Anon.: Ǧawāmiʿ al-Iskandarānīyīn li-kitāb ilā Ġlawqun ʿalā l-šarḥ wa-l-talḫīṣ (Alexandrian Summary of (Galen's) Book to Glaucon)

Work

Anon., Ǧawāmiʿ al-Iskandarānīyīn li-kitāb ilā Ġlawqun ʿalā l-šarḥ wa-l-talḫīṣ
English: Alexandrian Summary of (Galen's) Book to Glaucon

Related to

Text information

Type: Summary (Arabic)
Date: unknown

Source

Muḥammad Salīm Sālim. Kitāb Ǧālīnūs ilā Ġlawqun fī l-taʾattī li-šifāʾ al-amrāḍ. Šarḥ wa-talḫīṣ Ḥunayn ibn Isḥāq. Ǧawāmiʿ al-Iskandarānīyīn 4. Cairo (al-Hayʾah al-miṣrīyah al-ʿāmmah li-l-kitāb) 1982, 3-517

Download

anon_gal_adglauc-summ_alexsumm-ar1.xml [416.81 KB]

بسم اللّه الرحمن الرحيم

جوامع الإسكندرانيّين لكتاب جالينوس إلی غلوقن علی الشرح والتلخيص

اسم الطبيعة يجري في كلام بقراط علی أربعة أوجه:

أحدها: مزاج البدن،

والثاني: هيئة البدن،

والثالث: القوّة المدبّرة للبدن،

والرابع: حركة النفس.

مثال ذلك: أنّه حيث يقول: إنّ الطبائع منها ما هي في الصيف صالحة، ومنها ما هي في الشتاء صالحة، فإنّما يريد بذلك المزاج.

وحيث يقول: إنّ من الطبائع ما الصدر منها ضيّق، ومنها ما الساقان منها دقيقتان، فإنّما يريد بذلك هيئة البدن.

وحيث يقول: إنّ الطبيعة هي الشافية للأمراض، إنّما يريد بذلك القوّة المدبّرة للبدن.

وحيث يقول: إنّ طبيعة كلّ شيء تجري علی ما هي عليه من غير تعلّم، إنّما يريد بذلك حركة النفس.

ومن هذه المعاني التي يجري عليها اسم الطبيعة ما هو عامّ لجميع ما دون فلك القمر من الأجسام التي لها أنفس، وهي القوّة المدبّرة للبدن، ومنها ما هو عامّ لجميع نوع الناس الذي قصد الطبيب وهمّته إليه، وهي حركة النفس. ومنها

ما يعمّ جميع الناس من وجه، ويخصّ بعضهم دون بعض من وجه آخر، وهما المزاج والهيئة.

ولذلك أمرنا بقراط ألّا نقتصر علی النظر في أمر المزاج والهيئة العامّيّين لجميع الناس، دون أن ننظر في أمر المزاج والهيئة الخاصّيّين بكلّ واحد من الناس.

ومزاج الناس ينصرف علی وجهين: أحدهما عامّ، والآخر خاصّ.

أمّا العامّ: فيقع علی جميع الغرض الذي فيه أصناف مزاج الناس الذي إذا تخطّی إلی فوق، أو إلی أسفل، كان المزاج الذي يقع إليه ليس من مزاج الناس في شيء، لكنّه مزاج واحد من أنواع سائر الحيوان.

وهذا المزاج العامّ هو المزاج الذي تمازج الأركان فيه علی أجزاء متساوية، أو قريب من ذلك، إلّا أنّه قد زال قليلاً: إمّا إلی الحرارة، وإمّا إلی البرودة، وإمّا إلی الرطوبة، وإمّا إلی اليبس.

وأمّا المزاج الخاصّ فيقع علی الأصناف التي في ذلك الغرض. وهي تسعة أصناف: أحدها معتدل، والثمنية الأخر غير معتدلة.

ومن هذه الثمنية: أربعة بسيطة، وأربعة مركّبة.

أمّا المفردة: فالمزاج الحارّ، والرطب، والبارد، واليابس. وكلّ واحد من هذه الأربعة ينقسم بالزيادة والنقصان تقسيماً لا نهاية له. لأنّ أمزاج الأشخاص المفردة لا نهاية له. أعني بالأشخاص: ذين، وتين، وممين.

وأمّا الأمزاج الأربعة المركّبة فهي: الحارّ اليابس، والحارّ الرطب، والبارد اليابس، والبارد الرطب.

وكلّ واحد من هذه أيضاً ينقسم علی ذلك المثال تقسيماً لا نهاية له.

قد ينبغي لمن أراد أن يداوي مداواة جيّدة أن يبتدئ أمره من النظر في الأجناس، فيقسّمه بالفكر والقياس أوّلاً فأوّلاً حتّی يبلغ إلی الأنواع التي تلي الأشخاص المفردة، أعني الأنواع التي لا أنواع بعدها. وإذا فعل ذلك، أخذ من الجنس الأعلی دلالة أعمّ وأجمع، ومن كلّ واحد من الأنواع التي بعده دلالة أقلّ عموماً وأيسر جمعاً. ثمّ إذا صار إلی المباشرة والعمل، استعمل التخمين بالنظر في الفصول التي بها تنقسم وتنفصل الأشخاص من الأنواع، وهي الفصول التي تلزم من طريق الزيادة والنقصان في كلّ واحد من الأشخاص. ويستدلّ من هذه الفصول استدلالاً خاصّاً يقف به علی طبيعة ذلك الشخص خاصّة.

مثال هذه القسمة: الاستدلال بها أنّ الحمّی الغبّ الخالصة جنسها الأوّل،

وهو الأعلی، أنّها مرض. ويستدلّ من ذلك علی أنّها تحتاج، كسائر الأمراض، إلی أن تكشف، وتقلع بما يضادّها.

وجنسها الثاني: أنّها مرض حارّ. وذلك ممّا يستدلّ به علی أنّ مداواتها تكون بالتبريد.

وجنسها الثالث: أنّها حمّی من عفونة. وذلك ممّا يستدلّ به علی أنّ تدبيرها ينبغي أن يكون بأشياء تستفرغ المادّة العفنة، وتطفّئ الحرارة.

وجنسها الرابع: أنّها حمّی من عفونة المرّة الصفراء. وذلك ممّا يستدلّ به علی أنّ تبريدها ينبغي أن يكون بأشياء تستفرغ المرّة الصفراء، وتطفّئ حرارة الحمّی تطفئة كبيرة.

ونوعها الذي لا نوع بعده أنّها حمّی غبّ خالصة. وذلك ممّا يستدلّ به علی أنّ الأشياء التي تبرّد بها ينبغي أن تكون في غاية التبريد.

وأصنافها وفصولها الجزئيّة موجودة في الأشخاص علی طريق ما يتهيّأ فيها من الزيادة والنقصان.

وبهذه الفصول الجزئيّة ينبغي أن يستدلّ استدلالاً خاصّاً علی الأشياء التي ينبغي أن تبرّد بها، أيّ الأشياء هي.

الفصول التي بها تنقسم الأجناس إلی الأنواع، وبها تباين الأنواع الأجناس هي أشياء تعرف بالقياس.

وأمّا الفصول التي بها تقسّم الأنواع إلی الأشخاص، وبها تباين الأشخاص الأنواع، فليس ممّا يعرف بالقياس، بل إنّما تعرف هذه بالمباشرة، والحسّ، وجودة التخمين.

وأنا ممثّل لك ذلك بمثال لتفهمه:

الفصول العامّيّة متخالفة الفصول الخاصّيّة
تسهل معرفتها بها لا يجتمعان تسهل معرفتها بها
الفكر والقياس متخالفة المباشرة والحسّ

فالفصول العامّيّة وقعت في هذا المثال بإزاء الفصول الخاصّيّة، لأنّها خلافها، والقياس بإزاء الحسّ، لأنّه خلافه.

وصارت معرفة الفصول العامّيّة بالفكر والقياس سهلة، لأنّهما جميعاً بعيدان عن الحسّ. ومعرفة الفصول الخاصّيّة بالمباشرة سهلة، لأنّهما جميعاً قريبان من الحسّ. والفصول العامّيّة لا تدرك أصلاً بالحسّ، لأنّها خلافه. والفصول الخاصّيّة لا تدرك أصلاً بالقياس، لأنّها خلافه.

جميع الأغراض التي يقصد إليها في المداواة خمسة:

أحدها: الغرض الذي يقصد به نحو كيفيّة الشيء الذي به تكون المداواة. والذي يرشد إلی ذلك هو نوع المرض.

والثاني: الغرض الذي يقصد به نحو مقدار الشيء الذي به تكون المداواة. والذي يرشد إلی ذلك هو مزاج البدن، ومقدار المرض، وحال سائر الأشياء التي تدلّ بمخالفتها وموافقتها.

والثالث: الغرض الذي يقصد به نحو الوقت الذي فيه يستعمل الشيء الذي به تكون المداواة. والذي يرشد إلی ذلك هو الوقت من المرض، ومقدار قوّة المرض، وحال سائر الأشياء التي تدلّ بموافقتها ومخالفتها.

والرابع: الغرض الذي يقصد به نحو الوجه في استعمال الشيء الذي تكون به المداواة.

والخامس: الغرض الذي يقصد به نحو اختيار مادّة الشيء الذي به تكون المداواة.

والذي يرشد إلی هذين الغرضين أيضاً تلك الأشياء التي ذكرناها، أعني: المرض والمزاج، والقوّة، وسائر الأشياء التي تدلّ بموافقتها ومخالفتها وهي: البلد، والوقت الحاضر من أوقات السنة، وحال الهواء في ذلك الوقت.

ونوع المرض يرشد إلی العلم بكيفيّة الشيء الذي به تكون المداواة علی هذا المثال: أنّه إذا كان المرض حارّاً، فالأشياء التي بها يداوی ينبغي أن تكون ممّا يبرّد. وإن كان بارداً، فينبغي أن تكون ممّا يسخن.

وأمّا مقادير الأشياء التي بها تكون المداواة فقد يرشد إليها المزاج، ومقدار المرض، وسائر الأشياء التي تدلّ بموافقتها ومخالفتها.

أمّا المزاج فيرشد إلی ذلك علی هذا الوجه: أنّه إن كان مزاج البدن حارّاً، وحدث به مرض حارّ، فينبغي أن نبرّده تبريداً يسيراً.

وإن كان مزاجه بارداً، وحدث به مرض حارّ، فينبغي أن نبرّده تبريداً كثيراً حتّی يرجع إلی حاله التي لم تزل.

وأمّا مقدار المرض فيرشد إلی ذلك بأنّه إن كان المرض كثير الحرارة، فينبغي أن تكون الأشياء التي يداوی بها كثيرة البرودة.

وإن كان قليل الحرارة، فينبغي أن تكون الأشياء التي يداوی بها قليلة البرودة.

وأمّا سائر الأشياء التي تدلّ بموافقتها ومخالفتها فيرشد إلی ذلك بأنّها إن كانت حارّة، والمرض حارّ، فينبغي أن يكون التبريد كثيراً، وإن كانت باردة، والمرض حارّ، فينبغي أن يكون التبريد يسيراً.

وأمّا الوقت الذي ينبغي أن تستعمل فيه الأشياء التي بها تكون المداواة، فقد يرشد إليه الوقت من المرض، ومقدار قوّة المريض، وحال سائر الأشياء التي تدلّ بموافقتها ومخالفتها.

أمّا الوقت من المرض فإنّه إن كان ابتداء المرض، وكان المرض من الأمراض الحادّة، فينبغي أن يكون التدبير في ذلك الوقت لطيفاً. وإن كان مزمناً، فيجب أن يكون التدبير غليظاً. وإن كان منتهی المرض، فينبغي أن يكون التدبير لا محالة لطيفاً. وإن كان انحطاط المرض، فينبغي أن يدبّر المريض تدبير الناقه.

وأمّا مقدار قوّة المريض فترشد إلی ذلك بأنّه إن كانت القوّة قويّة، وكنّا نحتاج أن نستفرغ البدن وهو محموم، استفرغناه في ابتداء العلّة، ولم نتوقّف. وإن كانت القوّة ضعيفة، لم نفعل ذلك، لكنّا نستعمل أوّلاً الأشياء المطفّئة، حتّی إذا قويت القوّة، استفرغناه.

وأمّا الأشياء التي تدلّ بموافقتها ومخالفتها فإنّه ترشد إلی ذلك علی هذا المثال:

أنّا في الشتاء إذا احتجنا إلی استعمال الأشياء التي تستفرغ ما في البدن، لم نستعملها بالغداة، ولكن في نصف النهار.

وفي الصيف لا نغذو المريض في نصف النهار، لكن بالغداة.

وأمّا الوجه في استعمال الأشياء التي بها تكون المداواة فقد يرشد إليه مقدار قوّة المريض، والموضع العليل، وسائر الأشياء التي تدلّ بموافقتها ومخالفتها.

أمّا قوّة المريض فيرشد إلی ذلك بأنّها إن كانت قويّة، واحتجنا إلی الزيادة أو إلی النقصان فيما نداوي أو ندبّر به المريض، فعلنا ذلك في دفعة واحدة، وبلغنا حاجتنا منه.

وإن كانت ضعيفة، فعلنا ذلك في مرار كثيرة.

وأمّا الموضع العليل فإنّه يرشد إلی ذلك بأنّه إن كانت، في المثل، قرحة في الأمعاء الدقاق، استعملنا في مداواتها أشياء تشرب. وإن كانت قرحة في الأمعاء الغلاظ، استعملنا في مداواتها الحقن.

وأمّا سائر الأشياء التي تدلّ بموافقتها ومخالفتها فإنّها يرشد إلی ذلك وقت الاستعمال لما يستعمل في المداواة علی هذا المثال: أنّه إن كان صيفاً، استعملنا الأشياء التي بها يقع التدبير مبرّدة بالماء أو الثلج.

وإن كان شتاء، استعملناها مفتّرة بالنار.

وكذلك أيضاً إن كان صيفاً، استفرغنا ما في البدن من فوق بالقيء. وإن

كان شتاء، استفرغناه من أسفل بالإسهال.

وأمّا اختيار مادّه الشيء الذي تكون به المداواة، فقد ترشد إليه هذه الأشياء بأعيانها.

ومثال ذلك: أنّا إذا احتجنا إلی أن نغذو المريض، نظرنا: فإن كانت القوّة صحيحة، غذوناه بأغذية للمقدار اليسير منها غذاء كثير، بمنزلة لحم الخنزير.

وإن كانت ضعيفة، غذوناه بأشياء يغذو المقدار الكثير منها غذاء يسيراً، بمنزلة البقول.

وكذلك أيضاً إن كان المزاج الطبيعيّ باقياً علی طبيعته، غذوناه بأشياء مزاجها مشبه له.

وإن كان قد تغيّر، غذوناه بأشياء من الأغذية داخلة في باب الأدوية، ممّا مزاجه خلاف ذلك.

قسمة منيسيثاوس

قد قسّم منيسيثاوس ما في الطبّ قسمة ذهب فيها هذا المذهب.

قال:

إنّ الصحّة لا تخلو من أن تكون باقية علی حالها، أو تكون قد تغيّرت.

فإن كانت باقية، فيجب للطبيب أن يحفظها بالأشياء الشبيهة بالمزاج.

وإن كانت قد تغيّرت، فينبغي له أن يردّها إلی ما كانت بالأشياء المضادّة للشيء المزيل لها.

وإنّما تتغيّر الصحّة عندما يتغيّر بعض أسبابها التي بها يكون قوامها وثباتها.

وهي ثلثة أشياء:

أحدها: الأعضاء الأصليّة.

والثاني: الرطوبات، وهي الأخلاط.

والثالث: الأرواح.

وكلّ واحد من هذه الثلثة يتغيّر إمّا مقداره عند زيادته، ونقصانه، وإمّا كيفيّته عندما يسخن، أو يبرد، أو ييبس، أو يرطب، أو يناله غير ذلك من الأشياء التابعة لهذه، إمّا بسبب من الأسباب اللازمة للبدن باضطرار، وإمّا بسبب ليس بلازم ضرورة.

والأسباب اللازمة هي: الهواء المحيط بالبدن، وما يرد البدن من الطعام والشراب، وحاله في النوم واليقظة، وما يجري عليه من الحركة والسكون، وما يستفرغ منه، أو يحتبس فيه، وعوارض النفس.

فأمّا الهواء فمزاجه يختلف، ويغيّر الصحّة بحسب اختلاف أوقات السنة من صيف، وشتاء، وربيع، وخريف، وبحسب البلدان، مثل بلاد الحبشة، وبلاد الصقالبة، وبحسب حال الهواء في وقت وقت بأن يكون حارّاً، أو بارداً.

وأمّا الأطعمة والأشربة فإنّها تغيّر الصحّة عند تغيّرها عمّا ينبغي أن تكون عليه، إمّا في مقدارها بأن تكثر، أو تقلّ، وإمّا في كيفيّتها بأن تكون حارّة، أو باردة، وإمّا في وقتها بأن يتقدّم الوقت، أو يتأخّر عنه، وإمّا في مراتبها، بمنزلة ما يكون إذا أخذت الأشياء العسرة الانهضام، وأتبعت بالأشياء السهلة الانهضام.

وأمّا النوم واليقظة فإنّهما يغيّران الصحّة إمّا بمقدارهما إذا جاوز كلّ واحد منهما المقدار الموافق.

والحركة والسكون يغيّران الصحّة إمّا بمقدارهما إذا زادا، أو نقصا.

والاستفراغ والاحتقان يغيّران الصحّة بأن يفرطا، أو يقصرا، وإمّا بكيفيّتهما إذا كان كلّ واحد منها أشدّ، أو أضعف.

وأمّا عوارض النفس فهي: الغضب، والغمّ، والفرح، واللذّة، والخوف، والسهر، والهمّ.

قسمة جالينوس للطبّ

أمّا جالينوس فإنّه قسّم ما في الطبّ بهذه القسمة.

فقال:

إنّ كلّ ما في البدن لا يخلو من أن يكون ممّا في الطبع، أو ممّا هو خارج عن الطبع.

فإن كان ممّا في الطبع، فلا يخلو من أن يكون إمّا علی طريق ما به قوام البدن وثباته، وإمّا علی طريق ما هو تابع لشيء ممّا في البدن، وإمّا علی طريق ما يغيّر البدن.

والشيء الذي به قوام البدن علی ضربين:

أحدهما: علی طريق المادّة، والعنصر. والآخر: علی طريق النوع.

فأمّا المادّة والعنصر فمنهما شيء بعيد غاية البعد، أعني الأركان الأربعة، وهي: النار، والهواء، والأرض، والماء.

ومنها شيء قريب، أعني الأنواع المتمازجة من هذه الأركان، وهي تسعة:

المعتدل، والحارّ، والبارد، والرطب، واليابس، والحارّ الرطب، والحارّ اليابس، والبارد اليابس، والبارد الرطب.

ومنها شيء أقرب من ذلك، أعني الأخلاط، وهي: الدم، والبلغم، والمرّة الصفراء، والمرّة السوداء.

ومنها شيء قريب غاية القرب، أعني الأعضاء. وهي أربعة أصناف:

أحدها: صنف الأعضاء الرئيسيّة التي هي الأصول، أعني الدماغ، والقلب، والكبد، والأنثيين.

والآخر: صنف الأعضاء التي منشؤها من الأصول، وهي: العروق الضوارب، وغير الضوارب، والعصب، وأوعية المنيّ.

والثالث: صنف الأعضاء التي لها قوی غريزيّة فقط، وهي: العظام، والرباطات، وأشباهها.

والرابع: صنف الأعضاء التي لها قوی غريزيّة، وقوی تجري إليها من الأصول، بمنزلة اليدين، والرجلين، والمعدة، وغير ذلك من الأعضاء المركّبة.

وأمّا النوع فصنفان: أحدهما القوّة، والآخر الفعل.

والقوی ثلثة أجناس:

أحدها: جنس القوی النفسانيّة.

والآخر: جنس القوی الطبيعيّة.

والثالث: جنس القوی الحيوانيّة.

والقوی النفسانيّة ثلثة أنواع:

أحدها: نوع القوی المحرّكة. وعدد هذه القوی مثل عدد الأعضاء التي تتحرّك بها.

والثاني: نوع القوی الحسّيّة، وهي خمس: قوّة البصر، وقوّة السمع، وقوّة الشمّ، وقوّة المذاق، وقوّة اللمس.

والثالث: نوع القوی المدبّرة، وهي: التخيّل، والفكر، والذكر.

وأمّا القوی الحيوانيّة: فهي الفاعلة لنبض العروق بالانقباض، والانبساط.

وأمّا القوی الطبيعيّة: فمنها قوی أول، ومنها قوی ثوانٍ.

والقوی الأول ثلث: أحدها قوّة التوليد، والآخر قوّة النماء، والثالث قوّة الاغتذاء.

وقوّة التوليد قوّتان: إحداهما القوّة التي بها يكون خلق الشيء وتكوّنه، والأخری: التي بها يكون تغيّر المادّة التي منها خلق ذلك الشيء.

وأمّا القوی الثواني، فهي: الجاذبة، والماسكة، والمغيّرة، والدافعة.

وأمّا الأفعال قسمتها كمثل ذلك. لأنّ كلّ فعل إنّما يكون إمّا من قوّة واحدة من هذه القوی، وإمّا من أكثر من واحدة.

وتقسّم الأعضاء خاصّة بقسمين:

أحدهما: أنّ الأعضاء منها متشابه الأجزاء، مثل العظم، واللحم، وغير ذلك، ومنها مركّبة، مثل اليد، والرجل، وغيرهما.

والآخر: أنّ الأعضاء منها ما له فعل فقط، بمنزلة القلب. ومنها ما له منفعة فقط، بمنزلة الرئة. ومنها ما له فعل ومنفعة معاً، بمنزلة الكبد، فإنّ لها فعلاً هو توليد الدم، ومنفعة هي إسخان المعدة ومعونتها علی ما يحتاج إليه من استمراء الطعام والشراب.

وأمّا الشيء التابع لشيء ممّا في البدن فهو بمنزلة القضافة التابعة للمزاج الحارّ، والسمن التابع للمزاج البارد.

وأمّا الشيء المغيّر للبدن، فمنه الهواء الذي يختلف من قبل أوقات السنة، ومن قبل البلد، ومن قبل حالات الهواء في وقت وقت. ومنه الطعام والشراب،

ومنه النوم واليقظة. ومنه الحركة والسكون. ومنه الاستفراغ والاحتباس. ومنه عوارض النفس.

وأمّا الشيء الخارج عن الطبيعة، فلا يخلو من أن يكون فاعلاً فقط، ويقال له السبب، أو مفعولاً، ويقال له عرض، أو فاعلاً ومفعولاً معاً، ويقال له مرض.

والأمراض ثلثة أجناس:

أحدها: المرض الحادث في الأعضاء المتشابهة الأجزاء، وهو سوء المزاج.

والآخر: المرض الحادث في الأعضاء المركّبة، وهو فساد الهيئة.

والثالث: المرض الحادث فيها جميعاً، وهو انتقاص الاتّصال.

وسوء المزاج: لا يخلو من أن يكون إمّا من كيفيّة ساذجة، وإمّا من كيفيّة مع مادّة، أي بعض الأخلاط.

وكلّ واحد من هذين الصنفين لا يخلو من أن يكون مفرداً، أو مركّباً.

فسوء المزاج المفرد أربعة أصناف، وهي: الحارّ، والبارد، والرطب، واليابس.

وسوء المزاج المركّب أربعة أصناف، وهي: الحارّ الرطب، والحارّ اليابس، والبارد الرطب، والبارد اليابس.

وسوء المزاج الحارّ: إن كان في الرأس سمّي احتراقاً، وإن كان في القلب سمّي حمّی، وإن كان في عضو آخر سمّي التهاب ذلك العضو.

والحمّی: إمّا أن تكون في الروح الذي في القلب، ويقال له حمّی يوم، وإمّا أن تكون في الأعضاء الصلبة ويقال لها حمّی دقّ، وإمّا أن تكون في الأخلاط

التي في تجويفاتها ويقال لها حمّی العفونة.

والحمّی التي تكون في الروح: إمّا أن يكون حدوثها من الأسباب التي تلقی البدن من خارج، بمنزلة الهواء الحارّ والبارد، وإمّا من الأسباب التي ترد البدن، بمنزلة الطعام الحارّ، والدواء الحارّ، وإمّا من الحركات المفرطة. وهي صنفان:

أحدهما: حركات البدن بمنزلة التعب، والآخر: حركات النفس بمنزلة الغضب، والهمّ، والغمّ، والسهر، وإمّا من وجع يحدث في بعض الأعضاء بمنزلة ما يعرض ذلك في علّة الحالبين.

وأمّا حمّی الدقّ: فمنها ما حدوثه في الرطوبة المبثوثة في الأعضاء الأصليّة، ويقال لهذه حمّی الدقّ مطلقة، ومنها ما حدوثه في الرطوبة الموجودة في الأعضاء الرطبة القريبة العهد بالانعقاد ويقال لها الدقّ المذبل، ومنها ما حدوثه في الرطوبة الموجودة في نفس الأعضاء الأصليّة ويقال لها الدقّ المحشف.

وأمّا الحمّی العفونيّة: فمنها ما حدوثه في المرّة الصفراء، ويقال لها الغبّ، ومنها ما حدوثه في البلغم، ويقال لها المواظبة في كلّ يوم، ومنها ما حدوثه في المرّة السوداء، ويقال لها الربع، ومنها ما حدوثه في الدم، ويقال لها المطبقة.

وكلّ واحدة من حمّی الغبّ، والمواظبة، والربع لا يخلو من أن يكون الخلط الذي يحدث عن عفونة في جوف العروق الضوارب، وغير الضوارب، أو خارجاً منها.

فإن كان خارجاً منها سمّيت حمّی نائبة. وإن كان داخلها سمّيت حمّی دائمة.

وأمّا حمّی الدم: فمنها ما تكون متزيّدة، ومنها ما تكون منحطّة، ومنها ما تكون متساوية القوّة.

وأمّا المرض الحادث في الأعضاء المركّبة: فمنه ما يكون في خلقة الأعضاء، ومنه ما يكون في مقاديرها، ومنه ما يكون في عددها، ومنه ما يكون في وضعها.

والمرض الحادث في خلقة الأعضاء: منه ما يحدث في شكل الأعضاء: أمّا في الرأس فيقال له المسفّط، وأمّا في الساق فيقال له الأفحج، والأحنف، وأمّا

في عظم الصلب إذا تقوّس. وتقوّس عظم الصلب إن كان إلی قدّام سمّي ذلك حدبة من قدّام، وإن كان إلی خلف سمّي حدبة من خلف، وإن كان أحد الجانبين سمّي التواء وانفتالاً.

ومنه ما يحدث في أثقاب الأعضاء، أو في تجويفاتها. وكلّ واحد من هذين يكون إمّا من طريق الضيق، وإمّا من طريق الاتّساع، وإمّا من طريق السدّة.

ومنه ما يحدث في ملمس الأعضاء: إمّا من طريق خشونة تحدث فيما هو منها أملس، وإمّا من طريق ملاسة تحدث فيما هو منها خشن.

وأمّا المرض الحادث في مقادير الأعضاء: فمنه ما يحدث من طريق الزيادة، ومنه ما يحدث من طريق النقصان.

وأمّا المرض الذي يحدث في عدد الأعضاء: فمنه ما يكون إذا زاد عددها، ومنه إذا نقص.

والزيادة: إمّا أن تكون من جنس ما هو في الطبع، وإمّا من جنس ما هو خارج عن الطبع.

والنقصان: إمّا أن يكون جملة عضو كما هو، وإمّا جزء من عضو.

وأمّا المرض الحادث في وضع الأعضاء: إمّا أن يكون حدوثه من طريق زوالها عن موضعها، وإمّا من طريق خروجها عن حدّ مشاركتها بعض لبعض.

وأمّا المرض الحادث في اتّصال الأعضاء، وهو انتقاص الاتّصال، فحدوثه يكون إمّا في اللحم ويقال له قرحة أو جراحة، وإمّا في العظم ويقال له كسر، وإمّا في العصب فيقال له فسخ.

وأمّا الأعراض: فمنها ما يعرض من طريق مضارّ الأفعال، بمنزلة التخمة.

وكلّ فعل تناله مضرّة فمضرّته علی أحد ثلثة وجوه: إمّا بأنّه يبطل، وإمّا بأنّه ينقص، وإمّا بأنّ أمره يجري علی الوجه المنكر.

ومنها ما يعرض من طريق اختلاف حالات خروج ما يخرج من البدن، بمنزلة العرق المنتن، والبول الأسود.

ومنها ما يعرض من طريق اختلاف حالات البدن، وهي خمسة أصناف:

أحدها: الحال المبصرة بمنزلة اللون الأصفر، والآخر: الحال المسموعة بمنزلة القراقر والطنين، والثالث: الحال المشمومة بمنزلة نتن رائحة البدن،

والرابع: الحال المطعومة بمنزلة مرارة الفم، والخامس: الحال الملموسة بمنزلة الصلابة واللين.

وأمّا الأسباب فهي ثلثة أنواع:

أحدها: نوع الأسباب البادئة، وهي الأسباب التي تحدث من خارج بمنزلة الحرّ والبرد.

والآخر: نوع الأسباب المتقادمة، وهي الأسباب التي تجتمع داخل البدن، فإذا توسّطتها أسباب أخر، أحدثت أمراضاً، بمنزلة الامتلاء الذي إذا حدثت عنه السدد والعفونة، أحدث حمّی.

والثالث: نوع الأسباب المثبتة وهي التي يحدث عنها المرض من غير أن يحتاج فيما بينه وبينها إلی أسباب أخر. وما دامت موجودة، فالمرض موجود،

حتّی إذا فقدت، أقلع المرض، بمنزلة العفونة في الحمّی الحادثة عن العفن.

وللأسباب قسمة أخری أتمّ وأعمّ من هذه التي دخلت في القسمة العظمی،

وهي أنّ الأسباب منها طبيعيّة، ومنها ما ليست بطبيعيّة، ومنها خارجة عن الطبيعة.

أمّا الطبيعيّة: فهي التي تكون عن غير إرادة، وهي صنفان:

أحدهما: صنف الأسباب الفاعلة للصحّة منذ أوّل الأمر. من ذلك الجنس الجامع للذكر والأنثی، ومنه المزاج الحارّ، والبارد.

والآخر: صنف الأسباب الفاعلة لأصناف الصحّة في آخر الأمر. من ذلك السنّ، والعادة، والوقت الحاضر من أوقات السنة، والبلد، وحال الهواء في وقت وقت، والنوم واليقظة.

وأمّا التي ليست بطبيعيّة: فهي التي تكون بالإرادة. وهي ثلثة أصناف:

أحدها: صنف الأشياء التي تلقی البدن من خارج، بمنزلة الاستحمام بالماء الحارّ، أو بالماء البارد.

والآخر: صنف الأشياء التي ترد إلی داخل البدن، بمنزلة الطعام، والشراب.

والثالث: صنف الأشياء التي تدخل في باب ما يفعله الإنسان، بمنزلة الرياضة.

وأمّا التي هي خارجة عن الطبيعة فهي صنفان:

فمنها ما جنسها من جنس ما هو في الطبع، ومقداره أو كيفيّته خارج عن الطبع، بمنزلة الأغذية، والرياضة، والجماع.

ومنها ما جملة جنسه خارج عن الطبع، بمنزلة تغيّر الهواء إلی حال العفونة، وسمّ ذوات السموم، والأدوية القتّالة.

وقد تقسّم تلك القسمة العظمی بضرب آخر علی التمام، والبيان، والإيجاز، والإجمال، فيقال:

إنّ كلّ ما في البدن لا يخلو من أن يكون إمّا في الطبع، أو خارجاً عن الطبع.

والخارج عن الطبع: هو المرض، والسبب، والعرض.

أمّا ما هو في الطبع: فالأركان، والأمزاج، والأخلاط، والأعضاء، والقوی، والأفعال.

وكون المزاج لا يخلو من أن يكون إمّا في أوّل الأمر، وإمّا في آخر الأمر.

وكونه في أوّل الأمر: إمّا من طريق ما يوجبه الجنس من ذكر وهو أحرّ وأيبس، ومن أنثی وهي أبرد وأرطب، وإمّا من طريق ما يوجبه المزاج الأوّل إذا كان حارّاً، أو بارداً.

وأمّا كون المزاج في آخر الأمر فيكون: إمّا من قبل السنّ، وإمّا من قبل العادة، وإمّا من قبل أوقات السنة، وإمّا من قبل السيرة والصناعة، وإمّا من قبل البلد، وإمّا من قبل حالات الهواء في وقت وقت.

وإن شئت قلت أيضاً: إنّ حدوث المزاج في آخر الأمر يكون إمّا من سبب غير اضطراريّ — وليس هذا ممّا يدخل في كلامنا، وإمّا من سبب

اضطراريّ: وهو الهواء الذي يتغيّر مزاجه بحسب أوقات السنة، والبلدان، وحالات الهواء في وقت وقت، والطعام، والشراب، والنوم، واليقظة، والحركة، والسكون، والاستفراغ، والاحتباس، وعوارض النفس.

وقد تقسّم هذه القسمة أيضاً بضرب آخر، فيقال: إنّ كلّ ما في البدن لا يخلو من أن يكون إمّا في الطبع، وإمّا خارجاً عن الطبع.

والخارج عن الطبع يقسّم علی ما قسّمناه قبل.

فأمّا الذي هو في الطبع فليس يخلو من أن يكون الوقوف عليه بالقياس، ووجوده من طريق أنّه في حدّ ما يكون، بمنزلة الأركان، أو يكون الوقوف عليه بالحسّ، ووجوده بالمباشرة.

وما كان كذلك: فهو إمّا مزاج، وإمّا ما يتبع المزاج، وإمّا أعضاء، وما يتبع هيئات الأعضاء.

والأشياء التابعة للأمزاج: منها كيفيّات، ومنها أفعال.

والكيفيّات: منها مبصرة، بمنزلة اللون الأحمر، والأصفر، والأبيض، ومنها ملموسة بمنزلة الصلابة، واللين، والهزال، والسمن، والرتب، والزعارة، وجميع ما هذا سبيله، ومنها مطعومة وهي الأخلاط، أعني الدم، والبلغم، والصفراء، والسوداء.

وأمّا الأفعال: فبمنزلة استمراء الطعام، وشهوة الطعام، واختلاف النفس.

وأمّا الأشياء التابعة لهيئات الأعضاء: فهي الأعراض اللازمة لها، بمنزلة الخلقة، والمقدار، والعدد، والوضع، والأفعال التي تحدث عنها بمنزلة الحركة.

الحمّی: إمّا أن تحدث في الأعضاء الأصليّة ويقال لها حمّی الدقّ، وإمّا أن تحدث في الروح ويقال لها حمّی يوم، وإمّا أن تحدث في الأخلاط ويقال لها حمّی العفونة.

وحمّی الدقّ ليس يذكرها في هذا الكتاب لسببين:

أحدها: أنّه إنّما قصده في هذا الكتاب أن يذكر الأمراض التي تحدث في أكثر الأمر. وحمّی الدقّ ليست ممّا يعرض في أكثر الأمر، بل إنّما تعرض في الندرة.

والثاني: أنّ هذه الحمّی في أوّل أمرها يعسر تعرّفها بالعلامات، وفي آخر الأمر تعسر مداواتها.

وهي من الوجهين جميعاً مجاوزة لمقدار طاقة المتعلّمين الذين إنّما قصد بكتابه هذا إليهم.

فأمّا حمّی يوم: فهي أوّل شيء يذكر هاهنا، وذلك لأنّها أسهل أمراً، وأقلّ تفنّناً.

وأمّا حمّی العفونة: فيذكرها في آخر الأمر من طريق أنّ أصنافها أكثر، وتفنّنها أشدّ.

[في ذكر حمّی يوم، والأسباب الفاعلة لها، وأنواعها، ومذهب علاجها]

الأسباب الفاعلة لحمّی يوم: منها ما يلقی البدن من خارج بمنزلة الحرّ، والبرد، ومنها ما يرد داخل البدن بمنزلة الأطعمة، والأشربة الحارّة، والأدوية الشبيهة بها، ومنها ما يفعله الإنسان بمنزلة الحركات. وهي صنفان: نفسانيّة، وبدنيّة. أمّا النفسانيّة فبمنزلة الغضب، والغمّ، والهمّ، والأرق. وأمّا الندنيّة، فبمنزلة التعب. ومنها ما يعرض علی طريق الأعراض، بمنزلة وجع يحدث في واحد من الأعضاء.

والأسباب الفاعلة لحمّی يوم، إذا عددت أفراداً، فهي هذه: التعب، والسكر، والتخمة، والبرد، وإحراق الشمس، وتكاثف ظاهر البدن، وورم الحالب، والأرق، والغمّ، والهمّ، والغضب.

وإن شئت قلت في هذه الأسباب قولاً أعمّ، وأجمع، وهو أنّ الأسباب الفاعلة لحمّی يوم هي تلك الأسباب الخمسة الفاعلة للمرض الحارّ:

أحدها: لقاء بعض ما يسخن البدن من خارج، بمنزلة ما يعرض من احتراق الشمس.

والثاني: امتناع تحلّل ما كان يتحلّل من البدن، بمنزلة ما يعرض من استحصاف ظاهر البدن بسبب البرد.

والثالث: الحركة، بمنزلة ما يعرض من التعب.

والرابع: موافقة المادّة، بمنزلة ما يعرض من الأطعمة، والأشربة، والأدوية.

والخامس: العفونة التي تكون في بعض الأعضاء، فتتأدّی وتصل حرارتها إلی القلب، ولا تصل العفونة نفسها إليه، بمنزلة ما يعرض في ورم الحالب، إذا كان حدوثه عن سبب من الأسباب البادئة.

وإن شئت قلت أيضاً قولاً آخر، وهو أنّ الأسباب الفاعلة لحمّی يوم هي تلك الستّة اللازمة للبدن باضطرار:

أحدها: الهواء، إذا كان كثير الحرارة، بمنزلة ما يعرض له ذلك في السمائم الحارّة.

والثاني: من الطعام، والشراب إذا كانا حارّين.

والثالث: اليقظة إذا أفرطت، أعني الأرق.

والرابع: الحركة إذا جاوزت الاعتدال، بمنزلة التعب الشديد.

والخامس: احتقان البخار الحارّ، بمنزلة ما يعرض ذلك من استحصاف البدن بسبب البرد.

والسادس: حركات النفس، وهي الغضب، والغمّ، والهمّ.

أمر الحمّيات يختلف. فما كان منها من جنس حمّی يوم، فمداواته سهلة، وتعرّفها عسر.

وما كان من جنس حمّی الدقّ وحمّی العفونة فتعرّفها يعسر، ومداواتها تعسر.

حمّی يوم إنّما تحدث لا محالة عن سبب من الأسباب البادئة.

وليس كلّ حمّی تحدث عن سبب من الأسباب البادئة فهي لا محالة حمّی يوم، إذ كان قد يمكن أن يكون السبب البادئ يحرّك سبباً قد كان في البدن من الأسباب المتقادمة، فيحدث عن ذلك إمّا حمّی دقّ، وإمّا حمّی عفونة.

وحمّی العفونة إنّما تحدث لا محالة عن سبب من الأسباب المتقادمة. وكلّ حمّی تحدث عن سبب متقادم فهي حمّی عفونة. إلّا أنّه ليس يجب أن يكون حدوثها لا محالة من غير سبب بادئ، علی ما وصفنا.

جملة الأمر في العلامات: أنّ منها علامات جزئيّة، وهي الألوان، والكيفيّات، والسحنات، وحركة النبض، والمسارعة إلی الحركة وسهولة الأمر فيها.

ومنها علامات عامّيّة: وهي الأسنان، وأوقات السنة، والبلدان، وحالات الهواء في وقت وقت، والخلاف بين الذكران والإناث.

ونقول أيضاً: إنّ العلامات منها جليلة الخطر، عظيمة القدر، ومنها ذنيئة حقيرة.

وأمّا الحقيرة الدنيئة: فهي كالبراز، والقيء، والعرق، والاضطجاع، والسحنة.

والعظيمة القدر هي: البول لأنّه يدلّ علی حال الكبد وجميع أعضاء الغذاء، والنبض لأنّه يدلّ علی حالة القلب، وكذلك النفس، وصحّة العقل، والحركة، لأنّها تدلّ علی حال الدماغ.

ونقول أيضاً: إنّ العلامات منها ما يستخرج من الأعضاء الجليلة الخطر وهي علامات عظيمة القدر: منها ما يستخرج من الكبد وهو: البول، والثفل، ومنها من القلب وهو النبض والتنفّس، ومنها من الدماغ وهي صحّة الحركة، وصحّة العقل.

ومن العلامات ما يستخرج من الأعضاء التي ليست بجليلة الخطر وهي علامات دنيئة صغار، بمنزلة العينين، والأنف، والجبهة.

وأمّا في الحمّيات: فالعلامات العظيمة القدر تستخرج من القلب، ومن الكبد.

أمّا من القلب، فإنّ الحمّی علّة من علل القلب، ولذلك صار النبض خاصّة يدلّ عليها أكبر الدلالة.

وأمّا من الكبد، فلأنّ الكبد هي المعدن الذي فيه تتولّد الأخلاط. ولذلك صار البول يدلّ علی حالة الأخلاط. لأنّ الأخلاط إمّا أن تكون هي الشيء الذي تستثبت الحمّی به، فيستدلّ بالبول حينئذٍ علی أمر الأخلاط هل نضجت أم لم تنضج، بمنزلة ما يكون ذلك في حمّيات العفونة، وإمّا أن تكون قد سخنت

بالحمّی علی حال، فيدلّ البول حينئذٍ علی مقدار سخونتها كم هي، بمنزلة ما يكون ذلك في حمّی يوم.

وأمّا العلامات الخسيسة الظاهرة الضعاف فتستخرج من حالات الوجه، والاضطجاع، والتنفّس، والعقل، وسائر العلامات التي ذكرها بقراط في كتاب تقدمة المعرفة.

ونقول أيضاً: إنّ البول يدلّ لا محالة علی أمر الأخلاط، إلّا أنّ دلالته عليها إمّا أن تكون دلالة موجبة، أعني أنّه قد نالها آفة، بمنزلة ما يكون ذلك في حمّی

العفونة، وإمّا دلالة سالبة، أعني أنّه لم تنلها آفة، بمنزلة ما يكون ذلك في حمّی يوم، وحمّی الدقّ.

حمّی يوم: تتعرّف من الأشياء المتقدّمة لها، أعني أنّها تحدث عن أسباب بادئة، ومن الأشياء التي تعرض فيها في وقت وقت، ومن الأشياء التي تلحقه، أعني أن يكون المريض إذا استحمّ بعدما تدعه الحمّی لم يحسّ في الحمّام بنافض، ولا بلذع، بل يرجع إلی ما كان من الحال الطبيعيّة علی التمام.

وأمّا الأشياء التي تعرض في وقت وقت منها، فبعضها يعرض في الابتداء وهو أنّ المحموم لا يجد في حمّاه نافضاً، ولا يكون نبضه مختلفاً. وبعضها يعرض في تزيّد الحمّی، وصعودها، وفي منتهاها، وهو أنّ الحرارة تكون في هذين الوقتين ساكنة، شبيهة بحرارة الحمّام، ولا تكون حادّة، ولا لذّاعة، وأنّ النبض يكون فيها

متساوياً — وإن كان فيه اختلاف، كان ذلك يسيراً، ورجع عنه سريعاً، وأنّ المريض يحتمل ما به من الحمّی احتمالاً سهلاً ولا يسرع إليه التأذّي بها. وبعضها يعرض في انحطاط الحمّی وانقضائها وهو أنّها تنقضي لا محالة انقضاء تقلع به الحمّی إقلاعاً تامّاً. ويكون انقصاؤها إمّا بعرق، وإمّا برشح وندیً. وبعضها يعرض في الأوقات كلّها وهو أنّ البول لا يزال فيه شيء راسب أبيض، مستوٍ، أملس.

والأسباب صنفان: منها ظاهرة، ومنها غير ظاهرة.

والأسباب الظاهرة هي الأسباب البادئة. وقد يتمكّن الطبيب أن يعرف هذه الأسباب بسابق العلم، وبالمسئلة.

وأمّا الأسباب التي ليست بظاهرة فإنّما يعرفها بسابق العلم فقط إذا كان علی طريق الصناعيّ. وهذه هي الأسباب المتقادمة، والأسباب المثبتة.

ناريّة البول: علامة تعمّ جميع من يحمّ حمّی يوم من قبل عوارض النفس.

إلّا أنّها في المحموم من قبل الغضب تكون مع حرارة البول يجد المريض حسّها عند خروج البول، وفي المحموم من قبل الغمّ مع حدّة تكون في البول يجدها المريض بسبب اليبس الذي يتولّد من الغمّ.

إذا غارت العينان: فذلك علامة عامّيّة تدلّ علی الغمّ، والهمّ، والأرق.

إلّا أنّ ذلك يعرض في الغمّ مع سكون من العين، وفي الهمّ مع حركة من العين متواترة، وفي الأرق مع ميل من العين إلی النعاس، والنوم، وثقل من الأجفان، وعسر حركة منها، لا من نفس الحدقتين، كما يكون ذلك في الغمّ.

العينان: تكونان في حمّی يوم الحادثة عن الحرد جاحظتين، من طريق أنّ الحرارة الطبيعيّة في هذه الحال تتحرّك إلی خارج، دفعة، طلباً للانتقام من المؤذي.

فأمّا في حمّی يوم الحادثة عن الغمّ، والهمّ، والأرق فإنّهما تكونان غائرتين.

أمّا في الغمّ: فلأنّ الروح النفسانيّ يتحلّل لكثرة الحركة، ولأنّ الطبيعة تهرب وتتواری إلی داخل، ومعها مركباها: الدم، والروح.

وأمّا في الهمّ: فللتحليل التابع لكثرة الحركة.

وأمّا في الأرق: فللحركة الكثيرة التي تحلّل. ولأنّ الغذاء إذا لم يستمرأ بسبب الأرق، لم يتولّد الروح النفسانيّ.

الوجه: يكون في حمّی يوم الحادثة عن الغضب أحمر، لمكان حركة الدم إلی خارج.

ويكون في حمّی يوم الحادثة عن الغمّ، وعن الأرق أصفر. أمّا في الغمّ فلميل الحرارة الطبيعيّة، والدم إلی عمق البدن.

وأمّا في الأرق فلأنّ الغذاء لا يستمرأ، ولذلك لا يتولّد الدم الذي به يكون اللون مشرقاً، ناصراً.

صفرة اللون: علامة تعمّ الغمّ والأرق. إلّا أنّها في صاحب الغمّ تعرض من يبس ونخافة من البدن، وفي الأرق مع تهيّج من البدن. وهذا التهيّج يحدث من

قبل أنّ الغذاء لا يستمرأ، وذلك بسبب الأرق. وذلك أنّه كما أنّ النوم يتبعه استمراء الغذاء، كذلك الأرق يتبعه دائماً ألّا يستمرأ الغذاء.

انتفاخ الوجه وجميع البدن: يعمّ الحرد والأرق، إلّا أنّ ذلك يكون في الحرد مع حمرة، وحسن حال شبيهة بالخصب الطبيعيّ، وفي الأرق مع صفرة، وسوء حال شبيهة بالتهيّج الحادث عن المرض.

نبض العروق: يكون في حمّی يوم الحادثة عن الحرد مشرفاً عظيماً، وذلك بسبب حركة الحرارة وتزيّدها. وأمّا في حمّی يوم الحادثة عن سائر عوارض النفس فيكون النبض صغيراً، وذلك بسبب نقصان الحرارة، وانقباضها، واختناقها.

التعب: علی أيّ وجه كان، فهو ممّا يجفّف، ويقحل به الجلد. إلّا أنّه إن

لم يكن قويّاً كثيراً، فاليبس إنّما يتبيّن في الجلد إلی وقت ما، ثمّ يخرج بعد ذلك من البدن، إمّا ندیً، أو بخاراً، وعندما تتحلّل من الأخلاط رطوبة ترطّبه، وتوسّع مسامّه.

وإن كان قويّاً كثيراً مفرطاً، بقي اليبس في البدن في وقت انحطاط الحمّی أيضاً.

وكذلك أيضاً إن كان معتدلاً، لكنّه مع اعتداله مركّب: إمّا مع برودة من الهواء، وإمّا مع احتراق من الشمس.

وإن كان التعب شديداً حتّی يحلّ القوّة، صار النبض بسببه صغيراً. وإن لم يكن شديداً كثيراً، صار النبض بسببه عظيماً، وذلك لأنّ القوّة باقية، ولأنّ الحاجة متزيّدة، إذا كانت الحرارة قد كثرت بسبب التعب الذي ليس بالشديد الكثير.

يبس الجلد: إذا كان قويّاً شديداً، فهو علامة تعمّ التعب، وإحراق الشمس.

إلّا أنّ ذلك يعرض في إحراق الشمس مع التهاب في العينين وفي الرأس، ويعرض في التعب خلواً من التهاب العينين والرأس.

والجلد يستحصف، ويتكاثف إمّا من كيفيّة بسيطة مفردة، وإمّا من كيفيّة مركّبة.

والكيفيّة المفردة إحدی كيفيّتين: إمّا برودة بمنزلة ما يعرض لمن يسافر في البرد الشديد، وإمّا يبوسة بمنزلة ما يعرض لمن يدلّك بدنه بدلك يابس، أو تصيبه السمائم، أو يدفن في الرمل.

فأمّا الكيفيّة المركّبة، أعني الكيفيّة القابضة، فبمنزلة ما يعرض لمن يستحمّ بماء الشبّ. وذلك أنّ الكيفيّة القابضة هي باردة، يابسة.

الحمّی الحادثة عن استحصاف البدن وتكاثفه: تعرف باللمس، وبالبول، وبتفقّد أمر العين، وبالنبض.

أمّا باللمس: فإنّها تعرف لأنّ ملمس جلد صاحبها يكون مكتنزاً، كثيفاً، مستحصفاً، ولأنّ اليد إذا وضعت علی البدن أحسّته في أوّل الأمر قليل الحرارة. وذلك لأنّ الحرارة في هذا الوقت لا تقدر أن تخرج لتتبيّنها اليد لمكان التكاثف والاستحصاف. ثمّ إنّه إذا سخن موضع اليد، واتّسعت مسامّه، برزت الحرارة وظهرت، فأحسّها اللامس أقوی ممّا كانت في أوّل الأمر.

وأمّا بالبول: فإنّ البول لا يكون في هذه الحمّی أحمر، لكن يكون مائلاً إلی الصفرة، أو إلی البياض. وذلك لأنّ الفضول المائيّة التي كان من شأنها أن

تستفرغ من البدن، إذا هي احتبست بسبب تكاثف البدن، واستحصافه، ولم تتحلّل، خالطت البول، وغيّرت لونه، ونقصت من حمرة المرّة التي بمخالطتها للبول ينصبغ، فيصير أحمر أو أصفر.

وأمّا بتفقّد أمر العينين: فإنّ العينين لا تكونان غائرتين، بل كثيراً ما تكونان منتفختين.

وأمّا بالنبض: فإنّ النبض لا يكون صغيراً، كمثل نبض من يحمّ هذه الحمّی من همّ، أو غمّ، أو أرق، أو تعب. وذلك لأنّ القوّة باقية والحرارة متمكّنة في باطن البدن، ولم يتحلّل واحد منها، وينقص.

ليس كلّ بدن يتكاثف ويستحصف يحمّ صاحبه. فإنّ ما كان من الأبدان يتحلّل منه بخار حارّ رطب دمويّ فهو، إذا استحصف وتكاثف، اجتمع فيه الدم، وامتلأ.

وما كان منها يتحلّل منه بخار حارّ يابس، فهو، إذا تكاثف واستحصف إن لم تكن فيه موادّ يمكن أن تعفن، أصابته حمّی يوم.

وإن كانت فيه موادّ يمكن أن تعفن، أصابته حمّی عفونة.

ورم الحالب: إن كان حدوثه عن سبب من الأسباب البادئة، بمنزلة قرحة تكون في الرجل، فالحمّی الحادثة معه حمّی يوم.

وإن كان حدوثه عن سبب متقادم، أعني امتلاء مجتمعاً في البدن، لا من سبب حدث من خارج، فالحمّی الحادثة معه حمّی عفونة.

الورم المسمّی باليونانيّة: بوبن — وتفسيره الطاعون — هو ورم يحدث في اللحم الرخو.

واللحم الرخو الذي يحدث فيه هذا الورم هو إمّا في الحالبين، وإمّا في الإبطين، وإمّا في العنق وخلف الأذنين.

وما هو منه في الحالبين فشأنه أن يقبل في أكثر الحالات فضل الكبد. ولذلك صار الورم الحادث فيه ورماً حارّاً، وهو الطاعون.

وما هو منه في الإبطين فشأنه أن يقبل في أكثر الأمر فضل القلب. ولذلك صار الورم الذي يحدث فيه أشدّ حرارة، وهو الطاعون الرديء الخبيث.

وما هو منه في العنق وخلف الأذنين فشأنه أن يقبل فضل الدماغ. ولذلك صار الورم الذي يحدث فيه، في أكثر الحالات، بارداً، وتحدث فيه أيضاً

الخنازير.

الورم الحادث في اللحم الرخو، إن كان هو سبب الحمّی، فليس الحمّی برديئة لأنّها حمّی يوم. وإن كان عارضاً عرض في الحمّی، وليس هو سببها، فالحمّی رديئة، خبيثة، وذلك أنّها تدلّ علی أنّها حمّی من عفونة، وأنّ في الأعضاء الجليلة الخطر الشريفة امتلاء: إمّا في الكبد، إن كان الورم في الحالب، وإمّا في القلب، إن كان الورم في الإبط، وإمّا في الدماغ، إن كان الورم خلف الأذن.

حمّی يوم الحادثة عن ورم في الحالب، أو عن ورم في الإبط تعرف بالنبض، وبمقدار الحرارة، وبما يكون بعد المنتهی، وبلون الوجه، وبلون البول.

أمّا بالنبض: فإنّه يكون عظيماً جدّاً، مسرعاً، متواتراً، وذلك لكثرة الحرارة، واقتضائها التطفئة.

وأمّا مقدار الحرارة: فإنّه يكون كبيراً، وذلك لأنّ بصاحبها مرضين حارّين: أحدهما الورم الحارّ، والآخر الحمّی.

وأمّا ما يكون من بعد المنتهی: فإنّه ترتفع من عمق البدن نداوة لها حرارة، إلّا أنّها ليست بلذّاعة، وذلك لأنّ الورم الذي في اللحم الرخو إنّما هو من الدم.

وأمّا لون الوجه: فإنّه يكون في أكثر الحالات أحمر. والسبب في ذلك ما وصفت. ويكون منتفخاً. إلّا أنّ حمرته تابعة للون الدم. وأمّا انتفاخه، فيتبع كثرة الدم.

وأمّا لون البول: فإنّه يكون مائلاً إلی البياض. وذلك لأنّ المرار الذي كان يصبغ البول، يتحلّب، ويميل إلی الورم الذي في اللحم الرخو، لأنّ كلّ وجع يحدث فهو يجتذب الموادّ، وكذلك كلّ حرارة. وليس من الأخلاط شيء أسرع

ولا أولی انجذاباً من المرّة، إذ كانت ألطف الأخلاط. ونظير ذلك أنّا نجد البول في صاحب الصداع، ومن يجد في رأسه التهاباً يكون أبيض.

نبض العروق في جميع حمّی يوم لا يكون فيه علی الأمر الأكثر اختلاف. وذلك لأنّ القوّة لا تضغط في هذه الحمّی، ولا تثقل. وأمّا في الفرد بعد الفرد، فقد يكون النبض في حمّی يوم مختلفاً في نبضة واحدة. إلّا أنّ اختلافه يكون غامضاً خفيّاً، بمنزلة ما يعرض ذلك في حمّی يوم الحادثة عن استحصاف البدن، وتكاثفه بسبب البخار الذي يجتمع داخلاً.

الحمّام مؤلّف من أجزاء شتّی:

أحدها: الهواء الحارّ وهو يسخن، ويحلّل، ويوسّع المسامّ، ويجفّف، إلّا أنّ تجفيفه بالعرض.

والثاني: الماء الحارّ، وهو يسخن، ويحلّل، ويوسّع المسامّ، ويرطّب.

والثالث: الماء البارد، وهو يبرّد، ويرطّب، ويسخن، إلّا أنّ إسخانه بطريق العرض. وذلك أنّه إذا تكاثف ظاهر البدن، حفظ عليه الحرارة التي اكتسبها من الحمّام.

والرابع: الدهن. والدهن يستعمل في الحمّام إمّا بأن يمسح به البدن فقط، وإمّا بأن يمرّخ ويدلّك به. فإن مسح به البدن فقط، سدّد مسامّ البدن، ومنع من أن يحلّل منه شيء. وإن مرّخ به البدن، ودلّك به دلكاً رقيقاً، ليّناً،

فهو علی كلّ حال يحلّل، ويذيب، ويرخي، ويوسّع مسامّ البدن. إلّا أنّه يحدث أمرين مختلفين، يفعل كلّ واحد منهما بحسب الحال التي يصادف البدن عليها. وذلك أنّه إن صادف البدن كثير الرطوبة، حلّل تلك الرطوبة. وإن صادفه قليل الرطوبة، والغالب عليه اليبس، رطّبه.

والخامس من أجزاء الحمّام: التدلّك، وهو لا محالة يسخن، إلّا أنّه إن كان مقداره كثيراً، حلّل وأفنی. وإن كان معتدلاً في المقدار، اجتذب الدم إلی الأعضاء، ورطّب، وأنبت اللحم. وإن كان صلباً، سدّ اللحم وكثّفه. وإن كان ليّناً، حلّ اللحم وأرخاه.

حمّی يوم: من طريق أنّها تحدث عن سبب عامّ لجميع أنواعها، صارت تداوی مداواة عامّيّة بالحمّام، وبالغذاء.

ومن طريق أنّها تحدث عن سبب من الأسباب البادئة، المختلفة، صار ما يستعمل في أنواعها من أمر الحمّام، والغذاء، يختلف بحسب طبيعة السبب الفاعل لها من الأسباب البادئة.

الاستحمام: هو شيء يداوی به جميع من يحمّ حمّی يوم عامّة. إلّا أنّ من كانت به هذه الحمّی من استحصاف البدن، أو من قبل ورم في اللحم الرخو فهو

يحتاج إلی أن يكون لبثه في هواء الحمّام أكثر. وذلك لأنّ بدنه إلی التحلّل أحوج، وخاصّة من كانت حمّاه من قبل استحصاف البدن.

فأمّا من كانت به هذه الحمّی من قبل همّ، أو من قبل تعب، أو من قبل أرق، أو من قبل غمّ، أو من قبل سمائم فهو إلی اللبث في الماء الحارّ أحوج لترطيب بدنه بذلك، لا سيّما من كانت حمّاه من تعب، أو من سمائم، لأنّ هؤلاء كلّهم قد نال أبدانهم اليبس. ولذلك صار اللبث في هواء الحمّام غير نافع لهم، إذ كان إنّما يزيدهم يبساً وجفوفاً.

وأمّا الدهن: فمن كانت به حمّی يوم من قبل تعب، فيجب أن يكثر منه، ويدلّك به دلكاً رقيقاً، ليّناً جدّاً، معتدل المقدار، كيما يرطّبه.

وأمّا سائر من ناله اليبس بسبب من الأسباب الأخر، أيّ سبب كان، فينبغي أن يستعمل من الدهن أقلّ ممّا يستعمله صاحب التعب. ولكن ينبغي أن يكون في سائر أمره علی مثال ما وصفنا. وذلك أنّ المتعوب قد اجتمع عليه أمران:

أحدهما: أنّه قد جفّ جفوفاً كبيراً، فهو يحتاج إلی الدهن ليرطّبه.

والآخر: أنّه قد أصابه في أعضائه شبيه بالتمدّد. وربّما أصابه شبيه بالورم، فهو لذلك يحتاج إلی الدهن من طريق أنّه أحد الأشياء التي تحلّل، وترخي، وتطلق.

وأمّا من كانت به حمّی يوم من قبل استحصاف البدن وتكاثفه، فيجب

أن يكون ما يستعمله من الدهن أقلّ، ويكون استعماله إيّاه مع تدلّك ليّن، كثير المقدار، كيما يوسّع مسامّ بدنه، وتتحلّل الفضول المحتقنة فيه.

وأمّا من كانت به حمّی يوم من قبل ورم في اللحم الرخو، فالدهن والتمريخ أقلّ منفعة له من منفعة للمستحصف البدن، وذلك أنّ بدنه أقلّ حاجة إلی التحلّل من بدن المستحصف البدن.

ينبغي أن يستحمّ بالماء من كان يحتاج إلی الترطيب الكثير، بمنزلة أصحاب التعب، مراراً كثيرة، بحسب ما تجيب إليه القوّة. ومن كان يحتاج إلی الترطيب اليسير، مراراً يسيرة.

وينبغي أن يدخل الحمّام كيما يتردّد في هواء الحمّام من كان يحتاج إلی أن تتّسع مسامّ بدنه، ويتحلّل كثيراً، بمنزلة أصحاب البدن المستحصف، مراراً كثيرة. فأمّا من كان إنّما يحتاج من التحلّل وتوسيع مسامّ البدن إلی اليسير، بمنزلة أصحاب ورم الحالب، فينبغي أن يدخل الحمّام ليلقی هواء الحمّام مراراً يسيرة.

الطعام: ينبغي أن يقدّر لأصحاب حمّی يوم بحسب السبب الفاعل للحمّی. فمن كانت حمّاه من تعب، فينبغي أن يكون طعامه كثير المقدار، سهل الانهضام، وفي مرار كثيرة. أمّا كثير المقدار فللذي نال البدن من التعب، ومن اليبس، وكثرة التحلّل. وأمّا سهل الانهضام في مرار كثيرة، فلضعف القوّة.

ومن كانت حمّاه من أرق، أو عارض من عوارض النفس،أيّ عارض كان، فينبغي أن يستحمّ بالماء، ثمّ يغتذي بغذاء مرطّب، يولّد دماً جيّداً. وذلك لأنّ عوارض النفس من شأنها أن تجفّف البدن أكثر ممّا يجفّفه غيرها من جميع الأشياء. والدليل علی ذلك أنّ الذي لا همّ له ولا غمّ فهو يستمرئ كلّ ما يأكل، ولو كان ممّا يعسر استمراؤه. والذي يهتمّ ويغتمّ لا يستمرئ اليسير من السهل الانهضام من الطعام سريعاً، فضلاً عمّا سواه.

ومن كانت حمّاه من استحصاف البدن، أو من ورم اللحم الرخو، فينبغي أن يستعمل فيه التدبير اللطيف، وذلك لكثرة ما في بدنه من المادّة.

وأمّا الشراب: فمن كانت حمّاه من تعب، فينبغي أن يسقی منه مقدار ما يحتمل أن يشرب، وينبغي أن يكون مبنی الأمر في تقديره علی حسب القوّة، والسنّ، والعادة، والوقت من السنة، والبلد، والمزاج.

أمّا القوّة: فإن كانت قويّة، فينبغي أن يكون مقدار ما يسقی من الشراب كثيراً. وإن كانت ضعيفة، فيسيراً.

وأمّا السنّ: فإن كان شيخاً فكثيراً، وإن كان صبيّاً فقليلاً، وإن كان شابّاً فبمقدار معتدل.

وأمّا العادة: فإن كان المريض ممّن قد اعتاد شرب الشراب، فليطلق له أن يشرب منه كثيراً. وإن كان لم يعتد شربه، فلا يطلق له إلّا اليسير.

وأمّا الوقت الحاضر من السنة: فإن كان شتاء، فليكن مقدار الشراب كثيراً، صرفاً. وإن كان صيفاً، فليكن قليلاً.

وأمّا البلد: فإن كان من بلدان الصقالبة، فليكن الشراب كثيراً، وإن كان من بلدان الحبشة، فليكن يسيراً.

وأمّا المزاج: فإن كان حارّاً، فليكن الشراب يسيراً، وإن كان بارداً، فليكن كثيراً.

وأمّا من كانت حمّاه من ورم في اللحم الرخو، فيجب أن يمنع من الشراب إلی أن يتحلّل ويذهب الورم، كيما لا يزيد الشراب في مادّة الورم، فعظم.

وأمّا من كانت حمّاه من غضب، فليس ينبغي أن يسقی شراباً حتّی يسكن غضبه سكوناً تامّاً، لأنّ الشراب من شأنه أن يهيّج الغضب.

وأمّا من كانت حمّاه من أرق، أو حرد، أو غمّ، أو همّ، فينبغي أن يسقی الشراب، وذلك لأنّ الشراب يصير به صاحب الأرق إلی النوم، وصاحب الحرد إلی السرور، ويرطّب بذلك، والمغموم أيضاً يرطّب به ويفرّح، والمهموم يتسلّی به ويرطّب.

ومن كانت حمّاه من استحصاف البدن، وكان الاستحصاف يسيراً، فينبغي أن يسقی شراباً، لأنّ الشراب بحرارته يوسّع المسامّ. وأمّا إن كان الاستحصاف كثيراً، فليس ينبغي أن يسقی شراباً، لأنّ الشراب لا يقدر في مثل هذا علی توسيع المسامّ. لكنّه إذا حلّ المادّة وأذابها، أو لم تحلّ،

أحدثت سدداً.

جميع حمّيات يوم تداوی عامّة بمخالفة الأسباب الفاعلة. وذلك أنّه ينبغي أن يخالف التعب بالراحة، والهمّ بتسكين الفكر، والأرق بالنوم، والحرد، والغمّ، والغضب باللذّة. وذلك أنّ هذه الثلثة العوارض يتبعها الغمّ. وإنّما يتلذّذ كلّ واحد من الناس بالشيء الذي هو به آنس وله أشدّ محبّة، إن كان ذلك قولاً، أو فعلاً، أو نظراً.

حمّی يوم الحادثة عن ورم اللحم الرخو: ينبغي أن تداوی بمداواة الورم. ومن قبل مداواة هذا، تداوی بمداواة القرحة التي عنها حدوث الورم.

الحمّيات: منها ما يلبث يوماً واحداً، ومنها ما يلبث أيّاماً كثيرة.

والكثيرة الأيّام: منها ما يكون حدوثها عن مادّة قد تعفّنت، ومنها حمّی الدقّ.

والتي تحدث عن مادّة قد تعفّنت: منها ما حدوثها مع علّة في بعض الأعضاء،

ومنها ما يحدث من غير علّة في عضو.

والتي تكون بغير علّة في عضو: منها ما يكون مع أعراض منكرة، رديئة، ومنها ما يكون بلا أعراض رديئة.

والتي تكون بلا أعراض منكرة: منها ما يكون يدور بنوائب، ومنها ما تكون دائمة.

والتي تدور بنوائب: منها ما تكون نوائبها غبّاً، ومنها ما تكون نوائبها ربعاً، ومنها ما نوائبها في كلّ يوم.

وكذلك الدائمة: منها من جنس الغبّ، ومنها من جنس الربع، ومنها من حنس الحمّی النائبة في كلّ يوم.

وكلّ واحدة من هذه الحمّيات الستّ، إمّا أن تكون خالصة، وإمّا غير خالصة.

والحمّيات الحادثة عن الأخلاط: منها ما يكون الخلط الفاعل لها قد عفن في سائر البدن فتكون مطبقة، ومنها ما يكون ذلك الخلط العفن في عضو واحد فقط، فتكون الحمّی تدور بنوائب.

وهذا الخلط الفاعل لهذه الحمّی إمّا أن تحدث عنه سدد، وإمّا أن يحدث عنه ورم.

وليس يذكر في هذا الكتاب الحمّيات التي تكون مع أورام الأعضاء الباطنة، من طريق أنّ تعرّفها بالعلامات عسر، وذكرها مجاوز لمقدار طاقة المتعلّمين.

فأمّا الحمّيات الحادثة عن السدد: فهو يذكرها في هذه المقالة الأولی من هذا الكتاب. وهي صنفان:

أحدهما: صنف الحمّيات التي لا يكون معها أعراض منكرة. وهذا الصنف هو الذي يذكره أوّلاً. والصنف الآخر: صنف الحمّيات التي تكون معها أعراض منكرة، وذكره إيّاها فيما بعد.

ويقول أيضاً: إنّ الخلط العفن الذي تحدث عنه الحمّی لا يخلو من أن يكون في داخل العروق، أو خارجاً منها.

فإن كان خارج العروق، حدثت عنه حمّی تدور بنوائب، وهي التي يذكرها أوّلاً. وإن كان داخل العروق، حدثت عنه حمّی دائمة.

ولا يخلو — إذا كان داخلاً — من أن يكون في جميع البدن، أو في عضو واحد.

فإن كان في جميع البدن، كانت الحمّی الحادثة عنه مطبقة، أعني لا نوبة لها، ولا زيادة كثيرة في وقت دون وقت.

وليس يذكر هذه الحمّی في هذا الكتاب ذكراً خاصّاً، لأنّ مداواتها، ومداواة حمّی الغبّ الدائمة، والحمّی المحرقة مداواة واحدة.

وإن كان في عضو واحد، فالحمّی الحادثة عنه تكون دائمة. إلّا أنّها مع دوامها تهيج، وتزداد في وقت دون وقت. وهيجانها، وزيادتها تكون إمّا في كلّ يوم، وإمّا يوماً ويوماً لا، وإمّا يوماً ويومين لا.

وهذه الحمّيات نذكرها فيما بعد.

الحمّيات المفردة التي تدور بنوائب ثلث: واحدة من البلغم، وهي تواظب في كلّ يوم، والأخری: من المرّة الصفراء، وهي تدور غبّاً. والثالثة: من المرّة السوداء، وهي تدور ربعاً.

وأوّل ما نقدّم ذكره من هذه الثلثة: حمّی الغبّ، لأنّها تعرض أكثر من تينك الأخريين، ولأنّها أسكن، وأخفّ أمراً، ولأنّ البدن لها أكثر تعوّداً.

الأعراض ثلثة أجناس: فمنها ما هي مثبتة للأمراض، وهي التي إذا وجدت، فالمرض الذي تثبته، موجود. وأمّا إذا فقدت، فمفقود. وهذا الجنس من الأعراض تبتدئ أعراضه مع ابتداء المرض، ولا تفارقه، ولا تزول عنه. وبها يكون وجوده. مثال ذلك: أنّ ذات الجنب لا تخلو من أن تكون معها حمّی حادّة، وضيق النفس، وسعال، ووجع ناخس في الجنب.

ومنها ما هو تابع لتلك، ومطابق لها. وهذا الجنس من الأعراض ربّما كان ابتداء أعراضه مع ابتداء المرض، وربّما حدث بعد، وربّما لم يكن أصلاً، بمنزلة ما يعرض في ذات الجنب أنّها إذا كانت صعبة شديدة، عرض

معها أنّ الوجع يبلغ من أسفل إلی مراقّ البطن، ومن فوق إلی التراقي، وينتقل في الجنب، ويمتدّ من الأضلاع التي بها العلّة إلی الأضلاع التي لا علّة بها.

ومنها ما هو متأخّر لا يعرض إلّا فيما بعد.

وأنواع هذه الأعراض المتأخّرة أربعة:

فمنها ما يعرض عند البحران ويدلّ عليه، ومنها ما يعرض عند نضج المرض ويدلّ عليه، ومنها ما يدلّ علی خلاف النضج، ومنها ما يدلّ علی التلف والهلاك.

فأمّا الأعراض التي تدلّ علی البحران فهي: العرق، والبرد الحادث في غير وقته، والرعاف، والقيء الكثير، والصداع العارضة بغتة، وضيق النفس من غير علّة توجبه، والأرق الكثير، والخفقان، وتورّم مراقّ البطن بلا وجع، واختلاط الذهن، وشدّة القلق بالليل من غير سبب يوجب ذلك، وتقدّم نوبة الحمّی عن وقتها علی غير الرسم، وانحدار دموع العين بغتة من غير وجع في العين، وحمرة العينين من غير رمد، وحركة اللحي الأسفل واضطرابه، وتخيّل أشياء للبصر لا حقيقة لها من شيء يطير في الهواء، وشيء يلمع، وحمرة الوجنتين وأرنبة الأنف

بغتة، وتورّم أصل الأذنين.

فأمّا الأعراض التي تدلّ علی نضج المرض فهي بمنزلة ما يعرض لصاحب ذات الجنب أن يكون النفث مستوياً، أملس، معتدلاً بين الرقّة والثخن.

وأمّا الأعراض التي تدلّ علی خلاف النضج: فمنها ما يدلّ علی عدم النضج أصلاً، ومنها ما يدلّ علی نضج ضعيف، بمنزلة ما يعرض لصاحب ذات الجنب أن يكون ما ينفثه رقيقاً، أو أصفر، أو أحمر، أو بلون النار.

وأمّا الأعراض التي تدلّ علی العطب والتلف فهي بمنزلة ما يعرض لصاحب ذات الجنب أن يكون ما ينفثه أخضر، أو زنجاريّاً، أو أسود.

الأعراض التابعة المطابقة: منها ما يكون يسير المقدار، ساكن العادية، حتّی أنّه لا يحتاج من الطبيب إلی أن يقصد له بشيء من الأشياء خاصّة، خلا ما يقصد به للمرض.

وكلّ حمّی تكون مع مثل هذه الأعراض فهي من الحمّيات التي يقال إنّها لا أعراض معها.

وأوّل شيء يذكره هاهنا هذه الحمّيات.

ومنها ما يكون من الصعوبة، والشدّة في حدّ يضعف القوّة ويجحف بها، حتّی يضطرّ الطبيب ذلك إلی أن تكون عنايته كلّها بأمرها، وقصده نحوه، لشدّة أذاها، ومكروهها، وما يخاف من عاقبتها، بمنزلة الغشي، والصداع الشديد، المبرّح، وما أشبه ذلك.

والحمّيات التي تعرض معها هذه الأعراض هي آخر ما يذكر.

التدبير ثلثة أصناف: منه غليظ، ومنه لطيف، ومنه معتدل.

فالتدبير الغليظ يزيد في القوّة، ويزيد في المرض.

والتدبير المعتدل يحفظ القوّة، ولا يزيد في المرض.

والتدبير اللطيف يجحف بالقوّة، وينقص المرض.

تدبير المحمومين، علی ما قال بقراط، منه عامّ لجميع، ومنه خاصّ لكلّ واحد منهم.

والتدبير العامّ: تستخرج معرفته من غرضين يقصد فيه نحوهما: أحدهما المرض، والآخر القوّة.

وأمّا المرض: فإنّه إن كان قريب المنتهی، أعني إن كان يتوقّع منتهاه في الرابوع الأوّل، فينبغي أن يكون التدبير فيه منذ أوّله لطيفاً.

وإن كان بعيد المنتهی: فينبغي أن يكون التدبير في أوّل الأمر ليس بلطيف، كيما لا تجحف القوّة. فإذا صار إلی المنتهی كان التدبير لطيفاً، كيما لا تشتغل الطبيعة عن إنضاج المرض بإغذاء المريض بعد أن تحتاج إلی هضمه.

وأمّا القوّة: فإن كانت صحيحة قويّة، فينبغي أن يكون التدبير منذ أوّل المرض لطيفاً. وإن كانت ضعيفة، فينبغي أن يقلّل من لطافة التدبير في أوّل الأمر، ويزاد في لطافته عند حضور المنتهی، لكن لا يبلغ به غاية اللطافة.

فيحصل ممّا قلنا، أنّ الأعراض التي يستدلّ بها علی أمر التدبير: هل ينبغي أن يكون لطيفاً، أم غليظاً، ثلثة: أحدها القوّة، أن تكون قويّة أو ضعيفة، والآخر: المرض، أن يكون قريب المنتهی أو بعيدة، والثالث: نوائب الحمّی إن كانت تنوب في كلّ يوم، أو يوماً ويوماً لا، أو يوماً ويومين لا.

فإنّ الأمر في حضور وقت نوبة الحمّی مثله في منتهی المرض.

ولكلّ واحد من هذه الثلثة أمارات تعرف بها.

فالقوّة: تتعرّف أحوالها بجسّ العروق، وسائر الأشياء التي ذكرنا أنّها تدلّ عليها.

والمرض: يتعرّف أمره: هل تطول مدّته، أم تقصر، أو هل هو حادّ من أربعة أشياء:

أحدها: نوع المرض، والآخر: حال الأشياء التي تدلّ بموافقتها لنوع المرض أو مخالفتها له، والثالث: تزيّد نوائب المرض، والرابع: حال الأعراض المتأخّرة.

وأمّا نوائب الحمّيات الجزئيّة: فيستدلّ عليها وتتعرّف من نوع المرض.

والاستدلال بنوع الحمّی علی أحوالها: هل هي حادّة، أم متطاولة، يكون علی هذا الوجه:

إن كانت الحمّی من الحمّيات التي تدور بنوائب، فالغبّ قريبة المنتهی، والمواظبة بعيدة المنتهی، والربع أبعد منتهیً.

وإن كانت من الحمّيات الدائمة: فالمحرقة قريبة المنتهی، والمركّبة من الغبّ والمواظبة متوسّطة المنتهی، والحمّی التي يقال لها طيفوذيس — وهي حمّی تجمع علی صاحبها باللهيب من داخل وبرد من خارج — أبعد منتهیً.

والاستدلال بالأشياء التي تدلّ بموافقتها أو مخالفتها للمرض علی حال الحمّی: هل هي قريبة المنتهی، أو بعيدة، يكون علی هذا الوجه:

إنّ الحمّی إن كانت غبّاً، أو غيرها، أيّ حمّی كانت، فمنتهاها يقرب، وبحرانها يسرع في وقت الصيف، وفي سنّ الشباب، وفي البدن الحارّ المزاج، وفي البلد الحارّ، وفي حال الهواء الحارّ، وفي علاج الصناعات المسخنة، بمنزلة صناعة الحدّادين، وفي المعتادين للتدبير الحارّ.

ويبعد منتهاها، ويتأخّر بحرانها في وقت الشتاء، وفي سنّ الشيوخ، وفي البدن البارد المزاج، وفي بلد الصقالبة، وفي حالات الهواء البارد، وفي علاج الصناعات المبرّدة، بمنزلة الملاحة، وصيد السمك، والفلاحة: واعتياد التدبير البارد.

الاستدلال بتزيّد نوائب الحمّی بعض علی بعض علی قرب منتهی الحمّی وبعده يكون علی هذا الوجه: إنّ التزيّد كلّما كان أعظم فهو يدلّ علی أنّ المنتهی أقرب. وكلّما كان أقلّ، فهو يدلّ علی أنّ المتهی أبعد.

وتزيّد نوائب الحمّی يكون في أحد ثلثة أشياء: إمّا في الطول إذا كانت النوبة تتقدّم، والإقلاع يتأخّر، وإمّا في الصعوبة والشدّة، إذا كانت الحرارة في هذه النوبة أقوی، وأشدّ منها في النوبة الماضية، وإمّا في الأمرين جميعاً.

والأعراض المتأخّرة: هي دلائل تدلّ بحسب تقدّمها وتأخّرها، وبحسب موقعها من المرض.

والأعراض الدالّة: منها ما يدلّ علی نضج المرض، وإذا هي عرضت في أوائل المرض دلّت علی سرعة انقضائه.

وإذا تبيّنت بعد أيّام من المرض كثيرة، دلّت علی طول المرض.

وأمّا الأعراض التي تدلّ علی خلاف النضج: فهي تدلّ أبداً علی طول من المرض، مات المريض به أو عاش.

وأمّا الأعراض الدالّة علی البحران: فإنّها إذا ظهرت قبل علامات النضج دلّت علی أحد أمرين: إمّا أنّ المريض يموت، وإمّا أنّ بحران المريض يكون صعباً شديداً.

وأمّا الأعراض الدالّة علی العطب: فهي تدلّ أبداً علی هلاك معجّل.

وأمّا إذا ظهرت بعد النضج، فإنّها تدلّ علی سرعة النجاة.

ينبغي أن يختار للمحموم وقت يغذی فيه. فإن كانت حمّاه من الحمّيات التي تدور بنوائب، فينبغي أن يغذی في وقت راحته، وذلك لأنّ القوّة في وقت نوبة الحمّی تضعف من سوء مزاج الحمّی، فلا يمكنها أن تغيّر الغذاء، وتهضمه. وإذا لم يتغيّر الغذاء ولم ينهضم، صار فضلاً زائداً في مادّة الحمّی.

وإن كانت حمّاه حمّی دائمة، فليس يقدر فيها علی وقت يكون البدن فيه نقيّاً من سوء مزاج الحمّی. ولكن تكون للحمّيات الدائمة أيضاً أوقات تكون فيها ألين، وأخفّ، وتكون الحرارة أقلّ. فينبغي أن يتوقّع له هذا الوقت فيغذی فيه.

والمتولّي لمداواة المحموم ينتفع بالبحث عن أمر الحمّی: هل هي حادّة، أم متطاولة فيما يحتاج إليه من الوقوف علی نوع التدبير: هل يجب أن يكون لطيفاً، أم غليظاً. وينتفع بالبحث عن حال الحمّی: هل هي من الحمّيات التي تدور بنوائب، أم من الحمّيات التي تطبق فيما يحتاج إليه من الوقوف علی الوقت الذي يغذو فيه المريض.

وللحمّيات علامات يفرّق بها بين ما يدور منها بنوائب، وما يطبق.

وذلك أنّ الحمّی التي تدور بنوائب تجتمع فيها ثلثة أشياء: أحدها النافض، والآخر العرق، والثالث: إقلاع الحمّی إذا انقضت نوبتها.

أمّا النافض: فيعرض في الحمّيات التي تدور بنوائب، لأنّ المادّة تنصبّ علی أعضاء كثيرة الحسّ.

وأمّا العرق: فلأنّ المادّة تستفرغ إذا كانت ليست بمحصورة في أوعية كثيفة، أعني في العروق.

وأمّا إقلاع الحمّی عند انقضاء نوبتها، فلأنّ المادّة التي تعفن في نوبة، نوبة، تستفرغ كلّها إذا كانت ليست بمحصورة في العروق.

وأمّا الحمّی الدائمة المطبقة: فليس يكون فيها ولا واحد من هذه الثلثة، وذلك أنّها لا تقلع أصلاً إقلاعاً تامّاً دون انقضائها. ولا يكون معها عرق له قدر، ولا نافض.

بل إنّما يعرض معها أنّ ظاهر البدن واليدين والرجلين في بعض الأوقات تبرد لأحد أمرين:

إمّا لأنّ الحرارة الغريزيّة والدم يميلان إلی العضو الذي فيه العفونة من باطن البدن، لمكان ما يتولّد في ذلك العضو من الحرارة بسبب العفونة، فتنحدر تلك الحرارة والدم إليها.

وإمّا لأنّ الحمّی مركّبة من حمّی دائمة وحمّی تدور بنوائب، فيكون ما يحدث من البرد بسبب أنّ مادّة هذه الحمّی في وقت نوبتها تنصبّ علی الأعضاء الكثيرة الحسّ.

ومبدأ حمّيات العفن يختلف: فمنها ما يبتدئ بنافض. وما كان ابتداؤه كذلك فهو لا محالة من الحمّيات التي تدور بنوائب. إلّا أنّ من هذه الحمّيات ما يبتدئ بنافض شديد، بمنزلة حمّی الغبّ. والنافض في هذه الحمّی يكون بغرزان.

ومنها ما يبتدئ بنافض يسير، بمنزلة حمّی الربع. والنافض في هذه الحمّی ليس يكون مع غرزان، لكن يجد صاحبه في عظامه شبيهاً بالثقل والوجع. وإذا تطاولت بها الأيّام اشتدّ النافص.

ومنها ما لا يبتدئ بنافض. وما كان كذلك، فمنه ما يعرض معه في آخر الأمر برد، بمنزلة الحمّی المواظبة. وربّما كان ذلك منها منذ أوّل الأمر. ومنه

ما لا يكون معه برد أصلاً. وما كان كذلك، فهو من الحمّيات الدائمة.

النافض يحدث في الحمّی من سببين:

إمّا بسبب خلط بارد ينصبّ علی الأعضاء الكثيرة الحسّ، فيبرّدها، بمنزلة ما يعرض ذلك في الحمّی المواظبة، وفي حمّی الربع.

وإمّا بسبب خلط حارّ ينصبّ علی هذه الأعضاء فيلذعها، فيلجّئ الحرارة الغريزيّة إلی الهرب إلی باطن البدن مع الدم، فيبرد لذلك ظاهر البدن، كما يعرض ذلك في حمّی الغبّ.

والرعدة التي تكون مع هذا النافض تعرض إمّا لبرودة ظاهر البدن، وإمّا لما ينال الأعضاء الكثيرة الحسّ من لذع المرار.

والنافض يكون في حمّی الغبّ منذ أوّل أمرها قويّاً شديداً. وفي الربع علی أكثر الأمر يكون في أوّل أمره ضعيفاً. وذلك لأنّ الذي ينصبّ علی الأعضاء

الكثيرة الحسّ من الخلط السوداويّ شيء يسير، لغلظ هذا الخلط، ولأنّه يكون لم يرقّ بعد ولم يذب. ثمّ إنّه في آخر الأمر يشتدّ ويصعب، عندما يرقّ الخلط ويذوب، وينصبّ علی تلك الأعضاء.

واستصعاب النافض في هذه الحمّی في آخر الأمر من العلامات المحمودة.

وأمّا الحمّی المواظبة، فالنافض علی الأمر الأكثر لا يكون في أوّلها، وذلك لغلظ البلغم، ولزوجته. ثمّ إنّه في آخر الأمر من العلامات المحمودة. وأمّا الحمّی المواظبة تكون شديدة وتصعب أوّلاً، أوّلاً، عندما يرقّ ذلك الخلط.

والنافض الذي يكون مع حمّی الغبّ يكون معه لذع، وغرزان شبيه بنخس الإبر. وهذا نافض مطلق.

وأمّا الحمّی المواظبة فنافضها يكون معه برد شديد شبيه ببرد الثلج. ويقال لهذا النافض برد.

وأمّا حمّی الربع فيكون مع نافضها ثقل ووجع في العظام. ويقال لهذا النافض نافض متعب للعظام.

حمّی الربع علی الأمر الأكثر إنّما تحدث بعقب حمّيات مختلفة، وذلك يكون لأنّ المرّة السوداء في أكثر الحالات إنّما تتولّد، وتكثر في البدن من احتراق الدم. فإذا احترق الدم، صار الجزء اللطيف منه مرّة صفراء، والجزء الغليظ مرّة سوداء. فإذا عفن الجزء اللطيف، حدثت عنه حمّی الغبّ. وإذا عفن الجزء الغليظ حدثت عنه حمّی الربع. فتكون جملة الحمّی مختلطة لا تقف علی نوبة معلومة. وربّما كان حدوث الربع في الندرة منذ أوّل الأمر من غير أن تتقدّمها حمّيات مختلطة، بمنزلة

ما يعرض ذلك إذا كان الطحال عليلاً فلم يجتذب إليه المرّة السوداء، ولم يستقص تنقيتها من الكبد، وكان الإنسان قد مدّ يده من الأطعمة المولّدة للمرّة السوداء إلی مقدار تولّد منها ما لا طاقة للطحال به، فلا يمكنه تنقيته.

الذي يجري علی الأمر الأكثر أن يعتلّ مع حمّی الربع الطحال. وذلك لأنّه الأصل والمعدن الذي منه المرّة السوداء. ويعتلّ مع المواظبة فم المعدة، وذلك لأنّ البلغم إنّما هو فضل الطعام الذي تستمرئه المعدة. وأصدق القول فيه: إنّه

غذاء قد نضج نصف نضجة.

متی كان النافض في الحمّی صعباً، شديداً، فتلك الحمّی غبّ. وهي مع هذا خالصة.

ومتی لم يكن صعباً، شديداً، فهي واحدة من أربع حمّيات: إمّا غبّ غير خالصة، وإمّا مركّبة من غبّ ومواظبة، وإمّا ربع، وإمّا مواظبة.

الحمّيات الدائمة: منها ما تكون دائمة لأنّ المادّة التي عنها تحدث محصورة في جوف العروق. وما كان من الحمّيات كذلك، فليس معها نافض، لكن يعرض معها في بعض الأوقات، علی ما قلنا قبل، أن يبرد ظاهر البدن المحموم، لأنّ الدم والحرارة الغريزيّة يميلان في ابتداء هيجان الحمّی إلی العضو الذي فيه العفونة.

ومنها ما تكون دائمة لأنّها مركّبة من حمّی تنوب وحمّی دائمة، لأنّ نوائبها طويلة، وإن كانت المادّة الفاعلة لها خارج العروق.

فما كان من الحمّيات كذلك، فقد يكون معه نافض كما نجد ذلك في الحمّی التي تسمّی إميطريطاوس، وهي المركّبة من حمّی غبّ وحمّی مواظبة.

[الاستدلال علی حمّی الغبّ]

العلامات الدالّة علی الحمّی أنّها غبّ بعضها يستخرج من العلم بما هو في الطبع:

وهو أن يكون المزاج يغلب عليه المرار، والسنّ منتهی الشباب، والوقت الحاضر من السنة صيفاً، والبلد وحال الهواء في ذلك الوقت حارّين يابسين.

ومنها ما يستخرج من الأشياء الخارجة عن الطبع: وهي أن يكون النافض شديداً، والحرارة كثيرة المقدار، قويّة الحدّة، والنبض قويّاً جدّاً، عظيماً جدّاً، مسرعاً، متواتراً، لا اختلاف فيه سوی الاختلاف الذي يخصّ به الحمّی.

أمّا قويّ، فلأنّ القوّة لا تضعف في هذه الحمّی لخفّة هذه المادّة. وأمّا عظيم، مسرع فلشدّة الحاجة إلی التطفئة، بسبب حرارة المرّة ولصحّة القوّة. وأمّا متواتر فللحاجة إلی ذلك. وأمّا غير مختلف خلا الاختلاف الذي الحمّی مخصوصة به، فلأنّ هذه الحمّی ليس لها مادّة تضغط القوّة.

ويكون البول بلون النار، وذلك لما يخالطه من المرّة.

ويكون معها عطش شديد، للحرارة واليبس الغالبين.

ويكون معها قيء مرّة صفراء، أو إسهال مرّة صفراء، وعرق كثير، للطافة هذا الخلط.

والاختلاف الذي الحمّی مخصوصة به من اختلاف النبض: هو أن يكون طرفا الانبساط أشدّ سرعة من وسطه، وخاصّة آخره، وطرفا الانقباض أيضاً أشدّ سرعة من وسطه، وخاصّة ابتداؤه. وذلك لأنّ الطبيعة تعجل وتسرع في ابتداء الانبساط وانتداء الانقباض لتبريد حرارة الحمّی، وتعجل وتسرع في منتهی الانبساط وابتداء الانقباض ليخرج ما يتولّد من الفضول الدخانيّة لحرارة الحمّی بالانقباض. فيصير وسط كلّ واحدة من الحركتين أقلّ سرعة عن طرفيها.

ونقول أيضاً: إنّ العلامات التي يستدلّ بها علی أنّ الحمّی غبّ بعضها من أشياء متقدّمة للحمّی، وبعضها من أشياء تكون معها، وبعضها من أشياء تتبعها.

أمّا الأشياء المتقدّمة لها: فالهمّ، والأرق، والصوم، والحارّ من الأطعمة والأشربة والأدوية، والرياضة الكثيرة.

وأمّا الأشياء التي تكون معها: فالنافض الشديد، والالتهاب، والعطش، وقوّة النبض، وعظمه، وسرعته، وتواتره، واستواؤه، وقيء المرّة الصفراء، والبول الملوّن بلون النار.

وأمّا الأشياء التي تتبعها، فمثل العرق الذي يكون في أوّل الحمّی. وذلك أنّه لمّا كان هذا الخلط لطيفاً، وكان انحلاله ومصيره إلی ظاهر البدن سهلاً، صار يخرج بالعرق، ويصنع للمريض بخروجه أن يفلت من تلك النوبة التي يعرق فيها. وهذا شيء لا يكون في الحمّی المواظبة للزوجة البلغم وغلظه.

ونقول أيضاً: إنّا علامات حمّی الغبّ منها ما يتبيّن للمريض وهي التي تقدّم

ذكرها، ومنها ما يتبيّن في غيره. وذلك أنّا إذا رأينا أنّ الحمّی الغبّ في ذلك الوقت قد عرضت لكثير من الناس، فإنّ ذلك ممّا يزيد في تحقيق الأمر عندنا أنّها حمّی غبّ. إلّا أنّ هذه العلامة إنّما نستعملها علی طريق ما نستعمل الشاهد علی الأمر، لا علی أنّها تدلّ بنفسها عليه.

ليس يخلو النافض من أن يكون صاحبه يجد معه من البرد، بمنزلة ما يعرض ذلك في الحمّی المواظبة، أو مسّ التكسير، والرضّ، بمنزلة ما يعرض ذلك في حمّی الربع، أو مسّ الغرزان، والنخس، بمنزلة ما يعرض ذلك في الغبّ.

[الاستدلال علی حمّی الربع]

العلامات الدالّة علی حمّی الربع: بعضها يستخرج ممّا هو في الطبع، وهي الطبيعة السوداويّة، وسنّ الكهول، ووقت الخريف، والبلد وحال الهواء الباردان اليابسان أو المختلفان، وبعضها يستخرج ممّا هو خارج عن الطبع.

والأشياء الخارجة عن الطبع: منها ما هو متقدّم للحمّی، ومنها ما هو حاضر مع

الحمّی خاصّة، ومنها ما هو تابع للحمّی. أمّا المتقدّم للحمّی فالتدبير المولّد للسوداء، والحمّيات المختلطة، وصلابة الطحال. وأمّا الحاضر مع الحمّی، فبعضه يكون في أوّل الحمّی، وبعضه في تزيّدها وصعودها ومنتهاها، وبعضه في انحطاطها. أمّا التي في الابتداء: فالنافض الذي يكون معه مسّ التكسير والثقل، والنبض البطيء غاية الإبطاء، المتفاوت، البيّن الاختلاف الذي تختصّ به الحمّی السوداويّة لتفاوته، وإبطائه.

وأمّا في التزيّد والمنتهی: فالحرارة تكون غير حادّة، ولا لذّاعة، ولا محرقة، كحرارة الغبّ. والنبض إذا قيس إلی النبض الذي يكون أوّل الأمر كان أسرع وأشدّ تواتراً وأعظم. وإذا قيس إلی نبض أصحاب الغبّ كان بطيئاً، متفاويتاً، كثير الصغر. والبول يكون مختلف اللون، غير نضيج. والعطش يكون أقلّ ممّا هو في الغبّ، وذلك لأنّه إنّما يعرض هاهنا بسبب اليبس فقط.

وأمّا في وقت انحطاط الحمّی، فالعرق الغزير. وهذه علامة إنّما تفرّق بين هذه الحمّی والحمّی المواظبة، لا بينها وبين حمّی الغبّ.

وأمّا التابع للحمّی: فالعرق، إلّا أنّه يكون أقلّ ممّا يكون في الغبّ. وإنّما يكون أيضاً عند انحطاطها وانقضائها.

والنبض: يكون أيضاً في وقت فترات الحمّی بطيئاً، متفاوتاً، أكثر ممّا هو عليه في الطبع، وذلك لبرودة الخلط السوداويّ. ويكون الاختلاف الذي الحمّی مخصوصة به بيّناً فيه.

المرّة السوداء: تتولّد في سنّ الكهول، وذلك لأنّ الأخلاط في سنّ الشباب تحترق، ويتحلّل لطيفها، ويغلب عليها اليبس. فإذا صار البدن إلی سنّ الكهول، ووافت هذه السنّ والأخلاط قد احترقت هذا الاحتراق، ويبست هذا اليبس، زادتها يبساً واحتراقاً، فانقلبت وصارت مرّة سوداء.

والمرّة السوداء: تتولّد في وقت الخريف لسببين: أحدهما أنّ هذا الوقت

يوافي البدن، وقد احترقت أخلاطه في الصيف ويبست، فيخفيها فيه ولا يدعها تنحلّ بسبب ما يحدثه من تكاثف البدن، ويزيده أيضاً غلظاً ويبساً وبرودة.

والسبب الآخر: أنّ هذا الوقت مختلف المزاج. ففي وقت الظهر من كلّ يوم يكون الهواء فيه شديد الحرارة. وهذه الحرارة تحرق الأخلاط وتيبّسها. وفي وقت الغداة ووقت العشاء يكون الهواء بارداً برداً شديداً، فتحتقن تلك الأخلاط بهذا البرد، ولا تنحلّ، ويزيد مع هذا غلظها، ويبرّد، وتصير مرّة سوداء.

[الاستدلال علی حمّی البلغم]

العلامات الدالّة علی الحمّی المواظبة في كلّ يوم، بعضها يستخرج ممّا هو في الطبع، وبعضها ممّا ليس هو في الطبع، وبعضها ممّا هو خارج عن الطبع.

أمّا ما هو في الطبع: فالمزاج البلغميّ، وسنّ الصبيان، والشيوخ، ووقت الشتاء، والبلد وحال الهواء الباردان الرطبان.

وأمّا ما ليس في الطبع: فالدعة، والشره، والبطالة، والراحة، والتخم، والاستحمام الكثير، ولا سيّما بعد الطعام.

وأمّا ما هو خارج عن الطبع: فوجع المعدة، وقلّة العطش مع رطوبة اللسان والبدن كلّه، وفترة نوبة الحمّی علی غير نقاء، وحال الحرارة، والنبض، والبول، والاستفراغ.

أمّا الحرارة: فتكون رطبة، وذلك لرطوبة البلغم وكثرته، وتكون مع رطوبتها حارّة، وذلك بسبب العفونة. لأنّ هذا الخلط إذا اشتعلت فيه الحرارة، ارتفع منه دخان، كما يرتفع لوقود الحطب الرطب. وتكون الحرارة دائماً لا يحسّها

اللامس لبدن المحموم ساعة يضع يده علی البدن، لكن بعد أن يمكث يده علی البدن مدّة طويلة. وذلك لأنّ الحرارة تخفي، وتكمن في باطن البدن، بسبب غلظ خلط البلغم، ولزوجته. حتّی إذا اتّسعت مسامّ البدن من حرارة اليد، ورقّت المادّة، تزيّدت الحرارة وظهرت سريعاً.

وأمّا النبض: فيكون أصغر كثيراً من نبض أصحاب الربع، وأشدّ تواتراً منه كثيراً.

والسبب في صغره: أنّ الخلط البلغميّ مع ما يحلّ من القوّة، ويضعفها ببرودته، قد يفعل بها ذلك أيضاً بكثرة مقداره. وذلك أنّ البلغم قاهر للمرّة السوداء ببرودته، وبكثرة مقداره كثيراً.

والسبب في شدّة تواتره: كثرة صغره. وذلك أنّ الذي فات من بلوغ الحاجة بعظم النبض، صار يتمّ بالتواتر.

وأمّا البول: فمرّة يكون أبيض رقيقاً، ومرّة يكون أحمر ثخيناً كدراً.

وأمّا الاسفراغ: فيكون بالقيء دائماً، ويخرج به بلغم، ولا يكون بالعرق، بل تكون فترات نوائب الحمّی بلا عرق، وذلك لغلظ البلغم، ولزوجته. ومن أجل ذلك لا تكون فترات نوائب هذه الحمّی بغتة، مثل فترات نوائب الغبّ، والربع.

مزاج الشيوخ: بالطبع بارد يابس، أعني نفس جوهر أعضائهم الأصليّة. ومزاجهم من طريق ما يتولّد في أبدانهم من الفضل بارد رطب، وذلك لأنّهم لا يستمرئون غذاءهم استمراء جيّداً، فيتولّد منه في أبدانهم بلغم، والسبب في ذلك ضعف الحرارة الغريزيّة فيهم. لأنّ البلغم إنّما هو غذاء قد نضج نصف نضجة.

ومزاج الصبيان: بالطبع معتدل الحرارة، إلّا أنّه أرطب من المزاج المعتدل، فهم لذلك أضعف أبداناً من الشباب. ولم تجعل هذه الرطوبة فيهم بغير معنی، بل إنّما جعلت لأنّهم يحتاجون إلی فضل رطوبة لمكان النموّ. وأمّا بطريق العرض

فقد يجتمع في أبدانهم بلغم كثير لسوء تدبيرهم، وكثرة نهمهم، ورغبتهم ولرطوبتهم الطبيعيّة، فإنّها معينة للرطوبة العرضيّة.

كلّ استحمام يكون بالماء العذب فهو يرطّب البدن، إمّا أنّ ما يكون منه من قَبل الطعام أقلّ ترطيباً. والذي يكون بعد الطعام، إن كان من بعد أن يستمرئ الطعام، فإنّما يرطّب الأعضاء برطوبة طبيعيّة، أعني بالدم، ولذلك صار الأطبّاء يأمرون من يحتاج بدنه إلی الترطيب أن يستعمل الحمّام بالعشيّات.

وإن كان هذا الاستحمام الذي بعد الطعام قبل أن يستمرئ الطعام، فإنّما يرطّب الأعضاء برطوبة خارجة عن الطبع، أعني بالبلغم، يحدث فيه سدداً.

وذلك أنّه يضطرّ الطعام إلی النفوذ والوصول إلی البدن وهو غير مستحكم النضج. وإذا كان كذلك، فهو بلغم.

الحمّی المواظبة: لا تكاد علی الأمر الأكثر أن تكون فترات نوائبها بغتة. وربّما كانت في الندرة بغتة، إذا اجتمع لها هذه الثلث: أعني قلّة مقدار البلغم، ورقّته، وتخلخل البدن.

نبض العروق: يكون في الحمّيات الغبّ أعظم منه في الحمّيات المواظبة، إلّا أنّه يكون أشدّ تفاوتاً. ويكون في الحمّيات المواظبة أصغر منه في الحمّيات الربع، إلّا أنّه أشدّ تواتراً. ويكون فيهما جميعاً متساوياً في الإبطاء.

والعطش: يكون في حمّيات الغبّ شديداً، لأنّ في هذه الحمّی قد اجتمع الشيئان الفاعلان للعطش، أعني الحرارة واليبس. وفي الربع قد يكون العطش، إلّا أنّه لا يكون شديداً. وذلك لأنّ هذه الحمّی إنّما فيها من أسباب العطش سبب واحد، أعني اليبس. وأمّا الحمّی المواظبة فليس يكون فيها عطش، لأنّ الخلط الفاعل لها ليس فيه من أسباب العطش ولا واحد، إذ كان بارداً رطباً.

البول: يدلّ علی الأوقات الكلّيّة من جملة المرض، وعلی نوع الحمّی منذ أوّل أمرها. أمّا دلالته علی الأوقات الكلّيّة من جملة المرض، فإنّه إن كان لم ينضج أصلاً، فهو يدلّ علی ابتداء المرض. وإن كان قد تبيّن فيه من علامات النضج شيء خفيّ، ضعيف، فهو يدلّ علی تزيّد المرض وصعوده. وإن كان قد تبيّن فيه شيء

راسب أبيض مستوٍ أملس، فهو يدلّ علی منتهی المرض. وإن كان قد نضج غاية النضج، فهو يدلّ علی انحطاط المرض.

وأمّا دلالته علی نوع الحمّی منذ أوّل الأمر: فإنّه يكون في الحمّی المواظبة مرّة رقيقاً أبيض، ومرّة ثخيناً كدراً أحمر.

أمّا رقّته: فبسبب السدد. وذلك أنّ السدد تمنع الشيء الثخين من الانحدار والخروج مع البول، فيصفّي البول، ولا يخرج منه إلّا ما رقّ فحسب.

وأمّا بياضه: فبسبب ما غلبه لون الرطوبة المائيّة بالطبع، وبسبب أنّ الغذاء لا يستمرئ، وبسبب أنّ البلغم قد كثر وغلب علی البدن.

وأمّا ثخنه وكدورته في وقت آخر: فبسبب أنّ الطبيعة إذا فتحت تلك السدد، دفعت تلك الرطوبات الغليظة التي كانت تسدّ المجاري وأخرجتها في البول.

وأمّا حمرته: فبسبب أنّ هذه الرطوبة الغليظة التي كانت قد بقيت، وسدّدت، لمّا طال مكثها، سخنت كثيراً، وتعفّنت.

وأمّا في حمّی الغبّ: فيكون إمّا أحمر ناصعاً، وإمّا مائلاً إلی الحمرة الناصعة. وذلك يكون عندما يتلوّن بلون المرّة.

وأمّا في الحمّی الربع: فإنّ البول يكون في وقت دون وقت علی حال دون حال، وذلك بسبب الأشياء المتولّدة من الاحتراق الذي قلنا إنّ المرّة السوداء تتولّد منه. إلّا أنّه كيف كانت الحال في البول، فهو غير نضيج. وذلك لأنّ الخلط السوداويّ لا يجيب منذ أوّل الأمر، ولا يطاوع القوّة المغيّرة، لأنّه غليظ عسر الاستحالة والتغيّر.

وجملة هذا القول بإيجاز: أنّ البول يكون في الحمّی المواظبة إمّا أبيض لطيفاً، وإمّا أحمر غليظاً كدراً، وفي الغبّ إمّا أحمر ناصعاً، وإمّا مائلاً إلی الحمرة الناصعة، وفي الربع كثير التفنّن، غير نضيج.

العلامات الدالّة علی أنّ الحمّيات دائمة هي: ألّا يكون في الحمّی شيء من العلامات

الخاصّيّة بالحمّيات المفتّرة، وهي: النافض، وسكون الحمّی عند انقضاء النوبة، والاستفراغ بالعرق، وأن تكون الحمّی لا تقلع بعد أربع وعشرين ساعة، وأن يكون في نبض العروق الاختلاف الذي في الحمّی مخصوصاً بها بيّناً، ويكون هذا غير منتظم، وعلی غير وزن. وإنّما يكون كذلك، لأنّ المادّة محصورة في داخل العروق، فليس تنحلّ لكثافة جرم العروق، فهي لذلك تؤذي الطبيعة، وتشغلها،

وتثقل عليها أكثر.

العلامات الدالّة علی أنّ الغبّ تطول هي خمس:

إحداها: أن تكون الحمّی تتزيّد تزيّداً علی غير استواء، لأنّ هذا منها يدلّ علی أنّها ليست من المرّة وحدها، بل من أخلاط مختلفة تحتاج الطبيعة في إنضاجها إلی زمان طويل.

والثانية: أن تكون الحمّی تتزيّد تزيّداً علی استواء، لأنّ هذا ممّا يدلّ علی أنّ المادّة قد أثقلت الطبيعة، وأنّها غليظة.

والثالثة: أن تكون حرارة الحمّی مفدونة في قعر البدن، لأنّ هذا يدلّ علی أنّ البلغم قد خالطها، فهو بسبب برودتها عسراً ما تشتغل فيه الحرارة، وبسبب غلظه عسراً ما يرقّ، ويلطف، ويذوب.

والرابعة: أن يكون البول، والرجيع لا تتبيّن فيهما إلی اليوم الثالث، أو الرابع علامة نضج أصلاً.

والخامسة: أن يكون وجه المريض وسائر بدنه ليس يتبيّن فيهما هزال، لكن يكونان ممتلئين، منتفخين، لأنّ هذا يدلّ علی امتلاء. وذاك أنّ حرارة الحمّی تذيب الأخلاط، وتحلّها، وتوسّعها، فتأخذ موضعاً أكبر، فيمتلئ بها سائر البدن، وينتفخ.

الحمّيات المفتّرة ثلث، أعني: الغبّ، والربع، والمواظبة.

والغبّ: حادّة، وليس صاحبها منها علی خطر. أمّا حدّتها، فللطافة المادّة الفاعلة لها. فإنّها للطافتها يمكن أن يسهل نضجها، واستفراغها. وأمّا أمنها

فلحدّتها، أعني لقلّة مكثها، وقصر مدّتها. وذلك أنّها تقلع سريعاً، وتدع الطبيعة من غير أن تضعفها، ولأنّها تنوب يوماً ويوماً لا. فإذا أتعبت الطبيعة في يوم النوبة، أراحتها في اليوم الآخر. ولأنّ مادّتها خفيفة، أعني المرّة الصفراء، فلذلك لا تثقل الطبيعة.

وأمّا الربع: فطويلة، وصاحبها منها في أمن. أمّا طولها فلغلظ المرّة السوداء وبرودتها، وذلك أنّها تحتاج إلی مدّة طويلة حتّی تنضج. وأمّا أمنها، فلطول المدّة بين نوائبها. وذاك أنّها إذا أتعبت الطبيعة في يوم نوبتها، أراحتها بفتورها عنها يومين.

وأمّا الحمّی المواظبة: فطويلة، وصاحبها منها في خطر. أمّا طولها فلأنّ البلغم الذي عنه تحدث غليظ، لزج، بارد، عسر النضج، عسر التحلّل.

أمّا خطرها فلأنّها تتعب الطبيعة، وتكدّها في كلّ يوم، ولا تفتّرها، ولا تدعها تستخرج ولا يوماً تامّاً، ولأنّ فم المعدة في أكثر الحالات يعتلّ معها. ومن شأن هذا، إذا اعتلّ، أن يجلب علی صاحبه الغشي، والامتناع من الطعام والشراب، ولا يستمرئ شيئاً ممّا يتناوله، ولأنّها لا تنقضي سريعاً، بل تطول مدّتها زماناً طويلاً، وذلك لكثرة البلغم في البدن، ولغلظه، وللزوجته، ولبرودته.

الحمّيات المفتّرة: منها خالصة، ومنها غير خالصة. والخالصة هي التي يوجد فيها جميع ما يوافق تولّد خلط واحد، ولا تظهر فيها إلّا علامات تدلّ علی خلط واحد.

وأمّا غير الخالصة: فهي التي لا تجتمع فيها الأشياء الموافقة لتولّد خلط واحد، لكن أشياء تدلّ علی تولّد خلطين. والأمر في علامات هذه أيضاً بيّنة أنّها تكون مختلطة تدلّ علی خلطين.

والغبّ: من الحمّيات التي ليست بخالصة تكون أطول مدّة منها إذا كانت خالصة. وذلك لأنّ الذي يخالطها حتّی تصير غير خالصة إنّما هو خلط بارد، غليظ، بمنزلة البلغم.

وأمّا الربع والمواظبة: فمدّتها تقصر إذا كانتا غير خالصتين، وذلك لأنّ الذي تصير به كلّ واحدة من هاتين غير خالصة إنّما هو علی الأمر الأكثر لمخالطة المرّة الصفراء.

فأمّا إن خالط المرّة السوداء — التي يحدث عنها الربع — بلغم، فالأمر فيها بيّن أنّها تكون أطول مدّة.

ولكن ما كان من التركيب والمخالطة علی هذا، فليس يتبيّن للحسّ، بل إنّما تتبيّن مخالطة المرّة لهذين الخلطين للعقل.

الغبّ: إن كانت خالصة، فنوبتها تنقضي في اثنتي عشرة ساعة، وما دون ذلك. وجملتها تنقضي في سبع نوائب، وما دون ذلك.

وإن كانت غير خالصة، فنوبتها تطول حتّی تبلغ أربعاً وعشرين ساعة. وجملتها تمتدّ، وتطول جدّاً.

وجالينوس في هذا الموضع يتمثّل بفتیً أخذته هذه الحمّی في الخريف، فمكثت به إلی الربيع. وكانت نوبتها في أوّل الأمر تمكث سبع عشرة ساعة، ثمّ طالت حتّی بلغت أربعاً وعشرين ساعة.

يستدلّ علی جميع الحمّيات عامّة، مفتّرة كانت أم مطبقة، هل يطول أم

يسرع انقضاؤها، بعلامات من البول، والرجيع، وهيئة البدن، ومقدار الحرارة وحركتها، ونبض العروق، وحال الأشياء التي تدلّ باتّفاقها واختلافها.

أمّا البول والثفل: فإن تبيّن في كلّ واحد منهما علامات تدلّ علی نضج في أوّل العلّة، فالحمّی تقلع سريعاً. وإن تأخّرت هذه العلامات، فالحمّی تبطئ، وتطول.

وأمّا هيئة البدن: فإنّه إن كان مكتنزاً، كثيفاً، فالحمّی تطول. وإن كان متخلخلاً، سلساً، فالحمّی تقلع سريعاً.

وأمّا مقدار الحرارة: فإنّه إن كانت الحرارة كبيرة، فالحمّی تقلع سريعاً. وإن كانت يسيرة، فهي تطول.

وأمّا حركة الحرارة: فإنّه إن كانت الحرارة ساعة يضع الإنسان يده علی البدن، تلقاه، فالحمّی تقلع سريعاً. وإن كانت إنّما تلقی اليد بعد وضعها بوقت طويل، أو لا تلقی أصلاً، لكن تكون مندفنة في باطن البدن، فالحمّی تطول.

وأمّا نبض العروق: فإنّه إن كان النبض عظيماً مستوياً، فالحمّی تقلع سريعاً. وإن كان صغيراً، كثير الاختلاف، فهي تطول.

وأمّا الأشياء التي تدلّ باتّفاقها واختلافها: فبمنزلة الوقت الحاضر من السنة أنّه إن كان صيفاً أو ربيعاً، فالحمّی تقصر. وإن كان شتاء أو خريفاً، فهي تطول.

ويستدلّ علی الحمّی المفتّرة خاصّة، بمنزلة حمّی الغبّ: هل تطول، أم تقصر، من النافض، ومن طول نوبة الحمّی، ومن العرق.

أمّا النافض: فإنّه إن كانت معه رعدة شديدة، فالحمّی تقلع سريعاً، وإن كان معه، مكان الرعدة، اقشعرار، فالحمّی تطول.

وأمّا طول نوبة الحمّی: فإنّه إن كانت النوبة قصيرة، فالحمّی تقلع سريعاً. وإن كانت تطول، فالحمّی تطول.

وأمّا العرق: فإنّه إن كان كثيراً غزيراً، فالحمّی تقلع سريعاً. وإن كان نزراً يسيراً، فهي تطول.

وأمّا الأمراض كلّها عامّة: فإنّها تتعرّف الحال فيها علی ما وصفنا قبل: هل كلّ واحد منها طويل المدّة، أم هو حادّ، من الأعراض التي تظهر بعد، ومن تزيّد نوائب الحمّی، ومن الأشياء التي تدلّ باتّفاقها واختلافها.

قد يستدلّ بمقدار المرض من طريق سابق العلم علی ثلثة أشياء:

أحدها: عاقبة المريض، هل يؤول أمره إلی الموت، أم إلی الحياة.

والثاني: الوقت الذي فيه يكون انقضاء المرض، أو فناء الحياة.

والثالث: الوجه الذي به يكون التخلّص من المرض، هل يكون ذلك باستفراغ، إن كان قويّاً، أم بورم، إن كان ضعيفاً.

وذلك أنّا إذا قسنا المرض بالقوّة: إن وجدنا القوّة قاهرة للمرض، وهي أقوی منه، علمنا بسابق العلم أنّ المريض ينجو. فإن كان قهر القوّة للمرض وظهورها عليه كثيراً، فنجاة المريض تكون سريعاً. وإن كان ذلك يسيراً، فنجاته تكون بعد مدّة طويلة.

وإن وجدنا المرض قاهراً للقوّة، عالياً عليها، وأقوی منها، علمنا أنّ المريض يعطب. فإن كان قهره إيّاها وعلوّه عليها كثيراً، فالمريض يعطب

سريعاً. وإن كان ذلك يسيراً، فبعد مدّة طويلة.

العناية بمعرفة مقدار المرض ممّا ينبغي أن تقدّم، وذلك لكثرة ما في معرفتها لنا من الانتفاع بذلك، ولأنّها ممّا تعسر معرفته والوقوف عليه. إذ كانت ليس ممّا يعرف بالقياس، لكن بكثرة الدربة، والاحتناك في مباشرة الأعمال، ومشاهدة المرض.

وذلك أنّ كلّ واحد من الأمراض، علی ما قلنا قبل، إنّما يكون مقداره باجتماع الأمور الجزئيّة الموجودة في كلّ واحد منها خاصّة.

كلّ ما هو خارج عن المجری الطبيعيّ فهو يغيّر ما هو في الطبع. وهذا التغيّر إمّا أن يكون في مقدار الشيء، وإمّا في كيفيّته، وإمّا فيهما جميعاً.

فإن كان في كمّيّة الشيء، فإمّا أن يكون إلی الزيادة ويحتاج أن ينقص منه، وإمّا أن يكون إلی النقصان ويحتاج أن يزاد فيه.

وإن كان في كيفيّة الشيء فهو يحتاج أن يغيّر، ويقلب بكيفيّة مخالفة لتلك الكيفيّة الخارجة عن الطبيعة. مثال ذلك: أنّ التغيّر إلی الحرارة يحتاج إلی التبريد، والتغيّر إلی البرودة يحتاج إلی التسخين.

وإن كان التغيّر فيهما جميعاً، أعني في المقدار والكيفيّة، فهو يحتاج إلی الأمرين جميعاً. مثال ذلك: ما نجده في حمّيات العفن، وذلك أنّ كلّ واحدة منها تحتاج بسبب كيفيّة الحمّی، أعني الحرارة واليبوسة، إلی أشياء تبرّد، وترطّب. وتحتاج إلی استفراغ بسبب المادّة العفنة.

من حمّيات العفونة ما تكون الكيفيّة فيها أغلب، فتحتاج لذلك إلی التطفئة والتبريد والترطيب أكثر، بمنزلة الحمّی الغبّ.

ومنها ما تكون المادّة فيها أغلب. ولذلك تحتاج إلی استفراغ أكثر ممّا تحتاج إلی التطفئة، بمنزلة الحمّی الحادثة عن البلغم، وهي الحمّی المواظبة في كلّ يوم.

مداواة حمّی الغبّ: تكون بأشياء تغيّر، أعني أشياء تبرّد، وترطّب، وبأشياء تستفرغ المادّة بحسب ميلها: إمّا بالبول بمنزلة الماء الذي يطبخ فيه الكرفس والشبتّ، وإمّا بالإسهال بمنزلة الحقنة الليّنة، وإمّا بالعرق بمنزلة التمريخ، وإمّا بإخراج الدم بمنزلة الفصد.

ينبغي أن يقصد في استخراج كلّ خلط يحتاج أن يستفرغه إلی أمرين:

أحدهما: أن يستفرغه من الناحية التي هو إليها أميل.

والثاني: أن يكون الموضع الذي منه يستفرغه موضعاً موافقاً لذلك. وموافقته، أعني الموضع، تكون في ثلثة أشياء:

أحدها: وضعه: أن يكون محاذياً للموضع العليل علی استقامة: بمنزلة ما إذا

كانت العلّة في الجانب الأيمن أن يخرج الدم من الجانب الأيمن. فإنّه إن خرج الدم من الجانب الآخر، كان ذلك ممّا يضرّ.

والثاني: طبيعة الموضع: أن يكون ليس بموضع شريف. فإنّ ميل المادّة إلی المواضع الجليلة الخطر أمر يحمل صاحبه علی خطر من سوء العاقبة لعظم الآفة فيه.

والثالث: فعله الطبيعيّ: أن يكون من شأن العضو العليل أن يدفع ما يتولّد فيه من الفضل علی مجری طبيعته إلی ذلك العضو الذي منه يكون الاستفراغ. مثال ذلك: أنّه متی كان في الكبد خلط رديء مؤذٍ، فأردنا أن نستفرغه، فنحن نجد له ناحيتين يمكن أن يميل بالاستفراغ إليهما: إحداهما: ناحية البطن، والأخری: ناحية الكليتين والمثانة. إلّا أنّ ناحية البطن أقلّ موافقة لذلك، لأنّه ليس من شأن الكبد كثيراً أن تدفع ما يتولّد فيها من الفضل، وهي علی مجری

طبيعتها، إلی البطن. ولكن هذه الناحية ليس هي من قلّة الموافقة لاستفراغ ما في الكبد منها علی مثال ما عليه ناحية الرئة، والقلب، والصدر.

والاستفراغ من ناحية البطن إنّما يصلح أن يكون من وجهين: أحدهما من فوق بالقيء، والآخر: من أسفل بالإسهال.

وأمّا من ناحية الكليتين والمثانة فهي أكثر موافقة لاستفراغ ما في الكبد منها. لأنّ شأن الكبد بالطبع أن يدفع ما يتولّد فيها من الفضل إلی ناحية الكليتين والمثانة، ليخرج مع البول إلی خارج.

المرّة الصفراء في حمّی غبّ إن مالت إلی فم المعدة، فيجب أن تستفرغ بالقيء. وإن مالت إلی الأمعاء، فيجب أن تستفرغ بالحقن الليّنة. وإن مالت إلی العروق والكبد فينبغي أن تستفرغ بما يدرّ البول. وإن مالت إلی ظاهر البدن، فيجب أن تستفرغ بالعرق.

في الأفسنتين قوّتان: إحداهما قابضة، والأخری مسهلة. ولذلك صار متی استعمل، والمرض لم ينضج، زاد المادّة بقبضه تقبيضاً، وعسر التحلّل. فيحدث من ذلك شبيه بالعقال. وذلك لأنّ القوّة المسهلة التي فيه تحرّك المادّة وتزعجها للخروج بالإسهال، والقوّة القابضة تزيد المادّة امتناعاً، وفي ذلك علی الطبيعة مؤونة وأذیً بما ينالها من التعب منهما جميعاً.

ومتی استعمل بعد نضج العلّة، وبعد أن قد لطفت المادّة، ورقّت، وصارت مطاوعة، مسارعة إلی الإسهال، صارت قوّتا الأفسنتين كلتاهما معينتين في الإسهال، أعني القوّة المسهلة والقوّة القابضة. أمّا المسهلة فبطبيعتها، وأمّا القابضة فبأنّها تجمع القوّة الدافعة وتقوّيها بما تشدّ من جوهر

الأعضاء، فتعينها بذلك علی دفع المادّة، وبأنّها تعصر المادّة، وتخرجها بقبضها علی جوهر العضو.

من الاستحمام ما يكون بالماء العذب. وما كان كذلك، فهو يبرّد، ويرطّب، ويحلّل أيضاً، ويفشّ. ومنه ما يكون بماء البحر، أو ماء ملح.

وما كان كذلك، فهو يحلّل، ويجفّف، ويفشّ.

الاستحمام في الحمّام من شأنه أن يسخن البدن البارد، وأن يبرّد البدن الحارّ، وأن يرطّب البدن اليابس، وأن يجفّف البدن الرطب.

أمّا تسخينه البدن البارد فبكثرة تحليله بحرارة هوائه، وبالتمريخ الذي يتمرّخه الإنسان فيه، وبالحرارة التي يقبلها البدن من هواء الحمّام، ومن الجلوس في أبزن الحمّام الحارّ بطريق العرض، وبحبسه أيضاً ما يتحلّل من البدن عند دخول الإنسان الأبزن البارد.

وأمّا تبريده البدن الحارّ فبما يحلّل من حرارة البدن بتوسيعه مسامّه، وبتعديله مزاجه لترطيبه إيّاه، وبما يكسبه من البرودة من وجهين: أحدهما: برودة بالفعل من أبزن الماء البارد، والآخر: برودة بالقوّة من أبزن الماء الحارّ. وذلك أنّ الماء الحارّ — وإن كان بالفعل، أعني عند الحسّ، حارّاً — فإنّه بالقوّة، أعني في طبيعته، بارد.

وأمّا ترطيبه للبدن اليابس فبالماء. وأمّا تيبيسه للبدن المرطوب فبما يحلّل منه بحرارة هوائه.

حمّی الغبّ تداوی بالأشياء المطفّئة. إلّا أنّ الأشياء المطفّئة منها ما تطفئته بالطبع، وبالقصد الأوّل، ومنها ما تطفئته بطريق العرض، وبالقصد الثاني. ومنها ما يطفّئ بالوجهين جميعاً، أعني بالطبع، وبالعرض.

أمّا الأشياء المطفّئة بالطبع فبمنزلة الأشياء المبرّدة، مثل الخسّ، وكشك الشعير، وشرب الماء البارد.

وأمّا الأشياء المطفّئة بطريق العرض فهي الأشياء التي تستفرغ المادّة الفاعلة لهذه الحمّی، بمنزلة طبيخ الكرفس والشبتّ والأفسنتين.

وأمّا الأشياء التي تطفّئ بالوجهين جميعاً فبمنزلة الاستحمام في الحمّام. فإنّه يبرّد، ويطفّئ بالطبع لمكان الماء، وبطريق العرض لما يستفرغ الحمّام من المادّة الفاعلة للحمّی، وهو مع هذا يرطّبه.

أمّا التمريخ بالدهن المسخن فيفعل شيئين: أحدهما: أنّه يحلّل المادّة الفاعلة للحمّی. فمن هذا الطريق هو يبرّد بالعرض. والآخر: أنّه يرطّب الأعضاء الأصليّة.

وقد ينبغي أن نلتمس في جميع الأشياء التي يداوی بها المرض، إن أمكن، علی ما أمر بذلك بقراط، أن نساعد المريض، ونتبع شهوته في بعض الشيء، وننحو نحو عادته في بعض الشيء.

فيجب — بحسب هذا — في حمّی الغبّ أيضاً أن يعمل في الاستحمام علی أن نتبع شهوة المريض ومحبّته. فإن أراد أن يسبح في الأبزن، أطلقنا له ذلك. فإنّه مع ما لا يضرّه، قد ينتفع به. لأنّ استلذاذه إّيّاه ممّا تتّسع به مسامّ البدن، فيكون التحلّل أكثر، ووصول قوّة الماء إلی الأعضاء أبلغ.

ونتبع أيضاً عادته. فإن كان ممّن اعتاد أن يستحمّ في اليوم الواحد مرّتين، فعلنا به ذلك، فأذنّا له في الاستحمام في المرّة الأولی بسبب مرضه، وفي المرّة الثانية بسبب عادته.

إذا كانت الحمّی غبّاً خالصة، فقد ينبغي أن نطلق للمحموم أن يستحمّ قبل أن تتبيّن علامات النضج. وذلك لأنّ الأغلب في هذه الحمّی إنّما هو في الكيفيّة، لا المادّة. مع أنّ المادّة أيضاً سهلة التحلّل، وليس يتخوّف منها أن تتحلّل وتذوب من غير أن تنحلّ وتنفشّ، فيحدث عنها بسبب ذلك سدد.

وأمّا إن كانت غبّاً غير خالصة، أو مواظبة، أو ربعاً، فليس ينبغي أن يطلق له الاستحمام دون أن تتبيّن علامات النضج. وذلك أنّه لمّا كان الأغلب في

هذه الحمّيات إنّما هو المادّة، وكانت هذه المادّة أيضاً عسيرة التحلّل، صار الاستحمام قبل ظهور علامات النضج ما لا ينبغي لنا أن نفعله، كيما لا يعرض للمادّة، إذا هي ذابت، وانتشرت من غير أن تنحلّ، أن تحدث سدداً، وتفسد أيضاً ما في البدن ممّا ليس بفاسد، بمخالطتها إيّاه عند انتشارها.

فإذا نضجت، ورقّت، ولطفت، وسهل تحلّلها، فحينئذٍ ينبغي أن يدخل المريض الحمّام.

وكذلك الأمر في الشراب. إن كانت حمّی المحموم حمّی من حمّيات العفونة، فإنّه إن يسقی شراباً قبل أن تنضج علّته، تزيّدت به الحمّی، وقويت، ولا سيّما إن كانت غبّاً. وذلك لأنّه يزيد في مادّتها. وإذا هو أيضاً أذاب المادّة، زاد

في السدد، وقواها. فأمّا إن سقي المحموم بهذه الحمّی شراباً من بعد أن قد نضجت علّته، انتفع به من وجوه: أحدها: أنّه يوصل الماء الذي يمرّخ به، ويسهل له النفوذ إلی الأعضاء ليبرّدها، ويرطّبها. لأنّ الماء إذا انفرد وحده، عسر نفوذه ووصوله إلی الأعضاء. والثاني: أنّه يسدّد، ويحرّك جميع الاستفراغات بالبول والعرق. والثالث: أنّه يقوّي القوّة. والرابع: أنّه يصلح مزاج الأخلاط باعتدال مزاجه. والخامس: أنّه يغذو البدن.

وينبغي أن يكون الشراب الذي يسقاه صاحب حمّی الغبّ رقيقاً، لطيفاً، سهل النفوذ، مكسوراً بالماء، ليس بعتيق، ولا حارّ بالطبع، ويكون لونه أبيض.

ويكون ما يتناوله صاحب الغبّ من الطعام ما كانت كيفيّته مرطّبة، مبرّدة، وكمّيّته بمقدار ما يمكن المريض أن يستمرئه. وذلك أنّه إذا كان المريض يقدر أن يستمرئ طعاماً كثيراً، فينبغي أن يطعم كثيراً.

والطعام الكثير صنفان: فمنه ما وإن كان مقداره يسيراً فما يناله البدن من غذائه كثيراً بالقوّة، بمنزلة خصی الديوك، ومحّ البيض، أو بالفعل، بمنزلة كشك الشعير. ويقال لهذا كثيراً بالفعل، أي عند الحسّ. وإن كان المريض

إنّما يقدر أن يستمرئ من الطعام اليسير، فينبغي أن يكون ما يطعم قليلاً بالقوّة وبالفعل جميعاً، مثل اليسير من كشك الشعير.

وما يطعم صاحب الغبّ من الطعام بعضه يراد به أن يغذو ويرطّب فقط، ولا يقصد به إلی أن يبرّد، بمنزلة خصی الديوك، وصفرة البيض، ولحوم الطير، وبعضه يراد به أن يغذو، ويرطّب، وأن يبرّد معاً، بمنزلة السمك الرضراضيّ. وبعضه يراد به أن يغذو، ويرطّب، ويبرّد، وينقّي المادّة الفاعلة لها بما فيه من قوّة الجلاء، وأن يغذو البدن فهو لذلك يقوّی.

ينبغي أن يغذی صاحب الغبّ بأشياء من النبات، وأشياء من الحيوان. والذي من النبات بعضه يكون من الحبوب، وبعضه من الثمار، وبعضه من

البقول. أمّا من الحبوب: فالشعير، والخندريس. وأمّا من الثمار: فالقرع، والقثّاء، والخيار. وأمّا من البقول: فالخسّ، والقطف، والبقلة اليمانيّة، والملوكيّة، وهو الخبّازی البستانيّ. وأمّا الذي من الحيوان: فبعضه من الحيوان الذي يسبح، وهو السمك الرضراضيّ، وبعضه من الحيوان الطائر، الرخص اللحم، بمنزلة الفراريج، ومخاليف الدرّاج، وأجنحة الدجاج، والدرّاج الصغار، وخصی الديوك وصفرة البيض. وبعضه من الحيوان الذي يمشي، بمنزلة كوارع الخنازير، وأدمغتها.

السمك: منه ما مأواه الرضراض، والمواضع الصخريّة، ويقال له: الرضراضيّ، وهو أفضل السمك كلّه، وذلك لأنّ أمواج البحر إذا صاكت الصخر

والرضراض، أخرجت السمك الذي يأويه إلی أن يتحرّك حركة متواترة. والحركة تفني منه الفضول العفنة.

ومنه ما مأواه شاطئ البحر، وهي أردأ السمك، لأنّه إنّما يغتذي الحمأة، ولا سيّما إن كان ذلك البحر بقرب مدينة تنصبّ إليه فضلاتها وأقذارها.

ومنه ما مأواه في لجّة البحر ووسطه، وهو وسط في طبيعته. وذلك أنّه ليس بالرديء، كرداءة ما يأوي من السمك شاطئ البحر، إذ كان ليس يحصل من الغذاء علی مثل ما يحصل عليه ذاك من الاغتذاء بالحمأة، ولا هو أيضاً بالجيّد كجودة السمك الرضراضيّ، لأنّ حركته، ورياضته أقلّ من حركة ذاك ورياضته.

الذي ينبغي أن يطعمه المريض من الطائر، إن كان ممّا لحمه رخصاً بمنزلة الدجاج، والدرّاج: لحم الأفخاذ، بعد أن يكون ما يختاره من هذا الطائر صغاره،

لأنّ الصغار أكثر رطوبة، وأسهل انهضاماً. وإن كان ممّا ليس لحمه رخصاً، ولا سهل الانهضام، فينبغي أن يكون ما يطعمه المريض منه أجنحته. لأنّ الأجنحة عند الطيران تتحرّك، وترتاض، فتفني فضولها.

خصی الديوك: تولّد دماً جيّداً، وتغذو غذاء كثيراً، والذي فيها من الفضول يسير.

وإنّما يختار لصاحب الغبّ من جميع الحيوان الماشي لحم الخنزير، لأنّه أرطبها. ويختار من أعضاء الخنزير: الأكارع، والدماغ، لأنّ في كلّ واحد منهما موافقة ليست في غيره. أمّا الأكارع، والدماغ، فإنّ الذي فيه من الفضول يسير، وذلك لكثرة حركته في المشي، ورياضته. وهو أيضاً مع هذا ممّا العصب أغلب الأشياء عليه، فهو لذلك بارد. وأمّا الدماغ فإنّه بارد، رطب.

وقد ينبغي أن تتوقّی إطعام الدماغ من كان به غثيان، أو كانت نفسه متقلّبة، لأنّ الدماغ يغثي، ويضرّ بالمعدة.

وأمّا البيض: فبياضه يبرّد، ويرطّب. إلّا أنّ غذاءه أقلّ. وصفرته ترطّب، وتغذو، إلّا أنّها لا تبرّد.

الأشياء التي تطبخ ما كان منها من جنس اللحم والحبوب والبقول فهو كلّ ما زيد في طبخه، كان أسرع انهضاماً. وذلك لأنّه كلّما طبخ، رطب.

وأمّا البيض وبياضه خاصّة فإنّه كلّما زيد في طبخه، كان انهضامه أشدّ عسراً. وذلك لأنّه كلّما طبخ ازداد يبساً وصلابة. ولذلك قد ينبغي متی أردنا

أن يسهل استمراؤه في المعدة أن يقلّ طبخه، حتّی يكون في حدّ ما يتحسّی.

وأمّا حمّی الغبّ التي ليست بخالصة، فينبغي أن يكون ما تطعمه المريض، وتغذوه به، يجري علی حذر، وتوقٍّ شديد. وذلك لأنّ الغذاء ممّا يزيد في القوّة ويقوّيها، ويزيد أيضاً في المرض، ويعظّمه. والإمساك عن الغذاء ممّا ينقص من المرض، ويخفّفه، إلّا أنّه يضعف القوّة، ويجحف بها. وينبغي لنا أن نستعمل الإمساك عن الغذاء إذا كانت القوّة قويّة، والمرض عسر النضج. وأن نستعمل الغذاء المعتدل إذا كانت القوّة ضعيفة والمرض ليس بكثير البعد عن النضج.

وأمّا ما كان من الغذاء لطيفاً فهو ينقص من المرض، ويجحف بالقوّة. وما كان

منه غليظاً فهو يزيد في القوّة ويزيد في المرض. وما كان منه معتدلاً قصداً فهو يحفظ القوّة ولا يزيد في المرض.

الأمراض صنفان: منها حادّة، ومنها مزمنة. فما كان من الأمراض مزمناً، فينبغي أن يكون تدبير صاحبه تدبيراً غليظاً كيما لا تخور القوّة، وتضعف بطول مكث المرض.

والغذاء الغليظ هو بمنزلة الخندريس، والبيض، والسمك.

وأمّا الأمراض الحادّة فينبغي أن يكون التدبير فيها علی حسب طبقاتها. وذاك أنّها ثلث طبقات: فمنها ما هو حادّ في الغاية القصوی، أعني ما كان بحرانه لا يجاوز اليوم الرابع. ومنها ما هو حادّ جدّاً، وليس في الغاية، فهو ما لا يجاوز بحرانه اليوم السابع. ومنها ما هو حادّ مطلق، ليس في الغاية جدّاً، وهو ما تبلغ به المدّة اليوم الرابع عشر، أو العشرين.

فما كان من الأمراض الحادّة التي لا تجاوز اليوم الرابع، فينبغي، إن كانت قوّة صاحبه قويّة، أن يدبّر بالتدبير اللطيف في الغاية القصوی، وهو أن لا يغذی بشيء أصلاً.

فإن كانت قوّته ضعيفة، فينبغي أن يغذی بالغذاء الذي هو لطيف، لكن ليس في الغاية، بمنزلة ماء العسل.

وأمّا ما كان من الأمراض الحادّة لا يجاوز اليوم السابع، فينبغي، إن كانت قوّة صاحبه قويّة، أن يغذی بالغذاء الذي هو لطيف جدّاً، لكن ليس في الغاية، بمنزلة ماء العسل. وإن كانت قوّته ضعيفة، فينبغي أن يغذی بالغذاء اللطيف المطلق، بمنزلة ماء كشك الشعير.

وأمّا ما كان من الأمراض الحادّة يبلغ اليوم الرابع عشر، أو اليوم العشرين فيجب، إن كانت قوّة صاحبه قويّة، أن يغذی بالغذاء اللطيف المطلق، وهو ماء كشك الشعير. وإن كانت قوّته ضعيفة، فينبغي أن يغذی بالغذاء الذي ليس بكثير اللطافة، بمنزلة ماء الشعير مع حبّه.

ينبغي أن يدخل صاحب الغبّ التي ليست بخالصة الحمّام ليستحمّ من بعد أن تنضج علّته. وذاك أنّه إن دخل، واستحمّ قبل نضج العلّة، ناله من ذلك ثلثة مكاره:

أحدها: أنّ المادّة الفاعلة لهذه الحمّی، لمّا كان يخالطها خلط غليظ بلغميّ، متی ذابت، وتحلّبت، ولم تنحلّ، صارت سبباً للزيادة في السدد والعفونة.

والثاني: أنّ المادّة المتعفّنة المحصورة في عضو واحد، متی ذابت،

وانتشرت بحرارة الحمّام، اختلطت بما في البدن من الموادّ النافعة، وعفّنتها.

والثالث: أنّ الحمّام، إذا حلّل من المادّة لطيفها، بقي غليظها الذي يعسر تحلّله.

ينبغي أن تغذو صاحب الغبّ التي ليست بخالصة إن كان في قوّته محتملاً، وكانت عادته موافقة لذلك أن يغذی يوماً ويوماً لا، ليكون اليوم الذي يغتذي فيه ممّا تقوی به قوّته، واليوم الذي لا يغتذي فيه ممّا ينقص من مرضه بإفناء المادّة.

وإن لم تكن قوّته تحتمل ذلك، وليست عادته تجيب إليه، فينبغي أن يغذی في كلّ يوم، ويكون غذاؤه ألطف.

وقد ينبغي أن يستعمل في هذه الحمّی الهدوء والسكون، وذلك أنّ من شأن الحركة أن تذيب المادّة، وتنشرها، فتحدث عنها تلك المكاره التي ذكرناها، وتمنع أيضاً الطبيعة من إنضاجها. ومن شأن السكون أن تبقی معه المادّة في موضعها إلی أن تنضجها الطبيعة.

وقد ينبغي أيضاً أن تكمّد مراقّ صاحب هذه الحمّی بالأضمدة التي تنضج ما في البطن والمعدة من البلغم، وترخي ما يحدث في البطن من التمدّد بسبب البلغم.

وقد ينبغي أن يحسی صاحبها الأحساء التي يسرع انهضامها جدّاً. وذلك أنّه إن تناول شيئاً ممّا يعسر انهضامه، ضعفت بذلك قوّته، وطالت به علّته. لأنّه إذا لم يستمرئ، استحال إلی البلغم، وصار زائداً في مادّة الحمّی. فتصير الحمّی بذلك أطول.

والذي ينبغي أن يستعمل من الحقن في الغبّ الخالصة الحقنة الليّنة، لأنّ الخلط الفاعل لهذه الحمّی لطيف، سهل الاستفراغ. وفي الغبّ التي ليست بخالصة الحقن الحادّة، لأنّ الخلط الفاعل لها لزج، عسر الاستفراغ، وذلك بسبب البلغم.

ينبغي في الحمّی الغبّ التي ليست بخالصة، إن كان الدم كثيراً غالباً، أن يفصد لصاحبها عرق.

والأمر في فصد العرق بيّن أنّه إنّما يكون إذا كانت القوّة قويّة، والسنّ

منتهی الشباب، والزمان معتدلاً، بمنزلة الربيع.

وإن كان الغالب فيها خلط البلغم، فينبغي أن يداوی بالأشياء التي تقطع، وتسخن برودته، ويصير مع ذلك سهل الخروج والاستفراغ. ومثال ما يفعل به ذلك: كشك الشعير بالفلفل، من طريق أنّه يجلو، وهو نافع لمثل هذه الحمّيات من طريق أنّه بارد رطب. فهو من هذا الوجه مطابق لمزاج البلغم،

زائد فيه: احتيج إلی أن تكسر هاتين الكيفيّتين منه بخلط الفلفل معه.

إذا كانت الغبّ خالصة، فينبغي أن يكون أعظم العناية بتطفئة سوء مزاج الحمّی، وقليل العناية باستفراغ الخلط الفاعل للحمّی.

وإذا لم تكن خالصة، فعظم العناية ينبغي أن يكون باستفراغ الخلط الفاعل للحمّی، وأقلّها بالتطفئة.

وقد ينبغي أن تداوی الغبّ التي ليست بخالصة مع سائر ما وصفنا بالأشياء المدرّة للبول.

وهذه الأشياء منها ما حرارته ويبسه كثير. وما كان كذلك، فليس يصلح

لمثل هؤلاء. وذلك لأنّها تزيد في حرارة الحمّی بحدّتها. وإذا هي أفنت ما في البلغم من الجزء الرطب، خلفت منه بقيّة غليظة أرضيّة عسرة التحلّل.

ومنها ما حرارته ويبسه باعتدال. وما كان كذلك، فهو أنفع لهؤلاء.

وقد ينتفع هؤلاء بشرب الأفسنتين الروميّ إذا شربوه من بعد اليوم السابع. أمّا الأفسنتين فلأنّه يستفرغ المادّة الفاعلة للحمّی، ويقوّي المعدة، لأنّها علی الأمر الأكثر تكون في هذه الحمّی ضعيفة، وهي السبب في تولّد البلغم، كمثل ما يتولّد فيها البلغم في الحمّی المواظبة. وأمّا بعد اليوم السابع فكيما لا يكون شربه قبل أن تتبيّن علامات النضج، فيحدث عنه ما وصفنا قبل من المكاره.

وينتفع أيضاً أصحاب الغبّ التي ليست بخالصة بالأشياء المليّنة للبطن. وهذه الأشياء منها أشياء مفردة، بمنزلة السفانخ، واللبلاب. ومنها أشياء مركّبة، بمنزلة الأخلاط التي يقع فيها شيء من السقمونيا.

وينبغي لهم أيضاً أن يستعملوا القيء بعد الطعام. لأنّ القيء قبل الطعام هو شيء يجري أمره علی الاستكراه الشديد، واستفراغه لما في المعدة يكون بمشقّة وعسر. والقيء بعد الطعام أمره سهل، واستفراغه لما في المعدة من الخلط الرديء أهون وأجود. وذلك لأنّ دفع الشيء الكثير أهون وأخفّ من دفع الشيء اليسير. ولذلك صار دفع الطبيعة الخلط الرديء مع الطعام أهون وأخفّ من دفعه وحده.

والثانية: أنّ الخلط الذي في المعدة إن كان من جنس المرار الحادّ اعتدل بممازجة الطعام له، ويسهل استفراغه. ولم يضرّ فم المعدة والمريء في ممرّه بهما، وخروجه منهما.

وإن كان من جنس البلغم الغليظ تقطع ورقّ بما في الطعام من القوّة الملطّفة. ومن أجل ذلك متی أردنا أن نستفرغ من المعدة بلغماً بالقيء إنّما نطعم من نريد به ذلك شيئاً من الطعام قوّته هذه القوّة.

وإذا كان الأمر علی ما وصفنا، فقد ينبغي لنا إن كان الدم هو الغالب علی صاحب الغبّ التي ليست بخالصة أن نفصد له عرقاً. وإن كان البلغم أغلب، فينبغي أن نغذوه يوماً ويوماً لا، ونجعل الغذاء غذاء ملطّفاً، بمنزلة كشك

الشعير مع شيء من الأدوية التي تقطع.

وتعالج المعدة من خارج بأشياء توضع عليها، وعلی البطن من الأضمدة، والنطولات التي تسخن، وتنضج، وترخي، وبالاستحمام في الحمّام من بعد ما ينضج العلّة.

ومن داخل بالأشياء التي تستفرغ المادّة.

والأمر في هذه بيّن أنّه إنّما ينبغي أن تستعمل من بعد ما تظهر علامات النضج.

وبعض هذه تستفرغ المادّة بإدرار البول، بمنزلة طبيخ الكرفس والسكنجبين.

وبعضها يفعل ذلك بإسهاله للبطن، بمنزلة الأفسنتين، والأشياء التي تطلق البطن، والحقن الحادّة.

وبعضها يفعل ذلك بالقيء من بعد تناول الأطعمة الملطّفة التي تجلو، بمنزلة كشك الشعير.

وكذلك الأمر في حمّی الربع. أنّه إن كان الدم فيها يری هو غالب علی صاحبها، فيجب أن يفصد له عرق من اليد اليسری. وإذا فصد العرق، نظر

إلی الدم، فإن كان أسود، أخرج علی ثقة من حسن العاقبة. وإن كان أحمر، قطع، لأنّ ما كان كذلك فهو دم نافع جيّد، وليس يؤمن علی صاحبه — إن استفرغ — أن تنحلّ قوّته، ويضعف باستفراغه من العلّة.

وإن لم يكن الدم غالباً، ففي أوّل الأمر ما دام الخلط الفاعل لهذه الحمّی غير نضيج، عاتياً، رديئاً، غليظاً، عسر الخروج، لا تجتذبه، ولا تستفرغه باستكراه. لأنّك متی فعلت به ذلك، ازداد عتوّاً ورداءة.

وإذا لم يقدر الدواء المسهل الذي يسقاه العليل أن يستفرغ الخلط السوداويّ، استفرغ غيره من الأخلاط النافعة التي يحتاج إليها، فيضرّ ذلك بالبدن من وجهين:

أحدهما: أنّه ينحي عنه الخلط الذي ينتفع بمقامه في البدن.

والآخر: أنّه يخلي الخلط الذي لا يحتاج إليه ولا ينتفع به، بل يضرّ، ويؤذي.

وأمّا فيما بعد ذلك — عندما تظهر علامات النضج — فيجب أن يسقی العليل الأدوية التي تستفرغ الخلط السوداويّ، بمنزلة الأفثيمون والخربق الأسود.

وأمّا الغذاء الذي يغتذي به صاحب الربع، فينبغي أن يكون جامعاً لخصال، بريئاً من خصال.

أمّا الخصال التي ينبغي أن يكون جامعاً لها فهي أن يولّد دماً جيّداً، وأن يلطّف، وأن يذهب النفخ، وأن يليّن البطن.

أمّا توليده الدم الجيّد فكيما يقهر الخلط الرديء ويعلو عليه. ولأنّ الخلط الرديء في هذه الحمّی بارد يابس، أعني الخلط السوداويّ، فقد ينبغي أن يكون الغذاء حارّاً رطباً، كيما يلطّف بحرارته، ويذيب، ويحلّ برطوبته. أمّا تلطيفه، فكيما يلطّف ويرقّ به هذا الخلط السوداويّ. وأمّا إذهابه للرياح وطرده لها، فلموضع ما يولّده الخلط السوداويّ من الرياح، والنفخ في المعدة، وفي الطحال. وأمّا إلانته البطن، فكيما تنفض ما يجتمع أوّلاً فأوّلاً، بمنزلة ماء الجبن، والعسل، والأحساء المتّخذة بالزيت، والمری، والبقول المليّنة للبطن.

وأمّا الخصال التي ينبغي أن يكون بريئاً منها فهي توليد الأخلاط الرديئة، أيّ الأخلاط كانت، وغلظ الجوهر. فإنّ الغذاء الغليظ يمنع الاستفراغ، ويزيد في الخلط السوداويّ. ومن هذه الخصال: البرودة، وتوليد النفخ، واليبوسة، وحبس البطن.

وينبغي أن يكون ما يتناوله صاحب الربع من الأغذية من الطير، ومن السمك، أمّا من الطير فما لم يكن طير الماء الذي يأوي الآجام. لأنّ كلّ طير مأواه الآجام ففي لحمه فضول، لأنّه إنّما يغتذي الحمأة. وأمّا من السمك فما سهل استمراؤه، ولان لحمه، ولم تكن له لزوجة، بمنزلة السمك المسمّی طريغلا، وسقاروا، وتسفوا في لغة اليونانيّين.

وإن لم تلن الطبيعة بالغذاء كما ينبغي، فليستعمل الحقن، ويستعمل منها أوّلاً الحقن الليّنة، كيما ترطّب يبوسة هذا الخلط، وتصلحه، وتهيّئه للاستفراغ. ثمّ من بعد هذه: الحقن القويّة، لأنّ غلظ هذا الخلط يحوج إلی أن يستكره علی الاستفراغ استكراهاً ليس باليسير. وذلك أنّه لا يجيب، ولا يطاوع إلّا بكدّ.

وينبغي أيضاً لصاحب الربع أن يتناول الطريخ. ولا يتناوله علی أنّه غذاء، لكن علی أنّه دواء. ويتناوله في الأيّام مرّة، كيما ينتفع بكيفيّته وجوهره. أمّا بكيفيّته فليرقّ، ويلطّف غلظ هذا الخلط السوداويّ. وأمّا بجوهره فبأن لا يزيد شيئاً في البدن زيادة لها قدر. لأنّ الخلط المتولّد من الطريخ إنّما هو سوداويّ. وذلك أنّ من طبيعة السمك البرودة، والغلظ من طبيعة الملح، ومن تقادم العهد اليبوسة.

وكذلك أيضاً ينبغي لصاحب هذه الحمّی أن يستعمل المعجونات الحارّة مرّة في الأيّام. والحاجة إلی استعمال المعجونات الحارّة هي أنّ هذه تلطّف بحرارتها الخلط السوداويّ. وأمّا الحاجة إلی أن يكون ذلك مرّة في الأيّام فهي ألّا تحمل بحرارتها علی الشيء اللطيف الرقيق فتفنيه، وتدع الشيء لغليظ، وتزيده يبساً،

ولا تذيب هذا الخلط السوداويّ دفعة، فيتضاعف شرّه.

ويجب لصاحب حمّی الربع أن يستعمل المشي، والتدليك بمقدار معتدل، لأنّه يمنكن أن تتّسع بهذين مسامّ البدن، وترقّ المادّة وتلطّف، فيتحلّل بعضها.

وأمّا الاستحمام: فإمّا ألّا يستعمله أصلاً، وإمّا إن هو استعمله، فليستعمل منه اليسير. وذلك أنّ الذي يعرض من الحمّام أنّ المادّة تذوب، وتنتشر، فيضرّ ذلك من ثلثة وجوه:

أحدهما: أنّ الشيء الرديء الذي لا ينتفع به يخالط الشيء الجيّد الذي ينتفع به، فيفسده.

والثانية: أنّه إذا تحلّل من المادّة لطيفها، صار باقيها غليظاً يعسر تحلّله واستفراغه.

والثالثة: أنّه إذا تأدّی، ووصل الشيء الغليظ بإزعاج الحمّام له إلی المواضع التي لم يكن يصل إليها من المجاري الضيّقة، يحدث فيها سدداً.

ينبغي أن ننظر في كلّ واحد من الحمّيات إلی منتهاها. فإن كان قريباً، جعل التدبير لطيفاً. وإن كان بعيداً، وكانت من الحمّيات التي تطول مدّتها، فينبغي

أن يكون التدبير في أوّل الأمر غليظاً، كما لا تخور القوّة، وتضعف قبل أن يبلغ المريض إلی منتهی مرضه. وكلّما قارب المرض منتهاه، أوّلاً فأوّلاً ينبغي أن ينقص من غلظ التدبير، ويزاد في لطافته بحسب ذلك. فإذا صار المرض إلی المنتهی، فينبغي أن يكون التدبير لطيفاً، كيما لا يشغل الطبيعة بهضم الغذاء، ويضطرّها بذلك إلی التقصير في مجاهدة المرض. حتّی إذا جاز المنتهی، رددنا التدبير إلی الغلظ أوّلاً فأوّلاً بمقدار ما زدنا في لطافته قبل المنتهی أوّلاً فأوّلاً. وذلك لأنّا نريد في هذا الوقت أن ننعش القوّة، ونغذيها، حتّی تستنفذ ممّا مرّ بها من الجهد.

فإذا صارت حمّی الربع إلی منتهاها، فينبغي أن يدبّر صاحبها بالتدبير اللطيف، وأن يستعمل الخفض والسكون، لأنّ الحركة من شأنها أن تقطع

الحركة الطبيعيّة، وتعوقها عن الجهاد، وأن يشرب الأدوية التي تنقص الخلط السوداويّ في ذلك الوقت، وتستفرغه، ويواتر شربها، لأنّ الخلط السوداويّ في ذلك الوقت قد نضج ورقّ ولطف واستعدّ وتهيّأ للخروج والاستفراغ بسهولة.

وينبغي أن يستفرغ الخلط السوداويّ، إن كان رقيقاً لطيفاً، بالخربق الأسود، والأفثيمون. وإن كان غليظاً فبالخربق الأبيض. لأنّ هذا الخربق من شأنه إخراج الخلط البارد الغليظ. وليس في البدن من الأخلاط علی هذه الصفة إلّا البلغم، والسوداء.

وينبغي أيضاً أن يسقی المريض في هذا الوقت درياقاً، لأنّه دواء يلطّف. وإن كان قد بقيت أيضاً من ذلك الخلط السوداويّ بقيّة استفرغها، وأخرجها، وحلّلها.

ويسقی أيضاً من الأدوية ما هو في قياس الدرياق، بمنزلة الدواء المعجون، المتّخذ بالحلتيت.

وإنّما صارت هذه الأدوية تسقی بعد نضج العلّة، لأنّها إن سقيت في أوّل الأمر قبل أن تتبيّن علامات النضج، ويبلغ المرض منتهاه، لم يمكن للدواء استفراغ الخلط الفاعل للمرض، فيحرّكه، ويثيره، وينشره. فإذا ثار هذا وانتشر، وخالط الأخلاط الجيّدة النافعة، غيّرها، وأحالها إلی طبيعته.

فإن هو فعل ذلك في موضع واحد من البدن، ازدادت الحمّی بذلك عظماً وقوّة، وصارت حمّی سوء خبيثة.

وإن فعله في موضعين من البدن أو في أكثر، حتّی تكون العفونة في موضعين أو ثلثة، حدثت عنه حمّتان أو ثلث حمّيات ربع.

الأمراض صنفان: فمنها مزمنة طويلة المدّة، ومنها حادّة قصيرة المدّة.

وما كان من الأمراض مزمناً طويل المدّة، فينبغي لنا أن ننتظر فيه نضج العلّة، ولا يسقی المريض شيئاً من الأدوية المنقّية المسهلة دون أن نتبيّن علامات النضج، ونری الطبيعة قد احتاجت منّا إلی المعاونة لها علی العلّة.

فإذا كان ذلك الوقت، سقينا المريض دواء مسهلاً ينقّي بدنه من الخلط الفاعل للعلّة، بعد أن نتقدّم أوّلاً فنصلح ذلك، وننقّيه، ونعدّه لسهولة الخروج بأن نسقي المريض ماء العسل ممّا قد طبخ فيه زوفا وفوتنج جبليّ أو حاشا، أو فوتنج برّيّ.

وأمّا الأمراض الحادّة فأكثرها تكون المادّة فيها ساكنة، قارّة في عضو واحد لا تزال فيه إلی أن تنضج. وما كان من الأمراض الحادّة كذلك، فينبغي لنا أن ننتظر بالأدوية إلی أن يبلغ منتهاه، علی مثل ما نفعل في الأمراض التي تطول مدّتها.

وفي القليل من الأمراض الحادّة تتحيّز الأخلاط الفاعلة لها، وتنتقل من عضو إلی عضو، وتؤذي المريض بانتقالها في أوّل المرض. وما كان كذلك، فينبغي أن نستفرغ ولا ننتظر به نضج العلّة. وليكن استفراغه بعد أن نستقصي البحث عن تلك الأخلاط، ونعلم أنّها رقيقة لطيفة سهلة الخروج، قليلة اللزوجة، لا علی خلاف ذلك، وأنّ المريض لم يكن سبب علّته تخم كثيرة، وتناول أطعمة غليظة، حدث به بسببها انتفاخ الجنبين وتمدّدهما، وحرارة الحمّی، وورم في الأحشاء، وأنّ الطرق والمجاري التي فيها نريد أن يجري ذلك الخلط الذي نحتاج إلی استفراغه واسعة، لا سدّة فيها.

[تعديد الأشياء التي تداوی بها حمّی الربع]

تعديد الأشياء التي تداوی بها حمّی الربع:

هو أن يحزج لصاحبها الدم بفصد العرق، إن رأی الطبيب أنّ الدم غالب علی البدن. ثمّ يغذی بأغذية تولّد دماً جيّداً، وتكون مع هذا حارّة رطبة ملطّفة تحلّ النفخ وتطرد الرياح، وتليّن البطن. ثمّ يعالج بالحقن. وتستعمل منها أوّلاً الليّنة، وفيما بعد ذلك الحادّة. ويسقی مرّة في الأيّام بعض الأدوية التي ترقّ بها المادّة وتلطّف. ثمّ يستعمل المشي، والتدليك. ويمسك عن الاستحمام. فإذا حضر وقت منتهی العلّة، استعمل التدبير اللطيف، والسكون والدعة، وشرب الأدوية التي تخرج الخلط السوداويّ، والأدوية التي تسخن وتجفّف كثيراً، بمنزلة الدرياق.

[في علاج حمّی البلغم]

فأمّا الحمّی الماظبة في كلّ يوم فإنّها تعالج أيضاً بمثل ما تعالج سائر الحمّيات بتطفئة حرارة الحمّی، وترطيب يبوستها، وباستفراغ المادّة الفاعلة لها. ولأنّ المادّة في هذه الحمّی أكثر أذیً، وأغلظ أمراً من الحرارة، قد ينبغي أن تكون عنايتنا باستفراغها علی حسب ذلك.

قد ينبغي في أوّل الحمّی المواظبة — بعد أن يجوز عليها ثلثة أيّام، أو أربعة — أن يسقی المحموم أشياء تلطّف المادّة، وترقّها، وتخرج بعضها. وهذه أشياء ليس ينبغي أن يسقاها في أوّل يوم، ولا في اليوم الثاني، والثالث، لكن بعد ذلك. لأنّ حرارة الحمّی إذا واظبت في كلّ يوم، أذابت البلغم، ورقّقته، وكان مطاوعته للأدوية التي يستفرغ بها أكثر، أعني بالأدوية التي يستفرغ بها البلغم، مثل السكنجبين، والأشياء المدرّة للبول.

ثمّ إذا صارت هذه الحمّی إلی منتهاها، فينبغي أن تكون العناية حينئذٍ بالمعدة، وخاصّة بفمها. فإنّا قد قلنا إنّ هذه الحمّی أكثر ما تكون مع علّة فم المعدة الذي فيه خاصّة يجتمع هذا الخلط البلغميّ.

والعناية بأمر فم المعدة في وقت منتهی العلّة ينبغي أن يكون بالأشياء المعينة علی الاستفراغ للمادّة، لأنّ المادّة في هذا الوقت قد نضجت، فتحتاج أن نستفرغها بالقيء، وبالإسهال، وبالأضمدة.

وجميع هذه الأصناف، إن لم تقع موقعها، أضرّت بالمعدة.

الأشياء التي إذا قصد نحوها الطبيب، عرف مقدار الطعام، وكيفيّته في الحمّی المواظبة وفي جميع الأمراض عامّة ثلثة:

أحدها: المرض، والآخر: القوّة، والثالث: جنس الأشياء التي تدلّ بموافقتها، ومخالفتها.

أمّا المرض: فيحتاج أن يعرف هل هو من الامتلاء، أو من الاستفراغ.

وأمّا القوّة: فيحتاج أن يعرف هل هي قويّة، أم ضعيفة.

وأمّا الأشياء التي تدلّ بموافقتها ومخالفتها فهي: الوقت الحاضر من أوقات السنة، والسنّ، والعادة، والبلد، ومزاج البدن، وحال الهواء في الوقت الحاضر، والصناعة التي كان المريض يعالجها.

وفي الحمّيات المطبقة أيضاً قد ينبغي أن يحفظ تلك الأغراض العامّيّة التي ذكرناها قبل، أعني الغرض في استفراغ المادّة الفاعلة للحمّی، والغرض في تغيير سوء المزاج، والغرض في التدبير.

أمّا الغرض في استخراج المادّة، فلمّا كانت مادّة هذه الحمّيات محصورة في داخل العروق، قد ينبغي أن يفصد لأصحابها العرق، كيما تقلّ، وتنقص العفونة بخروج الدم، وكيما إذا خفّ عن الطبيعة جلّ ما يثقلها، قدرت علی إنضاج الباقي، وأحالته إلی الجودة والمنفعة.

وأمّا الغرض في تغيير سوء المزاج هاهنا إنّما هو لتغيير حرارة الحمّی، ويبسها.

قد ينبغي أن يكون التدبير وسائر الأشياء التي تداوی بها هذه الحمّيات باردة، رطبة. لكن رطوبة هذه الأشياء ينبغي أن تطلب دائماً. وذلك لأنّ استعمال

الأشياء الرطبة في كلّ حمّی مأمون، محمود العاقبة، كما قال بقراط.

وأمّا برودتها فليس ينبغي أن تطلب دائماً، لأنّ استعمال الأشياء الباردة ليس بمأمون، ولا محمود العاقبة في كلّ حمّيات. وذلك لأنّ الأشياء الباردة بالفعل، بمنزلة الماء، تحتاج في استعمالها إلی تحصيل، وتحديد كبير، إذ كانت إنّما يجب أن تستعمل من بعد نضج المرض، وعندما تكون القوّة قويّة، والعادة موافقة، وإذا لم يكن شيء من الأعضاء الجليلة الخطر ضعيفاً، ولا وارماً.

والأشياء الباردة بالقوّة قد تقهرها وتتقدّمها مراراً كثيرة.

الغرض الذي يقصد نحوه من قبل السبب الفاعل للمرض، إذا كان هذا السبب بارداً، بمنزلة ما يتّفق ذلك في الحمّی المواظبة، والحمّی الربع. ولذلك لسنا نستعمل في هاتين الحمّايين أشياء تبرّد، بل أشياء تسخن.

وأمّا الغرض في التدبير، فإنّه إن كان منتهی الحمّی الدائمة قريباً، فينبغي أن يكون التدبير منذ أوّل الأمر لطيفاً، بمنزلة ما إذا كان المنتهی مزمعاً أن يكون في الرابوع أو في السابوع الأوّل.

فإن كان المنتهی بعيداً، فينبغي أن يكون التدبير في أوّل الأمر غليظاً، كيما لا تضعف القوّة قبل أن تبلغ إلی منتهی المرض. وكلّما قرب المرض من

المنتهی، فينبغي أن ننقص من غلظ التدبير.

وإذا حضر وقت المنتهی، كان التدبير لطيفاً جدّاً، كيما لا تشتغل الطبيعة عن إنضاج المرض بهضم الغذاء.

فإذا جاوز وقت المنتهی، غلظ التدبير من الرأس أوّلاً فأوّلاً علی حسب ما لطّف قبل المنتهی، لتنعش القوّة بذلك ممّا مرّ بها من النصب في مجاهدة المرض والضعف من قبل سوء المزاج.

الأغراض التي ينبغي لمن أراد أن يستفرغ البدن بضرب من الاستفراغات، أيّها كان ذلك، بمنزلة فصد العرق، أن يقصد نحوها: عشرة: أحدها: سبب المرض، والآخر: العرض اللازم له، والثالث: المزاج، والرابع: سحنة البدن،

والخامس: السنّ، والسادس: الوقت الحاضر من أوقات السنة، والسابع: حال الهواء، والثامن: البلد، والتاسع: القوّة، والعاشر: العادة.

أمّا سبب المرض: فإنّه إن كان المرض من امتلاء، فالاستفراغ موافق له. وإن كان من الاستفراغ، فليس الاستفراغ له بموافق.

وأمّا العرض اللازم للمرض: فإنّه إن كان مع المرض واحد من الأعراض التي يستفرغ بها البدن، بمنزلة استطلاق البطن، أو التشنّج — فإنّ التشنّج أيضاً يستفرغ البدن بشدّة الحركات التي يحدثها استفراغاً لا يدركه الحسّ — لم يستفرغ البدن.

وإن لم يكن مع المرض واحد من الأعراض التي تستفرغ البدن، استفرغناه نحن.

وأمّا المزاج: فإنّه إن كان حارّاً يابساً، أو بارداً رطباً، لم نستفرغه إلّا شيئاً يسيراً. وإن كان حارّاً رطباً، استفرغناه كثيراً.

وأمّا السحنة: فإنّها إن كانت إلی القضافة والهزال، أو كان البدن واسع المسامّ، متخلخل اللحم، رخصه، لم نستفرغه. لأنّ ما كان من الأبدان كذلك، فهو سريع التحلّل واليبس. وإن كان البدن مسمّناً، لم نستفرغه أيضاً، لأنّ الأبدان المسمّنة باردة بالطبع، ولأنّ الدم إذا استفرغ من العروق وقع ثقل الشحم علی العروق فضغطها، وعصر ما فيها من الدم إلی ناحية البطن، وترك ظاهره خالياً من الدم.

وأمّا السنّ: فإنّها إن كانت سنّ الصبی، أو الشيخوخة، لم يستفرغ البدن.

أمّا الصبيان فلا تستفرغ أبدانهم لحرارة مزاجهم التي من شأنها أن تفنی، وتحلّل، ولتخلخل أبدانهم، ولينها، ولشدّة حاجتهم إلی الدم للنماء.

وأمّا الشيوخ فلا نستفرغهم لضعف قوّتهم، وقلّة الدم فيهم.

وإن كانت سنّ الشبيبة، فيجب أن يستفرغ.

وأمّا الوقت الحاضر من أوقات السنة: فإنّه إن كان صيفاً أو شتاء، لم نستفرغ البدن. وإن كان ربيعاً أو خريفاً، استفرغناه.

وأمّا حال الهواء في الوقت الحاضر، فإنّه إن كان الهواء في ذلك الوقت كثير الحرارة واليبس، لم نستفرغ البدن، وذلك أنّ القوّة في مثل هذه الحال تنحلّ وتضعف بسبب ما يعرض فيها من الغشي.

وإن كان أيضاً الهواء بارداً، مفرط البرودة، لم نستفرغ البدن. لأنّا إذا استفرغناه في مثل هذه الحال، برّدنا البدن، وأمتنّا القوّة.

وإن كان معتدلاً استفرغناه.

وأمّا البلد: فإنّه إن كان حارّاً، كثير الحرارة، بمنزلة بلاد الحبشة، أو بارداً، كثير البرد، بمنزلة بلاد الصقالبة، لم نستفرغ البدن.

وإن كان معتدلاً، استفرغناه.

وأمّا القوّة: فإن كانت قويّة، استفرغنا البدن بقدر الحاجة. وإن كانت ضعيفة، إمّا لم نستفرغه، وإمّا استفرغناه قليلاً.

وأمّا العادة: فإن كان العليل معتاداً للاستفراغ، استفرغناه ونحن من ذلك علی ثقة. وإن كان غير معتاد لذلك، لم نستفرغه، أو استفرغناه قليلاً.

إذا اتّفق مع الحمّی عرض من الأعراض المنكرة، فربّما تهيّأ أن تكون مداواة الحمّی موافقة لمداواة ذلك العرض، فحينئذٍ ينبغي للطبيب أن يقصد لهما جميعاً بالمداواة بشيء واحد، بمنزلة ما يعرض إن حدث بالإنسان وجع من سوء مزاج حارّ. فإنّه إن تهيّأ ذلك، كان الدواء المخدّر جامعاً للأمرين جميعاً، أعني تسكين الوجع، وتبريد الحرارة.

وربّما كانت مداواة المرض مخالفة لدفع العرض، فيكون ما يشفي المرض معيناً للعرض. فينبغي حينئذٍ أن يقاس المرض بالعرض، وننظر أيّهما أغلب. فإن كان المرض أعلی، وأغلب من العرض، وكان المريض منه أقرب إلی الخطر، وإلی الشرف علی البلاء وسقوط القوّة، فينبغي أن يكون جلّ ما نفعله بالقصد منّا للمرض والعناية بأمره، بعد أن لا نفعل أيضاً عن العرض.

وإن كان العرض أعلی علی المرض، وأغلب منه، وكان ما نحاذر، ونتخوّف منه أشدّ، فيجب أن تكون أكثر العناية بأمره، بعد أن لا نغفل

عن المرض. مثال ذلك: إنسان محموم، بدنه ممتلئ، ومعدته عليلة، إمّا بسبب شيء تقيّأه، فخرجت منه أخلاط رديئة، وإمّا من قبل تخمة عرضت له، وفساد طعام فسد في معدته، فعرض له من ذلك غثيان، وتقلّب نفس، وتلذع في المعدة، أقول: إنّ مداواة هذا هو فصد العرق. ولكن لمّا كان هذا الذي قد عرض له من التلذّع، والغثيان لا يؤمن أن يحلّ قوّته، فينبغي أوّلاً أن نقصد لمداواة ما عرض له في معدته من هذه الأعراض قبل تسريح الدم بالفصد الذي هو مداواة المرض.

وممّا يمثّل به ذلك أيضاً: إنسان أصابه تشنّج من امتلاء. فالامتلاء يحتاج إلی الاستفراغ، وأمّا التشنّج فإنّما هو حركة غير إراديّة تكون كرهاً، ويمكنه بالحركة التي تكون فيه أن يحلّل المادّة ويفنيها.

فلذلك ليس ينبغي أن يكون الاستفراغ بحسب امتلاء البدن، لكن يجب أن يستفرغ بعضه من الامتلاء، ونترك وندع منه بمقدار ما نعلم من الحدس أنّ التشنّج سيستفرغه ويفنيه، كيما لا يستفرغ البدن استفراغاً مفرطاً، ولا تضعف القوّة.

الأشياء الخارجة عن الطبع ثلثة: وهي الأسباب، والأمراض، والأعراض.

والأسباب تداوی بقلعها، وقطعها.

والأعراض تداوی بقطع أسبابها.

وأمّا الأمراض، فمنها ما هو في حدّ الكون. وما كان كذلك فهو يداوی بمخالفة المرض. وبعضه قد كان، وبعضه يكون. وما كان كذلك، فيجب أن يداوی ما قد كان منه بضدّه، وما يكون بقطع السبب الفاعل له.

الغشي: هو انحلال القوّة الحيوانيّة دفعة. وحدوثه يكون عن أربعة

أسباب كلّيّة: أحدها: الامتلاء، والآخر: الاستفراغ، والثالث: تغيّر المزاج دفعة، والرابع: الوجع.

أمّا الامتلاء: فإنّه إن كان مثقلاً للقوّة يحلّها، ويهتكها. وهذا الامتلاء يكون إمّا في المعدة، وإمّا في العروق، وإمّا في الدماغ، بمنزلة ما يعرض في السكات والصرع.

وأمّا الاستفراغ: فإنّه إذا أفرط، خرج به الشيء الجيّد النافع مع ما لا منفعة فيه، بمنزلة ما يعرض ذلك في استطلاق البطن، وقروح الأمعاء، وفي الهيضة، وفي زلق الأمعاء، والرعاف، ونزف الدم بعد الولاد، وخروج الدم بفصد العرق، وإسهال البطن.

وأمّا تغيّر المزاج، فإنّه إذا كان دفعة، أضرّ بالقوّة وحلّها.

والمزاج يتغيّر دفعة إمّا إلی الحرارة، وإمّا إلی البرودة، وإمّا إلی الرطوبة، وإمّا إلی اليبوسة.

وأمّا الوجع، فإنّه إذا أفرط، هتك القوّة، وحلّها، وأحدث غشياً.

الهيضة: هي استفراغ المرار من فوق، ومن أسفل.

وأمّا الذرب فهو استطلاق البطن. ويحدث: إمّا من فساد الطعام، وإمّا من سدد تحدث في العروق الأول. فيجب عند ذلك ضرورة، إذا لم ينفذ

الغذاء إلی الكبد، أن ينحدر باستطلاق البطن. وإمّا من قبل أخلاط تتحلّب من سائر البدن، أو من عضو واحد إلی البطن.

وأمّا زلق الأمعاء: فهو أن يخرج ما يتناوله الإنسان من الطعام سريعاً، ويكون حاله إذا خرج كمثل حاله عندما أكل. وهذه العلّة تحدث: إمّا من قبل ضعف القوّة الماسكة غاية ما يمكن. وذلك يحدث علی الأمر الأكثر من سوء مزاج بارد رطب. وإمّا من قبل أنّ القوّة الدافعة تتحرّك علی غير ما ينبغي. وذلك يكون بسبب قروح تحدث في السطح الداخل من المعدة والبطن. وذلك أنّ الطعام إذا لقي جرم المعدة والبطن، آذاه، وعقره بتلذيعه إيّاه، وأحوجه إلی أن يتحرّك حركة الرجيع، فلا يضبط ذلك الطعام، ولا يمسكه، لكن يمرّ الطعام وينفذ في البطن

كما ينفذ الشيء في مجری من المجاري التي لا نفس لها، ويخرج علی ما دخل. ولذلك تجد العامّة يسمّون هذه العلّة المثقب.

دم الطمث الذي ينحدر في كلّ شهر ويستفرغ من أبدان النساء يعرض له في وقت الحمل أن يحتبس. فإذا احتبس صار أجود شيء فيه وأنفعه غذاء للجنين. وما هو منه في الجودة والمنفعة يأتي بعد ذلك يرتفع إلی الثديين، فيصير لبناً. والباقي منه الذي لا ينتفع به، يستفرغ في وقت الولاد، عندما تنخرق المشيمة، وينقطع ما هي متّصلة به في الأرحام من أفواه العروق. ويقال لهذا الاستفراغ نقاء الولاد.

وربّما عرض في بعض الأوقات أن يفرط هذا الاستفراغ بصاحبه حتّی يخرج مع الفضل الرديء الذي لا منفعة فيه الشيء الجيّد الذي ينتفع به. فإذا كان ذلك، حدث عنه الغشي.

وكذلك التخمة، كثيراً ما يحدث عنها الغشي. وذاك أنّه يجب ضرورة أن تتولّد من التخمة فضول كثيرة. فإذا احتبست هذه الفضول، ولم تستفرغ، عرض منها الغشي لأحد شيئين: إمّا للوجع الذي تحدثه إن كانت حادّة، وإمّا لإثقالها القوّة إن كانت كثيرة.

وإن لم تحتبس تلك الفضول، واستفرغت، حدث عنها الغشي، بسبب إفراط استفراغها.

اختناق الأرحام يكون: إمّا بسبب منيّ قد انقطع خروجه، فتراكم، وبقي لا يتنفّس حتّی طفئت حرارته وبرد، فصار يتأدّی منه إلی القلب شيء شبيه بالريح الباردة، فيتعطّل بذلك فعل النفس. وإمّا بسبب طمث احتبس، فعرض له مثل ذلك، وصار البخار الذي يتولّد منه، إن ارتفع إلی الدماغ، حدث عنه أعراض الوسواس السوداويّ. وإن وقع إلی القلب، عرض منه تعطّل النفس.

والفرق بين الغشي واختناق الرحم إنّما هو لكثرة ما يعرض للحرارة التي في القلب من شدّة البرد وقلّته. وذلك أنّ حرارة القلب في الغشي إنّما بردت برودة يسيرة.

ولذلك صار المغشيّ عليه إذا صاح به إنسان بصوت عالٍ، سمع، إلّا أنّ استماعه للصوت كأنّه من موضع بعيد، أو من وراء جسم كثيف، يمنع الصوت. والسبب في ذلك أنّ الحرارة إنّما هي في قعر البدن.

وأمّا اختناق الرحم فينال الحرارة فيه من البرد أذیً أكثر ممّا ينالها في الغشي. ولذلك صار النساء اللواتي تعرض لهنّ هذه العلّة علی أكثر الأمر لا يسمعن الصوت، إذا صيح بهنّ.

وإذا كانت هذه العلّة أقوی وأشدّ من الغشي، صار الغشي يتقدّمها لا محالة. وذلك أنّ الشيء القليل الشدّة والصعوبة هو أبداً يتقدّم الشيء الكثير الصعوبة والشدّة.

والغشي يتقدّم أيضاً السكات، وذاك أنّ الحرارة الطبيعيّة في صاحب السكات تخمد خموداً شديداً جدّاً، ولذلك صار صاحبه تتعطّل منه الحركة والحسّ والأفعال السياسيّة أصلاً. وأمّا في صاحب الغشي فالذي ينال الحرارة الغريزيّة من الخمود والبرودة يسير، فلذلك لا يتعطّل فيمن يغشی عليه الحسّ، علی ما وصفنا.

الصرع: هو تشنّج يكون مع مضرّة تحدث بالأفعال السياسيّة، ولذلك صار متی كانت حركة التشنّج أقوی، أحدثت بإفراطها غشياً، لأنّها تحلّ القوّة وتنهكها.

وإن كان أقلّ، لم يحدث عنه غشي.

وقد يحدث الغشي أيضاً في ابتداء نوائب الحمّيات التي تنوب: إمّا بسبب انحلال القوّة، إذا أثّرت فيها حرارة الحمّی بصعوبتها، وشدّتها، بمنزلة ما يعرض ذلك في الحمّی المحرقة. وإمّا بسبب امتلاء يثقل القوّة، ويضغطها. فإنّه يعرض في ذلك الوقت أن تنصبّ الأخلاط إلی العمق، فتخنق الحرارة الغريزيّة.

وقد يعرض الغشي أيضاً في ابتداء نوائب الحمّی بمن به ورم، أو سدّة في بعض الأعضاء الجليلة الخطر، وذلك لأنّ الأخلاط، إذا انصبّت في ذلك الوقت

إلی ناحية قعر البدن، زادت في الورم والسدّة، فيشتدّ لذلك الوجع، وتنحلّ القوّة بإفراطه. ولأنّ الأبدان في هؤلاء علی الأمر الأكثر تكون فيها أخلاط غليظة لزجة، فإذا ذابت وانتشرت هذه الأخلاط بحرارة الحمّی، وقعت علی الحرارة الطبيعيّة فخنقتها، وسدّت طرقها ومسالكها، فيحدث من ذلك غشي.

وقد يعرض الغشي أيضاً في ابتداء نوائب الحمّی لمن يكون فم معدته ضعيفاً،

وذلك لأنّ فم المعدة، إذا كان ضعيفاً، قبل ما ينصبّ إليه من الأخلاط من جميع البدن. فإن كانت هذه الأخلاط غليظة لزجة، أو كثيرة المقدار، ضغطت القوّة، وحمّلت عليها حتّی تنحلّ. وإن كانت حادّة لذّاعة، أو كانت ممّا لها كيفيّة أخری من الكيفيّات الرديئة، أو كانت باردة، حلّت القوّة برداءة المزاج، أو بالوجع، فيحدث عن ذلك الغشي.

وعوارض النفس أيضاً، لمّا كانت تحلّ القوّة بإفراطها، صارت تحدث الغشي.

[في الغمّ]

والغمّ يحدث الغشي. وتأثيره في المشائخ أكثر، لأنّ حرارتهم أقلّ، فيؤثّر فيهم الهمّ والغمّ أكثر، حتّی يعود الروح إلی داخل ويتحلّل بما يتبعه من البرودة، وخمود الحرارة، وانطفائها. وذلك لأنّ الأخلاط تميل إلی عمق البدن مع الحرارة، فتخنقها. ولذلك ربّما حدث عن الغمّ — إذا اشتدّ — موت فجأة.

وأمّا اللذّة: فإنّها تحدث الغشي من طريق ما يكون معها من انتشار الحرارة، وتفرّقها، وتبدّدها. ولذلك ربّما حدث معها أيضاً موت فجأة.

وأمّا الغضب: فعسير ما يكون عنه غشي، لأنّ الحرارة علی أكثر الأمر إنّما تزداد، فتقوی عند الغضب. ولذلك لم ير أحد قطّ مات من الغضب.

فإن أحدث الغضب غشياً، فيحتاج أن يجتمع فيه أشياء، وإلّا لم يلتئم:

أحدها: أن يكون الغضب شديد القوّة جدّاً، كثيراً جدّاً.

والآخر: أن تكون القوّة ضعيفة.

والثالث: أن يكون البدن رخواً، متخلخلاً، كيما تنحلّ حرارته سريعاً.

وقد يحدث الغشي أيضاً من الوجع الشديد، بمنزلة ما يعرض في هذه العلّة التي يقذف أصحابها رجيعهم من فوق، وهو ورم يحدث في الأمعاء الدقاق، فيمنع الثفل من الانحدار إلی أسفل، وفي القولنج. وفي اللذع الشديد، وفي جراحات العصب، وقروح المفاصل، والقروح الساعية، وفساد جواهر الأعضاء.

[في القولنج]

أمّا القولنج: فإنّه أكثر ما يحدث عن خلط بلغميّ غليظ يجتمع فيما بين طبقات هذه المعاء المسمّی قولون، ويبقی مرتبكاً هناك، فتنحلّ منه ريح تمدّد جرم طبقات هذه الأمعاء، ويحدث لذلك وجع شديد.

وأمّا اللذع الشديد: فإنّه إذا أفرط علی الأعضاء الكثيرة الحسّ، بمنزلة المعدة والأمعاء، حلّ القوّة، وأحدث غشياً.

وأمّا قروح العصب: فإّنها إن كانت في نفس العصب، أو إن كانت في رؤوس العضل، أحدثت وجعاً شديداً مبرّحاً يحلّ القوّة، فيحدث غشياً.

وأمّا القروح التي تعرض في المفاصل: فإنّها موجعة، خبيثة، عسرة الاندمال. وذلك لأنّ المفاصل الغالب عليها العصب، وهي عادمة من اللحم، وحركتها كثيرة، فتجذب — بكثرة حركتها — المادّة إليها.

وأمّا القروح التي تسعی: فإنّها تحدث عن خلط حادّ، يأكل العضو، ويسعی فيه. فلحدّته، وسعيه يوجع وجعاً شديداً، ويحدث عن ذلك غشي.

وأمّا فساد جواهر الأعضاء: وهو الذي يعرض للعضو، ويحدث فيه خموداً شبيهاً بالموت، فإنّه في أوّل الأمر يحدث الغشي لما يحدثه من الوجع، وذلك

أنّه إنّما يكون بعقب ورم حارّ، عظيم المقدار، شديد الخبث، وفي آخر الأمر بتبريده للقلب بما يتأدّی إليه من الهبوب البارد الذي يتولّد من العضو الفاسد الجوهر.

[أسباب الغشي]

جملة أسباب الغشي أربعة:

وذلك أنّه يحدث إمّا بسبب استفراغ، وإمّا بسبب امتلاء، وإمّا بسبب سوء مزاج، وإمّا بسبب وجع.

أمّا الاستفراغ: فبمنزلة ما يعرض في استطلاق البطن، واختلاف الدم، والهيضة، وزلق الأمعاء، وانبعاث الدم من السفل، والرعاف، والنزف بعد الولاد، وفصد العرق، وإسهال البطن بدواء، وإسهاله بحقنة، وإخراج ما في

الخراج بالبطّ، وثقب الماء، والإمساك عن الطعام، وكثرة الحركة، والإبطاء في الحمّام، وكثرة التدلّك.

وأمّا الامتلاء: فبمنزلة ما يعرض في السكات، وفي ابتداء نوائب الحمّی إذا كانت في البدن أخلاط غليظة لزجة، أو كان في بعض الأعضاء الباطنة ورم، أو سدّة، أو كانت المعدة ضعيفة فتنصبّ إليها — بسبب ضعفها — أخلاط كثيرة، أو غليظة، أو لزجة، أو حارّة، أو باردة.

والمعدة تجلب الغشي، إمّا لأنّها تبرد، بمنزلة ما يعرض في العلّة التي تسمّی بوليموس، وإمّا لأنّ شيئاً يوجعها، بمنزلة ما يعرض لها إذا كان فيها شيء يلذعها، وإمّا لأنّها تمتلئ، فتثقل، بمنزلة ما يعرض لها إذا انصبّت إليها أخلاط كثيرة، غليظة، لزجة.

كلّ استفراغ يحدث عنه الغشي لا يخلو من أن يكون يدرك حسّاً، أو لا يدرك حسّاً.

والذي يدرك حسّاً، منه ما هو من جنس الاستفراغات الطبيعيّة، إلّا أنّ مقداره قد جاوز الحدّ الطبيعيّ، فصار من هذا الوجه خارجاً عن الطبيعة، بمنزلة الاستطلاق. ومنه ما هو من جنس الأشياء الخارجة عن الطبيعة، وهو نوعان:

أحدهما: يفعله الطبيب، بمنزلة فصد العرق، والآخر: تفعله الطبيعة والمرض، بمنزلة الرعاف.

وأمّا الاستفراغ الذي لا يدرك حسّاً، فمنه ما يكون عن الحرارة، بمنزلة استفراغ الحمّام، ومنه من عدم الغذاء، بمنزلة الإمساك عن الغذاء بالصوم، ومنه من الحركة.

والحركة نوعان: أحدهما: حركة نفسانيّة بمنزلة السرور، والفرح، والآخر: حركة جسدانيّة بمنزلة التشنّج، والتعب، والتدلّك.

ومنه ما يكون من الوجع، وذلك أنّ الوجع أيضاً إنّما يحدث الغشي من طريق أنّه يستفرغ الروح الحيوانيّ، فيحلّ القوّة بذلك، ويجلب الغشي.

ولذلك حصّل قوم أسباب الغشي فجعلوها ثلثة:

الامتلاء، والاستفراغ، وسوء المزاج.

فأدخلوا الوجع في باب الاستفراغ.

ينبغي أن يداوی جميع من يصيبه الغشي عامّة بدفع السبب الفاعل للغشي وقطعه. فإن كان الغشي إنّما حدث عن استفراغ، احتيل له بمنع ذلك الاستفراغ وحبسه. وإن كان من امتلاء، تلطّف لاستفراغ ذلك الامتلاء. وإن كان من سوء مزاج، نظر: فإن كان سوء المزاج حارّاً، طفئت تلك الحرارة وبردت؛ وإن كان بارداً، سخنت تلك البرودة؛ وإن كان يابساً، رطب بالغذاء؛ وإن كان الاستفراغ من وجع، سكن ذلك الوجع.

من أصابه غشي من استفراغ، فيجب أن ننظر إلی أين تلك المادّة التي تستفرغ أميل. فإن كانت أميل إلی داخل، بمنزلة ما يعرض في استطلاق البطن، وفي الهيضة، فإنّ المادّة في هاتين العلّتين مائلة إلی ناحية البطن، فيجب أن نداوي بالأشياء التي تثير الحرارة الطبيعيّة، والأشياء التي تقطع استفراغ القوّة الحيوانيّة، والأشياء التي تغذو غذاء سريعاً.

فأمّا الأشياء التي تثير الحرارة الطبيعيّة فمثل الوجع الذي يكتسب بشدّ اليدين والرجلين، والأذی الذي يجتلب باستدعاء القيء، وبرشّ الماء البارد علی الوجه، وبإمساك النفس، وإسخان المعدة بالدلك.

فأمّا الأشياء التي تقطع استفراغ القوّة الحيوانيّة: فمنها ما يفعل ذلك من طريق أنّه يقبّض، بمنزلة الماء البارد الذي يرشّ علی الوجه، ومنها ما يفعله من طريق أنّه يجتذب المادّة إلی خلاف الناحية التي قد مالت إليها.

فإن كان الاستفراغ من فوق، اجتذبت المادّة من أسفل بشدّ الرجلين، ودلكهما، وتكميدهما. وإن كان من أسفل، اجتذبت من فوق بربط اليدين ودلكهما.

ولأنّ المادّة في هؤلاء مائلة إلی داخل، قد ينبغي أن تجتذب إلی خارج بالاستحمام بالحمّام.

فأمّا الأشياء التي تغذو غذاء سريعاً، فبمنزلة الشراب الممزوج بالماء البارد.

فأمّا إن كانت المادّة فيمن يصيبه الغشي من الاستفراغ مائلة إلی خارج، بمنزلة ما يعرض في العرق، فليس ينبغي أن يداوی صاحبه لا بالأشياء التي تجتذب المادّة إلی خارج، ولا بالأشياء التي تثير الحرارة الطبيعيّة، ولا بالشراب، لكن بقطع الاستفراغ، وتقوية القوّة.

وأمّا الأشياء التي تجتذب المادّة إلی خارج، فلا ينبغي أن تستعمل، كيما لا يزيد ذلك في الاستفراغ، ويقوّيه.

ولذلك ليس ينبغي أن يدخل صاحب هذا الغشي الحمّام.

فأمّا الأشياء التي تثير الحرارة الغريزيّة فليس ينبغي أن تستعمل، لأنّ هذه أيضاً بحركتها تقوّي الاستفراغ، وتزيد في ميله إلی خارج.

ولذلك ينتفع هؤلاء بالدعة والسكون.

وأمّا الشراب: فليس ينبغي أن يقرّبه صاحب هذه العلّة، لأنّه ممّا يزيد في العرق، ويدرّه بحرارته.

وأمّا حبس الاستفراغ فيكون برشّ الماء البارد، وبالأشياء القابضة، بمنزلة الورد، والآس، وورق الكرم.

وأمّا تقوية القوّة فيكون بالرياحين الطيّبة الريح الباردة، بمنزلة ما وصفنا من الورد، والآس.

الماء البارد يرشّ علی جميع من يغشی عليه بسبب الاستفراغ.

والسبب في رشّ الماء البارد الحاجة إلی منع الروح الحيوانيّ من التفرّق والتبدّد، لأنّ الماء البارد يمنع بقبضه، ويجمع الروح، ويقوّيه، وينبّه ما يحدثه من الأذی بملاقاته.

والسبب في رشّه الوجه أكثر، أنّ الحواسّ في الوجه أكثر، فهو لذلك يحسّ من أذی الماء البارد بأكثر ممّا يحسّ غيره، وأنّ الأنف، والفم اللذين منهما خاصّة يستفرغ الروح الحيوانيّ إنّما هما في الوجه.

وشدّ اليدين والرجلين يستعمل في أصحاب الغشي الحادث من الاستفراغ، إذا كانت المادّة مائلة إلی داخل، لإيثار الطبيعة. وتنبّه بالوجع الحادث من الرباط، لأنّها في هذه الحال كأنّها نائمة مستغرقة، ولجذب المادّة إلی خلاف الناحية التي هي مائلة إليها، أعني من داخل إلی خارج.

فإن كان الاستفراغ من فوق، وقع الرباط علی الساقين. وإن كان من أسفل، وقع علی الساعدين، وليجذب المادّة إلی خلاف الناحية التي تستفرغ منها.

وينبغي أن يداوی صاحب الغشي الحادث عن الاستفراغ، إذا كانت المادّة مائلة إلی داخل، برشّ الماء البارد علی الوجه، وبحبس النفس، وبالدلك، وباستدعاء القيء، وشدّ اليدين والرجلين، وبالاستحمام، وبشرب الشراب.

أمّا برشّ الماء البارد علی الوجه فإنّه ينبّه الحرارة، ويثيرها، ويجمعها.

وأمّا حبس النفس، فإنّه إذا أمسك المنخرين، منع الهواء الذي يدخل بالنفس من الخروج. فإذا لم يجد هذا الهواء محيصاً ولا مخلصاً، رجع فحرّك القوّة برجوعه، وأثارها، لأنّها في هذه الحال تكون شبيهة بالنائم المستغرق في نومه.

وأمّا الدلك فإنّه إذا وقع علی فم المعدة أسخنه، وأثار حرارته الطبيعيّة.

وأمّا استدعاء القيء فإنّما يستعمل إذا كان الاستفراغ باستطلاق البطن من أسفل، لأنّه يثير القوّة، وينبّهها، ويجتذب المادّة إلی خلاف الناحية التي قد مالت إليها.

وأمّا رباط اليدين والرجلين فإنّه يثير القوّة، وينبّهها، ويجتذب أيضاً المادّة إلی خلاف الناحية التي هي مائلة إليها.

وأمّا الاستحمام فإنّه يجتذب المادّة من داخل إلی خارج.

وأمّا شرب الشراب، فإنّه إذا شرب ممزوجاً بالماء البارد، أسرع في التغيير وفي إغذاء القوّة، وسهل نفوذه من البطن إلی الكبد، ومن الكبد إلی الأعضاء الباقية، وقوّی فم المعدة، وجمعه بما فيه من طيّب الرائحة، والقبض، وبرودة الماء الذي خالطه.

ينبغي أن يقصد في اجتذاب المادّة إلی خلاف الناحية التي هي مائلة إليها إلی أحد أمرين:

إمّا أن تجتذب إلی الأعضاء التي هي كانت الباعثة بتلك المادّة، متی كانت أعضاء ليست بجليلة الخطر.

وإمّا أن تجتذب إلی أعضاء غير تلك ممّا يجتمع فيه ثلث خصال:

أحدها: أن يكون موضعها من البدن في خلاف ناحية موضع العضو الذي ينبعث منه الاستفراغ. فإن كان ذلك العضو فوق، كان الاجتذاب من أسفل. وإن كان من أسفل، فمن فوق.

والثانية: أن يكون العضو الذي يجتذب إليه المادّة محاذياً للعضو الذي يجتذب منه علی استقامة. فإن كان الاستفراغ من الجانب الأيمن، كان الاجتذاب أيضاً من الجانب الأيمن. وإن كان من الأيسر، فمن الأيسر.

ومن أجل ذلك متی انبعث الدم من المنخرين بالرعاف، نظرنا: فإن كان الرعاف من المنخر الأيمن، وضعنا المحجمة التي نجتذبه بها علی الكبد، وإن كان من

المنخر الأيسر، علّقناها علی الطحال.

والثالثة: أن يكون هذا العضو الذي تجتذب إليه المادّة مشاركاً للعضو الذي تجتذب منه، بمنزلة مشاركة الأرحام للثديين. ولذلك متی كان الاستفراغ بنزف الدم من الأرحام، علّقت المحاجم علی الثديين.

شرب الشراب نافع لمن يصيبه الغشي بسبب استفراغ مادّة مائلة إلی داخل، لأنّه يغذوه سريعاً، ويقطع استفراغه، ويقوّيه.

وهو أيضاً نافع لمن يغشی عليه بسبب مادّة تنصب إلی المعدة فتحدث غشياً، لأنّه يقوّي المعدة، ويدعوها إلی أن لا تقبل ما ينصبّ إليها.

وينبغي من هذا الوجه أن يكون الشراب طيّب الرائحة، قابضاً، كيما يقوّي، ولأنّه بشدّة حركته في النفوذ من المعدة والبطن إلی الكبد، ومن الكبد إلی الأعضاء، يجرّ معه الموادّ، ويصعدها، ويعودها أن تجري إلی خلاف الناحية التي كانت تجري إليها، فيمنعها بذلك من أن تنصبّ إلی المعدة والبطن.

وينبغي من هذا الوجه أن يكون شراباً له رقّة وحرارة، كيما يسرع نفوذه.

وأمّا من أصابه غشي بسبب انبعاث الدم، أو بسبب العرق، فليس ينبغي أن يكثر من إسقائه الشراب، لأنّ الشراب يعين علی انبعاث الدم، ودرور العرق. فإن لم يمكنّا أن نقوّي القوّة إلّا به، فينبغي أن نختار ما كان من الشراب

غليظاً قابضاً ليكون بغلظه يزيد في غلظ الدم وعسر انبعاثه، وبقبضه يسدّ ويقبّض المجاري والمسامّ.

وينبغي أن يداوی من يغشی عليه بسبب الاستفراغ بأشياء من خارج، فيضع علی المعدة والبطن والرحم والصدر أشياء من شأنها أن تقوّي، وتقبّض، وذاك أنّ هذه أعضاء عصبانيّة، وليس عليها شيء يحجبها، ويمنع الأشياء الباردة من أن تصل قوّتها إليها، فلذلك لا ينبغي أن يستعمل الأشياء الباردة متی كان الاستفراغ من واحد من هذه: إمّا من الرحم بمنزلة ما يعرض في النزف، وإمّا من المعدة بمنزلة ما يعرض في الهيضة، وإمّا من البطن بمنزلة ما يعرض في الاستطلاق، وإمّا من الصدر بمنزلة ما يعرض في نفث الدم، أو قذف القيح.

ويضع علی الرأس مع هذه الأشياء أشياء باردة أيضاً، لأنّ الرأس يحيط به عظم لا يدع الأشياء الباردة تصل إلی الدماغ بلا واسطة بينها وبينه، فتضرّه.

وينبغي أن تقطع انبعاث الدم إذا كان من ظاهر البدن بالأشياء التي تقطع الدم.

وهذه الأشياء: منها ما يفعل ذلك من طريق أنّه يقبّض ويسدّ، بمنزلة الخلّ الممزوج. ومنها ما يفعله من طريق أنّه يغرّي ويسدّ المسامّ والمجاري، بمنزلة الأدوية التي تتّخذ بالنشا، والأسفيداج، والتوتيا، ومنها ما يفعله من طريق أنّه يحرق، ويحدث في الموضع حشكريشة، بمنزلة الأدوية التي تتّخذ بالقلقطار. وذلك أنّ الحشكريشة التي تحدث من هذه الأدوية، وهي قشرة صلبة، تسدّ فم العرق، وتمنع الدم من أن ينبعث.

وأمّا الاستحمام في الحمّام: فإنّه ينفع من يغشی عليه بسبب استفراغ المادّة التي تكون مائلة إلی داخل، ولا سيّما من كان غشيه بسبب مادّة تنصبّ إلی البطن،

وتحدث استطلاقاً، من طريق أنّه يجتذب المادّة من داخل إلی خارج. ويضرّ من يغشی عليه بسبب انبعاث الدم، أو بسبب العرق. وبالجملة بسبب استفراغ

تكون المادّة فيه مائلة إلی خارج، لأنّه يغيّر المادّة، ويقوّي ميلها إلی خارج، ويسخنها ويذيبها، فتدرّ.

وأمّا من يغشی عليه بسبب امتلاء في بدنه، فيجب أن يربط يديه ورجليه، ويدلّكان ويكمّدان، ويمنع من الطعام وشرب الشراب. وإن كان محموماً منع من الحمّام. وإن لم يكن محموماً، لم يمنع منه. ويسقی ماء العسل والسكنجبين.

أمّا رباط اليدين والرجلين وتكميدهما فليجتذب المادّة من باطن البدن إلی ظاهره، ومن الأعضاء الجليلة الخطر إلی الأعضاء الدنيئة الخطر، كالجلد، بالحرارة، والوجع الذي يحدث عن الرباط.

وأمّا المنع من الطعام، فلأنّ الطعام يزيد في الامتلاء. ونحن فليس ينبغي لنا أن نزيد البدن امتلاء علی امتلائه.

وأمّا المنع من الشراب، فلأنّه أيضاً ممّا يزيد في الامتلاء، ولأنّه بحرارته يذيب المادّة، ويدعوها إلی أن يكون أذاها أكثر.

وأمّا المنع من الحمّام إذا كانت هناك حمّی فكيما لا تذوب المادّة فيكون ذلك سبباً لاختناق الحرارة عند ابتداء نوبة الحمّی، إذا هي مالت مع الأخلاط إلی باطن البدن.

وأمّا الإذن في الحمّام، إذا لم يكن هناك حمّی، فكيما يتحلّل بعض ذلك الامتلاء بحرارة الحمّام، ويجتذب المادّة من باطن البدن إلی ظاهره. ولذلك قد ينبغي أن نطلق لصاحب هذه العلّة أن يطيل المكث في هواء الحمّام.

وأمّا إسقاء ماء العسل فكيما تلطّف به المادّة، ويسهل خروجه. ولذلك قد ينبغي أن نخلط بماء العسل أشياء تسخن المادّة، وترقّها، بمنزلة الحاشا، والفوذنج البرّيّ والجبليّ، والزوفا.

وأمّا سقي السكنجبين فلأنّ هذا أيضاً من شأنه أن يرقّ الأخلاط، ويدعوها إلی الخروج.

من أصابه من النساء اختناق الأرحام فمداواتهنّ تشرك مداواة من يصيبه الغشي في بعض الوجوه، وتباينها في بعضها.

أمّا مشاركتها إيّاها ففي أنّ هؤلاء أيضاً ينتفعون بالأشياء الملطّفة، وباجتذاب المادّة بالرباط، وبالمنع من الطعام. وذلك لأنّ اختناق الأرحام إنّما سببه كثرة المادّة: إمّا من دم الطمث، وإمّا من المنيّ، ولا سيّما إذا اتّفق ذلك مع زوال الرحم عن موضعه بصعود إلی فوق، أو ميل إلی أحد الجانبين.

وأمّا مباينتها لها ففي أنّ اختناق الرحم لا ينبغي أن تسقی صاحبته السكنجبين، ولا أن تعالج بشيء ممّا يجتذب إلی فوق، وأن لا يكون ما يدنی من المرأة من فوق ومن أسفل واحداً، إن كان مع الاختناق زوال.

أمّا سقي السكنجبين فلا ينبغي في اختناق الرحم لأنّه يضرّ الرحم، وذلك لأنّ الرحم بارد عصبانيّ، ولأنّه لم يعتد أن يقرّبه الخلّ، ولأنّ الغالب في هذه العلّة المعروفة باختناق الرحم إنّما هو بالبرودة.

وأمّا استعمال الأشياء الجاذبة من أسفل فقط فكيما يجتذب بها الرحم إلی أسفل، ويجتذب بها المادّة إلی الأعضاء التي بينها وبين الأرحام مشاركة في العروق. فإنّ الساقين مشاركان للأرحام مواصلان لها بالعروق، ولذلك يجب أن يشدّ الرباط علی الساقين، وتعلّق المحاجم علی الحالبين.

فإن كان الرحم قد مال إلی ناحية واحدة، علّقت المحجمة علی الحالب الذي في الجانب الآخر، وإن كان قد ارتفع إلی فوق، علّقت علی الحالبين كليهما.

وأمّا مخالفة ما يدنی من المرأة من فوق ومن أسفل، إذا كان مع الاختناق زوال، فهو أنّ الرحم إذا كان مع اختناقه قد زال إلی فوق فيجب أن يدنی من المنخرين أشياء منتنة الروائح، ويدنی من الرحم أشياء طيّبة الروائح.

الحسّ نوعان: أحدهما الحسّ النفسانيّ، والآخر الحسّ الطبيعيّ. والحسّ النفسانيّ إنّما هو للحيوان فقط، وأمّا الحس الطبيعيّ فهو للحيوان وللنبات أيضاً، وللأجسام التي لا نفس لها. وذلك أنّ كلّ واحد من النبات يجتذب إليه ما هو مشاكل له، خاصّ به. وكذلك كثير من الأجسام التي لا نفس لها. فالنبات نجد كلّ واحد منه يجتذب من الأرض الخلط المشاكل له من غير أن يكون له حسّ المذاق، وكلّ واحد من الأعضاء يجتذب إليه من الدم ما يشاكله من غير أن يكون له حاسّة الطعم، وحجر المغنيطس يجتذب إليه الحديد من غير أن يكون له

شيء من الحواسّ، لا حاسّة اللمس، ولا غيرها.

والرحم يشتاق ويتشوّف إلی الأشياء الطيّبة الريح كما يتشوّف الشيء ويشاق إلی ما يشاكله، ويهرب، ويتحنّی عن الأشياء المنتنة، كما يفرّ الشيء ممّا لا يشاكله من غير أن يكون له حاسّة الشمّ.

إذا عرض الغشي بسبب المعدة، فيجب أن ننظر هل علّتها من سوء مزاج ساذج، أو من سوء مزاج معه مادّة.

فإن كانت علّتها من سوء مزاج ساذج، فيجب أن ننظر هل ذلك من سوء مزاج بارد، أو من سوء مزاج حارّ.

فإن كانت من سوء مزاج بارد، فيجب أن تداوی بالأشياء التي تسخن، بمنزلة الدواء المتّخذ بالثلاث فلافل، والأضمدة، والنطولات، والأدهان التي تسخن، وتقوّي، والشراب.

وإن كانت علّتها من سوء مزاج حارّ محرق، فيجب أن تداوی بالأشياء التي تبرّد، كالأضمدة المبرّدة، والنطولات الباردة، والماء البارد، بعد ألّا يكون هناك عضو ضعيف بارد، ولا في شيء من الأعضاء الجليلة الخطر ورم، ولا في البدن أخلاط رديئة كثيرة غير نضيجة.

وإن كانت علّة المعدة من سوء مزاج مع مادّة، فيجب أن ننظر، فإن كانت العلّة من مادّة بلغميّة باردة قد اجتمعت فيها، فيجب أن تداوی من داخل

بالأشياء التي ترقّ المادّة، وتلطّفها، وتقطعها، ومن خارج برباط اليدين والرجلين، وتكميدها، ودلكها، وتنطل بدهن قد طبخ فيه أفسنتين. وليكن الدهن الزيت، وذلك أنّ الزيت بحرارته يرخي، ويذيب الخلط البلغميّ، ويحلّله. والأفسنتين يقوّي المعدة. ولأنّ كلّ عضو من الأعضاء الجليلة الخطر يحتاج أن نتقدّم في حفظ قوّته.

وإن كانت العلّة من مادّة حادّة تحدث في المعدة لذعاً، فيجب أن يسقی العليل أوّلاً أشياء معتدلة المزاج، بمنزلة الماء الحارّ، أو الماء الحارّ والزيت.

أمّا الماء الحارّ فلمن يسهل عليه القيء، لأنّ الماء الحارّ يقيّئ بتعديل مزاج هذا الخلط الحارّ، ويكسر حدّته، ويحرّك القيء.

وأمّا الماء الحارّ والزيت فلمن يعسر عليه القيء، لأنّ الماء الحارّ إذا خالطه الزيت كسر من حدّته، وكان أشدّ بعثاً للقيء، وأكثر تسهيلاً من الماء الحارّ وحده، وهو مع هذا يليّن البطن، لأنّ الزيت من الأشياء التي تليّن البطن لموضع ما يخالطه من الملح الذي يقع فيه، ولموضع لزوجته.

ومن بعد سقي الماء الحارّ، إمّا وحده أو مع الزيت، ينبغي أن يؤمر العليل بالقيء. وإن عسر عليه القيء فيجب أن نتقدّم قبل القيء بإسخان معدته، ويديه،

ورجليه. أمّا معدته فكيما يرقّ ويلطّف المادّة المجتمعة فيها، ويسهل خروجها عنها، ولأنّ المعدة أيضاً إذا سخنت، كان تحرّكها إلی الشيء أسرع وأسهل. وذلك أنّ المعدة إذا سخنت، حدث بها الغثيان.

وأمّا اليدان والرجلان، فلأنّ هذين بينهما وبين المعدة مواصلة ومناسبة. فكما أنّ المعدة إذا بردت، بردت معها اليدان والرجلان، كذلك إذا سخنت اليدان والرجلان، سخنت معهما المعدة.

ثمّ من بعد القيء، ينبغي أن تليّن الطبيعة، لا بالحقنة، لكن بالشيافة، وذلك لأنّ الحقنة تضرّ بالمعدة. ومن أجل ذلك إذا أردنا أن نحقن إنساناً معدته ضعيفة، أمرناه أن يشرب قبل الحقنة ماء فاتراً، كيما، إذا وردت الحقنة،

لم تلق جوهر جرم البطن.

من كان به سوء مزاج حارّ في معدته، فالأشياء التي تبرّد تنفعه بطبيعتها، والأشياء التي تسخن تنفعه بطريق العرض، بمنزلة رباط اليدين والرجلين، ودلكهما، (فإنّه إذا سخنت المعدة اجتذبت المادّة)، والاستحمام في الحمّام.

وينبغي أن يداوی من يصيبه الغشي بسبب ورم حارّ، أو بسبب خبث الحمّی في ابتداء نوبة الحمّی بأن تربط يداه ورجلاه، ويكمّدان، ويدلّكان. لتجتذب المادّة من باطن البدن إلی ظاهره، ومن الأعضاء الجليلة الخطر إلی الأعضاء الدنيّة، ويمنع من النوم. لأنّ من شأن النوم أن يميل المادّة من ظاهر البدن إلی باطنه، ويمنع أيضاً من الطعام. لأنّ بدنه علی حال ممتلئ. وهذا الامتلاء هو الذي إذا مالت الحرارة في ابتداء نوبة الحمّی إلی باطن البدن، وقع عليها وخنقها

الورم الحارّ يحدث الغشي إمّا لأنّه يوجع وجعاً شديداً، وإمّا لأنّه في عضو جليل الخطر، وإمّا لأنّه عظيم.

من أصابه غشي في ابتداء نوبة الحمّی بسبب اليبس، فينبغي إن نحن أدركناه قبل وقت النوبة أن نغذوه قبل أن تأخذه الحمّی. وإن لم ندركه، إلّا بعد أن يغشی عليه، فيجب أيضاً أن نغذوه في أوّل النوبة.

أمّا الغذاء قبل نوبة الحمّی فيجب — إن علمنا بالحدس أنّ الغشي سيكون كثيراً — أن نجعله خبزاً مع شراب. وإن كان الشراب يزيد في الحمّی.

ومن بعد غذائنا للعليل يجب أن نشدّ يديه ورجليه، كيما إذا سخنت هذه سخنت معها المعدة، وهضمت الطعام، وكيما تجتذب المادّة وتميلها إلی خارج.

فإن علمنا بالحدس أنّ الغشي سيكون يسيراً، فيجب أن نطعم العليل خبزاً مع شيء من الفاكهة القابضة، بمنزلة الرمّان والكمّثری، لتقوی بذلك معدته وتعضد قوّته.

وإن علمنا بالحدس أنّ الغشي ليس يكون شديداً، فيجب أن تطعمه خبزاً وحده بلا فاكهة، لأنّ الفاكهة كلّها تولّد دماً رديئاً.

وأمّا الغذاء في ابتداء نوبة الحمّی فيجب أن يكون بشراب مسخن مع خبز. وذلك لأنّ الشراب المسخن من شأنه أن يغذو سريعاً، ويقوّي، ويسهّل نفؤذه، وأمّا الخبز الذي يخلط معه فليكون الغذاء أبقی وأثبت، فلا ينحلّ وينفشّ سريعاً. وليكون اجتذاب الأعضاء للغذاء أسهل وأسرع، لأنّ سهولة الاجتذاب وسرعته لا يلتئمان في الشيء الكثير الرقّة واللطافة، ولا في الشيء الكثير الغلظ، بل إنّما يلتئمان في الشيء المعتدل بين ذلك.

نبض العروق يكون في أصحاب السدد والامتلاء مختلفاً غير منتظم في العظم وفي القوّة. وذلك لأنّ الطبيعة إذا أخذت في مجاهدة الأسباب الخارجة عن الطبيعة مرّة تقهرها فتجعل النبض عظيماً قويّاً، ومرّة تنهزم منها فتجعل النبض صغيراً ضعيفاً.

والوجه في الفرق بين الامتلاء والسدد أن تنظر في العلامات. فإن كانت تظهر في البدن علامات تدلّ علی الامتلاء، وهي: الانتفاخ، والثقل، والتمدّد في العروق، والكسل، فذلك يدلّ علی الامتلاء.

وإن لم تظهر في البدن هذه العلامات فذلك يدلّ علی السدد.

والسدد والامتلاء إذا لم يكونا عظيمين كثيراً، كان النبض مختلفاً، غير منتظم. وإن كانا شديدين كثيراً، صار النبض بسببهما ذا فترات، وذا وقفات. وهو

الذي في الموضع الذي يتوقّع منه حركة يأتي بفترة ووقفة.

ومن أصابه الغشي بسبب السدد، فيجب أن يداوی بالأشياء التي تفتح السدد، وتقطع الأخلاط، بمنزلة السكنجبين، والزوفا، والفوذنج الجبليّ والبرّيّ،

والأشياء التي تدرّ البول، بمنزلة الشبتّ، والرازبانج، والكرفس، والنانخواه، والدقوا، والسنبل، والشراب.

ومن أصابه الغشي بسبب استفراغ يستفرغه به الطبيب، بمنزلة من يبطّ له خراجة إذا انبعثت مادّة، فأوّل شيء ينبغي أن تقوّي به الروائح الطيّبة. وذلك أنّه لمّا كان الذي يستفرغ من هؤلاء فيضعفون بسبب نقصانه إنّما هو الروح الحيوانيّ، وكان هذا الروح الحيوانيّ إنّما يغتذي ويتزيّد بما يصل إليه من

الهواء الذي يرد البدن بدخول النفس بالاستنشاق، وكانت الروائح الطيّبة أقرب من طبيعة الإنسان وأكثر مشاكلة لها من غيرها، ولذلك صار يلتذّها ويستطيبها، صار احتيالنا لإغذاء الروح الحيوانيّ والزيادة فيها بالهواء الذي له كيفيّة طيّبة الرائحة صواباً.

ثمّ من بعد الروائح الطيّبة — إذا سكن الغشي — ينبغي أن نغذوه بأغذية يسهل استمراؤها، ويسرع نفوذها، ولها مع هذا تقوية، بمنزلة الحسو المتّخذ من خندروس، إذا خلط معه الشراب.

الحرارة الغريزيّة تتحرّك حركتين: إحداهما إلی داخل، والأخری إلی خارج.

وحركتها إلی خارج: إمّا أن تكون بغتة في دفعة واحدة بمنزلة ما يعرض لها في وقت الغضب، وإمّا أوّلاً فأوّلاً بمنزلة ما يعرض لها في اللذّة.

وكذلك حركتها إلی داخل إمّا أن تكون دفعة، بمنزلة ما يعرض لها في وقت الفزع، وإمّا أن تكون أوّلاً فأوّلاً، بمنزلة ما يعرض لها في وقت الغمّ.

[حركات النفس]

ومن أصابه غشي بسبب عارض من عوارض النفس، أو بسبب وجع يحدث عن جراحة تقع في العصب، فيجب أن يشمّ الأشياء الطيّبة الروائح، كيما يغتذي بها الروح الحيوانيّ، ويتزيّد جوهره، ويقوی. ويحبس نفسه، ويستدعی له القيء.

أمّا حبس النفس، فكيما إن كانت الحرارة الغريزيّة قد أوغلت، وكمنت في باطن البدن، وصارت هناك بمنزلة المثبوت، أو المستثقل في النوم، ولا يتحرّك، بمنزلة ما يعرض لها في الغمّ، وفي الفزع، تنبّهت، وتحرّكت بمنعها إيّاها من الهواء الذي تستروح إليه.

وإن كانت قد ظهرت إلی خارج، بمنزلة ما يعرض لها في الفرح وفي الغضب، كان في حبس التنفّس ما يقوّيها، ويكثرها في القلب.

وأمّا استدعاء القيء فكيما إن كانت الحرارة قد مالت إلی داخل، أثّرناها بذلك.

وإن كانت قد ظهرت إلی خارج، اجتذبناها إلی داخل.

ومن أصابه غشي بسبب وجع شديد مبرّح بمنزلة ما يعرض في وجع القولنج، وفي العلّة التي يتقيّأ صاحبها الرجيع، ويقال لها باليونانيّة إيلاوس، فينبغي أن يسكّن غشيه بالتكميد، لما في التكميد من التحليل. فإن لم يسكّن الوجع بالتكميد، فبالأدوية التي تسكّن الوجع. وإن لم تسكّن الوجع، فبتخديرها للحسّ. علی أن نرجع بعد ذهاب الغشي، فنسخن ما أحدثناه من البرودة بالأدوية المخدّرة.

ويستعمل في المداواة أيضاً شدّ اليدين والرجلين كيما تجتذب المادّة من باطن البدن إلی ظاهره.

لكلّ قوّة تضعف في البدن دليل.

فضعف القوّة الحيوانيّة يعرف من النبض الصغير الضعيف، وضعف القوّة النفسانيّة من ضعف الحركات الإراديّة، وضعف القوّة الطبيعيّة بالاختلاف الشبيه بغسالة اللحم الطريّ.

ومن أصابه الغشي بسبب ضعف قوّة من هذه الثلاث القوی، فينبغي أن يداوی بإصلاح سوء المزاج الذي أضعف تلك القوّة. فإن كان سوء المزاج

من برودة، أسخنت تلك البرودة. وإن كانت من الحرارة، برّدت تلك الحرارة. وينبغي أن تعمل في المداواة بإسخان البرودة وتبريد الحرارة، حيث كان ذلك عامّة في أيّ عضو اتّفق من الأعضاء الجليلة الخطر، علی أن يخلط في الأشياء التي يداوی بها أشياء تقوّي العضو، وتحفظ عليه قوّته.

مثال ذلك: أنّ المعدة إذا ضعفت، نظرنا، فإن كان ضعفها من سوء مزاج بارد، ضمدناها بالأضمدة التي يقع فيها الشراب، والسفرجل، والسويق، والزعفران، والصبر، والمصطكی، وصببنا عليها وغرقناها بدهن الأفسنتين، ودهن المصطكی، ودهن السفرجل، ودهن الناردين، وشراب.

وإن كان ضعفها من سوء مزاج حارّ، استعملنا في الضماد والنطول أشياء

مركّبة من الأنواع القابضة الطيّبة الروائح التي ذكرنا، وخلطنا معها أشياء تبرّد، بمنزلة ماء القرع، وماء الخسّ، وماء البقلة الحمقاء، وماء الهندباء، وماء الحصرم، وماء عنب الثعلب، وما عصا الراعي.

[في الصداع]

الصداع لا يخلو من أن يكون إمّا علامة من علامات البحران، وإمّا عرضاً من الأعراض.

فإن كان من علامات البحران، فليس يحتاج إلی مداواة. وهو يدلّ إمّا علی قيء، وإمّا علی رعاف.

وإن كان من أعراض الأمراض، فإمّا أن يكون إنّما حدث بمشاركة الرأس للمعدة في علّة بها، بمنزلة ما يعرض إذا كان في المعدة إمّا بلغم عفن، فيحدث لذلك مع الصداع غثيان، وإمّا مرار، ويحدث مع الصداع لذع

في المعدة، وخفقان. أو يكون إنّما حدث عن علّة في الرأس خاصّة. وهذه العلّة إمّا أن تكون من سوء مزاج بلا مادّة، وإمّا بمادّة. وسوء المزاج إمّا أن يكون حارّاً، بمنزلة ما يعرض في الاحتراق من الشمس، وإمّا بارداً، بمنزلة ما يعرض لمن يصيبه البرد. وأمّا المادّة فمنها ما يحدث الصداع بكثرة مقدارها، ومنها ما يحدثه بكيفيّتها.

فالصداع الحادث عن كثرة مقدار المادّة: منه ما يكون بثقل يجده صاحب الصداع في رأسه — وذلك يكون عندما في الرأس خلط كثير المقدار، ومنه

ما يكون بتمدّد يجده.

والتمدّد يحدث إمّا عن ريح غليظة، وإمّا عن خلط كثير المقدار.

فأمّا المادّة التي تحدث الصداع بكيفيّتها، فإنّها تحدثه إمّا ببرودتها، وإمّا بحرارتها، وتلذيعها.

والمادّة الملذّعة إمّا أن تكون بخاراً حادّاً، وإمّا خلطاً حادّاً.

ونقول أيضاً: إنّ الصداع يكون إمّا من مرض متشابهة الأجزاء، وإمّا من مرض غير متشابهة الأجزاء. أعني بغير متشابهة الأجزاء ما كان يحدث في عضو من الأعضاء المركّبة المعروفة بالآلات، وينسب إليها، بمنزلة السدّة والورم الذي يحدث الصداع.

وأمّا المرض المتشابهة الأجزاء فهو سوء مزاج. وسوء المزاج منه ساذج لا مادّة معه، ومنه ما معه مادّة.

والساذج الذي يحدث الصداع إمّا أن يكون حارّاً، وإمّا أن يكون بارداً.

والذي معه مادّة إمّا أن تكون مادّته خلطاً حارّاً، وإمّا بارداً. والذي معه مادّة إمّا ريحاً، وإمّا بخاراً.

والوجه الذي به يتعرّف أمر الصداع من أيّ سبب حدث هو هذا:

إن كان الصداع في شقّ واحد من الرأس فهو يدلّ علی أنّ السبب الفاعل له سدّة في ذلك الشقّ.

وإن كان في الرأس كلّه: فما كان منه مع ثقل فهو يدلّ علی أنّه من امتلاء، وما كان مع لذع فهو يدلّ علی أنّه من بخارات حادّة، وما كان منه مع ضربان

فهو يدلّ علی أنّه من ورم، وما كان مع تمدّد، فإنّه يختلف. وذلك أنّه إن كان التمدّد مفرداً وحده فهو يدلّ علی أنّه من ريح غليظة. وإن كان التمدّد مع ضربان فهو يدلّ علی أنّ الصداع من ورم في الأغشية. وإن كان مع ثقل فهو يدلّ علی امتلاء محتقن في جوف الأغشية.

والصداع قد يكون مفرداً وحده غير تابع لعلّة أخری، ويكون مع الحمّی.

وما كان من الصداع قائماً بنفسه، فليس قصدنا هاهنا لمداواته.

وأمّا ما يكون منه مع الحمّی فإليه قصدنا. وهذا الصنف من الصداع إنّما

هو عرض من أعراض الحمّی. والسبب في حدوثه معها ما يمتلئ به الرأس من الأخلاط والبخارات الحادّة.

والسبب الذي صار الرأس يمتلئ من هذه الأخلاط والبخارات في الحمّی هو واحد من خمسة أسباب:

إمّا خلط رديء محتقن في المعدة.

وإمّا امتلاء يجتمع في جميع البدن.

وإمّا حرارة في الرأس.

وإمّا ضعف من الرأس.

وإمّا عظم من الحمّی.

فإن كان السبب في ذلك خلطاً رديئاً مجتمعاً في المعدة، فإنّا نستدلّ عليه بالغثيان، والخفقان، ونداويه بالقيء.

وإن كان السبب في ذلك امتلاء مجتمعاً في جميع البدن، فمداواته استفراغ البدن كلّه.

وإن كان السبب حرارة في الرأس تجتذب إليه الفضول من البدن كاجتذاب المحجمة الدم، فيجب أن نداوي بالأشياء التي تبرّد. وإن كان السبب ضعفاً من الرأس يدعوه إلی سرعة القبول والامتلاء المضرّة، داويناه باجتذاب المادّة وإزالتها عنه إلی خلاف تلك الناحية، وبوضع الأشياء التي يداوی بها نفس الموضع علی الرأس. واجتذاب المادّة يكون بالحقن الحادّة، وبشدّ اليدين والرجلين ودلكهما، وبإخراج الدم من أسفل إن احتيج إلی ذلك.

فأمّا الأشياء التي توضع علی الرأس، فيجب أن تكون في أوّل الأمر أشياء

تمنع وتدفع عن الرأس كيما يندفع عنه ما يرتفع إليه، بمنزلة زيت الأنفاق، والخلّ مع دهن الورد، وأشياء تتّخذ بالخشخاش، وورق الزيتون، والنعنع الطريّ، والسيسنبر.

وينبغي أن تستعمل هذه، إن كان الخلط بارداً بلغميّاً، مفتّراً بالنار. وإن كان الخلط حارّاً مراريّاً، مبرّدة.

وأمّا فيما بعد ذلك فيجب أن تكون الأشياء التي يداوی بها الرأس أشياء تستفرغ منه ما حصل فيه. وهذه الأشياء ينبغي أن تكون بحسب حال الخلط في غلظه. وذلك أنّه إن كان قليل الغلظ واللزوجة، فينبغي أن يداوی بالزيت العتيق، ودهن الشبتّ، وكلّ ذلك مفتّراً بالنار. وإن كان الخلط غليظاً، فينبغي أن يداوی بزيت قد طبخ فيه نمّام، أو سيسنبر، أو نعنع، أو فوذنج، وبالسعوط، والغرغرة. فأمّا في آخر الأمر، فيجب أن يداوی بالأشياء المقوّية للرأس، كيما

لا يعاود قبول ما يرتفع إليه من البدن. والأشياء التي تفعل به ذلك هي الأشياء التي تجفّفه وتشدّه، بمنزلة الدلك بالمناديل بلا دهن، وبالدواء الذي يقع فيه الملح والنطرون، والخردل إذا نثر علی الرأس، ودلّك به.

وإن كان السبب عظم الحمّی لأنّ الأخلاط تذوب وتنحلّ بكثرة حرارة الحمّی، وتعلی، فترتفع إلی الرأس، فإنّا نداويه بالأشياء المطفّئة التي تبرّد، وتنقص من حرارة ذلك الشيء الذي يرتفع، وتقوّي الرأس، كيما لا يقبله، ويدفع عنه ما قد ارتفع إليه، بمنزلة الماء المضروب مع الدهن، والخلّ المضروب بدهن الورد، والخشخاش.

[الكلام في البحران وعلاماته]

للبحران علامات يستدلّ بها عليه: هل يكون، أم لا؟ وعلامات يستدلّ بها في أوّل كونه، وبعد أن قد كان.

أمّا العلامات التي يستدلّ بها: هل يكون البحران، أم لا؟ فهي: نوع المرض، وحاله في السلامة والخبث، ووقته.

أمّا نوع المرض: فإنّه إن كانت حرارته قويّة حادّة محرقة فهو من الأمراض التي يأتيها البحران دفعة بلا استفراغ. وإن كانت حرارته ليّنة، ليست بحادّة، فهي من الأمراض التي تنحلّ انحلالاً بغير بحران يأتي دفعة. وإن أتاها بحران، فإنّما يأتيها بحران بغير استفراغ.

وأمّا حال المرض في سلامته وخبثه: فإنّه إن تبيّنت في المرض علامات نضج العلّة، فقد يمكن أن يأتيه بحران جيّد.

وإن تبيّنت فيه علامات التلف، فليس يمكن أن يأتيه بحران جيّد، بل صاحبه يموت.

وأمّا وقت المرض، فإنّه إن تبيّنت علامات البحران في أوّل المرض، أو في صعوده، أو بالجملة قبل علامات النضج، فليس يمكن أن يأتي في ذلك المرض بحران جيّد.

وإن تبيّنت علامات البحران عند منتهی المرض، أعني من بعد علامات النضج، فسيأتيه لا محالة بحران جيّد.

وأمّا العلامات التي يستدلّ بها عليه بعد أن قد كان: فمنها ما يدلّ عليه في أوّل كونه، ومنها ما يدلّ عليه بعد أن قد حضر.

أمّا التي تدلّ عليه في أوّل كونه، فما يتقدّمه من الشدّة والصعوبة وحال اليوم الذي يقع فيه.

أمّا ما يتقدّمه، فإنّه إن كان البحران يأتي بالنهار، تقدّمته الشدّة في الليلة التي قبله. وإن كان يأتي بالليل، تقدّمته بالنهار الذي قبل تلك.

وأمّا حال اليوم الذي يقع فيه، فإنّه إن كان يوماً باحوريّاً، كان فيه بحران. وإن لم يكن باحوريّاً، لم يكن فيه بحران.

فأمّا العلامات التي تدلّ علی البحران بعد أن قد حضر، فهي أن يكون استفراغ الخلط الفاعل للمرض من الموضع الذي قد حصل فيه، وأن يستفرغ الخلط المؤذي لا غيره، وأن يكون الاستفراغ من موضع محاذٍ للموضع العليل علی استقامة، وأن يكون الأمر في الاستفراغ سهلاً، لا مشقّة فيه علی المريض.

فالبحران يعرف جملة أمره هل يأتي، أم لا، من نوع المرض. فإنّه إن كان مرضاً حادّاً فالبحران يأتي. وإن لم يكن حادّاً، لم يأت.

وتعلم هل يكون بحران جيّد، أم بحران رديء من حال المرض في السلامة، والخبث. وذلك إن تبيّنت فيه علامات الخلاص والسلامة، فالبحران الذي يأتي فيه يكون جيّداً، والمريض لا محالة يعيش. وإن تبيّنت فيه علامات التلف، لم يمكن أن يأتي المريض فيه بحران جيّد، بل هو علی كلّ حال يموت.

وتعلم هل يكون بحران تامّ أم غير تامّ من الوقت الذي يقع فيه البحران من أوقات المرض. وذاك أنّه إن تبيّنت علامات البحران في ابتداء المرض، أو في صعوده، أو بالجملة والمرض لم ينضج بعد، فليس يأتي فيه بحران تامّ.

وإن تبيّنت العلامات في منتهی المرض، وبعد أن قد تبيّنت علامات النضج، فالبحران الذي يأتي فيه يكون تامّاً.

الصداع الذي يعرض بسبب البحران يدلّ علی أحد أمرين: إمّا علی رعاف وإمّا علی قيء.

والذي يستدلّ به علی الصداع: هل هو علامة للبحران، أم لا، أنّه لا يحدث في أوّل المرض، لكن عندما يحدث للمريض من الشدّة بغتة من بعد

علامات النضج، قبل وقت البحران. فإنّ سائر العلامات الأخر التي ذكرناها قبل تكون بيّنة فيه.

والذي يستدلّ به علی ماذا يدلّ: من قيء، أو رعاف: أنّه إن كان يدلّ علی قيء، عرض للمريض معه ظلمة في بصره، وخيالات يراها باطلاً، وأظلمت

الأشياء في بصره، وعرض له خفقان: واختلاج في الشفة السفلی، وكان موافقاً لما قد عرض في ذلك في عامّة الأمراض من قبل مزاج الهواء.

وإن كان يدلّ علی رعاف حدث معه للبصر أن يری شيئاً شبيهاً بالشعاع، وذلك بسبب حمرة الدم. وعرض للمريض اختلاط في عقله بسبب أنّ الدماغ يسخن بميل الدم إلی فوق، وحدث وجع في العنق بسبب تمدّد العروق التي فيه، وتمدّد في مراقّ البطن إلی فوق بسبب حركة الدم إلی فوق، وضيق النفس يعرض بغتة، لأنّ العرق الأجوف الذي ممرّه في الصدر ينتفخ ويتمدّد بالدم، ولأنّ المراقّ إذا انجذب إلی فوق، ضغط الحجاب. ودموعه تنحدر بلا علّة في العين. وحمرة في العينين، أو في الوجنتين، أو في الأنف واختلاج في واحد من الأعضاء

التي في الوجه، وحكّة في الأنف، وضربان في الصدغين، وحال الأشياء التي تدلّ بموافقتها ومخالفتها إذا كانت تدلّ علی الدم، بمنزلة أن يكون الوقت الحاضر من أوقات السنة الربيع أو الصيف، والبلد المعتدل إمّا معتدل المزاج وإمّا حارّاً، والسنّ إمّا سنّ الصبيان وإمّا سنّ الشباب، والمزاج إمّا معتدلاً، وإمّا حارّاً. والعادة إن كان المريض لم يزل من عادته أن يرعف. وحال الأمر العامّ للمريض في ذلك الوقت، من قبل الهواء، أعني إن كان البحران بالرعاف قد عرض في ذلك الوقت لكثير من المرضی.

وإن كانت الدموع والحمرة والاختلاج والحكّة وارتفاع مراقّ البطن من الجانب الأيمن، فالرعاف ينبعث من المنخر الأيمن، وإن كان من الجانب الأيسر فالرعاف ينبعث من الجانب الأيسر.

والدموع منها ما يجري بإرادة الإنسان، بمنزلة ما يعرض في الغمّ، ومنها ما ينحدر بغير إرادة، إمّا بسبب مادّة كثيرة، وإنّا بسبب ضعف من القوّة. والمادّة الكثيرة إمّا أن تكون في العين بمنزلة ما يعرض لصاحب الرمد، وإمّا أن تكون في الرأس، بمنزلة ما يعرض للسكران، ولمن يميل الدم في بدنه إلی فوق.

وأمّا ضعف العين فإنّه إذا كان هو السبب في الدموع، كان ذلك من علامات التلف.

علامات البحران: منها ما يعرض بسبب العضو الذي منه تنبعث المادّة، بمنزلة إشراف مراقّ البطن.

ومنها ما يعرض بسبب العضو الذي فيه تمرّ وتنفذ تلك المادّة، بمنزلة وجع العنق، وضيق النفس.

ومنها ما يعرض بسبب العضو الذي فيه تحصل المادّة، بمنزلة اختلاط الذهن، والصداع، وظلمة البصر، وما يراه الإنسان من الضوء الشبيه بالشعاع، وما يعرض من الطنين في الأذنين، ومن الحكّة في الأنف، والاختلاج في الشفة.

وقد ينبغي لنا في كلّ بحران أن نعلم من أيّ الأعضاء تنبعث المادّة، وفي أيّ عضو تحصل.

أمّا من أيّ الأعضاء تنبعث، فكيما إن أسرف الاستفراغ بصاحبه فوق ما يجب، ميّلنا المادّة إليه، بمنزلة ما إذا عرض أن يكون الدم ينبعث من الكبد إلی المنخرين، وأسرف الرعاف بصاحبه، وضعنا المحجمة علی الكبد،

وإن كان ينبعث من الطحال، علّقناها علی الطحال.

وأمّا في أيّ عضو تحصل، فكيما إن قصر الاستفراغ عمّا ينبغي، أعنّا الطبيعة، بمنزلة ما إذا أظلم بصر الإنسان، واختلجت شفته السفلی، وأبطأ عنه القيء، أو كان منه شيء يسير، أعنّا المريض باستدعاء القيء له بإدخال الإصبع، أو بإدخال الريشة في الحلق.

قدماء اليونانيّين يعنون بقولهم فلغموني: كلّ التهاب يعرض في عضو من الأعضاء.

وأمّا من قرب عهده منهم فيعنون بقولهم: الورم الحارّ الصلب الذي يدافع اللمس، ويوجع.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

جوامع المقالة الثانية من كتاب جالينوس إلی اغلوقن

من الأمراض أشياء تعرض في كلّ ندرة، وقد ذكرها جالينوس في كتبه التي قصد بها إلی المستكملين، ومنها أشياء تعرض علی الأمر الأكثر إمّا في جميع البدن، بمنزلة الحمّی — فإنّ الحمّی، وإن كانت إنّما هي علّة من علل القلب، قد تشتمل علی جميع البدن — وقد ذكرنا ما هذا سبيله من الأمراض في المقالة

الأولی من هذا الكتاب وإمّا في عضو عضو علی حدته، بمنزلة الأورام. وهو يذكر ما هذا سبيله من الأمراض في هذه المقالة الثانية من هذا الكتاب.

كلّ ورم يحدث في البدن: فإنّما يتولّد من فضل خلط ينصبّ إلی ذلك العضو الذي يرم. وهذا الخلط إمّا أن يكون من جنس الدم فيحدث عنه الورم

المسمّی فلغموني، وإمّا من جنس البلغم ويحدث عنه الورم الرخو المعروف بالتهيّج، وإمّا من جنس المرار ويحدث عنه الورم المعروف بالحمرة، وإمّا من جنس السوداء فيحدث عنه الورم المعروف بالصلابة، والمعروف بالسرطان.

وقد يقسّم هذا الباب بقسمة أجود من هذه علی هذا الوجه، فيقال:

إنّ كلّ وررم يحدث في البدن فإنّما يتولّد من فضل خلط.

وليس يخلو هذا الخلط من أن يكون إمّا حارّاً، وإمّا بارداً.

فإن كان حارّاً، حدث عنه الورم المسمّی فلغموني.

وهذا الورم يختلف في حالاته من قبل اختلاف الأخلاط الفاعلة له، ومن قبل اختلاف الأعضاء التي يحدث فيها.

أمّا من قبل الأخلاط، فإنّها إن كانت يابسة حادّة مراريّة أحدثت الورم الحارّ الذي يسعی وينتشر، ويقال له النملة. وإن كانت رطبة ساكنة دمويّة أحدثت الورم الحارّ المخصوص بفلغموني، وإن كانت وسطاً فيما بين الأمرين أحدث الورم الحارّ المعروف بالحمرة.

وأمّا من قبل اختلاف الأعضاء التي تحدث فيها، فإنّه إن كان حدوث الورم الحارّ في الأعضاء اللحميّة سمّي باسم مطلق فلغموني، وإن كان في الجلد سمّي نملة، وإن كان فيما بين الجلد واللحم سمّي حمرة، وإن كان في اللحم الرخو

سمّي طاعوناً، أو الورم المعروف بجثالون، أو خراجاً، وإن حدث في غير ذلك من الأعضاء سمّي بأسماء أخر.

فإن كان الخلط بارداً، فليس يخلو من أن يكون إمّا رطباً، وإمّا يابساً.

فإن كان رطباً، حدث عنه الورم الرخو المعروف بالتهيّج.

وإن كان يابساً، فليس يخلو من أن يكون إمّا رديئاً خبيثاً فيحدث عنه السرطان، وإمّا غير خبيث فيحدث عنه الصلابة.

القدماء من اليونانيّين يصرفون اسم الورم الحارّ، أعني فلغموني، علی كلّ التهاب يحدث في عضو من الأعضاء.

وعلی هذا المعنی استعمل جالينوس في هذه المقالة هذا الاسم.

فأمّا من قرب عهده من اليونانيّين فإنّهم يصرفون هذا الاسم علی الورم الحادث عن الدم فقط.

وأوّل شيء يذكر جالينوس في هذه المقالة من الأورام: الورم المسمّی فلغموني، وذلك لأنّ هذا الورم يعرض أكثر ما يعرض غيره.

وإنّما قصد جالينوس هاهنا لذكر الأمراض التي تعرض علی الأمر الأكثر. ولأنّ أصنافه أكثر من أصناف غيره من الأورام، ولذلك صار ذكره أوجب، وأحقّ بالتقديم. ولأنّ جميع أصناف هذا الورم تكون معه حمّی.

وقد ذكر جالينوس الحمّيات في المقالة الأولی فجعل ذكرها أوّل شيء يبتدئ به ليتّصل له الأمر.

ليس تخلو هذه العلّة المسمّاة فلغموني من أن تكون من سوء مزاج ساذج، لا مادّة معه، أو من سوء مزاج معه مادّة.

أمّا من سوء مزاج ساذج فعندما يحدث في العضو التهاب فقط، وهذا الالتهاب لا يزال إلی وقت ما شبيهاً بحمّی أخذت ذلك العضو وحده. فإذا قوي واشتدّ، حدث عنه فساد العضو وموته.

وأمّا سوء المزاج الذي معه مادّة، فإنّه لا يخلو من أن يكون إمّا مع دم وحده، فيحدث عنه الورم المخصوص، الحقيق باسم فلغموني، وإمّا مع صفراء وحدها، فتحدث عنه النملة، وإمّا معها جميعاً فتحدث عنه الحمرة.

وقد يقسّم هذا المعنی بقسمة أصحّ، وأشدّ استقصاء من هذه، فيقال: إنّ المادّة التي يحدث عنها فلغموني لا تخلو من أن تكون إمّا دماً، وإمّا مرّة صفراء، وإمّا كليهما.

فإن كانت المادّة دماً، فإمّا أن يكون ذلك الدم دماً جيّداً، معتدل المزاج، فيحدث عنه الورم الذي يقال له بالحقيقة فلغموني، وإمّا أن يكون دماً ليس بجيّد، ولا معتدل المزاج.

فإن كان جيّداً، معتدل المزاج، فإمّا أن يكون غليظاً، وإمّا رقيقاً.

فإن كان غليظاً، فالورم يحدث في اللحم، ويكون معه هذه العلامات، وهي: وجع في العضو الوارم متی لم يكن من الأعضاء التي لا حسّ لها، وضربان، وتمدّد، وترضّض، والتهاب، وحمرة لون.

وإن كان الدم رقيقاً، حدث الورم في الجلد، وظهرت فيه جميع تلك العلامات، خلا الضربان.

وإن كان الدم ليس بجيّد، ولا معتدل المزاج، بل شديد الحرارة، فإمّا أن يكون رقيقاً، وإمّا أن يكون غليظاً. فإن كان رقيقاً حدث عنه الورم المسمّی حمرة. إلّا أنّ هذه الحمرة أقلّ رداءة من تلك الحمرة التي تحدث عن دم يخالطه مرار.

وإن كان غليظاً، حدث عنه الورم المعروف المسمّی بالحمرة.

وأمّا إن كانت المادّة مرّة صفراء، فليس يخلو من أن تكون إمّا لطيفة رقيقة، وإمّا غليظة، وإمّا بين ذلك.

فإن كانت رقيقة، حدث عنها الورم المعروف بالنملة الساذجة التي تكون في الجلد.

وإن كانت غليظة، حدث عنها الورم المعروف بالنملة التي يكون معها تأكّل موضعها وهي التي تجاوز الجلد إلی ما تحته من اللحم.

وإن كانت بين ذلك وأقلّ حرارة، حدث عنها الورم المعروف بالنملة الجاورسيّة وهي التي تتضمّنها قروح شبيهة بحبّ الجاورس ظاهرة في الجلد.

فأمّا إن كانت المادّة دماً ومرّة جميعاً، حدث عنهما الورم المعروف بالحمرة الخبيثة، علی ما قلنا قبل.

الورم المعروف بفلغموني علی الحقيقة، إن كان حدوثه في اللحم فإنّما يحدث من دم غليظ، وتظهر معه العلامات التي ذكرناها قبل، وهي: الوجع الشديد، والضربان، والتمدّد، والترضّض، والحمرة في اللون، والالتهاب.

وإن كان في الجلد فحدوثه عن دم رقيق. وجميع العلامات التي ذكرناها تظهر معه، خلا الضربان. فإنّ الضربان إنّما يكون لقرب العروق الضوارب من موضع الورم. والعروق الضوارب غائرة بعيدة عن الجلد.

والورم المسمّی فلغموني بالحقيقة لا يخلو حدوثه من أن يكون إمّا عن الأسباب البادئة، بمنزلة الجراحة، والفسخ، والقطع، وحرق النار، والتعب من الرياضة، والخلع، والكسر، والقرحة التي تحدث إمّا من سبب من خارج، وإمّا من سبب من داخل.

وأمّا عن الأسباب المتقادمة، أعني عن الامتلاء.

إذا حدث بالعضل انتقاص الاتّصال من غير خرق في الجلد، فربّما كان ذلك في وسط العضلة حيث اللحم الكثير، وربّما كان في أحد طرفيها حيث العصب أكثر.

فإن كان في الجزء اللحيم سمّي باليونانيّة رغماً، وتفسيره الفسخ.

وإن كان في الجزء العصبانيّ سمّي باليونانيّة سباسما، وتفسيره الهتك.

إذا كان البدن ممتلئاً، فالمادّة تنصبّ إلی العضو الذي يرم حتّی تملأه، وتورمه من أيّ خلط كانت، لأحد أربعة أسباب: إمّا لأنّه أضعف من سائر الأعضاء، وإمّا لأنّه أسخف من سائر الأعضاء، وإمّا لأنّه أسرع وأشدّ استعداداً لاجتذاب المادّة إليه، وإمّا لأنّه أسفل موضعاً من غيره.

فإن كان أضعف من سائر الأعضاء، فليس يخلو ضعفه من أن يكون إمّا طبيعيّاً، وإمّا عرضيّاً. أمّا الضعف الطبيعيّ، فبمنزلة ضعف الجلد، فإنّ الجلد جعل ضعيفاً بالطبع، ليسارع إلی قبول الفضل الذي تدفعه الأعضاء الشريفة الجليلة الخطر.

وأمّا الضعف العرضيّ فيحدث إمّا عن مرض، وإمّا عن عدم الحركة.

وأمّا إن كان العضو أشدّ تخلخلاً، وأسخف جرماً من غيره، وكانت تتّصل به طرق ومنافذ واسعة، بمنزلة اللحم الرخو، فهو أحری أن يسرع إلی قبول المادّة.

وأمّا إن كان أكثر استعداداً لاجتذاب المادّة من غيره، فإنّما يعرض له ذلك إذا كان أشدّ حرارة من غيره إمّا بالطبع، بمنزلة اللحم، وإمّا بطريق العرض.

فإن كان بطريق العرض فإنّما يكون ذلك إمّا بسبب وجع يحدث فيه، وإمّا بسبب حركة شديدة، بمنزلة التعب.

وإن كان العضو أسفل موضعاً من غيره، بمنزلة الرجل، فالموادّ تكون إليه أميل. ولذلك يعرض فيها النقرس.

النملة تحدث عن المرّة الصفراء. وهذه المرّة ربّما كانت رقيقة، وربّما كانت غليظة.

وإذا كانت غليظة، حدثت عنها النملة التي تأكل موضعها وهي التي تجاوز الجلد، وتبلغ اللحم.

فأمّا إن كانت رقيقة، فإنّها إن كانت شديدة الحدّة، أحدثت النملة التي تحرق الجلد فقط. وإن كانت قليلة الحدّة، أحدثت النملة التي تعرف بالجاورسيّة وهي التي تحدث في الجلد قروحاً شبيهة بحبّ الجاورس.

إذا كثرت المرّة الصفراء، فإنّها إن جرت مع الدم إلی سائر البدن من غير أن تتحيّز في موضع واحد، تعفن فيه، أحدثت اليرقان.

وإن فارقت الدم، وانفصلت منه، وصارت إلی واحد من الأعضاء، وتحيّزت فيه، وعفنت، أحدثت النملة.

الورم المعروف بالحمرة يكون إمّا من دم قد خالطته المرّة الصفراء، وهو أشرّ وأردأ، وإمّا من دم رقيق لطيف جدّاً، يغلی من حرارته. وهذا الورم أقلّ رداءة من ذلك، وهو إلی داخل البدن أميل.

وهذا الورم المعروف بالحمرة منه ما يكون خالصاً وهو الذي يحدث في الجلد لا يجاوزه، وتظهر معه علامات حرارة أشدّ من حرارة الورم المسمّی فلغموني، وحمرة ناصعة أكثر من حمرة ذلك. وإذا لمست العضو الذي هو فيه، رأيت

الدم يتنحّی عن موضع الغمز، ثمّ يرجع. ووجعه أقلّ من وجع الورم المسمّی فلغموني، وكذلك ضربانه، وتمدّده، وترضّضه.

ومنه ما يكون غير خالص وهو الذي يحدث من خلط أغلظ من الخلط الذي

يحدث عنه ذاك. وهذه الحمرة هي مركّبة من الورم المعروف بالحمرة والورم المعروف بفلغموني. ولذلك صار وجعه أشدّ، وهي إلی داخل أميل.

إذا خالط الورم المعروف بالحمرة الورم المعروف بفلغموني، إن كانت علامات الحمرة أبين وأظهر، سمّي ذلك الورم حمرة فلغمونيّة. وإن كانت علامات الفلغموني أبين وأظهر، سمّي فلغموني تضرب فيها الحمرة. وإن كانت علاماتهما سواء، قيل إنّ هناك فلغموني وحمرة معاً.

الورم المعروف بالحمرة: منه ما يحدث عن دم حارّ يغلی غليظ يحرق العضو ويحدث فيه قرحة لها قشرة صلبة وورم حارّ موجع، ولا يكون معه نفّاخة.

ومنه ما يكون عن دم حاله هذه الحال، ولكن قد خالطه صديد رقيق. وهذا تكون معه نفّاخات شبيهة بالنفّاخات التي تحدث عن النار. وإذا نضجت هذه النفّاخات، صار في موضعها قرحة لها قشرة صلبة.

للورم فصول جوهريّة، وفصول عرضيّة.

وفصوله الجوهريّة هي التي قد ذكرناها قبل.

فأمّا الفصول العرضيّة فهي التي تلزمه من الموضع الذي تحدث فيه.

وذلك أنّه إن حدث الورم في اللحم الرخو، كان فلغموني. وإن هو أسرع وبادر إلی جمع المدّة، سمّي خراجاً. وإن أبطأ عن الجمع، سمّي طاعوناً. وإن كان فلغموني تضرب فيها الحمرة، أو حمرة يضرب فيها فلغموني، سمّي باليونانيّة بوجثلون. وإن حدث الورم في الغشاء المغشّي لبياض العين، سمّي رمداً، وإن حدث في الغشاء المبطّن للأضلاع، سمّي ذات الجنب، وإن حدث في الحنجرة، سمّي خوانيق، وإن حدث في الرئة سمّي ذات الرئة، وإن حدث في أغشية الدماغ، سمّي سرساماً حارّاً.

الأورام الحارّة المسمّی واحدها فلغموني: منها ما يكون في الأعضاء الباطنة. وما كان كذلك، فلا بدّ من أن تكون معه لا محالة حمّی. ويحتاج في ذكرها إلی كلام طويل، من طريق أنّ تعرّفها شديد، صعب، لا يلحقه فهم

المتعلّمين، ولذلك ليس يذكرها هاهنا.

ومنها ما يكون في ظاهر البدن. وتعرّفها إذا كانت كذلك، سهل. ولذلك نذكرها هاهنا.

ونجعل أوّل ما نذكره منها:

ابتداء علاج الأورام

الورم المسمّی فلغموني:

إذا كان حدوث الورم المسمّی فلغموني من سبب بادئ، كالورم الحادث عن ضربة، أو عن قطع، أو عن صدمة، كنّا من استفراغ الخلط المجتمع في ذلك الورم علی الثقة، فاستفرغناه بالتحليل بالأشياء التي ترخي، وتحلّل بإسخانها وترطيبها، وبالأشياء التي تجمع المدّة، وبالشرط بالمشاريط.

وإذا كان حدوثه من سبب متقادم، أعني من فضل ينصبّ إلی العضو بسبب امتلاء في البدن، استعملنا في مداواته التثبّت، والتوقّف، والحذر. وذلك أنّه ينبغي أن نبتدئ أوّلاً باستفراغ جميع البدن بفصد العرق. ثمّ نأخذ بعد ذلك في

مداواة العضو الوارم.

فإن لم يكن الوجع شديداً، استعملنا أشياء تمنع ما ينصبّ إلی العضو بقبضها، وتفني ما حصل فيه بتيبّسها، وتقوّيه بتطفئتها حرارته، وإقبالها به إلی اعتدال المزاج، بمنزلة الضماد المتّخذ من حيّ العالم، وقشور الرمّان المطبوخة بالشراب، والسمّاق، ودقيق الشعير.

وإن كان الوجع شديداً، وضعنا علی العضو الوارم نفسه شيئاً يقبّض، ويرخي، بمنزلة القيروطی المركّبة من شمع، ودهن ورد، إذا غمس فيها صوف وسخ، ووضعت في الصيف وهي باردة، وفي الشتاء وهي فاترة، ووضعنا فوق العضو العليل إسفنجة مبلولة بشراب قابض، أو بماء بارد، أو بخلّ ممزوج.

ثمّ ننظر بعد ذلك، فإن لم تظهر علامات المدّة، استعملنا الأدوية التي من شأنها أن تجفّف وتدفع معاً من غير أن تهيّج الوجع، بمنزلة المرهم المتّخذ بالقلقطار.

وإن ظهرت علامة المدّة المجتمعة، داويناه أوّلاً بالأضمدة التي تقيّح، وضمدناه بها مرّة، أو مرّتين، وخلطنا مع هذه الأدوية أشياء قوّتها قوّة قابضة، بمنزلة الضماد المتّخذ من دقيق الشعير وشراب، أو خلّ ممزوج. فإنّ لدقيق الشعير قوّة ترخي مع تيبيس، وللشراب قبض مع تقوية. ثمّ من بعد ذلك نبطّه، ونخرج

ما فيه من المدّة، ونداويه من بعد البطّ بالأشياء التي تجفّف وتقبّض فقط. ونحذر الأشياء التي ترخي. وإن احتجنا، غسلنا الخراج بخلّ ممزوج، أو بشراب، ووضعنا عليه — إن كان هناك ورم حارّ — ضماداً يتّخذ بالعدس. وإن لم يكن هناك ورم حارّ، وضعنا المرهم المتّخذ بالقلقطار، وصيّرنا فوقه إسفنجة مبلولة بشراب قابض، أو بخلّ ممزوج — أمّا بشراب فعندما تكون حاجتنا إلی التقوية أكثر،

وأمّا بخلّ ممزوج فعندما تكون الحاجة إلی التطفئة أكثر.

الأشياء التي يجب أن نجعلها غرضاً نقصد نحوه لنعلم به هل ينبغي أن نفصد عرقاً، أم لا، ومن أين ينبغي أن نفصد، وكيف يجب أن نفصد، وكم يجب

أن نخرج من الدم، هي عشرة أشياء:

أحدها سبب المرض، والثاني قوّة المريض، والثالث سنّه، والرابع الوقت الحاضر من أوقات السنة، والخامس البلد، والسادس حال الهواء، والسابع مزاج المريض، والثامن عادة المريض، والتاسع سحنته، والعاشر العضو العليل.

أمّا سبب المرض: فإنّه إن كان دماً، أو كان شيئاً مخالطاً للدم، فيجب أن

نفصد للمريض عرقاً. وإن كان ليس هو دماً، ولا شيئاً مخالطاً للدم، فليس يجب أن نفصد له عرقاً. وكذلك أيضاً إن كان سبب المرض كبير المقدار، فيجب أن نخرج له من الدم مقداراً كبيراً. وإن كان يسيراً، فيسير.

وأمّا قوّة المريض: فإن كانت قويّة، فيجب أن نخرج له من الدم مقدار ما يحتاج إليه. وإن كانت ضعيفة، فبحسب مقدارها. وذاك أنّها إن كانت ضعيفة جدّاً، لم نخرج أصلاً. فإن كانت ضعيفة، لكنّها ليست في الغاية في الضعف، فيجب أن نخرج أقلّ ممّا يحتاج إليه. وإن كانت ليست بضعيفة كثيراً، فيجب أن نخرج بقدر الحاجة، ولكن لا نخرج في مرّة واحدة، بل في مرار كثيرة.

وأمّا السنّ: فإنّها إن كانت سنّ الفتيان، أو سنّ الشباب، فيجب أن نخرج لصاحبها حاجته من الدم. وإن كانت سنّ الصبيان، أي سنّ الشيوخ الهرمی، فلا.

وأمّا الوقت الحاضر من أوقات السنة: فإنّه إن كان وقتاً معتدل المزاج، مثل وقت الربيع، فيجب أن يخرج فيه الدم. وإن كان وقتاً غير معتدل المزاج، بمنزلة الصيف، والشتاء، فليس يجب أن يخرج فيهما الدم. فإن أخرج، فليخرج منه الشيء اليسير.

وأمّا البلد وحال الهواء: فإنّهما إن كانا معتدلين، فيجب أن يخرج فيهما

الدم. وإن كانا غير معتدلين، فليس يجب أن يخرج. وإن أخرج، فالقليل.

وأمّا مزاج البدن: فإنّه إن كان حارّاً، كثير الدم، فينبغي أن يخرج لصاحبه دم كثير. وإن كان بارداً، أو يابساً، قليل الدم، فليس يجب أن يخرج له الدم. وإن أخرج، فاليسير.

وأمّا العادة: فإنّها إن كانت تجيب إلی إخراج الدم، فيجب ألّا يمنع من إخراجه. وإن كانت تخالف، فليس يجب أن نخرجه. وإن أخرجناه، أخرجنا أقلّ ممّا يحتاج إليه.

وأمّا السحنة: فإنّه إن كانت قضيفة كثيراً، أو كان الإنسان مسمّناً كثيراً، وكان بدنه سخيفاً، كثير التخلخل، كثير اللين، فليس ينبغي أن يخرج له دم. وإن أخرج له، فأقلّ ممّا يحتاج إليه.

وإن كانت معتدلة بين القضافة والسمن، وكان البدن كثيفاً صلباً، فهو لذلك عسر التحلّل، فيجب أن يخرج له الدم.

وأمّا العضو العليل: فإنّه إن كان في أعلی البدن، فيجب أن يخرج له الدم من أسفل. وإن كان في أسفل البدن فمن أعلاه.

كلّ ورم من الأورام التي يسمّی واحدها فلغموني فتولّده يكون من فضل ينصبّ إلی واحد من الأعضاء ويحتقن فيه. ولذلك هو يدلّ علی أنّ هذا الفضل ينبغي أن يستفرغ من ذلك العضو. لكنّه إن كان حدوث الورم عن سبب من الأسباب البادئة، ولم يكن في البدن امتلاء، فإنّا نستفرغه منذ أوّل الأمر بلا خوف،

ونجعل استفراغنا له بالأشياء التي ترخي وتحلّل، والأشياء التي تجمع المدّة، والشرط بالمشاريط.

وإن كان حدوثه عن سبب متقادم، فليس نأمن إن نحن التمسنا أن نحلّل ما قد حصل في ذلك بالأشياء التي ترخي أن نجتذب إليه ممّا في البدن أكثر ممّا تحلّل منه.

ولا ينبغي لنا أيضاً أن نداويه بالأشياء التي تمنع وتدفع، كيما لا يندفع ذلك الفضل إلی عضو من الأعضاء الجليلة الخطر، لكن ينبغي لنا أوّلاً أن نستفرغ جميع البدن بفصد العرق، ثمّ نستعمل بعد ذلك الأشياء التي تمنع وتدفع، وتجفّف

وتقوّي. أمّا الأشياء التي تمنع وتدفع، فكيما يقطع ويمنع انصباب ما ينصبّ إلی العضو.

وأمّا الأشياء التي تجفّف، فكيما يفنی بها ما قد حصل في العضو.

وأمّا الأشياء التي تقوّي، فكيما إذا قوي العضو دفع عن نفسه ما قد حصل فيه، ولم يقبل ما ينصبّ إليه فيما بعد.

للورم المسمّی فلغموني أربعة أوقات: وهي الابتداء، والتزيّد، والمنتهی، والانحطاط.

ففي الابتداء ينبغي أن يداوی بالأشياء التي تمنع، وتدفع فقط. والأمر في هذه الأشياء أنّه ينبغي أن تستعمل من بعد أن يستفرغ جميع البدن بيّن.

وأمّا في التصاعد، وفي المنتهی، فمن طريق أنّ هذين الوقتين وسطان فيما

بين الابتداء والانحطاط، قد ينبغي أن تكون الأشياء التي يداوی بها أشياء مركّبة من أشياء قابضة، وأشياء محلّلة. وأن تكون الأشياء القابضة في وقت الصعود أكثر، وأقوی، والمحلّلة في وقت المنتهی أقوی وأكثر.

وأمّا في وقت الانحطاط إذا كانت الحرارة قد خمدت، وطفئت، وبقي في الموضع غلظ أو سواد، وهو الوقت الذي لا تكون العلّة فيه فلغموني بالحقيقة، فيجب أن تداوی بالأشياء التي ترخي، وتحلّل، وتستفرغ ما بقي حاصلاً في العضو، ولا يداوی بغيرها.

وكذلك أيضاً الورم المعروف بالحمرة: منه ما يكون من سبب بادئ، ومنه ما يكون من سبب متقادم.

والحمرة التي تكون من سبب بادئ تحتاج في أوّل أمرها إلی أشياء ترخي العضو، وتستفرغ ما فيه، بمنزلة الضماد المتّخذ من دقيق الشعير، ولا سيّما من

بعد شرط الموضع بالمشاريط.

وأمّا الحمرة التي تكون من سبب متقادم، فيجب أوّلاً أن يستفرغ بدن صاحبها بدواء يسهل المرّة الصفراء. وإن كان هناك شيء يمنع من الدواء، فالفصد. ثمّ يداوی فيما بعد ذلك في أوّل الأمر بالأشياء التي تبرّد وترطّب، بمنزلة الخسّ، وحيّ العالم. ويداوی فيما بعد ذلك، إذا طفئت الحرارة، كما يداوی

الورم المسمّی فلغموني، بالشرط بالمشاريط، وبوضع الأدوية المحلّلة.

وينبغي أن يداوی أيضاً الورم المسمّی فلغموني، إذا كان قد ضربت فيه الحمرة، والورم المعروف بالحمرة إذا كان قد ضربت فيه فلغموني، بأدوية مخلطة من الأدوية الموافقة لكلّ واحد منهما.

علاج الورم إذا حصل في اللحم الرخو

وعلی هذا المثال ينبغي أن تداوی الأورام الحادثة في اللحم الرخو، أعني الطاعون، والخراج، والورم المسمّی بوجثلن وهو ورم مركّب من الورم المسمّی فلغموني ومن الورم المعروف بالحمرة. لأنّ هذه الثلاثة الأورام، أعني الطاعون، والخراج، والورم المركّب، إنّما هي أورام تحدث في اللحم الرخو. واللحم الرخو لمّا كان لا حسّ له، صارت هذه الأورام أحمل للأدوية الحادّة من غيرها.

اللحم الرخو جنسان:

أحدهما، منفعته أن يولّد رطوبة في مواضع الحاجة إليها، بمنزلة اللحم الرخو في الثديين، والذي في البيضتين، والذي في أصل اللسان، وفي الحنجرة. وهذا الجنس من جنس اللحم الرخو يحسّ.

والجنس الآخر: جنس اللحم الرخو الذي جعل في مواضع تقاسيم العروق يتملّأ مواضع الخلل، ويدعم أقسام العروق. وهذا الجنس لا حسّ له، بمنزلة ما هو من هذا اللحم في الإبطين، والعنق، والأربيّتين.

في البدن لحم رخو له مقدار يعتدّ به في ثلثة مواضع:

أحدها: العنق. والذي هاهنا من اللحم الرخو شأنه أن يقبل فضل الدماغ. ولذلك صار أكثر ما تعرض فيه الأورام المعروفة بالخنازير.

والآخر: في الإبطين، واللحم الرخو الذي هاهنا شأنه أن يقبل فضل القلب.

والثالث: في الأربيّتين، وما هاهنا من اللحم الرخو شأنه أن يقبل فضل الكبد.

ولذلك صار ما يحدث في الإبطين والأربيّتين من الأورام حارّة، وهي التي يقال لها الطواعين.

علاج النملة

الورم الذي يسعی، وهو الورم المعروف بالنملة، يحتاج في مداواته، من طريق أنّ حدوثه عن سبب حارّ، أعني عن المرّة، إلی الأشياء التي تبرّد، وليس يحتاج إلی أشياء ترطّب، وإن كان السبب الفاعل له يابساً. وذلك لأنّ الغرض الذي يقصد نحوه من المرض قد قهر الغرض الذي يقصد نحوه من السبب، ومن طريق أنّ كلّ قرحة فهي تحتاج إلی التيبيس، بسبب أنّ مداواة القروح كلّها إنّما هي بالتيبيس، بسبب ما يجتمع إليها ضرورة من الرطوبة الفضليّة

التي تمنع من الاندمال، ومنه نبات اللحم.

والنملة هي أيضاً قرحة، فصارت تحتاج إلی أشياء تيبّس، وتجفّف. لأنّ الغرض الذي يقصد نحوه من المرض قاهر للغرض الذي يقصد نحوه من السبب، علی ما وصفنا.

وقد يبلغ من قهره إيّاه أنّا مراراً كثيرة إذا دوينا المرض بأشياء تبرّد، وتجفّف، فلم تنجح لاستصعاب المرض عليها وقهره لها بشدّته وقوّته حتّی لا يقوی عليه أن يجفّفه، تركناها، واستعملنا في مداواته أشياء تسخن وتجفّف، وضربنا

عن الغرض الذي يقصد نحوه من السبب أصلاً. لأنّ الأشياء المجفّفة مع إسخان هي أشدّ تجفيفاً.

فإن لم تنجع هذه أيضاً وقهرها المرض، صرنا إلی استعمال الأشياء التي قوّتها حارّة يابسة جدّاً بمنزلة الزرنيخ، والقلقطار.

فإن لم تنجع هذه أيضاً وقهرها المرض، صرنا إلی استعمال الجرم الذي هو حارّ يابس جدّاً، بالعقل، أعني النار، وكوينا الموضع.

قد بيّنّا فيما سلف أنّ أنواع النملة ثلثة: اثنان منها يحدثان في ظاهر الجلد، وهما النملة البسيطة، والنملة الجاورسيّة. والثالث: نوع النملة التي تقرض، وتغور في الجلد حتّی تبلغ اللحم، وهي التي يقال لها النملة التي تأكل.

والنوعان الأوّلان من هذه الثلثة ينبغي أن يداويا بالأدوية القليلة اليبس. والثالث بأدوية تيبّس غاية اليبس.

ومداواة النملة التي تأكل تختلف بحسب مكثها. فما دامت في أوّل أمرها، فيجب أن يطلی موضعها بطلاء يبرّد، ويجفّف، لكنّه ليس ينبغي أن يكون قوی التبريد والتجفيف كثيرهما. ويذاب الطلاء بعقيد العنب أو بشراب رقيق يقبّض قليلاً، أو بشراب مائيّ. وينبغي أن يضمد أوّلاً بالأشياء التي تبرّد، وتيبّس، ولا يكون تبريدها وتيبيسها كثيراً، لكن باعتدال القوّة، بمنزلة الضماد المتّخذ من حطب الكرم، والعلّيق، ولسان الحمل. ويضمد بعد ذلك بأشياء

أشدّ تجفيفاً، بمنزلة الضماد الذي يقع فيه، مع ما وصفنا، عسل النحل، أو عدس، أو سويق الشعير، والضماد المتّخذ من قشور الرمّان، والشراب، والسمّاق، والسويق، من غير أن يقع فيه حيّ العالم. فإنّ حيّ العالم، وإن كان يجفّف، إلّا أنّ تجفيفه أقلّ ممّا يحتاج إليه. وهو عند هذا النوع من النملة مرطّب.

فإن طال مكث النملة فاستعمل في مداواتها أشياء أشدّ تجفيفاً، ولتكن مدافة بخلّ قد كسر بالماء كسراً يسيراً، وبشراب قابض.

والأدوية الشديدة التجفيف هي بمنزلة الأقراص المنسوبة إلی فولوايدوس، والأقراص المنسوبة إلی فاسين، والأقراص المنسوبة إلی موسا، والأقراص المنسوبة إلی أندرون.

وأمّا النملة التي تكون في ظاهر الجلد، فيجب أن تداوی في ابتداء أمرها بأشياء معتدلة اليبس، بمنزلة الماميثا المداف بالماء. فإن لم ينجع هذا، فيجب

أن يداف الماميثا بالخلّ، أو بماء عنب الثعلب، أو بماء لسان الحمل.

كلّ قرحة تحدث في البدن فإنّها إن كانت نقيّة، فإنّها تحتاج إلی الأشياء المجفّفة فقط من غير أن يكون لها لذع مع التجفيف، أو حدّة. وإن كانت متعفّنة

فهي تحتاج إلی أدوية حادّة تأكل وتحرق، بمنزلة الزاج، والقلقطار، والزرنيخ، والنورة، وفي آخر الأمر، إن لم تنجع هذه، احتاجت إلی النار.

الورم المعروف بالحمرة ينبغي أن يداوی في أوّل أمره بإخراج الدم، لأنّ حدوث هذا الورم، علی ما قلنا، إنّما هو من دم غليظ. وأمّا بعد ذلك، فيجب أن تداوی القرحة نفسها من طريق أنّها متعفّنة، وقد صار فيها خشكريشة، أعني قشرة صلبة شبيهة بالقشرة المتولّدة من الكيّ بالنار، بأدوية تأكل وتحرق. وأن تداوی المواضع التي حوله بأدوية تجفّف، ويكون بعضها طلاء، وبعضها ضماداً. أمّا الطلاء، فإن كانت تلك المواضع ليس تلتهب التهاباً شديداً، فيجب أن يكون من الأقراص المنسوبة إلی أندرون، بعد أن تكون قوّتها موفّرة، لم تكسر بشيء.

وإن كان في تلك المواضع حمرة والتهاب، فيجب أن تكسر قوّة الأقراص بأن يخلط معها عقيد العنب.

وإن كان الورم عظيماً، فيجب أن نخلط مع الأقراص أوّلاً شراباً من طريق أنّه أقلّ دفعاً ومنعاً، ونخلط معها بعد ذلك خلّاً من طريق أنّه أشدّ دفعاً ومنعاً.

وأمّا الضماد فيجب أن يكون من دقيق الكرسنّة مع السكنجبين. ويكون السكنجبين ساذجاً.

ينبغي أن يكون الاستدلال علی كيفيّة الشيء الذي به تكون المداواة من المرض، ومن سببه الفاعل له. والاستدلال علی كمّيّة ذلك الشيء ومقداره من طبيعة العضو الذي يداوی به.

والاستدلال من طبيعة العضو يجمع أربعة أجناس من أجناس الاستدلال: الأوّل من مزاجه، والثاني من خلقته، والثالث من وضعه، والرابع من قوّته.

أمّا الاستدلال من مزاج العضو علی مداواته فيحتاج إليه، لأنّ المداواة إنّما يراد بها ردّ العضو إلی مزاجه الطبيعيّ، بنقله عن التغيير الذي حدث فيه خارجاً عن الطبيعة. وذاك أنّ المداواة إنّما هي طريق يسلكه المداوي من الحال الخارجة عن الطبيعة إلی الحال الطبيعيّة.

ولذلك قد يجب عليه أن يعرف الشيء الخارج عن الطبيعة الذي منه ينقل ويردّ، وهو المرض، والشيء الطبيعيّ الذي إليه ينقل، ويردّ، وهو مزاج العضو العليل الذي لم يزل عليه في وقت صحّته.

مثال ذلك: أن نجعل لكلّ واحد من اللحم والعصب مقداراً من الحرارة، ومقداراً من البرودة، فيكون في اللحم بالطبع من الحرارة أربعة أعداد، ومن البرودة عددان. وفي العصب بالطبع من الحرارة عددان، ومن البرودة أربعة أعداد.

ثمّ نعلم علی أنّهما جميعاً قد زالا عن طبيعتهما، وصارا إلی حال خارجة عن الطبيعة، حتّی صارت فيهما الحرارة والبرودة بالسواء. فصار في كلّ واحد منهما من كلّ واحدة من الحرارة والبرودة أربعة أعداد. ألا تری أنّ الأمر بيّن في أنّ اللحم قد زال عن مزاجه الطبيعيّ إلی البرودة عددين، وأنّ مداواته أن تنقص من برودته عددين، وأنّ العصب قد زال عن مزاجه الطبيعيّ إلی الحرارة، إذ كان قد زاد فيه من الحرارة عددان، وأنّ مداواته تكون بأن ينقص ذلك منه. لأنّ الأعضاء في طبعها لكلّ واحد منها مزاج، فبعضها الحرارة أغلب عليه

من البرودة، بمنزلة اللحم. وبعضها البرودة أغلب عليه من الحرارة، بمنزلة العصب، وبعضها معتدل المزاج، لأنّ مزاجه مركّب من أجزاء متساوية من العناصر كلّها، بمنزلة الجلد.

فمداواة كلّ واحد منها عندما يعتلّ بسبب يغيّر مزاجه إنّما تكون بأن يرجع إلی مزاجه الطبيعيّ.

وأمّا خلقة العضو وهيئته فيحتاج إلی الاستدلال منها علی مداواته. لأنّ بعض الأعضاء لها مواضع خالية يمكنها أن تدفع بعض ما يتولّد فيها من الفضل، وبعض ما يجتمع فيها عند تورّمها إليها. فهي لذلك لا تحتاج إلی أدوية قويّة كثيرة عند الحاجة إلی تجفيفها، واستنظاف ما قد حصل فيها.

وبعضها ليس لها مواضع خالية تدفع إليها شيئاً من فضلها. وما كان من الأعضاء كذلك فهو يحتاج إلی أدوية قويّة تفني وتستنظف ما قد حصل فيه من الفضل عند تورّمها.

وقد يقسّم هذا المعنی بقسمة أخری أتمّ من هذه، فيقال:

إنّ الأعضاء منها ما لها مواضع خالية من داخل، ومن خارج. ومنها ما لها مواضع خالية من داخل، فأمّا من خارج فلا. ومنها ما لها مواضع خالية من خارج، فأمّا من داخل فلا. ومنها ما ليس لها مواضع خالية، لا من داخل، ولا من خارج.

فأمّا الأعضاء التي لها مواضع خالية من داخل، ومن خارج، فبعضها سخيف متخلخل الجوهر، وبعضها كثيف ملزّز الجوهر، وبعضها وسط فيما بين ذلك.

فأمّا الأعضاء التي جوهرها متخلخل، فبمنزلة الرئة. وما كان من الأعضاء كذلك فلا حاجة به إلی التجفيف القويّ الشديد. وذلك أنّ الرئة لها خلاء من خارج، وهو فضاء تجويف الصدر، ولها خلاء من داخل، وهو تجويف العروق الضوارب، وغير الضوارب، وتجويف أقسام قصبة الرئة. وطبعها وجوهرها مع هذا أشدّ تخلخلاً من جواهر الأعضاء كلّها.

وأمّا الأعضاء التي جوهرها ملزّز، كثيف، فبمنزلة الكليتين، والعروق الضوارب، وغير الضوارب التي من داخل الغشاء المستبطن لعضل البطن، وهو الصفاق.

وأمّا الأعضاء التي جوهرها وسط فيما بين الكثيف والمتخلخل، فبمنزلة الكبد التي جوهرها إلی الكثافة أقرب إلی جوهر الكليتين، والطحال الذي جوهره في السخافة أقرب إلی جوهر الرئة.

وأشدّ هذه الأعضاء حاجة إلی الأدوية القويّة جدّاً ما كان منها لا تجويف له من داخل، ولا من خارج، مثل عصب اليدين والرجلين. وبعدها ما له تجويف من جانب واحد، لا من الجانبين جميعاً. وبعد هذه ما له تجويف من الجانبين، إلّا أنّ جوهره كثيف، ملزّز. وبعد هذه ما له تجويف من الجانبين، وجوهره

مع هذا سخيف، متخلخل.

وأمّا الاستدلال من موضع العضو علی مداواته فيكون علی هذا النحو:

اعلم أوّلاً أنّ الموضع يدلّ علی شيئين: أحدهما المشاركة التي بين بعض الأعضاء وبعض؛ كما أنّ حدبة الكبد تشارك الكليتين بالعرق الأجوف، والجانب المقعّر منها يشارك الأمعاء بالعرق المعروف بباب الكبد، والأرحام مشاركة للثديين مواصلة لهما لما بينهما من اتّصال عروقهما بعضها ببعض.

والآخر: الموضع، بمنزلة ما نقول إنّ الكبد موضعها في الجانب الأيمن، والطحال في الجانب الأيسر، والقلب في الوسط.

وبعد أن تعلم هذا، وتعمل عليه، فاعلم أيضاً أنّ الموضع تستخرج منه ثلثة قوانين:

أحدها: من نفس الموضع. وهذا قانون ينتفع به في مداواة سوء المزاج.

والآخر: من المشاركة: وهذا قانون ينتفع به في استفراغ الموادّ.

والثالث: منهما جميعاً. وهذا قانون ينتفع به في الاستفراغ، وفي الاجتذاب إلی الناحية المخالفة، وفي انتزاع الشيء من موضعه.

والقانون المستخرج من موضع العضو يجري علی هذا المثال: إن كان العضو الذي يداوی قريباً من الموضع، وكان الدواء يلقاه قريباً وقوّته باقية علی حالها،

فيجب أن يداوی بدواء قوّته بمقدار حاجته، بمنزلة ما يداوی به واحد من الأعضاء التي موضعها في ظاهر البدن، أو المريء، أو المعدة. وإن كان العضو بعيداً، وكان الدواء لا يبلغ ولا يصل إليه حتّی ينقص بعض قوّته، فيجب أن يزاد في قوّته بمقدار ما يعلم أنّه ينقص منها في الطريق الذي يسلكه حتّی يصير إليه، كيما يصل إليه، وقد بقي من قوّته مقدار ما يحتاج إليه. وعلی هذا النحو صار ما تداوی به الرئة من خارج، ومن داخل، أدوية قويّة، وذلك لأنّ الأدوية التي تداوی بها الرئة من خارج تحتاج أن تنفذ في عضل الصدر، وفي عظام الأضلاع، وفي الغشاء المستبطن للأضلاع، وفي الغشاء المحيط بالرئة، ثمّ حينئذٍ تلقی جوهر الرئة. فقوّتها بهذا السبب تنحلّ، وتضعف في الطريق. ولذلك صارت الأدوية التي تداوی بها الرئة — وإن كانت الرئة ليّنة الجوهر جدّاً — تبلغ من حدّتها أنّها

تحرق الجلد الذي فوق الصدر، مع ما هو عليه من فضل الصلابة إذا قيس إلی جوهر الرئة.

والأدوية التي تداوی بها الرئة من داخل تحتاج أن تمضي بالفم، والمريء، والمعدة، ومنفذ المعدة من أسفل، المعروف بالبوّاب، وبالمعاء الصائم، وجداول العروق التي حول الأمعاء، والعروق التي في الجانب المقعّر من الكبد، والعروق التي في حدبة الكبد، والعرق الأجوف، والقلب، ثمّ حينئذٍ تصل إلی الرئة. وفي هذا الجولان والدوران الطويل قد يعرض للأدوية أن تتغيّر، وتستحيل، وأن تنكسر قوّتها بمخالطة الموادّ الأخر لها.

فأمّا القانون المستخرج من مشاركة العضو للأعضاء التي تشركها فينتفع به في

استفراغ ما يستفرغ من الأعضاء علی هذا النحو: إن كانت المادّة في حدبة الكبد، فيجب أن تستفرغ المادّة بالبول، وذلك لأنّ حدبة الكبد أكثر مشاركة لأعضاء البول منها للبطن الأسفل، أعني الأمعاء.

وإن كانت المادّة في الجانب المقعّر من الكبد، فيجب أن تستفرغ بالإسهال، وذلك لأنّ الجانب المقعّر من الكبد أكثر مشاركة للأمعاء منه لغيرها.

وإن كانت المادّة في الصدر، أو في الرئة، فيجب أن تستفرغ بالسعال، لأنّ هذه الأعضاء مشاركة للحنجرة.

وإن كانت في المعدة، أو في فم المعدة، فبالقيء. وإن كانت في الأمعاء فبالإسهال. وإن كانت في الأرحام، فبالطمث. وإن كانت في الكليتين، فبالبول.

وإن كانت في الدماغ وفي أغشيته، فبما ينحدر من المنخرين، وأعلی الحنك.

فأمّا القانون المستخرج من موضع العضو ومشاركته معاً فهو يجري علی هذا النحو: ينبغي أن ننظر في أمر المادّة التي تنصبّ إلی العضو هل هي في الانحدار

والسيلان بعد، أم قد انصبّت وفرغت.

فإن كانت هو ذا تنصبّ بعد، فيجب أن تجتذب من موضع يجمع أربع خصال: المخالفة في الناحية، والمشاركة للعضو الذي فيه المادّة، والبعد عنه، والمحاذة له في موضعه.

أمّا المخالفة: فإن كان العضو فوق، كان الموضع الذي تجتذب المادّة إليه أسفل. وإن كان أسفل، ففوق.

وأمّا المشاركة والبعد: فإن كان ما يجتذب في الأرحام، فيجب أن يجتذب من الثديين. وإن كان في عضو من الأعضاء التي أسفل التراقي، فيجب أن يفصد له العرق الذي في باطن الساعد، وهو الباسليق. وإن كان في عضو فوق

التراقي، فيجب أن يفصد له العرق الذي في ظاهر الساعد، وهو القيفال.

وأمّا المحاذاة علی استقامة: فإن كان الشيء الذي يحتاج إلی اجتذابه في الجانب الأيمن، فمن الجانب الأيمن يجب أن يستفرغ. وإن كان الجانب الأيسر هو العليل، فمن الجانب الأيسر ينبغي أن يكون الاستفراغ.

فأمّا إن كانت المادّة قد انصبّت، وفرغت، فيجب أن تفعل بها أحد أمرين:

إمّا أن تحوّل، وتجتذب من موضع قريب، مشارك للعضو الذي قد حصلت فيه، وذلك إن كانت لم تطل بها المدّة، بمنزلة ما تستفرغ المادّة التي تكون في الأرحام من العرق الذي علی الكعب وهو الصافن، والمحاجم التي تعلّق علی ظاهر الساق وعلی باطن الفخذ.

وإمّا أن تنتزع من العضو نفسه، إن كانت قد طالت مدّتها فيه.

ومثال ذلك: أن تذكر إذا أصاب إنساناً اللوزتان، فصدنا له العرق

الذي تحت اللسان.

وأمّا الاستدلال من قوّة العضو علی مداواته فيكون علی ثلثة أنحاء: إمّا من أنّه رأس ومبدأ لقوّة تأتي إلی سائر الأعضاء، بمنزلة القلب، والكبد، والدماغ، وإمّا من أنّه يعمل عملاً شاملاً لسائر الأعضاء، بمنزلة المعدة، وإمّا من أنّه ذكيّ الحسّ، بمنزلة العين.

فإن كان العضو أصلاً ومبدأ لقوّة تأتي إلی جميع الأعضاء، أو كان يعمل عملاً شاملاً لسائر الأعضاء، واحتجنا أن نداويه، أو نمسّه بأدوية نريد بها مداواته، ومداواة غيره، فيجب أن نتوقّي فيه ثلثة أشياء:

أحدها: ألّا نستفرغه دفعة، فتحلّ قوّته، ولذلك صرنا نخلط في الأضمدة المحلّلة التي نضعها علی الكبد والمعدة أدوية قابضة عطريّة، كيما نحفظ بذلك عليها قوّتها.

والثاني: أن نحذر عليها التبريد الشديد. وذاك لأنّ جوهر القوی إنّما هو

الحرارة. وإن شئت قلت: إنّ الحرارة هي الآلة الأولی للقوی. ولذلك ليس ينبغي لنا أن نسقي المحموم، إذا كانت كبده أو معدته بالطبع ضعيفة باردة، ماء بارداً جدّاً في وقت حمّاه، ولو كانت حمّاه من الحمّيات المحرقة.

والثالث: أن نحذر أن ندني منه شيئاً كيفيّته غير موافقة، بمنزلة الكيفيّات الموجودة في جلّ الأدوية المسهلة، مثل السقمونيا، واليتّوع، كيما لا تنحلّ قوّته.

فأمّا إن كان العضو ليس هو مبدأ وأصلاً لقوّة، ولا يعمل عملاً شاملاً، فيجب أن نبني الأمر فيما يداوی به من الأدوية أن يكون الدواء بحسب الحاجة إليه.

وأمّا الأعضاء العليلة الذكيّة الحسّ، والأعضاء التي لا حسّ لها، فالأمر فيها بيّن علی هذا:

إنّ الأعضاء التي لا حسّ لها فإنّها لا تبالي بالأدوية ولو كانت قوّتها أشدّ ما تكون، أو كانت تلذع. ولذلك فقد ينبغي أن يحمل عليها دفعة واحدة من الدواء بقدر حاجتها.

والأعضاء الذكيّة الحسّ، إذا نالها أذیً، انحلّت قوّتها. ولذلك قد ينبغي ألّا نكثر عليها، ولا تحمل في دفعة واحدة بغتة أدوية قويّة، لكن نفعل بها

ذلك في مدّة طويلة مع حذر، وتوقٍّ

ينبغي أن يقصد لإصلاح الكيفيّات التي تفرط علی الأعضاء خارجاً عن الطبع بأضدادها:

فإن كانت الحرارة هي المفرطة، أصلحناها بالبرودة، وإن كانت البرودة مفرطة، أصلحناها بالحرارة. وكذلك نصلح الرطوبة باليبوسة، واليبوسة

بالرطوبة.

وأمّا المادّة التي تنصبّ إلی الأعضاء، فيجب أن ننظر في أمرها. فإن كانت مادّة معتدلة المزاج، بمنزلة الدم، أصلحت بالاستفراغ فقط من غير أن

تداوی بشيء يغيّرها. وإن كانت مادّة غير معتدلة المزاج، بمنزلة المرّة والبلغم، أصلحت بالاستفراغ، وبالأشياء التي تغيّرها معاً.

الورم المعروف بالتهيّج هو ورم رخو، لا وجع معه، وحدوثه يكون: إمّا من ريح بخاريّة، بمنزلة ما يعرض للمستسقي، ولصاحب السلّ، وللفاسد المزاج، وإمّا من بلغم ينصبّ إلی واحد من الأعضاء.

والتهيّج العارض من الريح البخاريّة يذهب سريعاً، وليس يحتاج إلی مداواة يقصد بها إليه خاصّة.

وإن احتاج إلی مداواة، فأمره سهل. وذلك أنّه ينحلّ، ويذهب سريعاً بالدلك بالخلّ، ودهن الورد، إمّا وحدهما، أو مع ملح.

فأمّا التهيّج الحادث عن البلغم المنصبّ إلی واحد من الأعضاء، فإنّه يداوی في أوّل حدوثه بأشياء مؤلّفة شأنها أن تشدّ، وتحلّل معاً. ولذلك قد ينبغي لك

أن تضع عليه أوّلاً إسفنجة جديدة مغموسة في خلّ ممزوج بالماء، لأنّ الإسفنجة الجديدة، بما فيها من قوّة ماء البحر، تحلّل. ولذلك قد ينبغي لك، إن لم تقدر علی جديدة، أن تغسل التي تهيّأ لك بالنطرون، وبماء الرماد، كيما تكسبها بذلك قوّة الجديدة. والخلّ من شأنها أن يجمع ويشدّ.

ولكن يجب، إن كان المرض في أوّله، وكان البدن ليّناً، أن يكون الخلّ

ممزوجاً مزاجاً، الماء عليه أغلب.

وإن كان قد استعمل هذا فلم ينتفع به، وكان البدن صلباً، فيجب أن يكون الخلّ أغلب.

وإن كان الأمر فيما وصفنا أمراً وسطاً، فيجب أن يكون مزاج الخلّ معتدلاً، بمقدار ما يمكن الإنسان أن يشربه.

ومن بعد ذلك، إن لم ينفع استعمال الإسفنجة والخلّ، فيجب أن يزيد في القوّتين كلتيهما، فيزيد في القوّة القابضة بأن يخلط مع الخلّ شبّاً، وفي القوّة المحلّلة بأن يخلط معها ماء الرماد.

فإن طالت بالتهيّج الحادث عن البلغم المدّة، فيجب أن نداوي بالأشياء التي شأنها التقطيع، والتحليل فقط، بمنزلة اللطوخ المتّخذ بالملح، ووضع الإسفنج المغموس في ماء الرماد.

وينبغي لك أبداً، إن كان التهيّج في اليد، أو في الرجل، إذا وضعت عليه الإسفنجة، أن تربطه رباطاً يبتدئ من أسفل ويرتفع إلی فوق، ويكون

من أسفل صلباً، ومن فوق رخواً، وهو الرباط الذي يعرف برباط العظام المكسورة، كيما لا يقبل العضو شيئاً ممّا ينصبّ إليه قبولاً مفرطاً.

علاج الورم المسمّی سقيروس

الورم المسمّی سقيروس: هو ورم صلب لا وجع معه. وهو نوعان:

أحدهما لا حسّ له.

والآخر عسر الحسّ.

والذي لا حسّ له يقال له سقيروس خالص، وهو ممّا لا يبرأ البتّة.

والعسر الحسّ يقال له سقيروس غير خالص، وهو ممّا يعسر برؤه.

وهذا الورم الصلب المسمّی سقيروس يحدث إمّا من بلغم قد غلظ كثيراً، ويبس، وإمّا من مرّة سوداء.

والذي يحدث من البلغم الغليظ يداوی بالأشياء المليّنة. والأشياء التي تليّن يجب أن يكون مزاجها من الحرارة في الدرجة الثانية، أو في الثالثة. لأنّ

ما كانت حرارته أكثر من هذا المقدار، فشأنه أن يحلّل من المادّة لطيفها سريعاً، وتصير البقيّة التي تبقی منها بمنزلة الخزف والحجارة، فتبقی لا تتحلّل أصلاً. ويكون من اليبوسة في الدرجة الأولی لأنّه إن كان رطباً لم تتحلّل. وإن كان شديد اليبس، صير ما هو من المادّة غليظاً مثل الخزف فلا ينحلّ أصلاً. ويجب أن يكون له مع هذا تغرية قليلة، وتسديد، مثل ما للأدوية المفتّحة، كيما لا يحلّ الورم تحليلاً كثيراً ويجفّفه ويصلّبه. لكن قد ينبغي أن تكون تغريته وتسديده أقلّ من تغرية الأدوية المفتّحة وتسديدها، ولزوجتها. وذلك لأنّ هذا يريد أن يستفرغ ما في الورم.

والذي يحدث من المرّة السوداء، وهو الذي يحدث عنه السرطان، ويكون رديئاً جدّاً، فإنّ هذا ليس إنّما لا ينتفع بالأدوية المليّنة، بل وتضرّ بها.

وهذا الصنف نتكلّم فيه عند الكلام في المرض المعروف بالسرطان.

والورم المعروف المسمّی سقيروس يحدث إمّا منذ أوّل الأمر، فيزيد قليلاً قليلاً، وإمّا بعقب فلغموني، أو حمرة، تكون قبله، فيداويها الأطبّاء بالأشياء الباردة القابضة علی غير ما يجب، حتّی يفرطوا فيصلّب بذلك بقيّة الورم.

الأدوية المليّنة: منها ما قوّته ألين، وهي غليظة رطبة، ومنها ما هي أقوی، وهي لطيفة يابسة. أمّا الغليظة الرطبة فالمخاخ الطريّة التي لم تملّح، والشحوم الطريّة التي لم يقرّبها الملح، والزيت المسمّی سابينن. وأفضل المخاخ مخّ عظام الأيّل، وهو ألطفها، وبعده مخّ عظام العجاجيل، لأنّه في اللطافة بعد ذلك. وأمّا الشحوم فمنها شحوم الطير، ومنها شحوم ذوات الأربع. وأفضل شحوم الطير شحم البطّ لأنّه لطيف جدّاً، وليس له حدّة. وبعده شحم الدجاج لأنّه أيبس

من شحم البطّ. وأفضل شحوم ذوات الأربع شحم الأسد لأنّه ألطفها. وبعده شحم حمار الوحش، وشحم الدبّ لأنّه أقلّ لطافة. وبعد هذا شحم العجاجيل لأنّه أيبس، وهو غليظ أرضيّ. وأيبس من هذا شحم الماعز، وهو مع هذا حادّ. وبعدها كلّها شحم التيس، لأنّه أيبس، وأحدّ من جميعها.

وأمّا الأدوية المليّنة اليابسة اللطيفة فهي مقل اليهود، وعسل اللبنی، والأشق، والبازرد، والزيت العتيق المعروف بسابينن.

إذا أنت دويت الورم الصلب المسمّی سقيروس، فينبغي لك أن تليّن مرّة وتحلّل مرّة. أمّا التليين فكيما تصلح به الخلط الغليظ وتهيّؤه للتحلّل. والتليين يكون بالأشياء القليلة الإسخان، والتجفيف.

وأمّا التحليل فكيما يفنی به الشيء الذي قد أصلحته وهيّأته. والتحليل يكون بالأشياء التي تسخن وتجفّف.

لمّا كان جالينوس يداوي غلاماً كان به ورم صلب، وهو سقيروس، كان في بعض الأوقات، إذا أراد أن ينقص الورم، داواه بأشياء تحلّل، فأمره أن

يحجل علی رجله الصحيحة، كيما ينجذب إليها أكثر الغذاء. وفي بعض الأوقات كان إذا أراد أن يرطّب الموضع، ويطرّيه، لئلّا يصلب ما هو من المادّة غليظاً، فيصير مثل الخزف، والحجر، استعمل الأشياء التي ترخي، ويطلي الموضع بالطلاء المتّخذ بالزفت ليجتذب بذلك إليه الدم والغذاء الكثير.

مداواة الورم الصلب المسمّی سقيروس: تختلف إمّا بسبب اختلاف السبب الفاعل له، علی ما وصفنا، من أنّه إن كان من البلغم، فيجب

أن يداوی بالأشياء المليّنة. وإن كان من المرّة السوداء، فليس ينبغي أن يداوی بهذه. وإمّا بسبب اختلاف الأعضاء التي يحدث فيها.

وذلك أنّه ربّما حدث في الأوتار، وربّما حدث في الطحال، أو في الكبد.

وإذا حدث في وتر، فيجب أن يداوی أوّلاً بأشياء تليّن. ثمّ يداوی بعد ذلك بأن يؤخذ حجر مرقشيتا، أو حجر من حجارة الرحا، فيسخن بالنار، ويرشّ عليه خلّ ثقيف، ويحرّك العضو الوارم في البخار الصاعد منه.

فأمّا إذا حدث في الطحال، أو في الكبد، فينبغي أن يداوی كلّ واحد منهما من داخل، ومن خارج. أمّا من داخل، فبأشياء تفتّح، وتقطع، وبأشياء

تدرّ البول. إلّا أنّه إن كان في الطحال استعمل من هذه الأشياء أقواها، وأحدّها، بمنزلة قشور أصل الكبر، وورق الطرفاء المطبوخ بالخلّ، أو بالسكنجبين.

وإن كان في الكبد استعمل منها أقلّها حدّة، وأكثرها تفتيحاً، وإدراراً للبول بمنزلة الغافت مع طبيخ الكرفس.

وأمّا من خارج فبأشياء مركّبة من قوّة تليّن وتحلّل، ومن قوّة تقبّض.

إلّا أنّه إن كان الورم في الطحال استعمل من هذه الأشياء أقواها تحليلاً. وذلك لأنّ الطحال أقلّ حسّاً من الكبد، وأقلّ شرفاً منها. فهو لذلك أحمل للأدوية الحادّة من الكبد، بمنزلة الضماد المتّخذ من قشور أصل الكبر، والتين، والأشق، والخلّ.

وإن كان في الكبد استعمل منها أقلّها تحليلاً، وما هو منها خاصّة مركّب من قوّة تليّن، وقوّة تحلّل، بمنزلة الأشياء التي تتّخذ من حشيش الأفسنتين، وحبّ

البان، وسنبل الطيب، والأشنة، والزعفران، وزهرة الكرم البرّيّ، والمصطكی، ودهن المصطكی، ودهن الناردين، ودهن السفرجل، والأشق، والمقل اليهوديّ، والشحم، والمخّ.

ويجب أن يداوی كلّ ورم يكون في الطحال بأشياء مركّبة ممّا له قوّة محلّلة، وممّا له قوّة قابضة.

لكن إن كان الورم من جنس الورم الصلب المسمّی سقيروس، فيجب أن يكون الأقوی في ذلك الدواء: الدواء الذي له القوّة المحلّلة. وممّا هو كذلك زهرة الملح، والضماد المتّخذ بالكبريت والشبّ، إذا كان الكبريت فيه أغلب.

ويجب أن يداوی الطحال بهذا الضماد من بعد أن يغرق بنطول دهن الأفسنتين. فأمّا إن كان ورم الطحال من جنس الورم الحادث عن الريح المعروف

بالنفخة، أو من جنس الورم الرخو الحادث عن البلغم الرطب الرقيق المعروف بالتهيّج، فيجب أن يكون الأقوی في الدواء القوّة القابضة. وذلك لأنّ الريح والبلغم الرقيق الرطب يندفعان، وينكشفان عن العضو، إذا هو تقبّض وقوي بسهولة وبسرعة. وممّا هو كذلك الضماد المتّخذ بالكبريت والشبّ، إذا كان الشبّ أغلب عليه.

الريح المتولّد في البدن، إن كانت لطيفة، فهي طبيعيّة، وهي شبيهة بريح الشمال، وإن كانت غليظة بخاريّة ضبابيّة، فهي خارجة عن الطبع، وشبيهة بريح الجنوب. وما كان من الريح كذلك، فهي تسمّی نفخة، وانتفاخاً.

وهذه الريح الغليظة تحتقن وتنحصر إمّا في التجويفات البيّنة للحسّ، وإمّا في المجاري الغائبة عن الحسّ. والذي يكون منها في التجويفات البيّنة للحسّ إمّا أن تكون في المعدة، وإمّا في الأمعاء الدقيق، أو الغلاظ، وإمّا تحت الأغشية التي حول العظام، والتي حول العضل، والمستبطن لعضل البطن، وإمّا تحت الأوتار الغشائيّة.

والذي يكون منها في المجاري الخفيّة عن الحسّ فهي بمنزلة ريح تسكن في نفس العضلة، وتنفخها، أو في نفس جرم المعدة، أو في نفس جرم الأمعاء.

وهذه الريح الغليظة تبقی واقفة لا تنحلّ لأحد شيئين: إمّا لشدّة غلظها، وإمّا لتكاثف جرم العضو الذي هي مستكنّة فيه، وشدّة تلزّزه.

ولذلك صار دواؤها التسخين والتكميد بجوهر لطيف. فإنّ هذا النحو من العلاج يلطّف الريح، ويوسّع أجزاء العضو، ويسكّن منافذه.

الورم المعروف بالنفخة يداوی بأشياء تعمّ أنواعه كلّها، وبأشياء تخصّ كلّ واحد منها.

أمّا الأشياء التي تعمّه، فهي الأشياء التي تسخن مع لطافة من جوهرها. لأنّ هذه تلطّف الريح، وتوسّع منافذ العضو الذي هي مستكنّة فيه.

وأمّا الأشياء التي تخصّ كلّ نوع منه علی حدة، فإنّها تختلف بحسب حال العضو الذي قد استكنّت فيه الريح، وبحسب العلل الأخر التي تحدث معه.

وسنصف اختلاف مداواة النفخة بحسب اختلاف حالات الأعضاء.

واختلافها بحسب العلل الحادثة مع النفخة فهو بمنزلة ما يكون معها برودة في العضو. والبرودة تحتاج إلی إسخان. أو يكون معها ورم حارّ، وهو يحتاج إلی أشياء تليّن. أو يكون معها وجع وهو يحتاج إلی التسكين.

إذا كانت الريح مستكنّة في الأمعاء، فمداواتها تختلف بحسب حالها فيما تحدثه من وجع، ولا تحدثه.

وذلك أنّه إن كان مع الريح في الأمعاء وجع شديد، فينبغي أن يعالج صاحبها أوّلاً بالحقنة بزيت قد طبخ فيه أدوية حارّة لطيفة، بمنزلة الكمّون، وبذر الكرفس البستانيّ والجبليّ، وأنيسون، وبذر الرازبانج، والدواء المسمّی

لوقسطيقون، والدواء المعروف بسساليوس، وبذر الجزر البرّيّ المعروف بالدوقوس.

وإن كان مع هذه برودة في الأمعاء، فيجب أن يطبخ في ذلك الزيت أشياء أشدّ إسخاناً من هذه، بمنزلة السذاب، والرازبانج، وحبّ الغار. ويخلط معه

قفر اليهود، ودهن العرعر.

وإن كان معها ورم حارّ في الأمعاء، فينبغي أن تجتذب الأشياء الحارّة، ويطبخ فيه بدل السذاب شبتّ، أو يخلط معه شحم البطّ وشحم الدجاج، وسائر الأشياء التي ترخي.

ثمّ يعالج صاحب هذه الريح بعد ذلك، إن لم يهدأ ولم يسكن وجعه بما وصفنا، بأشياء تخدر، بمنزلة الدواء المعجون المعروف بفلونيا.

فإن كانت العلّة في الأمعاء الدقاق، عولج بهذا الدواء، ومثله من فوق بأن يسقی سقياً.

وإن كانت في الأمعاء الغلاظ فمن أسفل بأن يحقن به.

وإن لم يكن مع الريح في الأمعاء وجع شديد، فحسبك التكميد بالجاورس المسخن — فإنّ الجاورس خفيف، لا ثقل له بتّة — والتكميد بالملح، لأنّه يحلّل ويفني. واستعمل أيضاً وضع محجمة عظيمة فيها لهيب نار كثير علی السرّة.

وإذا كانت الريح النافخة في الأعضاء اللحميّة، فهي علی الأمر الأكثر لا تحدث وجعاً، لأنّ اللحم من شأنه أن يتمدّد كثيراً من غير أن يوجع.

ومع ما لا تحدث هذه الريح وجعاً، هي تمكث في اللحم مدّة طويلة، ولا سيّما إن كانت قريباً من المفاصل، وذلك أنّ العضل هناك أقرب إلی طبيعة العصب وأشدّ تكاثفاً.

وهذه النفخة التي تكون في اللحم تداوی بأشياء لطيفة مخلوطة بها أشياء تليّن أشدّ، بمنزلة الأدوية المتّخذة بالزفت، وصمغ البطم، وشحم الأسد، والبقر، والأدوية المتّخذة بوسخ الحمّام والنورة، والدواء المتّخذ بالتوت الشاميّ.

الخراجات والدبيلات

الورم المسمّی أبوسطيما، وهو الخراج الذي يجمع، هو علّة تباين أجزاء العضو التي قد كانت متّصلة بعضها ببعض حتّی يصير فيما بينها فضاء، وذلك يكون إمّا بعقب علّة أخری، وإمّا من غير أن تكون تقدّمته علّة أخری.

فإن كان بعقب علّة متقدّمة، فتلك العلّة لا تخلو من أن تكون إمّا فلغموني مفردة، وإمّا فلغموني قد ضربت فيها الحمرة، وإمّا حمرة قد ضربت فيها فلغموني.

وإن كان من غير أن تتقدّمه علّة أخری، فذلك يكون عندما يتولّد في بعض الأعضاء مادّة، أو تنصبّ إليه من عضو آخر، فتفرّق بين أجزائه، حتّی تحدث فيه فضاء يكون مجتمعاً فيه. وليس تخلو هذه المادّة من أن تكون إمّا رطوبة وحدها، وإمّا ريحاً ضبابيّة وحدها، وإمّا رطوبة وريحاً معاً.

والرطوبة التي تجتمع في مثل هذا الموضع، إذا طالت بها المدّة، قد تتغيّر تغيّراً كثير الأنواع، مختلفاً، فتتولّد منها أجرام شبيهة بالحجارة، وبالرمل،

والخزف، والخشب، والفحم، والطين، وثفل الزيت، ودرديّ الشراب، وغير ذلك من الأجسام المختلفة المتولّدة في الدبيلات.

الخراج الذي يجمع، إن كان في باطن البدن، ولا سيّما في واحد من الأحشاء، فمعرفته تعسر. وإن كان في ظاهر البدن فمعرفته تسهل بما يدركه

اللمس من خاصّيّة ملمسه، إذا غمز عليه، وذلك أنّ كلّ خراج يجمع عامّة، فهو إذا جسّ باليد، تطامن لها، وانخفض للغمز. فبهذا يفرّق بين مجسّته ومجسّة الأورام: أنّه لا يدافع الأصابع إذا غمز عليه.

وقد يختلف مغمز الخراجات التي تجمع بحسب نوع الرطوبة المجتمعة فيها. وذلك أنّها لا تخلو من أن تكون إمّا رطوبة رقيقة، وإمّا قيحاً، وإمّا خلطاً لزجاً مخاطيّاً، وإمّا عبيط الدم وعلقه. وإذا كان ذلك، أحسّ فيه صاحبه بتمدّد

شبيه بالتمدّد الحادث عن الريح.

إذا ابتدأ الورم أن يجمع مدّة، فينبغي أن تنظر، فإن رجوت أنّك إذا رمت تحليل المادّة المجتمعة فيه قدرت علی ذلك، وطمعت في منعها من أن تصير قيحاً، استعملت الأشياء المحلّلة.

وإن لم تطمع في تحليل المادّة، فاستعمل ما أصفه لك بعد.

والأشياء المحلّلة التي ينبغي أن تستعملها، إذا طمعت في تحليل المادّة ومنعها من أن تصير قيحاً، هي أن تستعمل أوّلاً الضماد المتّخذ من خبز الحنطة، وتكثر طبخه، والضماد المتّخذ من دقيق الشعير المطبوخ، ومن طبيخ التين اللحيم.

ثمّ تنظر بعد ذلك، فإن رأيت جلدة الموضع متمدّدة شديداً، فاشرطه شرطاً لا غور له، ثمّ ضع عليه ضماداً يقع فيه دقيق شعير مطبوخ.

فإن رأيت الورم يتحلّل بأقلّ ممّا ينبغي، وعلمت أنّه يحتاج من التحلّل أكثر من ذلك المقدار، فاطبخ مع التين أدوية تحليلها أشدّ، بمنزلة الزوفا اليابس،

والفوذنج الجبليّ، والملح.

فإن رأيت أنّ الورم قد مال إلی الصلابة، فاطبخ مع التين أشياء تليّن، بمنزلة أصل قثّاء الحمار، واخلط مع أدوية الضماد أيضاً أصل الخطميّ، وشحم البطّ، وشحم الدجاج.

فهذا ما ينبغي أن تفعله، إذا طمعت في تحليل الورم.

فأمّا إذا لم تطمع في تحليل الورم، فاستعمل أوّلاً الأشياء التي تسكّن الوجع، بمنزلة القيروطی المعمولة بعقيد العنب، ثمّ استعمل بعد ذلك الأشياء المقيّحة، بمنزلة النطول بالماء الفاتر، وبالزيت المفتّر، والضماد المتّخذ من دقيق الحنطة بالماء والزيت، المطبوخ طبخاً معتدلاً.

فإذا استحكمت المدّة، وبططت الخراج، فمداواته أوّلاً بالأشياء التي تنقّيه وتغسله، بمنزلة ماء العسل، ثمّ داوه بعد ذلك بحسب ما تری من حال الخراج. وذلك أنّه إذا كان الخراج سليماً من الورم الحارّ، فينبغي أن تستعمل في مداواته المراهم التي تجفّف من غير أن تلذع، ولا يكون لها قبض شديد، بمنزلة المرهم المتّخذ بالشراب، والمرهم المّخذ بالعظام المحرقة، والمتّخذ بالقلقطار، وهو المرهم المسمّی تونيقي.

وإن كان مع الخراج ورم حارّ، فالزمه حول موضع البطّ المرهم المسمّی

تونيقي، بعد أن تكسر من قوّة هذا المرهم بأن تخلط معه زيتاً وشراباً.

الأدوية المقيّحة: تحتاج أن يكون مزاجها مثل مزاج اللحم والدم، أعني معتدلاً في الحرارة والرطوبة، كيما ينمو بها جوهر العضو، وتتزيّد قوّته، فتقوی علی المادّة وتنضجها بسهولة وسرعة، ويكون، أعني حال جرمها، حال الأشياء المسدّدة اللزجة، كيما تسدّ المسامّ، وتحقن الروح الطبيعيّ، داخلاً، حتّی إذا هو تضاعف، كان إنضاجه للمادّة أكثر.

فأمّا الأدوية التي تحلّل وتفني فليس تقيّح، وذاك أنّ الأدوية التي تفني وتحلّل منها ما لا يقيّح لكثرة إسخانه، بمنزلة الحلبة، ومنها لكثرة تيبيسه، بمنزلة

الجاورس والدخن، ومنها لأنّه يسخن ويجفّف معاً، بمنزلة الكرسنّة، والحمّص، والشيلم، ومنها لأنّه يجلو ويغسل، بمنزلة دقيق الشعير، ودقيق الباقلّی، ومنها ما يجلو ويجفّف معاً، بمنزلة النخالة.

دقيق الحنطة مخالف في أفعاله لدقيق الشعير، وذلك أنّ دقيق الحنطة يقيّح، لأنّه معتدل الحرارة، وهو أرطب من دقيق الشعير، وله مع هذا لزوجة. ودقيق الشعير يحلّل، ولا يقيّح. والسبب في تحليله: ما فيه من قوّة الجلاء التي تفتح بها المسامّ، وما له من التجفيف الذي تفني به المادّة. والسبب في أنّه لا يقيّح أنّه بارد، وأنّه مجفّف، وأنّه ليس له لزوجة دقيق الحنطة.

صفة الضماد المتّخذ من دقيق الحنطة

ينبغي أن يكون بحسب الحاجة. وذلك أنّه إن كان الورم قليل الحرارة، عسر النضج، فينبغي أن يطبخ الضماد طبخاً كثيراً، ويزاد في زيته. وإن كان الورم كثير الحرارة، سريع النضج، فينبغي أن يقلّل طبخ الضماد، وينقص من زيته. وإن كان الورم معتدلاً وسطاً بين الحالين، فينبغي أن يكون طبخ الضماد ومقدار زيته معتدلين.

وقد ينبغي أن يتّخذ الضماد للورم مرّة من خبز الحنطة، ومرّة من دقيق الحنطة. أمّا من خبز الحنطة، فعندما يكون الورم قليل الحرارة، عسر النضج. وذلك لأنّ في خبز الحنطة قوّة إسخان من قبل الخمير، والملح، والنضج في التنّور. وأمّا من دقيق الحنطة فعندما يكون الورم شديد الحرارة، سهل النضج.

الحنطة مؤلّفة من شيئين: أحدهما قشرها، وهو النخالة. والنخالة أقلّ إسخاناً من لبّ الحنطة، وهي تجلو وتجفّف، وهي بسبب الجلاء والتجفيف تحلّل وتفني المادّة. وبحسب ما فيها من هذين ومن قلّة الإسخان لا تقيّح. والآخر ممّا في الحنطة: لبّها، وهو يسخن إسخاناً معتدلاً، ويرطّب أكثر من النخالة. وله مع هذا لزوجة. فهو لهذه الأسباب يقيّح.

والحنطة تختلف: فمنها ما هو ملزّز الجرم كثيفه. وما كان كذلك، فاللبّ فيه أكثر من النخالة، ودقيقه أوفق وأنفع للأورام التي تحتاج أن تقيّح. ومنها ما جرمه رخو أبيض. وما كان كذلك، فالنخالة فيه أكثر من اللبّ، ودقيقه أقلّ موافقة ومنفعة للأورام التي تحتاج أن تقيّح، وأكثر تحليلاً.

وأنواع الخبز تختلف بحسب أنواع الحنطة وصنعتها. وذلك أنّ الدقيق المتّخذ من الحنطة الملزّزة الكثيفة، إذا ميّز بالنخل حتّی يعزل لبّه ناحية، ونخالته ناحية، سمّي الخبز المتّخذ من لبّه خبز السلحس، والخبز المتّخذ من نخالته خبز النخالة. وإن لم يميّز، سمّي الخبز المتّخذ منه سوقومسطس، ومعناه المتّخذ معاً، أي من اللبّ والنخالة. فأمّا الدقيق المتّخذ من الحنطة الرخوة فإنّه إن ميّز واتّخذ من لبّه خبز، سمّي ذلك الخبز خبز السميد. وإن اتّخذ من نخالته خبز سمّي خبز الخشكار. وإن لم يميّز واتّخذ منه خبز سمّي ذلك الخبز خبزاً وسخاً.

ولكلّ نوع من هذه الستّة الأنواع قوّة في التقييح غير قوّة الآخر. فأقواها تقييحاً خبز السلحس، وبعده خبز السميد، وبعد هذا الخبز المتّخذ معاً، وبعده الخبز الوسخ وبعد هذا خبز النخالة، وآخرها كلّها خبز الخشكار.

ولكلّ نوع من هذه الأنواع أيضاً في التحليل قوّة غير قوّة الآخر. فأقواها تحليلاً خبز الخشكار، وبعده خبز النخالة، وبعد هذا الخبز الوسخ، وبعده الخبز المتّخذ معاً، وبعد هذا خبز السميد، وآخرها خبز السلحس.

الشرط بالمشاريط: منه ما تكون خروقه قصاراً، لا غور لها. وما كان كذلك، فمنفعته ضعيفة. ومنه ما تكون خروقه طوالاً غائرة. وما كان كذلك،

فهو يخرج من الدم مقداراً كبيراً، إلّا أنّه يحتاج إلی أن يداوی بمداواة خاصّة، كما تداوی الجراحات. وليس ينبغي أن يستعمل هذا الشرط إلّا في موضع واحد فقط، أعني حيث تكون المادّة غليظة لزجة.

ومنه ما هو وسط فيما بين الأمرين، وما كان كذلك، فهو بعيد عمّا ينكر من كلّ واحد من ذينك الصنفين.

الكلام في القروح

القرحة هي انتقاص الاتّصال الحادث في اللحم. وهو نوعان: فمنها ما هو مفرد وحده، ومنها مركّب مع غيره. والقرحة المفردة وحدها ربّما كانت صغيرة، وربّما كانت عظيمة.

فإن كانت صغيرة، ولم يكن لها مع هذا غور كبير، فينبغي أن تداوی بجمع حافتيها، وحفظها بعد الجمع بالرباط وبالخياطة، أو بالشدّ بالضبارات، والحذر من

أن يقع فيما بين الحافتين شيء يمنع من الاندمال، بمنزلة الدهن، أو الغبار.

وأمّا إن كانت القرحة عظيمة، فليس تقدر أن تجمع أجزاءها إلی القعر، فيبقی فيها بهذا السبب لا محالة فضاء، لا يخلو من أن يكون إمّا فارغاً، وإمّا مملوءاً صديداً. وهذا الصديد يتولّد بسبب الضعف الحادث في العضو من قبل الجرح، وبسبب الوجع الذي يكون مع الجرح لا محالة. فلذلك قد تحتاج هذه القرحة إلی دواء يجفّفها، كيما يفني هذا الدواء ذلك الصديد، وينبت في ذلك الموضع لحماً.

وأمّا القرحة التي تكون مركّبة مع علّة أخری: فمنها ما يكون المجتمع معها سبباً من أسباب الأمراض، ومنها ما يكون معها مرض آخر، ومنها ما يكون معها عرض من الأعراض.

أمّا السبب: فبمنزلة شيء ينصبّ إلی العضو الذي فيه القرحة، وإذا كان ذلك، فينبغي أن ينقّی البدن، ويصلح تدبيره، ويزاد في تجفيف القرحة.

وأمّا المرض الآخر: فربّما كان من الأمراض الحادثة عن سوء المزاج، وربّما كان من الأمراض الحادثة عن فساد الخلقة. فإن كان المرض حادثاً من سوء المزاج، فينبغي أن يصلح مزاج العضو بتبريد الحرارة، وتسخين البرودة.

وإن كان من فساد الخلقة، بمنزلة نقصان اللحم حتّی تصير القرحة غائرة، فينبغي أن يملأ ذلك الموضع الغائر لحماً بالأشياء التي تجفّف، كيما يفنی بها ما في القرحة من الصديد المانع للطبيعة من إنبات اللحم، وبالأشياء التي تجلو، كيما تنقّی بها القرحة من الوسخ الحائل بين الطبيعة وبين أن تنبت اللحم.

وأمّا العرض: فهو بمنزلة الوجع. وينبغي أن تداوی القرحة التي يكون معها وجع بأشياء تسكّن الوجع، وأشياء تجفّف ما يجتذبه إليها الوجع من المادّة.

الفضل الذي يستفرغ من البدن، ومخرجه من المسامّ، نوعان: أحدهما: ألطف وأرقّ، والآخر: أغلظ وأثخن.

والفضل اللطيف الرقيق يستفرغ في أكثر الحالات بالتحلّل الذي لا يدركه الحسّ. وربّما استفرغ استفراغاً يدركه الحسّ إمّا لأنّ الحرارة الطبيعيّة تضعف، وإمّا لأنّ الغذاء يكثر.

فأمّا الفضل الغليظ الثخين فهو الذي منه يجتمع علی البدن الوسخ.

وقد يجب أن يكون هذان النوعان أيضاً من الفضل كلاهما يجتمعان في القرحة بسبب ضعف العضو الذي هي فيه، وبسبب الوجع الذي يحدث معها.

والفضل اللطيف الرقيق المجتمع في القرحة يقال له الصديد، وبسببه صارت القرحة تحتاج إلی أدوية تجفّف.

والفضل الغليظ الثخين يقال له الوسخ، وبسبب هذا الوسخ احتاجت القرحة إلی الأدوية التي تجلو وتغسل.

وليس تخلو القروح كلّها من أن تكون لم يذهب معها شيء من جواهر الأعضاء، أو تكون قد ذهب معها شيء من جواهر الأعضاء.

فإن كانت القرحة لم يذهب معها شيء فهي شقّ فقط مفرد وحده. وما كان كذلك فإنّما يحتاج أن يجمع ويضمّ أحد جزئيه إلی الآخر فقط.

وإن كان شقّاً عظيماً، فهو يحتاج مع ذلك إلی دواء يجفّف.

وإن كانت القرحة قد ذهب معها شيء من الجوهر، فليس يخلو ذلك الجوهر من أن يكون إمّا جلداً وحده، وإمّا لحماً وحده، وإمّا جلداً ولحماً معاً.

إمّا ذهاب الجلد وحده فبمنزلة ما يعرض في القروح بكشط الجلد. وما كان منها كذلك، فهو يحتاج إلی أشياء تدمل وتختم القرحة، أعني الأشياء التي تغيّر السطح الظاهر من اللحم إلی الصلابة حتّی يقوم مقام الجلد. والأشياء التي تفعل ذلك: منها ما يفعل بنفسه، بمنزلة الأدوية القابضة، وهي العفص، وقشور الرمّان، ومنها ما يفعله بطريق العرض، بمنزلة الأدوية الحادّة التي إذا استعمل قليلها أدملت، وهي الزنجار والقلقطار.

وأمّا ذهاب اللحم وحده فبمنزلة ما يعرض في القروح الغائرة.

وما كان من القروح كذلك، فهو يحتاج في أوّل الأمر إلی أدوية تبني اللحم، ثمّ بعد ذلك إلی أدوية تلصق اللحم بالجلد.

وأمّا ذهاب الجلد واللحم معاً فبمنزلة ما يعرض في القروح المجوّفة التي تحتاج أن تداوی أوّلاً بأشياء تبني اللحم، ثمّ بأشياء تدمل.

الدواء الحادّ، بمنزلة الزنجار، إن استعمل منه القليل، وكان ما تداوی به القرحة منه شيئاً يسيراً، أدمل وختم القرحة. وإن أكثر منه، أكل اللحم، وقوّر القرحة.

حدوث اللحم وكونه يحتاج إلی مادّة، وإلی فاعل. فمادّته هي الدم الجيّد، ولذلك يحتاج صاحب القرحة إلی أن يغذی بأغذية كيفيّتها كيفيّة تولّد دماً جيّداً،

ومقداره بحسب ما يمكن القوّة أن تستمرئه. وفاعله الطبيعة. ولذلك قد ينبغي أن تقوّي الطبيعة. وتقويتها تكون بتعديل المزاج، ولذلك ينبغي أن يعدّل مزاج العضو الذي يحتاج إلی إنبات اللحم فيه.

كلّ دواء تداوی به القرحة فهو مجفّف.

إلّا أنّه إن كان من الأدوية التي يراد بها إنبات اللحم، فينبغي أن يكون أقلّ الأدوية التي تعالج بها القرحة تجفيفاً، كيما لا يجفّف تجفيفاً مفرطاً، فيمنع القرحة من إنبات اللحم، لكن يكون له من التجفيف مقدار ما يجفّف به ما في القرحة من الصديد. وينبغي أن يكون مع قلّة تجفيفه يجلو، ويغسل، كيما ينقّي وسخ القرحة.

وإن كان الدواء الذي تداوی به القرحة من الأدوية التي يراد بها الالتصاق، فينبغي أن يكون تجفيفه أكثر من تجفيف الدواء الذي ينبت اللحم، إذ كان ليس

يحتاج منه إلی إنبات اللحم، بل التجفيف فقط. وإن احتيج منه إلی ذلك، فبمقدار يسير، وينبغي ألّا يكون جلّاء غسّالاً، بل يكون قابضاً.

وإن كان الدواء الذي تداوی به القرحة من الأدوية التي يراد بها الإدمال والختم، فيجب أن يكون أشدّ أدوية القروح كلّها تجفيفاً كيما يصلّب اللحم، ويصيّره مثل الجلد.

وهذا الدواء المجفّف، إن كان مع تجفيفه قابضاً، فهو يسمّی داملاً خاتماً تسمية حقيقيّة، وإن كان إنّما يجفّف فقط، فإنّما يلحم بطريق العرض، لا بنفسه.

الأدوية التي تنبت اللحم ينبغي أن تكون من اليبس في قريب من الدرجة الأولی.

فإن كان البدن كلّه، أو العضو الذي فيه القرحة، أرطب مزاجاً، وكانت القرحة قليلة الرطوبة، فينبغي أن تكون الأدوية أقلّ يبساً، بمنزلة دقيق الشعير، ودقيق الباقلّی، والكندر.

وإن كان البدن أو العضو يابساً، والقرحة رطبة، أو كان خلاف ذلك، وهو أن تكون القرحة يابسة، والعضو رطباً، فيجب أن تكون الأدوية متوسّطة الحال في اليبس، بمنزلة دقيق الكرسنّة، وأصل السوسن، المعروف بإيرسا.

وإن كان البدن أو العضو أشدّ يبساً، والقرحة أرطب، فينبغي أن تكون الأدوية أشدّ يبساً، بمنزلة الزراوند، وشجرة الجاوشير.

والسبب فيما وصفنا من تصنيف هذه الأدوية أنّا نحتاج في المداواة إلی الاستدلال بشيئين:

أحدها: الشيء الذي هو في الطبع، وهو يدلّ علی حفظه بما أشبهه.

والآخر: الشيء الخارج عن الطبع، وهذا يدلّ علی إبطاله وقلعه بضدّه.

إذا كان الدواء معتدلاً في اليبس وفي الإسخان، بمنزلة الكندر، فإنّه إن استعمل في قرحة لها فضل رطوبة، أو قرحة في بدن أو عضو له فضل رطوبة، أنبت فيها اللحم، لأنّه يجفّفها. وإن استعمل في قرحة لها فضل يبس، أو قرحة في بدن أو في عضو له فضل يبس، قيّح، لأنّه يرطّبه.

القرحة الغائرة: إن اتّفقت في عضو معتدل المزاج بين الحرارة والبرودة، فينبغي أن تداوی بدواء يجفّف من غير أن يكون يسخن ولا يبرّد، بمنزلة الكندر إذا خلط مع دقيق الشعير. وإن اتّفقت في عضو له فضل حرارة، فينبغي أن تداوی بأشياء تجفّف وتبرّد، بمنزلة دقيق الشعير، ودقيق الباقلّی. وإن اتّفقت في عضو له فضل برودة، فينبغي أن يداوی بأشياء تجفّف وتسخن علی حسب مقدار برودته.

فإن كانت برودته يسيرة، دوويت القرحة بدقيق أصل السوسن الأسمانجونيّ، المعروف بإيرسا، ودقيق الكرسينّة.

وإن كانت كثيرة البرودة، دوويت بالزراوند، وشجرة الجاوشير.

القرحة الحادثة عن الخراج الذي يجمع، إن كانت ذاهبة نحو عمق البدن، ولم يكن فيها صلابة، فهي تسمّی غوراً، ومخبأ، وكهفاً. وإن كانت فيها مع غورها صلابة، أو كانت كثيرة القذی والوسخ، سمّيت ناصوراً. وإن كانت فيما يلي ظاهر البدن حتّی تكون الجلدة التي تعلوها رقيقة، بمنزلة الخرقة، سمّيت قرحة خرقيّة.

وقال في القرحة الغائرة بعض من قسّم هذا المعنی بغير هذه القسمة: إنّها إن كانت واسعة سمّيت مخبأ وغوراً وكهفاً. وإن كانت ضيّقة مطاولة سمّيت ناصوراً.

القرحة التي تسمّی غوراً وكهفاً ينبغي أن تداوی بالأشياء التي تنبت فيها اللحم أوّلاً، فيصبّ فيها بالذراقة واحد من المراهم التي تنقّي القروح، وتنبت اللحم مدافاً بدهن الورد، بمنزلة المرهم المتّخذ بالقرطاس المحرق، والمرهم المنسوب إلی ماخريون، والمرهم المنسوب إلی إفيجونوس، والمسمّی إسيس.

ثمّ تداوی بعد ذلك، إذا نبت فيها اللحم، بمقدار معتدل بأشياء تنقّيها كيما تصلح بذلك وتستعدّ للاندمال.

وهذه القرحة تنقّی بأن يذرق فيها ماء العسل، فإنّ ماء العسل ينقّي ويغسل الصديد، وبأن يهيّأ لها طريقاً يسيل منه ما يجتمع فيها من الرطوبة، وهذه الطريق تهيّأ بأن تجعل نصبة العضو الذي فيه القرحة نصبة يقع شكله فيها شكلاً يكون معه قعر القرحة وأقصاها فوق، وطرفها وفمها أسفل ويفتح بالشرط في قعر القرحة وأقصاها إذا لم يتهيّأ ولم يمكن أن يجعل نصبة العضو علی ما وصفنا. ثمّ

يداوی في آخر الأمر بالأشياء التي تلصق اللحم بالجلد بعد أن تغسل القرحة أوّلاً بشراب معتدل فيما مضی عليه من الوقت، وفيما هو عليه من القبض، ثمّ يوضع حولها كما تدور من المراهم أشدّها تجفيفاً، وألطفها إجزاء، كيما يعرض إلی باطنها من غير أن يكون لها تلذيع، بمنزلة المرهم المسمّی بربار، والمسمّی ميرمدار، وحول الكهف كلّه خرقة عظيمة تشتمل عليه مطليّة بواحد من المراهم التي سمّيناها، أو توضع علی فم الكهف خرقة صغيرة مطليّة بذلك المرهم

بعينه. ثمّ إذا وضع المرهم ووضع فوقه إسفنجة جديدة ليّنة مبلولة بشراب أو بسكنجبين، وربط الموضع برباط يكون ابتداؤه من أقصی الكهف وقعره، ويكون هناك مربوطاً شديداً، ومنتهاه عند فم الكهف، ويكون هناك مشدوداً رخواً، كيما لا يمنع الصديد الذي يجتمع في القرحة من السيلان والخروج.

وينبغي إذا دوينا القرحة المتكهّفة علی ما وصفنا أن لا نقلع عنها المرهم الذي نضعه حول الموضع المتكهّف كلّه حتّی يمتلئ الكهف ويلتصق الجلد باللحم. والعلامات التي تدلّ علی أنّ الكهف قد امتلأ، واللحم قد التصق بالجلد: ألّا يكون ما يسيل من القرحة من الصديد كثيراً، ولا غير نضيج، لكن قليلاً

نضيجاً، وأن لا يكون معها وجع، وأن لا تكون وارمة، ولكن ضامرة، وأن يری في فم القرحة قيح حسن.

وأمّا الرباط فينبغي أن يحلّ في كلّ ثلثة أيّام مرّة وتبدل الإسفنجة والخرقة الصغيرة التي علی فم القرحة كيما يسيل ما اجتمع فيها من الصديد. ولذلك ليس ينبغي أن تكون هذه الخرقة لاصقة بفم القرحة، لكن ينبغي أن تكون معلّقة

عليها تعليقاً. إذا وضعت علی القرحة المتكهّفة دواء يدمل ويلصق، فانظر إلی ما يسيل منها من الصديد الذي لا ينضج. فإن كان إنّما سال في اليوم الأوّل أو الثاني فلا يأس من التحام القرحة. فإنّه قد يمكن أن يكون إنّما سال هذا الصديد لأنّ الدواء عصر من اللحم فضل رطوبة.

وإن سال هذا الصديد الذي لم ينضج في اليوم الثالث أو في الرابع، فاعلم أنّ هذه المتكهّنة لم تلتحم.

والناصور أيضاً ينبغي أن تكون مداواته علی مثال مداواة القرحة المتكهّنة، فيداوی أوّلاً بدواء يقلع الصلابة قلعاً قويّاً، وينقّي، ويغسل الوسخ، بمنزلة

ماء الرماد، ثمّ يداوی بدواء ينبت اللحم إن احتيج إلی ذلك، ويداوی بدواء يدمل ويلصق اللحم بالجلد علی ما وصفنا قبل.

والقرحة الخرقيّة أيضاً ينبغي أن تداوی علی هذا المثال. فإن كانت تحتاج أن ينبت فيها لحم، داويناه بأشياء تنبت اللحم، وتدمل، وجعلناها أشياء رطبة القوام. وإن لم نحتج إلی أن ينبت فيها لحم، استعملنا في مداواتها الأدوية التي تدمل وتلصق اللحم بالجلد فقط، وجعلناها أشياء ليست بالصلبة، ولكن رطبة، كيما لا يصلب الجلد فيصير بمنزلة الدفتر، ولا يلتصق باللحم. ومن الأدوية التي حالها هذه الحال: المرهم المركّب من شحم خنزير عتيق، ومرتك، وقلقطار،

وزيت عتيق، إذا كان قد طبخ طبخاً معتدلاً فلم يصلب صلابة يحدث بها في الجلد صلابة، ولا هو من الرطوبة في حدّ ما يسيل وتبقی الخرقة خالية منه، فيصلب الجلد بصلابة الخرقة، ولا يلتصق باللحم. وممّا يجري هذا المجری أيضاً

من الأدوية: العسل المطبوخ، إذا استعمل إمّا وحده، وإمّا بعد أن يخلط معه دواء من الأدوية المجفّفة مسحوقاً، بمنزلة المرّ، أو الصبر، أو الكندر، أو القسطاريون الدقيق، أو أصل السوسن التي يقال لها إيرسا، أو دقيق الكرسنّة.

إذا عرض في بعض الأعضاء الورم المسمّی فلغموني، وكان عظيماً حتّی أنّه يزحم ويضغط ما في ذلك العضو من العروق الضوارب، ويمنعها بضغطه لها من أن تنبسط، فتروّح بانبساطها وانقباضها عن الحرارة الطبيعيّة التي فيه، وتحفظها علی غريزتها، خمدت حرارة ذلك العضو الغريزيّة. إلّا أنّها إن خمدت غاية الخمود وطفئت، حدث بذلك العضو العلّة التي يقال لها موت العضو، وهو فساد جوهره الفساد الذي لا يصلح.

ومداواة مثل هذا العضو أن يقطع ويستأصل. ومن بعد قطعه ينبغي أن يستظهر عليه بأشياء أخر.

وإن كان من الأعضاء التي تسرع إليها العفونة بمنزلة موضع العانة، فيجب أن تكوی أوّلاً بالنار، ثمّ تداوی بعد ذلك بدواء يجفّف، بمنزلة ماء الكرّاث. ثمّ تداوی بقلع القشرة المحترقة، إن كانت العفونة قد ذهبت وسكنت. ولا تبالی إن كان هذا الدواء من الأدوية التي إنّما تقلع هذه القشرة بتقييحه للموضع، أو كان إنّما تقلعها بأن تقشرها عنه.

الأدوية التي تفعل ذلك كثيرة: فمنها الدواء المعروف بدواء الرأس مع

العسل، وهو دواء يقع فيه إرسا وزراوند أو دقيق الكرسنّة وكندر ودقاق الكندر، ومنها الضماد المتّخذ من الخبز أو من دقيق الشعير المطبوخ بالماء والزيت، ومنها الدواء المسمّی ططرافرماقی، وهو المركّب من أربعة أدوية، والدواء المسمّی

ماقادونيقون، ومنها الخبز مع الكرفس أو مع الباذروج والإيرسا مع العسل، ومنها أصول شجرة الجاوشير والزراوند والوجّ، ودقيق الكرسنّة مع العسل، والكندر، والمرهم المسمّی ماخريون والمرهم المسمّی إسيس، ثمّ يداوی في آخر الأمر بدواء ينبت اللحم من بعد سقوط القشرة المحترقة التي تسمّی خشكريشة.

فإن لم يكن العضو من الأعضاء التي تسرع إليها العفونة، فحسبه أن يداوی — من بعد القطع — بالأدوية المجفّفة فقط، مثل هذه التي وصفناها.

فأمّا إن كانت حرارة العضو قد خمدت ولم تطفئ بعد، لكنّها في الطريق المؤدّي إلی الانطفاء في الغاية، فهذه العلّة يقال لها باليونانيّة غانغرانا، ومداواتها تكون أوّلاً باستفراغ الدم من ذلك العضو بأن يشرط شرطاً غائراً، وأن يترك دمه يجري، ثمّ يداوی بعد ذلك بأن يوضع علی العضو بعض ما يمنع من حدوث العفونة. فإن كان البدن ليّناً ناعماً ضعيفاً، أو كان من أبدان الصبيان أبيض، رخص اللحم، معتاداً للاستحمام، غير متعاهد للرياضة، فيجب أن يداوی بأدوية ليّنة، بمنزلة دقيق الكرسنّة مع السكنجبين. وإن لم يقدر علی دقيق الكرسنّة، فدقيق الباقلّی مع الملح والسكنجبين.

وإن كان البدن صلباً، قويّاً من أبدان الرجال، كثير التعب، فاستمعل في مداواته الأدوية التي لها فضل قوّة بمنزلة الأقراص المنسوبة إلی أندرون، والمنسوبة إلی بولوايدس، والمنسوبة إلی فاسين، والمنسوبة إلی موسا.

مداواة السرطان

المرّة السوداء تكثر في البدن عندما تكون للكبد من شأنها أن تولّد مرّة سوداء، أعني إذا كثرت وقويت حرارتها ويبسها حتّی تصير بسبب ذلك تحرق الدم وتيبّسه وتغلّظه، ويكون الغذاء من شأنه توليد الأخلاط الغليظة الرديئة، والطحال ضعيف يعجز بضعفه عن اجتذاب جميع ما يتولّد في الكبد من المرّة السوداء.

وإذا كثرت المرّة السوداء في العروق فربّما بقيت فيها، ثمّ تدفع بها إلی الأعضاء السفلی التي ليست بشريفة فتحدث هناك العلّة التي يقال لها قرسوس وهو اتّساع العروق التي في الساق وتزيّدها في العرض.

وربّما خرجت عن العروق بدفع الطبيعة لها.

فإن كان خروجها عن العروق إلی خارج البدن، حدث عنها انفتاح أفواه العروق التي في المقعدة وسيلان الدم منها، وهو البواسير.

وإن كان خروجها عن العروق إلی داخل البدن، فإنّها إن حصلت في عضو واحد، أحدثت فيه ورماً صلباً من جنس السرطان. فإن انتشرت في ظاهر البدن

كلّه، أحدثت الجذام. وربّما خرج بعضها عن العروق وتبقی فيها بعضها، وإذا كان ذلك، حدث في الموضع سرطان، فيتورّم الموضع بسبب ما قد صار فيه ممّا قد خرج عن العروق، وتنتفخ عروقه من الجانبين بسبب ما قد بقي فيها، فيصير شبيهاً بأرجل السرطان، ولذلك سمّيت هذه العلّة سرطاناً.

المرّة السوداء نوعان:

أحدهما: شبيه بدرديّ الدم وثفله، والآخر: يتولّد من احتراق المرّة الصفراء.

والنوع الأوّل: أقلّ رداءة، وأقلّ خبثاً، وأقلّ شرّاً، وعنه يحدث السرطان والجذام الليّنان الساكنان، وربّما استحال هذا النوع إلی الرداءة والخبث، إمّا بسبب طول مكثه في البدن، وإمّا بسبب حرارة قويّة تصادفه.

والنوع الثاني: رديء خبيث جدّاً، ويحدث عنه من كلّ واحد من السرطان والجذام أخبثه، وأردأه، بمنزلة السرطان الذي يكون معه قرحة، والجذام الذي يكون معه تأكّل الأعضاء وتساقطها.

السرطان: إن كان في أوّل ابتدائه، فهو يداوی ويبرأ، ولكن ليس ذلك فيه بسهل. ومداواته تكون بالعناية بأمر جملة البدن، وبالعناية بأمر العضو

الذي هو فيه خاصّة. أمّا العناية بأمر جملة البدن فباستفراغه، وبإصلاح غذائه. والاستفراغ ينبغي أن يكون أوّلاً بإخراج الدم: إمّا بفصد العرق، وإمّا بإدرار الطمث إن كانت العلّة بامرأة لا تتجاوز الخمسين.

ثمّ بعد إخراج الدم، بإخراج قيح المرّة السوداء بالإسهال المتوالي. فإنّ السوداء عسرة الحركة بسبب برودتها ويبسها. وليكن الدواء المسهل الذي يوالی أخذه،

بمنزلة الأفثيمون مع ماء الجبن.

وأمّا إصلاح الغذاء فيجب أن يتحرّی فيه بأن يكون الغذاء يولّد دماً جيّداً، ويكون رطب المزاج، لطيف الأجزاء، مسكّناً لحدّة السوداء ورداءتها، بمنزلة

كشك الشعير، وماء الجبن، والملوكيّة، والقطف، والبقلة اليمانيّة، والقرع، والسمك الرضراضيّ.

وأمّا العناية بأمر العضو الذي يحدث به السرطان خاصّة فهي أن تضع عليه قبل استفراغك لجملة البدن، وفي وقت استفراغك له، أدوية شأنها أن تمنع وتدفع، ولتكن معتدلة في ذلك بمنزلة عنب الثعلب. وذلك أنّ الأدوية القليلة الدفع والمنع لا تقوی علی المرّة السوداء، ولا تطفّئها. والأدوية القويّة المنع والدفع تدفع عن العضو ما هو من المادّة لطيف رقيق، ويتخلّف فيه الغليظ

الذي لا يندفع بعد ذلك. ثمّ نضع عليه، بعد أن نستقصي الاستفراغ، أدوية تحلّل. ولتكن هذه الأدوية أيضاً معتدلة التحليل، بمنزلة الدواء المتّخذ من الدخان الذي يجتمع في البيوت التي يصفّی فيها النحاس، والدواء المتّخذ بالقلقطار المنسوب إلی جالينوس. وذلك أنّ الأدوية القليلة التحليل لا تطفّئ المرّة السوداء ولا تقوی عليها، والأدوية القويّة التحليل تفني من المادّة لطيفها، ويتخلّف غليظها الذي لا ينفشّ بعد ذلك، ولا ينحلّ.

وأمّا إن كان السرطان قد تزيّد وعظم، فبرؤه بالمداواة بالأدوية أمر لا يكون، لكنّه يقف، ولا يتزيّد، إذا ألحّ عليه بالأدوية المسهلة وبالغذاء المولّد للدم الجيّد الرطب المعتدل.

وأمّا بعلاج الحديد فربّما برأ، علی أنّ ذلك عسر جدّاً. وذلك أنّ الحاجة

تدعو إلی قطع جميع العضو الذي به هذه العلّة. وهذا شيء تتبعه ثلث خصال رديئة:

الواحدة: أنّه إن كان في العضو عروق كبار ضوارب، أو غير الضوارب، فقطعت، انبثق الدم انبثاقاً لا يحبسه شيء فيه.

والثانية: أنّا إن ربطنا هذه العروق، وخاصّة إن كانت ضوارب، نال الأعضاء الشريفة، بمشاركتها لهذه العروق الضوارب في الألم، آفة.

والثالث: أنّا إن قطعنا العضو، لم يمكنّا أن نكوی أصله حتّی نبلغ إلی أساسه، إن اتّفق أن يكون بالقرب من ذلك الموضع عضو شريف.

في الجذام

إذا وقعت المرّة السوداء إلی ناحية الجلد، أحدثت الجذام.

وهذه المرّة السوداء، إمّا أن تكون من درديّ الدم وثفله، وإمّا أن تكون من احتراق الصفراء.

فإن كانت من درديّ الدم وثفله، أحدثت جذاماً أقلّ رداءة من غيره، وهو الجذام الذي لا يكون معه تأكّل ولا تساقط الأعضاء، لكن إمّا أن يظهر فيها سواد فقط، وإمّا أن تصير فيها زوائد متحجّرة.

وإن كانت من احتراق الصفراء، أحدثت تأكّلاً وتساقط الأعضاء.

وهذه العلّة أيضاً، أعني الجذام، يداوی بالاستفراغ بإخراج الدم، وبالإسهال المتوالي بالأدوية التي تخرج السوداء، وبالأغذية المولّدة للدم الجيّد الرطب.

وإن كان هناك تأكّل، كان الغذاء مع ذلك مطفّئاً، وبالأشياء التي تفني المادّة، مثل أكل لحوم الأفاعي، وشرب الدرياق.

سائر الأورام الحادثة في البدن: منها ما يحدث عن البلغم، ومنها ما يحدث عن الرطوبة المائيّة.

أمّا الأورام الحادثة عن البلغم فكثيرة: منها الورم المسمّی ماليقيرس، وتفسيره العسليّ، وهو الدبيلة التي تكون فيها رطوبة شبيهة بالعسل، فإنّ هذا يحدث عن بلغم متعفّن رقيق.

والغرض في مداواة هذا ثلثة أشياء: وهي التحليل، والتعفين، والقطع.

ومنها الورم المسمّی أثاروما، وتفسيره الأردهالجيّ، وهو الدبيلة التي تكون فيها رطوبة شبيهة بالأردهالج. وهذا يحدث عن بلغم، اليبس والغلظ عليه أغلب.

والغرض في مداواته شيئان: وهما التعفين، والقطع.

ومنها الورم الذي يقال له سطاطوما، وتفسيره الشحميّ، وهو الدبيلة التي يكون فيها شيء شبيه بالشحم. وهذا أيضاً يحدث عن بلغم غليظ.

والغرض في مداواته غرض واحد: وهو القطع، وذلك أنّه لا يتعفّن، ولا يتحلّل، لكن يقطع فقط.

ومنها الخنازير: وهي أورام تحدث من بلغم رطب قد غلظ كثيراً وصلب عندما

تحيّز في اللحم الرخو.

والخنازير: إن كانت في أوّل أمرها، قريبة في حالها من حال الورم المسمّی فلغموني، فينبغي أن تداوی بالأدوية المقيّحة.

وإن كانت أقرب إلی حال الورم الصلب المسمّی سقيروس، فينبغي أن

تداوی بالأشياء المليّنة والمحلّلة. وأمّا في آخر الأمر فينبغي أن تداوی الخنازير بالتعفين، والتحليل.

فأمّا الأورام الحادثة عن الرطوبة المائيّة فهي بمنزلة الاستسقاء المعروف بالزقّيّ، والقرو الحادث عن الماء المجتمع في الأنثيين.

والغرض من مداواة الاستسقاء الزقّيّ ثلثة أشياء:

أحدها: مداواة صلابة الكبد.

والثاني: تحليل ما قد اجتمع في البطن من الماء.

والثالث: استفراغ ذلك الماء بالثقب عنه.

وأمّا قرو الماء، فالغرض في مداواته شيئان:

أحدهما: التحليل.

والآخر: الاستفراغ لذلك الماء بعلاج الحديد.

والدواء المحرق والدواء المعفّن فجميعها واحد، إلّا أنّ المحرق أقوی وأغلظ، والمعفّن أقلّ قوّة وهو ألطف.