Alexander of Aphrodisias: De providentia (On Providence)
Work
Alexander of Aphrodisias, De providentia
(Περὶ προνοίας)
English: On Providence
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator: Abū Bišr Mattā
Translated from: Syriac
(Close)
Date:
between 900 and 940
Source
Hans-Jochen Ruland. "Die arabischen Fassungen von zwei Schriften des Alexander von Aphrodisias Über die Vorsehung und Über das liberum arbitrium". Ph.D. thesis, Saarbrücken (Universität des Saarlandes) 1976, 1-103
Download
alexaphrod_deprovidentia-transl-ar1.xml [82.59 KB]
بسم اللّه الرحمن الرحيم، وبه أستعين، لا إلاه إلّا هو.
مقالة الإسكندر الأفروديسيّ يقتصّ ويبيّن فيها رأي ديمقراطيس وأبيقورش وسائر أحداث الفلاسفة الباقين في العناية. ترجمة أبي بشر متّى بن يونس القنّائيّ من السريانيّ إلى العربيّ.
قال إنّ الذين تفلسفوا في أمر العناية وأفادوا غيرهم في ذلك علماً ما أمّا بعضهم فزعم أنّه إن كانت العناية كلمة ما ورويّة الإهيّة بحسبها يكون حدوث الأشياء التي تحدث بالطبع في العالم، فلا شيء من الأشياء ما تحدث يكون حدوثه عن العناية. وذلك أنّهم زعموا أنّ اسم العناية صفر لا معنى تحته، فإنّه لا شيء من الأشياء التي تحدث يصدر حدوثها عن رأي اللّه ورويّته. وذلك أنّ اللّه، عزّ وجلّ، بزعمهم خارج عن جميع المرتبة التي تجري هذا المجرى ولا هو يشوبه مشقّة في شيء من ذلك وتشاغل ولا هو أيضاً يشقي غيره فيه. وزعموا أنّ جميع الأشياء التي تكون وتتكوّن بالطبع إنّما تكون من تلقاء أنفسها وعن الاتّفاق الذي يعرض لأشياء أخر عن أشياء أخر.
وزعموا أنّه عند ما يعرض كيف ما اتّفق للأجسام الأولى الغير متجزّئة (التي وضعها المتمسّكون بهذا المذهب مبادئ لجميع الموجودات) بالحركة المتّصلة الغير دائرة التي تحرّكها ضرورة هذه الأجسام في الخلاء الذي لا نهاية له الموجود في الكلّ أن يكون أمّا بعضها فتأتلف بعضها مع بعض
وتشابك بعضها بعضاً بحسب ما يتّفق لها في الجوّ بانتظام أشكالها والتئامها، فيتولّد وينشؤ عنها كلّ واحد من الأجسام المركّبة؛ وأما بعضها ممّا لا يتّفق له أن يكون من بعضه مع بعض هذا الضرب من الاجتماع والتأليف، فإنّه يتصادم بعضها بعضاً ويندفع بعضها عن بعض، عندما يكون لها حركة ما ثابتة قسريّة عن ما يوافقه، بمدافعتها لها. ويكون مماسّة الأجسام والتشابك الذي يحدث لها عن التماسّ يجري أمره بالدور.
وزعموا أيضاً أنّ اختلاف الأشياء الكائنة يصدر عن اختلاف أشكال الأجسام الغير متجزّئة التي تتشابك بعضها حول بعض، وذلك إلى الاختلاف الذي بحسب الشكل لا يحصره نهاية، وأنّ ذلك يكون أيضاً عن مرتبتها وحال وضعها وترتيبها وكيفيّة وضعها بعضها عند بعض، فإنّه ليس الأشياء التي تتكوّن عنها واحدة بأعيانها، متى لم يكن نظامها ووضعها عند تأليفها محفوظاً واحداً بعينه.
وممّن كان من أهل المذهب أمّا من تقادم عهده من القدماء فلوقيفس وديمقراطيس، وأمّا من أتى بعد هؤلاء تأخراً فأبيقورس والذين تفلسفوا بحسب رأيه ابتغوا هذا المذهب. وقوم آخر كأنّ رأيهم وحكمهم في الفلسفة ورأيهم في أمر العناية مضادّاً لرأي هؤلاء وحكمهم فيه من جميع الوجوه والجهات.
وذلك أنّهم زعموا أنّه لا شيء من الأشياء ممّا يكون 〈فى الكون〉 يجري كونه عن غير عناية وأنّ كلّ شيء مملوء من اللّه وأنّه نافذ في جميع الأشياء الموجودة. ولهذا السبب صارت جميع الأشياء الكائنة إنّما مجرى كونها بحسب اختيار الآلهة، من حيث هم القوّام عليها والمدبّرون لكلّ واحد منها.
وقد يشهد على صحّة ذلك الأشياء الظاهرة. وذلك أنّ لزوم الأشياء التي تكون بالطبع للنظام لما كان دائماً وغير متفاوت صار مبكّتاً مناقضاً للقول بأنّ هذه الأشياء تكون عن الاتّفاق، من قبل أنّه لا شيء من الأشياء الكائنة بالبخت وعن الاتّفاق يوجد محدوداً، لاكن إنّما كونه في الندرة وحاله في زمان ما مخالفة لحاله في زمان آخر مختلفة إلى أحوال مختلفة.
وأيضاً ممّا يجري من تقدّمه الإنذار والحكم بالأشياء المزمعة بالكون الذي بعضه يكون بالوحي وبعضه بالرؤيا وبعضه بالعرافة هو دليل ظاهر أنّ الآلهة تعني بالأشياء التي هاهنا وأنّ العناية بها هي فعل الآلهة.
والقياس أيضاً قد يوافق ذلك كما أنّ في منازل ذوي الألباب والأفهام لا يقع أمر من الأمور خارجاً عن عناية أربابها، بل تشتمل عنايتهم جميع أمر منازلهم ونظامه وبهذا ما يخالفون ذوي المهانة والرعن من الناس، كذلك يجب أن يكون الآلهة إذا كانوا في الغاية من الفهم، قوّاماً بمعونة العالم ومرتبتهم الخاصّيّة. فإنّهم لو لم تكن لهم عناية بالأشياء التي فيه، فذلك يكون إمّا لأنّهم غير مؤثرين لذلك وغير قادرين عليه أيضاً وإمّا
أن يكونوا قادرين على ذلك، إلّا أنّهم لمّا كانوا غير مؤثرين ولا محبّين للعناية بالأشياء التي في العالم، فلذلك يخلّون هذه الأشياء بلا عناية.
فإن كان القول بشيء من هذه الأقسام غير لائق بالآلهة، فهو مردود. وذلك أنّ القول بأنّهم غير قادرين على العناية بالأشياء التي هاهنا هو قول غير لائق بالآلهة من جميع الجهات. فإنّ هذا القول يجعل اللّه، عزّ وجلّ، أعجز من الناس، إذ كان الناس لا يتعذّر عليهم ولا يمتنع تدبيرهم لمنازلهم ويكون هذا المقدار متعذّراً ممتنعاً على الآلهة. والقول أيضاً بأنّهم غير محبّين للعناية بالأشياء التي هاهنا، فهو شيء غريب عن الآلهة جدّاً. وذلك أنّ هذا فعل حاسد ومن طبعه في غاية التردّؤ والفساد والتشاغل أعني الامتناع من فعل الأولى والأجدر، من حيث هو قادر على فعل ذلك.
فإن كان كلّ واحدة من هاتين الخلّتين هي غريبة مباينة للآلهة ولا الخلّتان جميعاً للّه، عزّ وجلّ، فلا يتهيّأ أن يوجدا فيه معاً لا اثنتاهما جملة ولا واحدة منهما على انفراد، فبقي إذن أن يكون اللّه، عزّ وجلّ، قادراً على العناية بالأشياء التي هاهنا ومحبّاً لذلك أيضاً. وإن كان محبّاً لذلك وقادراً عليه، فظاهر أنّه يصرف عنايته إليها، فلا شيء إذن من الأشياء يكون من غير علم اللّه وإرادته، لا حقير ولا دنيّ.
وزعم قوم أنّ أفلاطون قد كان يرى هذا الرأي، وأمّا من أمره،
فظاهر أنّه كان من أهل هذا المذهب فرقتان، الأفلاطونيّ وأهل الرواق. وهذا مبلغ الآراء التي كانت في العناية غير رأي أرسطوطاليس باختصار، وهذا ملبغ اختلاف الرأيين بعضهما عن بعض. وكلّ واحد منهما يروم التصحيح الخاصّ به لا من شيء آخر أكتر من اقتضائه التكذيب للرأي الآخر وسبب الزلل والخطأ الموجود في كلّ من الرأيين. وذلك أنّ القول بأنّ اللّه، تعالى، يعتني بالأشياء التي هاهنا متفقّداً لها هو قول مصدّق مقبول، من قبل أنّه من الشنع القبيح أن ينسب ويضاف الشيء الذي هذا مبلغه في الرتبة وحسن النظام إلى الاتّفاق وما هو من تلقاء نفسه وإلى الحركة القسريّة التي للأجسام الغير متنفّسة.
فإن كان من الشنع القبيح من جميع الجهات أن يوضع سبب وجود العالم والرتبة الموجودة فيه الاتّفاق وما من تلقاء نفسه، فلا شيء آخر يكون سبباً لذلك إلّا اللّه، تبارك وتعالى. فإنّه إن لم يكن ذلك عن الاتّفاق، فكون كلّ واحد من الأشياء أيضاً التي تكون فيه عن الرويّة والعقل ومن أجل شيء ما محدود منفرد، وهذا مجرى 〈العناية ... وأمّا إبطال〉 القول بأنّ هذه الأشياء تكون عن الاتّفاق هو سبب العناية، فذلك من أنّ المبطلين للعناية يضعون سبب هذه الأشياء هو الاتّفاق.
والظنّ أيضاً [ظنّ] بأنّ العناية لا تصل ولا إلى واحد ممّا هاهنا هو ظنّ يراه قوم ما، من قبل أنّ كثيراً ممّا يحدث في
الأشياء الجزئيّة والأوحاد ليس بأهل للسياسة الإلاهيّة، غير مستحقّ لتدبير اللّه، وهذه الأشياء، متى قيل إنّ العناية تصل إلى جميع الأشياء على مثال واحد، وجد السبيل إلى الطعن على حسن النظام الظاهر بأنّه 〈يكون〉 جارياً عن غير العناية من قبل ما في هذه الأوحاد من الطعن الظاهر الذي فيها. وذلك أنّ ما يعترض هذه الأوحاد من الأشياء التي تجري عن غير استحقاق التي يوضع أنّها عن اللّه من إقبال الأشرار من الناس فيما يجري عن الاتّفاق وتخلّف الاتّفاق وتخلّف الأفاضل فيه هو طعن كافٍ على من ظنّ أنّ أمر العناية يجري هذا المجرى.
ومع هذا أيضاً فإنّ هذا الرأي هو موصّل إلى نفس سامعيه اعتقادات شنعة في اللّه، عزّ وجلّ. وذلك أنّ اللّه، إن كان موجوداً، حتّى يكون وكده الاعتناء بنا ومقصده التقسيط على الأشياء التي قلنا 〈لـ〉ـكلّ واحد من الخيرات والشرور بحسب الاستحقاق تقسيطاً متساوياً بحسب الاستحقاق، كما يعلق القائلون بذلك. وزعموا أنّا لسنا نرى شيئاً من ذلك يجري أو يكون، لاكنّا نرى ونشاهد الأشرار من الناس متقلّبين في الخيرات باقين فيها ونجد الصالحين والأخيار منهم على ضدّ هذه الحال، وهو أنّ أمورهم لا تداني شيئاً من الاستقامة في تدبير معاشهم وفي حيوتهم، وزعموا أنّه لا وجود للّه أصلاً البتّة. غير أنّ القول بهذا وحمل الإنسان نفسه على مثل
هذا الكذب والجور هو من قول من يحبّ معاندة الظاهر من الأشياء والمقاومة له.
القول أيضاً إنّ جميع الأشياء التي هاهنا تجري أمورها بحسب الاستحقاق (فإنّ جميع أجزائه داخل في معونة الكلّ) والاستقامة ليس قول من يتحرّى الحقّ، لاكنّه قول من يبرئ الشرّ بالشرّ ويعتصم بالدواء.
وقد ينبغي أن نلتمس تلخيص عناية اللّه بالقول، من حيث لا يكون منّا في ذلك معاندة للأشياء الظاهرة المشاهدة في الأشياء الكائنة، على أنّ من يشاهد من أمرها مخالف لما نقوله في ذلك. ولا أيضاً نوجد دافعين لأسبابها إلى ما لا مقنع فيه أصلاً، لاكن يوافق زيد عن ما يصنعه واضعه في ذلك وهو تابع في وضعه إيّاه للأشياء التي يقع التصديق بها ممّا يكون.
وأيضاً فإنّ الذين يقولون إنّ اللّه، عزّ وجلّ، يلحظ جميع الجزئيّات والأوحاد وتفقّده لها وعنايته بها متّصلة بلا دثور، فقد يلزمهم الشناعة بأنّهم مناقضون لأنفسهم وللأشياء المتقدّمة المتعارفة.
وذلك أنّ الناس بأجمعهم مقرّون وهم أيضاً كذلك بأنّه، كما أنّ من الأشياء ما وجودها ضروريّ من غير أن يمكن فيها ألّا توجد في وقت من الأوقات، كذلك فيها أشياء ما عدمها ضروريّ ووجودها ممتنع غير ممكن في وقت الأوقات. وهذا مع ما هو عليه من الظهور هو شيء يقرّ به جميع من هو سليم
الفطرة. وذلك أنّه القطر يمكن فيه أن يكون ضلع المربّع ولا الثمانية يمكن أن تكون أصغر من الواحدة ولا الثلاثة يمكن أن تكون مساوية اللأربعة ولا الألوان يمكن فيها أن تكون مسموعة ولا الأصوات مرئيّة ولا الآلهة يمكن أن لا توجد أو تكون مائتة ولا أيضاً أشياء أخر كثيرة لا تحصى كثرة.
فإنّ الذين يضعون أنّ عناية اللّه، عزّ وجلّ، تجري هذا المجرى مبطلون له بأسره، وذلك أنّ الأشياء التي هي بطبعها غير ممكنة يحكمون عليها أنّها ممكنة. على أنّ القول بأنّ الآلهة إنّما يؤثرون ما كان من الأشياء ممكناً فقط أوجب كثيراً من القول بأنّ الممتنعة هي ممكنة للآلهة. وذلك أنّه بحسب القول الأوّل يكون كلّ ممكن، فهو ما كان داخلاً في إرادة اللّه والداخلة في إرادة اللّه إنّما هي الأشياء التي يمكن فيها أن توجد وتحدث وحدها دون غيرها، من قبل أنّ اللّه أعلم بطبيعة الممتنع والممكن من جميع الأشياء. وأيضاً فالرويّة والاهتمام بالأشياء الكثيرة معاً ممتنع، فإنّ التصوّر لأشياء كثيرة معاً هو أمر داخل في أمر الامتناع.
فكما أنّ الاقتصاص لأشياء كثيرة في زمان واحد بعينه هو غير ممكن لإنسان واحد بعينه، متى رام الإخبار عن أمر كلّ واحد يضعه بالقول على مثال واحد، كذلك لا يمكن الإنسان الواحد الاهتمام معاً بأشياء كثيرة، لا سيّما إن كانت الأشياء التي الاهتمام بها غير متشابهة. وذلك أنّ الرويّة والاهتمام والتعليم هي كلمة ما للنفس على انفرادها من غير قرع يكون بالصوت.
وكذلك إذا لم يكن الاهتمام بأشياء كثيرة ممكناً، لم يكن أيضاً ولا عناية اللّه بكلّ واحد من الأوحاد ممكنة، إذ كان يجب ضرورة، متى جرى الأمر في عنايته بها هذا المجرى، أن ينقص نظره إليها والتصفّح لجميعها وأن يحرّك رويّته فيها بأسرها على ما هي عليه من أنّها غير متناهية وعلى ما بينها من اختلافات لا نهاية لها.
وكان ذلك غير ممكن. فإنّ العلم بأشياء كثيرة معاً، فليس هو غير ممكن. وذلك أنّه ليس بالمتعذّر أن يكون إنسان مع علمه بالأخبار الموسيقيّة عالماً بأمور ما هندسيّة. وأمّا الاهتمام بأشياء كثيرة أوّلاً أوّلاً معاً والرويّة فيها حتّى يتصفّح برويّته كلّ واحد منها ويحرّك اهتمامه بواحد واحد منها، فغير ممكن. وقد يجب ضرورة في أمر من يتقدّم فيعني بالأشياء الجزئيّة والأوحاد معاً أن يكون أيضاً يروّى في واحد واحد منها معاً على انفراده.
فإنّه إن قال قائل إنّ العناية بالأشياء التي هاهنا ليست تكون معاً، بل يكون منها شيء بعد شيء، فإنّه غير تابع اللأصول الموضوعة، فإنّه قد وضع أنّ لا شيء من الأشياء أصلاً يكون من التي قلنا توجد أو تكون في وقت ما خلواً من العناية. فأمّا ما يعترض من العوارض وكلّ واحد من الأشياء الموجودة وسيرتها (؟) عند تشاغل الفهم عنها (؟) والمعتني بأشياء ما أخر، فهي خارجة عن مثل هذه العناية مع ما أنّ الانقطاع والفترة أيضاً التي تعرض في التوسّط والانتقال
الذي يكون متى جرت العناية هذا المجرى هو من الأشياء الشنعة.
ولا أيضاً القول بأن المعتنين أكثر من واحد يفسخ هذا الطعن، إلّا أن يكون الإنسان يلزم العناية بكلّ واحد من الأشياء التي يعنى بها إلّا ما هو مواظب على العناية بها فيضيفها إليه. وهذا مع أنّه فعل سوء خبيت، فالقول فيه شنع من كلّ جهة، من قبل أنّ الجزئيّات والأوحاد أنفسها قد توجد في أوقات مختلفة على أحوال وفي وقت تكون كثيرة في عددها وفي وقت تكون أقلّ ومن قبل أنّ الآلهة يوجدون خدماً لنا.
وذلك أنّه إن وضع واضع أنّ الاهتمام والرويّة في جميع الأشياء معاً والاعتناء بكلّ شيء على هذا النحوالذى قيل هو شيء ممكن للآلهة، غير أنّ مثل هذه السيرة غير لائقة بالآلهة من جميع الجهات، من قبل 〈أنّ〉 هذه السيرة يتكلّفون بها دوام التشاغل وهي بعيدة من جميع الأفعال الجزئيّة المهذّبة. وذلك أنّ مثل هذه السيرة ليست أيضاً بلائقة لمن كان من الناس عفيف السيرة وطاهر الطريقة، ولا إنسان من الناس من ذوي الرأي السديد الحسن يختار أن يعيش بهذه السيرة، ما دام ولم يضطرّه إلى ذلك مضطرّ. وذلك 〈أنّه〉 وإن كان بعض الناس قبل التجربة والحنكة في الأمور قد يختار مثل هذه السيرة، غير أنّه، متى توسّطها وسار فيها، فإنّ هربه منها أيضاً وتجنّبه لها ليس هو بدون تجنّبه وهربه من سائر الأشياء المهروب منها.
ومثل هذه السيرة ليس إنّما هي غير لائقة وغير أهل للآلهة لما فيها من التشاغل والأذى، لاكنّ بعدها من ذلك أكثر لما فيها من الإشراف والنظر والفهم للأشياء التي تكون بها مثل هذه العناية، بأنّ أشياء كثيرة من الجزئيّة والأوحاد هي غريبة غير متأتّية لعلم اللّه من كلّ جهة.
وذلك أنّه إن كان من الواجب أنّه كما أنّ الآلهة مخالفة لما في الطبع، كذلك يكون الأشياء التي تشرف عليها فيها المناسبة لها والمنظورات الخاصّة لها مخالفة لما لخّصنا وما بيّنّا النظر فيه، فبأيّ سبيل لا يكون النظر في مثل هذه الأشياء والعناية التي تجري هذا المجرى عائقين لها عن الفضيلة والفعل الذي لها بالطبع. فإنّه إن قال قائل إنّ لا شيء في أفعال اللّه أشرف وأشرف من سياسة الأشياء التي هاهنا وهي السياسة التي تجري هذا المجرى، فقد كفى به عنه وذهب عليه سبب محبّته لنفسه أنّ قوله ذلك القول هو القول بأنّ اللّه هو من أجل الأشياء المائتة، إذ كان الاعتناء بهذه الأشياء هو الغرض الذي يقصد إليه والغاية له.
غير أنّ كلّ ما كان من أجل شيء آخر فهو دون ذلك الشيء. ولذلك يكون أيضاً اللّه، عزّ وجلّ، بحسب رأي أهل هذا المذهب ثانياً في المرتبة ودون الأشياء التي يعتني بها. فإنّ الراعي أخصّ من الأشياء التي يرعاها ويعتني بها، إذ كان كماله وغايته خصّت تلك الأشياء والتوسّع عليها. وأمّا الملك فليس يجري عنايته بالأشياء التي هو ملك عليها هذا المجرى، حتّى يكون متفقّداً نفسه لسائر الأشياء الكلّيّة والجزئيّة ولا يخلّي ولا
شيئاً من الأشياء التي يحوزها سلطانه عن النظر فيه، بل يكون متشاغلاً في أمرها سائر عمره (وذلك أنّه لما كان يكون على هذه الجهة أشرف بختاً من الملك)، لاكنّ عناية الملك هي كلّيّة وأكثر عموميّة ونظره عاطف إلى مثل هذه العناية وله فعل ما أشرف وأجلّ من الاهتمام والاعتناء اللذان يجريان هذا المجرى.
ومع ذلك فيا ليت شعري إلى الناس يصرف اللّه مثل هذه العناية فقط، من غير أن يصرفها إلى سائر الحيوان والنبات وإلى سائر الأشياء الموجودة، أم يبلغ تفقّده واعتناؤه إلى كلّ واحد من هذه أيضاً على انفرادها. فإن كانت العناية إنّما هي مصروفة إلى الناس فقط، فلأيّ سبب لا يعتني بسلامة الأشياء الباقية ونظامها؟ وذلك أنّ الأولى والأليق أن توجد هذه أيضاً لازمة للنظام والترتيب ومن الواجب أن يكون أمر هذه أيضاً لازماً للتقسيط وتكون أحوالها بحسب الاستحقاق وما يوجبه العدل.
فإنّ امتناعه من العناية فذلك يكون إمّا لأنّه غير قادر على ذلك ولا محبّ له، وإمّا أن يكون هو قادراً إلّا أنّه غير مريد لذلك، وإمّا أن يكون مريداً لذلك غير قادر عليه. فإن كانت هذه الأقسام شنعة، فمن البيّن أنّه مختار لذلك قادر عليه أيضاً، فإذن عنايته بهذه شبيهة بعنايته بالناس، إذ كان القول الذي تقدّمنا به قويّاً ومقنعاً.
وذلك أنّ اللّه، تبارك وتعالى، هو الأصل لجميع القوّة الحقيقيّة
على العناية بالأشياء الثانية. غير أنّ من الشنع القبيح وضع الواضح بأنّ اللّه، عزّ وجلّ، عارف وناظر لكلّ واحد من الموجودات ولما يكون ويحدث عنها. وذلك أنّ هذا لا يطلقه من هو متماسك الفهم ولا في الإنسان، وهو أن يكون مصروف العناية إلى سائر ما في منزل، حتّى يبلغ بها إلى الفأر والنمل ممّا فيه وكذلك إلى كلّ واحد من سائر الأشياء الأخر التي في منزله، على أنّ لقائل أن يقول إنّ نظم الرجل الكريم لجميع ما في منزله ولكلّ واحد منها في موضعه وتقسيطه لها بحسب الاستحقاق ليس هو جميل من أفعاله أو لائق به، لاكن كلّ ما كان مبرّزاً في ذلك متقدّماً فيه، فبحسب ذلك يكون مثل هذه الأفعال ومثل هذا التفقّد مباينة له غربية له. فإن كانت هذه الأشياء ليست لائقة بذوي الأفهام من الناس غير أهل لمن كان من الناس ذا فهم وغيره، فأوجب منه كثيراً أن يكون اللّه، جلّ ثناؤه، يعلو عن أن يقال فيه إنّه يصرف تفقّده إلى الناس والفأر والنمل التي هي غير مساوية لنا وإنّ عنايته تلحق الناس وسائر الأشياء التي هاهنا على هذه الجهة التي ذكرت.
وذلك أنّ مثل هذه السيرة وهي سيرة عبوديّة ومذهب هو في غاية المهانة. ومع ما قد تقدّم القول فيه من ذلك يكون هو سبباً للشرور أيضاً وعنه تصدر. وأيضاً ما تقدّم من القول في العناية الجارية هذا المجرى هو أظهر جهلاً ولا معنى له أصلاً، متى نقلها إنسان إلى الأشرار فسأل وقال «يا ليت
شعري الآلهة غير قادرين على أن يصير هؤلاء القوم أخياراً وغير مختارين لذلك أيضاً أم هم قادرون عليه إلّا أنّهم غير مختارين له أم هم مختارون غير قادرين عليه».
وذلك أنّ بحسب هذا القول ولا واحد من الناس يوجد شرّيراً، إذ كان الآلهة قادرين ومختارين أيضاً على أن يجعلوا الناس بأجمعهم أخياراً، من قبل أنّ القول بأنّ الآلهة، مع ما أنّهم غير مختارين لذلك، هم غير قادرين هو قول ينسب الآلهة إلى ما ليست له بأهل.
وأشنع من جميع الأقاويل القول بأنّ اللّه، عزّ وجلّ، ينفذ في جميع الأشياء ويخترقها، من حيث هو محدثها، وأنّ عنايته مصروفة إليها على هذه الجهة. وذلك أنّ القائلين بذلك والمعتقدين له، مع ما أنّ قولهم هذا موهم (؟) وأنّهم يجعلونه جزءاً من الأشياء الحقيرة الدنيّة وأنّ الجسم يداخل الجسم، وهم مع ذلك غير موافقين في كلامهم هذه الأشياء الظاهرة أصلاً.
وذلك أنّ لا الملوك للذين في طاعتهم ولا المعلّمون للمتعلّمين ولا الرعاة لما يرعونه ولا واحد من أصناف المعتنين لشيء من الأشياء بالجملة إنّما يصرف عناويته إلى المعتنى به من حيث هو متّحد به على الحقيقة وأن يقوم بمعونته على هذا النحو. فإنّه يجب ضرورة أن يكون المعتني مفارقاً منحازاً عن المعتنى به، وذلك أنّ المعتني غير محتاج إلى آخر، وأمّا المعتنى به، فيحتاج لا محالة إلى معونة المعتني.
فإنّه إنّما يقال في الآلهة إنّهم معتنون بالأشياء وبما صدر عنهم على العموم، وهذا لا يدخله في باب ما ينتفعون به.
والقول يمثل هذه العناية بالأشياء التي هاهنا هو أشنع كثيراً بحسب من يقول إنّ الخير إنّما هو الحسن وحده فقد، فعندما تسمح الآلهة للأشياء التي هاهنا بمثل أيّ خير من الخيرات، يصرفون إليها مثل هذه العناية، وذلك أنّ الخير هو تحت استطاعتنا من غير أن نكون محتاجين في اقتنائه إلى الآلهة في وجه من الوجوه.
والقول بأنّ اللّه يرصدنا من قبل الأشياء الغير متغيّرة وأنّ فهمه تابع لما يحدث عنّا قول من هو أجهل الناس بذاته وبما يقوله.
ولا القول أيضاً بأنّ مثل هذه العناية تكون عن سكينات هي خادمة ما للّه هو قول واجب. وذلك أنّ القول بأنّه قد يوجد حيوانات ما مركّبة من نفس وبدن وهي مستحيلة إلّا أنّها غير فاسدة لا يسهّل تسليمه، من قبل أنّه قد يظنّ أنّ الأمر المناسب للغير فاسد ألّا يقبل المتغيّر والقابل للتأثير والفساد.
وإن سلّم إنسان ذلك، كان القول بأنّ وجود مثل هذه الحيوانات مع ما هو فيها بالفضيلة في طبعها وبالقرب من اللّه، عزّ وجلّ، إنّما هو من أجلنا هو أشنع. ومع هذا أيضاً العناية بالأشياء التي هاهنا التي مجراها هذا المجرى هي
غير موافقة للأشياء الكائنة، كما تبيّن ذلك من أمرها.
وذلك أنّ الموتانات وما يعرض للزروع من اليرقانات والحرق والبرد وشقاء تحت الخيار من الناس وسعادة تحت أخسّائهم وما أشبه ذلك هي كافية في إظهار كذب هذا الرأي وبطلانه. فإنّ الإنسان إن هو حمل نفسه وقال إنّ هذه ليست شروراً، فسيضطرّه الأمر إلى القول بأنّ أضدادها ليست خيرات. فما الذي يبذل لنا إذن الآلهة، وما الذي يمنعنا أو ما الذي يشير علينا وإلى ماذا يرشدنا الآلهة والسكينات وممّا ذا ينهوننا؟ أمّا أنّه غير ممكن أن تكون عناية اللّه بالكلّ على هذا النحو وأنّه لو أمكن ذلك، لما كان من اللائق أن يقرن مثل هذه باللّه.
فللإنسان أن يتبيّن من مثل هذه الأشياء. ولهذا السبب، متى كان إنسان معتزماً على أن يخلو عن كلّ واحد من الرأيين، أعني الرأي الذي يبطل العناية إبطالاً كلّيّاً، من قبل أنّه رأي كاذب في جميع الجهات، والرأي الذي يحدث العناية التي إلى الأفراد والأوحاد ويبعّضها على الجزئيّات، لأنّه غير موافق للأشياء الكائنة ومن قبل أنّ صاحبه يعتقد في اللّه ما ليس هو أهله، واجب في أمر العناية التمسّك برأي خاصّ مفرد به، عندما يحذر من الكذب الموجود في كلّ واحد من ذينك الرأيين، كأنّه لا سبيل له إلى وجود رأي يحسب ما أرى أصدق وأصحّ غير الرأي الذي يقول به أرسطوطاليس. وذلك أنّا نجد أنّ هذا الرأي وحده فقط هو الحافظ لما هو أهل للآلهة والموافق للأشياء الظاهرة.
وذلك أنّ أرسطو يقول إنّ سلامة الأشياء التي هاهنا وكونها وبقائها الذاتيّة الأبديّة التي لها بالنوع يقال إنّه ليس خلواً من العناية الإلاهيّة وإنّ القوّة المنبعثة عن الشمس والقمر والكواكب الأخر التي سيرتها سيرة الشمس على رأيه هي السبب بحسب رأيه لكون الأشياء التي قوامها بالطبع ولحفظها. وذلك أنّه يرى أنّ انتظام حركة هذه الكواكب واعتدال أبعادها عن الأشياء التي هاهنا أسباب لهذه الأشياء، والمتقدّم في ذلك لسائر الكواكب الشمس.
أمّا أنّ هذه الأشياء هذا مجراها وهذه حالتها، فبيّن من هذا الوجه يقول بأنّه لو كان بعد الشمس عن الأرض بعداً آخر غير هذا البعد الذي يوجد لها أو لو أنّ حركتها ونقلتها لم تكونا في الفلك المائل أو كان إذن كونها لها في هذا الفلك، غير أنّه لم تكن تابعة لدوران فلك الكواكب الثابتة، لاكن أيضاً كانت تتحرّك الحركة الخاصّيّة بها فقط، ليس إنّما كنّا نعدم سائر الأشياء الأخر الموجودة لنا في مسكننا، لاكنّه لما كان يكون أيضاً سبيل إلى كون الحيوان والنبات ولا أيضاً كون الأجسام البسيطة التي سلامتها إنّما تتمّ لها بسبب التغيّر المنتظم الذي لها بعضها إلى بعض.
وذلك أنّ لو كان بعد الشمس عنّا يكون يوجد أقرب إلينا ممّا هو الآن ولم يكن بعدها عنّا هذا البعد الذي يوجد لها الآن، لكانت تحمي الموضع الذي تلي 〈من〉 الأرض إحماء تتجاوز به الاعتدال لقرب حركتها وذلك كان يكون أحمى من هذا الموضع، ولو كانت على خلاف هذه الحال، فكان بعدها عنه أكثر من هذا البعد، لكان يكون إحماؤها أقلّ. وأمّا أنّه لو كان يتّفق شيء من ذلك، لما كان يمكن كون جنس أجناس الحيوانات والنباتات.
فللإنسان أن يأخذ لذلك تصديقاً كافياً من مواضع ما من الأرض التي يقال فيها غير مسكونة للغلبة من كلّ واحد من هاتين الكيفيّتين عليها.
وذلك أنّ سبب خلوّ هذه المواضع من الأرض من الحيوان والنبات، فقد يجب أن يعتقد أنّ هذا هو بعينه سبب فقد الأرض بأسرها أيضاً لهذين وأنّه من الأليق الأولى أن تكون هذه الحادثة في الأرض كلّها لهذا السبب بعينه، من قبل أنّه الأليق الأولى أن يكون ما يعرض من تغيّر المزاج الكائن في جملة الأرض بأسرها بسبب الحرّ والبرد والحوادث التي تعرض بسبب هذين أكثر وأشدّ ممّا يوجد الآن في أجزاء ما من الأرض، أعني المزاج الذي من أجله يصحّ من أمر بعض أجزاء الأرض أنّها غير مسكونة، أمّا بعضها 〈فلكثرة الحرّ وأمّا بعضها〉 فلكثرة البرد. وذلك أنّه إذا كانت جملة الأرض في ذلك مجاوزة بأضعاف كثيرة حال جزء جزء منها، فليس يتهيّأ أن يتصوّر التناسب الذي بين الأرض وبين أجزائها في كثرة الحرّ والبرد وقلّتهما، ولا في الوهم أيضاً، متى ارتفعت الشمس عنها إلى فوق وبعدت عنها قليلاً.
فإنّه ما أحسن ما قال أوميرس، حيث يحكي الحافظ «يا اللّه، لا أرتفع عن الأرض، ويداخل الناس البرد فيتلغون ويفسدون». وهو أيضاً الحافظ «يا اللّه، لا أتعدّي الطريق المنتظمة بسبب ما يعرض عند ذلك من الحرارة التي تداخل حينئذٍ الناس، وذلك أنّ جنس الناس يبطل حينئذٍ عندما يعرض له الذوبان».
والأمر في أنّ اعتدال بعد الشمس عن الأرض هو سبب سلامة الأشياء التي على الأرض والتي فيها، فبيّن ظاهر لجميع الناس. وأمّا أنّ ذلك بها يتمّ ويكون بسبب حركتها في الفلك المائل أيضاً، فللإنسان أن يبيّن ذلك ويعلمه بسهولة إن هو تفقّد الأمر أدنى تفقّد.
وذلك أنّه لو لم تتحرّك على هذا الفلك بل كانت تتحرّك على بعض الدوائر المتوازية، لما كان يكون عند ذلك لا الصيف ولا الشتاء ولا تغيّر آخر من التغيّرات، بل كان يكون نظام أوقات السنة نظاماً واحداً بعينه، من قبل أنّ بعد الشمس من الناس أجمعين دائماً بالتساوي، وكانت تتحرّك أمّا عند قوم ما فعلى سمت رؤوسها دائماً (وإذا كان لها هذا النظام، كانت تكون لهؤلاء القوم سبباً للصيف) وأمّا عند قوم ما، فإذا كان يكون بعدها عنهم أكثر، كانت تكون لهم سبباً للشتاء.
فأمّا أنّ هذه الأشياء لو كانت تكون على هذه الجهة، لما كان يمكن أن يسلم شيء ممّا هاهنا. فذلك واضح بيّن لجميع الناس، إذا كان الأمر في أن تغيّرات أوقات السنة المنتظمة بعضها إلى بعض هي نافعة في كون الأشياء التي هاهنا وسلامتها بيّناً ظاهراً.
غير أنّه ولا لو كانت حركتها أيضاً في الفلك المائل على ما هي الآن ولم يكن لها أيضاً مع ذلك حركة مع الكلّ، كان يوجد سبيل إلى سلامة تعاقب الليل والنهار الذي هو سبب لراحة الحيوانات وهدوئها اللذان يكونان لها بعقب التعب، بل كان يكون في واحد من المساكن الحرّ في جميع السنة أو أيّ زمان يتحرّك فيه الشمس إلى أن تعود إلى موضعها، أمّا نصف من ذلك فالليل وأمّا النصف الآخر فالنهار.
وأمّا أنّ سبب سلامة ما هاهنا وبقائه هذا هو اعتدال بعد الشمس عنها وحركتها في هذا الفلك المائل وحركتها المضاعفة، فذلك ظاهر بيّن. فإنّ الإنسان إن رام أن يزيل بالقول شيئاً من هذا النظام الموجود له، فإنّه إنّما يروم انتقاض أمر جميع ما في الأرض واضطرابه.
ولنا أيضاً أن نبيّن من أمر القمر ونأتي بالقول على عدد الأشياء التي هي اعتدال بعد هذا عن الأشياء التي هاهنا وحركته هذه التي تجري هذا المجرى الذي هو عليه الآن هما سبب لها. وذلك أنّه لو كان أقرب ممّا هو الآن، لكان سيعوق اجتماع وقوام السحاب واجتماع وقوام المياه، من قبل أنّه كان يكون مفرّقاً للبخارات المتصاعدة وملطّفاً لها، أمّا أنّ القمر معين في كون الأمطار وامتناعها أيضاً معونة عظيمة، فقد تبيّن ذلك عن اجتماعات الشمس والقمر الكائنة في كلّ شهر، أعني الاجتماعات السماويّة من اجتماعاتهما، وأيضاً مقابلاتهما التي وضعها على ضدّ حال اجتماعاتهما.
وأيضا فإنّه لو لم تكن حركته في الفلك المائل لاكن في بعض الدوائر المتوازية، لما كان يصدر عنه اعتدال البرد والمعونة الكائنة عن الحرارة التي تجري الآن ومقتبس لها عنه في مسكننا.
وذلك أنّ حاله الآن، لمّا كانت توجد على ضدّ حال الشمس، لتصير به الليالي الشتويّة حارّة دفيئة، لأنّ حاله في وضعه عندنا في هذا الوقت حال مرتبة الشمس في زمان الصيف. وأمّا في الصيف، فتصير به الليالي أقلّ سخونة ودفئاً، من قبل أنّه ينقلب في هذه الأوقات إلى نواحي الجنوب. ولا أيضاً كانت تكون عنه معونة في كون الثمار ونضجها على ما هو يوجد الآن، فإنّه أعظم الأسباب في هذين الأمرين. وبالجملة ما كنّا نكون نفيد منه هو معونة أصلاً في حال من الأحوال التي نحن الآن نفيدها ونقتبسها عنه في جميع أحوالنا لو لم يكن يتحرّك في هذا من الزمان هذه الحركة. ولم يكن حافظاً لبعده هذا على ما هو عليه الآن.
أمّا أنّ الأجسام الإلهيّة وحركتها (هي سبب ما هي عليه من الانتظام) هي سبب كون الأشياء التي على الأرض وسبب سلامتها، كما قال أرسطو، وليس بسبب ذلك البخت وما من تلقاء نفسه، فللإنسان أن يبيّن ذلك بالقول ويوقّف عليه توقيفاً ظاهراً من أشياء كثيرة.
فأمّا أن نجعل غرضنا القول في الشمس والقمر وسائر الكواكب الباقية، من حيث يلتمس البرهان على أنّ الآلهة موجودة وأنّ حركتها بالنفس والعقل، فليس ذلك ممّا هو نافع للفعل الأفضل، ومع أنّ التصديق الذي عليه بالطبع والاعتقاد المتقدّم المتّفق عليه العامّ لجميع الناس في ذلك هو أوضح من كلّ برهان.
و المعاند للقول والمضادّ بأنّ أمر الأشياء التي قلنا وسلامتها إنّما تتمّ بالآلهة قول من يقول في الآلهة إنّ وجودها من أجلنا وإنّ أفعالها الخاصّة بها تتمّ بمثابرتها علينا وبحفظها ورصدها لنا ولكلّ واحد من الأمور الصادرة عنها وإنّما تمنع بعض أمورنا وتعوقه عن الكون وبعضها تطلق وتأمر فيه. وذلك أنّ هذا الاعتقاد وهذا الظنّ لا يليقان بالآلهة أصلاً، من قبل أنّه ولا ما كان من الأفعال الإنسانيّة أفضل وأشرف يؤثر أن يكون من أجل شيء آخر، بل كونها من أجل ذاتها. وذلك أنّ كون النظر العقليّ إنّما هو وجود الكمال له بالفعل نفسه الذي يكون بالنظر بالفعل. وأكثر من ذلك كثيراً وأولى أن يكون اللّه تعالى إنّما يفعل الأفعال الخاصّة به المناسبة له من أجل ذاته، لا من حيث غرضه في ذلك ومقصوده سلامة الأشياء التي هاهنا وخلاصها ومن حيث أفعاله مردودة مضافة إليها.
فإنّ القول يحكم بأنّ أفعاله التي بها الوجود له وبها هو ما هو فصار عنها على عادته الفضيلة والسعادة دائماً بلا فتر. وأمّا مبلغ عنايته بالأشياء التي هاهنا، فالحكم يوجب أنّها تكون بمبلغ ما هو خير وفاعل للخيرات، وذلك أنّ الخاصّة لكلّ خير أن يكون نافعاً.
فكما أنّ كلّ واحد من الخيرات الأخر ينتفع بحضوره ووجوده والأشياء التي تجاوره على أنّ لا شيء من أفعاله إنّما يصدر عنه من أجل منفعتها (وذلك أنّ الصحّة ليس يصدر عنها فعل من الأفعال تقصد به منفعة الشيء المقتني للصحّة)،
كذلك يجب أن يعتقد في الذي يفوق الأشياء كلّها ويفضل عليها في باب ما هو خير الأشياء التي هو خير لها (وهذا هو اللّه) أنّه لمّا كان في طبعه المناسب له هو فاعل الخيرات، صار لذلك نافعاً لجميع الأشياء في كلّ وجوه. وذلك أنّ كلّ واحد من الخيرات الباقية من شأنه أن يكون ينتفع بنفسه عند حضوره وأن ينتفع به واحد واحد من الأمور التي تشترك به، كما قد نجد ذلك موجوداً في واحد واحد من أصناف المنافع.
وأمّا اللّه عزّ وجلّ، فليس جوهره والمنفعة عنه على هذا النحو بل هو سبب الخيرات العظيمة لجميع الموجودات بحسب ما يمكن فيها الاشتراك في الخيرات، من حيث هو قيّم بأمر هذا الكلّ وبطبيعة جميع الموجودات. فأمّا هو، فحياته في غاية السعادة، وأمّا الاعتناء بالأشياء الباقية وسلامتها وبالأشياء التابعة في هذا المسكن، فليظهر لها من الفضل وعلى القصد الثاني. وذلك أنّه ليس إنّما لا يشوبه شيء من الحسد فقط
للأشياء التي تصدر عنه والتابعة له، لاكن من أليق الأمور أن يكون كون جميع الأشياء التابعة لمرتبة الآلهة على القصد الأوّل إنّما يصدر بحسب الإرادة والاختيار. وأمّا على أيّ جهة توجد العناية بحسب رأي أرسطو وإلى ماذا بلوغها، فينبغي أن نلتمس بمبلغ طاقتنا اقتصاص ذلك بإيجاز من القول.
فقد تقال العناية بحسب رأيه على ضربين (وهذه هي الاعتناء الكائن عن الآلهة بالأشياء التي تكون بالطبع على القصد الأوّل). وذلك أنّه يصحّ من أمر الفيلسوف أنّه يقول بأنّ وجود العناية إلى نحو فلك القمر، إلّا أنّه يقول بأنّ العناية أيضاً تكون بالأشياء التي تحت فلك القمر وبالعالم. فإنّه هو الزاعم بأنّ الإنسان يولّده الإنسان والشمس.
وذلك أنّ انتظام الأشياء التي هاهنا بأسره عنده هو انتظام حركة الأجسام الإلاهيّة. فإذا ما قيل إنّ وجود العناية إلى نحو فلك القمر، فإنّما يقال إنّ العناية موجودة هناك،
على أنّ المعنى المفهوم من القول بذلك هو أنّها موجودة في الذي عنه تكون العناية. وذلك أنّ العناية هناك توجد في الذي عنه تلك العناية بالأشياء التي تكون بها عناية، وهذا الذي العناية موجودة فيه وعنه تكون، هو الجسم الإلاهيّ بأسره، على ما يوجد بحسب رأيه، جميع الجسم الذي ينتهي عند فلك القمر، وهو السبب في أمر العناية بالأشياء التي هاهنا.
وذلك أنّ الذي يوجد له في طبعه الخاصّ به السرمديّة وحسن النظام هو غير محتاج في أمر وجوده إلى معونة آخر في وجه من الوجوه، وهذا حال جميع الجسم الإلاهيّ. وأمّا وجود العناية بحسب رأيه في الأشياء التي تحت فلك القمر (هو على أنّها في الأشياء التي تكون بها عناية، وهذه حال الأشياء التي هاهنا التي هي المحتاجة إلى العناية)، فإنّها محتاجة في أن توجد بالجملة إلى معونة آخر.
فإنّ كلّ ما له عناية، فإنّما عنايته بشيء. وكذلك الجسم الإلاهيّ أيضاً إن كانت له عناية، فعنايته لا يمكن أن تكون بنفسه، فإنّه غير محتاج إلى ذلك أصلاً. فقد بقي أن تكون عنايته بشيء آخر غيره، والباقي غير الجسم الإلاهيّ إنّما هو الجسم المتغيّر الذي في الكون فقط، وهذه حال الجسم الذي تحت فلك القمر. فهذا
إذن هو الذي يصرف إليه العناية.
وقد يجب ضرورة أن تكون عناية الجسم الإلاهيّ مصروفة إلى ما ليست كحاله، لا بأن تكون مصروفة إليه على جهة العرض من جميع الجهات. وذلك أنّه غير جائز أن تكون عناية شيء بالشيء التابع له ضرورة على جهة العرض، من غير أن يكون لذاته الخاصّ به في أمر ذلك من كلّ جهة من الجهات، من قبل أنّه غير عارف أيضاً بمبدئه. ولا أيضاً عناية الآلهة بهذه الأشياء على القصد الأوّل من جميع الوجوه حتّى تكون أفعالها الخاصّة بها من أجل هذه الأشياء.
وذلك أنّه ولا واحدة من هاتين الحالتين هي أهل للآلهة، فإنّ القول في أفعال الآلهة التي هي لها على القصد الأوّل العناية بالأشياء التي هاهنا على أنّ الأفعال الخاصّة بها إنّما هي لها من أجل وجود الأشياء التي هاهنا ونظامها وأنّ حركاتها نحو ذلك هو قول خارج عن القياس، إذ كان، كما قلنا مراراً كثيرة، كلّ ما هو من أجل شيء آخر غيره وهو دون ذلك الشيء وأخسّ منه.
وكان القول بأنّ عناية اللّه هي الجارية هذا المجرى، يؤول إلى هذا المعنى وهو أن يكون وجود اللّه عزّ وجلّ من أجل الأشياء التي هاهنا. وما هو غير واجب أكثر من هذا القول بأنّ اللّه تعالى معني بالأوحاد الجزئيّة من الأشياء التي هاهنا على القصد الأوّل وأنّه يعتني بها ويحفظ جميع كثرتها وجميع أحوالها وأفعالها، من حيث هو راصد لها ومتفقّد لأمرها؟ وهذا الرأي، مع ما قد تبيّن أنّه غير واجب، فقد تبيّن أيضاً أنّه غير ممكن.
فالقول أيضاً بأنّه غير عارف بالأشياء الكائنة من أجله هو شنع من كلّ الوجوه. فكان من الواجب أن تكون الآلهة أعلم من جميع الأشياء بأنّ طبيعتها الخاصّة بها هي فاعلة للخيرات. فكان اللازم لعلمها بذلك علمها بالأشياء التابعة لمثل هذه الطبيعة. وذلك أنّه غير واجب أن يكون العارف بأنّ طبيعته يلزمها أن يكون عنده العلم بأنّ هذه تحصي ما كان من الأشياء شأنه أن يحصى، ولا يكون علم الفاعل للخيرات بالخيرات تابعاً لعلمه بأنّه فاعلها.
والتي هي صادرة عنه، وكونها من أجله. وقد يتبع العلم بالخيرات التي تكون من أجل الآلهة أن يكون أيضاً ذلك صادراً عن اختيارها. وذلك أنّ الأشياء علمها بجوهرها وبطبيعتها المناسبة لها هو خاصّ لها، فإنّ جميع الأشياء الكائنة عنها التي الوجود لها من أجل ذلك السبب إنّما كونها عن إرادتها.
فليس فعل الآلهة إذن الذي لها على القصد الأوّل نظام العالم والأشياء التي تكون عنها هاهنا وسلامتها، ولا أيضاً يكون عنها هذه الأمور من غير علمها بها وعن غير إرادتها. ولا أيضاً الوجود لهذه الأشياء بسبب آخر غير هذه، لاكن وجود هذه الأشياء ونظامها تابعان لتلك. وليس يجري كون هذه الأشياء هذا المجرى عن غير علم الآلهة ولا أيضاً عن علم غير إرادتها. وذلك أنّ القول بأنّ اللّه هو كامل الوجود والخير
هو قول مقرّ به من جميع الناس وما كان وجوده وخيره يجريان هذا المجرى هو فاعل للخيرات.
فكما أنّ ما كان من الأشياء حارّاً في طبعه يلزمه أن يكون بطبعه متمّماً لما جاوره وأمكن فيه قبول هذا الانفعال، من غير أن يكون هو يفعل شيئاً ما من أجل ذلك لاكن يكون ثابتاً حافظاً فقط لطبعه الخاصّ به، كذلك أيضاً ما كان في طبيعته بهذه الحال، أعني بالحال التي عليها يوجد اللّه، يلزم أن يكون جميع الأشياء المجاورة له، كيف ما اتّفق من المجاورة، يمكن فيها الاشتراك في قوّته. فإنّها تشترك في الخير بمبلغ ما يمكن فيها القبول لذلك، وهي في ذلك نظائر الأشياء التي تحمى بمجاورة الشيء الحارّ لها.
وذلك أنّه ليس من الواجب أن يكون ما كان من الأجسام المتغيّرة ممّا هو مجاور لأجسام متغيّرة الذي يمكن فيه أن يرجع فينفعل عن الفاعل بمنفعل عنه على أنّ قوى الأشياء الفاعلة التي بها يفعل لا تبقى سليمة على ما هي عليه وترجع مع ذلك 〈فـ〉ـتنفعل عنه ثانية، ولا يكون سهولة انفعال الأجسام المجاورة للأشياء الحافظة لقواها واحدة بأعيانها متشابهة من قبل أنّها غير متغيّرة عن هذه الأشياء أكثر من ذلك بكثير. وأمّا القوّة الإلاهيّة، فقد تتأدّى وتصل إلى الأشياء الهيولانيّة التي تحت فلك القمر على هذه الجهة.
فقد كنّا بيّنّا أنّ جميع الجرم الإلاهيّ يتحرّك بطبعه حركة دوريّة، وقد تبيّن أنّ الحركة السرمديّة والمتّصلة والمتساوية هي لما كان من الأجسام طبيعيّاً غير فاسد ولهذا السبب لما كان مبدأ حركته فيه صارت هذه الحركة وحدها موجودة له في طبعه. وقد يتحرّك الحركة الدوريّة حول جميع الجسم الهيولانيّ الذي في الكون، وهذا الجسم، لمّا كان متغيّراً مستحيلاً، وهو متّصل بالطبع على نحو من الأنحاء بذلك الجرم. وذلك أنّه 〈لمّا〉 ليس يوجد خلاء ما بينهما، صار لمجاورته له وتماسّه يقتبس من قوّته الصادرة عنه، والقوّة التي تتأدّى عن الأجرام الإلاهيّة إلى الأجسام المتغيّرة المستحيلة توجد وتكون فيها لمجاورتها للطبائع التي هاهنا.
ولهذا السبب صحّ من أمر جميع ما قوامه بالطبيعة أنّ فيه
شيئاً إلاهيّاً هي مقتنية له، من قبل أنّها مشاركة بالقوّة الإلاهيّة على النحو الذي قلنا. فعند حدوث الانفعال الكائن عن الجسم الأوّل الذي بعد فلك القمر لمجاورته للجسم الإلاهيّ وتماسّه له، يتأدّى إلى جميع الجسم الذي يليه، من قبل أنّه متهيّئ لذلك سهل القبول له ولاتّصاله بالمنفعل الأوّل ومماسّته له.
ولهذا السبب صار الشيء الطبيعيّ قبل الأشياء كلّها، بعد أنّه صناعة إلاهيّة. فهذه القوّة وهذه الطبيعة، لمّا كانت إلاهيّة وعن الآلهة، صارت تفيد الأشياء التي توجد فيها من الاشتراك بها بمبلغ ما فيها من الإمكان لذلك.
فما كان من هذا الجسم مبلغ الإمكان فيه أن يكون مشتركاً بالنفس، فإنّها تجعل ما كانت هذه حاله من الجسم متنفّساً، وتجعل الباقي غير متنفّس. وما كان له منه مع هذه الحال الإمكان
على الاشتراك في العقل، فإنّه قد يكون ذا عقل، وهو التكامل بالطبع. وذلك أنّه ليس كلّ جسم متغذٍّ ميّت يكون حاله حال ما يكون قابلاً للجوهر والنظام، من قبل أنّه ليس حال 〈كلّ〉 جسم حال واحدة. وذلك أنّه ليس امتزاج جسم أيضاً على جهة واحدة لاكن منه ما هو أنقى ومنه ما حاله في ذلك أقلّ.
والمتنفّس بحسب حكم الطبيعة ومعناها أفضل من غير المتنفّس، وما كان من المتنفّس ذا حسّ، فهو أفضل ممّا ليس هو كذلك، والأكمل من جميع المتنفّسة الميّتة ما كان من هذه مقتنياً للعقل.
ولذلك صار الإنسان من بين سائر الأشياء التي هاهنا إلاهيّاً جدّاً وهو أكمل ما يكون من الأشياء التي قوامها بالطبع في الأجسام الميّتة التي في الأرض.
وذلك أنّ القوّة الإلاهيّة التي سمّيناها أيضاً الطبيعة وتقوّم الأشياء التي توجد فيها وتصوغها بنسبة ما ونظام، من غير أن
يكون ذلك منها عن رويّة فيها. وذلك أنّه ليس الطبيعة لكلّ واحد من الأشياء التي تفعلها من حيث تروّي فيه وتتأمّله بالفكر، من قبل أنّ الطبيعة قوّة غير ناطقة، لاكن من 〈حيث هي〉 قبل وجوده وبهذا النحو هو متّفق له عن الحيوان والجسم الإلاهيّ الذي هو والد لمبدئه. وذلك أنّه لمّا كان الوجود له عن ذلك الجسم وكان شيء يجري وينبعث عنه، صار بحسب مناسبته لذلك الجسم من شأنه أن يكون فاعلاً لكلّ حركة ذات نظام وصار فعله لذلك بأعداد ونسب محدودة.
فإنّه غير جائز أن يكون مولودات الحيوانات المائتة تظهر في أفعالها وحركاتها أمارات وعلامات على جنسها ويكون المتولّد عن الآلهة غير حافظ في الأشياء التي يوجد فيها حسن النظام الذي هو من الإلاهيّة.
وينبغي أن نعلم أنّ الحركة التي تكون عن الطبيعة شبيهة على وجه من الوجوه بما يظهر فيما يكون عن أصحاب الأعجوبات والحيل. فإنّ هذه كثيراً ما نراها، وهي غير متنفّسة، تكون
حركتها على جهة صناعيّة، عندما يفيدها فاعل الأعجوبات والحيل مبدأ للحركة. وذلك أنّه يظهر من أمر بعضها أنّها ترقص وأنّها تجاهد وأنّها تتحرّك حركات أخر لازمة للنظام والإيقاع بسبب أنّ لها عن صانعها مثل هذه الهيئة.
وينبغي أن نعلم أنّ وجود هذا المعنى للطبيعة أكثر كثيراً من قبل أنّها صانع هو أفضل. فإنّ المتقدّم للكون في الأشياء التي يوجد فيها دائماً بالفعل فاعل لما هو بعده في المرتبة، إلى أن يبلغ الأمر الذي يجري كونه على هذا الأمر من النظام، كمالاً محدوداً، ما لم يعق عن ذلك عائق. وذلك أنّ جميع ما يكون بالطبع له كمال ما، وهذا الكمال هو الذي 〈الأشياء〉 إذا حصلت فيه كفّت وأمسكت عن الكون.
كما نرى فيما يكون عن الصناعة أنّ الأمر يوجد على هذا من الحال. إلّا أنّ في الصناعات، إذا تقدّم الصنّاع، فعرفوا الغاية المقصود إليها يجعلونها أغراضهم في الأشياء التي تكون عنهم. وأمّا الطبيعة والأشياء التي تكون عنها، فإنّما تتكامل وتتمّ العناية بها عن لزوم واتّصال الأشياء الكائنة.
وذلك أنّه لو كان من الممكن في كلّ جسم ممّا هاهنا أن يكون مشاركاً للنفس والعقل، لقد كان كلّ ما يتكوّن عن الطبيعة ذا عقل. ولاكن لمّا كان ذلك غير ممكن، 〈فإنّما كان بعض الأجسام مشاركة للنفس والعقل〉. وذلك أنّا لسنا نرى ولا فيما يكون عن الصنّاع أيضاً أنّ كون الشيء من أيّ مادّة اتّفق من الأشياء
الممكنة، من قبل أنّه قد يحتاج الأجسام، لكيما يتمّ ما هو أفضل القابلة للموت الذي هو الإنسان، إلى تنقية كثيرة وتصفية ونفض.
وذلك أنّ هذا هو السبب في أن يكون الإنسان تتفاضل أحواله في وقت دون وقت وأن يكون الناس بعضهم أطبع من بعض وأجود قريحة وتهيّؤاً وبعضهم في ذلك أسوأ حالاً من بعض وبعضهم في قرائحهم أشدّ تخلّفاً وبعضهم أشدّ تقدّماً.
فلهذا السبب طبيعة بعض الأشياء هي مقتنية لغايتها وكمالها الخاصّ بها لشيء آخر ولا يمكن فيها أن تكون بأعيانها تقتني نفساً، بمنزلة كلّ واحد من الأجسام الأخر البسيطة التي في الكون. وبعضها يمكن فيها أن تكون مشاركة بالنفس أيضاً، وبعضها إنّما مبلغ الأمر فيها أن تمعن وتدرج إلى نحو الاشتراك
في النفس الغاذية، بمنزلة النبات، وبعضها له مع هذه النفس الحسّاسة أيضاً. فأمّا ما كان من الأجسام أكثر كمالاً بنقاء وصفاء الأشياء المختلطة وبحسن اعتدال الاختلاط، فإنّ لهذه عند ذلك النفس الناطقة أيضاً، كما يوجد الأمر في الناس.
وتوجد الطبيعة والعناية الإلاهيّة بالأشياء التي هاهنا بمبلغ الإمعان فيها إلى نحو كون جوهر هذه الأشياء والفصل الذي بحسب الجوهر والصورة الموجودة فيها. وذلك أنّ كون القوّة التي عن اللّه في الجسم الفاسد الذي له قوّة وتماسك على قبول ذلك إلى هذا المقدار، أعني إلى كون جوهره وصورته، ووجود هذه القوّة بكونها في هذه الأشياء التي هاهنا عن مجاورتها لتلك الأجسام الإلاهيّة وحركتها التي تجري على نحو ما كما قلنا. وهذه القوّة قد تحرّك الأشياء على جهة مثال حركة
التي لبعضها عند بعض الموجودة بالنوع، التي بها يخالف سقراط أفلاطون بالجوهر، ليس إنّما تكون على القصد الأوّل بالطبيعة، لاكن هذه إنّما هي أعراض ضروريّة للمادّة الموضوعة لهذه الأشياء.
وهذه المعاني قد نجد أرسطو يذكرها ويدوّنها في كثير من كتبه، كما من عادته أن يدوّن ويذكر هذه المعاني. ولا بأس أن نذكر نحن أيضاً لتصحيح ما قلناه في هذه المعاني شيئاً شيئاً ما قلناه في ذلك بإيجاز في كتاب السماء وفي مقالته فيما بعد الطبيعة. فإنّه في المقالة الأولى من كتاب السماء، عندما
يتكلّم في الجسم الإلاهيّ المتحرّك دوراً، يقول هذا القول إنّ زمان وجود هذا الجسم بالحقيقة «أيون»، أعني الدهر، واشتقّ له هذا الاسم من اللفظة المسمّاة باليونانيّة «أي»، ومعناها هو أنّه دائم أبداً أي الوجود. ولمّا قال هذا القول، أضاف هذا القول أيضاً «ومن هاهنا صار الوجود والحياة في تلك الأشياء الأخر معلقين أمّا في بعضها فعلى أوكد ما يكون وعلى التحقيق، وأمّا في بعضها فعلى جهة خفيّة».
فأمّا في المقالة الأولى من كتابه فيما بعد الطبيعة، فعندما يتكلّم في العلّة الأولى ويلخّص أمر الحركة التي تكون عنها في الجسم الإلاهيّ، عندما يقول «إنّها تحرّك كالمعشوق»، ويضيف إلى ذلك هذا القول 〈«وأمّا بالمتحرّك فتحرّك الأشياء الباقية»،〉 فهو أنّه يعني بتلك «الباقية» الأشياء التي تحت فلك القمر وجميع الجسم السماويّ. وهو يصرح بأنّ سبب تغيّر هذه الأشياء التي
هاهنا حركة الجسم المتحرّك دوراً وأنّ هذا التغيّر وهذه الاستحالة تكون عنه بالقوّة التي تصل إليها منه وتكون فيها عن ذلك الجسم.
وذلك أنّ القول بأنّ أحقّ الأسباب لتغيّر الأشياء التي هاهنا واستحالتها الحركة الدائمة المتّصلة التي للأجسام السماويّة الإلاهيّة هو واجب كثيراً من الوضع بأنّ الهيولى، لمّا كانت هي وتغيّراتها متّصلة دائمة، فلذلك يلزم ضرورة أن تصير الأشياء التي تكون أسباباً للتي تكون بعدها، ومن وضع 〈من وضع〉 أسباباً ما على الموالاة تجري هذا المجرى. وذلك أنّ هذا الوضع ليس يحقّ ولا يوافق أيضاً الأشياء الظاهرة، من قبل أنّ ولا واحد من الأشياء التي تتقدّم يوجد هو سبب لشيء ممّا بعده وأشياء كثيرة تكون باطلاً ولا أيضاً التي تكون عن التتابع بعضها لبعض يرى أنّ جميعها إنّما تكون من أجل التي تتكوّن قبلها.
وأمّا أن نضيف كون الأشياء التي تحت الأجسام الإلاهيّة إلى دورانها الحسن النظام والدائم، فذلك أنّه موافق للأشياء الظاهرة وهو أوجب من جميع الأشياء كثيراً. والأجسام الإلاهيّة بتوسّط الطبيعة ليس إنّما تعني في أمر الأشياء التي هاهنا بكونها فقط، بل تعني أيضاً بوجودها وسلامتها من بعد كونها كما قلنا.
فكما أنّ الأب يفيض إلى ولده ما كان من الأملاك ضروريّ في باب حياته، كذلك الطبيعة منحت جميع الأشياء المحتاجة إلى الغذاء غذاء كافياً أمّا الأشياء المنتشئة في الأرض، فلطفت لها في أمر غذائها عندما جعلته لها بتوسّط الأرض، وأمّا الأشياء التي تبدّل أماكنها، فعندما جعلت لها الثمار التي هي بالطبع معتدلة لكلّ واحد من المواضع التي تنتقل إليها، وأمّا الأشياء التي تجول جميع المواضع وتسعى إليها على سير واحد بعينه، ففي مكان أعدّت للناس الغذاء وفرغت من إعداد ذلك وآثرتهم بذلك بمنزلة إنسان يفضّل ويشرّف المحبوبين من أولاده على آخرين، كذلك الطبيعة ليست إنّما أفادتنا ومنحت ما هو ضروريّ في أمر حياتنا فقط، لاكن لم تنقص ولم تخل لنا ولا واحد من الأشياء الأخر، مثلاً أقول ممّا يمكن إعداده في أمر حياة هي الغاية في الفضيلة.
فإنّ طبيعتنا ليست بمحتاجة إلى كثير معونة وحيلة من خارج في أمر المعاش الذي هو في غاية الفضيلة الذي كان فيه
المشاركة. ففي جميع هذه الأمور وصلتنا الطبيعة بمعين هو كافٍ فيها، وهو قوّة النطق والعقل، وعن هذه القوّة نكون قادرين على استتمام ما تقصر عنه الطبيعة ممّا نحن مقتنون لنقصانه وضرورته. وذلك أنّه ما كان بالذي يمكن أن يكون الإنسان وهو على ما هو عليه من هذا المبلغ من الشرف والجلالة على سائر الأشياء الباقية وأن يكون له مع ذلك جسم صلب مستحصف، حتّى يكون مغشّى بقشور وصدف تحفظه من الأشياء التي يمكن أن تصدمه ممّا يكتنفه من المحيط به، وأن يكون لحم جلده صلباً أو يكون له شعر صلب متكاثف. وبقوّة العقل يتمّم خلل هذه ونقصانها.
وعنها أيضاً يفعل الأفعال التي تشوّق إلى قنية السعادة المناسبة له. وذلك أنّ المعرفة بالإلاهيّات إنّما تحصل لنا عن العقل، وهي المعرفة التي بنا خاصّة نخالف بها سائر الحيوانات
الأخر ونفوقها بالشرف، ليس بمقدار ما به يمكننا أن نعرف الآلهة فقط وهم الذين نفيد عنهم الخيرات (من حيث جميع الحيوانات الأخر حالها في باب ما هي غير عارفة بالتي تجود عليها حال الأجسام الغير متنفّسة) لاكن بحسب ما أنّ المعرفة بها هي أعظم الخيرات للذين لهم قوّة عارفة أنّ الأجسام الإلاهيّة أفضل الموجودات. فالقوّة والعناية الإلاهيّة بالأشياء الأخر التي يكون بها هذا نحوها وهي أيضاً للناس سبب الخيرات.
فإن كان الناس بالقوّة، فمن قبل ما هو بهذا من الحال فهو غير تامّ ولا هو كامل ضعيف. وما كان من جميع الأشياء بالقوّة،
فهو مثل بمثل هذا الضعف، وبمثل هذا وتحدث القوّة. والمادّة بسبب ضعفها الخاصّ الغريزيّ لا يمكن فيها أن تؤاتي وتتبع الفاعل والذي يطبع فيها الصورة التي فيها في جميع الوجوه، لاكنّها في بعض الأشياء قد تتخلّف وتقصر عن ذلك، من قبل أنّها ليست للأشياء التي هاهنا (وهي الوجود لها إنّما هو منها، أي من المادّة) بسبب لكلّ جهة لأن تحفظ اتّصال النظام، وذلك أنّ الذي يمكن أن يكون وأن لا يكون هو موطأ موضوع للأكوان.
تمّت المقالة والحمد للّه كثيراً كما هو أهله.