Aristotle: De interpretatione (On Interpretation)

Work

Aristotle, De interpretatione (Περὶ ἑρμηνείας)
English: On Interpretation

Text information

Type: Translation (Arabic)
Translator: Isḥāq ibn Ḥunayn
Translated from: Syriac (Close)
Date: between 865 and 910

Source

ʿAbd al-Raḥmān Badawī. Manṭiq Arisṭū, al-ǧuzʾ al-awwal. Dirāsāt islāmīyah 7/1. Cairo (Maṭbaʿat Dār al-kutub al-miṣrīyah) 1948, 59-99

Download

arist_deinterpret-transl-ar2.xml [84.29 KB]

بسم اللّه الرحمن الرحيم

كتاب أرسطوطالس «پاري أرمينياس» أي «في العبارة»

١

〈القول والفكر والشيء. — الحقّ والباطل〉

قال: ينبغي أن نضع أوّلاً ما الاسم وما الكلمة؛ ثمّ نضع بعد ذلك ما الإيجاب وما السلب، وما الحكم وما القول. — فنقول: إنّ ما يخرج بالصوت دالّ على الآثار التي في النفس؛ وما يكتب دالّ على ما يخرج بالصوت. وكما أنّ الكتاب ليس هو واحداً بعينه للجميع، كذلك ليس ما يخرج بالصوت واحداً بعينه لهم. إلّا أنّ الأشياء التي ما يخرج بالصوت دالّ عليها أوّلاً — وهي آثار النفس — واحدة بعينها للجميع؛ والأشياء التي آثار النفس أمثلة لها، وهي المعاني، توجد أيضاً واحدة للجميع. لكن هذا المعنى من حقّ صناعة غير هذه. وقد تكلّمنا فيه في كتابنا «في النفس». — وكما أنّ في النفس ربّما كان الشيء معقولاً من غير صدق ولا كذب، وربّما كان الشيء معقولاً قد لزمه ضرورة أحد هذين الأمرين، كذلك الأمر فيما يخرج بالصوت: فإنّ الصدق والكذب إنّما هي في التركيب والتفصيل. فالأسماء والكلم أنفسها تشبه المعقول من غير تركيب ولا تفصيل: مثال ذلك قولنا: إنسان أو بياض، متى لم يستثن معه بشيء، فإنّه ليس هو بعد حقّاً

ولا باطلاً، إلّا أنّه دالّ على المشار إليه به؛ فإنّ قولنا أيضاً عنز — أيّل قد يدلّ على معنى ما، لكنّه ليس هو بعد حقّاً ولا كذباً ما لم يستثن معه بوجود أو غير وجود مطلقاً، أو في زمان.

٢

في الاسم 〈الأسماء البسيطة والمركّبة. الأحوال〉.

فالاسم هو لفظة دالّة بتواطؤ، مجرّدة من الزمان، وليس واحد من أجزائها دالّاً على انفراده. وذلك أنّ قلپّس إذا أفرد منه «اپّس» لم يدلّ بانفراده على شيء كما يدلّ في قولك «قالوس اپس»، أي: فرس فاره. — وليست الحال أيضاً في الأسماء المركّبة كالحال في الأسماء البسيطة، وذلك أنّ الجزء من الاسم البسيط ليس يدلّ على شيء أصلاً، وأمّا الاسم المركّب فمن شأن الجزء منه أن يدلّ على شيء، لكن ليس على الانفراد، مثل قولك: «فيلوسوفس»، أي مؤثر الحكمة. — فأمّا قولنا: «بتواطؤ» فمن قبل أنّه ليس من الأسماء اسم بالطبع إلّا إذا صار دليلاً، فإنّ الأصوات أيضاً التي لا تكتب بحدّها فتدلّ، مثل أصوات البهائم، إلّا أنّه ليس شيء منها اسماً.

وأمّا قولنا «لا — إنسان» فليس باسم؛ ولا وضع له أيضاً اسم ينبغي أن يسمّى به، وذلك أنّه ليس بقول ولا 〈قضيّة〉 سالبة، فليكن اسماً

غير محصّل. — فأمّا الاسم إذا نصب أو خفض أو غير تغييراً ممّا أشبه ذلك، فليس يكون اسماً، لكن تصريفاً من تصاريف الاسم. وحدّ الأسماء المصرّفة هو ذلك الحدّ الذي للأسماء إذا لم تصرّف — بعينه، إلّا أنّ الفرق بين تلك وبين هذه أنّه إذا أضيف إلى الأسماء المصرّفة — كان، أو يكون، أو هو الآن — لم تصدق ولم تكذب. والاسم إذا أضيف إليه واحد من هذه كان أبداً صادقاً أو كاذباً؛ ومثال ذلك «فلان» بالخفض كان أو لم يكن: فإنّ هذا القول ليس هو بعد صادقاً ولا كاذباً.

٣

في الكلمة

وأمّا الكلمة فهي ما يدلّ — مع ما تدلّ عليه — على زمان، وليس واحد من أجزائه يدلّ على انفراده، وهي أبداً دليل ما يقال على غيرها — ومعنى قولي أنّه [تدلّ] مع ما تدلّ عليه تدلّ على زمان هذا المعنى الذي أنا واصفه: أمّا قولنا «صحّة» فاسم، وأمّا قولنا «صحّ» إذا عنينا الآن فكلمة، وذلك أنّ هذه اللفظة تدلّ مع ما تدلّ عليه على أنّ الصحّة قد وجدت للذي قيل

فيه إنّه «صحّ» في الزمان الحاضر. — والكلمة دائماً دليل ما يقال على غيره، كأنّك قلت ما يقال على الموضوع أو ما يقال في الموضوع.

وأمّا قولنا «لا صحّ»، أو قولنا «لا مرض» فلست أسمّيه كلمة، فإنّه وإن كان يدلّ، مع ما يدلّ عليه، على زمان فكان أيضاً 〈دالّاً〉 دائماً على شيء، إلّا أنّه ليس لهذا الصنف اسم موضوع. فلتسمّ كلمة غير محصّلة، وذلك أنّها تقال على شيء من الأشياء موجوداً كان أو غير موجود على مثال واحد. — وعلى هذا المثال قولنا «صحّ» الذي يدلّ به على زمان المضيّ، أو «يصحّ» الذي يدلّ به على الزمان المستأنف، ليس بكلمة، لكن تصريف من تصاريف الكلمة. والفرق بين هذين وبين الكلمة أنّ الكلمة تدلّ على الزمان الحاضر، وهذين وما أشبههما تدلّ على الزمان الذي حوله.

وأقول إنّ الكلم إذا قيلت على انفرادها فهي تجري مجرى الأسماء فتدلّ على شيء، وذلك أنّ القائل لها يقف بذهنه عليه؛ وإذا سمعه منه السامع قنع به. إلّا أنّها لا تدلّ بعد على أنّ الشيء 〈هو〉 أو ليس هو، فإنّه ولا لو قلنا «كان» أو «يكون» دللنا على المعنى. وكذلك قولنا «لم يكن» أو «لا يكون»؛ فلا لو قلنا «إنّه» مجرّداً على حياله، دللنا عليه، وذلك أنّه في نفسه ليس هو شيئاً، لكنّه يدلّ مع ما يدلّ عليه على تركيب ما؛ وهذا التركيب لا سبيل إلى فهمه دون الأشياء المتركّبة.

٤

في القول

وأمّا القول فهو لفظ دالّ، الواحد من أجزائه قد يدلّ على انفراده على طريق أنّه لفظة، لا على طريق أنّه إيجاب. وأعني بذلك أنّ قولي «إنسان» مثلاً قد يدلّ على شيء، لكنّه ليس يدلّ على أنّه موجود أو غير موجود، لكنّه يصير إيجاباً أو سلباً إن أضيف إليه شيء آخر. فأمّا المقطع الواحد من مقاطع الاسم فليس يدلّ، لكنّه حينئذٍ صوت فقط. وأمّا في الأسماء المضعّفة فقد يدلّ المقطع من مقاطعها دلالة ليست بذاته، — على ما تقدّم من قولنا.

وكلّ قول فدالّ، لا على طريق الآلة، لكن كما قلنا على طريق المواطأة. وليس كلّ قول بجازم، وإنّما الجازم القول الذي وجد فيه الصدق أو الكذب؛ وليس ذلك بموجود في الأقاويل كلّها. ومثال ذلك: الدعاء، فإنّه قول ما، لكنّه ليس بصادق ولا كاذب. — فأمّا سائر الأقاويل غير ما قصدنا له منها فنحن تاركوها، اذ كان النظر فيها أولى بالنظر في الخطب أو الشعر. وأمّا القول الجازم فهو قصدنا في هذا النظر.

٥

〈القضايا البسيطة والقضايا المركّبة〉

فأقول إنّ القول الواحد الأوّل الجازم هو الإيجاب؛ ثمّ من بعده السلب. وأمّا سائر الأقاويل كلّها فإنّما تصير واحداً برباط يربطها.

وقد يجب ضرورة في كلّ قول جازم أن يكون جازماً عن كلمة أو عن تصريف من تصاريف كلمة. وذلك أنّ قول الإنسان ما لم يستثن معه أنّه الآن، أو كان، أو يكون، أو شيء من نظائر هذه فليس هو بعد جازماً. وإنّما صار قولنا: حيّ مشّاء ذو رجلين، واحداً لا كثيراً لأنّه يدلّ على واحد، لا من قبل أنّه قيل على تقارب بعضه على أثر بعض. إلّا أنّ هذا المعنى من غير ما قصدنا له.

فالقول الجازم يكون واحداً متى كان دالّاً على واحد أو كان بالرباط واحداً؛ ويكون كثيراً متى كان دالّاً على كثير، لا على واحد، ولم يكن مرتبطاً — فيحصل الآن أنّ كلّ واحد من الاسم والكلمة لفظة فقط إذ كان ليس لقائل أن يقول إنّه يدلّ في لفظ على شيء يحكم به: إمّا في جواب سائل، وإمّا في غير ذلك ممّا يبتدؤه من تلقاء نفسه.

وأمّا الحكم البسيط الكائن من هذه فبمنزلة إيقاع شيء على شيء، أو انتزاع شيء من شيء. والمؤلّف من هذه فبمنزلة القول الذي قد صار مركّباً. والحكم البسيط لفظ دالّ على أنّ الشيء موجود أو غير موجود على حسب قسمة الأزمان.

٦

في الإيجاب والسلب 〈؛ تقابلهما〉

وأمّا الإيجاب فإنّه الحكم بشيء على شيء؛ والسلب هو الحكم بنفي شيء عن شيء. — وإذ كان قد يمكن أن يحكم على ما هو موجود الآن بأنّه ليس بموجود، وعلى ما ليس بموجود بأنّه موجود، وعلى ما هو موجود بأنّه موجود، وعلى ما ليس بموجود بأنّه ليس بموجود، وفي الأزمان أيضاً الخارجة 〈عن〉 الزمان الذي هو الآن، قد يمكن مثل ذلك — فقد يمكن في كلّ ما أوجبه موجب أن يسلب، وفي كلّ ما سلبه أن يوجب. فمن البيّن إذاً أنّ لكلّ إيجاب سلباً قبالته، ولكلّ سلب إيجاباً قبالته. — فليكن التناقض هو هذا: أعني إيجاباً وسلباً متقابلين. وأعني بالمتقابل أن يقابل الواحد بعينه في المعنى الواحد بعينه، ليس على طريق الاتّفاق في الاسم، وسائر ما أشبه ذلك ممّا استثنيناه كلماً لمطاعن المغالطين.

٧

〈الكلّيّ والجزئيّ — تقابل القضايا: بالتناقض والتضادّ〉

ولمّا كانت المعاني بعضها كلّيّاً وبعضها جزئيّاً، وأعني بقولي «كلّيّاً» ما من شأنه أن يحمل على أكثر من واحد، وأعني بقولي «جزئيّاً» ما ليس ذلك من شأنه: ومثال ذلك أنّ قولنا «إنسان» من المعاني الكلّيّة، وقولي «زيد» من الجزئيّات — فواجب ضرورة متى حكمنا بوجود أو غير وجود أن يكون ذلك أحياناً لمعنى من المعاني الكلّيّة، وأحياناً لمعنى من المعاني الجزئيّة.

متى كان الحكم كلّيّاً على كلّيّ بأنّ له شيئاً موجوداً أو غير موجود، كان الحكمان متضادّّين. وأعني بقولي حكماً كلّيّاً على معنى كلّيّ مثل قولك: «كلّ إنسان أبيض» وقولك: «ولا إنسان واحداً أبيض». — ومتى كان الحكم على معنى كلّيّ ولم يكن هو كلّيّاً لم يكن الحكمان في أنفسهما متضادّين، غير أنّ المعنيين اللذين يستدلّ عليهما بهما قد يمكن أحياناً أن يكونا متضادّين. وأعني بقولي: «الحكم غير الكلّيّ على المعنى الكلّيّ» مثل قولك: «الإنسان هو أبيض»، «الإنسان ليس هو أبيض». فإنّ قولنا «إنسان»، وإن كان كلّيّاً، غير أنّ الحكم عليه لم يستعمل كلّيّاً. وذلك أنّ: «كلّ» تدلّ على أنّ الحكم كلّيّ، لا المعنى متى كان كلّيّاً. —

وأمّا في المحمول فإن حمل الكلّيّ كلّيّاً ليس بحقّ، وذلك أنّه ليس يكون إيجاباً 〈حقّاً ذلك الذي يحمل فيه الكلّيّ على محمول كلّيّ〉: مثال ذلك قولك: كلّ إنسان هو كلّ حيوان.

فأقول الآن إنّ الإيجاب والسلب يكونان متقابلين على طريق «التناقض» متى كان يدلّ في الشيء الواحد بعينه أنّ الكلّيّ ليس بكلّيّ.

ومثال ذلك:

كلّ إنسان أبيض. — ليس كلّ إنسان أبيض.

ولا إنسان واحداً أبيض. — قد يكون إنسان واحد أبيض.

ويكونان متقابلين على طريق «التضادّ» متى كان فيهما الإيجاب الكلّيّ والسلب الكلّيّ. ومثال ذلك:

كلّ إنسان أبيض. — ولا إنسان واحداً أبيض.

〈كلّ إنسان عادل. — لا إنسان عادل〉.

ومن قبل ذلك صارت هاتان لا يمكن أن تكونا معاً صادقتين. فأمّا المقابلتان لهما فقد يمكن ذلك فيهما في المعنى الواحد بعينه: مثل قولك،

«ليس كلّ إنسان أبيض» و«قد يكون إنسان واحد أبيض». — فما كان من المناقضات الكلّيّة كلّيّاً فواجب ضرورة أن يكون أحد الحكمين من كلّ مناقضة منها صادقاً، والآخر كاذباً. وكذلك ما كان منها في الأشخاص: ومثال ذلك «زيد أبيض»، «ليس زيد أبيض». — وما كان منها في معانٍ كلّيّة وليس بكلّيّ فليس أبداً يكون أحد الحكمين من المناقضة صادقاً والآخر كاذباً. وذلك أنّه قد يمكن أن نقول قولاً صادقاً معاً إنّ «الإنسان أبيض» و«ليس الإنسان أبيض»، وإنّ «الإنسان جميل» و«ليس الإنسان جميلاً». وذلك أنّ ما صار قبيحاً فليس بجميل؛ وما كان متكوّناً فليس بموجود. وقد يسبق إلى الظنّ على ظاهر النظر أنّ هذا خلف، من قبل أنّه قد يظهر أنّ قولنا ليس الإنسان أبيض يدلّ معاً على هذا القول أيضاً وهو: ولا إنسان واحداً أبيض. فليس ما يدلّ عليه هذا هو ما يدلّ عليه ذاك، ولا هما ضرورة معاً.

ومن البيّن أنّ السلب الواحد إنّما يكون لإيجاب واحد، وذلك أنّ السلب إنّما يجب أن يسلب ذلك الشيء بعينه الذي أوجبه الإيجاب، ومن شيء واحد بعينه: من المعاني الجزئيّة كان أو من المعاني الكلّيّة، وكلّيّاً كان أو جزئيّاً، وأعني بذلك ما أنا ممثّله: «زيد أبيض»، «ليس زيد أبيض». فأمّا إن كان الشيء مختلفاً أو كان واحداً بعينه إلّا أنّه من شيء مختلف لم يكن مقابلاً، لكنّه يكون لدالّ آخر غيره. والمقابل لقولنا:

«كلّ إنسان أبيض»، «ليس كلّ إنسان أبيض» ولقولنا : «إنسان ما أبيض» و«لا إنسان واحداً أبيض»؛ ولقولنا: «الإنسان هو أبيض»، «الإنسان ليس هو أبيض».

فقد حصل من قولنا: أنّ الإيجاب الواحد إنّما يكون مقابلاً على جهة المناقضة لسلب واحد، وذكرنا ما هما؛ وأنّ المتضادّين غيرهما؛ وأنّه ليس كلّ مناقضة فهي صادقة أو كاذبة، ومن قبل أيّ شيء، ومتى تكون صادقة أو كاذبة.

٨

〈وحدة القضايا وتعدّدها — القضايا المشتركة وتقابلها〉

والإيجاب أو السلب يكون واحداً متى دلّ لشيء واحد على شيء واحد: إمّا كلّيّ على معنى كلّيّ، وإمّا لا على مثال واحد؛ مثل ذلك: «كلّ إنسان أبيض»، «ليس كلّ إنسان أبيض»؛ «الإنسان هو أبيض»، «الإنسان ليس هو أبيض»؛ و«لا إنسان واحداً أبيض»، «قد يكون إنسان ما أبيض» — هذا إن كان قولنا «أبيض» إنّما يدلّ على معنى واحد. فأمّا إن كان قد وضع لمعنيين اسم واحد فمن قبل المعنيين اللذين لهما صار ليس بواحد لا يكون الإيجاب واحداً، مثل ذلك أنّه إن وضع واضع للفرس والإنسان اسماً واحداً كقولك: «ثوب» مثلاً، فإنّ قوله

حينئذٍ إنّ «الثوب أبيض» لا يكون إيجاباً واحداً ولا سلباً واحداً. وذلك أنّه لا فرق حينئذٍ بين هذا القول وبين قوله: «الفرس والإنسان أبيض». ولا فرق بين هذا القول وبين قوله: «الفرس أبيض» «والإنسان أبيض». وإذ كان هذان يدلّان على أكثر من واحد، وكانا أكثر من واحد، فمن البيّن أنّ القول الأوّل أيضاً إمّا أن يكون كثيراً، وإمّا ألّا يكون يدلّ على شيء. وذلك أنّه ليس إنسان من الناس فرساً. فواجب ألّا يكون في مثل ذلك أيضاً أحد ما في المناقضة صادقاً والآخر كاذباً.

٩

〈تقابل المستقبلات الممكنة〉

ونقول إنّ المعاني الموجودة الآن أو التي قد كانت فيما مضى فواجب ضرورة أن يكون الإيجاب أو السلب فيها إمّا صادقاً وإمّا كاذباً. أمّا في الكلّيّة على معنى كلّيّ فأحدهما أبداً صادق، والآخر كاذب. وكذلك في الأشخاص على ما قلنا. وأمّا الكلّيّة التي لا تقال على معنى كلّيّ فليس ذلك واجباً فيها. وقد قلنا في هذه أيضاً.

فأمّا المعاني الجزئيّة المستقبلة فليس يجري الأمر فيها على هذا المثال. وذلك أنّه إن كان كلّ إيجاب أو سلب إمّا صادقاً وإمّا كاذباً، فواجب في كلّ شيء أن يكون موجوداً أو غير موجود. فإن قال قائل في شيء من الأشياء إنّه سيكون، وقال آخر فيه بعينه: لا، فمن البيّن أنّه يجب ضرورة

أن يصدق أحدهما إن كان كلّ إيجاب فصادق أو كاذب؛ وذلك أنّه لا يمكن أن يكون الأمران جميعاً في ذلك وما أشبهه: فإنّ قولنا في شيء إنّه أبيض أو غير أبيض إن 〈كان〉 صادقاً فواجب ضرورة أن يكون هو أبيض أو غير أبيض. وإن كان الشيء إمّا أبيض وإمّا غير أبيض فقد كان إيجابنا أو سلبنا فيه صدقاً؛ وإن لم يكن فكذباً. وإن كان كذباً فليس هو؛ فواجب إذاً ضرورة أن يكون الإيجاب أو السلب إمّا صادقاً وإمّا كاذباً.

فليس شيء من الأشياء إذاً ممّا يتكوّن أو ممّا هو موجود يكون بالاتّفاق أو بأحد الأمرين اللذين لا يخلو شيء منهما أيّهما كان؛ ولا شيء من الأشياء مزمع بأن يكون أو لا يكون على هذه الجهة، بل الأمور كلّها ضروريّة. وليس يكون شيء منها على أيّ الأمرين اتّفق، وذلك أنّ الموجب يصدق فيها أو السالب. ولو لم تكن كذلك لكان كونها وغير كونها على مثال واحد. وذلك أنّ الشيء الذي يقال فيه إنّه يكون على أيّ الأمرين اتّفق، فليس هو بأحد الأمرين أولى منه بالآخر، ولا يصير كذلك.

وأيضاً إن كان شيء من الأشياء أبيض في الوقت الحاضر، فقد كان القول فيه من قبل بأنّه «سيصير أبيض» صادقاً، فيجب أن يكون القول في شيء من الأشياء ممّا يتكوّن — أيّها كان — بأنّه سيكون قد كان دائماً صادقاً. وإن كان القول في شيء بأنّه في هذا الوقت أو سيكون فيما بعد

كان دائماً حقّاً، فليس يمكن أن يكون هذا غير موجود ولا يصير موجوداً. وما كان لا يمكن ألّا يصير موجوداً فمن المحال ألّا يصير موجوداً. والشيء الذي من المحال ألّا يصير موجوداً فواجب ضرورة أن يكون. فجميع الأشياء إذاً المزمعة بالوجود فواجب ضرورة أن تكون. فليس يكون إذاً شيء من الأشياء على أيّ الأمرين اتّفق ولا بالاتّفاق، وذلك أنّه إن كان شيء بالاتّفاق فليس كونه واجباً ضرورة.

وأيضاً فليس يجوز أن يقال إنّه ليس ولا واحد من القولين حقّاً؛ كأنّك قلت: القول بأنّ الشيء سيكون، والقول بأنّ الشيء ليس يكون — أمّا أوّلاً فلأنّه يلزم من ذلك أن يكون الإيجاب — وهو كذب — سلبه غير صادق، والسلب — وهو كذب — إيجابه غير صادق. ثمّ مع ذلك فإنّه إن كان القول في الشيء بأنّه أبيض وبأنّه أسود صادقاً، فيجب أن يكون الشيء الأمرين جميعاً. وإن كان القول فيه بأنّه يصير كذلك في غد صادقاً، فواجب أن يصير كذلك في غد. وإن كان القول فيه بأنّه لا يصير كذلك وليس لا يصير كذلك في غد حقّاً فليس هو على أيّ الأمرين اتّفق. ومثال ذلك الحرب: فإنّه يجب لا أن تكون حرباً ولا ألّا تكون.

فهذا ما يلزم من الأمور الشنعة وغيره ممّا أشبهه إن كان كلّ إيجاب وسلب — إمّا ممّا يقال كلّيّاً على معنى كلّيّ، وإمّا ممّا يقال جزئيّاً — فواجب ضرورة أن يكون فيه أحد المتقابلين صادقاً والآخر كاذباً، ولم يكن فيما يحدث ما يكون حدوثه على أيّ الأمرين اتّفق، بل الأشياء جميعاً وجودها وكونها واجب ضرورة. وعلى هذا القياس فليست بنا حاجة إلى أن نروّي في شيء ولا أن نستعدّ له أو نأخذ أهبة، كأنّا إن فعلنا ما يجب كان ما يجب؛ وإن لم نفعل ما يجب لم يكن ما يجب. فإنّه ليس مانع يمنع من أن يقول قائل في شيء من الأشياء إنّه يكون إلى عشرة ألف سنة مثلاً، ويقول آخر إنّه لا يكون، فيصحّ لا محالة أحد الأمرين اللذين كان القول حينئذٍ بأنّه يكون صادقاً. وأيضاً فلا فرق في هذا المعنى بين أن يقال المناقضة وبين ألّا يقال، وذلك أنّه من البيّن أنّ الأمور تجري مجاريها وإن لم يوجب موجب شيئاً منها ولم يسلبه آخر. وذلك أنّ الشيء ليس إنّما يكون أو لا يكون، من قبل أنّه قد أوجب أو قد سلب، ولا حكمه بعد عشرة ألف سنة غير حكمه بعد زمان آخر كم كان مقداره. فإن كانت حاله في الزمان كلّه حالاً يصدق فيه معها أحد القولين دون الآخر فواجب ضرورة أن يكون ذلك الصدق حتّى يكون كلّ واحد من الأشياء التي تكون حاله أبداً حال ما يكون ضرورة. وذلك أنّ ما كان القول فيه بأنّه سيكون صادقاً في وقت من الأوقات فليس يمكن ألّا يكون؛ وما يكون فقد كان القول فيه بأنّه سيكون صادقاً أبداً.

فإذ كانت هذه الأشياء محالاً (لأنّا قد نرى أموراً يحدث مبدؤها من الرويّة فيها وأخذ الأهبة لها، وقد نجد بالجملة في الأشياء التي ليست ممّا يفعل دائماً الإمكان لفعل شيء وترك فعله على مثال واحد حتّى يكون فيها الأمران جميعاً ممكنين، أعني أن يكون الشيء وألّا يكون. وهاهنا أشياء كثيرة بيّن من أمرها أنّها بهذه الحال. ومثال ذلك أنّ هذا الثوب قد يمكن أن يتمزّق فلا يتمزّق، بل يسبقه إليه البلى، وعلى ذلك المثال قد يمكن ألّا يتمزّق، فإنّه لم يكن البلى ليسبق التمزيق إليه لو لم يكن إلّا يتمزّق. وكذلك يجري الأمر في سائر ما يتكوّن ممّا يقال على هذا الضرب من القوّة)، فظاهر إذاً أنّه ليس جميع الأشياء فوجودها أو كونها ضرورة، بل بعض الأشياء يجري على أيّ الأمرين اتّفق، وليس الإيجاب بأحرى من السلب بالصدق فيها؛ وبعضها أحد الأمرين دون الآخر أحرى فيها وأكثر، إلّا أنّه قد يمكن أن يكون الأمر الآخر ولا يكون ذلك.

فنقول الآن إنّ الوجود للشيء إذا كان موجوداً ضروريّ؛ وإذا لم يكن موجوداً فنفي الوجود عنه ضروريّ. وليس كلّ موجود فوجوده ضروريّ، ولا كلّ ما ليس بموجود فعدم الوجود له ضروريّ. وذلك أنّه ليس قولنا إنّ وجود كلّ موجود فهو ضرورة إذا وجد، هو القول بأنّ وجوده ضرورة

الإطلاق. وكذلك أيضاً ما ليس بموجود. وهذا بعينه قولنا في المناقضة أيضاً. وذلك أنّ كلّ شيء فوجوده الآن أو غير وجوده واجب ضرورة؛ ووجوده فيما يستقبل أو غير وجوده واجب ضرورة. غير أنّا إذا فصّلنا فقلنا: أحد الأمرين لم يكن واجباً ضرورة، ومثال ذلك أنّ قولنا إنّ الحرب ستكون غداً أو لا تكون، واجب ضرورة. فأمّا قولنا إنّ الحرب ستكون غداً، فليس بواجب ضرورة. ولا قولنا إنّها لا تكون غداً بواجب ضرورة. لكن الواجب ضرورة إنّما هو أن يكون أو لا يكون. فيجب من ذلك إذ كانت الأقاويل الصادقة إنّما تجري على حسب ما عليه الأمور، فمن البيّن أنّ ما كان منها يجري على أيّ الأمرين اتّفق وتحتمل الضدّين فواجب ضرورة أن تكون المناقضة أيضاً تجري فيه ذلك المجرى. وهذا شيء يلزم فيما ليس وجوده دائماً أو فيما ليس فقده دائماً. فإنّ ما جرى هذا المجرى فواجب ضرورة أن يكون أحد جزئي النقيض فيه صادقاً أو كاذباً. غير أنّه ليس هو أو أحد المشار إليه بعينه، بل أيّهما اتّفق. وربّما كان أحد المتناقضين أحرى بالصدق، إلّا أنّه ليس ذلك بموجب أن يكون صادقاً أو كاذباً. فقد بان بذلك أنّه ليس كلّ إيجاب وسلب متقابلين فأحدهما صادق ضرورة والآخر كاذب ضرورة. وذلك أنّه ليس مجرى الأمر فيما ليس بموجود إلّا أنّه ممكن أن يكون وألّا يكون مجراه فيما هو موجود، بل الأمر يجري فيه على ما وصفنا.

١٠

〈التقابل في القضايا ذوات الموضوعات المحصّلة وغير المحصّلة〉

ولمّا كان الإيجاب دليلاً على أنّ شيئاً يقال على شيء، وهذا الشيء هو اسم أو ما لا اسم له، وكان يجب أن يكون ما يقال في الإيجاب واحداً على واحد، وكنّا قد وصفنا الاسم وما لا اسم له فيما تقدّم، فقلنا إنّا لا نسمّي قولنا «لا إنسان» اسماً، بل نسمّيه غير محصّل، لأنّ الاسم غير المحصّل أيضاً إنّما يدلّ من وجه على شيء واحد؛ وكذلك أيضاً قولنا «لا صحّ» ليس بكلمة بل كلمة غير محصّلة. فواجب أن يكون كلّ إيجاب أو سلب مؤلّفاً إمّا من اسم غير محصّل أو كلمة غير محصّلة.

وليس يكون إيجاب ولا سلب خلواً من كلمة؛ فإنّ قولنا «كان» أو «يكون» أو «سيكون» أو «يصير» أو غير ذلك ممّا أشبهه إنّما هو ممّا قد وضع كلمة، وذلك أنّه يدل، مع ما يدلّ عليه، على زمان.

فيكون على هذا القياس الإيجاب والسلب الأوّل قولنا «الإنسان يوجد»، «الإنسان لا يوجد»، ثمّ بعده «لا إنسان يوجد»، «لا إنسان لا يوجد»؛ وأيضاً: «كلّ إنسان يوجد»، «ليس يوجد كلّ إنسان»، «كلّ لا إنسان يوجد»، «ليس يوجد كلّ لا إنسان». وهذا بعينه قولنا في الأزمان التي حول الزمان الحاضر.

فأمّا إذا كانت الكلمة الدالّة على الوجود ثالثاً محمولاً إلى ما يحمل، فإنّ التناقض حينئذٍ يقال على ضدّين. ومثال ذلك قولنا: «يوجد إنسان عدلاً»، فقولنا «يوجد» شيء ثالث مقرون بها في هذا الإيجاب: إمّا اسم وإمّا كلمة، فيحصل من قبل ذلك أربعة: اثنان منها يكون حالهما في المنزلة عند الإيجاب والسلب كحال العدميّتين عندهما؛ والاثنان 〈الآخران〉 ليسا كذلك. وأعني بقولي هذا أنّ قولنا «يوجد» إمّا أن يقرن ويضاف إلى قولنا «عدل» أو إلى قولنا «لا عدل»، وكذلك السلب أيضاً، فيصير أربعة.

وأنت قادر على فهم ما نقوله من رسمنا هذا:

〈١〉
〈ا〉 〈ٮ〉
يوجد إنسان عدلاً سلب هذا القول: ليس يوجد إنسان عدلاً
〈حـ〉 〈ى〉
يوجد إنسان لا عدلاً سلب هذا القول: ليس يوجد إنسان لا عدلاً

فإنّ قولنا في هذا الموضوع «يوجد» و«لا يوجد» قد أضيف إلى قولنا «عدل» و«لا عدل». فهذه الأقاويل نسّقت في هذا الموضع على ما تقال عليه في كتبنا «في التحليل بالقياس».

وعلى ذلك المثال يجري الأمر إن كان الإيجاب لاسم كلّيّ. ومثال ذلك:

〈٢〉
〈اَ〉 〈ٮَ〉
كلّ إنسان يوجد عدلاً سلب هذا القول: ليس كلّ إنسان يوجد عدلاً
〈حـَ〉 〈ىَ〉
كلّ إنسان يوجد لا عدلاً سلب هذا القول: ليس كلّ إنسان يوجد لا عدلاً

غير أنّه ليس على ذلك المثال يمكن أن تصدق معاً المقدّمات التي على القطر؛ وإن كان قد يمكن أن تصدق المتقاطرتان في حال من الأحوال.

فهاتان اثنتان متقابلتان. وها هنا اثنتان أخريان تحدثان من قولنا «لا إنسان» إذا جعلناه كالشيء الموضوع، فنقول:

〈٣〉
〈اً〉 〈ٮً〉
يوجد لا إنسان عدلاً ليس يوجد لا إنسان عدلاً
〈حـً〉 〈ىً〉
يوجد لا إنسان لا عدلاً ليس يوجد لا إنسان لا عدلاً

وليس هاهنا مناقضات أكثر من هذه. وهاتان المتقابلتان هما مفردتان بأنفسهما غير ما قيل من قبل، لأنّ الذي استعمل فيها اسم غير محصّل وهو قولنا «لا إنسان».

وما كان منها لا يصحّ فيه كلمة الوجود مثل ما وقع فيه منها «يصحّ» أو «يمشي» فإنّ هذا الصنف من الكلم يفعل فيها إذا وضع هذا الوضع ذلك الفعل بعينه الذي كان يفعله حرف «يوجد» أو ما أشبهه لو قرن بها. ومثال ذلك: «كلّ إنسان يمشي»، «ليس كلّ إنسان يمشي»، «كل لا إنسان يمشي»، «ليس كلّ لا إنسان يمشي». فإنّه ليس يجوز أن يقال «ليس كلّ إنسان» بل إنّما ينبغي أن يوضع حرف السلب وهو قولنا «لا» على قولنا «إنسان»؛ فإنّ قولنا «كلّ» ليس يدلّ على أنّ المعنى كلّيّ، بل على أنّ الحكم كلّيّ. وقد تبيّن ذلك من قولنا «الإنسان يمشي»، «الإنسان ليس يمشي»، «لا إنسان يمشي»، «لا إنسان ليس يمشي»، فإنّ الفرق بين هذه وبين تلك أنّ هذه ليس الحكم فيها كلّيّاً. فقد بان من ذلك أنّ قولنا «كلّ» أو قولنا «ولا واحد» ليس يزيدان على أن يدلّا أنّ الإيجاب والسلب للاسم كلّه؛ فأمّا الباقي فيجب أن تكون الزيادة فيه واحدة بعينها.

ولمّا كان السلب الدالّ على أنّه «ولا حيوان واحداً يوجد عدلاً» ضدّ الذي يقال به إنّ «كلّ حيوان يوجد عدلاً» فمن البيّن أنّ هذين لا يكونان في حال من الأحوال لا صادقين معاً ولا على أمر واحد بعينه. فأمّا المقابلان لهما فقد يكونان في حال من الأحوال، ومثال ذلك: «ليس كلّ حيوان يوجد عدلاً» و«قد يوجد حيوان ما عدلاً».

فأمّا التي تلزم وتتبع فهي هذه: أمّا قولنا: «كلّ إنسان يوجد عدلاً»، فإنّه يلزمه قولنا: «ولا إنسان واحداً يوجد عدلاً»؛ وأمّا قولنا: «قد يوجد إنسان ما عدلاً»، فإنّه يلزمه المقابل له وهو قولنا: «ليس كلّ إنسان يوجد لا عدلاً»؛ وذلك أنّه يجب ضرورة أن يوجد واحد.

ومن البيّن أيضاً أنّا في الأشخاص إذا كنّا صادقين في الجواب عن المسئلة بالإيجاب بالسلب، 〈صدقت قضيّة موجبة كذلك〉. ومثال ذلك جوابنا في المسئلة عن سقراط: «هل هو عدل؟» بأن نقول: «لا»، فإنّا نقول: «فسقراط إذاً لا عدل». وأمّا في الحكم الكلّيّ فليس ما يقال فيه على هذا المثال حقّاً؛ وإنّما الصادق فيه السلب. ومثال ذلك: «أكلّ إنسان حكيم؟» «لا»، «فكلّ إنسان إذاً لا حكيم»، فإنّ هذا القول كذب؛ والقول الصادق إنّما هو: «فليس كلّ إنسان إذاً حكيماً». وهذا القول هو القابل لذلك القول؛ فأمّا ذلك فإنّه مضادّ له.

فأما المتقابلة من قبل الأسماء والكلم غير المحصّلة — ومثال ذلك في قولنا «لا إنسان» أو «لا عدل» فإنّه يظنّ بها أنّها بمنزلة السلب من غير اسم أو من غير كلمة، وليست كذلك، وذلك أنّه واجب ضرورة في السلب أن يصدق أو يكذب. ومن قال «لا إنسان» فليس

هو أحرى بأن يكون قد صدق أو قد كذب ممّن قال «إنسان» — ما لم يضف إلى قوله شيئاً، بل هو دونه في ذلك.

وقولنا إنّ «كلّ لا إنسان يوجد عدلاً» ليس يدلّ على مثل ما تدلّ عليه واحدة من تلك، ولا المقابل لهذا القول وهو قولنا: «ليس كلّ لا إنسان يوجد عدلاً». فأمّا قولنا «كلّ لا إنسان يوجد لا عدلاً» «فإنّه يدلّ على مثل ما يدلّ عليه قولنا: «ليس يوجد شيء لا إنسان عدلاً».

والأسماء والكلم إذا بدّلت أماكنها فدلالتها تبقى بحال واحدة بعينها. ومثال ذلك: «يوجد إنسان عدلاً»، «يوجد عدلاً إنسان». فإنّ الأمر إن لم يكن كذلك وجب أن يكون لمعنى واحد بعينه سوالب أكثر من واحدة. غير أنّا قد بيّنّا أنّ الإيجاب الواحد إنّما له سلب واحد، وذلك أنّ سلب قولنا: «يوجد إنسان عدلاً» هو قولنا «ليس يوجد إنسان عدلاً». فأمّا سلب قولنا «يوجد عدلاً إنسان» إن لم يكن هذا القول وقولنا «يوجد إنسان عدلاً» واحداً بعينه فهو: إمّا قولنا «لا يوجد عدلاً لا إنسان»، وإمّا قولنا «لا يوجد عدلاً إنسان»، لكن الأوّل منهما هو سلب قولنا «يوجد عدلاً لا إنسان»، والثاني سلب قولنا «يوجد إنسان عدلاً» — فيكون قد صار لإيجاب واحد سلبان. فقد بان أنّ الأسماء والكلم إذا بدّلت أماكنها كان الإيجاب والسلب واحداً بعينه.

١١

〈القضايا المركّبة〉

فأمّا إيجاب واحد لكثير أو كثير لواحد، أو سلبه منه متى لم يكن ما يستدلّ عليه من الكثير معنى واحداً، فليس يكون إيجاباً واحداً أو سلباً واحداً. وأعني بقولي «واحداً» ليس متى كان الاسم الموضوع واحداً ولم يكن الشيء الذي من تلك معنى واحداً، مثل قولنا «الإنسان» مثلاً «حيّ، ذو رجلين، آنس»، فإنّ الشيء المجتمع من هذه معنى واحد أيضاً. فأمّا المجتمع من قولنا «أبيض» وقولنا «إنسان» وقولنا «يمشي» فليس هو معنى واحداً. فليس يجب إذاً إن أوجب موجب لهذه شيئاً واحداً أن يكون القول إيجاباً واحدا، لكن اللفظ حينئذٍ يكون واحداً؛ فأمّا الإيجاب فكثير. ولا إن أوجبها الشيء واحداً كان الإيجاب واحداً، بل كثيراً على ذلك المثال.

فلمّا كان السؤال المنطقيّ يقتضيّ جواباً إمّا بالمقدّمة وإمّا بالجزء الآخر من المناقضة، وكانت المقدّمة جزءاً ما من مناقضة واحدة، فليس يجب أن يكون الجواب عن هذه واحداً؛ إذ كان السؤال أيضاً ليس بواحد ولو كان حقّاً. وقد تكلّمنا في هذه في كتابنا «في المواضع».

فمع ذلك فإنّه من البيّن أنّ السؤال عن شيء: ما هو — ليس سؤالاً منطقيّاً، وذلك أنّه يجب أن يكون قد أعطي في السؤال المنطقيّ أن يختار المسئول أحد جزئي المناقضة — أيّهما شاء — حتّى يحكم به. وقد ينبغي أن يكون السائل يجري في تحديد السؤال هذا المجرى حتّى يقول: هل الإنسان كذا، أو ليس هو كذا؟

ولمّا كانت الأشياء التي تحمل فرادى، بعضها تحمل إذا جمعت حتّى يكون المحمول كلّه واحداً، وبعضها ليس كذلك، فينبغي أن نخبر بالفرق في ذلك. فإنّ إنساناً من الناس قد يصدق القول عليه فرادى بأنّه حيّ، وبأنّه ذو رجلين؛ ويصدق أيضاً أن يقال عليه هذان كشيء واحد. وقد يصدق القول عليه بأنّه إنسان وبأنّه أبيض؛ ويصدق أيضاً أن يقال عليه هذان كشيء واحد. وليس متى كان القول عليه بأنّه بصير حقّاً، والقول عليه بأنّه طبيب حقّاً فواجب أن يكون طبيباً بصيراً. وذلك أنّه إن كان لأنّ كلّ واحد من القولين حقّ، فقد يجب أن يكون مجموعها حقّاً — لزم من ذلك أشياء كثيرة شنعة. وذلك أنّ قولنا على إنسان من الناس إنّه إنسان حقّ، وقولنا عليه إنّه أبيض، فيجب أن يكون القول عليه بذلك كلّه صادقاً أيضاً. فإن كان أيضاً القول عليه بهذا وحده، أعني بأنّه أبيض، صادقاً، فيجب أن يكون القول عليه بذلك أجمع صادقاً أيضاً حتّى يقال عليه بأنّه إنسان — أبيض — أبيص ...، ويمرّ ذلك بلا نهاية. وقد يقال أيضاً عليه

بأنّه طبيب، بأنّه أبيض، بأنّه يمشي، فقد يجب أن تقال هذه عليه مراراً كثيرة بالتركيب بلا نهاية. وأيضاً إن كان سقراط هو سقراط، وهو إنسان، فهو سقراط إنسان. وإن كان إنسان وكان ذا رجلين فهو إنسان ذو رجلين. فقد بان من ذلك أنّ من قال بأنّ التأليف واجب وجوده على الإطلاق، فقد يلزمه من ذلك أن يقول أشياء شنعة.

فنحن الآن نصف كيف ينبغي أن يوضع فنقول:

إنّ ما كان من المعاني التي تحمل ومن المعاني التي عليها يقع الحمل إنّما يقال على شيء واحد بعينه أو بعضاً على بعض بطريق العرض، فإنّ هذه ليس تصير شيئاً واحداً. ومثال ذلك قولنا في إنسان من الناس إنّه أبيض وطبيب. فليس قولنا إنّه أبيض وإنّه طبيب معنى واحداً، وذلك أنّهما جميعاً عرضان لحقا شيئاً واحداً. وإن كان القول أيضاً بأنّ الأبيض طبيب صادقاً، فليس يجب ولا من ذلك أن يكون معنى أنّه طبيب ومعنى أنّه أبيض معنى واحداً. وذلك أنّ الطبيب بطريق العرض ما كان أبيض، فيجب من ذلك ألّا يكون أنّه أبيض وأنّه طبيب معنى واحداً. ومن قبل ذلك صار الطبيب ليس بصيراً على الإطلاق، بل هو حيّ ذو رجلين. وذلك أنّ هذين ليسا بطريق العرض، ولا ما كان أيضاً الواحد منه محصوراً في الآخر. ولذلك كثيراً ما لا يمكن أن يقال أبيض، ولا أن يقال إنّ الإنسان إنسان حيّ أو ذو رجلين. وذلك أنّا قد حصرنا في قولنا إنّه إنسان أنّه حيّ، وأنّه ذو رجلين.

لكن قد يصدق القول على الشخص على الإطلاق. ومثال ذلك القول على الإنسان من الناس بأنّه إنسان، والقول على الإنسان الأبيض بأنّه أبيض. إلّا أنّ ذلك ليس أبداً. لكن متى كان محصوراً في المزيد في القول شيء من المتقابل الذي تلزمه مناقضة فليس يكون حقّاً، بل كذباً. ومثال ذلك أن يقال في الإنسان الميّت إنّه إنسان. ومتى لم يكن ذلك، فقد يصدق. بل نقول إنّه متى وجد ذلك فيه فهو أبداً غير صادق؛ ومتى لم يوجد فليس أبداً يصدق. ومثال ذلك قولنا: «أوميروس موجود شيئاً ما»، كأنّك قلت: شاعراً. فهل هو موجود أو لا؟ فإنّ قولنا «موجود» إنّما حملناه على أوميروس بطريق العرض. وذلك أنّا إنّما قلنا إنّه «موجود شاعراً» ولم نحمل «موجوداً» على أوميروس بذاته.

فقد يجب من ذلك أنّ ما كان ممّا يحمل ليس يوجد فيه تضادّ متى قيلت فيه الأقاويل مكان الأسماء وكان محمولاً بذاته لا بطريق العرض؛ فإنّ القول فيما هذه سبيله إنّه شيء ما على الإطلاق — صادق —. فأمّا ما ليس بموجود فليس القول بأنّه «شيء موجود» من قبل قولنا فيه إنّه يوجد متوهّماً قولاً صادقاً. وذلك أنّ التوهّم فيه ليس أنّه موجود، بل أنّه غير موجود.

١٢

〈تقابل القضايا ذوات الجهة〉

وإذ قد لخّصنا هذه المعاني، فقد ينبغي أن ننظر كيف حال أصناف الإيجاب والسلب بعضها عن بعض: ما كان منها فيما يمكن أن يكون، وما لا يمكن، وفيما يحتمل أن يكون، وما لا يحتمل، وما كان منها في الممتنع والضروريّ. فإنّ في ذلك مواضع للشكّ.

وذلك أنّه إن كانت المناقضات في الأقاويل المؤلّفة إنّما يكون العناد بينها بعضها لبعض فيما كان منها مبنيّاً على قولنا: موجود ولا موجود — ومثال ذلك أنّ سلب قولنا «يوجد إنسان» قولنا «ليس يوجد إنسان»، لا قولنا «يوجد لا إنسان»؛ وسلب قولنا «يوجد إنسان عدلاً» قولنا «ليس يوجد إنسان عدلاً»، لا قولنا «يوجد إنسان لا عدلاً». لأنّه إن كان يقال على كلّ شيء إمّا الإيجاب وإمّا السلب، فقد يصدق إذاً في الخشبة القول بأنّها توجد إنساناً لا عدلاً. فإذا كانت المناقضات إنّما ينبغي أن توجد على هذا القياس، أعني قولنا فيها «يوجد» أو «لا يوجد»، وكانت أيضاً الأقاويل التي لا يلفظ فيها بحرف الوجود، فإنّ ما يقال لهما يقوم مقام ذلك الحرف، يفعل فعله بعينه. ومثال ذلك أنّ سلب قولنا «إنسان ليس يمشي» ليس يكون قولنا «لا إنسان يمشي»، بل قولنا: «إنسان ليس يمشي». وذلك أنّه لا فرق بين قولنا «إنسان يمشي»، وبين قولنا «يوجد إنسان ماشياً».

فإذ كان الأمر يجري هذا المجرى في كلّ موضع، فينبغي أن يكون أيضاً سلب قولنا «يمكن أن يوجد» قولنا «يمكن ألّا يوجد» لا قولنا لا «يمكن أن يوجد». غير أنّه قد يظنّ أنّ قولنا «قد يمكن أن يوجد» وقولنا «قد يمكن ألّا يوجد» معنى واحد بعينه. وذلك أنّ كلّ ما كان ممكناً أن ينقطع أو أن يمشي فيمكن ألّا ينقطع وألّا يمشي. والحجّة في ذلك أنّ كلّ ما كان ممكناً على هذا النحو فليس أبداً يفعل؛ فلذلك قد يكون له السلب أيضاً. وذلك أنّه قد يمكن ألّا يمشي المشّاء، وألّا يرى الرائي. إلّا أنّه ليس يمكن أن يصدق في شيء واحد بعينه الحكمان المتقابلان. فليس إذاً سلب قولنا «قد يمكن أن يكون» قولنا «قد يمكن ألّا يكون» لأنّه يلزم من ذلك إمّا الإيجاب والسلب معاً لمعنى واحد بعينه في معنى واحد بعينه؛ وإمّا أن تكون زيادة اللواحق التي يصير بها القول إيجاباً أو سلباً ليس 〈أن〉 نلحق قولنا «يكون» أو «يوجد» أو قولنا «لا يكون» أو «لا يوجد». فإذا كان الأوّل من هذين ممتنعاً، فيجب أن يكون الثاني مؤثراً.

فالسالب إذا لقولنا «يمكن أن يوجد» إنّما هو قولنا «لا يمكن أن يوجد». وهذا بعينه القول في قولنا أيضاً «يحتمل أن يوجد». وذلك أنّ سلب هذا القول أيضاً هو قولنا «لا يحتمل أن يوجد». والأمر في الباقية يجري على هذا النحو، أعني في الواجب وفي الممتنع. فكما أنّ في تلك

كان ما يلحق فيزاد منها قولنا «يوجد» وقولنا «لا يوجد». فأمّا المعاني الموضوعة فكانت مرّة «الأبيض» ومرّة «الإنسان». كذلك يصير الأمر هاهنا، فيصير قولنا «يوجد» كالموضوع. فأمّا قولنا «يمكن» و«يحتمل» فيصير زيادات تلحق ليحدّد بها كما حدّد في تلك بقولنا «يوجد» و«لا يوجد» الصدق والكذب؛ كذلك يحدّد هذه ما يمكن وجوده وما لا يمكن وجوده. فإنّ سلب قولنا «يمكن أن يكون» قولنا «لا يمكن أن يكون». فأمّا سلب قولنا «يمكن ألّا يكون» فإنّه قولنا «لا يمكن ألّا يكون». ولذلك قد نرى أنّه يلزم بعضها بعضاً من قبل أنّ ما كان ممكناً أن يوجد فممكن ألّا يوجد. وذلك أنّ الشيء الواحد بعينه قد يمكن أن يوجد وألّا يوجد، لأنّ هذه وما أشبهها ليست مناقضات. فأمّا قولنا «يمكن أن يوجد» وقولنا «لا يمكن أن يوجد» فلا يصدقان معاً في شيء واحد بعينه في حال من الأحوال لأنّهما متقابلان؛ ولا قولنا أيضاً «يمكن ألّا يوجد» يصدقان معاً في حال من الأحوال.

وعلى هذا المثال سلب قولنا: «واجب ضرورة أن يوجد» ليس هو قولنا: «واجب ضرورة ألّا يوجد» بل قولنا: «ليس واجباً ضرورة أن يوجد». وأمّا سلب قولنا: «واجب ضرورة ألّا يوجد» فإنّه قولنا: «ليس واجباً ضرورة ألّا يوجد»؛ وأيضاً سلب قولنا: «ممتنع أن يوجد» ليس هو قولنا:

«ممتنع ألّا يوجد» بل قولنا «ليس ممتنعاً أن يوجد». فأمّا سلب قولنا «ممتنع ألّا يوجد» فإنّه قولنا «ليس ممتنعاً ألّا يوجد».

وبالجملة، فإنّما ينبغي كما قلنا أن يتنزّل قولنا «يوجد» و«لا يوجد» منزلة الموضوع، ويلزم الإيجاب والسلب هذه المعاني: ثمّ تقرن بقولنا «يوجد» وقولنا «لا يوجد».

فإنّ هذه الأحكام ينبغي أن يعتقد أنّها الأحكام المتعاندة:

ممكن ... ... لا ممكن.

محتمل ... لا محتمل.

ممتمع ... لا ممتنع.

واجب ... لا واجب.

حقّ ... ... لا حقّ.

١٣

〈نسق الموجّهات〉

فأمّا اللوازم فهكذا يجري نسقها:

إذا وضعت: يلزم من قولنا «ممكن أن يوجد» — قولنا «محتمل أن يوجد» (وهذا ينعكس على ذلك)، ويلزم منه ويلزمه أيضاً — قولنا «ليس ممتنعاً أن يوجد» وقولنا «ليس واجباً أن يوجد». ويلزم قولنا «ممكن ألّا يوجد» وقولنا «محتمل ألّا يوجد» — قولنا «ليس واجباً ألّا يوجد» وقولنا «ليس

ممتنعاً أن ألّا يوجد». ويلزم قولنا «لا يمكن أن يوجد» وقولنا «لا يحتمل أن يوجد» — قولنا 〈واجب〉 ألّا يوجد، وقولنا «ممتنع أن يوجد». ويلزم قولنا «لا يمكن ألّا يوجد» وقولنا «لا يحتمل ألّا يوجد» — قولنا «واجب أن يوجد» وقولنا «ممتنع ألّا يوجد».

فلنتأمّل ما نصفه من هذا الرسم الذي نرسمه:

〈الترتيب الأول〉 〈الترتيب الثالث〉
(١) ممكن أن يوجد. (١) ليس ممكناً أن يوجد.
(٢) محتمل أن يوجد. (٢) ليس محتملاً أن يوجد.
(٣) ليس ممتنعاً أن يوجد. (٣) ممتنع أن يوجد.
(٤) ليس واجباً أن يوجد. (٤) واجب ألا يوجد.
〈الترتيب الثاني〉 〈الترتيب الرابع〉
(١) ممكن ألّا يوجد. (١) ليس ممكناً ألّا يوجد.
(٢) محتمل ألّا يوجد. (٢) ليس محتملاً ألّا يوجد.
(٣) ليس ممتنعاً ألّا يوجد. (٣) ممتنع ألّا يوجد.
(٤) ليس واجباً ألّا يوجد. (٤) واجب أن يوجد.

فقولنا «ممتنع» وقولنا «لا ممتنع» يلزمان قولنا «محتمل» وقولنا «لا محتمل» وقولنا «ممكن» وقولنا «لا ممكن» لزوم المناقضة، إلّا أنّ ذلك

على القلب؛ وذلك أنّ الذي يلزم قولنا «ممكن أن يوجد» سلب قولنا «ممتنع أن يوجد» والذي يلزم سلب ذلك إيحاب هذا. وذلك أنّ الذي يلزم قولنا «ليس ممكناً أن يوجد» إنّما هو قولنا «ممتنع أن يوجد» فإنّ قولنا «ممتنع أن يوجد» هو إيجاب؛ وقولنا «ليس ممتنع» سلب.

فأمّا الواجب، نعني الضروريّ، فينبغي أن ننظر كيف الحال فيه. فإنّه من البيّن أنّه ليست هذه حاله، لأنّ الذي يتبع فيه إنّما هو الأضداد. فأمّا المناقضة فعلى حيالها. وذلك أنّه ليس سلب قولنا «واجب ألّا يوجد» قولنا «ليس واجباً أن يوجد» وذلك أنّه قد يجوز أن يصدق القولان جميعاً في المعنى الواحد بعينه: فإنّ ما كان واجباً ألّا يوجد فليس واجباً أن يوجد. والسبب في أنّ اللزوم في ذلك ليست الحال فيه كالحال في الآخر أنّ الممتنع حقّه في القول بضدّ الواجب. فإن كان الممتنع والواجب قوّتهما واحدة بعينها — وذلك أنّ ما كان ممتنعاً أن يوجد فالواجب ليس أن يوجد، بل ألّا يوجد؛ وما كان ممتنعاً ألّا يوجد فواجب أن يوجد — فقد يجب، إن كانت تلك تجري على مثال ما تجري عليه التي لقولنا ممكن ولا ممكن، أن تكون هذه على الضدّ، فإنّ الواجب والممتنع قد يدلّان على معنى واحد بعينه، غير أنّ ذلك على جهة القلب.

أو نقول: إنّه ليس يجوز أن توضع المناقضات في الواجب هذا الوضع الذي وضعناه؟ وذلك أنّ ما كان واجباً أن يوجد فممكن أن يوجد؛ وإن

لم يكن كذلك فسلبه يلزمه، لأنّه قد يلزم إمّا الإيجاب وإمّا السلب. فإن لم يكن ممكناً أن يوجد، فالذي هو واجب إذا أن يوجد ممتنع أن يوجد، وذلك خلف. وأيضاً فإنّ قولنا «ممكن أن يوجد» يلزمه قولنا «ليس ممتنعاً أن يوجد» ويلزم هذا قولنا «ليس واجباً أن يوجد» فيجب من ذلك أن يكون ما هو «واجب أن يوجد» «ليس واجباً أن يوجد»، وذلك خلف. — وأيضاً فإنّه ليس يلزم قولنا «واجب أن يوجد» قولنا «ممكن أن يوجد» ولا قولنا «واجب ألّا يوجد». وذلك أنّ القول الممكن قد يتّفق فيه الأمران جميعاً. وأمّا هذان فأيّهما قد كان صادقاً لم يمكن أن يصدق معه الباقيان، لأنّه قد يمكن أن يوجد الشيء وألّا يوجد. وإن كان واجباً أن يوجد أو ألّا يوجد فليس يكون ممكناً فيه الأمران جميعاً. فقد بقي إذاً أن يكون الذي يتبع قولنا «ممكن أن يوجد» إنّما هو قولنا «ليس واجباً ألّا يوجد»، فإنّ هذا قد يصدق أيضاً مع قولنا: «واجب أن يوجد». وذلك أنّه يصير نقيضاً للقول اللازم لقولنا «ليس ممكناً أن يوجد» فإنّه قد يلزم هذا القول قولنا «ممتنع أن يوجد» وقولنا «واجب ألّا يوجد» الذي سلبه «ليس واجباً ألّا يوجد». — فهذه المناقضات إذاً تلزم أيضاً على هذا الوجه الذي وصفناه؛ وإذا وضعت كذلك لم يلحق ذلك شيء محال.

ولعلّ الإنسان أن يسأل فيقول: هل يلزم قولنا «واجب أن يوجد» قولنا «ممكن أن يوجد»؟ فإنّه إن لم يكن يلزمه فنقيضه يتبعه وهو قولنا «ليس يمكن أن يوجد». وإن قال قائل إنّ هذا القول ليس هو نقيض ذلك، فواجب أن يقول إنّ نقيضه قولنا «يمكن ألّا يوجد». والقولان جميعاً كاذبان فيما وجوده واجب. غير أنّا قد نرى أيضاً أنّ الشيء الواحد بعينه يمكن 〈أن〉 يقطع وألّا يقطع، ويمكن أن يوجد وألّا يوجد؛ فيجب من ذلك أن يكون ما هو واجب أن يوجد يحتمل ألّا يوجد، وهذا أيضاً باطل. فنقول إنّه ليس كلّ ما هو ممكن، أي في قوّته أن يوجد أو أن يمشي، فقد يقدر على ما هو مقابل لذلك، بل هاهنا أشياء لا يصدق فيها المقابل، وأوّل ذلك في الممكنة التي ليست قواها بنطق، ومثال ذلك «النار» تسخن كلّ ما لقيته، وقوّتها ليست بنطق. فالقوى التي تكون بنطق هي واحدة بأعيانها لأشياء كثيرة ولأضدادها. فأمّا القوى التي ليست بنطق فليس كلّها كذلك؛ لكن الأمر على ما قلنا في النار، وذلك أنّه ليس ممكناً أن تحرق وألّا تحرق، وكذلك غيرها ممّا تفعل دائماً. إلّا أنّ بعض الأشياء ممّا قوّته بغير نطق قد يمكن فيها أيضاً أن تقبل معاً المتقابلات. وإنّما قلنا هذا القول ليعلم أنّه ليس كلّ إمكان فهو للأشياء المتقابلة

ولا فيما يقال في النوع الواحد بعينه وإن كان بعض الإمكان مشتركاً في الاسم. وذلك أنّ الممكن ليس ممّا يقال على الإطلاق، بل منه ما يقال حقّاً، لأنّ الشيء يفعل. ومثال ذلك قولنا في الماشي إنّ المشي ممكن له لأنّه يمشي. وبالجملة قولنا في الشيء إنّ كذا ممكن له، لأنّه بالفعل بالحال التي يقال إنّها ممكنة. ومنه ما يقال ذلك فيه لأنّ من شأنه أن يفعل. ومثال ذلك قولنا في الشيء إنّه قد يمكن أن يمشي لأنّه من شأنه أن يمشي. وهذا الإمكان إنّما هو في الأشياء المتحرّكة وحدها. فأمّا ذاك فهو أيضاً في الأشياء غير المتحرّكة. والقول بأنّه ممكن أن يمشي وأنّه يمشي صادقان فيما هو دائب يمشي بالفعل وفيما هو من شأنه المشي. فأمّا ما قيل ممكناً على هذا الوجه فليس بصادق إذا قيل على الإطلاق في الواجب ضرورة. وأمّا على الوجه الآخر فإنّه صادق: — فإذ كان الكلّيّ لاحقاً بالجزئيّ فقد يجب أن يلزم فيما هو واجب أن يوجد أن يكون أيضاً ممكناً أن يوجد. إلّا أنّه ليس على كلّ معنى الممكن.

وعسى أن يكون أيضاً مبدؤها كلّها قولنا: واجب، وقولنا: ليس واجب أن يوجد أو لا يوجد. ثمّ ينبغي أن نتأمّل كيف 〈يكون〉 لزوم سائر تلك الباقية لهذه. وقد ظهر ممّا قلنا إنّ ما وجوده واجب ضرورة

فهو بالفعل. فيجب من ذلك — إذ كانت الأشياء الأزليّة أقدم — أن يكون أيضاً الفعل أقدم من القوّة. فتكون بعض الأشياء بالفعل دون القوّة، ومثال ذلك الجواهر الأول؛ وبعضها مع قوّة، وهذه الأشياء هي بالطبع أقدم، فأمّا بالزمان فإنّها: أشدّ تأخّراً؛ وبعضها ليس في حال من الأحوال بالفعل، بل إنّما هي قوّة فقط.

١٤

〈تضادّ القضايا〉

وقد ينبغي أن ننظر هل ضدّ الإيجاب إنّما هو السلب، أو الإيجاب ضدّ الإيجاب؛ وهل قولنا «كلّ إنسان عدل» هو ضدّ قولنا [و]«لا إنسان واحداً أعدل»، وإنّما هو ضدّ قولنا «كلّ إنسان جائر»، كأنّك قلت: «سقراط عدل»، «سقراط ليس بعدل»، «سقراط جائر» — أيّ الاثنين من هذه هما المتضادّان؟

فإنّه إن كان ما يخرج بالصوت تابعاً لازماً لما يقوم في الذهن، وكان في الذهن ضدّ الاعتقاد إنّما هو اعتقاد ضدّ — ومثال ذلك أنّ اعتقادنا أنّ كلّ إنسان عدل ضدّ اعتقادنا أنّ كلّ إنسان جائر — فواجب ضرورة أن يكون أيضاً الحال في الإيجابين اللذين يخرجان بالصوت على ذلك المثال. وإن لم يكن هناك اعتقاد الضدّ هو الضدّ لم يكن أيضاً الإيجاب

هو المضادّ للإيجاب، بل السلب الذي وصفناه. فقد ينبغي إذاً أن نبحث وننظر: أيّ اعتقاد حقّ هو المضادّ للاعتقاد الباطل: هل اعتقادنا سلبه، أو اعتقادنا وجود ضدّه؟

وأعني بذلك هذا المعنى: هاهنا عقد صادق في خير، وهو أنّه خير؛ وعقد آخر كاذب وهو أنّه ليس بخير؛ وعقد غيره وهو أنّه شرّ — فأيّ هذين، ليت شعرى، هو ضدّ العقد الصادق؟ وإن كان واحداً (أي إن كان معناهما واحداً) فالمضادّة في أيّهما هو. فنقول: إن ظننا أنّ العقدين المتضادّين إنّما يحدّان بأنّهما لسببين متضادّين، باطل؛ وذلك أنّ الاعتقاد في خير أنّه خير، والاعتقاد في شرّ أنّه شرّ خليق أن يكون واحداً بعينه، بل هو حقّ: واحداً كان أو أكثر من واحد؛ بل من قبل أنّهما بحال تضادّ: — فإذ كان هاهنا عقد في خير، أنّه خير؛ وعقد أنّه ليس بخير، وعقد أنّه شيء آخر ليس هو موجوداً ولا يمكن أن يوجد — فليس ينبغي أن يوضع الضدّ واحداً من تلك الأشياء التي الاعتقاد فيها فيما ليس بموجود أنّه موجود، أو فيما هو موجود بأنّه ليس بموجود. وذلك أنّ الصنفين جميعاً بلا نهاية، أعني ما يقع فيه منها الاعتقاد فيما ليس بموجود أنّه موجود، وما يقع فيه منها الاعتقاد

فيما هو موجود أنّه غير موجود. بل إنّما ينبغي أن يوضع التضادّ فيما فيه تقع الشبهة. وما تقع فيه الشبهة هو ما منه يكون أيضاً التكوّن. والتكوّن إنّما يكون من المتقابلات. فمن هذه إذاً تدخل الشبه.

فإذ كان الشيء الخير هو خيراً وليس بشرّ، وكان الأوّل له بذاته، والثاني بطريق العرض، وذلك أنّه إنّما عرض له أن يكون ليس بشرّ، وكان العقد الذاتيّ في كلّ واحد من المعاني أحرى بالصدق متى كان حقّاً، أو بالكذب متى كان باطلاً، وكان العقد في خير ما أنّه ليس بخير عقداً باطلاً لأمر ذاتيّ، والعقد فيه أنّه شرّ عقداً باطلاً لأمر عرضيّ — فقد يجب من ذلك أن يكون اعتقاد السلب في الخير أحرى بالكذب من اعتقاد ضدّه؛ والذي هو أحرى بالكذب في كلّ واحد من المعاني هو المعتقد لضدّه، وذلك أنّ الضدّين هما المختلفان غاية الاختلاف في المعنى الواحد بعينه. فإذ كان الضدّ هو أحد هذين، وكان النقيض أشدّ مضادّة، فمن البيّن أنّ هذا هو الضدّ. فأمّا الاعتقاد في الخير أنّه شرّ، فإنّه اعتقاد مقرون بغيره، لأنّ المعتقد لذلك فهو لا محالة خليق أن يخطر بباله أيضاً فيه أنّه ليس بخير.

وأيضاً فإن كان واجباً في غير ما ذكرنا أن يجري الأمر على هذا المثال، فقد يرى أنّ ما قيل في ذلك صواب، وذلك أنّه قد يجب إمّا أن يكون اعتقاد النقيض هو الضدّ في كلّ موضع؛ وإمّا ألّا يكون في موضع من

المواضع ضدّاً. والأشياء التي ليس يوجد فيها الضدّ أصلاً، فإنّ الكذب فيها إنّما هو العقد المعاند للحقّ، ومثال ذلك من ظنّ بإنسان أنّه ليس بإنسان فقد ظنّ ظنّاً كاذباً. فإن كان هذان الاعتقادان هما الضدّين، فسائر الاعتقادات إنّما الضدّ فيها هو اعتقاد النقيض.

وأيضاً فإنّ العقد فيما هو خير أنّه خير، والعقد فيما ليس بخير أنّه ليس بخير يجريان على مثال واحد. ومع ذلك أيضاً العقد فيما هو خير أنّه ليس بخير، والعقد فيما ليس بخير أنّه خير، والعقد فيما ليس بخير أنّه ليس بخير، وهو عقد حقّ، أيّ عقد، ليت شعرى، هو ضدّه! فإنّه ليس يجوز أن يقال إنّ ضدّه اعتقاد أنّه شرّ. وذلك أنّه قد يمكن في حال من الأحوال أن يصدقا معاً من قبل أنّ من الأشياء ما ليس بخير وهو شرّ، فيلزم في ذلك الشيء أن يكونا صادقين معاً؛ ولا ضدّه أنّه ليس بشرّ، فإنّ هذا أيضاً صدق. فقد بقي إذاً أن يكون ضدّ العقد فيما ليس بخير أنّه ليس بخير العقد فيما ليس بخير أنّه خير. وذلك أنّ هذا باطل. فيجب من ذلك أن يكون ضدّ العقد فيما هو خير أنّه العقد فيما هو خير أنّه ليس بخير.

ومن البيّن أنّه لا فرق في ذلك، وإن جعلنا الإيجاب كلّيّاً؛ وذلك أنّ الضدّ يكون حينئذٍ السلب الكلّيّ. ومثال ذلك أنّ ضدّ العقد: أنّ كلّ ما هو خير فهو خير — العقد أنّه ولا واحد من الخيرات خير. وذلك أنّ العقد في الخير أنّه خير — الذي يعقد الخير على المعنى الكلّيّ هو العقد بعينه في أيّ خير

كان أنّه خير، ولا فرق بين هذا وبين العقد أنّ كلّ ما كان خيراً فهو خير. وعلى هذا المثال يجري الأمر أيضاً فيما ليس بخير.

فإذ كان الأمر في الاعتقاد يجري هذا المجرى، وكان الإيجاب والسلب في اللفظ دلائل ما في النفس، فمن البيّن أنّ ضدّ الإيجاب أيضاً إنّما هو السلب لذلك المعنى بعينه على الحكم الكلّيّ. ومثال ذلك، أنّ ضدّ قولنا: «كلّ خير فهو خير» أو قولنا: «كلّ إنسان فخير» قولنا: «ولا خير واحد»، أو قولنا: «ولا إنسان واحد». فأمّا نقيضه 〈فهو〉 قولنا: «ليس كلّ خير» أو «ليس كلّ إنسان» 〈خيراً〉.

ومن البيّن أنّه ليس يمكن أن يكون حقّ ضدّ الحقّ: لا رأي لرأي؛ ولا نقيض لنقيض؛ فإنّ وجود التضادّ إنّما هو في الأشياء المتقابلة. غير أنّه قد يمكن في هذه أن يصدق المتقابلان في الواحد بعينه. فأمّا الضدّان فليس يمكن أن يوجدا معاً في شيء واحد بعينه.

[تمّ كتاب أرسطوطاليس «پاري أرمينيس» أي «في العبارة». نقل إسحاق بن حنين. نقل من نسخة بخطّ الحسن بن سوار، نسخها من نسخة يحيى بن عديّ التي قابل بها دستور إسحاق وبخطّه. قوبل به نسخة كتبت من خطّ عيسى بن إسحاق بن زرعة، نسخها من خطّ يحيى بن عديّ المنقول من دستور الأصل الذي بخطّ إسحاق بن حنين، فكان موافقاً].