Alexander of Aphrodisias: De providentia (On Providence)

Work

Alexander of Aphrodisias, De providentia (Περὶ προνοίας)
English: On Providence

Text information

Type: Translation (Arabic)
Translator: Abū Bišr Mattā
Translated from: Syriac (Close)
Date: between 900 and 940

Source

Hans-Jochen Ruland. "Die arabischen Fassungen von zwei Schriften des Alexander von Aphrodisias Über die Vorsehung und Über das liberum arbitrium". Ph.D. thesis, Saarbrücken (Universität des Saarlandes) 1976, 33-105

Download

alexaphrod_deprovidentia-transl-ar2.xml [39.32 KB]

بسم اللّه الرحمن الرحيم، بدأت وعليه توكّلت وإليه أنيب.

مقالة الإسكندر الأفروديسيّ في التدبيرات الفلكيّة.

قال إنّ الحكيم ذكر في كتابه الذي يدعى كتاب التدبير أنّ علّة كون الأشياء الواقعة تحت الكون وحفظها ودوامها في صورها هي الأجرام السماويّة الشريفة، فأنّها مدبّرة حافظة لها، أعني أنّ قوّة الشمس وسائر الكواكب الشبيهة بالشمس هي علّة كون الأشياء الطبيعيّة المستحيلة ودوامها. وذلك أنّ حركة هذه الكواكب خاصّة من جميع الأجرام السماويّة وتظم بعضها إلى بعض واعتدال بعدها من هذه الأشياء الطبيعيّة الواقعة تحت الكون والاستحالة هي علّة كونها ودوام صورها، ولا سيّما الشمس وحركتها.

وهذا بيّن ظاهر وذلك أنّه لو كان بعد الشمس من الأرض غير هذا البعد الذي هو الآن ولم يكن سلوكها وحركتها في الفلك المائل ولم تنقد لسلوك فلك البروج الأوّل، لاكنّها كانت تتحرّك حركتها فقط، لم يكن ليكون شيء من الأشياء النافعة لنا ولحياتنا ولم يكن ليكون شيء من الحيوان ولا النبات ولا شيء من الأجرام المبسوطة المستحيلة بعضها إلى بعض.

ولو كانت، لما بقيت ولا ثبتت ثباتاً دائماً على هذا الثبات، فإنّ ثباتها ودوامها من قبل سلوك الأجرام السماويّة وحركتها، كما قلنا مراراً.

وذلك أنّه لو كان بعد الشمس من الأرض غير هذا البعد الذي هو الآن، لكانت قد سخّنت الأرض أكثر من القدر لقربها منها، ولو كانت أبعد ممّا هي الآن، لما سخّنت العالم الأرضيّ إلّا شيئاً يسيراً. ولو كانت أبعد بعداً من الأرض أو أقرب قرباً منها، لما كان شيء من جنس النبات ولا من الحيوان.

وتحقيق ذلك مواضع الأرض التي لا تسكن، فإنّها إنّما صارت معطّلة غير عامرة لهاتين الخصلتين، أعني الإفراط في البعد والتقصير.

والعلّة التي لها صار ليس في تلك المواضع نبات ولا حيوان هي أيضاً علّة عدم النبات والحيوان في الجميع الأرض، لو كان بعد الشمس منها غير هذا البعد الذي هو الآن، وإنّما صار بعض مواضع الأرض ليس بعامر ولا يقدر أحد أن يسكنه، إمّا لشدّة حرّه وإمّا لشدّة برده.

وما أحسن ما قال أوميرس الشاعر في شعره، فإنّه ذكر في شعره «أنّ الشمس قالت † لا فاتون ان † المشتري يلزمني لا أتباعد من الأرض أكثر من هذا البعد، لئلّا يهلك الإنسان من شدّة البرد والجمد، ولا أسفل فأقرب من الأرض، فيهلك الناس من شدّة الحرّ والذوبان».

فقد بان إذن ووضح أنّ دوام الأشياء التي فوق الأرض وحولها يكون من قبل اعتدال بعد الشمس من الأرض. وقد يكون دوامها أيضاً من قبل حركة الشمس في الفلك المائل، فهذا أيضاً شيء ظاهر.

وذلك أنّها لو كانت حركتها في غير هذا الفلك وكانت في سائر الأفلاك المتوازية، لم يكن ليكون شتاء ولا صيف ولا شيء من الأزمان والفصول، لاكن كان يكون الزمان كلّه واحداً غير مختلف إمّا صيفاً أبداً وإمّا شتاء أبداً.

ولو كان هذا هكذا، لما ثبت هذا العالم الأرضي ولا بقي هذا البقاء والدوام. فقد بان إذن أنّ ثبات العالم وكون الأشياء بعضها من بعض إنّما يكون من اختلاف الأزمان، واختلاف الأزمان يكون من قبل سلوك الشمس وحركتها في الفلك المائل.

ونقول أيضاً إنّه لو كانت الشمس بعيدة من الأرض على ما هي الآن وكانت حركتها في الفلك المائل ولم تكن تنقاد لسلوك فلك البروج أعني الفلك الأقصى الأوّل، لم يكن ليكون الليل والنهار على هذا الشرح وعلى هذا النظام ولم ينل أحدهما الآخر ولما استراح الحيوان من تعبها وعنائها (فإنّه إنّما يستريح بالليل أو النهار) ولكل نصف السنة نهاراً والنصف الآخر ليلاً. ولو كان هذا هكذا، لفسد كلّ نبات وهلك كلّ حيوان.

فقد بان الآن وصحّ أن تكون الأشياء الواقعة تحت الكون ودوام صورها وحفظ نظمها إنّما يكون من قبل اعتدال بعد الشمس من الأرض ومن قبل سلوكها في الفلك المائل ومن قبل حركتها المضاعفة، أعني حركتها الذاتيّة وحركتها التي من قبل فلك البروج وهو الفلك الأوّل.

والقمر أيضاً هو علّة كون الأشياء ودوامها، أعني اعتدال بعده من الأرض وحركته. وذلك أنّه لو كان أقرب من الأرض ممّا هو الآن، لمنع كون السحاب والأمطار، لأنّه كان يفرّد البخار ويلطّفه، ولا يدعه يجتمع ولا يكثف. وتحقيق ذلك أنّ القمر يعين في كون السحاب والأمطار وفي إبطالها، محاق الشهر، فإنّ جلّ ما يكون المطر إنّما يكون عند محاق الهلال وفي مولده، وجلّ ما تكف الأمطار إنّما تكف في تمام قرص الهلال.

ولو لم تكن حركته في الفلك المائل وكانت في بعض الأفلاك المتوازية، لما كانت منفعته بيّنة ظاهرة على ما هي الآن.

فإنّه إذا كان مقابل الشمس، صيّر ليالي الشتاء مصحية، لأنّ وضعه يكون حينئذٍ مثل وضعها في زمان الصيف. وإذا كان من ناحية الجنوب في زمان الصيف، كان الحرّ أقلّ وأضعف. ولو لم تكن حركته مائلة على ما هي الآن، لما نفع شيئاً في كون الثمار ولا في إنضاجها ولا في شيء من منافعه.

فإذا كان هذا على ما وصفنا، رجعنا فقلنا إنّ الأجرام الشريفة الأول وحركاتها ذوات النظم والشرح هي علّة كون الأشياء التي فوق الأرض وحولها وعلّة ثباتها ودوامها على ما قال الحكيم، وليست مهملة بلا علّة ولا مدبّر. وقد بيّن الحكيم ذلك وأوضحه في الكتاب الذي يدعى كتاب التدبير ولخّص هنالك تلخيصاً مستقصى.

وبيّنه بأقاويل وآراء مقنعة أنّ الشمس والقمر وسائر النجوم المتحيّرة هي التي تدبّر هذا العالم بالقوّة التي صارت فيها من العلّة الأولى التي ليس فوقها علّة أخرى.

إلّا أنّ من النجوم ما تدبّر أجرام العالم ومنها ما تدبّر الأنفس ومنها ما تدبّر الأنفس ذوات العقل. وذلك أنّ من حركات الأجرام الشريفة ما تليق بحركات الأجرام فقط ومنها ما تليق بحركات الأنفس ومنها ما تليق وتلائم حركات العقل، فتكون هي التي تحرّك هذه الحركات المختلفة. وأوضح هنالك كيف يكون ذلك بمعانٍ لطيفة شريفة.

ثمّ قال إنّ حركات الأجرام السماويّة ليست من أجل حركاتنا ولا أفاعيلها من أجل أفاعيلنا، وليست هي التي تدعونا أن نفعل بعض الأشياء ولا تمنعنا عن فعل بعض الأشياء. فإنّ هذا لا يليق بكرم تلك الأجرام الكريمة الشريفة، لاكنّها إنّما تفعل أفاعيلها لأنفسها لا لغيرها، وكذلك أفاعيل الإنسان لا تكون من أجل غيره لاكن من أجله. وذلك أنّ غاية عقل ذي الرأي إنّما هو فعل ذي المعرفة والعلم. فإن كان هذا هكذا، فكم بالحريّ أن تكون الأجرام الشريفة إنّما تفعل أفاعيلها من أجلها، لا من أجلنا ولا من أجل دوام هذا العالم الأرضيّ.

فإن كان هذا هكذا، قلنا إنّ الأجرام السماويّة تفعل أفاعيلها الفاضلة الكريمة فعلاً دائماً من أجل ذاتها ودوامها، إلّا أنّه يعرض من أفاعيلها تدبير العالم، فإنّها كريمة وهي علّة كلّ خير وكرم في هذا العالم، لأنّ كلّ فاضل من شأنه المنفعة.

فكما أنّ الأشياء الكريمة النافعة تنفع الأشياء التي تقبل منافعها إذا حضرت، كذلك من شأن الأجرام السماويّة أن ينفع هذا العالم بقربه منها، وإن كانت لا تفعل شيئاً من أفاعيلها من أجل هذا العالم، شبه الصحّة: فإنّها لا تفعل شيئاً من أجل الشيء الذي هي له لاكن من أجلها، غير أنّها وإن كانت كذلك، فإنّها تنفع الشيء الذي هي له منفعة بيّنة.

وكذلك نحن علينا أن نعقل أنّ الجرم الكريم الفاضل يفعل أفاعيله من أجله لا لغيره وأنّه وإن كان كذلك ، فإنّه ينفع غيره ويفيض منفعته على جميع هذا العالم. أمّا سائر الأشياء المستحيلة، فإنّ كلّ واحد منها ينفع شيئاً واحداً واحداً، صورة كان أو شخصاً.

وأمّا الأجرام السماويّة، فليست كذلك لاكنّها تنفع جميع صور الأشياء التي في هذا العالم وأشخاصها على نحو قبول كلّ واحد منها. فقد بان إذن ووضح أنّ المنفعة الكائنة في هذا العالم إنّما تعرض من أفاعيل الأجرام السماويّة كما بيّنّا وأوضحنا.

فتقول إنّ التدبير ضربان، أحدهما تدبير الأجرام السماويّة من الفلك الأقصى إلى فلك القمر والآخر تدبير العالم الذي تحت فلك القمر.(فأمّا تدبير الأجرام الأول فيكون من قبل الفاعل الأوّل، وأمّا تدبير العالم الأرضيّ فيكون من قبل الأجرام الأول لما صار فيها من القوّة الأولى). فقد ذكر الحكيم ذلك فقال إنّ الإنسان يلد إنساناً والشمس (أي أنّ الشمس معينة له على ذلك).

فإنّه قد تنسب الأشياء الواقعة تحت الكون والفساد إلى حركات الأجرام التي من الفلك الأقصى إلى فلك القمر.

وبحقّ صارت الأجرام الأول تدبّر الأجرام الثانية أعني المستحيلة، لأنّها دائمة ثابتة على حال واحدة، لا تستحيل في جواهرها ولا تتغيّر في حالاتها ولا تنتقل بعضها إلى بعض. فالشيء الثابت الدائم على حال واحدة أولى بأن يدبّر الشيء المستحيل الواقع تحت الكون والفساد.

غير أنّه وإن كانت الأجرام الأول هي المدبّرة للأجرام المستحيلة، فإنّا لا نقول إنّ الأجرام الأول إنّما تفعل أفاعيلها وتتحرّك حركاتها لتدبير جواهر العالم الأرضيّ ولقوام صوره، فإنّ هذا قبيح جدّاً. وقد قلنا مراراً إنّ الشيء الذي كان من أجل شيء آخر هو أدنى منه وأخسّ، لأنّه إنّما كان من أجله.

وقال الحكيم أيضاً في ذلك الكتاب الذي سمّينا آنفاً إنّ الأجرام الأول الشريفة تعرف طبائعها معرفة صحيحة وإنّها طبائع فاعلة للخير. فمن عرف طبائعها، عرف أيضاً الأشياء التابعة لطبائعها اضطراراً. وليس معرفة الأجرام المستحيلة كذلك، لأنّه ليس من عرف طبيعة النار يعرف أنّها حارّة مسخّنة للأشياء القابلة للسخونة. فأمّا من عرف طبيعة الأجرام الأول الشريفة الفاعلة للخير، فإنّه يعرف أيضاً الفضائل التي تكون في هذا العالم منها.

وذلك أنّ الأشياء التي تعرف جواهرها وطبائعها معرفة ذاتيّة وهي 〈لها〉 معرفة الأشياء التي هي علّة كونها ولا يعرض فيها شيء من الأشياء من غير إرادتها.

فقد بان إذن أنّه ليس فعل الأجرام الأول الشريفة من أجل ثبات العالم الأرضيّ ودوامه وأنّه لا يفوتها شيء من الأشياء ممّا يحدث فيه ولا يكون دون إرادتها، وأنّها علّة جواهر العالم الأرضيّ وكونها. إلّا أنّ ذلك لا يكون تعمّداً منها، بل يعرض تكوين جواهر هذه الأجرام المستحيلة ونظمها من تلك الأجرام اضطراراً. ولا يكون هاهنا شيء يفوت معرفتها، لأنّ تلك الأجرام الشريفة فيها من القوّة العالية شيء كثير. فلذلك صارت

تامّة كاملة. وقد أقرّ بأنّها خير وأنّها فاعلة للخير جميع الأوّلين.

فكما أنّ الشيء الحارّ الطبيعة يسخّن بسخونة طبيعيّة ويسخّن ما قرب منه وقوي على قبول سخونته وليس إنّما يفعل فعله ذلك من أجل تسخين ما سخّن منه لاكنّه يفعل فعله من أجل ثباته ودوامه، إلّا أنّه يعرض من ذلك أن يسخّن ما هو متهيّئ لقبول سخونته، كذلك الأجرام السماويّة إنّما تفعل أفاعيلها من أجل أنفسها، غير أنّه يعرض من فعلها أن تنال الأجرام القريبة من قوى الأجرام الشريفة على نحو استطاعتها وقبولها لتلك القوى.

وليس من الواجب أن تكون الأجرام المستحيلة المنفعلة تفعل في الأجرام القريبة منها وتفيض عليها من قوّتها وأن تكون الأجرام السماويّة الكريمة لا تفعل في الأجرام القريبة منها ولا تفيض عليها من قوّتها، بل هي أحرى بالإفاضة على ما قرب منها من الأشياء المستحيلة لشرفها وكرمها. غير أنّه وإن كانت الأجرام المستحيلة تفعل في الأجرام القريبة منها وتؤثّر فيها، فإنّها تنفعل منها أيضاً، فلا تبقى قوّتها فيها محضة. فأمّا الأجرام السماويّة، فإنّها تفعل في الأجرام المستحيلة من غير أن تنفعل منها ولا تسلب شيئاً من قوّتها، لأنّها غير منفعلة وهي ثابتة الذات غير منفعلة. وإنّما تفيض الأجرام السماويّة الشريفة قوّتها على الأجرام المستحيلة الواقعة تحت الكون والفساد التي تحت فلك القمر هكذا، وفيض قوّتها عليها هو تدبيرها لها.

إنّ الحكيم قد بيّن في كتاب السماء أنّ جميع الأجرام الشريفة تتحرّك حركة مستديرة وحدها وأنّ هذه الحركة وحدها من بين جميع الحركات متّصلة مستوية تامّة دائمة وأنّ هذه الحركة تكون في الجرم الدائم الذي لا يقع تحت الفساد. فلذلك صارت هذه الحركة في الأجرام السماويّة طبيعيّة. وإنّما تتحرّك حركة مستديرة حول الأجرام المستحيلة الواقعة تحت الكون والفساد، فإنّ هذه الأجرام المستحيلة مماسّة لذلك الجرم السماويّ. لأنّه ليس في العالم خلاء ولا فراغ ولا بين هذين الجرمين خلاء ولا فراغ، وإن لم يكن بينهما فراغ وكانا مماسّين، كان العالم الأرضيّ ينال من قوّة ذلك الجرم السماويّ لمماسّته له.

فلذلك قيل إنّ في الأجرام الطبيعيّة كلّها المستحيلة قوّة

سماويّة، وذلك أنّ الجرم الأوّل (أعني النار) المستحيل المماسّ للجرم السماويّ ينال أوّلاً من قوّة ذلك الجرم السماويّ، ثمّ الجرم الأقرب فالأقرب.

فإن كان هذا هكذا، قلنا إنّ الأجرام السماويّة تفيض قواها على جميع الأجرام الأرضيّة المستحيلة على نحو تهيّؤ قبول كلّ واحد منها.

أعني أنّ كلّ جرم، يقوى 〈على〉 أن يكون متنفّساً، فإنّما يكون متنفّساً من تلك القوّة. وكلّ جرم، يقوى على أن يكون حيواناً، فإنّما يكون

حيواناً من تلك القوّة. وكلّ جرم، يقوى على أن يكون ذا عقل، فإنّما يكون ذا عقل من قبل قوّة ذلك الجرم. فإنّ هذه الأجرام المستحيلة تختلف اختلافاً كثيراً، فعلى حسب قبولها لتلك القوّة، كذلك تفيض تلك القوّة فيها. والأجرام السماويّة مختلفة أيضاً. وذلك أنّ منها ما هو أنقى وأصفى من غيره، فما كان منها صافياً نقيّاً كان فيه من القوّة العالية أكثر وما كان منها كدراً كان فيه من القوّة العالية أقلّ.

ونقول إنّ الجرم المتنفّس أكرم من الجرم الذي ليس بمتنفّس، والجرم الحيوانيّ أكرم من الجرم المتنفّس والجرم العقليّ أكرم من الجرم الحيوانيّ. فلذلك قيل إنّ الإنسان أكرم من جميع الأشياء التي في العالم الأرضيّ.

وذلك أنّ القوّة السماويّة التي نسمّيها طبيعة تفعل

أفاعيل شريفة وتحرّك حركات مختلفة.

فكما أنّ أولاد الحيوان الميّتة تشبه أجناسها في أفاعيلها وحركاتها، كذلك أولاد الأجرام السماويّة، أعني القوّة الطبيعيّة، تحفظ أفاعيل السماء وحركاتها وتفعل أعمالاً مختلفة عجيبة جدّاً.

وكما أنّ الصانع صاحب الحيل العجيبة يفعل صنماً أو غيره فيصير في ذلك الصنم حركة كأنّه يمشي أو يقفز، وهو غير ذي نفس،

وإنّما صارت له حركة لا من أجله لاكن من أجل حكمة الصانع وحيلته، كذلك ينبغي أن تفعل الطبيعة. فإنّها صنعة صانع فاضل، أعني الجرم السماويّ، والقوّة فيها كثيرة جدّاً. فلذلك تفعل أفاعيل عجيبة كثيرة، فلا تزال الطبيعة تفعل بعض الأشياء من بعض إلى أن تنتهي إلى غاية القوّة. فإنّ لكلّ قوّة جرميّة غاية، فإذا انتهت تلك القوّة، وقف كون الأجرام أيضاً.

فقد ذكر ذلك الحكيم في كتاب الكون والفساد وقال إنّ الكون لا يكون إلى ما لا غاية له بل له نهاية وغاية، ونهاية الكون هي نهاية القوّة السماويّة الشريفة الفاعلة، فإنّها علّة بدء الكون وغايته.

كما نرى أنّه يكون في الأشياء الواقعة تحت الصنعة، فإنّ لصنعتها غاية ونهاية. غير أنّ الصانع إنّما يروّي في غاية عمله أوّلاً فيعرفه، ثمّ يصوّر له كالغرض، ثمّ يبدأ في العمل. فأمّا الطبيعة فليست تفعل أفاعيلها كذلك، لاكنّها تفعل الشيء فلا تزال تقلبه وتحيله من شيء إلى شيء، إلى أن ينتهي إلى تمامه وغايته. فلا تقوى على أن تحيله إلى شيء آخر، فيكون تمام عمل الصانع من قبل رويّته وتمام عمل الطبيعة من قبل العمل نفسه أنّه إذا بلغ إلى تمامه وغايته وقف.

فإن كان هذا هكذا، قلنا إنّه لو كان يمكن أن يكون كلّ الأجرام الواقعة تحت الكون والفساد ذوات نفس وعقل، لكانت الطبيعة قد صيّرتها كلّها ذوات نفس وعقل بالقوّة السماويّة التي فيها. فأمّا إذا صار هذا غير ممكن، صار لذلك بعض الأجرام نفسانيّة وبعضها عقليّة. وقد يرى أيضاً في الصناعات، وذلك أنّ الصانع لا يقوى على أن يعمل من الخشب سيفاً

قاطعاً ولا من الحديد سفينة. وكذلك الطبيعة لا تقوى على أن تعمل من كلّ جرم إنساناً، وذلك أنّه ينبغي للجرم الغليظ أن ينقى ويصفو ليكون إنساناً ناطقاً.

ومن أجل هذه العلّة صار بعض الناس أعقل من بعض وبعضهم أقبل للعلم من بعض من نقاء أبدانهم ولطفها وصفائها. وعلى هذه الصفة تكون الأجرام كلّها المستحيلة.

غير أنّ منها ما يكون تمامه في غيره، شبه الأجرام المبسوطة، فإنّ تمامها أن تكون ذوات نفس وعقل. ومنها ما يكون تمامه في ذاته لا غيره، شبه الإنسان. وأمّا سائر الأجسام الكائنة تحت الكون والفساد، فمنها ما يقبل النفس النامية فقط ولا يقوى على

أن يكون حيواناً، شبه النبات. ومنها ما يقوى على قبول النفس النامية والحيوانيّة، ومنها ما يقبل النفس النامية والحيوانيّة والناطقة، شبه الأجرام التامّة الكاملة وهي الأجرام النقيّة الصافية المعتدلة، فلذلك صارت فيها النفس الناطقة.

فإن كان هذا هكذا، قلنا إنّ الطبيعة، وهي القوّة السماويّة، إنّما تدبّر الأشياء الواقعة تحت الكون والفساد إلى أن تبلغ تمامها وغايتها، وتفصّل فيما بين الأشياء وتميّز بعضها من بعض وتحفظ صورها أيضاً بالنسل والتكوين بعضها من بعض. وذلك أنّها لمّا لم تكن تقوى على أن تصيّرها شبيهة بالدوام والبقاء في العدد، صيّرتها دائمة في التكوين والاستحالة، فصارت دائمة بالصورة لا بالعدد. وإنّما صارت صور الأجرام المستحيلة ثابتة دائمة من قبل كون أجزائها وفسادها. وقد أفاضت الأجرام

الأول الثابتة على الأجرام الثانية الدوام وشاركتها فيه. غير أنّ الدوام هنالك يكون في صور الأجرام وعددها، ويكون الدوام هاهنا في صورها فقط، لا في عددها. وكذلك العلّة الأولى أفاضت على الأجرام الأول الدوام، غير أنّ الدوام في العلّة الأولى يكون في هويّتها، ويكون دوام الأجرام الأول في حركتها لا في هويّتها.

فإنّ هويّتها تبطل كما بيّن الحكيم في كتاب السماء بأقاويل مقنعة، فإنّه قال هنالك إنّه لا يكون جرم لا نهاية له ولا غاية، لا جرم مستوٍ ولا مستدير. فإن كان لا يكون جرم غير متناهٍ، كان

لكلّ جرم متناهٍ قوّة متناهية، لأنّه لا يمكن أن يكون للجرم المتناهي قوّة لا نهاية لها. فإن كان هذا هكذا وكانت السماء جرماً متناهياً، لم يكن قوّتها غير متناهية، فإن كانت متناهية، فإنّها ستقف يوماً ما، فإذا وقعت، بطلت.

(هذا 〈إ〉نكار. إنّما كان يصحّ ما قال، لو كان الجرم السماويّ يتحرّك عن قوّة فيه. لأنّه كان يجب حينئذٍ أن تكون حركته عن قوّة متناهية، لأنّ القوى الجسميّة متناهية بتناهي الجسم، فكان حينئذٍ سيكفّ عن الحركة في وقت ما. لاكن لمّا كان الجرم السماويّ إنّما يتحرّك عن محرّك في خارج ليس جسماً ولا قوّة في جسم، فإنّه يتحرّك بقوّة غير متناهية، فكانت حركته لذلك غير متناهية.)

فإن كان هذا هكذا، رجعنا فقلنا إنّ دوام الأجرام الأول يكون من قبل العلّة الأولى، ودوام الأجرام المستحيلة يكون من قبل الأجرام الأول الثابتة الذات.

ونقول إنّ اختلاف الصور، أعني اختلاف صورة سقراط من صورة أفلاطون، ليس ذلك من قبل فعل الطبيعة، لاكنّه عرض يعرض من قبل الهيولى.

وقد بيّن ذلك الحكيم وأوضحه في كتابه الذي يدعى كتاب ما بعد الطبيعة وقال كيف صارت الصور تختلف، أمن قبل الفاعل أم من قبل المفعول به. وأوضح في ذلك الكتاب أيضاً العلّة الأولى وهل هي وكيف تحرّك الأجرام السماويّة. فقال إنّ العلّة الأولى ليست بجرم ولا تحرّك الأجرام حركة جرميّة، لا بدفع ولا بجذب، لاكنّها تحرّك الأجرام السماويّة كحركة العاشق للمعشوق. وبيّن هنالك كيف يكون ذلك بمعانٍ لطيفة شريفة، ثمّ ذكر أيضاً كيف تحرّك العلّة الأولى الأجرام المستحيلة بتوسّط الأجرام

السماويّة.

ونرجع إلى ما كنّا فيه فنقول إنّ الأجرام السماويّة ليست تدبّر هذه الأجرام المستحيلة فقط، لاكنّها هي علّة كونها وثباتها أيضاً كما قلنا مراراً.

وكما أنّ الأب يدفع إلى ابنه أوّلاً ما يقوّيه ويمسك حياته، كذلك تفعل الطبيعة أيضاً. وذلك أنّها هيّأت لجميع الأشياء حيل التثبّت و〈الـ〉ـتبقّي، غير أنّها عمدت إلى الأشياء التي لا تقوى على النقلة من موضع إلى موضع، فهيّأت لها أغذية من الأرض التي هي ثابتة فيها، وعمدت إلى الأشياء المنتقلة من موضع إلى موضع، فهيّأت لها أغذية مختلفة توجد في مواضع مختلفة. وكذلك فعلت بنا أيضاً بأنّها هيّأت لنا أغذية مختلفة نافعة لحياتنا

ملائمة لها. ثمّ تركتنا نحتال بما فينا من العقل والنطق بما نقص بنا من التمام، وذلك شبه الثياب واللباس المانع عنّا الآفات الواقعة من خارج على أبداننا. لأنّه لم يكن ليمكن أن نكون ذوي نفس ناطقة نخالف بها سائر الأجسام ونعلو بها عليها وأن تكون لنا أبدان جاسية كثيفة، شبه أبدان الحيوان الجافية، أو يكون علينا جلود جاسية وشعر عليها غليظ كشعر السباع. فلمّا فقدنا ذلك، فعلنا بعقولنا لأبداننا لباساً يمنع عنها الحرّ والبرد والآفات الضارّة لها. فلهذه الصفة هيّأت الطبيعة والقوّة السماويّة النبات والحيوان.

وهي علّة كلّ خير وفضيلة تكون فيها، لا سيّما في الإنسان.

فإن الإنسان عالم بالأشياء قابل للفضائل، ولذلك صارت غاية الإنسان أن يكون عالماً فاضلاً.

فإن قال قائل فكيف نرى ناساً كثيراً شرّيرين لا يعرفون إلّا الشرّ وحده ونرى أشياء أخر في العالم الأرضيّ ليس لها شرح ولا نظام ولا يقوى صاحب العلل أن يعتلّ فيها بعلّة، لأنّها خارجة من القياس والتدبير السماويّ، فيكون التدبير السماويّ لا يصيب في جميع الأشياء، لأنّه ربّما دخل عليه الخطأ؟ قلنا إنّ ذلك يكون لا من أجل التدبير، لاكن من أجل الهيولى القابلة للتدبير.

وذلك أنّ الهيولى ليست شيئاً من الأشياء بالفعل، لاكنّها بالقوّة فقط. فلذلك ربّما لا تقبل فعل الفاعل لضعفها، لأنّ كلّ شيء بالقوّة ناقص غير تامّ، والهيولى هي كلّ شيء بالقوّة. فلذلك صارت ضعيفة ناقصة يدخل عليها الخطأ ولا تقبل

جميع الصور التي يصوّر فيها المصوّر، لاكن ربّما امتنعت من ذلك، لا من أجل الصانع، لاكن من أجلها، كما بيّنّا وأوضحنا.

ونقول أيضاً إنّها قابلة للعدم وقابلة للصورة فلأنّها قابلة للصورة، تميل إلى الطبيعة الفاضلة، أعني قوّة الجرم السماويّ، وتتصوّر منها وتشتاق إلى الدوام والبقاء. ولأنّها قابلة للعدم، أعني أنّها ليست شيئاً من الأشياء بالفعل، لا تميل إلى قوّة

الجرم السماويّ ولا تنفعل منها ولا تتصوّر ولا تشتاق إلى الدوام والبقاء، لاكنّها تشتاق إلى الفناء والتلاشي. فلهذه العلّة ربّما دخل الخطأ في العالم الأرضيّ، لا من أجل الأجرام السماويّة، لاكن من أجل الهيولى، كما بيّنّا وأوضحنا.

فقد بان الآن ووضح كيف تدبّر الأجرام السماويّة العالم الأرضيّ تدبيراً كلّيّاً. وأمّا التدبير الجزئيّ، فقد لخّص الحكيم كيف يكون ذلك في الكتاب الذي يدعى أسطر〈و〉لوجيا بأقاويل مقنعة لا مردّ لها.

هذا آخر ما وجدنا من هذا الكلام. انتهى، والحمد للّه كثيراً على نعمه السابغة. كما هو أهله.

تمّت مقالة الإسكندر في التدبيرات الفلكيّة.