيه من الشمس، أكثر مما يستفيدها الحيوان. وهو مع هذا كثير المائية، قريب من صور البسائط: فانه كلما تغذت صورة المركب من صور البسائط التى تركب منها كانت صورته أشد مضادة لصور البسائط، فكان فعل البسائط فيه أكثر ومضادتها أعظم.
فقد قلنا فى أسباب طول العمر وقصره بحسب رأى أرسطو، وبحسب
ما تقتضيه الأصول الطبيعية. وأما القدماء فانهم كانوا ينسبون طول العمر
وقصره إلى أسباب عرضية: فمنهم من كان يرى أن العلة فى طول العمر وقصره
المواضع الحارة اليابسة؛ ومنهم من كان يرى أن السبب فى ذلك كثرة الدم.
وأما الموضع الحار اليابس فمحرق ومعفن للرطوبة الطبيعية فلذلك لا يمكن
أن يتصور أنه سبب بالذات لطول العمر، وإنما يكون سبباً بالعرض لأن العفونة
التى تعرض من قبل الرطوبة تقل فى هذه المواضع، وهذه مثلما يكون البلد
البارد اليابس سبباً لطول العمر، وهو أحق بذلك من البلد الحار اليابس لأنه
فقد قلنا فى أسباب طول العمر وقصره وبحسب ما انتهى إليه قوتنا وفهمنا، وبحسب ضيق الوقت وشغل الزمان.
وبانقضاء هذه المقالة انقضى ما وجد فى هذا العلم، بعون الله تعالى.
تمت المقالة الثالثة، وبتمامها تم الكتاب والحمد لله رب العالمين. آمن!