Anon.: Ǧawāmiʿ kitāb Ǧālīnūs fī l-quwā l-ṭabīʿīyah ʿalā raʾī al-Iskandarānīyīn ((Alexandrian) Summary of Galen's Book On the Natural Faculties According to the Doctrine of the Alexandrians)

Work

Anon., Ǧawāmiʿ kitāb Ǧālīnūs fī l-quwā l-ṭabīʿīyah ʿalā raʾī al-Iskandarānīyīn
English: (Alexandrian) Summary of Galen's Book On the Natural Faculties According to the Doctrine of the Alexandrians

Related to

Text information

Type: Summary (Arabic)
Date: unknown

Source

B = London, British Library, Or. 9292 (3), 52r-81v
F = Istanbul, Süleymaniye, Fatih 3538 (6), 165v-191v

Download

anon_gal_defacnat-summ_alexsumm-ar1.xml [127.48 KB]

بسم اللّه الرحمن الرحيم

جوامع كتاب جالينوس في القوى الطبيعيّة على رأي الإسكندرانيّين ترجمة حنين بن إسحق

مبدأ جوامع المقالة الأولى منه

قال جالينوس: القوى ثلثة أجناس فمنـها نفسانيّة ومنها حيوانيّة ومنها طبيعيّة. والقوى النفسانيّة ثلثة أنواع فمنها حسّيّة ومنها حركيّة ومنها سياسيّة. فأمّا الحسّيّة فهي التي يكون بها فعل الحواسّ الخمس أعني البصر والسمع والشمّ والذوق واللمس؛ وأمّا الحركيّة فهي التي تكون بها الحركات الإراديّة؛ وأمّا السياسيّة فثلث قوى أعني التخيّل والفكر والذكر.

وأمّا القوى الحيوانيّة فهي التي بها يكون نبض القلب والعروق الضوارب بالانبساط والانقباض. وأمّا القوى الطبيعيّة فثلث إحداهنّ القوّة المولّدة وهي مؤلّفة من قوّتين إحداهنّ المغيّرة والأخرى المصوّرة؛ والثانية القوّة المنمّية وهي التي يكون بها تزيّد الأعضاء ونماؤها إلى وقت المنتهی؛ والثالثة القوّة الغاذية التي يتمّ أمرها بأربع قوى تخدمها إحداهنّ الجاذبة؛ والثانية الماسكة؛ والثالثة الهاضمة؛ والرابعة الدافعة.

قال أفلاطن إنّ الأنفس ثلث إحداهنّ النفس البهيميّة

المخصوصة بالحسّ والحركة الإراديّة والذكر؛ والثانية النفس الناطقة التي لها التخيّل والفكر؛ والثالثة النفس النباتيّة التي تسمّى طبيعيّة ولها التوليد والتربية والتغذية.

الأشياء التي تتغيّر تغيّر استحالة يكون تغييرها على أحد أربعة أوجه إمّا أن يكون تغييراً في الجوهر وهو تغيير الكون والفساد؛ وإمّا تغييراً في الكيفيّة وهو التغيير من الحرارة إلى البرودة ومن البرودة إلى الحرارة أو من اللون الأحمر إلى غيره أو من الأبيض إلى غيره من سائر الألوان؛ وإمّا تغييراً في الكمّيّة وهو التغيير في النموّ والنقصان؛ وإمّا تغييراً في الموضع وهو الانتقال. والانتقال على ضربين أحدهما يجري على حركة مستقیمة والآخر على استدارة. والحركة المستقيمة يكون إلى ستّ جهات فوق وأسفل ويمين وشمال وقدّام وخلف.

الحركات صنفان فمنها بسيطة جنسيّة وهي التي تعمّ أنواعاً أخر؛ ومنها مركّبة نوعيّة وهي المركّبة من تلك البسيطة. والبسيطة حركتان إحداهما من موضع إلى موضع والأخرى التغيير العارض في الكيفيّة. والمركّبة أربع حركات أوّلها الكون وهو مركّب من التغييرات العارضة في الكيفيّة أعني التغييرات الداخلة في كيفيّات كثيرة بها يتمّ نوع الشيء الذي يكون؛ والأخرى الفساد وهو أيضاً مركّب من أمثال الأشياء التي الكون منها مركّب

لأنّ فساد الواحد من الأشياء هو كون لشيء آخر؛ والثالثة النماء وهو مركّب من تغيير الغذاء الذي به يكون النموّ ومن الحركات الوضعيّة في الأقطار الثلثة أعني الطول والعرض والعمق؛ والرابعة التنقّص فإنّ هذا أيضاً مركّب من حركات إراديّة تذهب في الأقطار الثلثة أعني الطول والعرض والعمق.

قد اختلف الناس في أمر الكيفيّات فمنهم من قال إنّها ليست موجودة على الحقيقة بل إنّما هي شيء يظهر ويتبيّن في للحسّ عند غلطه من قبل الطرق المختلفة التي تؤدّيها إلى الأشياء المحسوسة؛ ومنهم من قال إنّها موجودة بالحقيقة إلّا أنّها لا تتغيّر؛ ومنهم من قال إنّها موجودة بالحقيقة وإنّها تتغيّر.

وأصحاب القول الأوّل هم أصحاب ديموقريطس لأنّ هذا كان يقول إنّ الحلو والمرّ إنّما هو شيء جرى بين الناس على طريق الأشياء التي توجبها السنّة والشريعة فأمّا الحقائق فإنّما هي أجزاء غیر منقسمة وخلاء فيما بينها فقط. وأصحاب القول الثاني هم أصحاب أنكساغوراس فإنّ هؤلاء يقولون إنّ الكيفيّات كلّها موجودة في جميع الأجسام بالفعل إلّا أنّها إذا تفاصلت وفارق بعضها مخالطة بعض واجتمعت بأنفسها بعضها إلى بعض أبصرت

وإذا عاودت الاختلاط بعض ببعض لم تبصر وكان يقول هو إنّه ليس من شيء يكون ولا يفسد ولا يتغيّر لكن الأجسام المتشابهة الأجزاء انفصل بعضها من مخالطة بعض واجتمعت بأنفسها بعض إلى بعض أبصرت وإن عادت واختلطت لم تبصر. والحسّ يبطل قول هؤلاء ويفسد هذا القول وذلك أنّا نجد جميع الشيء يتغيّر ويستحيل إلى غيره بجميع الأجزاء لا جزء منه وجزء لا. من ذلك أنّ الزيت بجميع أجزائه يصير ناراً إذا رششناه عليها وجميع الخبز يصير دماً وجميع الرطب من الماء يصير هواء. وأصحاب القول الثالث هم أصحاب أبقراط وأرسطاطاليس فإنّ هؤلاء كانوا يقولون إنّ الكيفيّات تتغيّر وبتغيّرها يكون الكون والفساد والمزاج والاستحالة والاغتذاء والنماء.

الذي اعتقده الناس في أمر المزاج من الآراء اثنان وذاك أنّ قوماً قالوا إنّ الأجسام أنفسها عند التمازج يغوص بعضها في بعض وهذا قول زينون. وقوم آخرون قالوا إنّ الأجسام عند التمازج تنقسم إلى أجزاء صغار ويضامّ بعضها بعضاً وكيفيّاتها تغوص فيتغيّر ویستحيل بعض إلى بعض فيصير الكلّ متشابه الأجزاء وسطاً فيما بين الاثنين المتخالطين وهذا قول أرسطاطاليس وخروسبس.

الحركة من المحرّك يقال إنّها فعل له ومن المتحرّك يقال إنّها انفعال منه. مثال ذلك أنّ اليد إذا تحرّكت كانت حركة العضلة المحرّكة لها فعلاً للعضلة وحركة العظم المتحرّك انفعال وقبول للفعل من العضلة.

اسم الفعل المفروغ منه يتصرّف على قسمين أحدهما الفعل الذي به يكون ذلك بمنزلة الهضم والآخر الشيء الحادث عن ذلك الفعل بمنزلة العصارة النافذة

من المعدة والأمعاء إلى الكبد والدم النافذ من الكبد إلى الأعضاء واللحم المتولّد من ذلك الدم.

في الحركة التي تحرّكها الطبيعة أربعة أشياء أحدها يقوم مقام الفاعل وهو القوّة؛ والآخر مقام الآلة وهو المزاج؛ والثالث مقام الحركة وهو الفعل؛ والرابع مقام المفعول الذي يتمّ بذلك الفعل وهو العصارة التي تتولّد من الطعام والشراب والدم المتولّد من هذه العصارة.

إذا نظرت في أمر القوّة وجدت بالقصد الأوّل سبباً للفعل وبالقصد الثاني سبباً للشيء الذي يتمّ بذلك الفعل.

اختلف الناس في أمر الآلات التي تستعملها الطبيعة في أعمالها فقوم قالوا إنّها الأربع الكيفيّات الأول ومزاجاتها أعني بالكيفيّات الأول الحرارة والبرودة والرطوبة والیبوسة. وقال قوم آخرون إنّ اثنين من هذه الأربع فاعلتان وهما الحرارة والبرودة واثنتان منفعلتان وهما الرطوبة واليبوسة والفاعلتان هما آلتان للطبيعة. وأصحاب هذه المقالة هم الرواقيّون وذاك أنّ هؤلاء زعموا أنّ الكون إنّما يتمّ بالاكتناز والانتشار وأوجبوا أنّ الانتشار للحرارة والاكتناز للبرودة وقالوا إنّ الكيفيّتين الأخريين أعني الرطوبة واليبوسة هما للكيفيّتين الفاعلتين بمنزلة المادّة التي يستعملها الفاعل فالحرارة والبرودة يفعلان فعلهما في الرطوبة واليبوسة. ووجدنا أرسطاطاليس في كتابه في الكون والفساد

يستعمل في كلامه الأربع الكيفيّات ليصحّ بها أمر الكون والاستحالة وفي كتابه في الآثار العلويّة وفي مسائله وفي مواضع أخر يستعمل منها كيفيّتين فقط وهما الحرارة والبرودة وذلك لأنّ أكثر الفعل في الحیوان والنبات للحرارة والبرودة وأقلّه للرطوبة واليبوسة.

أفعال الطبيعة ثلثة أحدها التوليد والآخر التربية والثالث التغذية. فأمّا التوليد فيكون من قوّتین إحداهما المغيّرة الأولى والأخرى الجابلة أي المصوّرة. والقوّة المغيّرة جنسها جنس واحد وأنواعها كثيرة وذلك لأنّ عدد القوى المغيّرة بحسب عدد الأعضاء المتشابه الأجزاء. وأمّا القوّة المصوّرة فهي الفاعلة لأشكال الأعضاء وتجويفاتها وثقبها وخشونتها وملوستها ومقادير عظمها وعددها ووضعها واشتراكها. وأمّا القوّة المربّية فهي النامية لأنّها تمدّد الأعضاء في الثلثة الأقطار أي في الطول والعرض والعمق. وأمّا القوّة المغذّية فهي التي تغذّي العضو أعني بذلك الزيادة التي يقبلها العضو من غير أن يتمدّد.

وأمر الغذاء يتمّ بأربع قوى إحداهنّ الجاذبة والأخرى المغيّرة والثالثة الماسكة والرابعة الدافعة. فأمّا الجاذبة فهي التي تجذب إلى العضو ما يشاكله؛ وأمّا المغيّرة فهي التي تغيّر ما يجتذب حتّى تقلبه إلى مشاكلة العضو؛ وأمّا الماسكة فهي التي تمسك

ذلك حتّى يتغيّر؛ وأمّا الدافعة فهي التي تدفع عن العضو ما يحصل فيه من الفضل المنافر له.

كلّ واحد من الثلثة الأفعال يكون بقوّة طبيعيّة وكلّ واحدة من القوى الثلث الطبيعيّة تخدمها قوى أخر. أمّا القوّة المولّدة فتخدمها القوّة المربّية والقوّة الغاذية؛ وأمّا القوّة المربّية فتخدمها القوّة الغاذية؛ وأمّا القوّة الغاذية فلها فعلان أحدهما التغيير والآخر التشبيه وتخدمها ثلث قوى وهي الجاذبة والماسكة والدافعة. والقوّة المغيّرة قوّتان إحداهما القوّة 〈المغيّرة〉 الأولى التي في التوليد وهي التي تعمل بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فتحدث جواهر مختلفة. وذاك أنّ هذه القوّة المغيّرة إن عملت بالحرارة والرطوبة أحدثت لحماً؛ وإن عملت بالبرد والرطوبة أحدثت دماغاً؛ وإن عملت بالبرد واليبوسة اختلف فعلها بحسب مقادير ذلك. وذاك أنّه إن كانت البرودة واليبوسة قليلة أحدثت عصباً؛ وإن كانت كثيرة حدث عن ذلك رباط؛ وإن كانت أكثر من ذلك حدث عن ذلك غضروف؛ وفي آخر الأمر إن كانت من الكثرة والقوّة في حدّ ما تصلب به المادّة حدث عن ذلك العظم. وأمّا المغيّرة الثانية فهي التي عملها الغذاء أعني التي تغيّر الغذاء إلى مشابهة العضو المغتذي.

القوّة المغيّرة إن كان عملها بالحرارة قيل إنّها محرّة مسخنة وإسخانها إن كان أكثر حدث عنه لحم القلب؛ وإن كان أقلّ حدث عنه لحم الكبد؛ وإن كان أقلّ من ذلك حدث عنه لحم العضل.

وإن كان عملها بالبرودة قيل إنّها مبرّدة وتبريدها إن كان أكثر حدث عنه السمين وإن كان أقلّ حدث عنه الدماغ. وإن كان عملها بالرطوبة قيل إنّها مرطّبة وترطيبها إن كان أكثر حدث عنه الدماغ وإن كان أقلّ حدث عنه النخاع. وإن كان عملها باليبس قيل إنّها مجفّفة وتجفيفها إن كان أكثر حدث عنه العظم وإن كان أقلّ حدث عنه الغضروف وإن كان أقلّ من ذلك حدث عنه الرباط والعصب والشريان والعرق والغشاء.

الكيفيّات منها ملموسة ومنها مبصورة ومنها مشمومة ومنها مذوقة. والكيفيّات الملموسة منها كيفيّات أول ومنها كيفيّات ثوانٍ أمّا الأول فالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وأمّا الثواني فالصلابة واللين والخفّة والثقل واللزوجة والقحولة والكثافة والسلاسة والتخلخل واللطافة والغلظ. وأمّا الكيفيّات المبصورة فهي الألوان بمنزلة البياض والسواد. وأمّا الكيفيّات المشمومة فهي الروائح الطيّبة والمنتنة. وأمّا الكيفيّات المذوقة فهي الطعوم بمنزلة الحلاوة والمرارة. وأمّا الأشياء المسموعة فليست كيفيّات بل أحداث وانفعالات وذلك لأنّ وجودها ليس هو وجود الأشياء القائمة بذاتها بل وجود الشيء الذي هو في حدّ ما هو ذا يتكوّن ولذلك لا يقال

لشيء منها كيف. وقد يقسم هذا المعنى أيضاً بقسمة أخرى فيقال إنّ الكيفيّات منها أوائل أمّهات ومنها ثوانٍ متولّدة منها. فالأول الأمّهات أربع وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والثواني المتولّدة من الأول أربعة أجناس وهي الملموسة والمبصورة والمشمومة والمذوقة.

وأول أفعال الطبيعة ثلثة أحدها توليد ما ليس بموجود ولأنّ الشيء المتولّد مركّب من أجزاء مختلفة صارت القوى المولّدة لجواهر الأعضاء المتشابهة الأجزاء مختلفة أيضاً بحسب اختلافها في أنفسها؛ والثاني تربية ما تولّد؛ والثالث حفظه واستبقاؤه إلى مدّة طويلة.

الاختلاف عامّ للقوى والأعضاء إلّا أنّ القوى تختلف في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وفي الزيادة والنقصان في كلّ واحد من هذه الأربع التي تستعملها هذه القوى ومقامها مقام الآلات. فأمّا الأعضاء الحادثة عن فعل هذه القوى المختلفة فتختلف في الكيفيّات الأول التي ذكرناها أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والزيادة والنقصان في هذه على ما وصفنا قبل وتختلف أيضاً في الكيفيّات المتولّدة من هذه وهي الثواني بمنزلة الصلابة واللين واللون بمنزلة البياض والحمرة والمذاق بمنزلة الحلاوة والدسومة.

لكلّ واحد من هذه الثلث القوى الطبيعيّة وقت يمسك

فيه عن فعلها فالقوّة المولّدة تمسك عند تمام كون الشيء المتولّد وكون الجنين يتمّ إن كان ذكراً في ثلثين يوماً أو في خمسة وثلثين يوماً وإن كانت أنثى ففي أربعين يوماً؛ والقوّة المربّية تمسك عن تمام فعلها مع تمام مقدار عظم الشيء المربّى أعني في سنّ المنتهي من الشباب وهو خمس وثلثين سنة؛ والقوّة الغاذية لا تزال تفعل فعلها ما دام الشيء المتولّد موجوداً يحيى.

القوّة المغيّرة قوّتان إحداهما أوّليّة وهي التي تفعل فعلها في وقت الكون والذي يحدث عن فعل هذه القوّة هو اللحم والعظم من غير أن يكون هناك قبل فعلها لحم أو عظم؛ والأخرى ثانية وهي التي تفعل فعلها في الغذاء أعني أن يكون اللحم والعظم موجودين فتشبّه بهما الغذاء الزائد عليهما.

الأشياء التي تتغيّر وتستحيل إن كان تغيّرها واستحالتها إلى شيء هو خلافها فهي تحتاج إلى مدّة طويلة تتغيّر فيها بمنزلة تغيّر الأبيض حتّى يصير أسود أو تغيّر الدم حتّی يصير عظماً. وإن كان تغيّرها إلى شيء قريب منها فإنّما تحتاج إلى مدّة يسيرة واستحالة قليلة بمنزلة تغيّر الأحمر الناصع حتّى يصير أحمر قانئاً والدم حتّی يصير لحماً.

الأعضاء الموسومة بأعضاء الغذاء منها ما جعل لمكان الغذاء الجيّد النافع نفسه ومنها ما جعل لمكان فضل الغذاء. فأمّا الأعضاء التي أعدّت للغذاء نفسه فمنها ما جعل للتقدّم

بإصلاح الغذاء بمنزلة الفم والأسنان؛ ومنها ما جعل لإصلاح الغذاء بمنزلة المعدة؛ ومنها ما جعل لتغيير الغذاء بمنزلة الكبد؛ ومنها ما جعل لتنفیذ الغذاء إمّا من المعدة إلى الكبد بمنزلة الأمعاء الدقاق والعروق المنتسجة حولها وإمّا من الكبد إلى جميع البدن بمنزلة العرق الأجوف وما ينقسم منه. وأمّا الأعضاء التي جعلت لمكان فضل الغذاء فمنها ما جعل لتمييز ذلك الفضل وانتزاعه من الدم؛ ومنها ما جعل لتنفیذه؛ ومنها ما جعل لقبوله؛ ومنها ما جعل لدفعه وتبريزه. فأمّا الأعضاء المميّزة المنتزعة للفضول من الدم فمنها المرارة وهي التي تميّز وتنتزع المرّة الصفراء؛ ومنها الطحال وهو يميّز وينتزع المرّة السوداء؛ ومنها الكليتان وهما تنتزعان وتميّزان مائيّة الدم. وأمّا الأعضاء المنفّذة للفضول فمجاري المرّة الصفراء ومجاري الطحال ومجاري البول. وأمّا الأعضاء القابلة للفضول فالمثانة تقبل البول والأمعاء الغلاظ تقبل الثفل. وأمّا الأعضاء التي تدفع وتبرز الفضول فالدبر يخرج الثفل ومخرج البول يخرج البول.

أمر الغذاء يتمّ باجتماع ثلثة أشياء أحدها الزيادة والآخر الالتصاق والثالث المشابهة ومتى نقص من هذه واحد فليس يكون غذاء تامّاً. مثال ذلك أنّ الزيادة لا تكون في العلّة التي يقال لها باليونانيّة أطروفيا وتفسيرها عدم الغذاء؛ والالتصاق لا يكون في العلّة المعروفة بالاستسقاء اللحميّ وذلك أنّ الالتصاق إنّما يكون عندما يصير للخلط

الغاذي لزوجة وغلظ؛ والمشابهة لا تكون في البرص ولا في البهق.

الضرر يدخل في الغذاء على ثلثة أنحاء أحدها أن لا يكون بتّة بمنزلة ما يعرض في العلّة المعروفة بعدم الغذاء؛ والآخر أن يكون على النقصان بمنزلة ما يعرض في الهزال؛ والثالث أن يكون بحال سوء بمنزلة ما يعرض في البرص وذلك يكون إمّا بسبب ضعف من القوّة المغيّرة وإمّا بسبب رداءة المادّة.

أمر الغذاء يتمّ على ما قلنا بالزيادة والالتصاق والمشابهة. فأمّا الزيادة فتكون من القوّة الجاذبة إذا هي اجتذبت إلى العضو الخلط الذي من شأنه أن يغذوه ويبشّه في أجزائه كلّها. وأمّا الالتصاق والمشابهة فيكونان من القوّة المغيّرة وذلك أنّ هذه القوّة إن كان تغييرها للغذاء يسيراً حتّى إنّها تغلّظه وتلزّجه فقط حدث عن ذلك الالتصاق وإن كان تغييرها إيّاه تغييراً تامّاً حدث من ذلك مشابهة.

في العلّة المعروفة بالاستسقاء اللحميّ الزيادة تكون وأمّا الالتصاق فلا ولذلك أيضاً لا يكون مشابهة وفي البرص الزيادة والالتصاق يكونان فأمّا المشابهة فلا.

اسم الغذاء على ما قال أبقراط يتصرّف على ثلثة معانٍ أحدها الغذاء الذي هو بالحقيقة غذاء وهو الذي قد صار إلى مشابهة وفرغ؛ والثاني الغذاء الذي كأنّه غذاء أعني ما قد زاد والتصق فقط؛ والثالث الغذاء الذي يرید أن يكون غذاء بمنزلة الدم أو عصارة الطعام والشراب.

الذي يعتدّ به من الآراء التي اعتقدها الناس في الفلسفة والطبّ في الكيفيّات رأيان أحدهما رأي أبقراط وأرسطاطاليس والآخر رأي إبيقورس وأسقليبيادس. فأمّا الرأي الأوّل فأهله يقرّون باستحالة الكيفيّات وتغيّرها وباتّحاد الهيولى واتّصال بعضها ببعض ويجحدون الخلاء. وبحسب هذا الرأي قد يمكن إن كان جوهر الجسم جوهراً قابلاً للأحداث أن يكون هاهنا مزاج ويكون من هذا المزاج موافقة تقع في كلّ موضع من المواضع المختلفة بحسب الموضع فتقوم هذه الموافقة مقام الآلة والأداة لما يكون من عمل الطبيعة والقوى الطبيعيّة وهي القوى المولّدة والمربّية والمغيّرة * والأربع القوى الأخر التي تخدم هذه وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة ومن عمل النفس والقوى النفسانيّة وهي الفكر والرأي ومن عمل العقل والقوى الإلهيّة التي تظهر أفعالها في خلقة الحيوان وهي التكهّن والزجر والفأل وفي قضاء النجوم.

وأمّا الرأي الثاني فأهله يجحدون الاستحالة والاتّحاد ويقدّون بالخلاء. وبحسب هذا الرأي إذ كان جوهر الجسم لا يقبل الأحداث فليس يمكن أن يكون لا مزاجاً ولا قوّة تستعمل المزاج وتقيمه مقام الأداة والآلة فتفقد الطبيعة والقوى الطبيعيّة والنفس والقوى النفسانيّة والعقل والقوى الإلهيّة. ومن أجل هذا الرأي الذي ذكرناه دفع أسقليبيادس القوى الطبيعيّة وسبب دفعه لهذه القوى أنّه قال إنّ كون الدم ونفوذه إلى الأعضاء يحدثان عن لطافة الأجزاء. وقال أيضاً

إنّ انفصال مائيّة الدم من الدم إنّما يكون بأنّ الرطوبة تنحلّ من المعدة والأمعاء فيصير بخاراً ويغوص ذلك البخار في المثانة فإذا صار في جوفها غلظ وعاد إلى طبيعته فصار رطوبة. وقال في المرّة الصفراء إنّها ليست تجتذب من الكبد بل إنّما تتولّد في المرارة وفي مجاري المرارة.

والرأي الذي يعتقده أسقليبيادس في انفصال البول ينفسخ من وجهين أحدهما القياس والآخر الحسّ. فأمّا بطلانه بالقياس فمن ثلثة أوجه أوّلها أنّه إن كانت الرطوبة تصير بخاراً فلم لا يرتفع ويصعد ذلك البخار إلى فوق فيملأ الصدر والرئة لكن ينحدر إلى أسفل حتّى يغوص في المثانة؟ والثاني أنّه إن أعطي أنّ هذا البخار لا يرتفع إلى فوق فما السبب الذي من أجله يدع أن يذهب على الاستقامة إلى الغشاء المعروف بالصفاق وإن نفذ منه تحلّل في الهواء وإن لم ينفذ منه بقي في الموضع الذي بين الصفاق والأمعاء ويحدث عن ذلك استسقاء لكن يمرّ إلى المثانة؟ والثالث أنّه إن كان هذا البخار لا ينفذ في الصفاق لأنّ الصفاق غليظ صفيق فكيف صار ينفذ في جرم المثانة وهو طبقتان واحدة منهما وهي الخارجة من الصفاق تغشيه والأخری وهي الخاصّيّة بالمثانة أغلظ من الصفاق؟ وأمّا فسخه من الحسّ فبالتشريح وذلك أنّا إذا شققنا الموضع الذي قدّام مجاري البول وسددنا ذينك المجريين برباط لم يدخل إلى المثانة شيء من البول فإذا نحن حللنا الرباط امتلأت المثانة دفعة وإن نحن شققنا ذينك المجريين

وهما مربوطان جرى منهما البول.

وأمّا الرأي الذي يعتقده أسقليبيادس في المرّة الصفراء فيبطل بما نجده عياناً يعرض في اليرقان أعني أنّ البدن كلّه يصفرّ والثفل يبيضّ. والسبب في ذلك أنّه إذا حدثت سدّة في المجاري التي يجري فيها ما تجتذبه المرارة من الكبد من المرّة الصفراء إليها أو في المجرى الذي يقذف بالمرّة من المرارة إلى الأمعاء لم تجد المرّة سبيلاً إلى الاستفراغ فيخالط الدم بهذا السبب وينفذ معه إلى جميع البدن ويحدث عن هذا يرقان.

كلّ واحد من الأعضاء التي في الصدر موقىً بغشاء منشأه من الغشاء المستبطن للأضلاع وكلّ واحد من الأعضاء التي في البطن موقىً بغشاء منشأه من الصفاق.

قد اختلف الناس في أمر الأدوية المسهلة واعتقدوا فيها رأيين أحدهما رأي أبقراط الذي يعتقد أنّ كلّ واحد من الأدوية المسهلة يجذب الخلط المشاكل له بقوّة فيه جاذبة. من ذلك أنّ القرطم والأنجرة والدواء المسمّى أنوفأس (؟) يجتذب البلغم؛ والسقمونيا والصبر يجتذبان المرّة الصفراء؛ والنحاس المحرق وكماريوس يجتذبان مائيّة الدم؛ والخزبق والأفتمون يجتذبان المرّة السوداء.

والآخر رأي أسقليبيادس الذي يعتقد أنّ كلّ واحد من الأدوية المسهلة إنّما يولّد الخلط الذي يخرج بالإسهال. وهذا الرأي يبطل بما يعرض في العلل وفي الأسنان وفي أوقات السنة فأمّا في العلل فإنّ أصحاب اليرقان إن أسقوا دواء يسهل المرّة الصفراء أسهلهم إسهالاً

كثيراً سهلاً وينفعهم نفعاً بيّناً وإن سقوا دواء يسهل البلغم أسهلهم إسهالاً قليلاً عسراً وضرّهم. وأمّا أصحاب الاستسقاء إن سقوا دواء يسهل المرّة الصفراء أسهلهم إسهالاً قليلاً باستكراه وضرّهم وإن سقوا دواء يسهل الماء والبلغم أسهلهم إسهالاً كثيراً بسهولة ونفعهم نفعاً بيّناً. وأمّا في الأسنان فإنّا نجد من بلغ منتهى الشباب ومزاجه مزاج حارّ إذا شرب دواء يسهل المرّة الصفراء أسهله إسهالاً كثيراً بسهولة ونفعه وإذا شرب دواء يسهل البلغم أسهله إسهالاً يسيراً بمشقّة ومضرّة. ونجد من قد بلغ السنّ الذي قد يستولي عليها البلغم ومزاجه مزاج بارد على خلاف ذلك. وأمّا في أوقات السنة فنجد الصيف إذا أخذ فيه الدواء الذي يسهل المرّة الصفراء أسهل إسهالاً كثيراً بسهولة ونفع وإذا أخذ الدواء الذي يسهل البلغم أسهل إسهالاً قليلاً بمضرّة ومشقّة ونجد الأمر يجري في الشتاء على خلاف ذلك.

القوم الذين جحدوا القوى الطبيعيّة منهم إبيقورس وهو رجل يقرّ بما يوجد في ظاهر العيان إلّا أنّه لا يحفظ سنن ما يتّصل بأصوله التي أسّسها ولا يلزم ما يجب عليها. ومنهم أسقليبيادس وهو رجل حافظ لما يتّصل بأصوله لازم لما يجب عليها إلّا أنّه لا يقرّ بما يوجد ظاهراً للعيان. ولذلك لم يقرّ أسقليبيادس أنّ شيئاً يجتذب شيئاً وذلك لأنّ هذا غير موافق للأصول التي وضعها أعني أن يجتذب شيئاً. فأمّا إبيقورس فإنّه أقرّ بهذا أعني بأنّ شيئاً يجتذب

شيئاً لأنّ الحسّ اضطرّه إلى ذلك إلّا أنّه زعم أنّ الجذب يكون على هذا الوجه الذي يتمثّل فيه بحجر المغنيطس والحديد. وذلك أنّه قال إنّ الحجر والحديد تخرج من كلّ واحد منهما أجزاء تجري وتسيل فإذا صدمت الأجزاء التي تخرج من الحجر الأجزاء التي تخرج من الحديد والأجزاء التي تخرج من الحديد الأجزاء التي تخرج من الحجر طفرت ورجعت إلى خلف بمنزلة المطرقة إذا قرعت السندان وبرجوعها تتعوّج فتصير كالصنانير. وهذه الصنانير تتعلّق وتتّصل بعضها ببعض فتصير منها سلسلة وبهذه السلسلة يجذب الحجر الحديد.

وهذا قول صاحبه يهذي وهذيانه يكسر من وجوه شتّى أوّلها أنّه إن كان الأمر على هذا في أنّ الحجر لا تزال تخرج منه أجزاء فكيف لا ينقص على طول الزمان ويفنى؟ وأيضاً أنّه إن قال إنّ نقصان الحجر لا يتبيّن لصغر تلك الأجزاء قلنا فكيف يمكن هذه الأجزاء وهي على هذا الصغر أن تحمل من الحديد ما له مثل هذا الثقل وإنّما تشبّثها به بصنّارات على مثل هذا الصغر؟ والثالثة أنّا وإن أوجبنا له وسامحناه أنّ أجزاء في مثل هذا الصغر تقوى أن تحمل مثل هذه الأجسام مع عظمها ولكن كيف صارت الاجزاء تخرج دائماً وتصدم هذه وتحرّكها ولا يعرض أن تنقّلت وتنخلع الصنانير بعض من بعض فتنقطع السلسلة في بعض الأوقات ويسقط الحديد؟ ووجه آخر أيضاً وهو أنّا وإن سامحناه وأعطيناه هذه الأشياء المنكرة البشعة كلّها فإنّ لنا بعد أن نسأله كيف صار إذا أدنى من

الحديد الأوّل حديد ثانٍ ومن الثاني ثالث جذب كلّ واحد منها ما يدنو منه. ليس يخلو الأمر في هذا من ثلث خصال إمّا أن تكون الأجزاء كلّها ترجع إذا قرعت الحديد الأوّل فيبقى الثاني وليس له شيء يجذبه؛ وإمّا أن تكون كلّها تنفذ في الحديد الأوّل فلا تصير منها صنّارات ولا يجذب الحجر الحديد الأوّل؛ وإمّا أن يكون بعضها يرجع فيجذب الحديد الأوّل وبعضها ينفذ فيجذب الحديد الثاني وإذا كان هذا هكذا فكيف صارت هذه الأجزاء تنفذ في الحديد الأوّل ولا تنفذ في الحديد الثاني لكن ترجع عند قرعها إيّاه حتّى تصير منها صنّارات والحديد الثاني شبيه بالحديد الأوّل لا يغادره؟

وقد نجد القوّة الجاذبة عياناً في الأشياء الخارجة عن البدن وفي أعضاء البدن. أمّا في الأشياء ا الخارجة عن البدن فإنّا نجد الحجر المعروف بالمغنيطس يجذب الحديد؛ والكهرباء يجذب التبن؛ والأدوية الجاذبة للسلّى تجتذب من السلّى ما يعسر اجتذابه بالید؛ والأدوية الجاذبة لسموم الحيوان ذوات السموم تجتذب السموم فبعضها يجتذب سمّ الأفاعي وبعضها سمّ الثعابين وبعضها سمّ العقارب؛ والحنطة تجتذب الماء من جرار الماء؛ والأدوية المسهلة تجتذب كلّ واحد منها الخلط الخاصّ به.

وأمّا في أعضاء البدن فنجد الكليتين تجتذبان مائيّة الدم وهذا أمر يعرف

من أنّا نجد البول يصير إليها وليس يخلو في مصيره إليها من أن يكون إنّما يصير إليها من تلقاء نفسه كما يصير الواحد منّا إلى السوق. فإن كان ذلك فقد جعلنا لهذه المائيّة عقلاً واختياراً؛ أو تكون إنّما تصير إليهما على طريق ما يصير الشيء إلى المصفى الذي يصفّى به. ولو كان ذلك لكان ينبغي أن تكون الكليتان موضوعتين أسفل من العرق الأجوف كما يوضع الإناء أسفل من المصفى ولسنا نجد الكليتين أسفل من العرق الأجوف لكن عن جنبتيه. وكان ينبغي أيضاً أن يكون الدم كلّه يصير إلى الكليتين ليتصفّى ما يحتاج إليه كما أنّ المصفى أيضاً يقع فيه جميع الذي يصفّى وليس يمكن أن يصير الدم كلّه إلى الكليتين. فإن قالوا إنّ جزءاً منه ينحدر فيتصفّى ثمّ إنّ هذا الجزء يصعد وينحدر جزء آخر غير مصفّى فيتصفّى فلا يزال الأمر يجري على هذا دائماً فإنّما يهربون بقولهم هذا من أن يقرّوا بقوّة واحدة طبيعيّة وقد أوجبوا قوى كثيرة طبيعيّة عقليّة واحدة منها التي تدفع أو تجتذب ما قد تصفّى من الدم وأخری تمسك هذا حتّى لا ينحدر مرّة ثانية وأخرى تدفع أو تجتذب إلى الكليتين دماً آخر ليتصفّى أو يكون البول إنّما يصير إلى الكليتين باضطرار الخلاء والاتّباع لما يستفرغ. ولو كان ذلك لكان ينبغي ألّا يعرض حصر البول أو يكون إنّما يصير إلى الكليتين باجتذابهما إيّاه وهذا هو الحقّ.

زعم أراسسطراطس أنّ هضم الطعام إنمّا

يكون بسحق المعدة له؛ ونفوذ الغذاء يكون بعصر المعدة لما فيها وشدّة انقباضها عليه واستكراه الخلاء؛ وانفصال البول يكون بأنّ الدم يتصفّى بالكليتين كما يصفّى الشيء بالمصفى ولم نشرح الحال فيه كيف يكون.

الآراء التي اعتقدها الناس في انفصال البول خمسة واحد منها حقّ وهو رأي أبقراط وجالينوس الذي يعتقدان أنّ انفصال البول يكون باجتذاب الكليتين له وأربعة كذب صراح أحدها رأي أسقليبيادس الذي قد ذكرناه قبل ونقضناه.

والثاني والثالث رأي أصحاب أراسسطراطس وذاك أنّ هؤلاء اعتقدوا في هذا رأيين أحدهما وهو الأوّل أنّهم قالوا إنّ البول يرسب بثقله فينفصل برسوبه وهذا رأي شنع قبيح. وأوّل قبحه وشناعته أنّه لو كانت مائيّة الدم ثقيلة وإنّما ترسب بثقلها لكانت لا تصعد من المعدة والأمعاء إلى الكبد بل كانت تنحدر من المعدة وتمرّ في الأمعاء حتّى تخرج من الدبر مع الثفل. ومع هذا فكيف قال أراسسطراطس إنّ هذه المائيّة تنفع وتعين في تنفيذ الغذاء وهي بزعمه ثقيلة؟ والثانية أنّا وإن سامحناه وأعطيناه أنّها ثقيلة وأنّها بسبب ثقلها ترسب ولكن واجب أن يكون رسوب الثقيل إلى أسفل لا إلى جانب ونحن نجد الكليتين ليس هما موضوعتين أسفل من العرق الأجوف لا بل من جانبيه مع أنّه ليس أيضاً يتّصل هو بنفسه بهما بل إنّما ترسل إليهما شعبة

منه.

والرأي الرابع أنّهم قالوا إنّه كما أنّ الأشياء المختلفة الجواهر إذا ألقيت في موضع واحد بمنزلة الزيت والماء والعسل سال وجرى كلّ واحد منها في طريق غير طريق الآخر كذلك مائيّة الدم. والدم والمرّة لمّا كانت مختلفة الجواهر صار كلّ واحد منها يجري في طريق غير طريق الآخر وهذا الرأي أقبح وأشنع من الرأي الأوّل بل ليس هو رأي لأنّه لم يأت بالسبب الذي له صارت مائيّة الدم تأتي الكليتين ولا تأتي عضواً آخر لكنّه خبر عمّا يكون.

والخامس رأي لوقس الذي يقول إنّ البول إنّما هو فضل من الكليتين وهذا الرأي أشنع الآراء كلّها وأقبحها. وأوّل ما يفسخ به أنّا نرى أنّ جلّ ما يتناوله الإنسان من الشراب يخرج بالبول ولا سيّما فيمن شرب نبيذاً كثيراً؛ والثانية أنّه وإن كانت الكليتان وهما على هذا المقدار من الصغر لهما من فضل الغذاء هذا المقدار الكثير فكم بالحريّ ينبغي أن يكون فضل غذاء كلّ واحد من تلك الأعضاء الكبار بمنزلة الرئة والكبد والطحال؟ وإذ كنّا ليس نجد هذه الأعضاء تستفرغ منها هذه الفضول الكثيرة فقد ينبغي إذا بقيت أن تختنق.

تمّت جوامع المقالة الأولى من كتاب جالينوس في القوى الطبيعيّة.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

جوامع المقالة الثانية من كتاب جالينوس في القوى الطبيعيّة

من قوّة واحدة بعينها أعني القوّة الجاذبة يكون انفصال البول وانفصال المرّة وتنفيذ الغذاء. وتنفيذ الغذاء يكون بحسب رأي أرسسطراطس بانقباض المعدة وعصرها وبانقباض العروق وبالاتّباع لما يستفرغ. وذاك أنّه يقول إنّ الشيء الذي يخرج ما فيه لا بدّ له من أحد أمرين إمّا أن يمتلئ وإمّا أن يبقى فارغاً وهذا غير ممكن.

وقول من يرى أنّ تنفيذ الغذاء يكون باضطرار الخلاء ينفسخ بأربع حجج أحدها حجّة أسقليبيادس. وذلك أنّه قال إنّه ليس يجب ضرورة أن يكون الشيء الذي يخرج ما فيه إمّا أن يبقى فارغاً وإمّا أن يمتلئ لأنّه قد يمكن أن تجتمع أجزاؤه بعضها إلى بعض ويضامّ بعضها بعضاً كما قد يعرض للعروق ولجميع الأعضاء الرطبة. وإذا كان الأمر كذلك فليس يحصل من هذا الرأي أنّ العرق إذا خلا من الدم وجب ضرورة لا محالة أن يجتذب إليه دماً ويمتلئ باضطرار الخلاء لكن تضامّ أجزاؤه بعضها بعضاً. وإذا كان الأمر على هذا فإنّما تصحّ هذه القسمة إن قيلت على هذا الوجه إنّ الشيء إذا استفرغ ما فيه فلا بدّ له من إحدى ثلث خصال إمّا أن يبقى فارغاً بمنزلة القصبة وكلّ جسم صلب؛ وإمّا أن تلتقي أجزاؤه ويضامّ بعضها بعضاً بمنزلة

العرق؛ وإمّا أن يمتلئ باضطرار الخلاء.

والحجّة الثانية أنّا إذا أعطينا أنّ تنفيذ الغذاء إنّما يكون بانقباض المعدة والعروق فليس إلى اضطرار الخلاء حاجة. وإن كان انقباض المعدة والعروق لا يفي تنفيذ الغذاء لأنّ الانقباض إذا أمعن استرخى وفتر فليس يمكن أن يجتمع في شيء من الأعضاء التي بعد الكبد فضل إذ كان إنّما يأتيها بقياس ما يستفرغ منها.

والحجّة الثالثة أنّه إن كان الدم إنّما يجري وينفذ إلى العروق باضطرار الخلاء فكيف يجري الغذاء إلى العصب بعد ما يستفرغ إذ كان العصب ليس له تجويف يجري فيه الدم؟ وإن كان فيه مجرى فإنّما يمرّ في ذلك المجرى روح نفسانيّ لا غذاء ومع هذا فإنّ هذا المجرى لا يدرك بالحسّ. وأرسسطراطس يرى أنّ الجذب إنّما يكون باضطرار خلاء محسوس ولكن أراسسسطراطس يقول إنّ العصبة وإن كانت عند الحسّ بسيطة مفردة فإنّ طبيعتها مركّبة من عرق غير ضارب وعصبة وعرق ضارب فيجب من ذلك أن يكون الغذاء ينفذ في العرق غير الضارب الذي فيها. ومع هذا فإنّا أيضاً نقول إنّ هذه العصبة المفردة البسيطة التي في تلك العصبة المركّبة لا تخلو من أن تكون بسيطة أو مركّبة بالحقيقة. فإن كانت بسيطة بالحقيقة فليس يمكن أن يكون نفوذ الغذاء فيها باضطرار الخلاء إذ كانت متّصلة متّحدة كلّها ليس شيء يقطع بعضها عن بعض. وذاك أنّه متى تحلّل منها شيء اتّصلت أجزاؤها من الرأس كما يعرض

ذلك في الماء. إلّا أن يقول قائل إنّ العصبة ليست متّصلة متّحدة بل قوامها من أجزاء لا تتجزّأ وبينها خلاء وإذا كان الأمر على هذا ارتفعت الطبيعة وهذا ممّا لا يهواه أرسسطراطس. وإن كانت تلك العصبة مركّبة فالمسألة فيها قائمة وذاك أنّا نعاود المسألة على العصبة البسيطة التي في هذه المركّبة ولا يزال الأمر يدور على هذا إلى ما لا نهاية له.

والحجّة الرابعة أنّه إن كان تنفيذ الغذاء إنّما يكون بالاتّباع لما يستفرغ فكيف يمكن أن يكون من قد هزل يرجع فيسمن ويغلظ بدنه؟ فإنّه إن كان إنّما يجري الدم إلى الأعضاء التي في بدن هذا المهزول باضطرار الخلاء فإنّما تجري إليها منه بمقدار ما يستفرغ منها فيجب من ذلك أن يبقى المهزول أبداً على هزاله لا يغتذي ولا يخصب بدنه.

الآراء التي اعتقدها الناس في الأركان والعناصر اثنان أحدهما رأي من يقول إنّها لا تتغيّر ولا تستحيل بمنزلة قول أصحاب ديموقريطس والآخر رأي من يقول إنّها تتغيّر وتستحيل. وأصحاب الرأي الأوّل يطرحون الطبيعة ويبطلونها لأنّهم ليس يوجبون للأجزاء التي لا تتجزّأ قوى طبيعيّة ونفسانيّة ولا يمكنهم أن يولّدوا من تركيب تلك الأجزاء لا هذه القوى ولا التهيّؤ الذي به يكون الموافقة التي بها يمكن هذه القوى أن تفعل أفعالها لأنّه ليس بحسب رأي هؤلاء مزاج بل مجاورة فقط والمجاورة ليس يتولّد عنها شيء خارج عمّا

هو للأشياء المتجاورة. وأمّا أصحاب الرأي الثاني فليس يبطلون الطبيعة لأنّه قد يمكن إذا كانت العناصر تتغيّر وتستحيل أن يكون الشيء المركّب منها شيء ليس للعناصر البسيطة وهذا الشيء يتولّد عن المزاج وهو إمّا الطبيعة وإمّا موافقة لما به تفعل الطبيعة.

انفصال المرّة الصفراء من الدم بحسب رأي أرسسطراطس يكون لأنّ الدم غليظ القوام فهو لذلك يدخل في عروق واسعة وهي العروق المنقسمة من العرق الأجوف. والمرّة الصفراء ألطف منه فهي لذلك تدخل في مجارٍ ضيّقة دقاق وهي المجاري التي فيها تنفذ المرّة. وهذا الرأي ينتقض من تلثة أوجه أوّلها إن كان إنّما يتصفّى الدم فيدخل ما هو منه لطيف في المجاري القابلة للمرّة فتنفصل المرّة بهذا الوجه. فقد كان ينبغي ألّا تكون تصفية الدم في ممرّه لكن بأن يلقى كلّه في تجويف واحد يقوم مقام الإناء ويكون أسفل ذلك التجويف المجاري القابلة للمرار والمرارة فتقوم المجاري مقام المصفى والمرارة مقام الإناء الذي فيه ينصبّ الشيء الذي يصفى ولسنا نجد الأمر على هذا. وإذا لم يكن الأمر على هذا فقد يجب ضرورة أن يكون إنّما يدخل في المجاري من المرّة جزء لا الجميع وإن كان أيضاً هذا الحزء يدخل فيجب من ذلك أن يكون أمر الخلقة يجري على غير حكمة إذ قد ترك ما لا ينتفع به ينفذ مع ما ينتفع به فهذا ممّا لا يهواه أراسسطراطس.

والوجه الثاني من الانقباض

إن كان الدم يتصفّى فيدخل الشيء اللطيف ممّا فيه في المجاري الضيّقة القابلة للمرّة ويدخل الشيء الغليظ في المجاري الواسعة المتشعّبة من العرق الأجوف فقد كان ينبغي قبل كلّ شيء أن تكون الرطوبة التي هي أرقّ من المرّة تدخل في هذه المجاري القابلة للمرّة الصفراء أعني مائيّة الدم وذلك أنّ بمقدار ما تفضل المرّة على الدم في الرقّة واللطافة بذلك المقدار كلّه بعينه أن تفضل مائيّة الدم على المرّة في الرقّة واللطافة. وقد يمكنك أن تمتحن ذلك بسهولة درورها وجريتها وبسهولة خروجها من المصفى.

والوجه الثالث إن نحن جعلنا انفصال الفضول لضيق المجاري وسعتها ولميل الموادّ إلى ناحية دون ناحية كنّا قد سلبنا الخلقة أن يجري أمرها على حكمة وجعلنا البدن لا يمكن أن يعيش طرفة عين. وأرسسطراطس يعتقد أنّ أمر الخلقة يجري على إتقان وحكمة وإذا كان ذلك كذلك فانفصال الفضول إنّما يكون بالقوّة الطبيعيّة لا بالمجاري.

والصنعة تختلف بحسب الصانع وذلك أنّ الطبيعة إذا صنعت فهي تغوص في جوهر الشيء إلى قعره وتمتدّ وتنتشر فيه حتّى تحكمه وترين داخله وخارجه. والصانع من الناس إذا صنع شيئاً فإنّما يلقى من جوهر ذلك الشيء ظاهره فقط. وليس يرين منه شيئاً سوى ظاهره فأمّا باطنه وقعره فيدعه غير مرين.

الذي اعتقده الناس في المنيّ ودم الطمث

رأيان أحدهما رأي أرسطاطاليس الذي يقول إنّ المنيّ يقوم في خلقة الجنين مقام السبب الفاعل للشيء والدم يقوم مقام السبب الهيولانيّ أي مادّة الشيء. والآخر رأي أبقراط وجالينوس الذي يقول إنّ المنيّ يقوم مقام الفاعل ومقام المادّة والدم يقوم مقام المادّة فقط. والمنيّ ما دام ساكناً فهو يسمّى زرع وإذا تحرّك فهو يسمّى طبيعة وإنّما يتحرّك إذا وجد موضعاً موافقاً أعني الأرحام ومادّة موافقة مشاكلة له أعني نطفة المرأة ودم الحيض. وقد تمكنّا أن نعلم من كون الجنين أنّ هاهنا قوى طبيعيّة واحدة تجذب وإلّا فكيف ينحدر إلى الأرحام لغذاء المنيّ من الدم ما هو معتدل في كمّيّته ليس بالكثير فيغرّقه ولا بالقليل ولا تفي بغذائه وفي كيفيّته على ما يحتاج إليه من الرقّة والثخن؟ وقوّة أخرى مغيّرة وإلّا فكيف يكون من المنيّ وهو شيء واحد أعضاء متشابهة الأجزاء مختلفة الجوهر مثل العظم والعصبة والعرق؟ وقوّة أخرى جابلة وإلّا فكيف يصير البدن بأفضل الوجوه ممّا يحتاج إليه من الأشكال والثقب والتجويفات والخشونة والملاسة والعدد والعظم والوضع والاشتراك؟ وقوّة أخرى غاذية ومربّية وإلّا فكيف يتشبّه دم الطمث بكلّ واحد من الأعضاء ويصير كبيراً بعد ما كان صغيراً؟ الشيء الذي هو في الأرحام في أوّل أمره يقال له نطفة وإذا اكتنفه الغشاء سمّي علقة وإذا صار لحماً سمّي مضغة وحمل فإذا استوت

صورته وتمّت خلقته سمّي جنين وإذا أحسّ وتحرّك سمّي حيوان.

بين الكون والنموّ فرق وهو أنّ الكون مصير الشيء إلى النوع والنموّ مصير الشيء ونوعه باقٍ على حاله إلى الكبر بعد صغره.

الزيادة في مقدار الشيء هو نموّه وتربيته وتزيّده والصنّاع يقدرون من ذلك على ما يريدون من جهات الشيء في وجهين فقط أعني في الطول والعرض بعد أن ينقصوا من العمق بمنزلة ما يفعلون في المثانة إذا نفحوها (؟) ودلكوها إلى جانب رماد حارّ وأمّا في الثلث الجهات فلا يمكنهم لأنّهم ليس يقدرون أن يغذوا. وأمّا الطبيعة فتزيد في الثلث الجهات وذلك لأنّها تقدر أن تغذو لأنّ التغذية إنّما هي شيء خاصّ بالطبيعة ولذلك ليس من شيء يغتذي غير النبات والحيوان فقط.

الزيادة في العضو إن كانت إنّما تخلف عليه مكان ما استفرغ منه ولا يزيد على ذلك شيئاً سمّيت غذاء وإن كانت ليس إنّما تخلف عليه مكان ما ينحلّ ويستفرغ منه فقط لكن يزيد في مقداره في الطول والعرض والعمق سمّيت نماء وتربية.

الغذاء يتغيّر في البدن ثلثة تغييرات واحد في المعدة وهذا التغيير يقال له انهضام وأراسسطراطس يزعم أنّ هذا يكون بسحق المعدة للطعام إذا انقبضت عليه؛ والأخرى في الكبد والعروق وهذا التغيير أشرف وأكرم من ذاك بحسب فضل الدم على عصارة الطعام

في الكرامة والمنفعة ويقال له كون الدم؛ والثالثة في الأعضاء ويقال له المشابهة وهو أشرفها كلّها. وأراسسطراطس لم يقل في التغيير الثاني والثالث شيئاً لا كيف يكونان ولا ممّاذا يكونان ولا هل ينالهما الضرر ولا ممّاذا ينالهما.

الاستسقاء هو خطاء يقع في فعل القوّة المغيّرة التي في الكبد يكون إمّا من مرض من الأمراض الآليّة بمنزلة السدّة أو الورم الصلب الجاسئ؛ وإمّا من مرض من الأمراض المتشابهة الأجزاء بمنزلة ما يعرض من سوء المزاج البارد الذي يعرض للكبد إمّا من علّة تخصّها في نفسها وإمّا من علّة تشترك فيها غيرها إمّا الطحال إذا صلب وإمّا الرئة إذا بردت وإمّا جميع البدن إذا برد بإفراط من استفراغ الدم إمّا من الدبر وإمّا من الأرحام. وأراسسطراطس ترك هذه الأشياء كلّها وأغفلها وزعم أنّ الاستسقاء إنّما يكون من ورم صلب جاسئ يكون في الكبد فقط.

تولّد الأربعة الأخلاط إنّما يكون عن الانهضام الذي يكون في الكبد. وأراسسطراطس لمّا أغفل البحث عن انهضام الغذاء في الكبد قال إنّ العلم بأمر الأخلاط ممّا لا ينتفع به ومن أجل ذلك قال في بعض المواضع إنّ الطبيب لا يحتاج أن يعلم هل المرّة تتولّد في البدن أم هي محصورة في الغذاء من خارج. ولذلك ردّ عليه جالينوس قول هذا وفسخه من ثلثة وجوه أوّلها أنّه قال إنّ العلم بهذا

ممّا لا ينتفع به وهو ممّا ينتفع به وذاك أنّه إن كانت المرّة محصورة في الغذاء من خارج فقد ينبغي لنا أن نعلم في أيّ الأعذية هي محصورة وفي أيّها ليست بمحصورة كيما نتجنّب الأعذية التي المرّة محصورة فيها ونتحرّى ونطلب الأغذية التي ليست محصورة فيها. وإن كانت المرّة إنّما تتولّد في داخل البدن فقد ينبغي لنا أن نعلم ما السبب الذي يولّدها لنمنع من تولّدها فإنّ هذا أفضل من استفراغها بعد ما تتولّد. والوجه الثاني أنّ أراسسطراطس قال إنّ معرفة الحال في المرّة أنّها ليست بمحصورة في الخبز لكنّها تتولّد داخل البدن أمر شاقّ عسر.

والأمر في ذلك سهل هيّن من وجوه أحدها أنّ الأغذية التي تولّد على الأمر الأكثر المرّة إنّما هي الأغذية الحلوة جدّاً بمنزلة العسل. ولو كانت المرّة محصورة في الأغذية من خارج لكان ينبغي أن تكون الأغذية التي تزيد فيها أغذية مُرّة لا أغذية حلوة. والثانية أنّ الطعام الواحد بعينه بمنزلة العسل إن تناوله إنسان شيخ أو بارد المزاج أو من به مرض بارد أو في وقت الشتاء تولّد منه دم ولم تتولّد منه مرّة صفراء فإن تناوله إنسان شابّ أو حارّ المزاج أو من به مرض حارّ أو في وقت الصيف استحال وتغيّر فيه إلى المرار الأصفر. والثالثة أنّ كلّ عصارة تطبخ بالنار فهي أوّلاً تحلو ثمّ إنّها تملح وفي آخر الأمر تصير مرّة. فأمّا العسل فإنّه لمّا كان في طبعه على غاية الحلاوة صار إذا طبخ

يملح أوّلاً ثمّ إنّه بعد ذلك يصير مرّاً. والوجه الثالث أنّه ذكر تولّد المرّة في البدن ولم يكن ينبغي له أن يقتصر على أن يذكر تولّدها في البدن فقط لكن كان ينبغي له أن يقول في أيّ عضو تتولّد ومن أيّ الأسباب أعني في الكبد من الحرارة الشديدة؛ تولّد الدم يكون من الحرارة المعتدلة؛ وتولّد كلّ واحد من سائر الأخلاط الأخر من الحرارة المجاوزة للاعتدال أمّا البلغم فمن الحرارة الناقصة عن الاعتدال وأمّا المرار الأصفر فمن الحرارة الزائدة على الاعتدال.

وذلك معلوم من الأطعمة ومن الأسنان ومن البلدان ومن أوقات السنة ومن التصرّف ومن الأمراض أمّا من الأطعمة فلأنّ ما هو منها حارّ يابس فهو يولّد مراراً وما هو منها حارّ رطب فهو معتدل يولّد دماً وما هو منها بارد رطب فهو يولّد بلغماً. وأمّا من الأسنان فلأنّ الشباب ومن قد بلغ المنتهى تتولّد فيه المرّة بسبب الحرارة واليبس والصبيان يتولّد فيهم الدم لاعتدالهم وفتور الحرارة في أبدانهم والشيوخ يتولّد فيهم البلغم لبرودة مزاجهم. وأمّا من البلدان فلأنّ البلدان الحارّة تتولّد فيها المرّة كثيراً والبلدان المعتدلة الحرارة يتولّد فيها الدم والبلدان الباردة يتولّد فيها البلغم. فأمّا في التصرّف فلأنّ التعب والنصب يولّدان الحرارة والحرارة يولّد المرّة والبطالة والراحة يولّدان البلغم. وأمّا من الأمراض فلأنّ الأمراض الباردة تولّد بلغماً

والأمراض الحارّة تولّد مرّة.

وأراسسطراطس قد يضطرّه الأمر إلى الإقرار بأنّ المرض يحدث عن سوء المزاج فإنّ اعتدال المزاج هو سبب الفعل. مثال ذلك أنّا نضع إنساناً حمّ بسبب ورم حدث في أربيّته فأضرّ ذلك بانهضام غذائه في معدته ويقول إنّه لا بدّ ضرورة من أن يكون الذي قد أضرّ بانهضام الغذاء في المعدة إمّا القرحة التي حدثت في الرجل وإمّا الورم الحادث عنها في الأربيّة وإمّا الحمّى الحادثة عن ذلك. إلّا أنّ القرحة والورم قد كانا جميعاً قبل حدوث الحمّى فلم يضرّ بفعل المعدة وإذ كان الأمر فيهما كذلك فليس ما حدث في هذا الوقت من المضرّة في فعل المعدة عنهما. وأمّا الحمّى فنجد البدن يتغيّر بها من وجهين ضرورة أحدهما في نبض العروق والآخر في الحرارة. أمّا في نبض العروق فلأنّ النبض يكون في وقت الحمّی أسرع وأشدّ تكاثفاً إلّا أنّ النبض ليس يمكن فيه أن يضرّ بفعل المعدة بل هو على رأي أراسسطراطس أيضاً يعينه وينفعه. وأمّا الحرارة فإنّها تكون في وقت الحمّى أشدّ وأقوى ممّا كانت قبل ذلك وإذ كان الأمر على هذا فالحرارة المفرطة هي سبب ما يحدث بذاتها من مضرّة فعل المعدة وإضرارها به وكلّ سبب يضرّ بالفعل بذاته فهو مرض. وإن كان الإفراط هو سبب الإضرار بالفعل فالاعتدال هو سبب استقامة الفعل. وإذا كان الأمر كذلك

فالمزاج المعتدل هو سبب الفعل المستقيم وهذا ما هرب منه أراسسطراطس.

نجد في كون الشراب من العصير أربعة جواهر أحدها جوهر الشراب النقيّ الذي هو في قياس الدم؛ والآخر الفضل الغليظ الذي يرسب أسفل وهو بارد يابس ويقال له الدرديّ وهو في قياس المرّة السوداء؛ والثالث الفضل اللطيف الحارّ الذي يطفو عند كون الشراب فوقه ويقال له الزبد وقياسه قياس المرّة الصفراء؛ والرابع الفضل المائيّ الذي يقنى (؟) ويتفشّى كلّما عتق الشراب وقياسه قياس مائيّة الدم.

ليس يخلو كلّ واحد من الأخلاط من أن يكون إمّا في الطبع وإمّا خارجاً عن الطبع. فالدم لا يخلو من أن يكون إمّا في الطبع وإمّا خارجاً عن الطبع فإن كان في الطبع فقوامه قوام معتدل ولونه أحمر ورائحته غير منتنة وطعمه حلو جدّاً. وإن كان خارجاً عن الطبع فقوامه إمّا غليظ عكر وإمّا رقيق مائيّ؛ ولونه إمّا مائل إلى البياض وإمّا مائل إلى الحمرة الناصعة وإمّا إلى السواد؛ ورائحته فيها نتن إمّا كثيراً وإمّا قليلاً؛ وطعمه مائل إلى المرارة أو إلى الملوحة.

والمرّة السوداء منها ما هو طبيعيّ وهو بارد يابس وقياسه في الدم قياس الدرديّ في الشراب وطعمه إلى العفوصة وقوامه غليظ ومنها ما هو خارج عن الطبع. فأمّا السوداء الطبيعيّة فأغلظها يجتذبه الطحال فيغتذي بأجوده ويقذف بالباقي إلى

فم المعدة كأنّه شيء لا ينتفع به وأقلّها غلظاً ينفذ مع الدم في العروق إلى جميع البدن فتغتذي منه الأعضاء التي تحتاج إلى غذاء غليظ والأجزاء الغليظة التي فيه بمنزلة الليف في ذوات الليف تمسك الدم حتّى يثبت ولا يكون رقيقاً جدّاً سريع الجرية لا يقف. فأمّا السوداء الخارجة عن الطبع فمنها شيء يتولّد عن احتراق المرّة السوداء الطبيعيّة التي بمنزلة الدرديّ من الدم وهذه المتولّدة عن السوداء الطبيعيّة هي حامضة حادّة جرّادة لما يلقاه وإذا وقع منها على الأرض شيء أحدث في ذلك الموضع غلياناً. وذلك لأنّ فيها حرارة وحدّة اكتسبتها من الاحتراق كما يكتسب درديّ الشراب فإنّ الدرديّ أيضاً قبل أن يحترق يكون بارداً ومن بعد ما يحترق يكون حارّاً. ومنها شيء يتولّد عن احتراق المرّة الصفراء وهذه أيضاً حارّة حادّة بمنزلة تلك المتولّدة عن احتراق المرّة السوداء.

والمرّة الصفراء منها ما هو طبيعيّ ومنها ما هو خارج عن الطبيعيّ. فالصفراء الطبيعيّة حارّة يابسة لطيفة ولونها أحمر ناصع فما كان منها أشدّ حرارة وأكثر حمرة ناصعة وأقلّ لطافة تجتذبه المرارة وتدفعه وترسله إلى الأمعاء وما هو منها أقلّ حدّة وحمرة ناصعة وأكثر لطافة تبعث به الطبيعة مع الدم في العروق إلى جميع البدن ليرقّ به الدم ويلطف حتّى يصير غواصاً نفّاذاً في المسالك الضيّقة وليكون

أيضاً غذاء للأعضاء المحتاجة إلى غذاء لطيف بمنزلة الرئة. وأمّا الصفراء الخارجة عن الطبيعة فمنها ما يتولّد في الكبد ومنها ما يتولّد في المعدة. والتي تتولّد في المعدة هي المرّة الكرّاثيّة اللون وأمّا التي تتولّد في الكبد فمنها ما يكون من مخالطة الصفراء لشيء يختلط بها بمنزلة المرّة التي لونها أصفر فإنّ هذه إنّما تكون عندما تخالط المرّة التي لونها أحمر ناصع مائيّة الدم ومنها ما يكون عندما تزداد المرّة التي لونها أحمر ناصع حرارة ويبساً وغلظاً بمنزلة المرّة الشبيهة بمحّ البيض.

البلغم منه ما هو طبيعيّ ومنه ما هو خارج عن الطبيعة. والبلغم الطبيعيّ طعمه حلو والطبيعة تجعله في العروق لينهضم وينضج فيها ويصير غذاء للأعضاء وذلك لأنّ البلغم إنّما هو غذاء قد انهضم نصف انهضامه. ومن أجل ذلك لم يجعل له في الطبع عضو مفرد يخصّه ويجمعه إليه كما جعل لسائر الفضول الأخر إذ كان شأنه والذي يمكن فيه أن يكون إذا طالت به المدّة ونضج وانهضم صار غذاء للأعضاء. وأمّا البلغم الخارج عن الطبيعة فمنه حامض ومنه مالح ومنه زجاجيّ. والبلغم الحامض أشدّ أنواع البلغم برداً والبلغم المالح فيه بعض الحرارة لموضع العفونة. فأمّا البلغم الزجاجيّ فمنه حامض ومنه ما لا طعم له. وقد جعل للفضل من البلغم مواضع يستفرغ منها فالذي يجتمع منه في الدماغ يستفرغ من أعلى الحنك ومن المنخرين؛ والذي

يجتمع في المعدة والأمعاء يستفرغ مع الثفل وذلك لأنّ المرّة الصفراء التي تنحدر إلى الأمعاء تجلوه وتغسله.

لجميع الأخلاط عامّة أسباب بها يلتأم كونها. فالسبب الفاعل لها هو الحرارة الطبيعيّة؛ والسبب الذي يقوم مقام المادّة لكونها هو الأغذية؛ والسبب الذي يقوم مقام الآلة والأداة لكونها هو الكبد والعروق؛ والسبب التماميّ الذي لمكانه احتيج إليها هو أن يغتذي منها البدن. ولكلّ واحد من الأخلاط على الانفراد أسباب بها يلتأم كونه خاصّة فالدم السبب الفاعل له هو الحرارة المعتدلة؛ والسبب الذي يقوم له مقام المادّة هو أجود ما في الأغذية وأنفعه وأقربه من الاعتدال طعاماً كان الغذاء أم شراباً؛ والسبب الذي يقوم له مقام الأداة والآلة هو الكبد؛ والسبب التماميّ الذي من أجله احتيج إليه هو أن تغتذي به الأعضاء. وأمّا المرّة الصفراء فالسبب الفاعل لها هو الحرارة التي لها فضل ناريّة؛ والسبب الذي يقوم في كونها مقام المادّة هو أحرّ وألطف وأحلى وأدسم ما في الأغذية؛ والسبب الذي يقوم في ذلك مقام الأداة والآلة هو الكبد؛ والسبب التماميّ الذي من أجله احتيج إليها هو ثلثة أشياء أحدها أن يرقّ بها الدم ويلطف حتّى يسهل نفوذه في المواضع الضيّقة التي يجري فيها والثاني أن يجلو ويغسل ما يجتمع في الأمعاء من البلغم والثالث أن يكون غذاء للأعضاء المحتاجة إلى غذاء لطيف.

وأمّا البلغم فالسبب الفاعل له هو الحرارة التي مقدارها يقصر عن المقدار المعتدل؛ والسبب الذي يقوم له مقام المادّة هو أبرد وأرطب ما في الغذاء وأشدّ لزوجة؛ والسبب الذي يقوم في كونه مقام الأداة والآلة هو الكبد؛ والسبب التماميّ الذي من أجله احتيج إليه هو أن يغذو في وقت ما لا يقدر البدن على غذاء من خارج وأن ترطّب الأعضاء الكثيرة الحركة بمنزلة المفاصل.

وأمّا المرّة السوداء فالسبب الفاعل لها هو الحرارة الطبيعيّة إذا كانت إمّا باقية على مقدارها وإمّا قد زادت نارّيّة؛ والسبب الذي يقوم لها مقام المادّة هو أغلظ ما في الغذاء؛ والسبب الذي يقوم لها مقام الأداة والآلة هو الكبد؛ والسبب التماميّ الذي من أجله احتيج إليها هو أن يثبّت بها الدم حتّى لا يكون شديد السيلان والجرية وأن تغتذي بها الأعضاء المحتاجة إلى غذاء غليظ وأن تشدّ المعدة.

والدم دون سائر هذه الأخلاط من شأن الأعضاء كلّها أن يجتذبه إليها. فأمّا الصفراء فلها عضو يخلّصها ويجتذبها إليه وهو المرارة. وأمّا البلغم فليس له آلة يجتذبه ويخلّصه. وأمّا السوداء فالذي يجتذبها ويخلّصها هو الطحال.

أمر الطحال يجري بخلاف أمر البدن فكلّما ازداد الطحال عظماً نقص البدن وهزل وذلك لأنّ عظم الطحال يدلّ على أنّ في البدن خلط رديء وكلّما نقص الطحال وضمر خصب البدن وسمن وذلك لأنّ نقصان الطحال وضموره يدلّ على جودة الأخلاط.

المرّة

السوداء صنفان أحدهما طبيعيّ والآخر غير طبيعيّ. والسوداء الطبيعيّة يقال لها الخلط الأسود والخلط السوداويّ والسوداء الخارجة عن الطبيعة هي المحترقة ويقال لها المرّة السوداء مطلقاً. وعلامات هذه المرّة أنّها حامضة جدّاً ولونها أسود؛ وأنّها إذا وقعت على الأرض فعلت بها ما يفعله الخلّ الثقيف؛ وهي برّاقة اللون؛ ولا يقربها ذباب؛ وتجرد وتلذع المواضع التي تمرّ بها من البدن.

مبلغ أصناف الأخلاط وأنواعها على رأي فراكساغوراس بن نيقارخس أحد عشر منها أربعة أنواع البلغم ومنها أربعة أنواع الصفراء ونوعي السوداء ونوع الدم. أمّا أنواع البلغم فالحلو والحامض والمالح والزجاجيّ؛ وأمّا أنواع الصفراء فالأصفر والأحمر والشبيه بمحّ البيض والكرّاثيّ؛ وأمّا نوعا السوداء فالسليمة من الاحتراق التي هي غليظة القوام عفصة المذاق والمحترقة التي هي لطيفة حادّة حامضة جدّاً جرّادة؛ ونوع الدم.

تمّت جوامع المقالة الثانية من كتاب جالينوس في القوى الطبيعيّة.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

جوامع المقالة الثالثة من كتاب جالينوس في القوى الطبيعيّة

أمر الغذاء يلتأم بثلثة أشياء تكون معه أحدها الزيادة والثاني الالتصاق والثالث المشابهة. فأمّا الزيادة فهي تمام

فعل القوّة الجاذبة؛ وأمّا الالتصاق فهو مبدأ فعل القوّة المغيّرة؛ وأمّا المشابهة فهي تمام فعل القوّة المغيّرة. وهذان الفعلان أعني الالتصاق والمشابهة يحتاجان إلى مدّة من الوقت إذ كان ما يجتذب متى لم يلبث لم يتغيّر وإذا كانت هاهنا مدّة فهاهنا لا محالة قوّة ماسكة.

القوّة الماسكة تفعل فعلها في بعض الأعضاء في مدّة طويلة ولذلك صار فعلها في هذه الأعضاء أبين بمنزلة ما نجد ذلك في الأرحام والمعدة. أمّا الأرحام فإنّ القوّة الماسكة تفعل فعلها فيها في تسعة أشهر وأمّا المعدة فلا تزال القوّة الماسكة تفعل فعلها فيها في جميع الوقت الذي فيما بين تناول الطعام وبين انحداره عنها إلى الأمعاء. وفي بعض الأعضاء تفعل القوّة الماسكة فعلها في مدّة يسيرة إلّا أنّا نقيس على فعلها في هذه الأعضاء التي فعلها فيها بيّن؛ مثال ذلك فعلها في المرارة.

الأرحام تستعمل في وقت الجماع القوّة الجاذبة وفي وقت الحمل في التسعة الأشهر القوّة الماسكة وفي وقت الولادة القوّة الدافعة. والمعدة تفعل فعلها في وقت الازدراد بالقوّة الجاذبة وفي جميع الوقت الذي يتلو ذلك إلى أن يستمرأ فيه الغداء غاية الاستمراء بالقوّة الماسكة وبالقوّة المغيّرة ثمّ تفعل بعد ذلك بالقوّة الدافعة.

القوّة الدافعة تتحرّك إلى دفع الجنين في أحد وقتين إمّا إذا مات وإمّا إذا استكمل. وحركتها إلى دفعه

إذا مات تكون لأحد أمرين إمّا لأنّ صديداً حادّاً كان يتولّد هناك فيلذع الأرحام ويؤذيها حتّى يريد دفعه عنها وإمّا لأنّ واحداً من الأغشية التي تحيط بالجنين في الأرحام تنخرق فتلقى الرطوبة التي كان يحويها ذلك الغشاء بدن الأرحام فتؤذيه حتّى يريد دفعها عنه. وحركتها إلى دفعه إذا استكمل يكون أيضاً لأحد أمرين إمّا لأنّه يثقل في ذلك الوقت الموضع فيدعو بذلك الأرحام إلى دفعها إيّاه عنها وإمّا لأنّه يحتاج إلى غذاء كثير ولا يجده فيضطرب لذلك ويضرب برجليه حتّى يخرق الغشاء المحتوي عليه فتجري الرطوبة التي في جوف ذلك الغشاء حتّى تلقى جسم الأرحام فتؤذيه وتدعوه إلى دفعه عنها.

تحيط بالجنين في الأرحام ثلثة أغشية أحدها المشيمة وهي غشاء احتيج إليه لغذاء الجنين لأنّه منسوج من عروق ضوارب وغير ضوارب؛ والآخر يقال له باليونيانيّة ألنطوايداس وهو غشاء احتيج إليه أن يكون مغيصاً ينصبّ إليه بول الجنين؛ والثالث غشاء يقال له باليونانيّة أمنيثيس وهو غشاء احتيج إليه ليكون مغيصاً ينصبّ إليه ويجتمع فيه عرق الجنين.

والأجنّة بعضهم يولد في الشهر السابع وبعضهم في الشهر الثامن وبعضهم في التاسع وبعضهم في العاشر.

يعرض في وقت الحمل للأرحام أمران أحدهما أنّ فم الرحم ينضمّ وينطبق من غير أن تكون مع ذلك صلابة لأنّ الصلابة إنّما تعرض مع انضمام فم

الرحم وانطباقه إذا كان ذلك إنّما يحدث عن ورم والآخر أنّ الرحم يجتمع إلى نفسه وينقبض ويعتنق النطفة وينضمّ عليها وهذان جميعاً يدلّان على أنّ هناك قوّة ماسكة. ويعرض في وقت الولاد أيضاً أمران أحدهما أنّ فم الرحم ينفتح والآخر أنّ الرحم بأجمعه يقرب من فمه وهذان جميعاً يدلّان على أنّ هناك قوّة دافعة.

وكذلك المعدة لا تزال ما دام الغذاء فيها قابضة عليه لازمة له. فإن كانت قويّة كان لزومها إيّاه وانقباضها عليه في غاية الإحكام حتّى لا يوجد في المعدة موضع خلا أصلاً. وإن قلّ ما فيها من الغذاء وإن كانت ضعيفة فإنّها لا تلزم الغذاء ولا تنقبض عليه بإحكام فيوجد بين جرمها وبين الغذاء موضع خالٍ. وإن كان الغذاء كثير المقدار فيحدث في البطن لذلك قراقر ونفخ ويبطئ استمراء الغذاء. ثمّ إنّ المعدة تدفع الغذاء إمّا لأنّه قد فسد وإمّا لأنّه قد انهضم. وأراسسطراطس يضع أنّ انقباض المعدة هو السبب في انسحاق الغذاء واندفاعه ونفوذه وقد نجد عياناً في التشريح أنّ الأمعاء قابضة على ما يحتوي عليه وأنّ المعدة أيضاً قبل انهضام الغذاء قابضة علی ما يحتوي عليه ملازمة له من كلّ جانب. فإنّها ما دامت كذلك فالبوّاب منضمّ منطبق وهذه الحركة دليل علی أنّ هنالك قوّة ماسكة. ثمّ نجدها من بعد انهضام الغذاء قد انضمّ أعلاها عليه مثل انضمام الأمعاء علی ما فيها وانفتح أسفلها

وهو الموضع المعروف بالبوّاب واسترخی لینحدر منه الغذاء بلا مانع وفي هذه الحركة دلیل علی أنّ هناك قوّة دافعه. وقد نعلم أنّ لبث الغذاء وبقاءه في المعدة ليس هو بسبب غلظ أجزائه ولا انحداره وخروجه من الموضع المعروف بالبوّاب بسبب انسحاقه وأنّ بقاءه في المعدة وانحداره عنها لیس یكونان بسبب ضيق المجرى المعروف بالبوّاب لكن بسبب القوّة الماسكة. والقوّة الدافعة من سببين أحدهما أنّ الأشربة والأحساء تبقى وتلبث في المعدة ولا يجوزها حتّی تنهضم؛ والآخر أنّ الأجسام الكبار مثل الدنانير والخواتيم إذا ابتلعت تنفذ وتجوز في المنفذ المعروف بالبوّاب.

كلّ جسمين يلتقيان حتّی يماسّ أحدهما الآخر فهما لا محالة یفعل كلّ واحد منهما في الآخر ويقبل فعل الآخر إلّا أنّهما إن كانا متساويين في القوّة كان فعل كلّ واحد منهما في صاحبه وقبوله لفعل صاحبه فيه سواء وحدث عنهما شيء آخر ثالث وسط فيما بينهما ليس هو ولا واحداً منهما؛ وإن كانا غير متساويين في القوّة فالأضعف منهما يكون قبوله لفعل الآخر أكثر وفعله في الآخر إمّا يسیراً وإمّا لا فعل له فيه بتّة والأقوی يكون فعله في الآخر أكثر وقبوله لفعله إما يسيراً وإمّا لا يقبل من فعله شيئاً اصلاً.

كلّ واحد من الأعضاء له شيء مشاكل له وخاصّ به فهو يشتهيه ويجتذبه إليه وإن اجتذبه فهو يمسكه ليأخذ منه حاجته فإن هو أمسكه

وبقي فيه فهو يحيله ويغيّره إلی طبيعته؛ وله شيء منافر له غريب من طبيعته فهو يكرهه وإذا كرهه فهو يدفعه عن نفسه.

الأشياء التي ترد البدن إن كان فعلها في البدن أكثر من قبولها لفعل البدن فيها فهي تسمّی أدوية؛ وإن كان فعل البدن فيها أكثر من فعلها فيه فهي تسمّی أغذية؛ وإن كانت تفعل في البدن ولا تقبل من فعله فيها شیئاً أصلاً فهي تسمّی أدوية مفسدة وأدویة قتّالة.

المعدة ما دامت تحتاج إلی الغذاء فهي تمسك الطعام وتجذب منه أقربه من طبيعة البخار وأجوده فتزيده علی طبقاتها. فإذا نالت من الغذاء حاجتها دفعت عنها ما يبقی بعد ذلك كأنّه في ذلك الوقت ثقل عليها ومنافر لها فيصير ذلك الذي تدفعه غذاء موافقاً لساير الأعضاء لأنّ المعدة قد غيّرته وقلّبته إلی مشاكلة طبيعتها فصار بذلك مشاكلاً لطبيعة البدن خاصّاً بها.

الأعضاء الهاضمة منها قويّة جدّاً والغذاء ینهضم فیها انهضاماً تامّاً وهي الكبد والعروق الضوارب وغير الضوارب؛ ومنها ضعيفة والغذاء ينهضم فیها انهضاماً ضعيفاً خفيّاً والفم كذلك هو. والدليل علی أنّ الغذاء يتغيّر في الفم بعض التغيّر أنّ ما يبقى بين الأسنان من الطعام يتغيّر وتنتن رائحته وتصير له كيفيّة مثل كيفيّة لحم الفم؛ ومنها ما حاله حال وسط بمنزلة المعدة والغذاء ينهضم في هذه انهضاماً وسطاً.

الغذاء يتغيّر في الفم لأنّه يلقی جوهر

اللحم الذي في الفم لقاء مماسّة ومضامّة ولأنّه يختلط بما في الفم من البلغم الذي قد انهضم وصارت له حرارة ما. والدليل على أنّ هذا البلغم كذلك أنّه ينضج بعض ما يخرج في البدن إذا مضغ الإنسان حنظلة ووضعها عليه وقد خالطها ريقه وأنّه يشفي القوابئ ويقتل العقاريب ويؤذي كلّ حيوان ذي سمّ إذا وقع عليها فبعضها يقتله من ساعته وبعضها يفعل به ذلك بعد زمان.

والغذاء يتغيّر في المعدة لملامسته لجرمها ولأنّه يخالط ما في المعدة من الرطوبات. أمّا مخالطته للرطوبات فيتغيّر بها لأنّ تلك الرطوبات قد سخنت ونضجت بطول مكثها في المعدة أعني بالرطوبات البلغم والمرّة وأمّا ملامسته لجرم المعدة فيكتسبه بها أنّه يقبل كيفيّتها ويتعيّر من حرارتها الطبيعيّة وخاصّة حرارة الطبقة الخارجة من طبقتيها لأنّ هذه الطبقة لحميّة ويتغيّر أيضاً من الهواء المحتبس فيها ومن مجاورة الأعضاء التي حولها والتي يتّصل بها إمّا عن يمينها فالكبد وإمّا عن شمالها فالطحال فإنّ هذا أيضاً حارّ لكثرة ما فيه من العروق الضوارب وإمّا من فوقها فالقلب والحجاب لكثرة حركته وإمّا من قدّامها فالثرب فإنّ هذا أيضاً لكثرة ما فيه من السمين هو حارّ.

الغذاء يتغيّر ويستحيل في المعدة أكثر ممّا يتغيّر ويستحيل في الفم لثلثة أسباب أحدها أنّ المعدة أشدّ حرارة من الفم؛ والآخر أنّ الغذاء يمكث في المعدة أكثر من

مكثه في الفم؛ والثالث أنّ المعدة متّصلة بأعضاء حارّة تحيط بها من كلّ جانب.

جرم المعدة مؤلّف من طبقتين إحداهما وهي الطبقة الخارجة أعلاها عصبانيّ وأسفلها لحميّ والأخرى وهي الداخلة عصبانيّة من أعلاها ومن أسفلها. والطبقة الداخلة من طبقتي المعدة ليفها ممدود في طولها ومنه شيء مورّب إلّا أنّه يسير والطبقة الخارجة ليفها ذاهب في العرض.

أجناس الليف الموجودة في أعضاء البدن ثلثة أحدها ذاهب في الطول وهذا الليف ينتفع به في اجتذاب ما يحتاج إلى اجتذابه؛ والآخر ذاهب في العرض وينتفع به في دفع ما يحتاج إلى اندفاعه؛ والثالث ذاهب على الوراب وينتفع به في إمساك ما يحتاج إلى إمساكه. وليس يقوم بذلك مفرداً وحده لكن مع الليف الذاهب في الطول والليف الذاهب في العرض.

الليف الموجود في أعضاء البدن بعضه موجود في العضل وهذا الليف هو أجزاء من العصب المحرّك للأعضاء المتحرّكة بالإرادة ومن الرباطات والأغشية وبعضه في طبقات الأعضاء الباطنة. وهذا الليف منه ما هو ذاهب في الطول ويستعان به على الاجتذاب؛ ومنه ما هو ذاهب في العرض ويستعان به في الدفع؛ ومنه ما هو مورّب ويستعان به في الإمساك. وليس يقوم بذلك وحده لكن مع الليف الذاهب في العرض إذا انقبض من كلّ جانب وهذا الجنس من الليف قليل. وإذا فعل الليف الذاهب

في عرض العضو فعله فهو إن كان إنّما يفعل وحده حدث عن فعله دفع العضو لما يحتاج إلى دفعه وإن كان فعله يقع مع فعل الليف الذاهب على الوراب حدث عن ذلك العضو لما يحتاج إلى إمساكه وذلك لأنّ الليف الذاهب عرضاً والليف الذاهب وراباً إذا تمدّدا جميعاً ضاقت المنافذ والمجاري.

الأعضاء ذوات الصفائح منها ما هو صفيحتان ومنها ما هو صفيحة واحدة أعني بالصفيحة الطبقة. فما كان من الأعضاء ذو صفيحة واحدة أي ذو طبقة واحدة فهو يجتمع في تلك الطبقة الواحدة ثلثة أجناس الليف معاً أعني الليف الذاهب طولاً والذاهب عرضاً والذاهب وراباً على هذا المثال. وما كان منها ذو صفيحتين أي ذو طبقتين فإنّ له في طبقته الخارجة ليفاً ذاهباً في العرض فقط على هذا المثال وله في طبقته الداخلة ليف ذاهب في الطول على هذا المثال وليف ذاهب في الوراب على هذا المثال. وإنّما لم يجعل الليف الذاهب على الوراب مع الليف الذاهب في العرض لئلّا يجتمع في طبقة واحدة فعلان متضادّان أعني الإمساك والدفع. وجعل في الأمعاء دون غيرها في الطبقتين كلتيهما ليف مورّب لأنّها لم تكن تحتاج إلى الجذب كثيراً إذ كانت المعدة لا تزال تدفع إلى الأمعاء ما يبقى عنها من الغذاء الذي يردها وكان يأتيها مع ذلك من الكبد عروق كثيرة تجتذب

منها ما في الغذاء الذي يندفع إليها من المعدة ممّا يحتاج إليه وينتفع به. ولم يقتصر بالأمعاء على طبقة واحدة إذ كانت لا تحتاج إلى الاجتذاب كثيراً وجعلت طبقتين لموضع ما يردها من الفضول المراريّة الحادّة والأشياء التي لها كيفيّة منافرة للبدن وكانت بهذا السبب تحتاج إلى صبر عليها واحتمال لها. والأعضاء ذوات الطبقتين هي المعدة والأمعاء والعروق الضوارب؛ والأعضاء ذوات الطبقة الواحدة هي المرارة والمثانة والأرحام والعروق الغير ضوارب. والسبب الذي له اكتفت هذه بطبقة واحدة أنّها إنّما تجتذب الشيء المشاكل الموافق لها وليس تنالها منه آفة ولا ضرر. والسبب الذي له احتاجت تلك إلى طبقتين مختلف وذاك أنّ المعدة احتاجت إلى طبقتين لثلثة أسباب أحدها أنّها آلة من آلات الهضم فكانت لذلك تحتاج إلى حرارة وبهذا السبب صارت طبقتها الخارجة لحميّة؛ والثاني أنّها كانت تحتاج أيضاً إلى فضل حسّ ولذلك جعلت طبقتها الداخلة عصبانيّة فاحتاجت مع هذه الطبقة إلى طبقة أخرى لحميّة لمكان الهضم؛ والثالث أنّها كانت تحتاج إلى احتمال وصبر إذ كانت تلقی الأطعمة وكيفيّاتها وحدّتها باقية فيها على حالها ومن أجل ذلك جعلت الطبقة الداخلة من طبقتيها وهي التي تلقى هذه عصبانيّة. فأمّا الأمعاء فاحتاجت أن تكون طبقتين لأنّها هي أيضاً آلة من آلات الهضم ولأنّها كانت تحتاج إلى احتمال وصبر على ما يردها

ويجري إليها من الأخلاط الرديئة المنافرة للبدن. وأمّا العروق الضوارب فاحتاجت أن تكون طبقتين لأنّها تتحرّك حركتين مختلفتين إحداهما الانقباض الذي تفعله بالليف الذاهب في طبقتها الخارجة عرضاً والأخرى الانبساط الذي تفعله بالليف الذاهب في طبقتها الداخلة طولاً ولأنّها مع هذا تحتوي على جوهر لطيف فهي تحتاج إلى ذلك ليكون جرمها الحاصر لذلك الجوهر اللطيف أغلظ وأصلب وأشدّ اكتنازاً لئلّا ينحلّ منه ما فيه.

والأعضاء الباطنة تكتسي كلّها أغشية تعلوها فوق طبقاتها الخاصّيّة بها إلّا أنّ جميع ما في الصدر من الأعضاء الباطنة تكتسي هذا الغشاء المغشي لها من الغشاء المستبطن للأضلاع أعني بالأعضاء التي في الصدر القلب والرئة والحجاب والعروق الضوارب وغير الضوارب وجميع ما في البطن يكتسي هذا الغشاء من الغشاء المعروف بالصفاق وهو المستبطن لعضل البطن أعني بالأعضاء التي في البطن المعدة والكبد والطحال والمرارة والكليتين والمثانة والأمعاء والأرحام والعروق الضوارب وغير الضوارب.

حركات العضل وحركات الأعضاء الباطنة وهي الأحشاء إنّما تكون بحسب وضع الليف فيها إلّا أنّ حركات العضل تكون بالإرادة وحركات الأحشاء تكون من الطبيعة.

جميع الأعضاء لها شهوة وحركة إلى الشيء الذي يشتهيه. والشيء الذي يشهى هو الشيء الذي يرد البدن ويميل من الحال الخارجة عن الطبيعة إلى الحال

الطبيعيّة. وإنّما يميل البدن إلى الحال الخارجة عن الطبيعة إمّا في كيفيّته وإمّا في كمّيّته أمّا في كيفيّته فبمنزلة ما يعرض له إذا سخن أو برد وشهوة التسخين والتبريد مخالطة للحسّ في جميع الأعضاء وذلك لأنّ كلّ عضو يسخن فهو يتوق إلى التبريد وكلّ عضو يبرد فهو يتوق إلى التسخين. وأمّا في الكمّيّة فيعرض له ذلك على أحد وجهين إمّا إذا زاد واحتاج إلى الاستفراغ والنقص وإمّا إذا نقص واحتاج إلى الزيادة ليستردّ بذلك مكان ما نقص من لحمه. فإن كان قد زاد واحتاج إلى التنقيص فشهوة ذلك تكون في جميع الأعضاء مع حسّ منها لحاجتها إليه. وأمّا الحركة الآلية فتكون في بعض الأعضاء على غير إرادة بمنزلة ما يكون ذلك في الطحال والمرارة والكليتين وفي بعضها مع إرادة بمنزلة ما يكون ذلك في المعدة والأمعاء والمثانة. وإن كان قد نقص واحتاج إلى الزيادة فشهوته لذلك تكون في بعض الأعضاء مع حسّ بمنزلة ما يكون ذلك في المعدة وفي بعضها بغير حسّ بمنزلة ما يكون ذلك في سائر الأعضاء. وأمّا الحركة الآليّة فتكون في فم المعدة بإرادة وذلك لأنّ الازدراد إنّما يكون بإرادة ويكون في سائر الأعضاء خلواً من الإرادة.

الحركة منها إراديّة وهي حركة العضل؛ ومنها طبيعيّة وهي بمنزلة حركة الأرحام؛ ومنها مخلوطة من الحركتين جامعة للحركة الإراديّة والحركة الطبيعيّة معاً بمنزلة حركة

المريء في الازدراد. والدليل على أنّ الازدراد حركة إراديّة أنّا إنّما نزدرد في الوقت الذي نشاء أن نزدرد والشيء الذي نشاء أن نزدرده. والدليل على أنّه حركة طبيعيّة أنّا نزدرد الشيء المشاكل الموافق للمعدة بأسهل ما يكون وكثيراً ما تختلس المعدة الطعام من الفم فتزدرده عن غير إرادة وهو يمضغ بعد وذلك عندما تكون المعدة شديدة الحاجة إلى الغذاء ويكون الشيء الذي يمضغ كثير المشاكلة والموافقة لها. وإذا أردنا ازدراد الدواء أو غيره من جميع الأشياء التي هي غير لذيذة شقّ ذلك علينا وعسر ابتلاعه لدينا.

والازدراد يكون بطبقتي المريء جميعاً وهما من طبقتي المعدة. وذلك أنّ الطبقة الداخلة منها تجتذب الطعام بالليف الذاهب فيها طولاً ومن أجل ذلك يرى المريء في وقت الازدراد ينجذب إلى ناحية أسفل. والدليل على ذلك أنّ الحنجرة في ذلك الوقت ترتفع وتنجذب إلى فوق وذلك لأنّ أجزاء المريء وطرفه تنتهي إلى الحنجرة وتحلّلها فإذا اجتذبته المعدة إلى أسفل صعدت الحنجرة إلى فوق فإذا انبسط المريء بعد الازدراد وصعد إلی فوق انحطّت الحنجرة. والطبقة الخارجة تنقبض وتنضمّ على الطعام بالليف الذاهب فيها عرضاً ليسهل بذلك انحطاطه ونزوله إلى المعدة ومن أجل ذلك أخذ إنسان حيواناً حيّاً وشقّ عنقه من جانب واحد حتّى يظهر له المريء بعد أن

يتوقّى ويحذر أن يقطع عرقاً ضارباً أو غير ضارب أو عصبة وشقّ الطبقة شقّاً ذاهباً على الاستقامة من موضع اللحي إلى موضع الصدر عسر على ذلك الحيوان الازدراد وذلك لأنّ الهواء الذي يدخل مع الطعام إذا ابتلع منع الطعام من الانحطاط والنزول.

فأمّا القيء فيكون بطبقة واحدة أعني الطبقة الخارجة وحدها إذا هي انقبضت على الطعام ودفعته إلى فوق ولذلك صار القيء يعسر علينا.

يعرض في وقت الازدراد أمران أحدهما أنّ المريء يقصر لاجتذاب المعدة له والثاني أنّ المعدة تصعد إلى فوق وذلك أنّه يعرض لها شبيه بما يعرض لجملة البدن فكما أنّا إذا مددنا أيدينا إلى شيء نريد أن نتناوله بحرص وعناية قد يتحرّك مراراً كثيرة جميع البدن مع اليد إلى ذلك الشيء كذلك يعرض للمعدة. ومن أجل ذلك قد نجد المعدة في بعض الحيوان تصعد إلى الفم بمنزلة ما نرى ذلك في الحيوان المسمّى جانا. وإنّما يكون ذلك باجتماع ثلث خصال أحدها أن يكون الحيوان ذو رغبة ونهم؛ والثاني أن يكون المريء منه قصيراً؛ والثالث أن يكون فمه واسعاً.

إذا وقع في المعدة شقّ أو تشريح فما كان منه بالطول فهو يضرّ بالطبقة الخارجة منها وذلك لأنهّ يقطع ليفها إذ كان هذا الليف ذاهباً عرضاً؛ مثال ذلك الشق.ّ ولا يضرّ الطبقة الداخلة لأنّ ليفها ذاهب طولاً فهو بهذا السبب لا يقطعها؛ مثال ذلك الشقّ. وما كان منه بالعرض

فهو يضرّ بالطبقة الداخلة لأنّ ليفها ذاهب في الطول؛ مثال ذلك الشقّ. وهو لا يضرّ بالطبقة الخارجة لأنّ ليفها ذاهب في العرض؛ مثال ذلك الشقّ.

الازدراد يتمّ بفعل طبقتي المعدة كلتيهما وقد يتمّ أيضاً بفعل واحدة منهما. إلّا أنّه إذا كان بفعل طبقة واحدة كان أمره عسراً فإن كان بالطبقة الداخلة لأنّ الطبقة الخارجة قد قطعت كان أمره عسراً بسبب الهواء الذي يبتلع مع الطعام ويمنعه من الانحطاط وإن كان إنّما يتمّ بالطبقة الخارجة وحدها لأنّ الداخلة قد قطعت عسر الأمر فيه لأنّ الجذب يبطل.

الازدراد لا يخلو من أن يكون إمّا يرمي الشيء الذي يزدرد من خارج إلى داخل كما ظنّ أراسسطراطس وذلك كذب صراح لأنّا قد رأينا الحيوان الطويل العنق يزدرد ورأسه منكّس إلى أسفل فلا يمنعه ذلك من أن يبتلع إلى فوق؛ وإمّا باجتذاب المعدة له؛ وإمّا بضغط المريء أو دفعه إيّاه وهذان الوجهان جميعاً حقّ.

كلّ واحد من الأعضاء أيّ عضو كان فهو يدفع الشيء الذي قد اجتذبه إمّا عندما يأخذ منه حاجته ويعدّ الباقي فضلاً لا يحتاج إليه وإمّا عندما يتاذّی به إمّا لكمّيّته إذا كان مقداره كثيراً فيتمدّد به ويثقل عليه وإمّا لكيفيّته إذا كانت له حدّة يلذعه بها.

أسباب الأذى ثلثة أحدها كثرة مقدار الشيء المؤذي والكثرة تحدث تمدّداً؛ والآخر ثقل الشيء المؤذي؛

والثالث حدّته والحدّة تحدث تلذيعاً.

الأرحام تدفع الجنين لأنّه يثقلها بعظمه أو لأنّ الرطوبة التي تصير في الأرحام في ذلك الوقت تلذعها. وهذه الرطوبة تلذعها إمّا من قبل انخراق الأغشية التي تحيط بالجنين كما يعرض ذلك في الولاد الطبيعيّ وإمّا من العفونة كما يعرض ذلك عند تعفّن الجنين إذا كان قد مات في الرحم وكذلك المعدة تدفع الطعام إمّا لأنّه ينفخها ويمدّدها؛ وإمّا لأنّه يثقل عليها؛ وإمّا لأنّه يحتدّ فيلذعها.

وكلّ واحد من الأعضاء يجتذب إمّا من العضو الذي هو أضعف منه بمنزلة ما يجتذب القلب من الكبد والكبد من الأمعاء والمعدة والعروق الضوارب من العروق غير الضوارب لأنّها أقوى منها؛ وإمّا من العضو الذي هو أقلّ حاجة منه بمنزلة ما تجتذب المعدة من الكبد إذا كانت المعدة خالية والكبد كثير الدم غزير به. وكل واحد من الأعضاء يدفع المادّة التي تؤذيه إلى العضو الذي هو أضعف منه وإلى الناحية التي المادّة مائلة نحوها خاصّة. من ذلك أنّه متى كان في المعدة مادّة تريد دفعها عنها إن كانت المادّة طافية إلى فوق دفعتها إلى فوق حتّى تستفرغ من الفم وإن كانت راسبة دفعتها إلى أسفل حتّى تستفرغ من الأمعاء.

المادّة تتحرّك في الطريق الواحد بعينه حركتين مختلفتين من ذلك أنّ عنق الرحم فيه يدخل المنيّ ومنه

يخرج الجنين؛ وعنق المرارة فيه يدخل المرار الذي يرد المرارة وفيه يخرج منها؛ والمريء فيه ينحدر الطعام والشراب الذي يرد المعدة وفيه يصعدان إذا خرجا بالقيء؛ والعروق غير الضوارب فيها تجري الأخلاط إلى جميع البدن وفيها ترجع إلى المعدة؛ والأمعاء إذا شرب الدواء المسهل فيها ينحدر الثفل بالطبع وفيها يصعد إلى المعدة في العلّة التي يقال لها إيلاوس وهي العلّة التي يقذف صاحبها ثفله من فمه؛ وكذلك الأمر في سائر الأعضاء كلّها مثل المنخرين والرئة والعروق الضوارب.

إذا احتاجت المعدة إلى غذاء فإنّها تجتذبه أوّلاً من الكبد لأنّ الغذاء الذي في الكبد أسهل عليها أمراً وأقرب وأمكن لها من الغذاء الذي من خارج إلّا أنّ الكبد إن كان غنيّة غزيرة الغذاء أعطت المعدة حاجتها من الدم الجيّد وإن كانت معوزة قليلة الدم أعطتها فضول الدم وهي المرّة والبلغم ومائيّة الدم. ومن أجل ذلك تكثر المرّة في المعدة على أنّها إنّما تنحدر من الكبد إلى الأمعاء. ونجد البلغم في المعدة وفي الأمعاء كثيراً على أنّه إنّما يتولّد في الكبد لأنّه إنّما هو فضل الانهضام الثاني لا فضل الانهضام الأوّل. ثمّ إنّها بعد ذلك إن لم تجد في الكبد حاجتها طلبت واجتذبت من خارج لا سيّما والكبد تجتذب منها وتطلب عندها الغذاء.

الأعضاء صنفان فمنها ما هو مجوّف ومنها ما لا

تجويف له. فأمّا الأعضاء التي لا تجويف لها فإنّها إنّما تجتذب إليها من الغذاء مقدار ما تحتاج أن تغتذي به فقط وأمّا الأعضاء المجوّفة فإنّها تجتذب من الغذاء أكثر ممّا تحتاج أن تغتذي به لتملأ به التجويف الذي فيها حتّى يلقى الغذاء أجزاءها كلّها بمنزلة المعدة والعروق. فإنّ هذه جعلت بالطبع مجوّفة لتجتذب من الغذاء أكثر من مقدار حاجتها فإذا أمسكت ذلك إلى أن تأخذ منه حاجتها استحال ويغيّر بقربه منها ومماسّته إيّاها وصار ما يفضل منه عنها غذاء لسائر الأعضاء.

أجزاء الاغتذاء ثلثة أحدها الزيادة والثاني الاتّصال والثالث التشبيه.

أجزاء الوقت الذي يجري فيه أمر الغذاء على ما يجري عليه من التدبير ثلثة أحدها وهو الأوّل الوقت الذي إذا انهضم فيه الغذاء في المعدة خظيت المعدة من عصارة الغذاء بأجود ما فيها وألطفه وصار ذلك زيادة في طبقاتها؛ والثاني الوقت الذي إذا انحدر فيه الغذاء من المعدة إلى الأمعاء ونفذ منها إلى الكبد في جداول العروق المنتسجة بين الأمعاء وبين الكبد صار ما تحظى به الأمعاء والكبد من ذلك الغذاء زيادة فيها واتّصل ما قد كان زاد قبل ذلك من الغذاء على طبقات المعدة بها؛ والثالث الوقت الذي إذا استحال فيه الغذاء أو تغيّر في الكبد إلى طبيعة الدم نفذ منها إلى جميع البدن فصار ما يحظى به البدن كلّه منه في ذلك الوقت

زيادة فيه واتّصل ما قد كانت الكبد والأمعاء حظيت به منه متّصلاً بها ويشبّه الغذاء الذي كان قد اتّصل بطبقات المعدة بطبيعتها.

يصل إلى الكبد غذاءان أحدهما من المعدة في الوقت الذي ينهضم فيه الطعام ويجتذبه منها بعروق تأتي المعدة من الكبد وموقع هذا الغذاء من الكبد موقع الشيء الذي يتناول الإنسان ممّا يغتذي به قبل وقت طعامه وهو يسير المقدار كما أنّ الشيء الذي يؤكل قبل وقت الطعام يكون يسيراً وإنّما قلّ مقدار هذا الغذاء لأنّ العروق التي تأتي المعدة من الكبد يسيرة. والغذاء الآخر يأتي الكبد من الأمعاء بعد أن ينهضم الطعام في المعدة وينحدر إلى الأمعاء وينفذ منها إلى الكبد في العروق المنتسجة بينها وبين الكبد. ومقام هذا الغذاء للكبد مقام الطعام الذي يستوفيه الإنسان في وقت الغذاء أو العشاء ومقداره كثير كمقدار الغذاء والعشاء وإنّما كثر مقداره لأنّ العروق التي تأتي الأمعاء من الكبد كثيرة. ويصل إلى جميع البدن من الكبد غذاءان أحدهما يسير المقدار ووصوله في الوقت الذي ينهضم فيه الغذاء في الكبد وهو شبيه بما يتناوله الإنسان بالغداة قبل وقت طعامه والآخر مقدار يكتفي به ووصوله في الوقت الذي يكون الغذاء قد انهضم في الكبد وفرغ وأخذت الكبد منه حاجتها.

في القلب تجويفان أحدهما في الجانب الأيمن وفيه منفذان والآخر في الجانب الأيسر وفيه أيضاً منفذان.

فأمّا المنفذان اللذان في الجانب الأيمن فأحدهما هو الذي يدخل منه العرق الأجوف ويصبّ الدم الذي يأتي به من الكبد في هذا التجويف. وعلى فوهة هذا المنفذ ثلثة أغشية تتّصل به مسقفها من خارج إلى داخل كيما تنفتح بدخول الدم الذي يأتي في ذلك العرق ويدخل إلى القلب وينطبق عليه بعد وصول الدم إلى القلب فيمنع بذلك من خروجه عنه إذا انقبض القلب. والآخر هو الذي يخرج منه العرق الذي ليس بضارب وخلقته خلقة عرق ضارب وهو العرق الذي يأتي الرئة ليغذوها. وعلى فوهة هذا المنفذ ثلثة أغشية تتّصل بها مسفقها من داخل إلى خارج كيما تنفتح بخروج ما يخرج من هذه الفوهة وتنطبق بعد نفوذه منها فتمنع بذلك من دخوله إذا رجع الدم عند انقباض الرئة. وأمّا المنفذان اللذان في الجانب الأيسر فأحدهما فوهة العرق الضارب الذي خلقته خلقة عرق غير ضارب وهو الذي ينفذ فيه من الرئة إلى القلب الهواء ومن القلب إلى الرئة الدم. وعلى هذه الفوهة غشاءان منبتها من خارج إلى داخل لينفتح عند دخول الهواء من الرئة إلى القلب وصارت هذه اثنتين وليست ثلثة كيما إذا انقبض القلب أيضاً أمكنه أن يدخل من هذه الفوهة إلى الرئة دماً لطيفاً ليغتذي به. والأخرى فوهة العرق الضارب العظيم المسمّى أورطی الذي هو أصل جميع العروق الضوارب التي في البدن. وعلى هذه الفوهة ثلثة أغشية مسفقها من داخل

إلى خارج كيما ينفتح بخروج ما يخرج من القلب من الدم والروح ولا يدعه أن يدخل بعد ذلك.

الاجتذاب يكون على ثلثة وجوه أحدها باضطرار الخلاء وبالاتّباع لاستفراغ ما يستفرغ بمنزلة ما يعرض إذا أدخل إنسان أنبوباً في إناء فيه ماء وامتصّ بفيه الهواء الذي في ذلك الأنبوب في الإناء فيستفرغ بذلك الهواء الذي في الأنبوب ويدخل الماء في الأنبوب بسبب استفراغ الهواء منه؛ والآخر بالحرارة بمنزلة ما يجتذب نار السراج الزيت؛ والثالث بالقوّة الجاذبة الطبيعيّة بمنزلة ما يجتذب حجر المغنيطس الحديد.

ما كان من الجذب باضطرار الخلاء فهو يجتذب أوّلاً الشيء اللطيف ثمّ من بعد ذلك الشيء الغليظ وما كان منه بالقوّة الطبيعيّة فقد يمكن أن يجتذب الشيء الغليظ قبل الشيء اللطيف بمنزلة ما يجتذب لأفثيمون المرّة السوداء قبل المرّة الصفراء. وما كان أيضاً من الجذب باضطرار الخلاء فهو يجتذب من بُعد وما كان منه بالقوّة الطبيعيّة فهو يجتذب من القرب فقط.

العروق الضوارب والقلب تجتذب إليها باضطرار الخلاء ما يملأ به تجويفاتها إذا انبسطت واتّسعت وتجتذب بالقوّة الطبيعيّة ما يحتاج إليه جوهرها ليغتذي به. والعروق الضوارب تجتذب باضطرار الخلاء إذا انبسطت ما يحتاج إليه كلّ طبقة منها فما كان منه نحو الجلد فهو يجتذب الهواء من خارج؛ وما كان نحو القلب فهو يجتذب الروح والدم اللطيف؛ وما كان منهما بين ذلك فهو يجتذب من العروق غير

الضوارب النافذة إليها ألطف ما فيها. والدليل على أنّ العروق غير الضوارب فيها منافذ إلى العروق الضوارب أنّ العرق الضارب إذا انقطع استفرغ منه جميع ما في العروق غير الضوارب من الدم.

الشي اللطيف في البدن أحد ثلثة أشياء إمّا روح وهذا في غاية اللطافة؛ وإمّا بخار رطب وهذا وسط فيما بين الروح والدم اللطيف؛ وإمّا دم لطيف وهو أقلّ لطافة من الجميع. وإذا كان الأمر على ما وصفنا وكان الذي في المعدة والأمعاء من الغذاء إنّما هو شيء غليظ فالعروق الضوارب إمّا أن تكون تجتذب منها شيئاً يسيراً وإمّا أن تكون لا تجتذب منها شيئاً أصلاً.

في القلب تجويف يبتدئ من التجويف الأيمن ثمّ لا يزال يضيق أوّلاً فأوّلاً حتّى يفوت البصر معرفته. وقد قال أرسطاطاليس في هذا التجويف إنّه تجويف ثالث للقلب وقال جالينوس إنّه ليس بتجويف ثالث لكنّه طريق فيما بين التجويف الأيمن والأيسر ويؤكّد ذلك ويصحّحه من نفس الخلقة والصنعة. ومن ذلك أنّ الدم الذي يدخل التجويف الأيمن من تجويفي القلب من العرق الأجوف أكثر من الدم الذي يخرج من هذا التجويف في العرق الذي ليس بضارب وخلقته خلقة عرق ضارب إلى الرئة. فيقيس بهذا أنّ سائر الدم ينفذ من هذا التجويف الأيمن إلى التجويف الأيسر في ذلك الطريق الذي بينهما.

الأعضاء مختلفة الطبائع فمنها ما طبيعته قريبة من طبيعة الدم وإنّما يحتاج الدم فيها إلى اليسير

من التغيير حتّى يغذوها بمنزلة اللحم والعضل وما كان من الأعضاء كذلك فإنّه لا يحتاج أن يكون له تجويف يدركه الحسّ. ومنها ما طبيعته بعيدة عن طبيعة الدم ويحتاج الدم في ذلك إلى تغيير كثير حتّى يغذوها بمنزلة العظام التي منها كبار ومنها صغار والصغار منها ما جعل فيه بالطبع تجاويف مملوءة مخّاً ليستحيل ذلك المخّ ويتغيّر على طول المدّة ويغذوها والكبار جعل فيها تجاويف مملوءة مخّاً ليغتذي به.

الشراب ينفذ سريعاً ويدرّ البول إذا أعين بأربعة خصال أحدها أن تكون كيفيّته مشاكلة موافقة؛ والأخرى أن يكون جوهره الرطب جوهراً لطيفاً؛ والثالثة أن تكون العروق واسعة وفوهاتها واسعة؛ والرابعة أن تكون القوّة الجاذبة قويّة.

تمّت الجوامع من كتاب جالينوس في القوى الطبيعيّة وهي ثلث مقالات على رأي الإسكندرانيّين ترجمة حنين بن إسحق.