Aristotle: De anima (On the Soul)
Work
,
(Περὶ ψυχῆς)
English:
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator: anon.
Translated from: Greek
Date:
between 800 and 850
Source
ʿAbd al-Raḥmān Badawī. Arisṭūṭālīs fi l-nafs. "al-Ārāʾ al-ṭabīʿīyah" al-mansūb ilā Flūṭarḫas. "al-Ḥāss wa-l-maḥsūs" li-Ibn Rušd. "al-Nabāt" al-mansūb ilā Arisṭūṭālīs. Dirāsāt islāmīyah 16. Cairo (Maktabat al-nahḍah al-miṣrīyah) 1954, 3-88
Download
arist_deanima-transl-ar1.xml [214.19 KB]
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
هذا كتاب أرسطاطاليس وفص كلامه فى النفس ترجمة اسحق بن حنين
المقالة الأولى
١
〈دراسة النفس وأهميتها وصعوبتها〉
قال: إن المعرفة بالأشياء ذوات السناء والشرف؛ وقد يفضل بعضها بعضاً إما لاستقصاء النظر ولطافة المذهب، وإما لجليل فضل بعضها وأعجوبتها. فالواجب علينا تقديم خبر النفس من أجل هاتين الصورتين. وذلك أن المعرفة بها قد توافق كل حق، لاسيما العلم بالفرع، وذلك أنها كأولية للحيوان. — وطلبنا أن نفهم ونعلم طباعها وجوهرها أولاً، وبعد ذلك أن نعلم ما الأشياء العارضة لها، وأيها أعراض خاصتها، وأيها مشاعة بينها وبين الحيوان.
وعلى كل حال، إن إثبات الممتنع فيها لمن أشبه الأمور اعتياصاً، لأن هذه المطالبة، (أعنى المعرفة بالجوهر وما هو)، يعم أشياء كثيرة، وعسى أن يقول القائل إن التوصل إلى معرفة جميع ما نريد من علم الجواهر إنما يكون بمسلك واحد (كمسلك البرهان الشارح لنا حال أعراض الذات)، من أجل ذلك نطلب
هذا النظر. فانه إن لم يكن طريقاً واحداً فى معرفة آنية الشىء، فذلك أحرى أن يكون أعسر فى المخض والنظر، لأنا عند ذلك نحتاج أن نأخذ إلى كل مسلك مأخذاً على حياله. وإن كان هذا المسلك واضحاً نظرنا: أبرهان هو، أو قسمة، أو مسلك آخر غير هذين. وبعد فان فيه غموضاً كثيراً وغلطاً فى نفس الطلب كتعلم من أى من الأشياء ينبغى أن يكون: لأن أوائل الأشياء مختلفة، كمثل أوائل الأعداد وأوائل السطوح.
أولى ما يلزمنا من قسمة النفس أن نعلم فى أى الأجناس هى، وما جنسها: أجوهر أو كيفية أم كمية أم ضرب آخر من ضروب لنعوته التى قد جزئت. — وأيضاً من أى الأشياء هى: التى تعرف بالقوة، أومن الموجودات بالفعل؟ فان الفصل بين هذين ليس بصغير. — ولننظر أيضاً: هل النفس ذات أقسام، أم لا أقسام لها؟ 〈وهل النفوس كلها من نوع واحد أو ليست من نوع واحد〉؟ وهل فصل 〈ما بينها〉 بالصورة هو أم بالجنس؟: فان الذين تكلموا فى النفس وفحصوا عنها فى برهنتنا هذه لم يفحصوا إلا عن النفس الناطقة وحدها. — ونحن نمتنع من ذلك لئلا يذهب علينا إن كان المعنى فيها وفى غيرها بمعنى واحد جنسا كالمعنى فى الحيوان، أو إنما المعنى فيها معنى خاص مفرد كمعنى الانسان غير معنى الفرس، ومعنى الفرس غير معنى الكلب، 〈وغير معنى الإله؛ وفى هذه الحال الحيوان عامة إما أن يكون ليس بشىء، أو يكون متأخراً لاحقاً. والمسألة عينها توضع أيضاً بالنسبة إلى كل محمول مشترك نضعه〉. — وأيضاً إن تكن الأنفس كثيرة، أو إنما هى أجزاء نفس واحدة؟ فأى الأمرين ينبغى أن نقدم فى طلب الفحص عن النفس كلية أو عن أجزائها؟ وقد يصعب أيضاً تفصيل بعضها من بعض إلى أن نعلم أى
الأمرين ينبغى أن نقدم: الفحص عن الأجزاء أو عن أفعالها: كقول القائل ينبغى أن يقدم العقل أو إدراكنا به، ويقدم الجزء الحاس أو يقدم تفاعلنا به، فكذلك يلزمنا القول فيما بعد ذلك. — وإن كانت أعمال أجزاء أولى أن تقدم فى الفحص على غيرها، فجائز لسائل أن يسأل: أيها على اختلافها يقدم: المحسوس أم الحاس؟ والمعقول أم العاقل؟ العلم ببدء الشىء ومائيته معين على معرفة علل الأعراض العارضة فى جوهر (كالتى نرى فى الأشياءالتعليمية: فان العلم بما المستقيم من الخطوط والأعوج وما الخط والسطح معين على معرفة لكم قائمة تساوى زوايا المثلث)، والعلم بحد الشىء وبما هو ليس يعين على هذا فقط، بل يعين على المعرفة بنفس الأعراض، ومعرفة الأعراض جزء عظيم فى علم تحديد الشىء، لأنا إذا وجدنا السبيل إلى الاجابة فى الأعراض: إما عن كلها وإما عن أكثرها، على ما فى التوهم، فعند ذلك ما نجد السبيل إلا أن نقول قولا جيداً فى الجوهر. وما نحن قائلون فى ذلك أن ابتداء كل برهان إنما هو تحديد الشىء والمعرفة بماهيته؛ من أجل ذلك أى حدود لم تقدمها المعرفة بالأعراض، فليس يسهل أن نقيس عليها وإن كانت جميعاً بالاتفاق والهذر.
وقد تجد المسألة عن التغيير العارض للنفس لتعلم إن كانت جميع التغايير والآفات المغيرة لها شائعة بينها وبين ما هو لها، أم منها ما هو خاص للنفس؟ فنحن مضطرون إلى علم هذا، وإن لم يكن بسهل. وأكثر هذا التغيير لايظهر من النفس 〈أنها〉 فعلت أم ألمت بدون الجسد: مثل ما نرى من الغضب والشهوة، وبالجملة لا يكون الادراك بالحس بدون الجسم. كذلك الادراك بالعقل فانه يشبه أن يكون خاصاً بالنفس، إن كان عرض بضرب من ضروب التوهم أم لم يكن بغير توهم، فليس يمكن أن يكون دون
إنه سترة مانعة من أضرار الرياح والأمطار والحر والبرد. والآخر يحد المنزل فيقول بأنه تأليف من صخور ولبن وخشب؛ وهنالك حد آخر يقال بالصورة وما من أجله كانت الصورة. فمن 〈من〉 هؤلاء العالم بالأشياء الطبيعية؟ القائل بالهيولى، وهو جاهل بمعنى الكيفية وحده، أو القائل بمعنى الكيفية وحده؟ والجامع للأمرين جدير أن يكون أعلم بالأشياء الطبيعية. وأما المتقدمون فليس منهم أحد يدخل فى حده الأعراض المغيرة للهيولى لا الزائلة منها ولا اللازمة الثابتة، ما خلا حد الطبيعى فانه يأتى على جميع ما هو للجرم بما فيه من الكيفية وبما للهيولى من الأفعال والأعراض. وما لم يكن بهذه الحال من الجلوة فهو حد مثل صاحب الصناعة: طبيباً كان أو نجاراً، فانه لا يضع حده أحداً من الأجزاء. والرجل العلومى يحد الشىء بتوهم رفع أعراضه عنه التى هى لجرمه، والفيلسوف الأكبر يحد الشىء بمباينة الهيولى وتعريته إياه منها.
ولكن لنرجع إلى مخرج كلامنا أولاً: فقد قلنا إن التغيير العارض للنفس والآفات التى تغيرها ليست بمفارقة طينة الحيوان الطبيعية؛ والتغيير هو بالغضب والفزع وما أشبه ذلك وليس حال هذا التغيير من النفس بحال الخط والسطح من الجرم.
٢
〈مذاهب الناس فى النفس〉
فاذا نظرنا وفكرنا فى أمر النفس فواجب أن نحصر آراء القدماء وما رأوا فيها مع الفحص عما تجب المسألة فيه والاستعانة بمن قال فيها قولا قاطعاً، فنكون قد أخذنا جيد ما قيل حقاً فيها، واستدفعنا ما قيل على خلاف ذلك.
وأول الطلب إثبات ما لا يشك فيه أنه لازم لطباع النفس. فالفرق بين
ذى النفس وما لا نفس له فرقان: أحدهما بالحركة، والآخر بالحس. وهذان الشيئان أكثر ما أخذنا عن أسلافنا فى النفس.
وقد قال بعضهم إنه أحرى بالنفس أن تكون أول محرك. فلما ظنوا أن ما ليس بمتحرك لا يمكنه أن يحرك غيره، فانهم 〈قالوا〉 إن النفس بعض الأشياء المتحركة. ومن هاهنا قال ذومقراط إن النفس نار وشىء حار، وإن المفردات من الأشياء ذوى الأشكال لانهاية لكثرتها، وليس بين جميعها شىء مستدير كرى ما خلا النار والنفس مثله الهباء المنبث فى الجو الذى يستبين لنا بشعاع الشمس الداخل من الكوى — زعم ذومقراط أنه عنصر لجميع الطبائع (وبهذا القول كان يقول لوقيفوس). فما كان من هذا الهباء مستديراً فى شكله فذلك بزعمه نفس، من أنه [وما كان مثله] مداخلة الأجسام والنفوذ فى الأشياء وتحريكها؛ فظنوا أن هذا الهباء هو النفس معطية الحيوان الحركة، ولذلك وضعوا التنفس حد الحياة. لأن الجو المحدق بالجسوم يجمع الهباء فيدفع منه ما يمكنه الكسور أبداً فى اسطقسه المستدير فيعطى الحيوان الحركة، فالوارد منه معين على التنفس لما تقدم ومانع من أن ينقضى أو يخرج من الحيوان مع حبس جميعها، الجو حابس الجسوم ومجمدها. فالحياة قائمة ما أمكن الهباء أن يفعل هذا الفعل. — ويشبه أن يكون أشياع فيثاغورس أرادت هذا المعنى له: قال بعضهم إن النفس هو الهباء الظاهر فى الجو؛ وقال آخرون منهم إن محرك الهباء ضوء النفس. وقد أخبرنا لأية علة قالوا هذا القول فى الهباء. والعلة لهذه أن الهباء فى ظاهر أمره أبداً يتحرك، ولو كان همود من الريح أولاً. — وربما بهذا القول يقول من زعم أن النفس محركة
لنفسها لأن كلهم قالوا بأن الحركة أخص بالنفس وأن الأشياء إنما تتحرك من أجزاء النفس وهى حركة نفسها؛ وهذه حجتهم: زعموا أنهم لم يروا شيئا فاعلا إلا أن يكون أيضاً هو متحركاً. — وكذلك قال انكساغورس: زعم أن النفس هى الحركة، وغيره ممن قال إن العقل هو محرك الكل. إلا أنهم لم يحتموا حتم ذيمقراط فى قوله: النفس والعقل فى الحقيقة شىء واحد، وأن الظاهر من الأشياء هو الحق؛ ولذلك أحسن أوميرش فى شعره إذ قال: «إن اقطر متغير بالعقل» وقال ذيمقراط ليس يستعمل العقل كقوة من القوى فى إدراك الحق، ولكنه يقول إن النفس والعقل شىء واحد. أما أنكساغورس فقلما شرحه فى كلامه عن النفس والعقل، وذلك أنه فى مواضع كثيرة يزعم أن العقل علة إدراك حقائق الأشياء وصحتها، 〈و〉فى موضع آخر يزعم أن النفس والعقل شىء واحد وأن العقل موجود فى جميع الحيوان فى الأكابر منها والأصاغر والشريف والوضيع. وليس بيناً أن العقل، 〈وهو〉 إدراك مميز الأشياء ومفصلها، موجوداً بحال واحدة فى جميع الحيوان أو الناس.
والذين نظروا فى الحركة التى تكون من حيث الأنفس قالوا إن المحرك هو النفس، والذين نظروا فى معرفة ذوات الأنفس وإدراكها للأشياء بحسها قالوا إن الأوائل هى النفس: ومنهم من جعل هذه الأوائل كثرة، ومنهم من قال إن الأولية واحدة كمثل انبادقلس فانه يزعم أن الأولية واحدة من جميع العناصر، وأن كل عنصر نفس على حياله. وهذا قوله:
«تعرف الأرض بالأرض والماء بالماء
«والهواء بالهواء ، والنار بالنار.
«والمودة — هى الاتفاق — بمثلها، والغلبة — هو الفساد — بفساد ومهلك مثله».
ولذلك يقول أفلاطن فى كتابه إلى «طيماوس» إن النفس من العناصر، وإنما يعرف الشىء غيره بما فيه مما يشبه المعروف عنده، وإن الأشياء إنما تكون عن أوائلها، وكذلك فصل قوله فى الحيوان فى كتابه الذى وضع فى كلام الفلسفة فقال إن الحيوان الذى من صورة الطول الأول والعرض الأول والعمق الأول وسائر الأشياء على مثل هذا النحو. وقد قال أيضاً بجهة أخرى إن العقل فرد، وإن العلم اثنان متوحدان، وإن عدد السطح رأى، عدد الكيف حس. فالأعداد يقال إنها أوائل الأشياء وصورها هى من العناصر؛ والأشياء نقبض عليها إما بعقل، وإما بعلم، وإما بالرأى، وإما بحس، فصور الأشياء هذه الأعداد. — ولما كانت النفس محركة ذات معرفة جمع أقوام لهذين الأمرين وأثبتوا [فيهما فى] أنها عدد محرك نفسه. — وقد اختلف أقوام فى الأوائل: فى عددها، وخاصة الذين قالوا بالجسوم فانهم خالفوا على من قال من بين الحس، وخالف على هذين جميعاً الذين خلطوا الأمرين فجعلوا الأوائل منها. — فمنهم من قال إن الأولية واحدة، ومنهم من قال إنهن كثيرات، وألحقوا بهن القول فى النفس فظنوا على غير صحة أن المحرك للأشياء هو الطبائع الأوائل. — وكذلك ظن أقوام أن النفس نار، من أجل أنها دقيقة الأجزاء وحرية أن تكون من بين العناصر لا جسم لها، وأنها تحرك غيرها بالذات لا بالعرض. — فأما ذيمقراط فقد أثبت فى هذا إثباتاً غامضاً وقال: لو كانت النفس والعقل شيئاً واحداً؛ وهذا قوله: زعم أنها من الجسوم الأول التى لا قسمة لها، وأنها محركة من أجل
هيفن والذى أداهم إلى أن قالوا هذا القول ما رأوا من النطفة وحالها فى أنها أرطب جميع الأشياء؛ وبهذا كان يرد هيفن على من قال إن النفس دم، وكان يرى أن النطفة هى النفس الأول. — وقال آخرون إنها دم كما قال اقرطياس: والذى دعاهم أن قالوا هذا القول ظنهم بأن الحس أخص الأشياء بالنفس، وأنه لطباع الدم دون غيره. — وقد نصت الحكماء على جميع العناصر، ما خلا الأرض فانه لم يقل أحد منهم فيها قولا قاطعاً، بل زعموا أن الأرض من جميعها.
وجميعهم حدوا النفس بثلاثة أشياء: بحركة، وحس، وأنها ليست بجسم. وكل واحد من هذه الثلاثة يرفع إلى الأوائل. ومن أجل الذين حددوها بالمعرفة جعلوها: إما عنصر، وإما من العناصر. فقارب بعضهم بعضا بالقول ما خلا واحداً منهم، فانه زعم أن المثل يعرف بالمثل؛ فلما كانت النفس عارفة بجميع الأشياء، أثبتوا أنها من جميع الأوائل. — والذين زعموا أن العلة واحدة والعنصر واحد أثبتوا أن النفس شىء واحد: إما نار، وإما هواء. والذين قالوا إن الأوائل كثيرة جعلوا الأنفس هى أيضاً كثيرة — إلا أنكساغورس وحده فانه زعم أن العقل لا يألم، وليس تشترك سائر الأشياء فى شىء من حالاته ولم يقل، بعد أن وصفه بهذه الصفة، كيف يعرف الأمور ولأية علة صار عالماً بالأشياء، ولا اتضح لنا هذا مما قاله فيه. — والذين جعلوا فى الأوائل تضاداً قالوا إن النفس من أشياء متضادة. والذى قال منهم بأحد الأضداد: إما بحرارة، وإما ببرودة، أو بغير ذلك مما أشبهها أجرى كلامه على هذا المجرى: إذ أن النفس واحد منها. واتبعوا الأسماء فى تأويل معانيها: فقال الذين سموا النفس شيئاً حاراً إنها سميت بهذا من أجل أن الحياة والحركة من الحرارة، وعلى هذا دل اسم الحياة 〈ζῆν〉 باليونانية؛ والذين سموا النفس شيئا بارداً
زعموا أنها إنما سميت بهذا الاسم من أجل أن التنسم والتنفس إنما يكون بالبرودة، وتفسير اسم النفس 〈ψυχή〉 باليونانية: الشىء المبرد.
وهذا ما قال القائلون فى النفس مما أدى إلينا عنهم، وما أثبتوا من لعلل فيها.
٣
〈نقد نظرية النفس الحركة نفسها〉
فهلم فلننظر فى حركة النفس أولاً. فعسى أن يكون قول القائل فى أن جوهرها محرك نفسه أو محرك غيره كذباً، وليس كذباً فقط بل عمى أن لا يمكن أن تكون لها حركة.
وقد قيل أولاً إن المحرك الفاعل ليس بمضطر أن يكون متحركاً فى نفسه. — وكل متحرك إنما يتحرك على جهتين: إما بالذات، وإما بالعرض. وكل ما كان فى شىء متحركاً — وإنما حركته بسبب ذلك الشىء المحرك له — فحركته بالعرض، ومثل ذلك السائرون فى السفينة فان تحركهم فيها ليس بشبيه بحركة السفينة المحركة لهم، لأن السفينة تتحرك بذاتها، والسائرون فيها يتحركون بحركتها. وأعضاؤنا دليل على هذا: لأن المشى أبين الحركات بالأرجل وأن الناس إذا مشوا تحركوا بذاتهم، وركاب السفينة ليسوا يمشون وهم متحركون. — وإذا كان المتحرك على جهتين، هلم لننظر فى حركة النفس: أبذاتها تتحرك، أو إنما تصير إلى الحركة بغيرها؟ والحركات أربعة: حركة انتقال، واستحالة، واضمحلال، وحركة نماء؛ فالنفس إن تحركت فاما أن تتحرك بواحدة من هؤلاء الأربع حركات، وإما بأكثرها، وإما بجميعها. فان كانت حركتها ليست بالعرض فهى طبيعية. فان ثبت هذا فقد ثبت بحركتها المكان، لأن جميع هذه الحركات التى ذكرنا توجب المكان. — وإن كان جوهر النفس، وهو المحرك لها، فليس تحركها بالعرض كمثل ما نرى تحرك الأبيض وذى الأذرع
من الأشياء انتقاله وتزحزحه بجهة حركته التى هى له. فالنفس إذاً قد تحول عن جوهرها بذاتها، إذ لم تكن محركة نفسها بالعرض، وكانت حركة جوهرها بذات النفس ثابتة. — وقد قال بعض الناس إنها تحرك جرمها الذى هى فيه بمثل ما تتحرك هى بنفسها. وقد قال ذومقراط قولا مقارباً لقول فيلبس معلم هجاء الناس فانه زعم أن رجلا يقال له دادالس هيأ صنما من خشب للزهرة وكان يتحرك من ذاته من أجل ما صب فيه من الفضة المسبوكة (وهى الزئبق). 〈وكذلك يقول〉 ذومقراط إن الأجزاء المستديرة التى لا تتجزأ، من أجل أنها أبداً تتحرك، كذلك تجتذب الجرم وتحركه. ونحن نسأله فنقول: إذا كان هذا بعينه من النفس، أتفعل أيضاً سكوناً؟ والجواب يصعب فى الاخبار عن السكون كيف يكون منها. وعسى أن لا يمكن أن يقال فيه شىء، وذلك أن تحريك النفس للحيوان لا يكون من هذه الجهة ألبتة، وإنما يكون بضرب من ضروب الاختيار والعزم.
وقد قال أفلاطن فى كتابه إلى «طيماوس» عندما فحص الخبر عن طباع النفس إنها [إذا] تحرك الجرم بتحركها من أجل أنها مرابطة له ومقارنة. وإنما كونها من العناصر، وهى ذات أقسام كعدد التأليف، ولكى يكون لها حس طبيعى من التأليف، ولتتفق حركات الكل حنى الخالق خطها المستقيم [...] فجعله دائرة ثم قسم الدائرة الواحدة بدائرتين تلتقيان على قطبين، فقسم أحدهما بسبعة أفلاك فصير حركات الفلك حركات النفس. هذا 〈قول أفلاطن〉 — وقبل كل شىء فانه لا يصح قول القائل إن النفس جسم، لأنه إذا قال هذا القول ألزم نفس الكل معنى الجسم، ونفس الكل هو العقل الذى يسمى عقلا، وليس
غايات ونهاية. — وإذا كانت حركة العقل حركة دور غير منقطعة، فمدرك الشىء قد يدركه بعينه مراراً كثيرة. — والادراك بالعقل، بالسكون أشبه منه بالحركة، وكذلك السلوجسموس وهو القياس. فجميع المقدمات أشبه بالسكون منه بالحركة. وما كان يعسر أمره فلسنا به مغتبطين. فان كانت حركة النفس ليس من جوهرها، فحركتها خارجة من الطباع. — واختلاطها بالجرم يورثها وجعاً وأذى، إذ لا يمكنها التخلص منه، وليهرب 〈منه〉 العقل، كما جرى القول فى العادة ورآه الكثير، فلا يكون مع الجسم — خير له وأصلح لشأنه. — وتبقى علة السماء المحركة لها حركة الدور مجهولة غير معروفة، لأنه ليس جوهر النفس بعلة لحركة دورتها، ولكنها تتحرك هذه الحركة بالعرض . والجرم أيضاً ليس بعلة لحركة نفسه، بل النفس أحرى أن تكون علة حركة. ولا يمكن أن نقول إن هذه الحركة خير للنفس من غيرها، وإلا رجع القول على الخالق فقلنا: كان ينبغى لله عز وجل أن يجعل حركة النفس حركة دورة، لأن تحركها بهذه الجهة خير من أن تسكن، وأن تكون متحركة بهذه الجهة خير من غيرها.
ولكن إذا كان هذا ومثله من النظر 〈أجدر〉 بغير هذا القول، 〈فلندعه الآن〉. — وفى قول الأكثرين مما قالوا فى النفس 〈أمر〉 فظيع قبيح، لأنهم ضموا النفس إلى الجرم وأنزلوها منزلة من لم يحدوا له فى ذلك حداً، ولم يبينوا فى ذلك علة لم كان ذلك كذلك، مع أن هذا قد يكون بالاضطرار: وإنما الجسم والنفس من أجل اشتراكهما: بعضها يفعل وبعضها ينفعل، أحدهما محرك والآخر متحرك. وليس من هذين تثبت حجة من رأى هذا الرأى. ومنهم من قصد الخبر عن النفس وما هى ولم يحد حداً فى الجرم القابل للنفس، كالذى قال فيثاغورس وأصحابه من خرافاتهم فى أنه يمكن النفس الانتقال إلى أى جرم وافت من الأجرام، 〈وهذا باطل〉 فان كل شىء له شبح وصورة خاصية.
ومن قال بهذا القول كان مقارباً لقول قائل لو قال إن صناعة النجارة تستعمل آلة الزمير: ولا ينبغى للصناعة أن تتخذ إلا آلتها، فكذلك النفس: أن 〈لا〉 تستعمل إلا جرمها.
٤
〈نظرية النفس — تأليف، ونظرية النفس عدد محرك لذاته〉
وقد قيل فى النفس قول آخر قد أقنع الكثير من الناس، وليس [هو] يرون غيره مما قيل فيها والحجج لازمة له مثل ما يلزم أهل الخصومة فى مواضع الحكومة. وهذا قول من رأى هذا الرأى: زعموا أن النفس من التأليف، والتأليف إنما هو مزاج وتركيب من أشياء مختلفة؛ وكذلك الجرم مركب من أشياء مختلفة. — إلا أن التأليف معنى من المعانى أو تركيب أشياء قد خلطت. وليس يمكن النفس أن تكون أحد هذين. — وأيضاً ليس التحريك من التأليف بشىء، والجميع يخص النفس بهذا ويقول إنها محركة. وإنما يحسن أن يشبه التأليف بصحة البدن وبالفضائل التى تعرف بالأجسام، ولا يليق ذلك بالنفس. — وإنما يستبين ذلك جيداً وما فيه من الصعوبة إن أحد رام 〈جعل〉 تغير النفس العارض لها وما يظهر من أفعالها 〈قائماً〉 على التأليف.
وإذا قلنا تأليفاً فانما نقصد شيئين بالحقيقة: أحدهما الجسم الذى له حركة وضرب من ضروب الانتصاب، والآخر نريد به تركيب الأجسام التى إذا ألفت لم يمكنها أن تقبل بينها شيئاً من جنسها؛ ومعنى ذوى الخلط من الأشياء داخل فى هذا. وليس فى هذين شىء يليق بمعنى النفس. وقد يمكننا الفحص إمكاناً كثيراً عن تركيب أجزاء الجسم، لأن تراكيبها كثيرة فى عددها، كثيرة فى وجوهها: فأى تركيب ينبغى أن يظن بالعقل؟ وكيف ذلك، إلا أن نقول إن تركيبه من القوة الحاسة والقوة المشتهية؟ — وكذلك قد يغبى على الناظرين كيف يكون معنى 〈أن〉 الخلط نفس، فان معنى خلط العناصر
فى جزء اللحم وفى جزء العظم واحد؛ تم يعرض من ذلك أن يكون فى كلية الجرم أنفس كثيرة، إذ جميع الأعضاء من خلط العناصر، ومعنى خلطها تأليف ونفس.
وقد يمكن [من] أن نؤاخذ أنبادقلس بقوله إن كل واحد من الأعضاء له معنى من معانى الخلط، فنقول له: معنى التأليف هو النفس، أو النفس شىء آخر حال فى الأعضاء؟ ويسأل أيضاً أنبدقلس فيقال له: المودة التى قلت بها أهى علة الخلط كيفما كان الخلط، أو إنما هى علة للمحمود منه المقدر؟ وهذه العلة هى بمعنى الخلط أوهى شىء غير ذلك المعنى؟
هذه المعاضلات والمسائل تلزم من قال بهذا القول. وإن كانت النفس شيئاً غير معنى الخلط، فلم، مع فساد صورة اللحم، وتفسد صورة سائر أعضاء الحيوان؟ ومع هذا إن لم تكن نفس لكل واحد من الأعضاء، وليس لمعنى الخلط نفس، فما الذى يفسد عند مفارقة النفس؟
فقد استبان واتضح مما قد قيل إنه لا يمكن النفس أن تكون تأليفاً، ولا أن تتحرك حركة الدور، كما ذكرنا آنفاً. — 〈أما〉 أن تتحرك بالعرض، وأن تحرك نفسها: كذلك أنها تتحرك فى الشىء الذى هى فيه، وذلك يتحرك بتحريكها إياه، 〈فهذا ممكن〉؛ وليس يمكنها أن تكون متحركة حركة المكان بغير هذه الجهة. — وأحق الأشياء بمن عانى فى المسالة بأمرها وتحريكها النظر فى أحوالها عن الحزن والفرح، والاقدام والتخوف، والغضب والتفكر، والادراك بالحس، فقد نراها فى جميع هذه الأحوال، وبهذه الأحوال لها حركة غير مدفوعة. ولذلك يظن الظان أن النفس تتحرك فى هذه الأحوال. وليس ذلك باضطرار. لأنه، وإن كان الحزن والفرح والتفكر ضرباً من ضروب الحركات، وكل واحد منها بشىء متحرك، إلا أن المتحرك إذا حركته للنفس:
فالغضب والخوف يكونان بنمو القلب وانخفاضه، والتفكر أيضاً إما كهذين وإما شىء آخر، وبعض هذه الأعراض قد يكون بانتقال أشياء متحركة، وبعضها باستحالة وتغيير (فأما ما هى وكيف تكون — فذلك قول آخر)؛ وقول القائل إن النفس تغضب بمنزلة قول القائل إن النفس تنسج أو تبنى. وعسى أن يكون الأصلح ألا يقال إن النفس تفرح أو تتعلم أو تفكر، بل يقال: إن الانسان يفعل كل ذلك بالنفس، وليس ذلك لأن الحركة تصير اليها فتصير فيها، بل مرة تنتهى فتبلغها كمثل الحس الذى يؤدى اليها عن الأشياء، ومرة تكون الحركة منها إبتداءً مثل التذكر للشىء: فانه يكون منها: فاما بقى فيها فلم ينفذ إلى غيرها، وإما أتى على حركات الحواس فغيرها. — فأما العقل فيشبه أن يكون سبباً للنفس ثابتاً غير فاسد. ولو فسد لعرض ذلك له فى وقت الكبر. وإنما يعرض العارض كمثل ما يعرض فى الحواس. ولو كان للشيخ الكبير السن بصر جديد لأبصر كمثل ما يبصر الشاب. فالكبر هو العلة. وليس ذلك لأن النفس ألمت ألماً، بل إنما ألم الشىء الذى النفس فيه، كالذى ترى من حال الفكر والفهم فى أوقات الأمراض والسكر: فانهما يضعفان. وليس ذلك لفساد الشىء الذى داخل، فان ذلك لا يألم ولا يتغير. وليس التغير فى حد التفكر والود والبغضة أعراضاً لذلك، بل إنما هى أعراض للشىء والحامل الذى فيه من الجهة التى يحمله. ولذلك إذا فسد الحامل لم تذكر النفس ولم تود، لأن هذه الأحوال ليست لها، وإنما هى لحاملها التابع الذى إذا فسد أفسدها، فأما العقل فيظهر أنه روحانى لا يألم.
من هذا الكلام قد استبان لنا أنه لا يمكن النفس أن تكون متحركة، وإن كانت لا تتحرك ألبتة فلا شك أنها إن تحركت لم يكن ذلك من تلقائها.— ومن قال إن النفس عدد محرك نفسه فقوله أكثر جهلا ممن قال بالأقاويل التى
والنفس عدد نقط الجرم — إن كان هذا هكذا، فلم 〈لا〉 تكون نفس لجميع الأجرام؟ فجميعها ذوات نقط لا غاية لها. وأيضاً كيف يمكن النقط أن تباين الأجساد وأن تتبرأ منها، إلا أن تتجزأ الخطوط والنقط؟
٥
〈استمرار البحث فى نظرية النفس عدد محرك لذاته — نظرية النفس الحالة فى كل شىء. — وحدة النفس〉
ثم يعرض لنا ما قلنا من شركة من قال إن النفس جسم لطيف الأجزاء، أو لمن قال بقول ذيمقراط وأتباعه، لأنه إن كان النفس فى جميع الجسد الحاس 〈فمن〉 الاضطرار أن فيه جسمين، إن كانت النفس جسما؛ ويلزم القائلين إن النفس عدد إثبات نقط كثيرة فى نقطة واحدة، وأن لكل جسم نفساً، إلا أن يكون هناك عدد غير عدد النقط الموجودة فى الجرم. — ويعرض أيضاً من قولهم إن تحرك الحيوان لا يكون إلا من عدد، كالذى ذكرنا عن قول ذيمقراط، ولا فرق بين من قال إن المحرك للنفس أجسام صغيرة مستديرة، وبين من قال إن الآحاد العظيمة تحركها: لأن قائلى هذين القولين جميعاً يوجبان للحيوان التحرك بتحرك الآحاد والهباء المستدير. — هذا وكثير غيره من قبيح القول يعرض لمن أضاف الحركة إلى العدد، فزعم أنهما محركان للنفس. ومثل هذا القول لا يمكن أن يكون حداً للنفس، ولا حداً للعرض. وإنما يستبين ذلك متى طلب أحد استخراج علم أفعال النفس من هذا الحد أو علم الآفات المعترية لها كقولك: الفكر، والادراك بالحس، واللذاذة والحزن
وغير ذلك مما يشاكل هذا الضرب. وليس يسهل هذا ولا يسوغ ولو أردنا المعنى والقصد، كالذى قلنا.
والضروب التى يحدون النفس بها حدود ثلاثة: منهم من حدها فأثبت لها الحركة وأنها محركة نفسها؛ ومنهم من قال إنها جسم ألطف أجزاءً من سائر الحيوان. وقد تقدمنا فقلنا ما يلزم من قال بهذا القول من المسائل والمعاياة، وأخبرنا بما فى قوله من التناقض والاختلاف. وقد بقى علينا النظرفى القول الثالث، وهو قول من رأى أن النفس من العناصر. — لنعلم كيف قالوا هذا القول. والذى دعاهم، بزعمهم، إلى أن يقولوا هذا القول إثبات الادراك لها، ليكون إدراك الأشياء عاماً لكل واحد منها. وقد يعرض فى هذا القول بالاضطرار أشياء كثيرة غير ممكنة، وذلك أنهم وضعوا فى أصل كلامهم أن المثل يعرف بالمثل، فجعلوا النفس كأنها هى الأشياء؛ وليست الأشياء المعروفة عند النفس كل الأشياء ولا غيرها، بل هناك غيرها كثير وعسى أن تكون لا غاية لعددها. — فإن جعل النفس تعرف ما منه كانت وتحس بكل جزء منها؛ فجملة الأشياء: بماذا تعرفها وبماذا تحسها؟ كقولك: بأى شىء تعرف الله، أو الانسان، أو جزء اللحم، أو جزء العظم وما شاكل ذلك من ذوى التركيب؟ فان عناصر كل واحد من هذه لم يتواف على البحث أو كيفما جاء، إنما توافى وائتلف بقدر من أقدار التركيب، كما قال أنبادقلس فى العظم:
«إنه توافت ثمانية أجزاء لكونه: أربعة من النار
«واثنان من الأرض
واثنان من الهواء، فصارت العظام من أجل هذه بيضا».
فلا منفعة فى أن تكون العناصر فى النفس، إلا أن تكون فيما صوره الكائنة عنها عند تراكيبها. وإنما يعرف كل شىء مثله، فالعظم أو الانسان إذاً ليس
بشىء يعرف إلا أن يكونا فى النفس. ولسنا نحتاج فى أن هذا غيرممكن إلى كلام؛ فمن يراه يستجيز المسألة فى أن كان فى النفس حجراً أوإنساناً؟ وكذلك كان القول فى 〈الخير واللاخير، وفى〉 سائر ما هناك.
فلما كان الموجود الذى يسمى «هو» يقال بوجوه كثيرة (فمرةً يدل على آنية الشىء وجوهره، ومرة على الكمية، ومرة على الكيفية، أو على أحد النعوت التى جزئت) طلنا أن نعلم: أمن جميعها النفس، أو ليست من جميعها؟ والاسطقسات ليست اسطقسات لجميع الأشياء. وان كانت أصناف الجواهر إنما هى من هذه العناصر وحدها، فكيف تعرف الجواهر من سائر الأشياء؟ أوإنما يقولون إن لكل جنس عنصراً 〈ومبادئ〉 أولية خاصة، وعن هذه الأوائل والعناصر تكون النفس؟ لا محالة، إن كان هذا هكذا، أن النفس كيفية، وكمية، وجوهر. إلا أنه لا يمكن الجوهر أن يكون من عناصر الكمية فتبطل الكمية. لأن هذا وغيره يعرض فى كلام من قال إن النفس مع جميع الاسطقسات. — ومن القبيح أن يقال إن المثل لا يألم من مثله، وإنما يعرف الشىء بمثله، وهم مقرون بأن الادراك بالحس تحرك وانفعال، وكذلك الادراك بالفهم والمعرفة.
والذى نقول شاهد على أن الاعتياص كثير فى معاياة من قال بمثل قول أنبادقلس إن كل واحد من الأشياء إنما يعرف الأشياء بالعناصر ومما أشبهها فيه من المثل، لأن ما كان بالحقيقة فى أجرام الحيوان من الأرضية عظماً كان أو عقباً أو ظفراً فليس لها حس يدرك به شيئاً من الأشياء، وكذلك يجب ألا يحس بمثلها. — وبقوله ينبغى أن يكون أيضاً الجهل أكثر فى الأوائل من المعرفة، وذلك أن الواحد منهن إنما يعرف شيئاً واحداً ويجهل الكثير، من أجل أن الجميع من سائر الأشياء. 〈و〉يعرض فى قول أنبادقلس تجهيل الله، لأنه فرد أحد لا يقبل الفساد ولا يعرفه؛ ويعرف الموات جميع الأشياء لأنها عن
جميعها تكونت. — وفى الجملة، لأية علة لم يكن لجميع الأشياء نفس إذ كان كل شىء إما عنصراً، وإما عن عنصر واحد، أو من كثير، أو من الجميع؟ — فقد يجب لها بالاضطرار أن تعرف إما شيئاً واحداً، وإما أشياء، وإما جميع الأشياء. ويجوز لسائل أن يسأل: ما الذى يؤلف العناص؟ ويشبه أن يكون المؤلف للهيولى وممسك الشىء ما كان هو أشرف 〈و〉أفضل وأكرام. فأما النفس فليس يمكن أن يكون شىء أشرف منها رئاسة، وأحرى ألا يكون يكون فى الامكان شىء أفضل من العقل. ونحن 〈نقر〉 له أن يكون بالطباع مالكاً متقدماً. فأما العناصر فانها متقدمات على الأشياء.
وجميع من قال إن النفس عن العناصر كانت، من أجل معرفتها وإدراكها الأشياء بحسها ومن حدودها بالحركة، لم يقل هذا القول فى كل نفس، لأن كل ذى حس ليس بمتحرك، فقد نرى بعض الحيوان راتبة فى أماكنها؛ والنفس لا تحرك الحيوان من جميع الحركات إلا حركة الانتقال. وعلى هذا أجرى كلام من جعل العقل والحس من العناصر، ومن الظاهر أن النبات حى وليس له حركة انتقال ولا حس، ويرى كثير من الحيوان وليس له فكرة. ولو أضرب أحد عن هذه ثم جعل العقل جزءاً من النفس، وجعل القوة الحاسة كذلك، لما كان قوله قولا عن كل نفس: لا عن الكلية ولا عن الفردية. — وبهذا القول كان يقول أرفيوس، إذ زعم أن الرياح تحمل النفس من الكل فتصيرها إلى داخلها فى حال تنفسها. وليس يمكن أن يعرض هذا لذوات النبات، ولا لطائفة من الحيوان، لاسيما إذا لم يكن جميعها متنفساً، إلا أن هذا ذهب عن أصحاب هذا الرأى. — لكن ينبغى أيضاً للنفس إذا فعلت أن يكون فعلها من الاسقطسات، فليس بها حاجة إلى جميعها، ولا أن يكون فعلها من جميعها، فقد تقدم جزء واحد من المختلفة بالقضاء على نفسه وعلى ما خالفه، كالذى يعرف بالخط المستقيم، فانا نعرف بالخط المستقيم نفسه
والأعوج، وذلك أن المسطرة قاضية على الأمرين جميعاً؛ فأما الخط الأعوج فليس يقضى على نفسه ولا على الخط المستقيم.
وقد زعم أقوام أن النفس مخالط الكل؛ وأخلق بثاليس الحكيم أن يكون على ظنه بأن الكل مملوء روحانية عالية، من هذه الجهة. — ويلزم هذا القول مسائل عدة: منها أن يقول القائل لأية علة لم تقعل النفس التى فى الجو وفى النار حيواناً، وفعلت ذلك فى ذوى الخلط من الأشياء، وهى فى المبسوطة من الأشياء أفضل وأكرم؟ (وللطالب أن يطلب أيضاً فيقول: لم كانت النفس التى فى الجو أفضل من التى فى الحيوان وأشد بعداً من الموت؟). ويعرض للقولين جميعاً السماجة والفظاعة، لأن من قال إن الجو والنار حيوان فقد قال فظيعاً، ومن ترك إثبات الحيوان عند وجود النفس فقد فعل فعلا قبيحاً سمجاً. — وأخلق بهم أن يكون ظنهم بالنفس أنها فى النار وفى الجو، ومن أجل أنهما فى كلتيهما مساويان فى الصورة لأجزائهما، ولذلك اضطروا إلى أن قالوا إن النفس مساوية فى الصورة لأجزائها، إذ كان الجزء من الجو إذ صار فى الحيوان جعل الحيوان ذا نفس. فان كان الجو إذا تشرب وتفرق مساوياً فى صورته وليست النفس متسابهة الأجزاء، فهو بين أن بعضها موجود وبعضها غير موجود. ويلزمها بالاضطرار إما كانت متسابهة الأجزاء، وإما ألا تكون فى جزء من أجزاء الكل.
وقد استبان مما قيل أن المعرفة لم تصر للنفس من قبل العناصر، وأن من قال إنها متحركة لم يقل حقاً ولا صدقاً.
ولكن إذا كانت المعرفة والادراك بالحس والارتياء، والشهوة والارادة والأدب للنفس؛ ومنها حركة الانتقال فى الحيوان، ومنها الغذاء والنماء والضمور، فينبغى أن تعلم إن كان كل واحد من هذه لكلها أو لبعضها. إذا فهمنا 〈هذا〉، أفكلها يفهم ويحس ويتحرك ويفعل ويألم، أو بعض هذه
يكون بأجزاء من أجزائها، وغيرها بأجزاء أخر؟ وفى الحياة أيضاً نقول كذلك: أفى واحد من هذه الحياة، أو فى أكثرها، أو فى كلها، أو لها علة أخرى؟ — وقد قال أقوم إن النفس ذات أقسام، وإن الجزء الذى تدرك به [معرفة] الأشياء غير الجزء الذى يشتهى به. فما الممسك للنفس إن كانت ذات أجزاء أو أقسام؟ والجرم لا يفعل ذلك بها، بل النفس أحرى أن تكون ممسكة الجرم، وذلك أنها إذا خرجت عنه تحلل ففسد. فان كان الذى فعل النفس فرداً شىء غيرها، فذلك أحرى أن يكون نفساً. ثم يحتاج إلى الطلب ليعرف ذلك: أواحد هو أو شىء كثير الأجزاء؟ فان كان واحداً مفرداً، فلأية علة لم تجعل النفس واحدة مفردة؟ وإن كان ذا أقسام، فالطلب واجب إلى أن تعلم بالمحيط به الجامع له، ثم تذهب العقول على هذا المجرى إلى ما لا غاية له. وللسائل أن يسأل عن أجزاء النفس فيقول: أية قوة لكل واحدة من هذه التى ذكرنا فى الجرم؟ لأنه إن كانت النفس كلها ممسكة الجرم، فجائز أن تكون الأشياء تمسك شيئاً بعد شىء من الجرم. وهذا ما لا إمكان فيه: ولو أردنا أن نبدع فى ذلك قولا فنخبر كيف يمسك العقل جزءاً من أجزاء الجرم، اعتاص ذلك علينا أو لم نجد إليه سبيلا.
وقد نرى النبات (حيأ) بعد التجزئة، ونرى طائفة من الحيوان التى تسمى «انطوما» التى لا رئة لها إذا جرئت بقيت أجزاؤها أحياء حافظة النفس التى تصورتها وإن لم تكن قائمة على حيالها بالعدد، إلا أن الأجزاء لها حس وحركة انتقال إلى وقت من الزمان. ولكن إن لم يكن ذلك منها دائماً، فليس تبطل الحجة من أجل أنه ليس لها آلة حافظة طباعها ، ولا يمنع ذلك من أن تكون جميع أجزاء النفس فى كل واحد من أقسام ذلك الحيوان التى جزئت. والأجزاء مساوية بعضها بعضا فى الصورة ومساوية لكليتها، وإنها مساويات
بعضها بعضاً من أجل أنها ليست بمباينة ولا مفارقة، ومساواتها لكلية النفس من أجل أنها ذات أقسام. — والأولية التى للنبات والشجر تشبه أن تكون نفساً، لأن النامية والحيوان إنما يشركان بعضها بعضاً بهذه النفس فقط، إلا أن النفس الحاسة مفارقة لها؛ وليس لشىء من الأشياء حس بغير النفس النامية.
تمت المقالة الأولى من كتاب «النفس» لأرسطو والحمد لله وحده.
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
المقالة الثانية من كتاب النفس
١
〈حد النفس〉
قد قيل ما ذكر القدماء فى النفس مما تأدى إلينا فعلم أيضاً كأنا مبتدئون، ولزم أن نحد النفس ما هى، وما القول الجامع المستفيض فيها.
يزعم أن الجوهر جنس من أجناس الأشياء، وأن بعضه كهيولى غير قائم بنفسه ولا مشار إليه؛ وبعضه شبح وصورة بها يشار إلى الشىء فيقال: هذا! وثالث هذين المجموع منهما. فالهيولى قوة من القوى، والصورة هى انطلاخيا، يعنى التمام. وذلك على جهتين: أحدهما كعلم بوجود، والآخر كالتفكر.
والأجرام حق ما قيل إنها جواهر، ولاسيما الطبيعية منها، لأنها المتقدمة على غيرها. فمن الأجرام الطبيعية ما له حياة، ومنها ما ليس له حياة؛ وإنما تعنى «حياة» لما كان له بنفسه غذاء، ونماء ونقص. فكل جسم طبيعى حى فذلك لا محالة جوهر مركب. فلما كان الجرم نصفه كذا وكذا 〈أى أن فيه〉 حياة، لم يجب أن يكون نفساً، لأن الجرم ليس من المقولة على شىء موضوع، بل هو كموضوع وهيولى. فالنفس بالاضطرار جوهر كصورة جرم طبيعى له حياة بالقوة. والجوهر انطلاشياً. والانطلاشيا على جهتين:
أحدهما كعلم بوجود، لأن النوم واليقظة إنما يكونان بوجود النفس، واليقظة معادلة التفكر، والنوم معادل للجدة بغير فعل. والعلم من جهة الكون حرى من أن يكون مقدماً. من أجل ذلك صارت النفس انطلاشيا، وهو أول تمام جرم طبيعى ذى حياة بالقوة، والجرم له صفة كذا وكذا كقولك إنه آلى. وكذا 〈أجزاء〉 النبات آلات إلا أن آنيته مبسوطة، والورق أغطية ساترة قشور الثمار، والقشور أغطية للثمار؛ والأصول معادلة الأفواه، من أجل أن الأفواه والأصول يجذبان الغذاء كلاهما. — وإن كان ينبغى أن نقول قولا جامعاً مستقصى فى كل نفس، فالنفس انطلاشياً الأولى — أى أول تمام — جرم طبيعى آلى. — وليس ينبغى للطالب أن يطلب إن كانت النفس والجرم شيئاً واحداً، كما أنه لا ينبغى الطلب فى إن كان الموم وطبعته شيئاً واحداً، وكذلك لا ينبغى أن نسأل عن الهيولى وعما هى له إن كانا شيئاً واحداً. فالذى هو وأنه مقولان على جهات كثيرة، وأصحها معنى الانطلاشيا.
ففى الجملة قد قيل ما النفس وأنها الجوهر على ما فى الحد، والحد هو الدليل على ما هو الشىء فى آنيته، فانه فى جرم صفته كذا وكذا؛ كالذى يرى من الآلة، فانه ليس من الآلة شىء إلا وهو جرم طبيعى، كمثل المعول فان المعول من جهة هيولاه له آنية، وكذلك النفس. فمتى فارق المعول جوهره وطينته لم يكن معولا إلا بالاسم المشترك، وهو الساعة معول. فصفة الجرم بكذا وكذا ليست بدليلة على ما هو فى آنيته من الحد والنفس،
ولكن ذلك صفة شىء طبيعى له فى نفسه حال من الأحوال فى الحركة والوقوف.
وينبغى أن ننظر كيف يكون هذا فى الأجزاء، لأن العين التى نبصر بها لو كانت حيواناً كانت نفس الحيوان بصراً، لأن ما يجوز فى حد النفس هو دليل على جوهر العين، وإنما العين طينة البصر، متى ما بطلت هذه الطينة لم تكن عين ألبتة إلا باشتراك الاسم، مثل العين التى نقول إنها من حجر أو مصورة فى الحائط. وما قلنا فى الجزء ينبغى أن نقول به على كلية الجرم الحى: فكما أن الجزء يعادل الجزء، كذلك يعادل الحس جميع البدن المدرك بحسه.
وإذا نحن قلنا فى الشىء إنه ذو قوة ليحيا لم نعن شيئاً لا نفس له، بل نعنى بهذا القول ما له نفس. والبذر والثمر هما بالقوة جرم، فانه شىء ذو قوة. وكما أن القطع من القاطع والنظر من العين، كذا اليقظة انطلاشيا؛ والنفس هى مثل البصر والقوة التى هى فى الآلة؛ فأما الجرم فانه شىء ذو قوة. وكما أن الحدقة هى العين والبصر، كذلك النفس والجرم هما الحيوان.
فقد استبان أن النفس ليست مفارقة الجرم ولا شىء من أجزائها، وذلك أن انطلاشيا بعض الحيوان إنما يكون لأجزائها، ولم يستبن بعد إن كانت النفس انطلاشيا للجرم، مثل راكب السفينة.
ولكن يجعل أن النفس على المجاز بهذه الحال بجهة التمثيل.
٢
〈تعليل هذا الحد للنفس〉
والواضح من القول إنما كون من الغامض، والمشروح من المبهم، فلزم الكلام فى النفس أيضاً. فانه ينبغى للحد أن لا تكون فيه دلالة على آنية الشىء فقط دون أن يبين عن علته. وأما فى وقتنا هذا فان الكلام إنما هو كنتائج للحدود؛ وكأن سائلا سأل عن ذى الأربع زوايا: ما هو؟ فيقال له إن ذى الأربع زوايا هو المتساوى الطولين قائم الزوايا متساوى الأضلاع. وهذا الحد
هو النتيجة. وأما الحد الذى يقول إن تربيع الزوايا هو وجود الخط الواسطة، فانما يقول نفس العلة.
فنحن مبتدئون بالنظر وقائلون إن الحياة فصل بين ذى النفس وما لا نفس له. وضروب «الحياة» تقال بجهات كثيرة، ولو لم يحضر الشىء منها غير واحد لقلنا إنه حى: وهذه ضروب الحياة: الادراك بالعقل، والادراك بالحس، وحركة الانتقال والوقوف، وحركة الغذاء والنماء والاضمحلال. — وكذلك نرى حياة كل ذى حياة: فقد ظهر للعيان أن للنامية قوى بها تغتذى وبها تضمر فى أما كنها المختلفة. وذلك أن نماءها لا يكون إلى 〈ناحية〉 العلو فقط دون أن يكون إلى ناحية السفل، بل ينمو من الجهتين جميعاً ويغتذى من كل ناحية فتبقى أحياء إلى آخر منتهاها ما كانت بها طاقة لاجتذاب الغذاء. — وهذا الضرب من الحياة قد يمكن مفارقته سائر الضروب، ولا يمكن غيره مفارقته. وهذا ظاهر فى ذى النماء، لأنه ليس فيها قوة واحدة إلا قوة نفس.
فذوو الحياة إنما تحيا من أجل هذه الأولية فيهم. وأما الحيوان فانه يقدم على غيره من الأحياء من أجل حسه. وأما التى لا تتحرك ولا تنتقل عن أماكنها بعد أن يكون لها حس نزعم أنها حيوان ولا نكتفى فى أن نسميها أحياء. واللمس أول ما يكون فى ذوى الأنفس من الحس. وكما أن القوة الغاذية قد يمكنها مفارقة قوة اللمس ومفارقة كل ضرب من ضروب الحس، كذلك يمكن قوة اللمس مفارقة سائر الحواس. وإنما نريد بالقوة الغاذية جزء النفس الموجود فى ذى النماء. وأما الحيوان فظاهر أن لجميعه حس اللمس. وسنخبر أخيراً لأية علة كان هذا هكذا.
وأما الآن فانما نقول بقدر ما يثبت أن النفس أولية لجميع ما ذكرنا، وأنها محدودة بالقوة والحس والتفكر والحركة. ولكن لننظر: هل لكل واحد من هذه
التى ذكرنا نفس على حيالها، أو إنما هو جزء نفس؟ وإن كان جزءاً: أمفارق هو بالوهم، أو مفارق بالمكان؟ فالقول فى بعض هذة ليس بعسر، وفى بعضها فيه صعوبة وغموض. وكما أن بعض النامية قد نراها أيضاً بعد أن تتصل ويفارق بعضها بعضا (من أجل أن النفس التى فى أجزائها نفس واحدة، بمعنى الانطلاشيا التى هى تمام لجميعها، وهى أيضاً بمعنى القوة أنفس كثيرة)، فكذلك نراه يعرض فى الفصل الآخر من فصول أنفس الحيوان الذى يسمى أنطوما، فان هذا الضرب من الحيوان إذا قطع فصار أقساماً رأينا لكل جزء من أجزائه حساً وحركة انفعال؛ وإذا كان له حس ففيه توهم وشهوة، لأنه حيثما كان الحس فهناك 〈ألم و〉لذة، وإذن وحيثما كان هذان فهناك بالاضطرار شهوة. — فأما العقل والقوة والتفكر فلم يستبن عنهما شىء بعد. ولكن فى الامكان يشبه أن تكون هذه النفس جنساً آخر، كما أن جنس الأزلى جنس غير جنس الفاسد، وإنه يمكن أن تكون هذه النفس من بين الأشياء مفارقة الأجرام. — وقد استبان من هذه التى ذكرنا أن سائر أجزاء النفس ليست بمفارقة كما قال أقوام؛ وأما أن يكون كل جزء منها غير الآخر بمعنى من المعانى فذلك بين. وذلك أن بعضها حساس، وبعضها مرو، والفرق بين هذين بين، وكذلك سائر ما قيل منها: الواحد غير الآخر. — ينبغى أن نعلم أنا قد نجد جميعها فى بعض الحيوان، ونجد الواحد منها فى طائفة من الحيوان (وهذا الذى يجعل الفصل بين الحيوان). وسننظر أخيراً لأية علة كان هذا هكذا. وقد يعرض أيضاً فى الحواس شىء مقارب هذا، لأنه قد تكون جميع الحواس فى بعض الحيوان، ويكون فى بعضها أكثرها، وفى طائفة لا يكون منها شىء، ما خلا حس اللمس، الذى يكون الحيوان إليه مضطراً.
فاذا كان «الذى به نحيا ونحس» مقولاً على جهتين، كمثل ما يقال بجهتين الشىء الذى به نعلم، فانا نزعم أن الذى به نعلم إما كان علماً، وإما نفساً (فنحن نعلم بالأمرين جميعاً)؛ وكذلك يقال: «الشىء الذى به تصح أبداننا» إما قيل الصحة وإما عضو من أعضاء النفس، فالعلم والصحة شبح وصورة ومعنى، كقول القائل إن فعل الأشياء قابلة التعليم والتصحيح (وإنما يبدو الفعل من الفاعل فى قابل الفعل الذى يألم به فيصير له حال من الأحوال)؛ والنفس فى هذا الذى نحيا 〈به〉 ونحس ونتفكر ابتداء؛ لذلك وجب أن تكون معنى من المعانى، لا كالهيولى ولا كالشىء الموضوع. — فقد أخبرنا أن الجوهر مقول على ثلاثة أوجه: أحدها الصورة ، والآخر الهيولى، وثالثة المجموع منهما؛ وأن الهيولى قوة من القوى، وأن الصورة انطلاشيا، والذى منهما هو: ذو النفس، وأن الجرم ليس تمام النفس؛ ولذلك لن يقع عليه معنى الانطلاشيا، بل النفس انطلاشيا جرم بصفة كذا وكذا. من أجل ذلك أحسن من رأى أن النفس لا تكون بغير جرم، وأنها ليس بجرم، إلا أنها شىء من جرم. ولذلك صارت فى جرم بصفة كذا وكذا، لا كالذى قال القدماء، إذ ضموها إلى الجرم، ثم لم يحدوا أى جرم هو ولا كيف حاله مع ما نرى فى الظاهر من الأشياء أن الشىء لا يقبل ما عارضه من الأشياء على البخت أو كيفما هو، لا أن يكون ذلك على معنى موافقة وملائمة: لأن انطلاشيا كل واحد من الأشياء لا يكون إلا لما فيه من قوة لقبول تلك الانطلاشيا، بأن كان فى هيولى ذلك الشىء 〈تهيؤ〉 لقبولها. — فقد استبان من هذه الأقاويل أن الشىء ذا القوة الموصوف بصفة كذا وكذا له انطلاشيا واحدة.
٣
〈قوى النفس فى مختلف الكائنات الحية〉
فأما قوى النفس التى قيلت فجميعها موجودة فى بعض الحيوان كما قلنا؛ وبعضها موجود فى بعضه، 〈و〉لسنا نجد فى طائفة منه غير واحدة من هذه القوى. وإذا قلنا قوى فانما نعنى: القوة الغاذية، والحساسة، 〈و〉المشتهية، والمحركة بالانتقال عن الأماكن، والمفكرة. — فلذى النمو قوة غاذية فقط، ولغيره قوة الحس مع قوة الغذاء. وما كانت له قوة حس ففيه قوة شهوة، وذلك أن الحاسة هى الشهوة والغضب والارادة؛ وقد يجمع جميع الحيوان ضرب واحد من الحس، وهو اللمس، وكل ما كان له حس فله لذة وعليه أذى وله قوة ملذ ومؤذية؛ وما كانت له قوة ملذة فلا محالة أن له شهوة، والشهوة شهوة شىء ملذ. — وأيضاً فى الحيوان حس الغذاء، وذلك أن اللمس هو حس الغذاء. والحيوان يغتذى باليابس من الأشياء والرطب والحار والبارد، والحس المدرك لذلك ليس هو غير حس اللمس، وإدراك حس اللمس سائر الأشياء المحسوسة إنما يكون منه بالعرض، وذلك أن القرع فى الهواء وألوان الأجرام ليس لها معنى فى الغذاء، وكذلك أيضاً حال الرائحة. فأما الكيموس فانه واحد من الأشياء المدركة باللمس. والجوع والعطش هما شهوة: أما الجوع فشهوة داعية إلى شىء حار ويابس، أما العطش فشهوة داعية إلى شىء بارد ورطب؛ والكيموس كأنه هذه. وسنوضح القول عن جميعها أخيراً. — فأما الآن فى وقتنا هذا فانا نقصد القول بقدر ما يثبت أن ما كان من الحيوان ذا لمس فله أرب وشهوة. وأما التوهم فلم يستبن لنا الأمر فيه بعد، وسنظر فيه أخيراً. — وقد نجد فى بعض الحيوان مع القوى التى ذكرنا
حركة الانتقال، ونجد فى الناس العقل والتفكر وغير ذلك مما يشبه أن يكون أكرم وأشرف.
وقد استبان أن القول فى النفس وفى الأشاكيم قول واحد، لأنه ليس هناك اشكيم غير اشكيم المثلثة وما بعدها، ولاها هنا نفس غير الأنفس التى قيلت، فالقول فى الأشاكيم شائع ملائم لجميعها غير خاص بواحد منها. وكذلك القول فى الأنفس التى ذكرنا. من أجل ذاك إن نحن قلنا هذا القول الشائع فى هذه وفى غيرها وهو قول ليس يختص بشىء من الأشياء — لا على ما يليق به من معناه الأعلى، ولا على صورة انفراده، فمتى أضربنا عن هذا قلنا بذاك الشائع — كنا أهلاً ليهزأ بنا. والقول فى الأشاكيم وفى النفس يقارب بعضه بعضا، لأن الأولى أبداً من الأشكيم من ذوى الأنفس موجود بالقوة فيما يليه من بعده، كقولك إن المثلثة موجودة فى المربعة، والقوة الغاذية موجودة فى ذوى الحس. من أجل ذلك لنطلب نفس كل واحد من الأشياء لنعلم ما نفس النبات وما نفس الانسان، وما نفس البهيمة. — ولننظر لأية علة كانت الأنفس على التوالى بهذه الحال. فان الشىء الحاس لا يكون بغير قوة غاذية، وقد تكون القوة الغاذية فى ذوى النبت مفارقة لقوة الحس. وأيضاً لا يكون شىء من الحواس بغير القوة اللامسة، وقد تكون القوة اللامسة موجودة بغيرها من الحواس؛ ومن ذوى الحس ما له حركة انتقال، ومنه ما ليس له هذه الحركة. وآخر ذوى الحس فى المرتبة وأجلها ذوات الفكر والظن، لما كان ما له فكر من ذوى الفساد موجوداً فيه جميع ما ذكر من القوى، وليس الفكر فى جميع ما ذكرنا بهذه القوى، بل بعضها ليس له توهم، وبعضها إنما معنى حباته بالتوهم وحده. وأما القول فى العقل البحاثة النظار فهو قول غير هذا.
وقد استبان أن القول الذى قلناه لائق بالنفس وكل واحد مما ذكرنا.
٤
〈فى القوة الغاذية〉
ومن أراد أن ينظر فيما قلنا فهو مضطر إلى أن يعلم ما واحد 〈واحد〉 منها، ثم يطلب بعد ذلك ما يتلوها وما خلف ذاك من سائر الأشياء. وينبغى أن نعرف ما كل واحد منها لنعلم ما الحاس وما الغاذى مع تقدمنا أولاً معرفة ما الذى يفهم، وما الذى يحس فان الأعمال والأفعال متقدمة فى الحد القوى؛ وأخرى تقدم على ما كان مخالفاً لها، ويجب النظر أيضاً فيما خالفها، فمن أجل هذه العلة أولى ما نفصل فيه القول أولا: الغذاء، والشىء المحسوس، والمعقول. فلنقل أولاً فى الغذاء والتولد.
فان النفس الغاذية هى أول ما يوجد فى سائر الأشياء، وهى قوة شائعة بها يحيا الجميع. وعملها التوليد واستعمال الغذاء. وأحق أعمال الحيوان بالطبيعة إذا كان الحيوان بالغاً كاملا غير منقوص وليس كونه منه وبه أن يلد آخر مثله، كقول القائل: الحيوان يلد حيواناً، والنبات نباتاً مثله لتشرك الأبدى الروحانى بقدر طاقتها. فان كل شىء له يتشوق 〈و〉إياه يريد، وكل ما فعله فاعل بالطباع فمن أجله يفعله. ومعنى «من أجل» على جهتين: إحداهما له، والأخرى فيه. فلما لم يكن للفاعل الطبيعى أن يشرك الأبدى الروحانى باتصال البقاء، من أجل أنه ليس فى طباع ذوى الفساد البقاء على انفراد الوحدانية، فيكون الشىء باقياً بعينة وشخصه — صار كل واحد من لأشياء إلى مشاركته من حيث استطاع وأمكنه: فبعض أكثر، وبعض أقل؛
فالشىء كأنه هو الباقى، وليس هو الباقى بعينه فى العدد، إلا أنه داخل فى معنى توحد الصورة.
والنفس علة الجرم الحى. وهذا قول متصرف على أوجه: لأن النفس «علة» على الثلاثة الأنحاء التى ذكرنا آنفاً؛ وذلك أنها علة ابتداء الحركة، ومن أجل ذلك كان الجرم، وهى جوهر الأجسام ذوى الأنفس. — ومن الظاهر أنها علة كجوهر من الجواهر، لأن الجوهر علة آنية جميع الأشياء، وماهية الآنية تثبت معنى الحياة للحيوان، والنفس علة الحيوان. أيضاً الانطلاشيا هى بمعنى الشىء ذى القوة [الفاسدة]، والنفس هى انطلاشيا الجرم ذى القوة. — وكذلك الأمر بين فى أنه علة الشىء الذى من أجله كان الجرم. وكما أن العقل لا يعقل شيئاً بغير علة، كذلك الطباع لا يعقل شيئاً بغير علة، وتلك العلة هى غايته. وهكذا حال النفس فى الحيوان، لأن جميع الأجرام الطبيعة هى آلة النفس، وكما أن هذا موجود فى الحيوان كذلك نجده فى النبات، لأن النبات إنما كان من أجل النفس النامية. وقد أخبرنا أن لفظة «من أجل» مقولة على جهتين. — وأيضاً إن الذى منه كان ابتداء حركة المكان ذاك نفس؛ وليس هذه القوة موجودة فى جميع الحيوان. وبالنفس تكون الاستحالة والتربية، لأن الحس إنما هو ضرب من ضروب الاستحالة، وليس يحس ما لا نفس له. وعلى هذا المعنى يجرى القول فى الزيادة والنقصان، لأنه لا يزيد شىء ولا ينقض إلا أن يكون مغتذياً بالطباع، وليس يجب الغذاء لشىء إلا أن تشارك 〈فى〉 معنى الحياة.
وقد قال فى ذلك أنبادقلس قولا فلم يحسن: زعم أن النبات إنما يزداد تربية من ناحية العمق من أجل أن فى طباع الأرض الهبوط إلى السفل، وكذلك تكون الزيادة فيها إلى ناحية العلو من أجل أن الطباع فى النار يجذبها فى العلو. فتأول ولم يحسن التأويل فى العلو والسفل، لأنهما ليسا بحالة واحدة فى جميع النامية، وإنما أصول الشجر بمنزلة رأس الحيوان، والآلة وإن اختلفت فالعمل يجمعها. ومع هذا للسائل أن يسأل فيقول: ما الذى يحبس النار والأرض من ألا يذهبا على مجراهما؟ فانه إن لم يكن لهما حابس تشذبتا وتفرقتا. وإن كان هناك حابس فذلك هو النفس، وهو علة الغذاء والتربية.
وقد ظن أقوام أن طباع النار علة الغذاء، لأن النار فى ظاهر أمرها تغتذى من بين الجسوم والعناصر وتربو؛ لذلك جاز للظان أن يظن أن هذا من فعلها فى النامية والحيوان. — وإنما النار مع علة الغذاء ليست بنفسها علة الغذاء، بل النفس علة ذلك. والنار، ما أمكنتها الهيولى، كانت زيادتها لا غاية لها؛ وجميع ما ينميه الطباع له غاية معروفة، ولعظمه وتربيته حد من الحدود. وهذا من فعل النفس وليس من فعل النار، ولعله كان 〈من الصورة، لا〉 من الهيولى.
فلما كانت قوة هذه النفس قوة غاذية مولدة، وجب بالاضطرار أن يكون أول ما نحدد الكلام فى الغذاء، من أجل أن انفصال هذه القوة من سائر القوى لا يكون بهذا العمل الذى هو الغذاء. وقد رأى أقوام أن الغذاء إنما يكون من الضد إلى الضد، إلا أن ذلك ليس يكون فى كل شىء ما خلا الأضداد التى يكون بعضها من بعض — وقد بينتها — كذلك قد تكون أشياء كثيرة من أضداد، وليس جميع الأشياء هكذا: من ذلك أنه يكون صحيح من سقيم. والأشياء التى زعموا أنها تغتذى بالتضاد ليس يظهر أنه يغذو بعضها
بعضاً بنوع واحد، وذلك أنا نرى الماء غذاء للنار، ولا تغذو النار الماء. وحرى أن يكون هذا فى الأجرام المبسوطة فيصير بعضها غذاء، وبعضها يغتذى. — فهذا القول مسئلة معاناة، لأن بعض الناس رأى أن المثل يغذو المثل ويربيه. ورأى آخرون — كما ذكرنا — خلاف ذلك أن الضد يغذو الضد، وهذه حجهم: زعموا أن المثل لا يألم من مثله، وأن الغذاء لا يكون إلا بالاستحالة، والنضج والاستحالة لا يكون من ضد إلى ضده أو إلى واسطة بين هذين. وأيضاً أن الغذاء قد يألم من الشىء المغتذى به، وليس ذلك من قبل الغذاء، كما أن النجار لا يألم من الخشب، بل الخشب الذى يألم من النجار، وأما النجار فانه يستحيل من لا فعل إلى فعل. — وينبغى أن نعلم ما الغذاء: هل الغذاء آخر ما فيه الزائد فى البدن؟ أم الأول منه هو الغذاء؟ فان 〈بين〉 هذين فصلاً. وإن كانا جميعاً غذاء، وأحدهما ليس ينضج والآخر نضج، يمكن أن يسميا كلاهما غذاء: إلا أن الذى لم ينضج هو الذى يغذى الضد، والنضج منهما هو المثل الذى يغذو مثله. وبهذا اتضح ما قال الفريقان من صواب وغير صواب. فاذا لم يكن شىء يغتذى، ما خلا ذا الحياة، فلا محالة أن الجرم ذا الحياة الذى يغتذى، وأن الغذاء لذى النفس لا بالعرض.
ولهذا معنى غير معنى المربى، فأحدهما من جهة الكمية صار مربياً ذا نفس، والآخر من أنه جوهر صار غذاءً، من أجل أنه يحفظ الجوهر قائماً ما كان مغتذياً به. ثم يفعل توليداً: ليس الذى كان يغتذى به، بل مثل الذى ينال الغذاء: وليس شىء يلد نفسه، ولكنه يحفظها لذلك. فيجب أن يكون بدء هذه النفس قوة يمكنها حفظ ما هى فيه، والغذاء معين له على الفعل، من أجل أنه إذا عدم الغذاء بطل كونه. — فلما كانت ثلاثة عدداً: المغتذى، والغاذى، والذى يغتذى به قابل الغذاء؛ وكانت النفس الشىء الغاذى، وكان المغتذى حاملها وهو الجرم، وكان الذى يغتذى
به نفس الطعم، صار أول ما سميت به الأشياء التسمية من غايات أفعالها. وغاية فعل هذه النفس أن تولد مثلها. ولذلك وجب أن تكون النفس الأولى فى المرتبة النفس المولدة مثلها. — وأما «الذى يغذو البدن» فهو على جهتين، كما أن سائس السفينة إنما يسوسها بشيئين: أحدهما يده، والآخر سكانه. فأحدهما فاعل ومفعول به جميعاً، وآخر فاعل فقط وباضطرار أن كان كل غذاء فيه إمكان للنضج، وفاعل النضج الحرارة: من أجل ذلك وجبت الحرارة لكل ذى نفس.
فقد قيل بالجليل من القول ما الغذاء. وسنوضح القول فيه أخيراً إذا صرنا إلى الكلام الخاص به.
٥
〈القوة الحاسة〉
فإذ قد فصلنا ما قلنا فى هذه وشبهها، فهلم لنقول قولا جامعاً فى كل حس. وقد أخبرنا أن الحس إنما يكون إذا ألم وتحرك بالانفعال، وذلك أنه ضرب من ضروب الاستحالة. وقد قال أقوام إن المثل يألم من مثله؛ وقد قيل كيف ذلك 〈يمكن〉 أو لا يمكن، ولا سيما فى جوامع الكلام قد قلنا عن الفعل والانفعال. ولسنا بقائلين عنهما شيئاً واحداً فى وقتنا هذا. — ولنا فى الحواس مسألة: لم كانت لا تحس أنفسها، ولم لا تفعل حساً بغير وارد يرد عليها من خارج، إذ كان فيها نار وأرض وسائر العناصر التى عنها يكون الحس بذاته، أو بما عرض له؟ وهذا دليل على أن المدرك بالحس ليس هو حارس المدرك له إلا بالقوة وحدها، لا بالفعل. ولذلك لا يحس منه مثل الشىء المحترق، فان
المحترق لا يحترق فى نفسه دون المحرق له: ولو كان يحرق نفسه لقد كان ناراً بالفعل ولم يكن ليحتاج إلى غيره. — والإدراك بالحس مقول على جهتين: (وذلك أنا نقول إن البصير والسميع بالقوة هما بصيران سميعان ولو كانا قائمين) والحس الفاعل أيضاً مفعول على جهتين: إحداهما بالقوة، والأخرى بالفعل.
فلنقل أولاً إن التحرك والتألم، والفعل الذى لم يصل إليه — شىء واحد؛ وقد قيل فى غير هذا الموضع إن الحركة فعل، إلا أنه ناقص. وإنما يألم كل شىء ويتحرك بقعل يبدو من الفاعل فيصل إليه. لذلك قد يكون الشىء يألم من مثله، ويكون شىء يألم من غير مثله، كالذى ذكرنا آنفاً. وإنما يألم الشىء ما كان فى نفسه غير مثل، فاذا وصل إليه التغير فألم، عند ذلك يصير مثلا.
ولنقسم أيضاً القوة والفعل، ولنقل فى وقتنا فى هذا [فيها] قولا مجملا. يزعم أن الإنسان من ذوات العلم وممن يتخذ العلم؛ ونقول إن الذى يحسن النحو ذلك «عالم». وليس حال كل واحد من هذين فى التمكين من العلم بحال واحدة، لأن أحدهما إنما قيل «عالم» كجنس من الأجناس وكهيولى، وأنه إذا أراد أمكنه النظر، إلا أن يعوقه عائق من النوائب العارضة له من خارج. والآخر إنما قيل «عالم» كمن قد نظر نظر العقل فعلم بالحقيقة أن هذا الحرف المشار إليه «ألف». فهذان جميعاً عالمان علماً بالقوة، إلا أن أحدهما استحال ليعلم وانتقل عن حال التضاد، والآخر فيه جدة العلم وحسه، فمثل الآخر ما طبيعته ألا يرى أنه لا ببدأ فعله. — والانفعال أيضاً ليس
بحال واحدة ولا مبسوطة، لأن منه ما هو فساد ضده، ومنه ما هو سلامة الذى بالقوة، فسلامته إنما تكون من ذى الفعل الشبيهة به. وليس يكون بحاثاً نظاراً إلا من كان له علم بذاته، وما كان هكذا لا يجوز أن يستحيل (لأن منه وفيه تكون الزيادة، وإنما ابداء الانطلاشيا وهو الفعل التام) 〈أو〉 ليس من جنس الاستحالة. لذلك لا يحسن لقائل أن يقول إن الحكيم إذا حكم كان ذلك منه استحالة، كما أنه لا يحسن أن يقول فى البناء إذا بنى: استحال. فليس فى الحق أن تسمى إحالة حركة ذى القوة إلى الانطلاشيا فى موضع العلم والفهم تعليما، بل يجب أن يكسب لها اسم غير التعليم. وأما ذو القوة مستفيد العلم والقابل له من العالم ذى الانطلاشيا فذاك قد قلنا إما أنه لم يألم ولم يتغير بما استفاد كالذى ذكرنا أولاً، وإما كان تغيره أحد ضربين: أحدهما الانتقال عن حال العدم، والآخر الانتقال إلى الغزيزة والطباع.
وأما الحاس فأول تغيره فانما يكون عنه من ساعته يصير إلى التعلم، كتغير النفس بالعلم. فأما الإدراك بفعل الحس فحاله مثل الحال من النظر والفكر؛ والفصل بينهما أن دواعى الحس إنما تكون من خارج مثل الشىء المنظور إليه والمسموع به — وعلى هذا يجرى القول فى سائر الحواس. وذلك أن الحس بالفعل لا يكون إلا من الأشخاص المفردة، وأن العلم للكل؛ وهذه ومثلها للنفس. والتفكر إليه إذا شاء، وليس الحس إليه لأن إدراك المحسوس من الحس إنما يكون منه بالاضطرار. وكذلك حالنا فيما ندرك من المحسوسة لعلمنا من أجل هذه العلة بعينها، لأن المدركة بالحس إنما تدركها الأشخاص المفردة.
وسنوضح القول فيها فى غير هذا الوقت. وأما الآن لنفصل بقدر ما نثبت أن «ذا القوة» لا يقال بجهة واحدة: وذلك أن منه ما هو شبيه بقول
القائل إن الصبى تمكنه الفروسية، ويمكن من كان فى قامته مدركاً: وكذلك حال الشىء الحاس. ولكن لما كان الفيصل فيه لا تسمية له، لخصناه بالكلام أن ذا غير ذا، وأخبرنا كيف ذاك الغير، وألجئنا إلى استعمال لفظة التألم والاستحالة كأنها أسماء مسوقة على الحقائق. والحاس بالقوة شبيه بالمحسوس بالفعل كما قيل؛ فالشىء يألم ما لم يكن مثل حتى إذا ألم صار شبيهاً مثل ذلك الذى منه كان الفعل.
٦
〈موضوعات الحواس〉
فلنقل أولا عن كل حس بحياله، وعما تدرك الحواس. والمحسوس المدرك بالحواس مقول على ثلاثة أوجه: اثنان منها تدرك بالذات، والآخر يدرك بالعرض. — وأحد الاثنين خاص بكل حس، والآخر شائع بين جميعها. وأزعم أن الخاصى هو الذى لا يمكن حساً من الحواس إدراكه غير الحس المختص به، ولا يمكن أن يغلط فيه: كقولك: البصر يدرك اللون، والسمع يدرك الخفق والقرع، والمذاق يدرك الكيموس. واللمس فصول عدة يقضى على جميعها، فلا يغلط؛ وليس يدرك اللمس القرع واللون، وليس يدرك ما المتلون وأين هو، وما القارع والمقروع وأين هو. فهذه ومثلها خواص كل حس. — وأما الشائعة لجميعها فهى الحركة، والسكون، والعدد، والشكل، والعظم؛ وليس يختص شىء من هذه بحس من الحواس، وذلك أنا نجد اللمس والنظر حركة محسوسة. — والمحسوس قد يكون محسوساً
بالعرض كقولك إن الأبيض ابن فلان . فادراك المدرك إياه من هذه الجهة إنما هو يعرض من أجل أن الذى طلب إدراكه عرض فى الأبيض وبالأبيض أدركه. ولذلك لا يزعم أن الحاس يتألم من هذه الجهة بالمحسوس. — فأما المحسوسة بذاتها فلها أشياء خاصة مدركة بغير عرض، وذلك بقدر جوهر كل حس من الحواس.
٧
〈البصر والمبصرات〉
فما اختص من الأشياء بالبصر فذلك منظور إليه. والمبصر لون، أو ما لا شبيه له فى القول: وسيستبين ما نقول إذا تقدمنا إلى ما بين أيدينا. لأن المنظور إليه لون، واللون من الأشياء التى ترى بذاتها. والذات فى هذا الموضع ليس بعلة، بل العلة فيه التى صيرته منظوراً إليه. وكل لون فهو محرك صفاء الوجود بالفعل، وكذلك طباعه. من أجل ذلك ليس هو بمبصر بغير ضوء ألبتة كل لون، إنما هو مبصر فى الضوء. لذلك فلنقل أولاً ما الضوء.
إنه شىء ذو صفاء. وهذا الصفاء فى الجملة شىء منظور إليه لا بذاته، وإنما ينظر إليه بسبب لون غريب داخل عليه؛ وكذلك الهواء، والماء، وكثير من الأجساد الكثيفة، لأن الهواء والماء ليسا من الجهة التى هما فيهما هواء وماء صار لذوى الصفاء صفاء، ولكن فيهما جميعاً طباع له هذه الحال، وكذلك الجسم الأعلى الروحانى. فالضوء فعل هذا الصفاء، وهو أيضاً ظلمة فى القوة. وأما الضوء فهو لون الصفاء إذا صار بالفعل؛ والذى يصيره هكذا إما النار، أو ما أشبه النار كالجرم الأعلى، فان لذلك شيئاً مفرداً بحال واحدة غير منصرف. — وقد قيل ما الصفاء وما الضوء، وأنه ليس
بنار ولا جرم ألبتة، ولا صبيب من نار (ولوجب أن يكون جرماً لو كان بهذه الحال)، ولكنه يظهر فى الصقيل بحضور النار، أو ما أشبه النار: وليس يمكن لجسدين أن يكونا معاً فى الشىء بعينه.
وقد يظن أن الضوء ضد الظلمة، وأن الظلمة عدم جدة الضوء من الصقيل؛ ولا محالة أن حضوره هو الضوء. — ولم يحسن أنبادقلس ولا غيره ممن زعم أن الضوء يصير بين الأرض والهواء، فيذهب ذلك علينا ويخفى. وهذا القول يخالف العيان ويخالف معنى الحق لأنه لو كانت المسافة صغيرة جاز أن يخفى، فأما مسافة بعدها ما بين المشرق إلى المغرب فليست بصغيرة.
فما ليس له لون فذلك قابل اللون، وما لا قرع له فذلك قابل القرع. والصفاء لا لون له وليس بمبصر أو مبصر بعد عسر كما ترى الشىء المظلم. وهكذا حال الصقيل ما لم يكن حال صفاء بالفعل، لأن نفس طباعه هى مرةً ظلمة، ومرة ضوء. — وليس جميع الأشياء مبصرة فى الضوء، ما خلا لون الشىء الخاص به. وذلك أنا لا نرى طوائف من الأشياء إذا كانت فى الضوء، وقد يمكننا رؤيتها إذا كانت فى ظلمة: وهى الأشياء النارية المضيئة (وليس لمثلها اسم خاص لجميعها) ومنها قرن حيوان يقال له موقس ورؤوس من رؤوس السمك وأعين من أعينها وقشور من قشورها. وليس شىء من هذه يرى لونه فى الضوء، أعنى اللون الذى هو خاص له. فان قال قائل: لأية علة لا تبصر هذه؟ فذلك قول آخر. — وأما فى وقتنا هذا فقذ استبان أن الذى يرى فى الضوء هو اللون، ولذلك لسنا نرى بغير ضوء. ومن هذه الجهة تحد آنية اللون بأنه محرك ذا الصفاء بالفعل؛ وفعل الصقيل الضوء. — والشهادة القاطعة على هذا أنه لو أخذ أحد شيئاً ملوناً فوضعه على بصره لما أبصره شيئاً، لأن اللون يحرك صقيل الجو، وباتصال الهواء يتحرك الحس. — لم يكن يحسن ذومقراط إذ ظن أن المسافة بين الناظر والمنظور إليه إذا كانت خالية استقصى الناظر النظر، ولو كانت نملة فى السماء. وهذا ما لا يمكن. لأن الحس إذا 〈تألم〉 بضرب من الضروب كان منه النظر؛ وليس يمكن أن يألم
من اللون وحده — فيبقى أنه إنما يألم من الشىء المتوسط ما بين المتلون والناظر: ولهذا يجب أن يكون بالاضطرار شىء واسط. وإذا كان المتوسط خالياً، فالناظر لا يذهب عليه الاستقصاء فقط، بل ألبتة لا يرى شيئاً.
قد قيل لأية علة كان اللون، بالاضطرار، غير مبصر إلا فى الضوء. وأما النار فمدركة رؤيتها فى الظلمة والضوء؛ وذلك بالاضطرار، لأن صقل الجو إنما يكون بالنار وما أشبهها.
وهذا القول بعينه يجرى على هذا المجرى فى القرع والرائحة، لأنه ليس منهما شىء يفعل حساً بمماسة العضو الحاس، وإنما تتغير المسافة الواسطة بالرائحة والقرع، ثم تتغير الحواس المدركة لها باتصال المسافة بها. فأما إن وضع أحد شيئاً مصوتاً على السمع، أو وضع ذا رائحة على منخره لم يدرك بحسه شيئاً منها. — وكذلك يجرى القول فى اللمس والمذاق، إلا أنه ليس بظاهر. وسيتضح كيف ذاك أخيراً، ولأية علة كان هذا هكذا. — وأما المتوسط بين الصوت والسامع فانه الهواء، وليس للمتوسط بين الشام والمشموم اسم. وذاك أن هناك عرضاً يجمع الهواء والماء فى حال الاشتمام بقدر كما أن الصفاء للون، كذلك ما فى هذين لذى الرائحة. فقد نرى ذوات الماء ولها حس الاشتمام، إلا أن الإنسان وما كان متنفساً من ذوى الأرجل ليس يمكنه إدراك الرائحة بالاشتمام إلا أن يتنفس. وسنخبر بعلة ذلك أخيراً.
٨
〈السمع والقرع〉
وأما الآن فلنفصل القول فى القرع والاستماع. والقرع فرعان: أحدهما بالفعل، والآخر بالقوة. ومن الأشياء ما لا قرع له مثل النشافة
والصوف؛ ومنها ما له قرع كالشبه وما كان كثيفاً أملس من الأجساد، لأنه يمكنه القرع، 〈أعنى أنه يمكنه فى الوسط〉 الذى بينه وبين السمع أن يحدث قرعاً بالفعل. — وإنما يكون القرع بالفعل إذا كان شىء يصدم شيئاً، وذلك أن الضارب هو الذى يفعل القرع. من أجل ذلك لا يمكن القرع أن يكون شيئاً واحداً، والضارب غير المضروب، كذلك المضروب إنما يقرع بصوته شيئاً، والقرع لا يكون إلا بحركة. وقد أخبرنا أن ليس كل ما اصطك من الأشياء حدث عنه قرع، لأن الصوف إذا صك أو صك به لايفعل قرعاً ألبتة، ويفعل ذلك النحاس وكل ما كان أملس مقعراً: أما النحاس فمن أجل ملوسته، وأما المقعر من الأشياء فانما يحدث الصوت عنه من أجل انطواء الجو فيه، ويفعل خفقات كثيرة بعد الخفقة الأولى، ويبقى مسموعاً طويلا، وذلك أن ما دفع القرع من الجو لا يمكنه الخروج سريعاً. وفى الماء قد يمكن القرع، إلا أنه قرع ضعيف. — وليس الجو ولا الماء علة للقرع، لأن القرع يحتاج إلى أجسام كثيفة تصدم الهواء فيصدم بعضها بعضاً. وإنما يكون ذلك إذا ثبت الجو عند ضرب الضارب فلم يتبدد. لذلك إن ضرب ضارب فأسرع وشدد ضربه أجاب الهواء بخفقة، لأنه ينبغى لحركة ضرب الضارب أن تسبق تبدد الهواء، كمن ضرب شيئاً من رمل.
وأما الصدى فانما يكون من جو واحد من أجل الإناء الذى حجز ومنعه أن يتبدد، فيرجع مدفوعاً بمنزلة الكرة. ويشبه أن الصدى أبداً كائن، إلا أنه لا يستبين، وذلك أنه يعرض فى القرع ما يعرض فى الضوء إذ شعاع الضوء أبداً ينثنى راجعاً (ولولا ذلك لما كان ضوء ألبتة، ولكانت ظلمة فى كل ما كان خارجاً عن حد انبساط ضوء الشمس)، إلا أن انثناء الصدى ليس هو
بمثل ما يكون من صدى الماء والنحاس أو سائر ذوى الملوسة، إلا أن يفعل ظلا، فيحد الضوء بذلك الظل.
وأما الخلاء فنعم ما قيل إنه المستولى على السماع، فقد يظن بالهواء أنه خلاء وأنه هو الذى يفعل السماع إذا تحرك باتصال الكل. 〈و〉 لسخافته وتخلخله ما كان ليكون سماع، لو لا أن المضروب أملس: وإذا كان المضروب أملس كان الهواء واحداً متصلا — وكذلك حال السطح الأملس.
فما كان محركاً هواءً واحداً متصلا إلى أن ينتهى إلى السمع، فذاك فعال للقرع؛ والهواء مجانس للسمع، والقرع إنما يكون فى الهواء الخارج، فمتى ما تحرك الهواء الخارج فحرك الهواء الداخل فينا، كان سماع. لذاك لم يكن كل حيوان سميعاً، وليس ينفذ الهواء الخارج إلى داخل. على كل حال هو لا لكل عضو محرك ذى نفس — هواء [كالرطوبة للحدقة]. والهواء لا يكون له خفق لأجل سخافته و〈لأنه〉 سريع التفرق والتشذب؛ فاذا عاجله الأمر قبل أن يتفرق كانت حركته قرعاً. وإذا كبت الهواء فى السمع فلئلا يكون منتقلا ولكى يستقصى بحسب إدراكه جميع فصول الحركات. ولذلك لا نسمع فى الماء لأن الهواء لا يصل إلى الهواء المجانس له المركب فينا، ولا إلى السمع يصل من أجل السماخات. وإذا كان هذا، لم يسمع، ولا 〈أيضاً إذا أ〉لم الشغاف، بمثل ما تألم جلدة الحدقة. والدوى الذى يكون أبداً فى الأذن هو القابل على السمع، ولا نسمع: وذاك أن الهواء أبداً محرك فى المسامع حركة خاصة 〈مثل القرن〉. أما القرع فانه 〈يظل〉 غريباً ليس بأهلى. وكذلك يزعمون أن السماع يكون فى الخلاء الذى يحدث عنه وجبة لأنا نسمع حيثما كان الهواء محدوداً.
وينبغى أن نعلم عن أى الأشياء يكون القرع: عن الضارب، أو عن المضروب، أو عنهما جميعاً بنوع من الأنواع؟ وإنما القرع حركة شىء يمكنه أن يتحرك حركة واقع على جسم أملس، فبعد صدمه إياه ينبو راجعاً عنه. وليس كل ضارب أو مضروب يحدث عن اصطكاكهما قرع: كمثل الإبرة للإبرة. ولكن ينبغى للضارب والمضروب أن يكونا أملسين، لكى ينبو الهواء عنهما فى حد اجتماع منه فيتحرك.
فأما فصول ذوى القرع فانما تعرف من الفعل. وكما أن الألوان لا ترى بغير ضوء، كذلك الثقيل والخفيف لا يعرف بلا قرع. وإنما نقول: خفيف وثقيل فى هذا الموضع باسم عارية من أسماء الأشياء الملموسة. لأن الخفيف الحاد يحرك الحس كثيراً فى زمان قليل، والثقيل يحرك الحس قليلا فى زمان كثير، والثقيل بطىء إلا أن أحدهما من أجل السرعة هذه حركته، والآخر من أجل الإبطاء. هكذا يشبه أن يكون فى القرع شىء معادل لما يدركه حس اللمس من الحاد — وهو الأملس، والكهام والململم. وذلك أن الحاد يفعل سريعاً، والململم ينقل فعله؛ فمن أجل أن أحدهما ينفذ فى قليل من الزمان والآخر فى كثير من الزمان يسمى أحدهما سريعاً والآخر ثقيلا.
هذا ما فصلنا فى القرع. فأما الصوت فانه قرع ذى نفس، لأن ما لا نفس له لا يصوت: إنما يقال بالتشبيه كمثل السورناى واللورا وغير ذلك مما لا نفس له وله طنين ولحن ونغمة. فان الصوت له هذه وما أشبهها. وكثير من الحيوان ليست له أصوات، مثل الذى لا دماء لها، أو لها دم ولا تصوت كالسمك. وبحق أن يكون هذا هكذا، إذا كان القرع حركة جو. وما قيل من الحيتان إنها تصوت مثل السمك فى نهر أشالون،
فانها تفعل ذلك بمجارى الصدر التى يقال لها برانخيا أو بشىء مما أشبهه. وإنما الصوت قرع حيوان، لا من كل عضو 〈أياً كان〉. فلما كان الذى يحدث عنه بالقرع ضرب بشىء وهو الهواء، وجب أن يكون من الحيوان مصوتاً ما كان قابلا للهواء. وذلك أن الطباع يستعمل الهواء الذى يتنسم به لأمرين، وكذلك استعماله اللسان لأمرين: أحدهما المذاق، والآخر الكلام. فالمذاق لأن الحيوان إليه مضطر (〈ولهذا〉 صار موجوداً فى الكثير)، وأما العبارة فمن أجل الوجود صارت فينا، وكذلك حال الهواء الذى نتنسم نستعمله لأمرين: أحدهما لتبريد الحرارة التى فينا (وقد قلت عنه فى موضع غير هذا)، والآخر لحال الصوت ليكون أفضل وأجود. — فآلة النفس الحنجرة، والعضو الذى من أجله كانت الحنجرة هو الرئة؛ وذوات الشىء من الحيوان أكثر حرارة فى هذا العضو من غيرها. وأول ما يحتاج إلى تنسم الهواء من الحيوان موضع القلب وما أحاط بالقلب. لذلك كنا مضطرين إلى اجترار الهواء داخلا. فالضربة التى تفعلها نفس هذه الأعضاء بالهواء الذى نتنسم به فتصدم به الوريد، فهذه الضربة هى الصوت. وذلك أن ليس كل قرع حيوان صوتا، كالذى قلنا (فقد يكون من اللسان قرع، ويكون من غير اللسان مثل ما يكون حين نسعل)، وإنما يكون الصوت من ضارب ذى نفس مع توهم. وذلك أن الصوت قرع 〈له〉 دليل على شىء، وليس هو قرع الشىء، ولا الذى تنسم به كالسعال: لكنه هو صدمة هواء التنسم هواء الوريد وجرم الوريد. والدليل على ذلك أن المتنفس لا يقدر من الصوت لا فى حد اجتراره الجو، ولا فى حد دفعه إياه. وبهذا يستبين لم كانت السمكة لا صوت لها، لأنه ليس لها حنجرة. وإنما عدمت هذا العضو من أجل أنها لا تقبل الهواء ولا تتنسم به؛ ومن قال إنها متنسمة فقد أخطأ. والكلام فى علة: السمك لم كانت لا تصوت ولا تتنسم — قول غير هذا.
٩
〈الشم والرائحة〉
وأما القول فى الشىء المشموم وفى رائحته فانه أقل بياناً مما قيل وأعسر تفصيلا. وذلك أنه ليس حال الرائحة يبين أى الأشياء هى، كبيان القرع والضوء واللون. والعلة فى ذلك أن حس الاشتمام ليس بنقى فينا ولا جيد الاستقصاء، بل هو فينا دون ما هو فى كثير من الحيوان. والإنسان يشتم بخساً الأهواء، ولا يدرك بحس اشتمامه إلا ما استلذ أو كره، من أجل أن هذا الحس ليس هو بنقى فيه. وكذلك قاسية الأعين من الحيوان لا تدرك الألوان جيداً، ولا معرفة عندها بفصولها إلا بالخوف وغير الخوف. وكذلك حال بعض الرائحة عند جنس الناس. وأصناف الكيموس معادلة فى المذاق لأصناف الرائحة إلا أن حس المذاق فينا أشد استقصاء، إلا أن ذلك من أجل أنه ضرب من ضروب اللمس فى الإنسان جيد الإدراك. فأما فى سائر أصناف الحس فالإنسان دون كثير من الحيوان ما خلا حس اللمس فان له فضلا فيه على غيره من الحيوان. ولذلك كان الإنسان أحكم الحيوان. والدليل على ذلك ما نراه فى جنس الناس منسوباً إلى حس اللمس من ذكاء الطباع ورداءته، وذلك أن من كان جاسى اللحم فلا ذكاء لطباعه، ومن كان لين المجسة فى ملامسته دل ذلك على ذكاء الطباع.
وكما أن الكيموس منه حلو ومنه مر، كذلك فى الرائحة: منها ما يعادل الكيموس فتكون رائحته حلوة مثل الكيموس الحلو، ومنها ما هو على خلاف ذلك. وفى الرائحة 〈منها ما هى〉 حريفة، ومنها عفصة، ومنها حامضة، ومنها
دهنية. وقد قلنا إن أصناف الرائحة، لما لم تكن 〈أوضح〉 للتسمية جنساً من أصناف الكيموس، 〈فان〉 ذلك ألجأنا إلى استعارة أسماء الكيموس فوضعناها بالتشبيه أسماءً لأصناف الرائحة. فالرائحة الحلوة رائحة زعفران طيب وعسل، والرائحة الحريفة رائحة شىء معادل للصعتر وطعم شىء معادل للصعتر. وكذلك يجرى القول فيما بعد ذلك من الرائحات. — وكما أن كل واحد من الحواس مخصوص بما هو له: فمنها قاض على مسموع وغير مسموع، ومنها قاض على مبصر وغير مبصر، كذلك المنخر يقضى على ذى الرائحة وما لا رائحة له. وإذا قلنا شىء لا رائحة له أو غير مشموم، فذلك إما لأنه لا يمكنه أن تكون له وائحة ألبتة، وإما كانت له رائحة يسيرة. وكذلك يقال 〈ء〉 ما لم يكن بمذوق.
والاشتمام يكون بالمتوسط، من الماء والهواء، وذلك أن ذوات الماء موجود لها حس الاشتمام، وكذلك ما كان له دم من الحيوان وما لا دم له، كالتى فى الجو، فان طائفة منها لمكان اشتمامها قد تنزع الى الطعم من بعد بعيد. — ولذلك ترى كيف صار الجميع يشبه بعضه بعضاً فى حد الاشتمام، والإنسان لا يشتم فى حال إخراجه النفس ولا فى إمساكه إياه، لا إن دنا منه المشموم ولا إن بعد ، ولا لو وضع على منخره، لكنه يفعل ذلك فى حد استنشاقه (ذهاب الرائحة على الحس الشام إذا وضع عليه المشموم — شىء شائع لجميع الحيوان؛ وأما أن لا يدرك المشموم بغير تنسم فهذا خاص للإنسان: ومن رام ذلك عرف حقيقته). فلما كان الحيوان الذى لا دم له غير متنسم صار له ضرب من الحس غير الضروب المعروفة، إلا أن ذلك لا يمكن إذا كان هذا الضرب من الحيوان مدرك الرائحة بحسه، لأن الحس بذى الرائحة إنما هو اشتمام لذيذ وكريه. وبدن هذا الحيوان قد يفسره ما يفسد الناس
من شديد الرائحة الكريهة مثل الكبريت والاسفلطوس وما شاكل ذلك. لأنه لا يشتمه إلا بالاضطرار ولا يتنسم. — فهذا الحس من الاشتمام له فى الناس فصل يفرق بينه وبين سائر الحيوان، كالفرق بين سائر الحيوان وبين قاسية الأعين، وذلك 〈أن〉 لأكثر أعين الحيوان حجباً وستراً وأغطية. وما لم يحركها الحيوان ولم يرفعها عن العين لم ير شيئاً، 〈أما〉 ذوات القساوة فى أعينها فليست محتاجة إلى شىء من هذا، بل قد تدرك ما كان فى صفاء الجو من ساعتها. وكذاك حس الاشتمام فى بعضها لا حجاب له كالأعين التى ذكرنا، وأما قابل الهواء من الحيوان فلحس اشتمامه حجاب إذا تنسم ارتفع، فتعرض الأوراد وتتسع المجارى. من أجل ذلك لم يكن للمتنسم من الحيوان فى الاشتمام فى الماء: لأنه مضطر إلى الاشتمام بالتنسم، وليس يجد إلى ذلك سبيلا وهو راكد فى الماء. الرائحة إنما هى للشىء اليابس، كما أن الكيموس للرطب؛ فحس الاشتمام يدرك الأشياء بالقوة.
١٠
〈الذوق والطعم〉
وأما حس المذاق فانما يدرك بالملامسة، وعلة ذلك أن المحسوس بالمذاق لم يدرك بالمتوسط بين الذائق والمذوق وذلك هو جسم قريب: ولا إدراك اللمس بهذه الجهة. ولا الكيموس المذوق فى الجرم كرطوبة فى هيولى؛ وهذا ملموس كذلك. ولو كنا فى الماء لأحسسنا إذا اختلط به شىء حلو؛ وما كان ليكون إدراكنا ذلك الحلو بشىء متوسط بيننا وبين الماء، بل إنما ذلك يدرك بمخالطة الحلو الرطب، كالذى تراه فى الشراب. وأما اللون فليس يدركه بهذه الجهة من الخلط أو البصيص. كما أن المتوسط ليس هو بشىء؛ وأما اللون فشىء منظور إليه، كذلك الكيموس مدرك بالمذاق. وليس شىء
من الأشياء يجد ريح كيموس بغير رطوبة هى له إما بقوة وإما بفعل: كالشىء المالح، إذ المالح يذوب فى نفسه سريعاً، ويذيب اللسان بعض الإذابة.
وكما أن البصر يقضى على المرئى وغير المرئى (مثل الظلمة، فانها غير مرئية ولا مبصرة) ويقضى على المفرط فى نوره المستضىء جداً (فانه كالظلمة غير مبصر، بضرب من الضروب 〈غير الظلمة〉)، كذلك السمع يقضى على القرع والسكت (وأحد هذين مسموع، والآخر غير مسموع)، ويقضى أيضاً على القرع العظيم، كقضاء البصر على المستضىء المستنير، وكما أن القرع الخفى الضعيف والعظيم الفظيع ليسا بمسموعين (أما أحدهما فلضعفه، والآخر فلأضداده)، كذلك الشىء الذى ليس بمبصر إما لم يبصر لأنه لا إمكان فى رؤيته، وإما لم يبصر لغاية قلته كصغير الأرجل من الحيوان يقال لا أرجل له، ومن الثمار ما خفى عجمه قيل لا عجم له، — وكذلك يقضى الذوق على المذوق، 〈وغير المذوق〉 إما لضعفه وقلته، وإما أن يكون فيه كيموس مفسد قوة الذوق، كالنور المفرط للبصر، والقرع العظيم للسمع. ونرى أن قانون هذا الحس 〈هو〉 الشىء المشروب وغير المشروب، وذلك أن كليهما ضرب من المذاق، إلا أن أحدهما مفسد الحس، والآخر يجرى مجرى الطباع. فالمشروب شىء شائع يجمع حس اللمس والذوق. — والحس المدرك له مضطر أن لا يكون رطباً بالفعل، ولا غير ممكن لقبول الرطوبة. وذلك أن حس المذاق يألم من المذوق من جهة طعمه وذوقه.
فالحس المدرك لهذه ومثلها ليس برطب. والدليل على ذلك أن اللسان يدرك الذوق ما لم يكن يابساً جداً ولا رطباً جداً: وهذا الإدراك يكون للرطب الأول، كمن قدم مذاقة كيموس شديد المذاق ثم ذاق غيره بعده، وكالذى يعرض للمرضى فان جميع الأشياء 〈مرة〉 فى أفواههم، من أجل أن اللسان مملوء من رطوبة ذات مرارة.
وأنواع الكيموس كأنواع الألوان: الأطراف منها متضادة كالحلو والمر؛ وأوفى من هذين ويزيدهما: الدسم والمالح؛ وبين هذين الحريف والعفص، والقابض والحامض. فهذه الضروب أكثر ما نجد من فصول الكيموس فالمذاق ما كان بالقوة ذائقاً، والمذوق هو المخرج لذلك إلى الفعل.
١١
〈اللمس والملموس〉
والقول يجرى على هذا النحو فى اللمس والملموس، لأن اللمس إن لم يكن حساً واحداً مفرداً وكان كثيراً فى العدد، فحرى أن يكون الملموس من جهة الإدراك معادلا له فى الكثرة. ولسائل أن يسأل: أكثيرة أصناف حس اللمس؟ أو إنما هى واحد مفرد؟ — وما الجزء الحاس المدرك لحس اللمس: اللحم، أو غيره؟ أو إنما هو شىء متوسط، والحاس الأول غيره وهو داخل؟
وكل حس إنما يقضى على تضاد واحد: كالبصر على الأبيض والأسود، والسمع على الحاد والثقيل، والذوق على المر والحلو؛ فأما الملموس فان فيه تضاد أشياء: حار وبارد، ورطب ويابس، وجاس ولين، وما أشبه ذلك. — ولهذه المسألة جواب، وهذا جوابها: أن سائر الحواس 〈يدرك〉 تضاداً كثيراً: 〈مثل〉 الذى نراه فى الصوت، فان السمع يقضى على الحاد
من الأصوات والثقيل، وعلى العظيم والصغير 〈و〉على اللين والخشن، وعلى كثير من فصول الأصوات. واللوان أيضاً 〈له〉 فصول كثيرة. إلا أنه ليس يتبين أن موضوع اللمس شىء واحد، كالقرع للسمع.
〈ولكن، هل عضو الحس〉 موضوع داخل، 〈أو ليس كذلك〉، 〈أو لعله هو اللحم نفسه؟〉 واللحم إذا مس ففعل على ملامسة اللامس إياه لم يكن ذلك بدليل على شىء. وذلك لو أن رجلا مد شغاف اللحم على سطح اللحم، لكان إذا مس مدركاً بحسه ما كان يدركه قبل ذلك؛ وهذا يستدل أن الحس فى اللحم. ولو أن الشغاف انشق انشقاقاً، كان ذلك أسرع فى نفوذ الحس. لذلك فان هذا الجزء الحاس من الجرم يصير إلى أن يكون ملامساً لنا كاحداق الجو بنا. وقد كان يجوز الظن فى أن إدراكنا حس القرع واللون والرائحة إنما هو لشىء واحد حساس، لو لا أن الذى به تكون حركاتها ظاهر الفصل، فان كل واحد منها غير الآخر. وليس هو ببين فى حس اللمس. — لأنه لا يمكن الجرم ذا النفس أن يكون من هواء وماء، لأنه لابد له من أن يكون كثيفاً. والكثيف لابد من أن يكون خلط من أرض وغير ذلك، مما يكون جزء منه اللحم. لذلك وجب بالاضطرار أن يكون الجرم متوسطاً بين اللامس والملموس، وبه كانت الحواس كثيرة. والدليل على أنها كثيرة إدراك اللمس وحسه، لأن الحيوان يدرك بهذا العضو جميع الأشياء الملموسة ويدرك الكيموس. ولو كانت سائر أجزائها من اللحم تدرك الكيموس، أظن أن الذوق واللمس 〈يبدوان لنا حينئذ كأنهما〉 حس واحد: وقد نراهما اثنين، 〈وذلك〉 أن العكس لا يجب.
ولسائل أن يسأل فيقول: لكل جسم عمق، والعمق أحد ثلاثة أنحاء الجسم، وكل جسمين يتوسطهما جسم فليس يماس بعضها بعضاً، والرطب
ليس يكون بغير جسم، وكذلك الهواء ليس بغير جسم، بل يلزمه بالاضطرار: إما كان ماء أو يكون فيه شىء من ماء؛ والتى يماس بعضها بعضاً فى الماء، إذا لم تكن فى غاية اليبس، يلزم بالاضطرار أن يكون منها ماء، وتكون أطرافها وأواخرها نازلة من ذلك الماء؛ وإن كان هذا حقاً فليس يمكن شيئين مماسة بعضهما بعضاً فى الماء؛ وعلى هذا النحو يجرى القول فى الهواء (فكذلك حال الهواء عند ما فيه مثل حال الماء عندما فيه؛ إلا أنه يذهب علينا، فلا نعلم أم كل ما فى الهواء يماس بعضه بعضاً كمماسة الحيوان الذى فى الماء).
ولكن: هل جميع الحيوان على نحو واحد تدرك بحسها، أم هناك فصول تفرق بعضها من بعض، كالذى يظن بالمذاق واللمس فانهما يدركان الأشياء باللمس، وسائر الحواس لا تدراك الأشياء إلا من بعد؟ إلا أن ذا ليس كذا: لأنا لا ندرك الجاسى واللين بأشياء أخر مثل إدراكنا ذا الصوت والمنظور اليه والمشموم، إلا أن بعضها عن بعد، وبعضها عن قرب: لذلك يخفى علينا، ونحن مدركون جميعها، المتوسط بينها. 〈ونحن على كل حال ندرك الأشياء جميعها عن طريق متوسط〉، إلا أن ذاك خفى فى بعضها. وكما قلنا أولا، لو أن شيئاً رقيقاً كان بيننا وبين الأشياء الملموسة لأدركناها، ويخفى ذلك الشؤء الدقيق علينا، كالذى يصيبنا فى مماستنا الماء والهواء: فانا نظن أنا نماسها بغير شىء متوسط بيننا وبينها. إلا أن بين الملموس، وبين المنظور اليهما وذوات القرع — فرقاً لأن الادراك المنظور اليه والمسموع إنما يكون بما يحدث عن المتوسط مما يفعله بنا. وليس إدراكنا الملموس بالمتوسط وحده، ولكنا ندركه مع المتوسط، كالذى يكون قرع 〈من خلال〉 الترس، فانه لم يقرع ثم قرع من بعد، لكنه عرض أن أحدنا قرع الفريقين معاً. — وفى الجملة كما أن حال الهواء والماء عند البصر والسمع والاشتمام
كذلك حال جزء اللحم واللسان عند حس اللمس. فأما إذا أحس العضو الحاس من البصر والسمع والاشتمام، فليس هناك حس لا من بعيد ولا من قريب، كقولك إن وضع أحد جزءاً ما فى غاية البياض على بصره. 〈ومن هذا يتبين أنه〉 فى داخل الحس 〈تكون〉 المدركة لذوات اللمس، 〈وبهذا النحو وحده〉 كان الذى يعرض له كالذى يعرض لغيره من الحواس: لأنه إذا وضع الشىء على العضو الحاس، ما خلا حس اللمس، فليس يدرك؛ وإذا وضع على جزء من أجزاء اللحم أحس به؛ لذلك قلنا إن اللحم متوسط بين اللامس والملموس.
ففصول الجرم، من جهة جرمه، ملموسة جميعاً: وأزعم أن هذه الفصول المفرقة بين الاسطقسات: بين الحار والبارد وبين اليابس والرطب التى قيل عليها أولا فيما تكلم من العناصر. وحسها اللمس، والجزء الذى هو الحس له أول بالقوة؛ فأما الادراك به فانه ضرب من ضروب التألم، فكما حال الفاعل على حد فعله كذلك حال ذى القوة فى قوته. ولذلك لسنا نحس بالحار والبارد والجاسى واللين إذا كانت متشابهات، وإنما ندرك ما تأتى فأفرط، لأن الحس كشىء واحد واسط بين تضاد المحسوسة. ولذلك يقضى عليها، والمتوسط أبداً قاض فاصل، لأنه عند كلا الطرفين كواسط واحد منهما بالسواء. وكما أن المهيأ لادراك الأبيض والأسود بحسه فينبغى أن لا يكون بالفعل واحداً منهما بل يجمعهما بالقوة (كذلك ينبغى لسائر الحواس)، 〈فكذلك〉 اللمس خاصة لا يكون حاراً ولا بارداً. — وكما أن البصر قاض على المنظور اليه وما ليس منظوراً (وسائر الحواس على ما أشبه ذلك من التضاد)، فكذلك اللمس يقضى على الملموس وغير الملموس. وإذ قلنا غير ملموس فذاك أحد شيئين: إما شىء ليس له فصل ذوات اللمس، إلا أقل قليل يكون، كالهواء، أو ما كان مفرطاً فى حد اللمس مفسداً للحس.
قد قيل 〈فى كل〉 واحدة من الحواس على المنهاج.
١٢
〈النظرية العامة للإحساس〉
وينبغى أن نقول 〈قولا〉 جامعاً فى جميع الحس. إن الحس قابل الصور المحسوسة بغير هيولى، كقبول الموم [على] نقش الخاتم بغير الحديد وغير الذهب، والموم يأخذ المثال الذهبى ومثال الشبه، وليس ذلك 〈على〉 أنه شبه أو ذهب؛ فكذلك الحس: يألم مما كان له لون أو كيموس أو قرع، ليس أنه يصير كواحد منها، لكنه يصير بصفة كذا، وكذا محتمل للحد. — فالحس الأول فيه هذه القوة. وهو بحال واحدة، إلا أن له غيرة من جهة آنيته: وذلك أن المدرك للشىء بحسه له عظم وجسم، وليس الحس فى نفسه كذلك لأنه ليس بجسم ولكنه معنى من المعانى وقوة ذلك الحس. — ومن هذا سيتبين لم كان إفراط الأشياء المحسوسة يفسد الحواس، لأن الحركة التى تصل من المحسوس إلى الحاس إذا كانت أقوى من المدرك لها فسد المعنى الذى هو الحس، مثل طنين الأوتار وصياحها إذا شددتها فارتفع طنينها. — و〈هذا يفسر〉 النامية لم لا تحس، ولها جزء من أجزاء النفس، وقد تألم من الملموسة، وذلك أنها تبرد وتسخن. والعلة فى ذلك أنها لا تحس أنه ليس لها تقدير التوسط والاعتدال، وليس فيها إمكان لقبول الصور المحسوسة، ولكنها تألم مع الهيولى.
وللسائل أن يسأل: هل يألم [الشىء] من الرائحة الذى لا يمكنه الاشتمام، أو يألم من اللون ما ليس فيه إمكان النظر من العين؟ وكذلك يجرى القول فى
سائرها. وإن كان المشموم هو الرائحة، فالرائحة تفعل الاشتمام. وإذاً ليس يمكن شيئاً لا يمكنه الاشتمام أن يألم من الرائحة، (ومثل هذا يقال عن سائر الحواس)، فليس هذا بممكن 〈حتى بالنسبة إلى الأشياء القادرة على الحس〉 إلا أن يكون كل واحد منها حاساً. وهذا بين من جهة أخرى، لأن الضوء والظلمة والقرع والرئحة لا تفعل أجساماً، وإنما تفعل ذلك بالذى هى فيه كالهواء مع الرعد فانه يشق الخشب. — والملموسة والكيموس تفعل ذلك، لأن التى لا أنفس لها إن كانت لا تألم من شىء ولا تستحيل، فلا محالة أنها ولا هى أيضاً تفعل؛ ولا يكون كل جسم يألم من الرائحة والقرع. والذى يألم فيتغير غير محدود وغير ثابت على حاله كالجو، فانه إذا ألم وتغير فاحت رائحته. فما 〈ذا عسى أن يكون〉 الاشمتام، إذا كان غير التألم؟ — إلا أن يكون الاشتمام الادراك بالحس مع تصيير الهواء محسوساً سريعاً.
[تمت المقالة الثانية من كتاب «النفس» لأرسطو]
بسم الله الرحمن الرحيم 〈والصلاة على〉 محمد وآله أجمعين
المقالة الثالثة من كتاب أرسطاطاليس «فى النفس»
١
〈وجود حس سادس. — الحس المشترك ووظيفته الأولى〉
من هذا الذى نحن قائلوه يقتنع من طلب علم النفس أنه ليس حس غير الحواس الخمس، أعنى البصر والسمع والشم والذوق واللمس. — وذلك أنه إن كان لكل حى حس لمس ونحن ذوو حس وندرك جميع ما يعرض للملموس، لمساً، فبالاضطرار أنه إن بطل حس واحد بطل من أجله عضو حاس. وإن كل ما أحسسنا به عند مماستنا إياه إنما ندركه باللمس، وما لم ندركه بمماسته إنما ندركه بمتوسط بيننا وبين الملموس، كالهواء والماء. وهذا هكذا، فلذلك إن كنا ندرك بحس واحد أشياء كثيرة مختلفة فى جنسها، فبالاضطرار أن من له كهذا الحس يدرك أشياء كثيرة مختلفة فى جنسها (كقولك إن كان الحس من هواء، فالهواء 〈متوسط〉 القرع واللون)؛ ولغير ذلك إن كانت الحواس شيئاً واحداً مدركة شيئاً واحداً (كاللون، والهواء والماء شىء واحد لأن كليهما ذو صفاء) فمن انفرد بأحدهما أدرك ما كان مدركاً بكليهما. — فتكون
الحواس من هذين المتوسطين فقط، أعنى الماء والهواء (وذلك أن الحدقة من ماء، والسمع من هواء، والشم من كليهما)؛ ثم لا تصير النار حاسة لشىء واحد، بل تكون شائعة بينهما (لأنه ليس يكون شىء حاس بغير حرارة)؛ وكذلك الأرض إما لم تكن لشىء من الحواس، وإما كانت بالحرى للمس مخالطة له مختصة به. وآخر ما تحصل أنه لا يثبت حس من غير هواء وماء. وقد نهى هذان لبعض الحيوان. فلا محالة أن جميع الحواس موجودة فيما لم يكن منقوصاً أو معلولا، وقد نرى الخلد وله أعين تحت جلده. لذلك إن لم يكن 〈جسم〉 آخر أو عرض غير ما يعرف لما شاهدناه من الأبعاد، فليس يتعطل حس من الحواس.
ولا يمكن أيضاً أن يكون حس خاص يجمع بالعرض كل ما تدركه الحواس على حال انفرادها: مثل الحركة، والوقوف، والشكل، والعظم، والعدد، والواحد. فجميع هذه تدرك بالحركة، كالعظم فانه لا يعرف إلا بحركة؛ وكذلك الشكل، وهو الاسكيم، لا يعرف إلا بحركة لأنه ضرب من ضروب العظم؛ وأما الوقوف فانما يدرك بلا حركة؛ وأما العدد فانما يدرك بأفوفاسيس الاتصال وبما كان له خاصاً، وذلك أن كل حس إنما يحس بشىء واحد. — وبذلك يستبين أنه لا يمكن حساً من الحواس الاختصاص بجميعها، كقولك بالحركة: وإلا جاز أن يدرك الحلو بالبصر. (ولنا فى حسنا إدراك الأمرين، وإنما نعرف ذلك إذا اتفقا). وإلا فلسنا ندركها ألبتة إلا بالعرض كقولك فى فلان: ابن سفرون، فانه ابنه وهو أبيض؛ والبياض إنما هو عرض فى ابن سفرون. فأما الأشياء المشاعة من الحواس فنحن مدركوها بلا
عرض؛ ولا محالة أنه ليس لما ذكرنا حواس خاصة لها، وإلا ما حسنا للحس بها إلا على ما يليق بها من ذلك الحس كالذى قلنا إنما نرى ابن سفرون هو أبيض. وقد يدرك الحس بالعرض ما كان خاصاً لغيره من الحواس، وليس ذلك على حال اجتماع من الحواس. بل إنما يكون ذلك فى الحس الواحد إذا اجتمع شيئان فى شىء واحد، كمثل لون المرة وطعم مرارتها، وليس يدرك الحس هذين الشيئين إلا كشىء واحد. ولذلك يغلط: فان كان شيئاً أصفر ظن أنه مرة.
وللطالب أن يطلب لم صارت لنا حواس كثيرة، ولم يكن حساً واحداً: وإنما كان ذلك لئلا تذهب علينا لواحق الحواس المشاعة بين جميعها: وهى الحركة والشكل والعظم والعدد. ولو كان الحس واحداً كالبصر، والبصر مدرك البياض، لذهب علينا ما خلف ذلك، و[إن] كان فى الأبيض الجميع، من أجل أن اللون والجسم يلحق أحدهما الآخر فيصيران معاً. فلما كانت المشاعة السائحة بين الحواس موجودة فى محسوس آخر، استبان أن كل واحد منها غير صاحبه.
٢
〈الحس المشترك: وظيفتاه الثانية والثالثة〉
ولكن إذ كنا مدركين لما رأينا وسمعنا، وجب بالاضطرار أن يكون إدراك البصر لما رأى: إما بنفسه، وإما بشىء غيره. أو يكون مدركاً نفسه، ومدركاً للون الموضوع. من أجل ذلك إما كان شيئان يدركان شيئاً واحداً، وإما كان البصر مدركاً نفسه. وإن كان للبصر حس هو غيره فذاك ما ذهب على القسمة إلى ما لا غاية له، أو رجع فكان مدركاً نفسه؛ ويلزم هذا القول الحس الأول. — وفى هذا أيضاً مسألة: لأنه إن كان الادراك بالبصر هو
النظر إلى الشىء، والمنظور اليه لون أو كان له لون، فالانسان إذا نظر إلى المنظور فأول ما ينظر إلى لون، فاللون أول منظور اليه. وبهذا يستبين أن الادراك بالبصر ليس هو شيئاً واحداً: لأنا قد نرى وإذا لم نر، فنحن قاضون على الضوء والظلمة، لا على نحو واحد. وأيضاً إنما حال الناظر حال بقدر تلونه، لأن الحس يقبل المحسوس بغير هيولى؛ لذلك تثبت فى الحواس صور المحسوس وآثارها بعد مفارقتها إياه.
وصار فعل المحسوس والحس شيئاً واحداً، إلا أنه فى حد آنيته ليس بشىء واحد. ومثال ذلك القرع والسمع بالفعل: فقد يكون سمع لسامع فلا يسمع، وقرع لذى قرع فلا يقرع. فاذا فعل الذى يمكنه القرع والسمع قرعاً وسمعاً، عند ذلك يصير السماع والقرع بالفعل معاً. — وإن كانت الحركة والفعل والألم فى المؤلم والمفعول فبالاضطرار أن القرع والسمع بالفعل هما بالقوة فى حد الآنية؛ لأن فعل الفاعل وحركة المحرك إنما تنتهى إلى المفعول به، لذلك لم يكن المحرك مضطراً أن يتحرك. ففعل ذى القرع قرع، وفعل السميع سماع وإنصات: وذلك أن السمع على جهتين، والقرع على جهتين. وعلى هذا النحو يجرى القول فى سائر الحواس والمدركة بالحواس. وكما أن الفعل والانفعال إنما يكونان فى المفعول لا فى الفاعل، كذلك فعل الحس والمحسوس فى الحاس. إلا أن هذا الفعل فى بعض الأشياء مسمى، وفى بعض الأشياء ليس بمسمى. ففعل البصر يسمى نظراً، والفعل من اللون لا يسمى؛ وفعل حس الذوق يسمى ذوقاً، ولا يسمى الذى يكون عن الكيموس. — فاذا كان فعل المحسوس والحاس فعلا واحداً، وليسا من جهة الآنية بشىء واحد، فبالاضطرار أن السماع والقرع والكيموس والذوق على هذا النحو قد يفسد ويحفظ معاً 〈وكذلك سائر الحواس والمحسوسات. أما المحسوسات التى〉 حالها بالقوة فليست بمضطرة إلى هذا، وإن 〈الفسيولوجيين〉 القدماء الذين تكلموا به فى الأشياء الطبيعية لم يحسنوا فيما قالوا، وذلك أن الظن غلب عليهم فى أنه لا أبيض
ولا أسود بغير بصر 〈ولا كيموس بغير ذوق〉. فهذا القول من جهة يصح ومن جهة لا يصح. وذلك أن الحس والمحسوس مقول على جهتين: أحدهما بالقوة، والآخر بالفعل، 〈ففى الأخيرة〉 يعرض ما قلنا، ولا يعرض ذلك لغيرها؛ وكان أولئك يقولون قولا كلياً فيما لا يجوز عليه معنى الكلية.
وإن كان الاتفاق فى الأصوات صوتاً، والصوت والسمع شيئان فى حال واحد، واتفاق الأصوات معنى من المعانى، فبالاضطرار أن السمع معنى. ولذلك صار كل مفرط من حاد وثقيل يفسد السمع، وكذلك المفرط من الكيموس يفسد المذاق، 〈و〉فى الألوان المفرط فى النور والأبيض جداً مفسد للبصر، وكذلك حال الشم كانت التى شديدة: إما فى الشدة من الحلاوة، وإما فى شدة من المرارة فذلك مفسد قوة الشم — وهذا دليل أن الحس معنى من المعانى. من أجل ذلك كانت المحسوسة لذيذة عند الحس، إذا دنت اليها 〈بعد أن كانت نقية〉 وليست مخالطة لغيرها: كالحامض، والحلو والمالح. والخلط فى الجملة 〈أكثر〉 اتفاقاً 〈من الخفيف أو الثقيل〉؛ والحار والبارد عند اللمس كذلك. وأما الحس فهو المعنى، ومتى أفرطت هذه أفسدت به وأفسدته.
فكل حس إنما هو لمحسوس موضوع فى عضو خاص، ويقضى على فصول ذلك الموضوع: كقولك البصر يفصل بين الأسود والأبيض، والذوق يفصل بين الحلو والمر. وعلى هذا النحو يجرى القول فى سائر الحواس. ولكنا إذ كنا نقضى على الأبيض والحلو وعلى كل واحد من المحسوسة، فبماذا ندرك فصلها، إلا بالحس إذ كانت محسوسة؟ وهذا دليل أنه ليس فى جزء
اللحم غاية الحس، وإلا كان يجب بالاضطرار أن يقضى على كل شىء يماسه. ولا يمكن القاضى، فى حد القضاء، أن يقضى على أشياء متفرقة فيقول إن هذا الحلوغير الأبيض، ولكن ينبغى أن يكون الأمران جميعاً واضحين له. وكذلك لو أحسست أنا بشىء وأحسست أنت بغيره، لكان يخفى علينا أن هذا غير ذلك فى المدرك منهما، والواجب أن يكون الواحد فاصلا بين الأمرين وقائلا إن الحلو غير الأبيض، وهو قائل لا محالة؛ وكما يقول، كذلك يفكر ويحس. — وقد استبان أنه لا يمكن المنفرد أن يقضى على أشياء متفرقة؛ وكذلك أيضاً لا يمكن أن يكون هذا القضاء منه فى زمان متفرق، لأن الواحد يقول إن هذا خير وهذا شر، كما أن يفصل بينهما. كذلك وإذا قال بأحدها لم يقل بعرض من الزمان، وذلك أنه الآن إن هذا غير ذلك، وليس بالآن صار غيره، إلا أنه يقول بالآن من أجل أنه يلزمه ذلك الآن، فلا محالة أنهما معاً غير متفرقين فى زمان غير متفرق.
إلا أنه لا يمكن الشىء بعينه أن يتحرك حركات متضادة، وهو غير مجزأ فى زمان لا قسمة له لأن الشىء الحلو — إذا كان — يحرك الحس بضرب من الضروب، ثم يحرك الشىء المر حركةً مضادةً لحركة الحلو، ثم يتلوه الأبيض يفعل مثل ذلك. — فقد وجب أن يكون القاضى عليها فى العدة والزمان فى حد معاً غير مجزأ وغير مقسوم، إلا أنه فى حد الآنية مباين. فادراك الحس لذات الأقسام ربما كان بتجزئة له فى الأضداد؛ ومن جهة آنيته ليست حاله هكذا، بل هو عند الفعل مجزأ. — ولا يمكن أن يكون إدراكه الأبيض والأسود معاً ولا التألم بصورها معاً، إذا كان الحس والفهم بهذه الحال. — فكما أن النقطة التى سماها أقوام نقطة إنما هى نقطة إذا كانت واحدة أو إذا كانت اثنين، فهى مجزأة من هذه الجهة، كذلك المدرك للأشياء فرد يقضى عليها معا؛ً ومن هذه الجهة لا تجزئة له، ومن قبل استعماله النقطة مرة بعد أخرى
يجب له التجزئة؛ فإذا كانت اثنتان لطرف، كان المقضى عليه اثنتين متباينتين؛ وإذا كانت نقطة واحدة، كان واحداً معاً.
هذا ما فصلنا فى أولية الحيوان التى بها صار حساساً دراكاً.
٣
〈الفكر والإدراك والخيال〉
والذى حدوا به النفس هو شيئان: حركة الانتقال، وإدراك الأشياء بالفهم والقضاء عليها. وقد يظن أن الإدراك بالفهم يشبه الإدراك بالحس (وذلك أن النفس فى الأمرين جميعاً تعرف وتقضى) وكذلك رأت القدماء — منهم أنبادقلس وأوميرش الشاعر — أن الإدراك بالعقل شبيه الإدراك بالحس وأنه شىء جسمانى، وهكذا كان ظن جميعهم ؛ وإن من فهم إنما يفهم بالمثل كالحاس إذا أحس فانما يحس بالمثل كالذى فصلنا فيما تقدم من كلامنا. فالواجب كان عليهم مع هذا أن ينظروا فى الغلط العارض فى الفهم والحس، لأنه أليق بالحيوان لمكان أهليته: فذو النفس قد يقيم فى الغلط زمناً طويلا. ولا بد بالاضطرار إما أن يكون ما قال أقوام حقاً: أن جميع ما ظهر من الأشياء حق، وإما أن مماسة غير المثل غلط وكذب، 〈لأن〉 هذا مضاد لإدراك المثل بالمثل. والعلم والغلط شيئان مضادان. وقد استبان بهذا أن الإدراك بالحس والإدراك بالعقل ليست حالهما حالا واحدة: وذلك أن أحد الأمرين موجود فى الجميع،
والآخر لا يكون إلا فى أقل الحيوان. وليس الإدراك بالعقل (دون الإدراك إذا صح أولم يصح إدراكاً واحداً، وذلك أن صحة الإدراك بالعقل فهم وعلم وثبت صادق، والإدراك به على غير صحة خلاف لهذا كله)، وليس من هذه شىء مشاكل للإدراك بالحس، ذلك أن الحس أبداً صادق فيما كان خاصاً به وموجود فى جميع الحيوان — وقد يمكن أن يكون التفكر 〈كاذباً〉، ولا يكون فى من لا نطق له. — وأما التوهم فانه غير الحس وغير التفكر، ولا يكون ظن بغير توهم. ومن الظاهر البين أن التوهم ليس هو تفكراً ولا ظناً، وذلك أن التوهم إلينا (إذا شئنا نكتسبه من بين أعيننا، كالذى يفعل المذكرون لأنفسهم بنصبهم أوثاناً وأمثالا بين أيديهم لئلا يذهب عليهم الذكر)، فأما الظن فليس إلينا، بل نحن مضطرون فى ذلك أن نكون إما محقين وإما كاذبين. وإذا ظننا ظناً مخيفاً أو مشجعاً لنا فيغيرنا ذلك الظن من ساعتنا؛ وإنما حالنا فى التوهم كحال من رأى أشياء فى صورة مخيفة أو غير مخيفة.— والظن أيضاً فصول: منها علم ومنها رأى، ومنها حكم، وما كان مخالفاً لهذه. والكلام فيها قول غير هذا.
ولكن إذ كان الإدراك بالفهم غير الإدراك بالحس، وبعض إدراك العقل توهم وبعضه ظن، فلنحد أولا القول فى التوهم ثم نصير إلى ما بعد ذلك. إن التوهم حال يتخيل لنا فيها شىء ليس بموجود بالحقيقة، ولا نقول إن التوهم شىء منقول اسمه فيكون واحداً من التى يقضى بها: فاما صدقاً وإما كذباً. والتى يقضى بها هى الحس والظن والعلم والعقل.
وقد استبان مما قيل أن التوهم ليس بحس. وذلك أن الحس: إما كان فى حد قوة، وإما فى حد فعل، كقولنا: بصير، والإدراك بالبصر؛ ومن الظاهر أن التوهم ليس بأحد هذين: 〈على نحو〉 ما يكون منا فى النوم. — وأيضاً الحس أبداً غير مفقود، وليس التوهم كذلك. ولو كان التوهم أبداً موجوداً بالفعل لكان فى الإمكان وجوده فى جميع الدواب ولسنا نراه موجوداً فى جميعها مثل النمل والزنبور والديدان فانه ليس لها توهم. — ومن ذلك أيضاً أن الحواس أبداً صادقة وأن أكثر التوهم كذب. — ولسنا نقول إذا استقصينا حال الشىء المحسوس إنه فى ظاهر أمره إنسان؛ وإنما نقول هذا القول فنكون إذاً كاذبين فى توهمنا، وإما صادقين إذا لم يكن إدراكنا إدراك استقصاء، كالذى قلنا أولاً إنه يظهر لنا تخييل عند إغماضنا الأعين.
〈و〉أيضاً ليس التوهم من التى تصدق أبداً كالعقل أو العلم، وذلك 〈أن〉 التوهم قد يمكن أن يكون كذباً. والذى بقى علينا النظر: فعسى أن يكون التوهم خطر بالهاجس، فان الخطر قد يكون صدقاً، وقد يكون كذباً، أوعسى أن يكون رأياً، لأن التيقن آية اللاحق بالرأى (وذلك أنه لا يمكن أحداً أن يرى رأياً لا يتيقنه)، وليس لشىء من الدواب تيقن، والتيقن موجود لأكثرها، والتيقن لاحق لكل من يرى 〈رأياً〉، والقنوع لاحق بالتيقن، والنطق يتبع القنوع؛ والتوهم يكون للقليل من الدواب، وليس لها نطق ألبتة. — فبهذا قد استبان أنه ليس التوهم ظناً، لا مع حس ولا بحس ولا التركيب من الظن والحس توهم، ولا شك أن الظن لا يكون إلا لمن له حس؛ وأزعم أن التركيب الذى يكون من الحس بالأبيض، والنطق فيه هو التوهم، وليس التوهم من ظن الخير وإدراك الأبيض، والذى يظهر هو الذى يظن وإياه يدرك حساً بغير عرض. وتظهر أشياء وهى كذب والنطق بها صادق: كما أن الشمس تظهر بمقدار قدم، واليقين بها أنها أعظم من الدنيا. ينتج من ذلك إما أن
يطرح الإنسان الظن الذى كان منه، وهو سالم فى الأمر لم يتألم ولا أنه نسيه ولا أنه قنع بغيره فانتقل عنه، وإما أن يقيم على ذلك الظن فيكون ظنه بالاضطرار صدقاً وكذباً 〈معاً〉. وإنما يكون ظنه كاذباً إذا ذهب علم الشىء عليه جملة، أو تغير الأمر. فلا محالة أن التوهم لا يكون من هذه التى ذكرنا أولا، ولا هو فى نفسه شىء منها.
ولكن إذا كان فى الإمكان أن يتحرك الشىء فيحرك غيره، والتوهم فيما يرى حركة وليست بكائنة بغير حس، وإنما يكون فى ذوى الحس، وفى الإمكان أن تحدث حركة عن فعل الحس فتكون بالاضطرار شبيهة بالحس — فالتوهم إذاً حركة لا يمكنها أن تخلو من الحس فلا تكون فيما لا حس له، ومن كانت له هذه الحركة فعل وتألم بها كثيراً، وفى الإمكان أن تكون هذه الحركة صادقة وكاذبة. — وإنما يعرض هذا فيها من أجل ما نحن قائلوه. إن الحس صادق فيما كان خاصاً له وقل ما فيه من الكذب. وإنما يجوز أن يغلط فيكذب إذا عرض له عارض: وليس يغلط فى أن الأبيض أبيض، ويغلط فى أن كان هذا أبيض أم الآخر، فهذا ضرب ثان من الخطأ. والغلط الثالث يكون منه فى الأمور الشائعة التابعة للأعراض: كقولك: الحركة والعظم، فانما تعرض للأشياء المحسوسة، وفى مثلها خاصةً يغلط الحس. وبين حركة فعل الثلاثة الحواس فرق: فالحركة الأولى صادقة ما كان الحس حاضراً، والأخريات كاذبات: حضر الحس المحسوس أو لم يحضر، ولا سيما إذا كان الشىء المحسوس نائياً بعيداً. — فان لم يكن مما قلنا شىء غير التوهم، وهو الذى نتكلم عليه، فالتوهم حركة من فعل الحس. وإذا كان البصر حساً 〈بالمعنى
الأكمل〉، يسمى التوهم باليونانية باسم مشتق من الضوء لأنه بغير ضوء لا يمكن أن يرى أحد شيئاً، وليس يكون أكثر التوهم إلا من البصر. فلأن يكون الحيوان باقياً صار أكثر فعله عن التوهم، والبهائم من أجل أنه ليس لها عقل صار لها توهم — 〈و〉كان التوهم لذوى العقول، وهم الناس، من أجل أن العقل ربما عرض له عارض فحجبه، مثلما نراه يعرض له فى وقت المرض والنوم.
وقد قيل عن التوهم ما هو، ولم كان.
٤
〈العقل المنفعل〉
فلننظر فى جزء النفس الذى به تدرك النفس وتعقل: أمفارق هو كمفارقة الجسم الجسم؟ أو إنما مفارقته بالمعنى وليس هو بمفارق ألبتة؟ وأى فصل له؟ وكيف يكون منه الفهم؟ — 〈هل هو〉 كمثل الإدراك بالحس فيألم بالمعقول بضرب من ضروب الآلام، أو هناك نوع آخر؟ و〈لا〉 ألم فيه ولا يحتمل التغير. وكيف قبوله: بالصورة أم بالقوة؟ — لا بحال واحدة، فيكون العقل عند المعقول بمنزلة الحس عند المحسوس، أم قبوله الصورة بضرب آخر؟ وبالاضطرار إذا كان هذا الجزء يعقل الجميع، ألا تكون المعانى يخالط بعضها بعضاً فيكون ذلك الجزء ممسكاً لها كما قال أنكساغورس، وإنما يكون هذا منه لكى يعرف القريب، فاذا ظهر له منعه ودفعه. لذلك ليس له طباع إلا طباع الامكان. فلا محالة أن عقل النفس المسمى عقلا (وهو الذى يتفكر به فيرى الرأى أيه) ليس بموجود فى شىء من الأشياء بالفعل قبل أن يدرك الشىء بفهمه. ولذلك لا يجب أن يكون مخالطاً للجرم ولا يوجب أن يكون متكيفاً إما حاراً وإما بارداً، ولو كان مثل الحاسة وجب ذلك له؛ إلا أنه ليس كشىء منها. وجاد ما قال
القائلون إن النفس مكان «للصور»، إلا أن هذا المعنى ليس لكل نفس ما خلا النفس العاقلة فقط فانها مكان للصور بحد القوة لا بالفعل. — والدليل على الفرق بين المدرك للأشياء بالعقل، وبين المدرك لها بالحس ما نراه من حال الحاس والأعضاء الحاسة، وأن الحس لا يدرك إدراك الدون إذا أدرك المفرط من المحسوس: قرعاً كان، أو ناصعاً من الألوان، أو شديداً فى بشاعة رائحته: فلا البصر عند مثل هذا يبصر، ولا المنخر يشم، ولا السمع يسمع. ولا يمتنع الفعل إذا أدرك شيئاً من ذوى اللطافة والغموض من أن يكون دراكاً لما دونه بأكثر مما أدرك ذاك الأول: والحس لا يكون بغير جسم، فأما العقل فيفارق الجسم. فاذا كان كل ما ذكرنا بالحال التى قلنا قبل: إن العقل مثل العالم الفعال (وإنما يكون هذا إذا أمكنه أن يبدأ به الفعل) وبعد أن يعلم إذ علم أنه عالم فى حد القوة، ولا سواء قبل أن علم وقبل أن وجد العلم؛ ويمكنه فى ذلك الوقت أن يعقل نفسه.
وقول القائل: «جسم» غير قوله: «للجسم» ، وقوله: «ماء» غير قوله «للماء» (ويجرى القول على هذا النحو فى أشياء كثيرة، لا فى الجميع، وفى طوائف من الأشياء 〈يستوى الأمر〉): قول القائل: «جزء اللحم» و «لجزء اللحم» شىء واحد، فالعقل يقضى على الآخر فى الجنس، وعلى الآخر فى حال القسمة، وذلك أن «جزء اللحم» لا يكون بغير هيولى بل يقضى على الأفطس: كشىء مثل شىء فى شىء. فبالحس يقضى على الحار والبارد، وبموضع النطق يقول ما جزء اللحم ويقضى على الغيرية: إما كشىء مفارق وإما كخط أعوج عند نفسه إذا مر هكذا قضاؤه على ما كان لجزء اللحم — 〈وكذلك فيما يتصل بالكائنات المجردة، المستقيم يماثل الأفطس، لأنه مرتبط بالمتصل. ولكن ماهيته شىء آخر، لو كانت ماهية المستقيم مختلفة عن المستقيم:
ولنفرض أنه المثنى. وإذن فنحن ندركه بملكة أخرى، أو بالأحرى ندركه بحال أخرى 〈للملكة نفسها〉. وبالجملة فانه كما أن موضوعات 〈المعرفة〉 منفصلة عن مادتها فكذلك فى عمليات العقل〉.
وللسائل أن يسأل فيقول: إن كان العقل شيئاً مبسوطاً لا يحتمل ألماً ولا تغيراً، ولا يشرك شيئاً من الأشياء كما زعم أنكساغورس، فكيف يفعل شيئاً، إذا كان إدراك الشىء بالعقل تألما؟ لأنه يكون يشرك الأمرين فيكون بحال فاعلا، وبحال مفعولا به. — وأيضاً إن كان العقل معقولا، فلاشك أن العقل لسائر الأشياء، إلا أن يكون معقولا بجهة غير الجهة التى منها ندرك الأشياء، وما عقل بالصورة فهو واحد من المدركة بالعقل؛ وإما أن يكون له خلط وهو يعقله مخلوطاً كسائر الأشياء. — وإنما قيل إنه يألم من قبل التجزئة، وإن العقل هو المعقول بحد القوة، وليس هو عقلا بالفعل قبل أن يدرك ما أدرك. ويجب أن يكون حال العقل مثل لوح ليس فيه كتابة بالفعل. — وهو أيضاً معقول مثل سائر المعقولة واللاتى لا هيولى فيها العاقل والمعقول منها شىء واحد، لأن العلم بحاث مفكر. وما كان من هذه الجملة معلوماً فحاله حال واحدة (ولكن انظر ما العلة لئلا يكون العقل أبداً مدركاً!) وأزعم أن المعقول فى دون الهيولى إنما هو معقول بحد القوة فقط. ولذلك لم يكن للأشياء الهيولانية عقل، لأن العقل من جهة القوة ليس فى هيولى. وأما المعقول فانه للعقل، منسوب إليه.
٥
〈العقل الفعال〉
وكما أن فى جميع الطبائع شيئين أحدهما هيولى كل جنس (و〈هذه〉 الهيولى هى جميع الأشياء فى حد القوة)، والآخر علة فاعلة — وحالهما كحال الصناعة
عند الهيولى — كذلك نجد باضطرار أن هذه الفصول للنفس: فالعقل الموصوف بجهة كذا وكذا يمكنه أن يكون الجميع، والعقل الفعال للجميع كانت فى حده وغريزته مثل حال الضوء: فان الصورة تجعل الألوان التى فى حد القوة ألواناً بالفعل. وهذا العقل الفعال مفارق لجوهر الهيولى، وهو غير معروف ولا مفارق لشىء. والفاعل أبداً أشرف من المفعول به، والأرخيه أكرم من الهيولى؛ وكذلك حال العقل الفعال. فأما العقل الذى حاله حال قوة فانه فى الواحد أقدم بالزمان، وأما فى الجملة فلا زمان. ولست أقول إنه مرة يفعل، ومرة لا يفعل؛ بل هو بعد ما فارقة على حال ما كان، وبذلك صار روحانياً غير ميت. (والذى دعانا الآن 〈إلى أن〉 قلنا إن هذا العقل لا يستحيل ولا يألم أن التوهم هو العقل الآلم، وإنه يفسد) وليس يدرك العقل ولا يفهم شيئ بغير توهم.
٦
〈أفعال العقل: تعقل المركبات، وتعقل البسائط〉
فالادراك لما لا تجزئة له لا يكون إلا بما لا كذب فيه. والتى فيها كذب وصدق ولها تركيب معان كأنها قائمة فى نفسه؛ مثل ما قال أنبادقلس: لو أن الود يؤلف بين الأشياء، مثل ما نرى من تركيب المفترقة، لكانت «رءوساً كثيرة بلا أعناق»: كقولك «ما لا قدر له» أو «قطر» أو «ذو تقدير وقطر». ومتى كان كونها فى الآن أو سيكون، وتوهمت الزمان وتركيبه لأن الكذب أبداً فى التركيب ومن قال: إن الأبيض ليس بأبيض، وما ليس بأبيض أبيض — فقد جعل تركيباً. وقد يمكن أن نقول إن الجميع قسمة. وليس الحق أو الباطل فى أن يقال إن فلاناً أبيض الآن، فقد يجوز أن يكون كان أبيض أو سيكون. والعقل المميز هو الذى يفعل هذا فى كل واحد منهما.
والذى لا تجزئة له مقول على جهتين: إما بقوة، وإما بفعل. وليس يمنع العقل من إدراك ما لا تجزئة له كالطول، فان الطول بالفعل غير منقسم،
وفى الزمان غير متجزئ، وكذلك الزمان ذو قسمة ولا قسمة له من جهة الطول. — وأما الذى لا تجزئة له من جهة الصور لا من جهة الكم فان العقل يدركه فى زمان لا تجزئة له وبجزء لا قسمة له من النفس 〈و〉بالعرض يتجزأ، لا كتلك الأجزاء التى بها أدرك العقل؛ فان فيها ما لا يتجزأ. أو عسى أن يكون فيها جزء غير مفارق، وهو الذى يجعل الزمان والطول واحداً؛ وهذا أمر موجود على هذا النحو فى كل متصل من زمان وطول.
ومن العدم يستبين حال ما كان بهذه الجهة غير مجرى، وحال النقطة وكل قسمة. والقول يجرى على هذا النحو فى سائر ما هناك: كقولك: كيف يعرف العقل السواد والأسود؟ ولا محالة أنه بالضد يعرفه. ويجب أن تكون المعرفة بحد قوة، وإن أشياء لم يكن فيها ضد عرف ذلك الشىء وكان موجوداً بالعقل أنه مفارق.
فكل سالبة إما صادقة وإما كاذبة ؛ وكذلك كل موجبة. وليس كل إدراك عقل صادقاً، ما خلا إدراك تحديد مائية الشىء؛ وليس إيجاب الشىء للشىء صدقاً، بل كمثل صدق النظر من العين فيما كان خالصاً لها من المنظور إليه. فأما إن كان الانسان أبيض أو ليس بأبيض، فليس إدراك العقل لمثل هذا أبداً بصادق، 〈و〉هكذا حال ما كان أبداً معرًى من الهيولى.
٧
〈العقل العملى〉
وكذلك حال العلم بالفعل. وأما العلم الذى فى حد القوة فانه فى الواحد أقدم بالزمان، وفى الجملة لا فى الزمان، لأن الجميع كان من شىء قائم بالانطلاشيا. فاذ فى الظاهر قد نرى الشىء المدرك بالحس مبدياً بفعله، وإنما كان من الحاس فى حد القوة وليس يألم ولا يستحيل. من أجل ذلك
صار هذا ضرب حركة غير الضروب الأخر، لأن الحركة إنما هى فعل ناقص. وأما الفعل فانه بالجملة غير ذلك، وإنما هو حركة شىء متمم. — فالادراك بالفعل شبيه أن يقال 〈إنه〉 قول فقط؛ فأما إدراك الشىء بأن يتلذذ به أو يكره، فهذا شبيه بالاثبات أو بالنفى، فيكون الانسان إما طالباً وإما هارباً؛ والتلذذ والاستبشاع فعل القوة الحاسة فى الجيد والردىء بموضع الاعتدال والتوسط. وكذلك حال الشهوة والكراهية وحد الفعل ليس هذا ولا هما غير الشىء الحاس، وهما غير من جهة الآنية. — وأما عند النفس الناطقة فالتخييل بمنزلة الأشياء المحسوسة، فاذا ميزته وكان إما جيداً وإما رديئاً جاز أن يكون شبيهاً بالسالبة أو بالموجبة فتطلبه أو تهرب عنه. لذلك لا تفهم النفس شيئاً أبداً بغير شىء يتخيل لها عن التوهم، كما أن الهواء جعل الحدقة مثال كذا وكذا، والحدقة جعلت شيئاً آخر — كذلك السمع؛ إلا أن الغاية فى الأصل غاية واحدة وتوسط واحد من الاعتدال، وهى من جهة الآنية كثيرة. وقد قيل أولا بماذا يميز العقل الأشياء فيعرف فصل الحلو والحامض، فلنقل عنهما فى هذا الموضع. فالكلام فى هذا الفن والكلام فى الحد كلام واحد، وذلك لأمرين: إما لأنها يعادل بعضها بعضاً، وإما مكان العدد الذى هو لها. ولا فصل فى مسألة السائل إذا قال: كيف يقضى العقل على الأضداد وعلى التى ليست بمشابهة فى أجناسها كالأبيض والأسود؟ فليكن الجسم عند الدال من جهة المثال كمثل حال «الألف» عند «الباء»: و«الألف» دلالة الشىء الأبيض، و«الباء» دلالة الأسود. فنحن إن عكسنا فجعلنا «الجيم» و«الدال» لشىء واحد، كانت «الألف» و«الباء» بمثل تلك الحال، إلا أنهما من جهة الآنية ليسا بشىء واحد. وكذلك حال العقل فى إدراكه: بأن كانت «الألف» دلالة الحلو، و«الباء» دلالة الأبيض.
فالعقل يدرك صور الأشياء بما يصير إليه من تخيل التوهم، فيكون الشىء المدرك إما مطلوباً، وإما مهروباً عنه بغير حس، كالذى يكون منه
فى حال توهمه: 〈مثلا〉 إذا ظهرت النار على المنار منذرة بالحرب، فانه يتحرك كما قد أحس بالنار؛ وبالجملة يعلم إذا رأى النار بأنها منذرة حرب. فأما إذا صار إلى التفكر والارتياء فيما يأتى وفيما حضر فرأى أن أحد الأمرين لذيذ أن يسرع اليه، والآخر كريه، أهل ان يدفع عند ذلك إما هرب وإما جذبه الطلب؛ وإذا كان فى هذا 〈كانت〉 الحركات فى عمل ألبتة. والصدقة والكذب، وإن لم يكونا فى عمل، فهما فى مثل هذا الحس من الخير والشر، إلا أن هناك فصلا فى الجملة.
وإدراك العقل الأشياء المعراة من الهيولى كادراك الشىء ذى الفطوسة من الأفطس، فان الأفطس لا يكون أفطس بغير هيولى. وإذا كان إدراك العقل من الفطوسة غورها وعمقها على حيالها، كان إدراكه إدراكاً بغير جزء من اللحم؛ وكذلك الأشياء المعلومية ليست بمفارقة الهيولى إلا بالتوهم. — وفى الجملة العقل يدرك الأشياء إذراك فعل. وسننظر أخيراً إن كان يمكن العقل، وهو فى الجسم، إدراك شىء من مفارقات الأجساد، أو ليس يمكنه ذلك.
٨
〈العقل والحس والخيال〉
أما فى وقتنا هذا، 〈فـ〉ـلنوصل ما لنا فى النفس ولنردد القول فيها: إن النفس هى جميع الأشياء. والأشياء إما محسوسة، وإما معقولة. فالمعقولة إنما صارت معقولة بالعلم، والمحسوسة محسوسة بالحس. وينبغى أن ننظر كيف يكون هذا.
وأزعم أن العلم والحس ينقسمان على الأشياء: فما كان منها فى حد قوة أنفسهم لما ضاهاه من الأشياء فى حد القوة، وما كان فى حد
الفعل كانت قسمته لذوى الأفعال. — وقوة النفس الحاسة والعلامة هما شىء واحد إذا حملا على المعلوم والمحسوس. ولا بد من: إما كانت تدرك الأشياء بأعيانها، وإما بصورها. وليس يمكن أن تكون الأشياء بأعيانها والعالم بها شيئاً واحداً، لأن الصخرة لا تكون فى النفس، وتكون صورتها من أجل ذلك كلية. فالنفس بمنزلة اليد: فان اليد الآلة، والعقل صورة الصور، والحس صورة الأشياء المحسوسة. فلما لم يكن شىء غير الأجسام أو ما فارق الأجسام، كالذى نرى من حال الصور المحسوسة — وجب أن يكون المعقول: إما واحداً من الأشياء المقولة بالتعرى من الهيولى، أو ما كان من غير أمر المحسوسة والآفات المعترية لها. من أجل ذلك لا يستطيع العقل أن يفهم شيئاً أو أن يستفيد علماً إذا لم يحس. فمتى ما تفكر كان مضطراً مع فكرته إلى التوهم. وذلك أن التوهم طائفة من المحسوس، إلا أنه بغيره أولى. والتوهم غير الاثبات وغير النفى، لأن الحق والباطل إنما يكونان بتركيب المعانى. فأما المعانى الأول فلا فرق فى أن تكون ضرباً من التوهم، أو ما تخيل عن التوهم؛ وإن لم تكن تلك المعانى تخيلا من التوهم، فانها لا تكون بغيره.
٩
〈القوة المحركة〉
فالنفس محدودة بقوتين: إحداهما فاصلة 〈فى〉 الأشياء قاضية عليها، وهى فعل الفكر والحس؛ والأخرى حركة الانتقال عن الأماكن. فهذا تفصيل الحس والعقل؛ فلننظر ما المحرك: أجزء واحد من أجزاء النفس يحرك هذه الحركة وهو جزء مفارق، ومفارقته مفارقة معنى أو مفارقة جسم؟ أم النفس محركة كلها؟ وإن كان المحرك جزءاً من أجزائها: أخاص هو من غير الأجزاء التى من مرادنا أن نقول بها، وهى غير التى ذكرنا؟ أو إنما هو جزء منها؟
وفى هذا الفن مسألة: كيف جاز أن يقول القائل إن للنفس أجزاء، وكم هى. وأخلق بها من هذه الجهة ألا تكون لها نهاية، وذلك أنها لا تقف على ما حصل أقوام فقالوا إنها ثلاثة: فكر وغضب وشهوة، وما قال آخرون إنها ذات نطق وغير نطق. لأنه بقدر الفصول التى فصلوا لها فعرفوا بعضها من بعض — بقدر ذلك بعدت الأجزاء الباقية بعضها من بعض، ونحن قائلون عنها فى وقتنا هذا: ليس يسهل على أحد إثبات القوة الحاسية فى عداد ذوى النطق، أو فيما لا نطق له؛ ومن يرى القوة الغاذية فى جميع الزمان وفى جميع النامية؛ والمعاياة كثيرة فى القوة المصورة للأشياء فى التوهم كيف كانت فى حال غير سائر القوى — وفى 〈أى〉 حال هى وهى شىء واحد، هذا ومثله يلزم من أراد إثبات أجزاء النفس على حد تفرق؛ ومع هذا فانا نجد الشوق وهو الأرب غير هذه الأجزاء جميعاً بالمعنى وبالقوة، ومن القبيح أن نقرنها، لأن الروية فى الفكر، والشهوة والغضب فى الجزء الذى لا نطق فيه؛ وإن كانت النفس ثلاثة أجزاء ففى كل واحد منها شوق وهو الأرب.
ولكن لنرجع إلى ما يلزمنا القول فيه فى وقتنا هذا لتعلم بالمحرك للحيوان حركة الانتقال. فان حركة النمو والنقصان موجودة فى الجميع، وما كان موجوداً فى الجميع فمظنون به أنه داع إلى الغذاء والتولد. — وسنقول أخيراً فى الاستنشاق وإخراج النفس والنوم واليقظة، فان الفحص عنها عويص و〈فيه〉 معاياة كثيرة. — فلننظر ما المحرك للحيوان حركة السير والانتقال. — والدليل أن القوة الغاذية ليست علة انتقال الحيوان أن هذه الحركة إنما تكون أبداً من أجل شىء واحد، ولا تكون إلا مع توهم أو شهوة، لأنه لا يجوز أن يتحرك شىء غير مشتهى أو هارب عنه، إلا أن تكون حركته حركة حفز تضطره. ولو أن القوة الغاذية كانت علة حركة الانتقال، لكانت الشجر متنقلة
〈و〉لكان لها عضو كآلة تليق بهذه الحركة. — وكذلك ليست القوة الحاسة بعلة لهذه الحركة، لأن الكثير من الحيوان ذو حس، إلا أنها راتبة غير متحركة ولا منتقلة، وهى على حال واحدة إلى آخر منتهاها. وإذا كان الطباع لا يفعل شيئاً باطلا ولا يترك شيئاً مما تدعو إليه الحاجة باضطرار ما خلا المنقوص المعلول؛ وليس ما ذكرنا من الحيوان بمنقوص ولا معلول: والشاهد على ذلك أنها تتوالد 〈ويجرى عليها〉 النشوء 〈والانحلال〉؛ فلو كانت حركة الانتقال لا تكون إلا عن الحس، وجب أن يكون لهذا الحيوان أجزاء شبيهة بحركة السير والانتقال أيضاً. — وليس الفكر والعقل محرك الحيوان حركة الانتقال، لأن النظر فى العقل ليس لعمل ولا يقول شيئاً عن المطلوب ولا عن المدفوع، وإنما الحركة أبداً لطالب شىء ولهارب عن شىء. أو لا إذا نظر العقل وفكر فى شىء مثل هذا رأى الأمر بالهرب أو بالطلب؛ وكثيراً ما يتفكر العقل فى شىء مخيف أو فى شىء ملذ فلا يكون الخوف عن أمر ولا للذة حركة؛ فان القلب يتحرك حركة الخوف — وليس ذلك عن العقل؛ وإذا تفكر فى شىء ملذ كان عضواً غير القلب المتحرك حركة اللذة. 〈و〉 لو رأى العقل وأمر الفكر بالطلب أو بالهرب لما كان يحرك العضو عما رآه العقل؛ وإنما يعمل بقدر الشهوة، كالرجل الذى لا يضبط نفسه. وبالجملة أيضاً قد نرى علم الطب فلا يبرئ من المرض، كأن المالك على فعل الشىء غير الصناعة، ولا يفعل ذلك إلا بالصناعة. — وأيضاً ولا الشوق الذى هو أرب فعله حركة الانتقال، لأن الحلماء من الناس قد يشتاقون إلى الشىء يشتهونه ولا يفعلون ما تدعوهم إليه شهوتهم، بل يؤثرون فعل العقل ويتبعونه فينقادون له.
١٠
〈علة الحركة فى الكائنات الحية〉
والذى يظهر لنا أنه محرك الحيوان حركة الانتقال شيئان: أحدهما الشهوة، والآخر العقل (وإن وضع أحد التوهم بموضع الفهم: فكثير من الأشياء يتبع التوهم فيكون عنه بغير علم، وفى سائر الحيوان ليس الادراك إلا بالتوهم وبالفكر). فهذان الاثنان محركان للحيوان الحركة المكانية: وهما الشهوة والعقل. والعقل عقلان: عقل مفكر لعلة ومن أجل شىء، وعقل عن تأمل؛ والفصل بينهما الابتداء من الغاية. وكل شهوة فانما تعرف من أجل، وليس هذه الشهوة بدء العقل الفعال، بل أجزاء العقل الفعال بدء العقل. من ذلك صح أن هذين هما اللذان يحركان الحيوان حركة الانتقال فيما يظهر، وهما: الشهوة والفكر العملى. والمطلوب المشتهى يحرك أيضاً، 〈وما〉 من أجله أن الفكر يحرك، 〈هو أن〉 المشتهى بدء حركة الفكر. — والتوهم إذا حرك لا يحرك بغير شهوة.
والشىء المشتهى محرك واحد؛ ولو كان اثنين (أعنى العقل والشهوة) 〈لكانا〉 يحركان تحريكاً بصورة مشتركة. ولسنا نرى هذا كائناً فيهما، ما خلا العقل فانا لا نراه يحرك بغير شهوة، وذلك أن الروية أرب وشهوة، ويحرك العقل بالفكر فانما يتحرك بالروية؛ وأما الشهوة فانما تحرك بغير فكر — لأن الشهوة إنما هى ضرب من الشوق. وكل عقل فان مذهبه مستقيم؛ فأما التوهم والشوق فان مذهبهما مستقيم وغير مستقيم. من أجل ذلك صار كل شىء مشتهى محركاً، إلا أنه يحرك فيدعو إما إلى خير هو فى نفسه خير، وإما إلى خير فى ظاهر أمره. وليس كل خير خيراً ما خلا المعمول به؛ والمعمول هو الذى يمكن أن يكون بحال غير الحال الذى عمل بها.
فقد استبان أن هذه القوة التى تسمى شوقاً هى المحركة للحيوان حركة الانتقال. وأما الذين جزأوا أقسام النفس فانهم إن جعلوا قسمتها بقدر القوى جعلوها كثيرة العدد: وهى: قوة غاذية، وقوة حاسية، وقوة إدراك بالفهم، وقوة مروية، وقوة مشتهية؛ وبين هذه القوى من الفصل أكثر مما بين الشهوة والغضب. فالشهوة قد يضاد بعضها بعضاً. ويعرض ذلك إذا اختلف الفكر والشهوة (وإنما يكون هذا من الحيوان فى أخذ حس الزمان: والعقل، من أجل العافية، إما منع وإما أمر، فأما الشهوة فمن أجل اللذة إنما تحض عليها أبداً، والشىء اللذيذ إنما يظهر فى الجملة كالجيد، وإنما يكون هذا لترك النظر فى العاقبة) فيرى الشوق محركاً بالصورة أولى هذه المحركات، وهو الشىء المشتهى المطلوب، فانه يحرك ولا يتحرك، من أجل أنه مفعول مصور بالوهم — إلا أن الأشياء المحركات كثيرة فى العدد.
وهى ثلاثة: أحدها الفاعل المحرك، والثانى هو الشىء الذى به يفعل المحرك، وثالثها المتحرك المفعول به. فالحركة على جهتين: أحدهما لا يتحرك فى نفسه، والآخر متحرك منتقل — والخير المعمول به هو الذى لا يتحرك فى نفسه، والمشتاق إليه هو المحرك الفاعل، والمحرك المفعول به، (فالحيوان من أجل جهة الاشتياق متحرك، والشوق ضرب من الحركة ومن الفعل). وآلة الشوق التى بها يحرك الحيوان آلة جسمانية. ومن أجل أنها أجسام فسننظر فيها إذا تكلمنا فى الأعمال التى تجمع حالتى ذى النفس من نفسه وجسده. فأما الآن فإنا نختصر فنقول بايجاز إن المحرك كآلة هو الذى بحال واحدة من بدئه ونهايته، مثل الذى يسمى باليونانية جنجلموس فان فيه أحد وثنية: فأحد هذين نهايته، والآخر بدؤه؛ ولذلك كان أحدهما ساكناً والآخر متحركاً، فهما بالمعنى مفترقان، وليسا مفترقين بالجسم.
وكل إنما يتحرك إما بدفع، وإما بجذب. وكذلك ينبغى أن يكون شىء ثابت كالذى نراه فى الفلك، فيكون فيه 〈سكون〉 الحركة منه.
فالحيوان كما قيل شهوانى فى الجملة، ومن هذه صار محركاً بغير توهم. وكل توهم إما كان فكرياً أو حواسياً. وسائر الحيوان ذو توهم.
١١
〈علة الحركة فى الكائنات الحية — تابع〉
فلننظر فى الباقى منه الذى ليس له حس ما خلا حس اللمس. وما المحرك له؟ وهل يمكن أن يكون لمثله توهم وشهوة أم لا يمكن؟ قد نرى فى الظاهر أن اللذة والكراهة موجودتان فيه. وإذا كانت هاتان موجودتين، كانت فيه الشهوة باضطرار. فأما التوهم — كيف يكون فيه؟ لا تقدر حركة الذى يتحرك على غير عماد.
فالتوهم الحواسى، كالذى قيل، موجود فى سائر الحيوان. وأما التوهم الذى يكون على الروية فإنما هو الذى النطق، فان الاختيار من فعل الفكر: فاما عمل بهذا، وإما بهذا. وهو مضطر فى المثل إلى أحد الأمرين، وإنما عنى الأعظم إلى أن يفعل شيئاً واحداً عن توهم كثير. وعلة ذلك أنه ليس له العزم الكائن عن القياس؛ لذلك لم يكن للشوق روية، فربما غلبت الشهوة للروية التى لا روية فيها. وإنما غلبت هذه تلك، فتكون حالها شبيهة بدون تلك، إذا كانت حال النفس حال تهتك فى رداءة مزاج (ففى الطباع المستظهر من الشوق هو أرأس وأملك). ومن أجل هذا يجب أن تكون مذاهب ثلاثة عند تحركه.
وأما الجزء العلوى فليس يتحرك بل هو ثابت. لأن الرأى إما نعت الكل فقضاء ما، وإما نعت وقضاء على الأشخاص المفردة (وذلك أن أحدهما يقول إنه ينبغى لما كان كذا كذا، والآخر يقول إن هذا فى الوقت يفعل كذا
وكذا بحد محدود، وإنى أنا بحال كذا وكذا) فهذا الرأى الجزئى يحدث الحركة، والرأى الكلى لا يحرك شيئاً. فأحدهما ساكن ألبتة، والآخر ليس بساكن.
١٢
〈عمل الحواس المختلفة فى حفظ الكائن الحى〉
فالنفس النامية الغاذية مضطرة إلى أن تكون لها حركة ما تحيا بها؛ وإنما يصير لها نفس من ابتداء الكون إلى انتهاء الفساد. وذلك أن الكائن مضطر إلى أن تكون له زيادة وغاية نقصان. ولا يمكن أن يكون هذا بغير غذاء. فلا محالة أن القوة الغاذية قد يجب كونها بالاضطرار فى جميع النامية المضمحلة. — وليس يجب الحس لكل حى باضطرار، لأنه لا يمكن لما كان جسمه مبسوطاً أن يصير ذا حس؛ ولا يمكن أيضاً الحيوان أن يكون بغير هذا الحس، ولا ما كان قابلا للصور يمكنه أن يكون بغير هيولى. — فأما الحيوان فبالاضطرار صار له حس إذا كان الطباع لا يفعل شيئاً باطلا. وإنما يفعل من أجل شىء يقصد قصده، أو يكون ما يفعل أعراضاً لتلك التى من أجلها كان الفعل. فكل جسم ذى سير وتنقل قد يفسد ما لم يكن له حس؛ ثم لا ينتهى إلى الغاية التى يقصد إليها الطباع. وإلا فكيف يجوز أن يكون مغتذياً؟ فأما راسية الأجسام والنامية منها فجائز أن لا يكون لها حس وأن تكون ثابتة فى أماكنها غير منتقلة عنها. وليس يمكن جسما ذا نفس وعقل مميز للأشياء ألا يكون له حس؛ وهو ليس من ذوات الكون الراسية، ولا من الذى لا كون لها (فلم يكون له حس — فيكون أكرم إما بالنفس وإما بالجسم؟ فانه متى لم يكن له حس، لم يكن باحدى هاتين الحالتين، وذلك أن النفس لا تدرك شيئاً
بفعلها، والجسم من أجل هذه العلة التى هى عدم والحس لا يساوى شيئاً)، فلا محالة أنه لا يمكن جرماً غير راس ذا نفس الكون بغير حس.
ولا بد للجسم، إذا كان له حس، إما كان مبسوطاً، وإما مخلوطاً مركباً. وليس يمكن الجرم أن يكون ميسوطاً لأن المبسوط لا يدرك باللمس، ومن الواجب بالاضطرار أن يكون الجسم ملموساً، وما نقول يحقق هذا الرأى: إذا كان الحيوان جسما ذا نفس، وكل جسم ملموس، والملموس محسوس بالمماسة، فبالاضطرار أن جسم الحيوان دراك بحس اللمس ما كان الحيوان قائماً محفوظاً. — فأما سائر الحواس، كالشم والبصر والسمع، فانما تدرك الأشياء بغيرها؛ وإما شاهد الأشياء بلمسه ولم يجد حس ما يلقى من الأشياء، فليس يستطيع أن يضرب عما كره، أو يتأول ما يريد. وإن كان هذا هكذا، فليس فى الامكان أن يكون الحيوان محفوظاً مسلماً. من أجل ذلك صار الذوق مثل المماسة لأنه غذاء، والغذاء هو جسم ملموس. وأما القرع واللون والرائحة فليس يفيدون ولا يفعلون زيادة ولا نقصانا. لذلك وجب أن يكون الذوق ضرباً من ضروب اللمس، لأنه حس اللامس الغاذى. — فالحيوان إلى هذه الحواس مضطر. وقد استبان أنه لا يمكن الحيوان الكون بغير حس اللمس. وأما سائر الحواس ما خلا اللمس، فانها صيرن فى الحيوان ليجعلن كونه أجود وأفضل؛ وليس هن موجودات فى جنس كل حيوان، وإنما هن فى السيارة المنتقلة من الحيوان، لأنه إن كانت سلامة الحيوان واجبة، فينبغى أن يكون حساساً من بعد، لا إذا أوفى منه فقط. وإنما يكون هذا إذا كان دراكاً لما بعد منه بالمتوسط بينهما. فالمتوسط يألم من المحسوس ويحرك فيؤدى إلى الحيوان لاتصاله به. وكما أن المتحرك حركة الانتقال إنما يجد فعله من حيث يبتدئ إلى أن ينتقل عن المكان، والدافع لغيره إنما هو فاعل به إلى أن يدفع والحركة متوسطة بينهما؛ والأول يحرك وليس هو بمدفوع، والآخر مدفوع فقط غير دافع، والأمران يلزمان المتوسط؛ وقد يجوز أن تكون المتوسطات كثيرة؛ — فكذلك نقول فى الاستحالة، إلا أن المحيل يفعل وهو ثابت فى مكانه
كقول القائل: لو أن إنساناً صنع شيئاً فى موم ، فانما كان مبلغ تحركه إلى أن صنع؛ فأما الصخرة فلا تتحرك، والماء قد يتحرك إلى غاية من البعد. والهواء قد يتحرك كثيراً أو يفعل ويألم، إذا ثبت فكان هواء واحداً واصلا. وكذلك صار انثناء الشعاع فيه أجود من كون المنظور خرج فعطف إلى الهواء، لأن الهواء يألم من الشكل واللون، ما كان الهواء ثابتاً على حال الانفراد والاتصال. وإنما يكون فرداً واحداً إذا كانت ملاقاته جسما أملس؛ ولذلك كان مثل هذا الهواء محرك البصر كالنقطة التى فى الموم لو أنها انتهت إلى آخر طرف من أطرافه.
١٣
〈الجسم الحى مركب — اللمس ودوره الرئيسى〉
قد استبان أنه لا يمكن أن يكون جرم الحيوان مبسوطاً، لا نارياً ولا هوائياً؛ لأنه لا يمكن الشىء أن يكون له حس من الحواس بغير لمس. وذلك أن ذا النفس من الأجرام لا يكون إلا ملامساً كما قيل أولا. والجميع، ما خلا الأرض، قد تكون حاسة. إلا أن تكون كلها تفعل حساً وتدرك ما كان الهواء لها بالمتوسط بينهما. وإن اللمس يفعل بالملاقاة والمشاهدة، وعلى هذا دل اسم اللمس باليونانية. وسائر الحواس قد تلامس، إلا أنها لا تفعل ذلك بذاتها دون المتوسط بينها وبين ما أدركت، وإن اللمس وحده ليدرك الأشياء بذاته. لذلك لم يكن جرم الحيوان من واحد من الاسطقسات. — فان اللمس كتعديل جميع الأشياء الملموسة، وعضوه يقبل مع فصول الأرض فصولا مثل فصول الحار والبارد وسائر الملموسة كلها. ولذلك لسنا نحس ولا ندرك شيئاً بعظامنا أو بأظفارنا، أو ما شاكل هذه الأجزاء لأنها من الأرض وحدها. ومن أجل ذلك لم يكن للشجر 〈شىء〉 من الحس، لأنها أيضاً من
الأرض. ولا يمكن شيئاً من الحواس الكون دون حس اللمس، وليس هذا الحس للأرض ولا لشىء من سائر الاسطقسات.
وقد استبان أن الحيوان إذا عدم هذا الحس مات. وليس يمكن شيئاً من الأشياء اتخاذ هذا الحس إلا أن يكون حيواناً. ولا يمكن الحيوان أن يكون له حس آخر بغير هذا الحس. ولذلك لم تكن سائر المحسوسة، وإن أفرطت، بمفسدة للحيوان كاللون والقرع والرائحة، ما خلا إفساد الحواس وحدها (إلا أن يعرض عارض فيكون مع القرع دفع فتتحرك أشياء اخر مع الرائحة واللون فيفسد اللمس). والكيموس ، إذا كان مماساً بالعرض، عند ذلك يفسد ويهلك الحيوان فرط جميع ملموسة الحارة والباردة والجاسية. وإذا كان فرط كل محسوس مفسداً حسه المدرك له، ففرط الملموس مفسد اللمس، اللمس الذى يفصل كل ما يحيا: فقد أثبت البرهان أنه لا يمكن الحيوان الحياة بغير حس اللمس. ولذلك صار فرط الملموسة يفسد الحيوان مع فساد الحواس، لأن الحيوان مضطر إلى هذا الحس وحده.
وأما سائر الحواس كالذى قلنا بدءاً، 〈فـ〉ـيصرن فيه من أصل الكون بالتجويد للكون، كقول القائل: إن البصر إنما صار فيه ليكون ناظراً فى الجو وفى الماء وفى كل ذى صفاء؛ وإن المذاق كان فيه من أجل اللذيذ والسمج ليكون دراكاً له بحسه فى حد الطعم، ويشتهى، ويتحرك؛ وإنما كان السمع فيه ليستدل به على سائر الأشياء ذوات القرع؛ وكذلك صار اللسان فيه ليجيب به غيره بالكلام والحديث.
بحمد الله وحسن توفيقه تمت المقالة الثالثة من كتاب أرسطاطاليس «فى النفس» وهى آخر الكتاب. والحمد لله رب العالمين