Anon.: Ǧawāmiʿ kitāb Ǧālīnūs fī firaq al-ṭibb ʿalā l-šarḥ wa-l-talḫīṣ li-l-Iskandarānīyīn (Alexandrian Summary of Galen's Book On the Medical Sects)
Work
,
English:
Related to
Text information
Type: Summary (Arabic)
Date:
unknown
Source
F =
Istanbul, Süleymaniye, Fatih 3538 (1),
1v-17v
L =
London, British Library, 23407 (1),
2v-20v
Download
anon_gal_desectis-summ_alexsumm-ar1.xml [77.52 KB]
بسم اللّه الرحمن الرحيم ربّ يسّر برحمتك وتمّم بالخير
جوامع كتاب جالينوس في فرق الطبّ على الشرح والتلخيص للإسكندرنيّين
إنّ بعض الناس قسم الطبّ قسمين وبعضهم قسمه خمسة أقسام والذين قسموه قسمين قالوا إنّ منه علم ومنه عمل والعلم ينقسم ثلثة أقسام أحدها علم الطبائع والثاني علم الأسباب والثالث علم العلامات والدلائل. أمّا علم الطبائع يحوي ستّة أشياء أحدها العلم بأمر الأسطقسّات والثاني العلم بأمر الأمزجة والثالث العلم بأمر الأخلاط والرابع العلم بأمر الأعضاء والخامس العلم بأمر القوى والسادس العلم بأمر الأفعال. وأمّا العلم بأمر الأسباب فمنه العلم بأمر الأسباب البادئة ومنه العلم بأمر الأسباب السابقة ومنه العلم بأمر الأسباب الواصلة. وأمّا علم العلامات والدلائل فمنه العلم بما هو حاضر ويقال لهذه العلامات خاصّة دلائل ومنه العلم بما سيكون ويقال لهذا سابق العلم وتسمّی منذرة ومنه العلم بما قد سلف ومضى ويقال لها مذكّرة بما قد سلف ومضى.
وأمّا العمل فينقسم قسمين أحدهما حفظ الصحّة والآخر اجتلاب الصحّة وحفظ الصحّة ينقسم ثلثة أقسام أحدها الحفظ المطلق والآخر التقدّم بالحفظ والثالث التغذية والإنعاش بالتدبير وهذا التدبير ينقسم فمنه تدبير أبدان المشايخ ومنه تدبير أبدان الصبيان ومنه تدبير أبدان الناقهين من الأمراض وأمّا اجتلاب الصحّة فمنه ما يكون بالتدبير ومنه ما يكون بعلاج اليد ومنه ما يكون باستعمال الأدوية والعلاج باليد منه ما يكون في اللحم مثل البطّ والخياطة والقطع والكيّ ومنه ما هو في
العظام مثل جبر العظم المكسور وإصلاح العظم والمخلوع. وأمّا الذين قسموا الطبّ خمسة أقسام فقالوا إنّ أحد أقسامه العلم بالأشياء الطبيعيّة وهي تلك الستّة التي ذكرناها والعلم بالأسباب وهي تلك الثلثة التي تقدّم ذكرها والعلم بالدلائل وهي تلك الثلثة التي وصفناها قبل وحفظ الصحّة واجتلاب الصحّة وقالوا إنّ حفظ الصحّة ينقسم ثلثة أقسام أحدها الجزء الذي يحفظ المزاج الصحّيّ على ما هو عليه ويقال له حفظ الصحّة المطلق والآخر الجزء الذي يقطع كون الأسباب التي يتوقّع منها إحداث الأمراض ما دام البدن صحيحاً ويقال له التقدّم بالحفظ والثالث التغذية والإنعاش بالتدبير وأصناف هذا التدبير هي تلك الثلثة التي ذكرناها وأمّا اجتلاب الصحّة فقالوا إنّه أيضاً ينقسم ثلثة أقسام أحدها التدبير بالمطعم والمشرب والحركة والسكون ما كان من ذلك للنفس وما كان من ذلك للبدن والنوم واليقظة والآخر علاج اليد وأصنافه وهي تلك الثلثة التي ذكرناها قبل والثالث استعمال الأدوية ما كان منها يغيّر وما كان منها يستفرغ.
فرق الطبّ ثلثة الواحدة فرقة أصحاب التجارب وأهلها يستعملون التجربة وحدها والأخری فرقة أصحاب القياس وأهلها يستعملون التجربة والقياس معاً والثالثة فرقة أصحاب الحيل وأهلها ليس يستعملون لا التجربة ولا القياس والذين قاموا بتثبيت فرقة أصحاب التجارب أقرون الأقراغنطينيّ وفيلفوس القزاقيّ وسرافيون الإسكندرانيّ وسخطس وأبولونيوس والذين قاموا بتثبيت فرقة أصحاب القياس أبقراط وديوقلس وفركساغورس وفولوطيمس
وأرسسطراطس وأسقلبيادس والذين قاموا بتثبيت فرقة أصحاب الحيل ثاميس اللاوذيقيّ وثاسلس ومناماخس ومناساس وسورانوس.
(١) شرح الباب الأوّل من كتاب جالينوس في فرق الطبّ
قال سورانوس في حدّ الطبّ إنّ الطبّ معرفة الأمور الصحّيّة والأمور المرضيّة وقال إيرفيليس إنّ الطبّ معرفة الأمور الصحّيّة وهي الأبدان الصحيحة والأسباب الحافظة والفاعلة للصحّة والعلامات الدالّة على الصحّة والأمور المرضيّة وهي الأبدان المريضة والأسباب الفاعلة للمرض والعلامات الدالّة على المرض والأمور التي ليست بصحّيّة ولا مرضيّة وهي البدن الذي حاله هذه الحال والسبب الفاعل لذلك والعلامات الدالّة عليه. والأسباب صنفان منها صحّيّة ومنها مرضيّة والصحّيّة نوعان منها ما يحفظ الصحّة الموجودة ومنها ما يردّ ويجلب الصحّة بعد فسادها والمرضيّة أيضاً نوعان منها ما يحفظ المرض الموجود ومنها ما يحدث مرضاً لم يكن. وما كان أيضاً من أسباب الصحّة حافظاً للصحّة الموجودة فهو يسمّی تدبير الأصحّاء ويكون بالمطعم والمشرب والقصد في الرياضة والاستحمام وما كان منها يحدث صحّة ليست بموجودة فهو يسمّى مداواة وبعض هذه الأسباب يستفرغ من البدن ما يحتاج إلى استفراغه بمنزلة فصد العرق والإسهال بالدواء وبعضها يغيّر هيئة ما يحتاج إلى تغييره إمّا من خارج بمنزلة الضماد وإمّا من داخل بمنزلة شرب الماء البارد.
وجميع الأطبّاء يتّفقون على تمام غرض الطبّ مشتركون
فيه إذ كان جميعهم إنّما يطلبون إفادة البدن الصحّة إلّا أنّهم مختلفون في وجود الأشياء التي تستفاد بها الصحّة واستخراجها. وذلك لأنّ أصحاب التجارب يزعمون أنّ هذه الأشياء تستخرج بالتجربة وحدها وأصحاب القياس يزعمون أنّها لا تستخرج بالتجربة وحدها لكن بالتجربة التي يكون معها قياس يستدلّ به. وأمّا أصحاب الحيل فإنّهم يلتمسون رفض العقل وإرذال التجربة ويدّعون استعمال القياس بالكلام والقوّة فأمّا بالفعل فإنّهم يعيدون منها جميعاً كلّ واحد من الفرقتين الأوّلتين يسمّى بأسماء شتّى فأمّا فرقة أصحاب التجارب فهي التي تستخرج الأشياء التي تستفاد بها الصحّة بالتجربة وحدها فيقال لها المجرّبة والحافظة والمتذكّرة وأمّا فرقة أصحاب القياس التي تستعمل الاستدلال فيقال لها القياسيّة وذات الرأي وذات الارتقاء من الأمور الظاهرة للحسّ إلى الأمور الظاهرة للعقل وأهل كلّ فرقة من هاتين الفرقتين يسمّون بأسماء مشتقّة من أسماء فرقتهم فأمّا أصحاب التجارب فيقال لهم المجرّبون والحافظون والمتذكّرون وأمّا أصحاب القياس فيقال لهم القياسيّون وذوي الرأي وذوي الارتقاء من الشيء الظاهر للحسّ إلى شيء الذي يعرف بالعقل.
يحتاج في الأسماء المشتقّة إلى ثلثة أشياء أحدها أن يكون الاسم المشتقّ مشاركاً للاسم الذي منه اشتقّ والآخر أن يكون معناه مشاركاً لمعنى ذلك والثالث أن يكون آخر مقطع الاسم المشتقّ مخالفاً لأخير مقطع الاسم الذي اشتقّ منه.
(٢) شرح الباب الثاني
أجزاء التجربة خمسة أحدها الطبيعيّ بمنزلة الرعاف والعرق واستطلاق البطن والقيء والثاني العرضيّ بمنزلة شرب الماء البارد والشراب وغير ذلك ممّا أشبهه والثالث الإراديّ الذي كونه وبيانه إمّا من المنام وإمّا من التكهّن وإما من الزجر والرابع التشبيه وهو أن يشبّه الطبيب إمّا بالطبع وإمّا بالعرض وإمّا بالاتّفاق الإراديّ والخامس نقل الشيء إلى ما هو شبيه به إمّا من عضو إلى عضو بمنزلة النقل من العضد إلى الفخذ وإمّا من علّة إلى علّة بمنزلة النقلة من العلّة المعروفة بالحمرة إلى العلّة المعروفة بالنملة وإمّا من دواء إلى دواء بمنزلة النقل من السفرجل إلى الزعرور.
وقد تقسم هذه القسمة بضرب آخر فيقال إنّ أجزاء التجربة أربعة أحدها الاتّفاق إمّا من قبل الطبع وإمّا من قبل العرض والآخر الإراديّ والثالث المشبّه والرابع الناقل من الشيء إلى شبهه. ومن هذه الأجزاء الأربعة التي تنقسم عليها التجربة اثنان يقومان مقام المادّة التي تستمدّ منها وهما الاتّفاق الطبيعيّ والإراديّ واثنان يقومان مقام الآلة التي تستخرج بها الأشياء التي تستفاد بها الصحّة وهما التشبيه
ونقل الشيء إلى ما هو يشبه به.
ونقل الشيء إلى ما هو شبيه به ليكون على ثلثة أوجه أحدها أن تنقل الأدوية من علّة إلى علّة تشبهها بمنزلة ما ينقل الأدوية المبرّدة من الورم المعروف بالحمرة إلى العلّة المعروفة بالنملة لأنّ هاتين علّتان متشابهتان في الحرارة وحمرة اللون والثاني أن تنقل الأدوية من عضو إلى عضو شبيه به بمنزلة ما ينقل الشيء من العضد إلى الفخذ لمشابهة كلّ واحد من هذين العضوين للآخر في الطبع وفي الهيئة والثالث 〈أن〉 ينقل العلاج من دواء إلى دواء بمنزلة ما يستعمل في استطلاق البطن مكان السفرجل الزعرور لمشابهة كلّ واحد من هذين الدوائين للآخر في القبض.
والتشبيه أيضاً يكون على ثلثة ضروب وذلك أنّ الطبيب يمتثل فيما يعمله ويفعله إمّا بالطبع وإمّا بالعرض وإمّا بالإرادة وامتثاله الطبع يكون بمنزلة ما إذا هو رأى أنّ صاحب حمّى الدم لمّا رعف انتفع برعافه استعمل الطبيب في غيره من أصحاب هذه الحمّى فصد العرق وأمّا امتثاله العرض فبمنزلة ما إذا هو رأى أنّ صاحب حمّى الدم عندما اتّفق أنّ موضعاً من بدنه انخرق بسبب من الأسباب فسال منه دم فانتفغ بذلك استعمل في غيره فجرّ فصد العرق وإخراج الدم وأمّا امتثاله الإرادة فبمنزلة ما إذا رأى إنساناً في المنام أو وقع في نفسه بالزجر أو من التكهّن أن يفتصد فمالت نفسه إلى ذلك وافتصد بإرادته وانتفع بفصده استعمل الطبيب في غيره ممّن به مثل تلك العلّة فصد العرق.
إدراك علم الأشياء ومعرفتها عند أصحاب التجارب يكون على ضربين إمّا بالبصر ويقال له المباشرة وإمّا بالسمع ويقال له الرواية.
التجارب خمسة أنواع وهي أجزاء التجربة أحدها الطبيعيّ والآخر العرضيّ
والثالث الإراديّ والرابع المشبّه والخامس الناقل من الشيء إلى شبهه. وهذه الخمسة الأجزاء إذا حصّلت أجناساً كانت أربعة وهي الاتّفاق والإرادة والتشبيه والنقلة. وإذا فصّلت أنواعاً كانت سبعة وهي الطبيعيّ والعرضيّ والإراديّ والمشبّه والناقل وهو ثلثة أنواع إمّا من علّة إلى علّة وإمّا من موضع إلى موضع وإمّا من دواء إلى دواء. وهذه القسمة تقسم على وجه آخر فيقال إنّ التجربة تثبت بشيئين أحدهما المادّة التي يستمدّ منها أصحاب التجربة والآخر النوع الذي يستعمله. ومادّتها هي الأشياء التي تكون بالطبع والأشياء التي تكون بالاتّفاق والأشياء التي تفعل بالإرادة وتكون منها الحركة أي من صاحب الإرادة إليها إمّا من المنام وإمّا من الزجر وإمّا من التكهّن. ونوعها التشبيه ونقل الشيء إلى شبهه والتشبيه هو أن يشبّه الطبيب إمّا بما يكون من الطبع وإمّا بما يكون من العرض وإمّا بما يكون من الإرادة. أمّا الذي يكون بالإرادة إمّا أن يتبع المنام وإمّا أن يتبع الزجر وإمّا أن يتبع التكهّن. ونقل الشيء إلى شبهه يكون إمّا من علّة إلى علّة وإمّا من عضو إلى عضو وإمّا من دواء إلى دواء وإذا قيل لك هاهنا طبع أو طبيعة فافهم أنّ معنى ذلك هو القوّة المدبّرة لبدن الحيوان وذلك أنّ هذا الاسم أعني طبعاً أو طبيعة يتصرّف على ثلثة وجوه أحدها جوهر كلّ واحد من الأشياء ووجوده والثاني القوة المدبّرة لبدن الحيوان والثالث مزاج البدن وعادته.
(٣) شرح الباب الثالث من كتاب جالينوس في فرق الطبّ
الأسباب المغيّرة للبدن منها لا بدّ من أن يغيّره ضرورة وهي ستّة أحدها الهواء المحيط به والثاني الحركة والسكون والثالث الأشياء التي تؤكل وتشرب والرابع النوم واليقظة والخامس الاستفراغ والاحتقان والاحتباس والسادس عوارض النفس مثل الغمّ والهمّ والفزع والغضب والفرح ومنها ما ليس تغييرها إيّاه ضرورة بمنزلة السيف والسبع والسهم والحجر والنار.
ومزاج الهوا إمّا أن يكون على غاية الاعتدال بمنزلة ما يكون ذلك في الربيع معتدلاً في الحرّ والبرد والرطوبة واليبس وإمّا أن يكون على خلاف الاعتدال جملة بمنزلة ما يكون كذلك في الصيف أو في الشتاء فإنّ الهواء في الصيف تفرط عليه الحرارة واليبوسة وفي الشتاء تفرط عليه البرودة والرطوبة وإمّا أن يكون في بعض الحالات معتدلاً وفي بعضها غير معتدل بمنزلة ما يكون كذلك في الخريف لأنّ هواء الخريف معتدل في الحرارة والبرد غير معتدل في الرطوبة واليبوسة وذلك أنّه إلى اليبس أميل مع أنّه من جهة أخرى أيضاً غير معتدل في الحرارة والبرودة لأنّ مزاجه في النهار كلّه لا يستوي وذلك أنّه بالغدوات يكون أبرد وفي أنصاف النهار أحرّ.
وقد يقسم مزاج الهواء قسمة أخرى فيقال إنّ مزاج الهواء إمّا معتدل بمنزلة ما يكون كذلك في الربيع الذي ظنّ قوم أنّه حارّ رطب وليس هو كذلك بل هو معتدل وإمّا حارّ يابس بمنزلة ما يكون كذلك
في الصيف وإمّا بارد رطب بمنزلة ما يكون كذلك في الشتاء وإمّا معتدل في الحرارة والبرودة وغير معتدل في الرطوبة واليبس كما يكون كذلك في الخريف الذي قد ظنّ قوم أنّه بارد وليس هو ببارد.
ومزاج الهواء لا يخلو من أن يكون إمّا طبيعيّاً وهو المزاج الذي يكون بحسب الوقت الحاضر من أوقات السنة كما وصفنا قبل وإمّا خارجاً عن الطبيعة وإذا كان كذلك فقد تغيّر وتغيّره يكون إمّا لأنّ جوهره يتغيّر فيحدث عن ذلك وباء وإمّا لأنّ كيفيّته تغيّرت وتغيّر كيفيّته يكون على أحد وجهين إمّا لأنّ كيفيّته الطبيعيّة تزيد بمنزلة ما يعرض للصيف أن يكون أشدّ حرارة وأشدّ يبساً وإمّا لأنّه ينتقل إلى خلافها بمنزلة ما يعرض للصيف أن يكون كثير المطر رطباً وتغيّر الكيفيّة في كلّ واحد من هذين الوجهين يكون إمّا في أربعة أوقات السنة وإمّا في ثلثة منها وإمّا في اثنين وإمّا في واحد. ومزاج الهواء الذي هو له طبيعيّ يكون بحسب الوقت الحاضر من أوقات السنة وبحسب البلد وذلك لأنّ البلدان منها شماليّة وهي باردة يابسة ومنها جنوبيّة وهي حارّة رطبة ومنها شرقيّة وهي معتدلة المزاج ومنها غربيّة وهي باردة غير معتدلة المزاج. وتغيّر الهواء أيضاً يكون من قبل وضع الموضع بأن يكون يستقبل إمّا الشمال وإمّا الجنوب وإمّا الشرق وإمّا الغرب.
الحركة والسكون فعلهما في البدن مختلف وذلك أنّ الحركة تفعل فعلين لأنّها إن كانت معتدلة فمن شأنها أن تسخن وترطّب وإن
أفرطت فمن شأنها أن تبرّد وتيبّس. وأمّا السكون فإنّه يفعل فعلاً واحداً لأنّه في كلّ وقت إنّما تتبعه البرودة وتتبع البرودة رطوبة لفقد الحرارة التي تفني الرطوبة. أفعال الحركة تختلف من ثلثة وجوه أحدها كيفيّة الحركة والآخر مقدارها والثالث مقدار ما يخالطها من السكون واختلافها من قبل الكيفيّة يكون لأنّهما إمّا أن تكون قويّة شديدة عنيفة فتسخن وتجفّف وتصلّب أكثر وإمّا أن تكون ضعيفة لا تعنّف بصاحبها فيكون فعلها كما وصفنا أقلّ. وأمّا اختلافها من قبل مقدارها فهو أنّها إمّا أن تكون كثيرة فتفعل ما تفعله الحركة القويّة وإمّا أن تكون يسيرة فتفعل ما تفعله الضعيفة وأمّا اختلافها من قبل مقدار ما يخالطها من السكون فهو أنّها إمّا أن تكون سريعة متواترة فتفعل ما تفعله القويّة وإمّا أن تكون بطيئة متفاوتة فتفعل ما تفعله الضعيفة. وقد يتبع الحركة أيضاً اختلاف آخر من قبل اختلاف المادّة التي يستعملها أصحاب الصناعات وهي أن يكون الإنسان قَيِّم حمّام فإنّ هذه صناعة تسخن وترطّب أو أن يكون صيّاد السمك فإنّ هذه الصناعة تبرّد وترطّب وكذلك الملاحة وأن يكون قنّاصاً لأنّ هذه الصناعة تسخن وتجفّف وكذلك صناعة الحدّادين والصياغة وأن يكون حرّاثاً لأنّ هذه الصناعة تبرّد وتجفّف.
الماء يستعمل في بعض المواضع ضرورة بمنزلة ما يستعمل في الشرب وفي بعضها غير ضرورة بمنزلة ما يستعمل في الاستحمام. وأصناف الماء تختلف وذلك أنّ منه آجاميّ لا
يجري وهو غليظ رديء ومنه ماء العيون وهو جيّد وأفضله ما كان يخرج من عيون غائرة ويسخن ويبرد سريعاً وهو خفيف الوزن وإذا نظرت إليه رأيته صافياً نقيّاً وليس فيه شيء من الكيفيّات ظاهر لا في المذاق ولا في الرائحة ويكون في الصيف بارداً وفي الشتاء حارّاً.
ومنه ماء الأمطار وهو أيضاً جيّد غير أنّ العفونة تسرع إليه ومنه ماء الثلج والجمد وهو أغلظ جوهراً وأردأ وأشدّ برداً ومنه ماء توجد فيه قوى دوائيّة بمنزلة الماء المالح الذي فيه قوّة الملح والماء الذي يخرج من عيون القير وهو الذي يشبه مزاجه وقوّته القار والماء الكبريتيّ وهو الذي يشبه الكبريت في قوّته والماء الذي يخرج من معدن الشبّ وقوّته أيضاً قوّة الشبّ.
الأطعمة منها ما يجفّف البدن بمنزلة الخبز اليابس والعدس والجاورش والأرز ومنها ما يرطّب بمنزلة البقول الرطبة واللحوم الدسمة ومنها ما يسخن بمنزلة ما يتّخذ من الأطعمة بالخردل والفلفل ومنها ما يبرّد بمنزلة الفاكهة والقثّاء والخيار والأشربة منها ما يبرّد ويرطّب بمنزلة الماء البارد ومنها ما يسخن ويرطّب بمنزلة الشراب الحديث ومنها ما يسخن ويجفّف بمنزلة الخنديقون ومنها ما يبرّد ويجفّف بمنزلة الأشربة التي تتّخذ بالخلّ والماء.
النوم واليقظة يختلف فعلهما في البدن وذلك أنّ النوم يقوّي القوّة الطبيعيّة ويرخي القوّة النفسانيّة واليقظة بخلاف ذلك ترخي القوّة الطبيعيّة وتقوّي القوّة النفسانيّة والنوم يتبعه احتباس ما يستفرغ من البدن واليقظة يتبعها استفراغ ما هو محتبس في البدن. وفعل النوم خاصّة يختلف بقدر ما يصادف في البدن وذلك أنّه إن صادف في البدن مادّة لم تنضج وغذاء لم يستمرء فأنضج المادّة وهضم الغذاء أسخن ورطّب وإن صادف
البدن نقيّاً خاوياً فعطفت الحرارة على الرطوبة الغريزيّة الطبيعة التي قوامها بها فأفنتها أعقب ذلك برودة البدن وإذا صادف النوم البدن أيضاً وليس فيه مادّة مقدارها قاهر للقوّة نفع وقوّى الحرارة الطبيعيّة فإن صادفه وفيه مادّة مقدارها قاهر للقوّة طفّأ الحرارة الطبيعيّة بمنزلة ما يعرض ذلك في ابتداء نوائب الحمّيات النائبّة في الوقت الذي يتقدّم فيه إلى المريض ويأمره أن يكون يقظاناً.
كيفيّة الأشياء التي تستفاد بها الصحّة تعرف من نوع العلّة التي تقصد بها لمداواتها ومقدارها يعرف من الأشياء التي يقال لها بنات الأركان وهي الشواهد التي عليها يكون مبنى الأمر بمنزلة سنّ المريض التي إمّا أن تكون سنّ الصبيّ وإمّا سنّ الشباب وإمّا سنّ الكهول وإمّا سنّ الشيوخ ومزاج المريض والوقت الحاضر من أوقات السنة وحال الهواء في ذلك الوقت والبلد الذي يأويه المريض والعادة التي جرى عليها والصناعة التي يعالجها. وأصناف المزاج تسعة منها أربعة بسيطة وهي الحارّ والبارد والرطب واليابس ومنها أربعة مركبّة وهي الحارّ اليابس والحارّ الرطب والبارد اليابس والبارد الرطب ومنها واحد معتدل. والعادة أيضاً أصناف وذلك أنّ من الناس من عادته شرب الشراب ومنهم من عادته شرب الماء البارد ومنهم من قد اعتاد أن يأكل مرّة في اليوم ومنهم من قد اعتاد أن يأكل مرّتين أو ثلث ومن الناس من قد اعتاد الاستفراغ ومنهم من لم يعتد ذلك. وأوقات السنة أربعة أحدها الربيع وهو معتدل والآخر الصيف وهو حارّ يابس والثالث الخريف وهو يابس
معتدل البرد مضطرب الحال والرابع الشتاء وهو بارد رطب.
الأعراض التابعة للأمراض يستدلّون بها أصحاب التجارب على ما قد فعلوه مراراً كثيرة فنفع ويستدلّون بها أصحاب القياس على الشيء الذي ينبغي أن يفعل. مثال ذلك الورم فإنّ كلّ ورم إنّما يتولّد من مادّة تنصبّ إلى واحد من الأعضاء من واحد من الأخلاط والأخلاط أربعة الدم وهو حارّ رطب والبلغم وهو بارد رطب والمرّة الصفراء وهي حارّة يابسة والمرّة السوداء وهي باردة يابسة. وتتولّد من هذه الأربعة الأخلاط أربعة أجناس من الأورام فيحدث عن الدم الورم الدمويّ الذي يقال له فلغموني ويحدث عن البلغم الورم الرخو الذي يقال له أوذيما ويحدث عن المرّة الصفراء لا بل عن الدم الذي قد ضربت فيه الصفراء الورم المعروف بالحمرة لأنّ المرّة الصفراء وحدها إنّما تحدث عنها النملة لا الحمرة ويحدث عن المرّة السوداء الورم الجاسي المعروف بالصلابة وهو الذي يقال له سقيروس.
فأنزل أنّ هذا الورم الذي تمثّلنا به وهو ورم من دم وهو الذي يقال له فلغموني فإنّ هذا ورم إذا حدث تتبعه هذه الأعراض وهي انتفاخ العضو الوارم وحمرته وتمدّده ووجعه وصلابته ومدافعته للجسّ فإذا ظهرت هذه الأعراض تذكّر بها صاحب التجارب أنّه قد عالج مثل هذا الورم مراراً كثيرة في مبدأ أمره بعنب الثعلب وفي آخره بالبابونج والحلبة وبزر الكتّان فنفعه ذلك وأنجح فيه. وأمّا صاحب القياس فإنّه يستدلّ بها على أنّه يحتاج إلى
استفراغ ما قد حصل في ذلك العضو من مادّة الفضل التي انصبّت إليه وتقوية العضو حتّى لا يقبل ما ينصبّ إليه منها بعد ذلك والسبيل في كلّ واحد من هاتين الخصلتين غيره في الأخرى وذلك أنّ تقوية العضو حتّى لا يقبل شيئاً من الفضل إنّما تكون بالأشياء القابضة والأشياء التي تردّ العضو عن إفراط المزاج إلى اعتداله.
وأمّا استفراغ ما قد حصل ممّا انصبّ إليه فيكون بأمرين أحدهما قمع المادّة وردّها إلى خلف وذلك يكون في مبدأ الأمر بالأشياء القابضة والآخر استفراغ ما قد حصل فليس يرجع ولا يندفع ولا ينقمع وذلك يكون في آخر الأمر بالأشياء التي تسخن وترخي لأنّ الأدوية منها قامعة دافعة وهي التي تقبّض وتبرّد ومنها ما يستفرغ وهي التي تسخن وترخي.
أجناس ما في البدن من القوى ثلثة أحدها جنس القوّة النفسانيّة وهي التي في الدماغ ويستدلّ عليها بصحّة الأفعال الإراديّة وضعفها والآخر جنس القوّة الحيوانيّة وهي التي في القلب ويستدلّ عليها بالنبض والثالث جنس القوّة الطبيعيّة ومبدأ هذه القوّة من الكبد ويستدلّ عليها بالبول والبراز الشبيه بغسالة اللحم الطريّ القريب العهد بالذبح. وإن كان حدوث الورم الدمويّ من سبب بادئ بمنزلة الضربة أو الصدمة فينبغي أن يعالج في أوّل الأمر بأشياء تسخن وترخي كيما يستفرغ الخلط الفاعل له وإن كان حدوثه من سبب سابق متقدّم أعني من امتلاء حاصل في البدن فينبغي أوّلاً أن تقمع المادّة وتمنع حتّى إذا استفرغ البدن رجع إلى الأشياء
التي تسخن وترخي فعولج بها.
والعلامات الدالّة على الامتلاء هي أن يكون الإنسان يعتريه كسل وفتور عن الحركة ويجد ثقلاً في جميع بدنه ويصير لونه أحمر وتنتفخ عروقه أكثر ممّا كانت عليه بالطبع ويتمدّد جلده. المداواة تختلف إمّا في مقدار الشيء الذي يداوی به بمنزلة ما يعرض ذلك إذا استفرغ من الدم مقدار أكثر وأقلّ وإمّا في الوجه الذي يستعمل به ذلك الشيء بمنزلة ما يعرض ذلك عندما يستفرغ الشيء مراراً كثيرة أو مرّة وإمّا في الجنس كلّه جملة بمنزلة ما يعرض ذلك إذا استعمل مكان الاستفراغ ضماد قابض. الأشياء التي تدلّ على لحاجة إلی الاستفراغ هي الامتلاء وصحّة القوّة وسنّ الشباب ووقت الربيع واعتدال الهواء والبلد وعادة الاستفراغ والصناعة التي يحتاج المعالج لها إلى الاستفراغ بمنزلة الصناعات التي لا تعب فيها وأمّا الأشياء التي تدلّ على أنّه لا ينبغي الاستفراغ فهي ضعف القوّة إن كانت نفسانيّة وإن كانت حيوانيّة وإن كانت طبيعيّة ومن النفسانيّة أيضاً إن كانت قوّة الحسّ وإن كانت قوّة الحركة وإن كانت قوّة التدبير والسياسة ومن الطبيعيّة إن كانت القوّة الجاذبة وإن كانت القوّة الماسكة وإن كانت القوّة المغيّرة وإن كانت القوّة الدافعة والسنّ إذا كان سنّ صبيّ صغير أو سيخ فانٍ والوقت الحاضر من أوقات السنة إذا كان صيفاً أو شتاء والبلد إذا كان شديد البرد بمنزلة بلاد الصقالبة أو شديد الحرّ بمنزلة بلاد الحبشة وقلّة الاعتياد للاستفراغ.
أصحاب
التجارب وأصحاب القياس يعرفون أشياء واحدة بعينها أعني المرض والشواهد التي عليها مبنى الأمر في الأشياء التي يداوی بها إلّا أنّ أصحاب التجارب يعرفون ذلك بالحفظ والرصد وأصحاب القياس بالاستدلال وأصحاب القياس يستدلّون من نفس الأمر على ما ينبغي أن يفعل فيه فيسدلّون من كلّ شيء هو في الطبع على أنّه ينبغي أن يحفظ ويستبقي ومن كلّ شيء هو خارج عن الطبع على أنّه ينبغي أن يقلع ويستأصل.
والأشياء الخارجة عن الطبع ثلثة المرض وسببه والعرض التابع له. والأسباب منها ما يرد على البدن من خارج ويقال لها أسباب بادئة بمنزلة الضربة والنهشة ومنها ما يتحرّك في البدن من داخل ويقال لها أسباب سابقة بمنزلة الامتلاء والعفونة ومنها ما يتقدّمها أسباب أخر وتكون هي أقرب الأسباب إلى حدوث المرض ويقال لها أسباب واصلة بمنزلة سخونة القلب في الحمّى.
سموم الحيوان ذوات السمّ تختلف فمنها ما يجفّف تجفيفاً مفرطاً حتّى أنّه يحدث تشنّجاً بمنزلة سمّ الكلب الكلب الذي أكثر مضرّته للدماغ ومنها ما يبرّد تبريداً مفرطاً حتّى يظنّ المريض كأنّه يرمي بحجارة من البَرَد بمنزلة سمّ العقرب الذي أكثر مضرّته للقلب ومنها ما يسخن إسخاناً شديداً مفرطاً بمنزلة سمّ الثعبان وسمّ الأفعى الذي يعفّن العضو ويأكله ويحرقه بحدّته.
من الأعراض أشياء تدلّ على نفس المرض ومنها أشياء تدلّ على سبب المرض ومنها أشياء تدلّ على موضع المرض. مثال ذلك أنّ اختلاف النبض في وقت
الحمّى والسرعة تدلّ على نفس الحمّى والعلامات الدالّة على الامتلاء تدلّ على سبب الحمّى بمنزلة الكسل عن الحركة وثقل البدن وانتفاخ العروق وحمرة اللون والأعراض الحادثة بصاحب ذات الجنب تدلّ على موضع العلّة والمرض وهي الحمّى الحادّة والسعال وضيق النَفَس والوجع الناخس.
حدوث القرحة يكون إمّا من سبب باطن من داخل وإمّا من سبب ظاهر من خارج والسبب الباطن من داخل بمنزلة خلط حادّ يأكل ويحرق أو امتلاء يمدّد ويُفْرِز وأمّا السبب الظاهر من خارج فإمّا أن يكون جسماً من الأجسام ذوات النفوس وهي الأجسام النامية وإمّا من جسم لا نفس له أي غير نامٍ والقرحة الحادثة عن جسم لا نفس له تكون إمّا من جسم يمدّ بمنزلة الحبل وإمّا من جسم يقطع بمنزلة السيف وإمّا من جسم يحرق بمنزلة النار وإمّا من جسم يرضّ بمنزلة الحجر وإمّا من جسم يثقب بمنزلة السهم. فأمّا القرحة التي تحدث عن جسم ذي نفس فبمنزلة القرحة الحادثة عن نهشة حيوان والحيوان الذي ينهش لا يخلو من أن يكون إمّا حيوان له سمّ وإمّا حيوان لا سمّ له. وأمّا القرحة الحادثة عن نهشة حيوان لا سمّ له لا تزال دائماً شبيهة بالقرحة الحادثة عن جسم لا نفس له لا خلاف بينهما ولا فرق. فأمّا القرحة التي تحدث عن نهشة حيوان ذي سمّ فلا بدّ من أن تتبعها لا محالة أعراض رديئة لا يكون مثلها في القرحة الحادثة عن الأجسام التي لا نفس لها وهذه الأعراض الرديئة إمّا أن تتبع القرحة في آخر الأمر حتّى يكون في مبدأ أمرها لا فرق بينها
وبين القرحة الحادثة عن جسم لا نفس له وإمّا أن تتبعها في أوّل الأمر. والقرحة التي تتبعها الأعراض الرديئة في آخر الأمر هي مثل القرحة الحادثة عن نهشة الكلب الكلب فإنّ هذه القرحة تكون في الأيّام الأول شبيهة بسائر القروح ثمّ إنّها في آخر الأمر تحدث أعراضاً رديئة مهلكة بمنزلة التفزّع من الماء والتشنّج وأمّا القرحة التي تتبعها الأعراض الرديئة في أوّل الأمر فمنها ما تكون الأعراض التابعة له في القرحة وحدها بمنزلة القرحة التي تكون معها عفونة أو عطب عضو من الأعضاء أو من سواد يظهر فيه ومنها ما تكون الأعراض التابعة له تعمّ البدن كلّه بمنزلة القرحة التي يحدث عنها التشنّج عندما يضرّ السمّ بالدماغ أو الغشي عندما يضرّ بالقلب أو إحالة اللون أو اليرقان عندما يضرّ بالكبد. الذين تنهشهم الحيوانات ذوات السموم يداوون من خارج بأدوية حادّة حارّة جاذبة توضع على القرحة كيما يحتذب السمّ ومن داخل بأدوية تجفّف وتنشف السمّ بمنزلة الترياق وما أشبهه.
(٤) شرح الباب الرابع من كتاب جالينوس في فرق الطبّ
أصحاب القياس يطعنون على أصحاب التجارب من ثلثة وجوه أحدها أنّهم قالوا إنّ التجربة لا ثبات لها بمنزلة أسقلبيادس فإنّ هذا قال إنّه لمّا كانت الأبدان دائمة التغيّر لا تقف على حال واحدة بتّة صار حفظ ما قد نفع مراراً كثيرة ممّا لا يمكن ولم ينصف هذا في طعنه على القوم وذلك أنّ الأبدان وإن كانت دائمة التحلّل والتغيّر فليس تبلغ من تغيّرها أن يكون الدواء لا ينفع مرّتين لأنّ الأطبّاء
إنّما يطلبون التغيّر المحسوس لا التغيّر الموجود في الطبع.
والوجه الثاني أنّهم قالوا إنّ التجربة ليست تكمل لما يحتاج إليه بمنزلة إراسسطراطس فإنّ هذا يقرّ بأنّ العلل البسيطة المفردة قد يجوز أن تداوی بالأشياء البسيطة المفردة بطريق التجارب فأمّا أن يكون أمراضاً مركّبة تؤخذ مداواتها بأشياء مركبّة بطريق التجارب فذلك عنده ممّا ينكره. وهذا أيضاً لم ينصف في الطعن عليهم وذاك أنّه كما أنّ التجربة تستخرج وتجد لمداواة الأمراض البسيطة المفردة كذلك قد يجوز أن تجد وتستخرج مداواة الأمراض المركّبة لأنّ الأمراض منها بسيطة مفردة بمنزلة الضرس وحمّى الغبّ وحمّى البلغم ومنها مركّبة بمنزلة الورم الدمويّ الذي يضرب فيه الحمرة والحمّى المركّبة من حمّى الغبّ ومن حمّى البلغم والحمّى المعروفة بالدقّ إذا كانت معها حمّى من عفونة وكذلك الأشياء التي تداوی بها الأمراض منها أشياء بسيطة مفردة بمنزلة البقلة الحمقاء وعنب الثعلب ومنها أشياء مركّبة بمنزلة الأكحال والمعجونات.
والوجه الثالث أنّهم قالوا إنّ التجربة ليس لها مذهب صناعيّ بمنزلة ما قال أثيناوس فإنّ هذا قال إنّها غير لازمة للطريق الصناعيّ الذي به يصلون أصحاب الصناعات إلى أحكام صناعتهم وقد أنصف هذا في طعنه عليهم وذلك أنّ كلّ أمر لا قياس معه فهو غير صناعيّ كما قال فلاطون.
(٥) شرح الباب الخامس من كتاب جالينوس في فرق الطبّ
وأصحاب التجارب يطعنون على أصحاب القياس من ثلثة وجوه أحدها أنّ بعضهم قال إنّ القياس إنّما يوجب
الشيء من طريق ما هو أولى وأشبه وأقنع فإمّا أن يكون يقدر على استخراج نفس الحقّ والأمر الموجود في الطبع فلا والآخر أنّ قوماً منهم قالوا إنّه وإن كان القياس يمكن أن يستخرج به ما أنكروه أولئك من الأمر الموجود في الطبع فإنّه ليس ينتفع بذلك والثالث أنّ قوماً آخر منهم قالوا إنّه وإن كان ما يستخرج بالقياس ممّا ينتفع به فليس ممّا لا بدّ منه ضرورة لكن هو شيء فضل إذا كان ما يستخرج بالتجارب يفي بما يحتاج إليه.
أصحاب القياس خاصّة يطلبون معرفة ثلثة أشياء لا يطلبونها أصحاب التجارب أحدها طبيعة البدن أعني بقولي هاهنا طبيعة جميع باب النظر في الطبائع والثاني أسباب الأمراض أعني الأسباب السابقة والأسباب الواصلة لأنّ الأسباب البادئة قد ينظرون فيها ويطلبونها أصحاب التجارب والثالث قوى الأشياء التي تستفاد بها الصحّة وذلك أنّ أصحاب التجارب لا ينظرون في فعل الأدوية الذي هو فعل أوّل ولا يطلبونه ولا يبحثون عنه ولا عن القوّة التي بها يفعل كلّ واحد من الأدوية ما يفعل.
ولفرقة أصحاب القياس ثلث آلات تستعملها هي خاصّة ولا تستعملها فرقة أصحاب التجارب وهي التشريح والاستدلال من نفس الشيء على ما ينبغي أن يفعل به وعلم المنطق. والتشريح يكون على ضربين وذلك أنّ منه ما نفع بالاتّفاق بمنزلة ما يعرض من ذلك في الحرب ومنه ما يكون من فعل الصناعة إمّا في حيوان حيّ وإمّا في حيوان ميّت والذي يكون في حيوان حيّ تعرف به أفعال الأعضاء ومنافعها والذي
يكون في حيوان ميّت يعرف به جوهر كلّ واحد من الأعضاء المخصوص به وخلقته ومقداره وعدده ووضعه ومشاركته لما يشاركه. وأصحاب التجارب يطعنون على أصحاب التشريح من وجهين أحدهما أنّهم يزعمون أنّه ليس يستخرج به ما يحتاج إليه والثاني أنّه وإن استخرج به شيء فليس هو ممّا لا بدّ منه ضرورة في الصناعة.
الشيء الذي ليس بظاهر إمّا أن يكون في طبعه غير ظاهر بمنزلة كلّ شيء لا يقع عليه الحسّ وإنّما يعرف بالعقل والباب الذي به يعرف هذا والقياس الذي يدلّ عليه يقال أنالوجسموس وهو القياس على الخفيّ بالظاهر وإمّا أن يكون ليس بخفيّ في الطبع ولا في الصناعة لكنّه ممّا يخفى في وقت من الأوقات بمنزلة كلّ شيء هو في طبعه محسوس إلّا أنّه لبعد شقّته أو لصغر مقداره أو لأنّه يطلب بحاسّة غريبة منه أو لأنّ دونه حائلاً قد صار خفيّاً والباب الذي يدلّ علی هذا يقال إفيلوجسموس وهو القياس بالظاهر على الظاهر. فأمّا أصحاب القياس فيستعملون القياس بالظاهر على الخفيّ وأمّا أصحاب التجارب فيستعملون القياس من الظاهر على الظاهر ويزعمون أنّ هذا نافع في الردّ على ما يطعن على ما يرى حسّاً وفي كشف ما قد تواری وغاب وفي كشف أمر القوم الذين يلتمسون أن يغالطوا أصحاب التجارب ويخدعونهم بالأغلوطات.
الشيء الخفيّ إمّا أن يكون في طبعه خفيّاً بمنزلة جوهر اللّه تبارك وتعالى وجوهر العقل والنفس والطبيعة وما كان كذلك فإنّما يعرف بالقياس من الظاهر على الخفيّ وإمّا أن يكون إنّما
هو خفيّ عند الحسّ. وهذا يفوت الحسّ لواحد من أربعة أسباب إمّا لبعد الشقّة بمنزلة السفينة التي تكون في لجّة البحر فتخفى علی من في شاطئ البحر وإمّا لصغر مقداره بمنزلة الهباء الذي يطير في الهواء فإنّ هذا متى لم يدخل شعاع الشمس من كوّة أو من روزنة لم يتبيّن لنا وإمّا لأنّه من جنس حاسّة أخرى بمنزلة الصوت الذي لا يتبيّن للمذاق وإمّا لأنّ شيئاً يغطيه ويستره بمنزلة حجر في قعر البحر يغطيه ماء البحر.
أصحاب التجارب يكرهون القياس من الظاهر على الخفيّ لأنّه أمر يقع فيه اختلاف ولا يقع عليه الحكم ويحمدون القياس من الظاهر على الظاهر من طريق أنّه أمر لا يقع فيه اختلاف وإن وقع كان الحكم فيه سهلاً والاختلاف إذا كان خفيّ كان الحكم فيه غير سهل والاختلاف زعموا أنّه أمر يدلّ على أنّ الشيء الذي فيه الاختلاف لم يدرك ولم يوقف على حقيقته والقصور عن إدراك الشيء وبلوغ حقيقته هو سبب الاختلاف.
(٦) شرح الباب السادس من كتاب جالينوس في فرق الطبّ
فأمّا أهل الفرقة الثالثة وهم أصحاب الحيل فإنّهم يستعفون من النظر في الأسباب والعادات والأسنان وأوقات السنة والأمزاج والبلدان والقوى وأعضاء البدن وإذا صاروا إلى الأمراض استعفوا أيضاً من النظر في خاصّيّة الأفراد منها لأنّها ممّا لا نهاية له ويقصدون بجمل الأمراض العامّيّة من قبل أنّها أسهل وجوداً وأهون تحصيلاً في العقل ووضعوا أنّ جمل الأمراض العامّيّة ثلثة أحدها الانبعاث أي الاسترسال والآخر الاحتقان أي
الاستمساك والثالث التركيب منهما جميعاً.
اجتلاب الصحّة وهي المداواة يكون إمّا بالتدبير وإمّا بعلاج اليد وإمّا باستعمال الأدوية وبعض أهل الفرقة الثالثة يجعلون هذه الجمل جملاً تعمّ جميع الأمراض ما كان منها يداوى بالتدبير وما كان منها يعالج بعلاج اليد وما كان يداوى بالأدوية وبعضهم جعل الجمل الموجودة في الأمراض التي تداوى بالتدبير الاسترسال والاحتقان والتركيب منها وجعل الأمراض التي تداوی بعلاج اليد جملاً أخر وهي أن يكون الشيء الذي يعالج إمّا غريباً منكراً في طبعه بمنزلة الحصاة التي تتولّد في المثانة وإمّا غريباً منكراً في موضعه بمنزلة قرو الأمعاء وهي القيلة الحادثة عن الفتق وإمّا الأمراض التي تداوی بالأدوية فإنّهم متّفقون مشتركون على جميع ما يداوی به من الجمل التي ذكرناها. وأهل هذه الفرقة يعنون بقولهم علّة احتقانيّة احتباس الفضول الذي لم تزل تجري بمنزلة حصر البول واستمساكه وحصر البطن واحتباس العرق ويعنون بقولهم علّة استرساليّة وانبعاثيّة الإفراط في استفراغ هذه الفضول بمنزلة الخلفة وكثرة البول الذي لا يقدر صاحبه على حبسه وكثرة العرق ويعنون بقولهم علّة مركّبة من العلّتين العلّة الجامعة للأمرين بمنزلة العين إذا كانت وارمة كثيرة الدموع معاً ويقصدون بمداواة العلل الاحتقانيّة بالإرخاء والتسليس بمنزلة ما تداوی الركبة الوارمة بالضماد المؤلّف من الحلبة وإكليل الملك وبزر الكتّان ودقيق الشعير والبابونج ولمداواة العلل الانبعاثيّة بالإمساك والشدّ بمنزلة ما تداوی الخلفة بالسفرجل. فأمّا العلل المركّبة فإنّهم يقصدون فيها إلى الأهمّ والأشدّ أكثر منهم إلى غير ذلك بمنزلة ما تداوی العين الوارمة إن كانت دموعها أكثر من
ورمها بالأشياف التي تقمع وتردع المادّة وإن كان ورمها أكثر فبالشيافات المحلّلة.
(٧) شرح الباب السابع من كتاب جالينوس في فرق الطبّ
كلّ واحد من الثلث الفرق يقصد لشيء ففرقة أصحاب التجارب تقصد لأمرين تطلبهما أحدهما حفظ ما قد استدرك بالتجارب والثاني اتّباع ما هو ظاهر للحسّ وفرقة أصحاب القياس تقصد لأمرين تطلبهما خاصّة الاستدلال من نفس الشيء على ما ينبغي أن يفعل في أمره ومعرفة ما لا يظهر للحسّ وفرقة أصحاب الحيل تقصد لأمرين تطلبهما أحدهما الاستدلال من نفس الشيء على ما ينبغي أن يفعل في أمره واتّباع ما هو ظاهر للحسّ فهذه الأربعة الأشياء أعني الحفظ والاستدلال والأمر الظاهر للحسّ والأمر الذي لا يظهر للحسّ قد يكون منها ستّة تراكيب اثنان منها لا يثبتان وواحد ليس ينتحله أحد من أهل الفرق وثلثة ينتحلها أصحاب هذه الثلثة الفرق على هذا المثال:
الحفظ | ليس يجتمعان في شيء من الفرق | ما لا يظهر للحسّ |
يجتمعان في فرقة أصحاب القياس | ||
لا يثبتان معاً | لا يثبتان معاً | |
يجتمعان في فرقة أصحاب التجارب | ||
الاستدلال | يجتمعان في فرقة أصحاب الحيل | ما هو ظاهر للحسّ |
قد اختلف أهل الفرقة الثالثة في حدّها فقال بعضهم إنّها هي معرفة الجمل الظاهرة للحسّ التابعة لتمام الطبّ وقال بعضهم إنّها معرفة الجمل الظاهرة الموافقة لتمام الطبّ وقال قوم آخرون إنّها معرفة الجمل الظاهرة الموافقة
التابعة لتمام الطبّ وقال ثاسلس إنّها معرفة الجمل القريبة من تمام الطبّ التي لا بدّ منها فيه ضرورة.
وأصحاب التجارب وأصحاب الحيل يكرهون النظر في الأمر الذي لا يظهر للحسّ ويجتنبونه إلّا أنّ أصحاب التجارب يفعلون ذلك على أنّه أمر مجهول وأصحاب الحيل على أنّه أمر لا ينفع وأصحاب الحيل مخالفون لأصحاب التجارب في الحفظ وفي جهة الاستعفاء ممّا لا يظهر للحسّ والكراهة له ولأصحاب القياس في الأمر الظاهر للحسّ ولهما جميعاً من جهة أخرى أنّهم يحذفون أشياء يزعمون أنّه لا ينتفع بها وهي الأسباب والأسنان وأوقات السنة والبلدان والأعضاء الآلمة. ومع هذا أيضاً فإنّ أصحاب التجارب وأصحاب القياس متّفقون في العمل وذلك أنّهم يداوون بأشياء واحدة بأعيانها وهم يختلفون في الوجه الذي به تستخرج معرفة الأشياء التي بها يداوون من طريق أنّ أصحاب التجارب يريدون أن يستخرجوا ما يستخرجونه من ذلك بالرصد والحفظ وأصحاب القياس بالاستدلال. فأمّا أصحاب الحيل وأصحاب القياس فغير متّفقين لا في العمل لأنّهم لا ينظرون في الأسباب ولا في بنات الأركان ولا في الوجه الذي به تستخرج معرفة الأشياء التي بها تكون المداواة لأنّهم يهربون من الأمر الذي لا يظهر للحسّ.
ليس تخلو فرقة أصحاب الحيل من أحد أمرين إمّا أن تكون صادقة في دعواها فتكون صناعة الطبّ تنتفع
بها منفعة عظيمة إذا كانت يحذف منها ما هو فضل وما لا ينتفع به وإمّا أن تكون كاذبة في الدعوى فتكون مضرّتها لصناعة الطبّ مضرّة عظيمة إذ كانت تحذف الأشياء التي لا بدّ منها في الصناعة ضرورة.
(٨) شرح الباب الثامن من كتاب جالينوس في فرق الطبّ
النظر في الأمور والحكم عليها يكون على ضربين وذلك أنّ الأمور تختبر ويعرف حقّها من باطلها إمّا بالقياس إن كانت من الأمور المعقولة وإمّا بالحسّ إن كانت من الأمور المحسوسة. وجالينوس يستعمل في مناظرة أصحاب هذه الفرقة الثالثة هاهنا أوّلاً هذا الباب الثاني من بابي النظر وذلك أنّه أسهل على الداخلين في علم الطبّ وإنّ أهل هذه الفرقة أيضاً يقدّمونه ويؤثّرونه وأهل هذه الفرقة الثالثة يحذفون النظر في أمر الأسنان والنظر في أمر الأسباب ما كان منها من الأسباب البادئة وما كان منها من الأسباب السابقة وما كان منها من الأسباب الواصلة والنظر في أوقات السنة وفي البلدان وفي أعضاء البدن التي هي مختلفة لأنّ بعضها عصبيّة بمنزلة المعدة والرحم وبعضها عروقيّة بمنزلة اللسان وبعضها شريانيّة بمنزلة الرئة والطحال. فليكن النظر أوّلاً في أمر الأسباب والأسباب ثلثة البادئة والسابقة والواصلة وأصحاب القياس يطلبون معرفة هذه الثلثة كلّها وينظرون فيها وأصحاب التجارب يطلبون معرفة الأسباب البادئة من طريق أنّها ظاهرة للحسّ ولذلك رأى أن يجعل المناظرة بين صاحب التجربة وصاحب الحيل أوّلاً في هذه الأسباب
البادئة من طريق أنّها ظاهرة فأمّا الأسباب السابقة والأسباب الواصلة فليس ينظرون فيها ولا يطلبون معرفتها أصحاب التجارب من طريق أنّها لا تظهر للحسّ وأمّا أصحاب الحيل من طريق أنّها لا تنفع.
(٩) شرح الباب التاسع من كتاب جالينوس في فرق الطبّ
والسبب البادئ إمّا أن يكون سبباً لمرض من الأمراض المتشابهة الأجزاء بمنزلة ما تكون السمائم سبباً للحمّى وإمّا أن يكون سبباً لمرض من الأمراض الآليّة بمنزلة ما تكون الضربة سبباً للورم وإمّا أن تكون سبباً لتفرّق الاتّصال بمنزلة ما يكون السيف أو السهم أو نهشة الحيوان سبباً للقرحة ولأنّ الأمر في تفرّق الاتّصال أبين وأنّ حدوثه عن السبب البادئ ظاهر للحسّ بيّن أنّه متى لم يعرف هذا السبب البادئ ما هو لم يمكن أن يداوی تفرّق الاتّصال الحادث عنه مداواة تبرأ بها.
فأنزل أنّ إنساناً نهشه كلب كلب نهشة خرق بها موضعاً من بدنه وعرف أنّه كلب كلب من هذه العلامات الدالّة عليه وهي أنّ عينيه تكونان ناتئتين ولسانه يكون خارجاً عن فيه وذنبه يكون مسترخياً ويعطش ولا يشرب الماء. والذين ينهشهم كلب كلب يداوون كما يداوی سائر من ينهشه حيوان من الحيوانات الأخر ذوات السموم أمّا من خارج فبالأدوية الحادّة الجاذبة التي توضع على القرحة ممّا يوسّع ويفتح رأس القرحة ويجذب السمّ ويخرجه وأمّا من داخل فبالأشياء التي تفني السمّ وتخفّفه بمنزلة الترياق وما أشبهه لأنّ تفرّق الاتّصال إن كان حدوثه عن نهشة
حيوان ذي سمّ بمنزلة كلب كلب أو أفعى فهو يحتاج إلى أن يوسّع ويفتح وإن كان حدوثه عن سيف أو نار أو سهم غير مسموم فهو يحتاج إلى أن يلحم ويدمّل فقط وإذا كان الأمر في تفرّق الاتّصال على ما قد وصفت فقد علم منه أنّ النظر في أمر الأسباب البادئة ممّا ينتفع به إذا كانت المداواة تختلف وتتغيّر بحسب السبب واختلاف المداواة وتغيّرها يكون إمّا في مقدارها وإمّا في كيفيّتها وإمّا في جملة جنسها على ما وصفنا هاهنا فإنّا نداوي العلّة الواحدة بعينها إذا اختلف السبب الفاعل لها بمداواة مختلفة.
وقد نعلم أيضاً أنّ النظر في أمر الأسنان ممّا ينتفع به ممّا أصف: أقول إنّا إذا أردنا أن نفصد عرقاً لم نفصده لصبيّ صغير لأنّ الصبيّ الصغير بدنه يتحلّل سريعاً بسبب حرارته ورطوبته ولأنّ أكثر الدم ينصرف في نمائه وزيادة بدنه ولأنّ قوّته ضعيفة ولا نفصد العروق أيضاً لشيخ فانٍ لأنّ دمه قد قلّ وبدنه قد برد وجفّ وقوّته قد ضعفت وإنّما نفصد العرق لمن كان في عنفوان سنّ الشباب فقط لأنّ ليس فيه من الموانع التي في الصبيان وفي الشيوخ شيء إذ كان ليس هو مثل الصبيّ في سرعة تحلّل البدن وضعف القوّة وكثرة ما ينصرف من الدم في نماء بدنه ولا مثل الشيخ في قلّة الدم والبرد واليبس وضعف القوّة.
ونعلم أيضاً أنّ النظر في أمر البلدان ممّا ينتفع في هذا الوجه: أقول إنّ البلدان منها معتدل المزاج وما كان
كذلك فنحن نفصد فيه العرق في وقت الحاجة وبعضها شماليّ كثير البرد بمنزلة بلاد الصقالبة وما كان كذلك أيضاً فلسنا نفصد فيه العرق ومنها جنوبيّة تلتهب ناراً وما كان كذلك أيضاً فليس نفصد فيه العرق لكثرة ما يحلّله الهواء من البدن بحرارته بمنزلة ما يعرض ذلك في بلاد الحبشة.
ونعلم أيضاً أنّ النظر في أمر أعضاء البدن ممّا يحتاج إليه وينتفع به من هذا الوجه: أقول إنّ الورم الدمويّ يداوی بأشياء تختلف بحسب العضو الوارم فإن كان ذلك الورم في العين فدواؤه الأكحال وإن كان في الأذن فدواؤه خلّ الخمر ودهن الورد وإن كان في اللهاة فدواؤه ربّ التوت وإن كان في الساق فدواؤه الضماد وإن كان في البطن فالنطول بالدهن والماء الحارّ. وقد يتبيّن أيضاً أنّ النظر في أمر الأسباب ممّا يحتاج إليه وينتفع به من هذا المثال الذي أمثّله لك من الأمراض الآليّة وذلك أنّ الورم يكون إمّا من قبل نفسه أعني من غير سبب بادئ وإمّا من سبب بادئ وإذا كان من قبل نفسه فهو من سبب سابق وهو من امتلاء يكون في البدن وما كان من الورم كذلك فليس يحتاج إلى الأشياء المرخية دون أن يستفرغ البدن كلّه فأمّا من قبل ذلك فيحتاج إلى أشياء تقمع وتمنع وأمّا إذا كان من سبب بادئ بمنزلة ما يعرض من ضربة أو من صدمة فهو يحتاج منذ أوّل أمره إلى أشياء ترخي وتحلّل. والنظر على ما وصفنا بابان أحدهما من الحسّ وهو باب يشاكل ويوافق أصحاب التجارب وقد
نوظر به أصحاب الحيل عن لسان أصحاب التجارب والآخر من القياس وهو باب يوافق ويشاكل أصحاب القياس وصاحب القياس يناظر صاحب الحيل بهذه المناظرة هاهنا.
(١٠) شرح الباب العاشر من كتاب جالينوس في فرق الطبّ
إنّ أصحاب الحيل منهم قوم يقولون إنّ هذه الجمل تكون في نفس أعضاء البدن ومنهم قوم يقولون إنّها تكون في الأخلاط التي تحتوي عليها أعضاء البدن. فمن قال منهم إنّ هذه الجمل تكون في الأعضاء أنفسها فقوله ينتقض من أنّه بعد أن قال إنّ الجمل أشياء تظهر للحسّ قال إنّها موجودة في أجسام الأعضاء أنفسها وليس الأعضاء كلّها ظاهرة للحسّ بل إنّما يظهر منها للحسّ ما كان يلي ظاهر البدن وأمّا ما كان في باطن البدن مستوراً فليس هو بظاهر للحسّ وإذا لم يكن العضو ظاهراً للحسّ فما يحدث فيه أيضاً من هذه الجمل فليس بظاهر للحسّ. فأمّا من قال منهم بأنّ الجمل تحدث في الأخلاط التي تحتوي عليها الأعضاء وكأنّ يزعم أنّ الأمراض إنّما هي إفراط هذه الأخلاط في الاحتباس أو في الاستفراغ فقوله ينتقض من أنّه قد يعرض مراراً كثيرة من الاستفراغ مقدار يجاوز الاعتدال فلا يضرّ بل ينفع بمنزلة ما يكون ذلك في البحران.
الأشياء التي تستفرغ من البدن منها ما هو خارج عن الطبيعة في مقداره بمنزلة الثفل والبول والعرق والقيء إذا خرج من كلّ واحد منها مقدار مفرط ومنها ما هو خارج عن الطبيعة في كيفيّته بمنزلة الثفل الذي يكون كثير الرطوبة أو متشيّطاً محترقاً والبول إذا
كان أحمر أو أسود والعرق إذا كان بارداً له رائحة ومنها ما استفراغه خارج عن الطبيعة في جميع جهاته بمنزلة انفجار الدم لأنّ الدم ليس له في الطبع حدّ يستفرغ من البدن وقد نجده مراراً كثيرة يستفرغ فلا يكون ذلك سبباً للمرض بل سبباً للصحّة.
الأمعاء منها دقاق وهي ثلثة أحدها يقال له البوّاب والآخر يقال له الصائم وما بعد ذلك من سائر الاستدارات التي يقال لها جملة أمعاء دقاق وهي المصارين ومنها غلاظ وهي أيضاً ثلثة أحدها الأعور والآخر القولن والثالث المعاء المستقيم.
فإذا حدث بإنسان خلفة ثمّ قال أصحاب الحيل إنّ ذلك علّة من العلل الاسترساليّة أي الانبعاث قيل لهم إذا كان كذلك قد يمكن هذه العلّة الاسترساليّة أن تحدث في كلّ واحد من هذه الأمعاء التي ليس منها واحد يظهر للحسّ من أين تعلمون في أيّ هذه حدثت تلك العلّة وذلك أنّ من أراد أن يتعرّف علل الأعضاء الباطنة فإنّه يحتاج أن يكون عالماً بطبائع الأعضاء وبقوّة العلامات وبالنظر في أمر الأسطقسّات على مذهب أصحاب علم الطبائع وبالتشريح وبعلم المنطق فإنّ من هو عالم بالمنطق لا يغلط كما غلط أصحاب الحيل في الأسماء والصفات لكنّه يجعل بإزاء الرخو المتمدّد وبإزاء الليّن الصلب وبإزاء المتخلخل الكثيف وبإزاء الاستفراغ امتناع ما يستفرغ.
ومن كان عالماً بالأشياء التي ذكرناها قبل علماً جيّداً فهو يعلم أنّ الشيء الذي قد كان قبل استفراغه محتبساً في عضو من الأعضاء ثمّ استفرغ فإنّما يستفرغ بواحد من ستّة
أسباب إمّا لأنّه قد رقّ ولطف بمنزلة ما يعرض للنساء من النزف وإمّا لأنّه قد كثر بمنزلة ما يعرض للسكران القيء وإمّا لأنّ المجاري قد اتّسعت بمنزلة ما يعرض في الجماع وإمّا لأنّ شيئاً يجتذبه من داخل أو من خارج أمّا من داخل فبمنزلة واحد من الأعضاء إذا كان قد سخن وأمّا من خارج فبمنزلة الهواء الحارّ والدواء الحارّ وإمّا لأنّ القوّة الدافعة قد قويت بمنزلة ما يعرض لمن يشرب ماء بارداً في منتهی حمّاه فيعرق من ساعته وإمّا لأنّ القوّة الماسكة تضعف بمنزلة ما يعرض لمن يغشى عليه عندما يخرج منه الغائط.
ونعلم أيضاً أنّ احتباس ما كان يستفرغ إنّما يكون لستّة أسباب مخالفة لتلك إمّا لأنّه قد غلظ وإمّا لأنّه قد قلّ وإمّا لأنّ المجاري تكاثفت وإمّا لانّ ليس شيء يجذبه من داخل ولا من خارج وإمّا لأنّ القوّة الدافعة قد ضعفت وإمّا لأنّ القوّة الماسكة قد قويت.
الأعضاء منها ما هو سلس متخلخل وما كان كذلك فهو إذا انصبّ إليه من الموادّ شيء رشح منه الرقيق من تلك المادّة واحتبس الغليظ. وأصحاب الحيل يظنّون أنّ هذا هو علّة مركّبة بمنزلة ما يعرض ذلك في العين وفي الأنف وفي الفم ومنها ما هو كثيف لا مسامّ له وما كان كذلك فهو إذا انصبّت إليه مادّة لم يرشح ولم يجرِ منها شيء بمنزلة ما يعرض ذلك في الفخذ والعضد والساق. وأصحاب الحيل يغلطون ويقولون إنّ الورم الذي لا يرشح منه شيء هو مرض بسيط مفرد والورم الذي يرشح منه شيء هو مرض مركّب
ولا يعلمون أنّ الورم إذا حدث في عضو متخلخل أيضاً بمنزلة العيون إن كانت مادّته رقيقة رشح وجری منه بعضها وإن كانت غليظة لم يرشح ولم يجر منه شيء منها.
تمّت جوامع الإسكندرانيّين لكتاب جالينوس في فرق الطبّ وجمل معانيه مشروحة ملخّصة وللّه الحمد.