Aristotle: Ars poetica (Poetics)
Work
,
(Περὶ ποιητικῆς)
English:
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator: Šukrī Muḥammad ʿAyyād
Translated from: Greek
(Close)
Date:
1967
Source
Šukrī Muḥammad ʿAyyād. Kitāb Arisṭūṭālīs fī l-šiʿr. Naql Abī Bišr Mattā ibn Yūnus al-Qunnāʾī min al-suryānī ilā l-ʿarabī. Cairo (Dār al-kātib al-ʿarabī) 1967, 28-156
Download
arist_poetica-transl-ar5.xml [116.44 KB]
كتاب «صنعة الشعر» لأرسطو (ترجمة حديثة)
١ — إنّا متكلّمون في صنعة الشعر في ذاتها وأيّ قوّة لكلّ نوع من أنواعها، وكيف ينبغي أن تقوم القصّة إذا طمح بالشعر إلى حال الجودة، وقائلون أيضاً من كم جزء يتكوّن الشعر، وما هي أجزاؤه، وكذلك نتكلّم في كلّ ما يتّصل بهذا المبحث، مبتدئين في ذلك كلّه — وفقاً للطبيعة — من المبادئ الأولى.
فشعر الملاحم وشعر التراجيديا، وكذلك الكوميديا والشعر الدثورمبيّ، وأكثر ما يكون من الصفر في الناي واللعب بالقيثار — كلّ تلك، بوجه عامّ، أنواع من المحاكاة، ويفترق بعضها عن بعض على ثلاثة أنحاء: إمّا باختلاف ما يحاكى به، أو باختلاف ما يحاكي، أو باختلاف طريقة المحاكاة. فكما أنّ من الناس من إنّهم ليحاكون الأشياء ويمثّلونها بحسب ما لهم من الصناعة أو العادة بألوان وأشكال، ومنهم من يفعل ذلك بوساطة الصوت، فكذلك الأمر في الفنون التي ذكرناها، فجميعها تحدث المحاكاة بالوزن والقول والإيقاع، إمّا بواحد منها على الانفراد أو بها مجتمعة.
فالإيقاع والوزن — مثلاً — يستعملان وحدهما في الصفر في الناي وصنعة الضرب على القيثار، وما قد يكون من صنائع لها مثل قوّتهما، كصفارة الراعي. والوزن وحده — بغير إيقاع — يستخدم في الرقص، فإنّ الرقص أيضاً يحاكي الخلق والانفعال والفعل بوساطة الأوزان الحركيّة. أمّا الصنعة التي تحاكي باللغة وحدها منثورة أو منظومة — ومن النظم ما يكون في جملة أعاريض مجتمعة، ومنه ما يكون في جنس واحد من الأعاريض — أمّا هذه الصنعة فلم يعرف لها اسم حتّى الآن، فليس لدينا تسمية عامةّ لمشاهد سوفرون وكسنارخوس ومحاورات سقراط، ولا لما قد يعمل من المحاكاة في العروض الثلاثيّ أو الإليجيّ أو غيرهما من الأعاريض. إلّا أنّ الناس يلحقون كلمة الشعر — أو العمل (پوياين) — بالعروض المقول فيه، فيطلقون اسم «الشعراء إلاليجيّين» على فريق، واسم شعراء الإپيّ على فريق آخر، لا يرجعون في تسمية هؤلاء وأولئك شعراء إلى المحاكاة بل إلى العروض دون تمييز بين محاكٍ منهم وغير محاكٍ، حتّى لقد جرت عادتهم أنّه إذا وضعت مقالة طبّيّة أو طبيعيّة في كلام منظوم سمّوا واضعها شاعراً. على أنّك لا تجد شيئاً مشتركاً بين هوميروس وأمبدوكليس ما خلا الوزن، بحيث يحقّ لك أن تسمّي الأوّل منهما شاعراً، أمّا الثاني فيصدق عليه اسم «الطبيعيّ» أكثر من اسم «الشاعر». وعلى هذا القياس ينبغي أيضاً أن نسمّي شاعراً من يأتي بالمحاكاة في مزيج من الأعاريض. كما فعل خايريمون
في «كنتورس» وهي قصيدة تجمع بين الأعاريض كلّها. فلتوضع الحدود بين هذه الأمور على النحو الذي وصفناه.
ثمّ إنّ من الصنائع ما يستعمل جميع الوسائط التي ذكرنا: أعني الوزن والغناء والعروض، كالشعر الديثرمبيّ والنوميّ، وكالتراجيديا والكوميديا. غير أنّ الفرق بين هذه الصنائع أنّ الأوّلين تستخدمان الوسائط الثلاثة مجتمعة، على حين أنّ الأخريين تستخدمانها مفرّقة في جزء جزء. هذا قولي في الفروق بين الصنائع التي بها يحدثون المحاكاة.
٢ — وإذا كان من يحدثون المحاكاة إنّما يحاكون أناساً يعملون، وكان هؤلاء المحاكون — بالضرورة — إمّا أخياراً وإمّا أشراراً (فإنّ الأخلاق تخضع غالباً لهذين القسمين، لأنّ الرذيلة والفضيلة هما اللذان يميّزان الأخلاق كلّها) فينتج من ذلك أنّ المحاكين إمّا أن يكونوا خيراً من الناس الذين نعهدهم أو شرّاً منهم أو مثلهم، كما هي الحال في التصوير: فقد كان بولوجنوتس يصوّر الناس خيراً ممّا هم وباوزون يصوّرهم أسوأ ممّا هم وديونوسيس يصوّرهم كما هم. فبيّن إذن أنّ كلّ واحد من المحاكيات التي ذكرت له هذه الفصول، وأنّه يكون مختلفاً بأن يحاكي أشياء مختلفة على هذا النحو الذي وصفنا. فإنّ هذه الفروق قد توجد أيضاً في الرقص والصفر بالناي واللعب بالقيثار، كما توجد في الكلام المنثور والشعر الذي لا تصاحبه الموسيقى، فهو ميروس مثلاً يصوّر الناس خيراً ممّا هم، وكليوفون يصوّرهم كما هم، وهيجيمون الثاسيّ الذي كان أوّل من نظم المساخر ونيقوخاريس الذي كتب «الديليادا» يصوّرانهم شرّاً ممّا هم، وقد تقع المحاكاة في
القصائد الدثورمبيّة والنوميّة على هذا النحو نفسه، كما كان من محاكاة تيموثيوس وفيلوكسينوس للقوقلوب.
وبهذا الفرق أيضاً تختلف التراجيديا عن الكوميديا: فهذه تمثّل أناساً أخسّ ممّن نعهدهم وتلك تمثّل أناساً أفضل ممّن نعهدهم.
٣ — ثمّ إنّ الثالث لهذه الفروق هو الطريقة التي يمكن أن يحاكى بها كلّ. فقد تقع المحاكاة في الوسائط نفسها والأشخاص أنفسهم تارة بطريق القصص — إمّا بأن يتقمّص الشاعر شخصاً آخر كما يفعل هوميروس، إمّا بأن يظلّ هو هو لا يتغيّر — وتارة بأن يعرض أشخاصه جميعاً وهم يعملون وينشطون.
فالمحاكاة — إذن — لها هذه الفصول الثلاثة كما قلنا منذ البدء: ما يحاكى به، وما يحاكي، وطريقة المحاكاة. فيكون سوفوكليس — من جهة — محاكياً مثل هوميروس لأنّ كليهما يحاكي أشخاصاً فضلاء، ومن جهة أخرى مثل أرسطوفانيس، لأنّ كليهما يحاكي أشخاصاً يعملون ويفعلون، ومن هنا قال قوم إنّ هذه الأشعار سمّيت «دراماتا» لأنّها تمثّل أشخاصاً في حال الفعل (درونتاس).
ولذلك أيضاً ادّعى الدوريّون أنّهم أصحاب التراجيديا والكوميديا معتمدين دلالة الأسماء (أمّا الكوميديا فادّعاها ميغاريو هذه البلاد قائلين إنّها نشأت من نظامهم الديموقراطيّ، كما ادّعاها ميغاريو صقلّيّة إذ كان منهم إپيخارمس الشاعر وهو أقدم كثيراً من خيونيدس وما جنس، وكذلك ادّعى بعض دورپيّ الپلوپونيز أنّهم أصحاب التراجيديّا).
فهم يقولون إنّ القرى المطيّفة كانت تسمّى عندهم «كوماس»، على حين كان الأثينيّون يسمّونها «ديموس»، فعلى رأيهم لا يكون الكوميديّون قد سمّوا بهذا الاسم أخذاً من الفعل، «كومازدين» (التفريح) بل لطوافهم في القرى (كوماس) إذ كانوا محقّرين من أهل المدينة. ثمّ هم يقولون إنّ الاسم الذي يطلقونه على معنى العمل هو «دران»، على حين أنّ الأثينيّين يسمّونه «پراتين». هذا قولنا في تعداد فصول المحاكاة وبيان أيّ هي هذه الفصول.
٤ — ويبدو أنّ الشعر — على العموم — قد ولّده سببان، وأنّ ذينك السببين راجعان إلى الطبيعة الإنسانيّة. فإنّ المحاكاة أمر فطريّ موجود للناس منذ الصغر، والإنسان يفترق عن سائر الأحياء بأنّه أكثرها محاكاة، وأنّه يتعلّم أوّل ما يتعلّم بطريق المحاكاة. ثمّ إنّ الالتذاذ بالأشياء المحكيّة أمر عامّ للجميع. ودليل ذلك ما يقع فعلاً: فإنّنا نلتذّ بالنظر إلى الصور الدقيقة البالغة للأشياء التي نتألّم لرؤيتها، كأشكال الحيوانات الدنيئة والجثث الميّتة. وسبب ذلك — مرّة أخرى — أنّ التعلّم ليس لذيذاً للفلاسفة وحدهم بل لسائر الناس أيضاً، ولكن هؤلاء لا يأخذون منه إلّا بنصيب محدود. فيكون التذاذ هؤلاء برؤية الصور راجعاً إلى أنّهم حين ينظرون إلى الأشياء يتّفق لهم أن يتعلّموا ويجرّوا قياساً في كلّ منها، كأنّ يقولوا: هذا هو ذاك. فإنّه إذا اتّفق أن لم تكن قد رأيت الشيء قبلاً فإنّ اللذّة لا تكون حينئذٍ ناشئة عن المحاكاة بل عن الإتمام أو عن اللون أو عن سبب آخر
كهذين. وإذا كان وجود المحاكاة لنا أمراً راجعاً إلى الطبيعة، وكذا وجود الإيقاع والوزن (وبيّن أنّ الأعاريض أجزاء للأوزان) فإنّ من كانوا مجبولين عليها منذ البدء قد أخذوا يرقون بها قليلاً قليلاً حتّى ولّدوا الشعر من الأقاويل المرتجلة، ثمّ انقسم الشعر تبعاً لأخلاق الأفراد من قائليه، فمن كانوا منهم أميل إلى الدناءة حاكوا أفعال الأدنياء، ناظمين أوّلاً قصائد الهجاء، كما نظم الآخرون أغاني التمجيد والمديح ولا نعرف أحداً ممّن قبل هوميروس قال مثل هذه الأشعار، وإن كان من الراجح أنّه قد وجد كثير من هؤلاء، ولكنّنا نعرف أمثلة من ذلك عند هوميروس ومن بعده كقصيدته «المارجيتيس» والقصائد التي تجري مجراها، التي صادفت العروض الأيامبيّ مناسباً لها، ومن هنا يسمّى هذا العروض الآن بالأيامبيّ لأن الناس كانوا يتهاجون به (أيامبدسون).
فأصبح فريق من الشعراء القدامّيّ صناعاً لأناشيد البطولة، وفريق آخر صنّاع أهاجٍ. وكما كان هوميروس خير صانع للشعر الجدّيّ الرصين (لأنّه هو وحده كان يقرن سموّ الشعر بتمثيليّة المحاكاة)، كذلك كان هو أوّل من خطط قواعد الكوميديا، فلم ينظم أهاجي بل مثل المضحك بشعره، فإنّ نسبة قصيدته «المارجيتيس» إلى الكوميديات كنسبة الإلياذة والأودسية إلى التراجيديات. ولمّا ظهرت التراجيديا والكوميديا جنح الشعراء إلى كلّ من هذين النوعين مسوّقين بطائعهم الخاصّة، فأصبح بعضهم صنّاع كوميديات عوضاً عن كونهم صنّاع أهاجٍ، وأصبح بعضهم الآخر أساتذة للتراجيديا بعد أن كان أسلافهم شعراء ملاحم، فإنّ التراجيديا والكوميديا كانتا شكلين أعظم وأرفع من الشكلين السابقين. ولكن البحث في أنّ التراجيديا قد استكملت كلّ أنواعها أو تستكملها، وهل ينظر إلى هذا الموضوع في ذاته أو بالقياس إلى النظّارة — هذه مسألة
أخرى. ومهما يكن من شيء فإنّ التراجيديا بعد أن نشأت مرتجلة أوّل الأمر — شأنها في ذلك شأن الكوميديا — على أيدي ناظمي الدثورمبوس، كما نشأت الكوميديا على أيدي ناظمي الأغاني الفاليّة التي لا تزال شائعة إلى الآن في كثير من المدن — بعد أن نشأت التراجيديا هذه النشأة أخذت تنمو قليلاً قليلاً بقدر ما كان يظهر منها للقائمين بها، وبعد أن مرّت بكثير من التغيّرات توقّفت إذ وصلت إلى طبيعتها الذاتيّة.
وكان أيسخولوس أوّل من زاد عدد الممثّلين من واحد إلى اثنين، وقلّل نصيب الجوقة، وجعل للحوار المقام الأوّل في التمثيل، أمّا سوفوكليس فزاد عدد الممثّلين إلى ثلاثة، وأدخل رسم المناظر. ثمّ إنّ التراجيديا لم تزل حتّى اكتسبت الفخامة والرونق تاركة شكل التمثيليّة الساتوريّة، ومستبدلة الطول والعظم من صغر القصّة وسماجة العبارة. أمّا العروض فقد تغيّر من الرباعي (الروخائيّ) إلى الأيامبيّ؛ فقد استعمل العروض الرباعيّ أوّل ما استعمل لأنّ الشعر كان ساتيريا وكان أقرب إلى الرقص فلمّا أدخل الحوار في التمثيل اهتدت الطبيعة نفسها إلى العروض المناسب. فإنّ العروض الأيامبيّ هو
أليق الأعاريض بالحوار؛ ودليل ذلك أنّه كثيراً ما يتّفق لنا في أحاديثنا كلام موزون على العروض الأيامبيّ، في حين أنّ الوزن السداسيّ لا يتّفق إلّا في الندرة، وعندما نعدّل عن نبرة الكلام العادي. أمّا عن زيادة عدد الفصول وما يذكر من ضروب التحسين الأخرى فينبغي أن يعتبر ما تقدّم لنا قوله. فإنّ إشباع الحديث في كلّ منها قد يكون عملاً كبيراً.
٥ — أمّا الكوميديا فهي — كما قلنا — محاكاة الأدنياء؛ ولكن لا بمعنى وضاعة الخلق على الإطلاق، فإنّ «المضحك» ليس إلّا قسماً من القبيح، والأمر المضحك هو منقصة ما وقبح لا ألم فيه ولا إيذاء. اعتبر ذلك بحال القناع الذي يستخدم في الإضحاك، فإنّ فيه قبحاً
وتشويهاً، ولكنّه لا يسبّب ألماً. ولسنا نجهل التغيّرات التي مرّت بها التراجيديا ولا من تمّت على أيديهم هذه التغيّرات، أمّا الكوميديا فقد غمض أمرها لأنّها لم توضع موضع العناية منذ نشأتها؛ ولم يخصص السلطان جوقة من الكوميديّين إلّا في وقت متأخّر، وكانوا قبل ذلك من المتطوعين. ولا يتذاكر الناس من يدّعون بالشعراء الكوميديّين إلّا وقد اكتسبت الكوميديا أشكالاً ما. فليس يعرف من الذي أمدّها بالأقنعة أو جعل لها المقدّمات أو زاد عدد الممثّلين وما إلى ذلك. أمّا عمل القصص فقد كان مصدره الأوّل صقلّيّة، وكان كراتيس أوّل شاعر أثينيّ هجر الشعر الأيامبيّ وابتدأ صناعة قصص وحكايات ذات معنى عامّ.
والملحمة تتّفق مع التراجيديا في كونها محاكاة للأخيار في كلام موزون، وتختلف عنها في أنّ الملحمة ذات عروض واحد وأنّها تجري على طريقة القصص. وهي مخالفة لها في الطول، فالتراجيديا تحاول جاهدة أن تقع تحت دورة شمسيّة واحده، أو لا تتجاوز
ذلك إلّا قليلاً، أمّا الملحمة فهي غير محدودة في الزمان، على أنّهم كانوا يتسمّحون قديماً في التراجيديات بمثل ما يتسمّحون به في الملاحم. أمّا الأجزاء الداخليّة في التراجيديا فمنها ما يوجد هو بعينه في الملحمة، ومنها ماهو خاصّ بالتراجيديات؛ فمن عرف الجيّد والرديء في التراجيديات عرف مثل ذلك في الملاحم، لأنّ ما يوجد في الملحمة يوجد في التراجيدايا، أمّا ما يوجد في التراجيديا فليس كلّه موجوداً في الملحمة.
٦ — سنتكلّم فيما بعد عن الشعر المحاكي ذي العروض السداسيّ وعن الكوميديا، أمّا الآن فلنتحدّث عن التراجيديا مستخلصين ممّا تقدّم ذكره تعريفها الدالّ على حقيقها. فالتراجيديا هي محاكاة فعل جليل، كامل، له عظم ما، في كلام ممتع تتوزّع أجزاء القطعة عناصر التحسين فيه، محاكاة تمثّل الفاعلين ولا تعتمد على القصص، وتتضمّن الرحمة والخوف لتحدث تطهيراً لمثل هذه الانفعالات. وأعني «بالكلام الممتع» ذلك الكلام الذي يتضمّن وزناً وإيقاعاً وغناء، وأعني بقولي تتوزّع أجزاء القطعة عناصر التحسين فيه أنّ بعض الأجزاء يتمّ بالعروض وحده على حين أن بعضها الآخر يتمّ بالغناء.
وإذ كانت المحاكاة يقوم بها أناس يعملون فيلزم أوّلاً أن تكون تهيئة المنظر جزءاً من أجزاء التراجيديا، ويلي ذلك الغناء والعبارة وبهذه الثلاثة تتمّ المحاكاة. وأعني «بالعبارة» نظم الأوزان نفسه. أمّا الغناء فلا يخفى معناه على أحد. ثمّ إذ كانت التراجيديا محاكاة لفعل، وكان يقوم بها أناس يعملون، وهؤلاء يلزم أن تكون لهم خصائص ما في الخلق والفكر (فإنّنا ننسب إلى الخلق والفكر حينما نصف الأعمال بصفات ما، وينتج من ذلك أنّ للأفعال سببين هما الفكر والأخلاق، وعنهما يحدث كلّ نجاح وكلّ إخفاق) فبناء على ذلك تكون «القصّة» هي محاكاة الفعل. وأعني بالقصّة نظم الأعمال، وبالأخلاق ما ننسب إليه وصفنا للفاعلين بصفات ما، وبالفكر ما به يدلّ القائل على شيء أو يثبت رأياً. فيلزم أن يكون لكلّ تراجيديا ستّة أجزاء هي التي تعين صفتها المميّزة: وهي القصّة، والأخلاق، والعبارة، والفكر، والنظر، والغناء. فالوسائط التي بها تقع المحاكاة جزآن من هذه الأجزاء الستّة، وطريقة المحاكاة جزء
واحد، وما يحاكى ثلاثة أجزاء، وليس بعد ذلك شيء. ويمكن القول بأنّ الشعراء جميعاً قد استعملوا هذه الأجزاء الستّة. فكلّ تمثيليّة تتضمّن منظراً أو مناظر، كما تتضمّن خلقاً وقصّة وعبارة وغناء وفكراً.
وأعظم هذه الأجزاء نظم الأعمال؛ فإنّ التراجيديا ليست محاكاة للأشخاص بل للأعمال والحياة، وللسعادة والشقاء، والسعادة والشقاء هما في العمل. و«الغاية» هي فعل ما، وليست كيفيّة ما؛ على أنّ الكيفيّات تتبع الأخلاق، أمّا السعاده أو ضدّها فتتبع الأعمال. فالتمثيل إذن لا يقصد إلى محاكاة الأخلاق ولكنّه يتناول الأخلاق من طريق محاكاة الأفعال، ومن ثمّ فالأفعال والقصّة هي غاية الترجيديات، والغاية هي أعظم كلّ شيء. ثمّ إنّك لا تجد تراجيديا قد خلت من محاكاة فعل، ولكنّك قد تجد تراجيديا خالية من محاكاة الأخلاق، فإنّ تراجيديات أكثر المحدثين لا تتناول الأخلاق، وهذه حال كثير
من الشعراء على العموم، كالشأن في التصوير حين توازن بين زويكسيس وبولوجنوتس. فأمّا بولوجنوتس فمصوّر للأخلاق مجيد، وأمّا زويكسيس فليس في تصويره شيء من الأخلاق. هذا ولو أنّ كاتباً سرد خطباً في الأخلاق ذات صنعة جيّدة في العبارة والفكر لما كان لذلك فعل التراجيديا، ولكان أدنى منه كثيراً إلى ذلك الفعل: التراجيديا التي يقلّ حظّها من هذين العنصرين ولكنّها تحتوي على قصّة ونظم للأعمال. زد على ذلك أنّ أعظم عنصرين تعتمد عليهما التراجيديا في اجتذاب النفوس إنّ هما إلّا جزءان للقصّة، وهما الانقلاب والتعرّف. ودليل آخر: وهو أنّ المبتدئين في صناعة الشعر يصلون إلى الإتقان في صوغ العبارة ورسم الأخلاق قبل نظم الأفعال، وكذلك كان شأن أكثر المتقدّمين.
فالقصّة إذن هي نواة التراجيديا، والتي تتنزّل منها منزلة الروح، وتليها الأخلاق. وشبيه بذلك أمر التصوير: فإنّ أجمل الأصباغ إذا وضعت في غير نظام لم يكن لها من البهجة ما لصورة مخطّطة بمادّة بيضاء. فالتراجيديا إذن هي محاكاة لفعل، وهي إنّما تحاكي الفاعلين من طريق محاكاة الأفعال.
والعنصر الثالث هو الفكر، وهو القدرة على قول الأشياء
الممكنة والمناسبة، وذلك — في الكلام — شأن صناعة السياسة وصناعة الخطابة، فكان القدّاميّ من الشعراء يجعلون أشخاصهم يتكلّمون على منحى السياسة، على حين أنّ الشعراء المحدثين يجعلونهم يتكلّمون على منحى الخطابة. فالخلق هو ذلك الذي يوضح الفعل الإراديّ فيبيّن ما يختاره المرء وما ينفر منه، ومن ثمّ لا يظهر الخلق في الكلام الذي لا يوضح ما يختاره القائل أو ينفر منه، أو الذي لا يختار فيه القائل شيئاً ما ولا ينفر من شيء. أمّا الفكر فما به إثبات أنّ شيئاً ما موجود أو غير موجود، أو تقرير أمر على وجه العموم.
والرابع من الأجزاء التي ذكرناها هو العبارة. وأعني بالعبارة — كما قيل من قبل — التعبير بوساطة الكلمات، وقوّته، واحدة في الكلام المنظوم والمنثور على السواء. أمّا عن الجزئين الباقيين فالغناء هو أعظم المحسنات الممتعة في صنعة التراجيديا، والمنظر— وإن كان ممّا يستهوي النفس — فهو أقلّ الأجزاء صنعة وأضعفها بالشعر
نسباً، فإنّ قوّة التراجيديا لا تتوقّف على التمثيل أو على الممثّلين. كما أنّ صناعة المسرح هي أدخل في تهيئة المناظر من صناعة الشعر.
٧ — وإذ قد فرغنا من هذه الحدود فلنبحث كيف ينبغي أن يكون نظم الأعمال، إذ كان ذلك أوّل شيء وأعظم شيء في التراجيديّا. وقد سبق لنا القول إنّ التراجيديا هي محاكاة فعل كامل تامّ له عظم ما، فقد يكون شيء تامّ ليس بعظيم. والتامّ — أو الكلّ — هو ما له مبدأ ووسط ونهاية، والمبدأ هو ما لا يكون بعد شيء آخر بالضرورة، ولكن شيئاً آخر يكون أو يحدث بعده على مقتضى الطبيعة. أمّا النهاية فهي — على العكس — ما يكون هو نفسه بعد شيء آخر على مقتضى الطبيعة إمّا الضرورة، أو بحكم الأغلب، ولكن لا يتبعه شيء آخر. والوسط هو ما يتبع آخر ويتبعه آخر أيضاً. فينبغي إذن في القصص المحكمة ألّا تبدأ من أيّ موضع اتّفق ولا تنتهي إلى أيّ موضع اتّفق، بل تصطنع الأشكال التي ذكرناها.
ثم إنّه لمّا كان الشيء الجميل — سواء في ذلك الكائن الحيّ أو كلّ
أو من السعادة إلى الشقاء في حوادث متسلسلة على مقتضى الإمكان أو الضرورة، فهو حدّ صالح للعظم.
٨ — والقصّة لا تكون واحدة — كما يظنّ قوم — إذا كانت تدور حول شخص واحد. فإنّ الواحد تقع له أمور كثيرة بلا نهاية، لا يعدّ شيء منها «واحداً»، وكذلك قد تكون لشخص واحد أفعال كثيرة لا تكون فعلاً واحداً بحال. ومن هنا — فيما يبدو — أخطأ جميع الشعراء الذين نظموا «قصّة هرقليس» أو «قصّة ثيسيوس» أو ما شابههما من المنظومات، ظنّاً منهم أنّه ما دام هرقليس واحداً فيلزم من ذلك أنّ قصّة هرقليس واحدة. ولكن هوميروس يبدو هنا — كما امتاز في سائر الأمور — صائب النظر إمّا صناعة أو فطرة. فهو حين نظم الأوديسيّة لم ينظم كلّ ما اتّفق لأوديسيوس، كإصابته بجرح في البارناسوس أو ادّعائه الجنون عند احتشاد الجمع، فإنّ إحدى هاتين الحادثتين لا تتبع الأخرى بالضرورة أو بمقتضى الرجحان؛ ولكنّه نظم الأوديسيّة حول فعل واحد على ما ذكرنا، وكذلك صنع بالألياذة. فكما أنّه سائر الفنون المحاكية تكون المحاكاة الواحدة لموضوع واحد، كذلك يجب في القصّة — من حيث هي محاكاة عمل — أن تحاكي عملاً واحداً وأن يكون هذا العمل الواحد تامّاً، وأن تنظم أجزاء الأفعال بحيث أنّه لو غيّر جزء ما أو نزع لا نفرط الكلّ واضطرب، فإنّ الشيء الذي لا يظهر لوجوده أو عدمه أثر
ما ليس بجزء للكلّ.
٩ — وظاهر ممّا قيل أيضاً أنّ عمل الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه وما هو ممكن على مقتضى الرجحان أو الضرورة؛ فإنّ المؤرّخ والشاعر لا يختلفان بأنّ ما يرويانه منظوم أو منثور (فقد تصاغ أقوال هيرودوتس في أوزان فتظلّ تاريخاً سواء وزنت أم لم توزن) بل هما يختلفان بأنّ أحدهما يروي ما وقع على حين أنّ الآخر يروي ما يجوز وقوعه. ومن هنا كان الشعر أقرب إلى الفلسفة وأسمّي مرتبة من التاريخ؛ لأنّ الشعر أميل إلى قول الكلّيّات، على حين أنّ التاريخ أميل إلى قول الجزئيّات. والكلّ هو ما يتّفق لصنف من الناس أن يقوله أو يفعله في حال ما على مقتضى الرجحان أو الضرورة، وذلك ما يقصده الشعر حين يضع الأسماء للأشخاص؛ أمّا الجزئيّ فهو — مثلاً — ما فعله ألكبياديس أو ما حلّ به. وبيّن أنّ ذلك هو ما حدث في الكوميديات: فإنّ الشاعر بعد أن ينظم القصّة على ما يقتضيه الرجحان يضع لها الأسماء المناسبة، لا كما كان الشعراء الأيامبيّون يقولون الشعر في أفراد الناس. أمّا في التراجيديات فإنّ الشعراء يتمسّكون بالأسماء الواقعة. وسبب ذلك أنّ الممكن هو مقنع، وما لم يقع فلسنا نصدّق بعد أنّه ممكن، أمّا ما وقع فبيّن أنّه
ممكن، إذ لو لم يكن ممكناً لمّا وقع. على أنّ من التراجيديات ما يكون فيه من الأسماء المعروفة واحد أو اثنان، وتكون سائر الأسماء مصنوعة. ومنها ما لا يقع فيه اسم من الأسماء المعروفة أصلاً، كما في تراجيديّة «أنثيوس» لأجاثون. فالأفعال فيها مخترعة والأسماء كذلك، ولكن هذا لا ينقص من بهجتها. فلا يجب إذاً أن يتعلّق دائماً بتلك القصص المأثورة التي تدور حولها التراجيديات، فإنّ محاولة ذلك أمر مضحك، لأنّ الأشياء المعروفة إنّما هي معروفة للقليل، ولكنّها مع ذلك تدخل البهجة على الجميع. فظاهر ممّا سبق أنّ الشاعر — أو الصانع (پويتيس) ينبغي أن يكون أوّلاً صانع القصص قبل أن يكون صانع الأوزان، لأنّه يكون شاعراً بسبب ما يحدثه من المحاكاة، وهو إنّما يحاكي الأفعال. وإذا اتّفق أن صنع شعراً في أمر من الأمور التي وقعت فإنّ ذلك لا يؤثّر في كونه شاعراً، إذ لا شيء يمنع أنّ بعض الأمور التي وقعت قد جاء متّفقاً مع قانون الرجحان وقانون الإمكان، فعلى هذا الاعتبار يكون هو صانعها.
وأردأ القصص والأفعال جميعاً هو ما كان مقطّعاً. وأعني بالقصّة المقطّعة تلك التي تتتابع قطعها على غير مقتضى الرجحان أو الضرورة. والشعراء الضعفاء يصنعون هذه الأشعار منقادين لطبعهم، أمّا الشعراء الحذّاق فيصنعونها متّبعين للمثلين، فإنّهم كثيراً ما يضطرّون إلى أن يجوروا على التسلسل الطبيعيّ حين يدخلون في المسابقات ويمدّون القصّة أكثر ممّا تطيق. على أنّه لمّا كانت المحاكاة ليست لعمل كامل فحسب بل لأمور تحدث الخوف والشفقة، وأحسن ما يكون ذلك حين تأتي هذه الأمور على غير توقّع، وتكون مع ذلك مسبّبة بعضها عن بعض، فإنّها تحدث — على هذا الوجه — روعة أعظم ممّا تحدثه لو وقعت من تلقاء نفسها أو بمحض الاتّفاق. فإنّ الأمور التي تقع بمحض الاتّفاق تبدو أشدّ إثارة للروعة أيضاً على قدر ما يبدو أنّها وقعت عن قصد. وذلك كما سقط تمثال ميتوس في أرجوس على من كان سبباً لموت ميتوس فقتله، بينما كان يشهد حفلاً، فمثل هذه الأمور يبدو أنّها غير راجعة إلى المصادفة. فيلزم إذن أن تكون القصص التي تجري على هذا النحو أجود وأبرع.
١٠ — ومن القصص ما يكون بسيطاً ومنها ما يكون معقّداً. فإنّ الأفعال — والقصص محاكيات لها — توجد بمثل هذين الحالين. وأعني بالفعل البسيط ذلك الذي يكون حدوثه — كما سبق أن حدّدنا — متّصلاً وواحداً، ويقع فيه التغيّر دون انقلاب أو تعرّف. أمّا الفعل المعقّد فهو ما يكون فيه التغيير بانقلاب أو بتعرّف أو بهما معاً. وينبغي أن ينتج الانقلاب والتعرّف من نظم القصّة نفسه، بحيث يقعان مترتّبين على الأمور السابقة في القصّة، إمّا على طريق الضرورة أوعلى طريق الرجحان. وفرق كبير بين أن تكون هذه بسبب تلك، وأن تكون بعد ذلك.
١١ — والانقلاب هو التغيّر إلى ضدّ الأعمال السابقة، ويكون على سبيل الرجحان أو بطريق الضرورة، مثال ذلك أنّ الرسول الذي يجيء إلى أوديبوس في تراجيديّة «أوديبوس» ليبشّره ويخلّصه من خوفة على أمّه لا يكاد يظهر من هو حتّى يأتي بضدّ ما أراد. وكذلك في تراجيديّة لنقيوس إذ يقاد لنقيوس إلى الموت ويتعبه داناوس
ليقتله فينتج عن هذه الأعمال أن يقتل هذا وينجو ذاك.
أما التعرّف فهو — كما يدلّ عليه اسمه — التغيّر من جهل إلى معرفة، تغيّراً يفضي إلى حبّ أو كره بين الأشخاص الذين أعدّهم الشاعر للسعادة أو للشقاء. وأحسن التعرّف ما اقترن بالانقلاب، كما هو الشأن في قصّة «أوديبوس». وثمّة أنواع أخرى من التعرّف. فقد يقع ذلك في الجهادات حتّى أهونها شأناً. ومن التعرّف أيضاً أن يعلم أنّ شخصاً قد فعل أمراً أو لم يفعله. ولكن التعرّف الأليق بالقصّة والفعل هو ذلك الذي ذكرناه. فإنّ ذلك التعرّف والانقلاب يحدث شفقة أو خوفاً، والأفعال التي تحدث الشفقة أو الخوف هي ما تعتمد التراجيديا محاكاته. ثمّ إنّ الشقاء والسعادة يحصلان من مثل هذه الأفعال. وإذا كان التعرّف بين أشخاص فقد يحدث من واحد للآخر فقط، إذا كان أحدهما يعرف صاحبه، وربّما وجب أن يتعرّف كلاهما الآخر، كما أنّ أورستيس عرف إيفيجانيا من إرسال الكتاب، غير أنّه كان يلزم تعرّف آخر من إيفيجانيا لأورستيس.
فللقصّة جزءان يدوران حول مثل هذه الأشياء، وهما الانقلاب والتعرّف، والتأثير جزء ثالث. وقد تكلّمنا في الانقلاب والتعرّف، أمّا التأثير فهو فعل يتضمّن الموت والعذاب، كأفعال الموت على المسرح وكالآلام الشديدة والجراح وما إلى ذلك.
١٢ — قد تقدّم لنا القول في أجزاء التراجيديا التي ينبغي أن تستعمل على أنّها أشكال، أمّا الأجزاء المتميّزة التي تنقسم إليها التراجيديا بحسب الكمّيّة فهي هذه: المقدّمة، القطعة، الخروج، غناء الجوقة: وهذا الجزء الأخير قسمان: العبور والوقفة. وهذه الأجزاء عامّة لجميع التراجيديات، ويختصّ بعضها بغناء المسرح والانتحاب. فالمقدّمة جزء تامّ من الترجيديا، يسبق عبور الجوقة، والقطعة جزء تامّ من الترجيديا يتوسّط أغنيتين تامّتين للجوقة والخروج جزء تامّ من الترجيديا لا يكون بعده غناء للجوقة، والعبور — في غناء الجوقة — هو أوّل كلام تامّ للجوقة، والوقفة هي غناء الجوقة الذي يخلو من الأوزان الأنابستيّة والأوزان التروخائيّة، والانتحاب غناء حزين تشترك فيه الجوقة ومن على المسرح.
قد تقدّم لنا القول في الأجزاء التي ينبغي أن تستعمل في التراجيديا، وهذه هي الأجزاء المتميّزة التي تنقسم إليها بحسب الكمّيّة.
١٣ — أمّا ما ينبغي توخّيه وما ينبغي توقّيه عند نظم القصص، وكيف يكون للتراجيديا فعلها الخاصّ، فهذا ينبغي أن يتكلّم فيه تبعاً لما قلناه الآن. فيما أنّ أجمل التراجيديات هي ما كان نظمها معقّداً لا بسيطاً، وما كانت محاكية لأمور تحدث الخوف والشفقة (لأنّ ذلك هو خاصّة هذا الضرب من المحاكاة)، فظاهر أوّلاً أنّه لا ينبغي إظهار أناس طيّبين تتغيّر حالهم من سعادة إلى شقاء، لأنّ هذا لا يحدث خوفاً ولا شفقة بل يحدث غيظاً وحزناً؛ ولا إظهار أناس خبيثين يستبدلون من بؤس نعمى، فإنّ هذا أبعد شيء من التراجيديا، لأنّه لا ينطوي على عاطفة إنسانيّة من خوف أو شفقة، فهذه تنصرف إلى من لا يستحقّ الشقاء عندما يشقى، وذاك ينصرف إلى الشبيه: الشفقة تنصرف إلى من لا يستحقّ الشقاء، والخوف ينصرف إلى من يشبّهنا، فهذا الذي وقع — إذن — لا يحدث شفقة ولا خوفاً. فيبقى
المتوسّط بين هذين: وهو ذلك الذي لا يتميّز بالنبالة ولا بالعدالة، ولكنّه لا ينتقل إلى حال الشقاء لخبثه ولا لشرّه بل لزلّة أو ضعف ما، ويكون من أولئك الذين يعيشون في عزّة ونعمى، مثل أوديبوس وثواستيس ومن ينتمون إلى مثل هذه الأسر من ذوي الشهرة.
فيلزم إذاً لتكون القصّة جميلة أن تكون مفردة الغرض، لا مزدوجته كما يزعم قوم، وأن تتغيّر لا من شقاء إلى سعادة بل — على العكس — من سعادة إلى شقاء، لا بسبب الخبث والشرّ بل بسبب زلّة عظيمة، لمثل من ذكرناهم من الأشخاص أو لأفضل منهم، لا لشرّ منهم. والواقع يدلّ على ذلك. فقد كان الشعراء أوّلاً يتناولون ما يتّفق لهم من القصص بمحض المصادفة، أمّا الآن فإنّ أجمل التراجيديات تنظم حول أسر قليلة، فتنظم مثلاً حول ألكمايون وأوديپوس وأورستيس وملياجرس وثواستيس وتليفوس وما وقع لمثل هؤلاء من الأمور رهيبة احتملوها أو فعلوها. فأجمل التراجيديات من حيث الصناعة هي ما روعيت في نظمها هذه القواعد. ومن هنا يخطئ من يعيبون أوريپديس بأنّه يفعل ذلك في التراجيديات وأنّ كثيراً من تراجيدياته ينتهي إلى شقاء، فهذا — كما قلنا — صائب مستقيم. وأعظم دليل على ذلك أنّ مثل هذه التراجيديات حين تمثّل على المسرح وحين تعرض في المسابقات تظهر أقرب إلى معدن التراجيديا
من كلّ نوع آخر، إذا هي أتقنت. ولئن كان أوريپيديس لا يحسن التدبير في غير هذه الناحية من نواحي التراجيديا إنّه ليبدو أشدّ الشعراء تراجيدية.
والطريقة الثانية في النظم — وبعض القوم يفضّلها — هي ما كان نظمها مزدوجاً، كما في الأوديسية، وانتهاؤها، بالقياس إلى الأخيار والأشرار، على خلاف ما سبق. وإنّما يبدو أنّ هذه الطريقة أفضل لضعف المشاهدين، فإنّ الشعراء يتّبعون فيما يصنعونه أذواق النظّارة. وليست هذه هي اللذّة التي تلتمس من صناعة التراجيديا، بل هي ألصق بالكوميديا، فهنا يفترق الأشخاص الذين كانوا في القصّة أعداء ألداء، مثل أورستيس وإيجيستوس، يفترقون وقد أصبحوا أصدقاء، ولا يقتل أحد أحداً.
١٤ — والخوف والشفقة قد يحدثان عن المنظر المسرحيّ، وقد ينتجان من نظم الأفعال، وهو أفضل الأمرين وأدلّهما على حذق الشاعر. فإنّه يجب أن تنظم القصّة غير معتمدة على النظر، حتّى إذا سمع المرء الأمور التي تجري أخذته الرعدة أو هزّته الشفقة، كما يحدث لمن يسمع قصّة أوديپوس. أمّا التوصّل إلى ذلك بوساطة المنظر فليس فيه شيء من الصنعة، ثمّ هو يحتاج إلى نفقة كثيرة. فأولئك الذين إنّما يتوصّلون بالنظر إلى إحداث الاستبشاع — لا
عن معرفة أو عن غير معرفة. وأقبح هذه الأحوال هي حال ذلك الذي يهمّ بأن يفعل وهو عارف ثمّ لا يفعل. فإنّ ذلك بشع ولكنّه غير تراجيديّ، إذ أنّه لا يتضمّن أمراً مؤلماً. ولهذا لا تتناول الأفعال هذا التناول إلّا نادراً، كما يهمّ هايمون بأن يقتل كريون في تراجيديّة «أنتيجوني». والحال الثانية هي حال وقوع الفعل. والأفضل أن يكون من يفعله غير عارف، ثمّ يعرف بعد أن يفعل، لأنّ الفعل يخلص من البشاعة، والتعرّف يحدث الفزع والذهول. والحال الأخيرة هي أجود الثلاثة، وأعني بذلك ما كان مثل حال ميروبي في «كرسفونتيس»، إذ تهمّ بقتل ولدها ولكنّها لا تقتله بل تعرفه، وكما تهمّ الأخت بقتل أخيها في تراجيديّة «إيقيجينيا»، وكما يهمّ الابن بأن يسلم أمّه ثمّ يعرفها في تراجيديّة «هلي». ومن أجل ذلك لا توجد الموضوعات المناسبة للتراجيديات في أسر كثيرة، كما ذكرنا من قبل؛ فإنّ الشعراء في بحثهم عمّا يصلح أن يوضع في القصص قد اهتدوا إلى هذه الموضوعات مصادفة واتّفاقاً لا من طريق الصناعة. فهم مضطرّون أن يلجئوا إلى هذه الأسر التي وقعت لها مثل هذه الآلام.
وحسبنا ما قلناه في نظم الأعمال وما ينبغي أن تكون عليه القصّة.
١٥ — أمّا في الأخلاق فينبغي أن تعتمد أمور أربعة: فأحدها — وأوّلها — أن تكون حسنة. والمرء يكون ذا خلق إذا كانت أقواله أو أفعاله تدلّ على اختياره، ويكون ذا خلق حسن إذا كان اختياره حسناً. وهذا هو الشأن في كلّ جنس: فقد يكون للمرأة والعبد خلق حسن، على أنّ المرأة ليست شريفة جدّاً، والعبد ليس بشريف على الإطلاق. والأمر الثاني هو أن تكون مناسبة. فالرجولة خلق يوجد للرجال، ولكن المرأة لا يناسبها أن تكون ذات رجولة. والأمر الثالث هو أن تكون الأخلاق شبيهة بالواقع، وهذا غير كونها حسنة أو مناسبة كما قيل. والأمر الرابع هو أن يكون الخلق سويّاً. فإذا كان المرء الذي يقصد بالمحاكاة غير سويّ وكان متّصفاً بهذا الخلق فينبغي أيضاً أن يكون سويّاً في عدم استوائه. فمثال الخلق الوضيع في غير ضرورة خلق منلاوس في «أورستيس»؛ ومثال الخلق غير المناسب توجّع أوديسيوس
في «إسكيلا»، وحديث ملانيپي. أمّا مثال الخلق غير السويّ فإيفيجانيا في «أوليس». فإنّها متضرّعة غيرها بعد ذلك.
وينبغي في الأخلاق ما ينبغي في نظم الأعمال من التزام الضروريّ والراجح دائماً، بحيث يكون المرء الذي له خلق ما جارياً في أقواله وأفعاله على مقتضى الضرورة أو الرجحان، كما يكون حدوث أمر بعد آخر جارياً على مقتضى الضرورة أو الرجحان. وبيّن من ذلك أنّ نهاية القصص ينبغي أن تصدر عن القصّة نفسها لا عن حيلة مسرحيّة كما في تراجيديّة «ميديا»، أو كرجوع السفن في «الإلياذة»، فينبغي ألّا تستعمل الحيلة المسرحيّة إلّا في الأمور الخارجيّة عن حدود التمثيليّة والواقعة قبلها، والتي لا يكون للمرء سبيل إلى معرفتها، أو في الأمور التالية التي يحتاج إلى التنبّؤ بها وإعلانها، فإنّنا ننسب إلى الآلهة أنّهم
مطلعون على كلّ شيء. أمّا ما يخالف العقل فلا ينبغي أن يقع في الأعمال إلّا أن يكون ذلك خارج التراجيديا، كالذي يقع من ذلك في «أوديپوس» لسوفوكليس.
وبما أنّ التراجيديا هي محاكاة لأناس أفضل ممّن نعرف فينبغي أن يصنع بها مثل صنيع المصوّرين الحذّاق في صورهم، فهؤلاء — مع اعتمادهم أداء هيئة من يحاكون — يصوّرونهم شبيهين بالواقع وإن كانوا أجمل منه. وكذلك يجب على الشاعر حين يحاكي أناساً سريعي الغضب أو بليدي الحسّ أو بأخلاقهم عيب كهذين — يجب عليه أن يصوّرهم كذلك وإن جعلهم أحسن ممّا هم، كما صوّر أجاثون أو هوميروس خلق أخيل. هذا ما ينبغي أن يلاحظ، وينبغي أن يراعى معه عمل الحواسّ الذي يرتبط ضرورة بصنعة الشعر. فكثيراً ما يقع الخطأ فيه. وقد تكلّمنا في ذلك كلاماً كافياً في مقالاتنا التي أذعناها.
١٦ — قد بيّنّا فيما سبق أيّ شيء هو التعرّف. وأوّل أنواع التعرّف وأقلّها براعة وأكثرها أن يستعمل لضعف الفكر، هو التعرّف بالعلامات. ومن العلامات ما يكون طبيعيّاً مثل «الحربة التي تظهر في أجسام بني الأرض» أو النجوم التي في «ثواستيس»، تراجيديّة
كاركينوس؛ ومنها ما يكون مكتسباً فيكون ملازماً للجسم مثل الندوب أو يكون منفصلاً عنه مثل العقود ومثل القوس في تراجيديّة «تيرو». وقد تستعمل هذه العلامات استعمالاً أجود أو أردأ كما عرف أوديسيوس بالندبة، عرفته مربيته على وجه وعرفه رعاته على وجه آخر. فإنّ استعمال العلامات قصد الإقناع، وكلّ ما كان من ذلك بسبب، أمر خالٍ عن الصنعة، وخيّر منه ذلك التعرّف الذي يكون عن انقلاب، كما في «منظرالحمام».
والنوع الثاني هو ما يفتعله الشاعر، ومن أجل ذلك يكون خالياً من الصنعة، كما يعرف أورستيس في «إيفيجانيا» حين يعلن أنّه أورستيس وتعرف إيفيجانيا بكتابها، ولكن أورستيس إنّما يعلن ما يريده الشاعر، لا ما تريده القصّة. وهذا الضرب من التعرّف قريب من ذلك الذي وصفته بالخطأ، لأنّ أورستيس كان يستطيع أن يظهر بعض العلامات في جسمه. ومن ذلك صوت عصا الحائك في تمثيليّة «تيرى» لسوفوكليس.
والنوع الثالث ما يكون بالتذكّر، كأن يرى الإنسان شيئاً فيحصل له إحساس، كما في «القبرصيّون» لديكايوجينوس، فإنّ شخصاً يدمع لرؤية صورة، وكذلك في حكاية ألكينوس فإنّ أوديسيوس يتذكّر ويدمع حين يسمع الضارب على القيثار. والنوع الرابع هو التعرّف
بطريق البرهان العقليّ، كما في تراجيديّة «المتقرّبون»: «إنّ أحداً يشبهني قد جاء، ولا أحد يشبهني إلّا أورستيس، إذاً أورستيس هو الذي جاء.» ومن ذلك تعرف إيفيجانيا في تراجيديّة بولويدوس السوفسطائيّ، فمن المعقول أن يجري أورستيس قياساً فيقول: إنّه سيضحى لأنّ أخته ضحيت. ومن ذلك ما في «تيديوس» لثيودكتوس، إذ يقول الأب إنّه جاء يبحث عن ابنه، ففقد حياته هو نفسه. ومثله ما في «النسور»، فإنّ النسوة حين رأين المكان استنتجن مصيرهنّ: أنّه قضى عليهنّ أن يمتن بهذا المكان لأنّهن عذبن فيه. وقد يحدث تعرّف ناتج عن قياس خاطئ من النظّارة، كما في ترايجديّة «أوديسيوس الرسول المزعوم»، فقد قال إنّه يمكنه أن يعرف القوس، ولم يكن رآها، فمن قوله إنّه يمكنه أن يعرف القوس كان القياس الخاطئ.
وأفضل هذه الأنواع جميعاً هو التعرّف الذي ينشأ من الأعمال نفسها، فإنّ الدهشة تحدث عندئذٍ من طريق المعقول، كما في «أوديپوس» و«إيفيجانيا» لسوفوكليس؛ فإنّه من المعقول أن تريد إبفيجانيا أن تبعث بكتاب. فمثل هذا التعرّف؛ دون غيره — يستغني
عن اصطناع العلامات والعقود. ويليه التعرّف الذي يكون من طريق البرهان.
١٧ — وينبغي للشاعر حين ينظم قصصه ويتمّمها بالعبارة أن يتمثّلها بعينه على قدر ما يستطيع. فإنّه حين يرى الأشياء أوضح ما تكون، وكأنّه كان شاهداً الأعمال نفسها، يجد ما يليق بها ولا يغيب عنه شيء من ضدّ ذلك. ودليل ذلك ما نقد به كاركينوس فإنّ «أمفياراوس» يصعد من الهيكل، ومن لا يشهد المنظر لا يتنبه لذلك، ولكن القصّة سقطت على المسرح إذ لم يحتمل النظّارة ذلك.
وكذلك ينبغي أن يتمّ الشاعر — جهد طاقته — عمله بالإشارات، فإنّ أقدر الناس على التأثير — إذا تماثلت الطبائع — هم من يكونون في حال الانفعال، والهائج والغاضب يهيجان ويغضبان بأعظم ما يكون من الصدق. ومن أجل ذلك كان الشعر نابعاً عن موهبة أو عن ضرب من الجنون، فالموهوبون يحسنون أن يلبسوا لبوساً مختلفة، والآخرون لا يصعب عليهم أن يخرجوا عن طورهم.
وينبغي للشاعر سواء أكان الموضوع الذي يتناوله قديماً أم مبتدعاً، أن يبدأ بتخطيط عامّ له ثمّ يفصل قطعه ويمدّ أطرافه. وأعني بالتصوّر
العامّ مثل ما في أمر إيفيجانيا. أنّ فتاة كانت توشك أن تذبح قرباناً، فأخذت على غفلة من المقرّبين وحملت إلى بلد آخر جرى العرف فيه بأن يضحى الغرباء للآلهة، ونالت هذه السدانة، ثمّ اتّفق أن قدم أخوها لأنّ العرّاف أوصاه أن يذهب لعلّة خارجة عن هذا الكلّ، وغرض خارج عن القصّة. فلمّا جاء وسجن وكاد يقتل أظهر أمره إمّا على ما صنعه أوريپديس أو على ما صنعه پولويدوس، قائلاً — كما يمكن أن يتوقّع — إنّه لم تكن أخته وحدها التي يجب أن تضحى بل هو أيضاً كان يجب فيه ذلك. ومن هنا يكون خلاصه.
ثمّ إذا فرغ من وضع الأسماء من بعد فينبغي أن تتناول القطع فينظر في كونها ممّا ينتمي إلى الموضوع؛ فثمّة في أمر أورستيس مثلاً: جنونه الذي أدّى إلى أخذه، والتطهيرالذي أفضى إلى خلاصه. والقطع في التمثيليّات قصار أمّا الملاحم فتكتسب بفضلها طولاً. فإنّ الموضوع في الأوديسية غير طويل: فهو أنّ رجلاً غاب عن وطنه سنين طوالاً وظلّ پوسيدون يترصّده حتّى وجد نفسه وحيداً، واتّفق من حال بيته أنّ الخطّاب كانوا يأكلون ماله ويأتمرون بابنه. فيعود بعد أن تقاذفته
العواصف، ويظهر بعض الناس على جليّة أمره، ويهجم على أعدائه ويفتك بهم، ظافراً هو نفسه بالنجاة. هذا هو لبّ القصّة وما عداه قطع ولواحق.
١٨ — وفي كلّ تراجيديا عقدة وحلّ. فالأمور التي تقع خارج التراجيديا وبعض الأمور التي تقع داخلها هي العقدة، وسائرها فهو الحلّ. وأعني بالعقدة ما يكون من البدء إلى ذلك الجزء الذي يحدث منه التحوّل إلى سعادة أو إلى شقاء. وبالحلّ ما يكون من بدء التحوّل إلى النهاية. فالعقدة في «لنقيوس» لثيودكتس مثلاً هي كلّ الأفعل المتقدّمة على التمثيليّة، وأخذ الطفل، ثمّ ... والحلّ ما كان من بدء الاتّهام بالقتل حتّى النهاية.
وللتراجيديا أربعة أنواع، وهي التي قلنا إنّها أجزاؤها: فمنها المعقّدة التي تقوم كلّها على الانقلاب والتعرّف، ومنها الانفعاليّة كتراجيديات «أياس» و«إكسيون»، ومنها الأخلاقيّة كتراجيديات «نساء فثيا» و«پيليوس». والنوع الرابع ... مثل تراجيديات «بنات فوركيس» و«بروميثيوس» وسائر التراجيديات التي تجري مناظرها في هادس (الجحيم). والخير أن يجمع الشاعر بين ذلك كلّه،
وإلّا فبين أعظمه وأكثره، لا سيّما والناس في هذه الأيّام يطلقون ألسنتهم بالعيب في الشعراء؛ فإنّه لمّا كان في كلّ جزء شعراء محسنون، أراد الناس من الشاعر الواحد أن يبذّ كلّ محسن في الوجه الذي تفرد به من وجوه الإحسان.
وليس من الصواب في شيء أن يقال إنّ هذه التراجيديّة غير تلك أو إنّها هي هي اعتماداً على أنّ القصّة واحدة أو مختلفة، بل يصحّ ذلك إذا كانت العقدة واحدة والحلّ واحداً. وكثير من الشعراء يحسنون العقدة ولا يحسنون الحلّ، ولكن كليهما ينبغي أن يكون جديراً بالاستحسان. كذلك يجب أن يتذكّر ما قلناه مرّات كثيرة من أنّ نظم التراجيديا لا ينبغي أن يصنع على مثال الملحمة، وأعني بمثال الملحمة ما كان متعدّد القصص، كما لو صنع إنسان من الإلياذة كلّها قصّة تراجيديّة. فإنّ طول الملحمة يتيح لكلّ جزء أن يستوفي حظّه من العظم، أمّا في التمثيليّات فإنّ هذه الأجزاء تقع مبهمة بعيدة عن الإدراك. ودليل ذلك أنّ من صنعوا تراجيديات شاملة لأمر خراب إيليون كلّه، بدل أن يصنعوها في جزء منه كما صنع أوريبيديس في «نياوبي»، أو كما صنع أيسخيلوس، هؤلاء إمّا أن يسقطوا أو يتأخّروا في المسابقات؛ فإنّ أجاثون إنّما سقط لهذا السبب وحده، أمّا أمثلة الانقلاب وأمّا الأفعال البسيطة فقد أصاب فيها مواقع الاستحسان وجاء في ذلك بما يروع. وذلك أنّها تجمع بين الشعور التراجيديّ وبين العاطفة الإنسانيّة، كما يحدث حين ينخدع الرجل الحصيف اللئيم — مثل سيسيفوس — أو يغلب الشجاع الظالم. فهذا — على قول
أجاثون — أمر معقول، إذ من المعقول أن تقع أمور كثيرة خارجة عن المعقول.
أمّا الجوقة فيجب أن تعتبر كواحد من المثلين، فتكون جزءاً داخلاً في الكلّ، وتشترك في التمثيل لا كما عند أوريپيديس بل على طريقة سوفوكليس. ولكن أغاني الجوقة عند أكثر الشعراء ليست أكثر تعلّقاً بالقصّة منها بتراجيديّة أخرى، فهي إنّما تغنى لتفصّل التمثيل، وكان أجاثون أوّل من ابتدأ هذه الطريقة، ولكن أيّ فرق بين أن يجعل الغناء فواصل وبين أن ينقل حديث أو قطعة كاملة من تمثيليّة إلى أخرى؟
١٩ — وقد بقي أن نتكلّم في العبارة والفكر بعد أن فرغنا من الكلام على الأجزاء الأخرى. أمّا الحديث عن الفكر فمحلّه المقالات الخاصّة بالخطابة، فإنّه أخصّ بذلك البحث. وكلّ ما عبّر عنه باللغة فهو من قبيل الفكر. وأجزاؤه: الإثبات، والمناقضة، وإثارة الانفعالات والخوف والغضب وغيرها، والتعظيم والتحقير. وظاهر أنّ هذه الأشكال نفسها ينبغي أن تتّخذ في الأعمال أيضاً، حين يراد أن تهيّأ هيئة تدعو إلى الإشفاق أو الفزع أو التعظيم أو القبول. ومبلغ الفرق أنّ التأثيرات التي يتوصّل إليها بالأعمال ينبغي أن تظهر بدون دلالة لفظيّة، أمّا التأثيرات التي تكون بالكلام فينبغي أن يعدّها المتكلّم، وأن تنتج عن الكلام. فماذا عسى أن يكون عمل المتكلّم إذا ظهرت الأفكار
عن غير طريق الكلام؟
ومن بين المسائل التي تتّصل بالعبارة مسألة أشكال العبارة، ولكن هذا الباب يخصّ صنعة الإلقاء وأربابها. فممّا يتناوله معرفة ما الأمر وما الدعاء وما الخبر وما الوعيد وما الاستفهام إلى نحو ذلك. ولا عبرة بالنقد الذي يوجّه إلى الشاعر بناء على علمه أو جهله بهذه الأمور.
فمنذا الذي يسلم بأنّ الشاعر أخطأ في ذلك الموضوع الذي نقده عليه بروتاجوراس، وهو أنّه جعل الكلام في صورة أمر وهو يحسب أنّه دعاء حين قال: «غنّى أيّتها الآلهة غضب أخيل»؟ فإنّ الطلب لفعل شيء أو تركه هو — على قول ذلك الناقد — أمر. فلندع هذا البحث الذي ينتمي إلى صناعة غير الشعر.
٢٠ — هذه هي الأجزاء الداخلة في العبارة بوجه عامّ: الخرف، والمقطع، والرباط، والاسم، والفعل، والتصريف، والكلام.
فالحرف صوت لا ينقسم، ولكن ليس كلّ صوت لا ينقسم بل ذلك الذي يمكن أن ينشأ منه صوت مركّب. فإنّ للبهائم أصواتاً غير
منقسمة ولكنّنا لا نسمّي شيئاً منها حرفاً. وأجزاء الحروف هي الصائتة ونصف الصائتة والصامتة، فالحرف الصائت هو ما يحدث صوتاً مسموعاً بدون قرع الشفتين أو الأسنان، كالألف (Α) والواو (Ω). ونصف الصائت ما يحدث صوتاً مسموعاً مع القرع، كالسين (Σ) والراء (Ρ). والصامت ما لا يحدث بنفسه صوتاً مع القرع، ولكنّه يحدث صوتاً مسموعاً إذا اقترن بحروف صائتة، كالجيم (Γ) والدال (Δ). وهذه الحروف تختلف باختلاف هيئات الفم، ومواضع النطق، والتفخيم والترقيق، والطول والقصر، والحدّة والغلظ، والتوسّط بين ذلك؛ والبحث في كلّ نوع من هذه الأنواع هو من شأن أصحاب صناعة الأوزان.
والمقطع صوت غير دالّ، مركّب من حرف صامت وحرف صائت، فإنّ الجيم والراء بدون ألف هما مقطع، ومع الألف هما مقطع كذلك — ΓΡΑ. ولكن البحث في هذه الفروق أيضاً هو ممّا يخصّ صناعة الأوزان.
والرباط لفظ غير دالّ، لا يمنع ولا يسبّب الصوت الواحد المركّب من أصوات كثيرة، ويوضع في الطرفين أو في الوسط، أو صوت غير دالّ يمكن أن يركّب من أصوات كثيرة — كلّ منها دالّ — صوتاً واحداً دالّاً. مثل ἀμφὶ و (περὶ ونحوهما. أو صوت غير دالّ يشير إلى ابتداء جملة أو انتهائها أو تفصيلها، ولا يصلح أن يستقلّ بنفسه في أوّل الجملة، مثل μὲν و ἤτοι و δέ.
والاسم صوت مركّب، دالّ، لا يتضمّن الزمان، وليس لجزء من أجزائه دلالة بمفرده. فإنّ الاسم المركّب لا يستعمل جزء من أجزائه على أنّه دالّ بمفرده، فالهبة مثلاً غير معنية بكلمة δῶρος من Θεόδωρος (هبة اللّه).
والفعل صوت مركّب، دالّ، يتضمّن الزمان، ولا يدلّ جزء من أجزائه على انفراده كما في الأسماء. فـ«ـرجل» و«أبيض» لا يدلّان على الزمان، أمّا «يمشي» و«مشى» فيتضمّنان الدلالة على الزمان، فالأوّل يدلّ على الزمن الحاضر والآخر يدلّ على الزمن الماضي.
والتصريف للاسم والفعل يدلّ على علاقة «له» أو «إليه» ونحوهما، أو على المفرد والجمع، كالأناسيّ والإنسان، أو على السؤال أو الطلب، فقولك «هل مشى؟» أو «ليمش» هو تصريف الفعل وهذه هي أحواله.
والكلام هو صوت مركّب دالّ، بعض أجزائه يدلّ على انفراده، إذ ليس كلّ كلام مركّباً من أفعال وأسماء — كحدّ الإنسان مثلاً، فقد يكون كلام بدون أفعال. على أنّه لا يخلو أبداً عن جزء دالّ، مثل «كليون» في قولك «كليون يمشي». والكلام يكون واحداً على ضربين: إمّا بأن يدلّ على أمر واحد، وإمّا بأن يؤلّف من أقوال كثيرة، فالإلياذة مثلاً واحدة بالتأليف، وحدّ لإنسان واحد بدلالته على أمر واحد.
٢١ — وأنواع الاسم هي: الاسم البسيط، وأعني بالبسيط ما لم يكن مركّباً من أجزاء دالّة، مثل γῆ (أرض). والاسم المضاعف، ومنه ما يتركّب من جزء دالّ وجزء غير دالّ، كما أنّ
منه ما يتركّب من جزئين دالّين، وقد يكون الاسم ثلاثيّ الأجزاء أو رباعيّ الأجزاء أو كثير الأجزاء، مثل كثير من كلام أهل مرسيليا: هرموكايكو كسانثوس.
وكلّ اسم فإمّا أصيل أو لغة أو استعارة أو زينة أو موضوع أو ممدود أو مقصور أو مغيّر. وأعني بالأصيل ما نستعمله كلّنا، وباللغة ما يستعمله أهل بلد آخر، وبيّن من ذلك أنّ في قوّة الاسم أن يكون أصيلاً وأن يكون لغة، ولكن لا للأشخاص أنفسهم، فكلمة σίγυνον (رمح) أصيلة عند أهل قبرص ولغة عندنا.
والاستعارة هي نقل اسم شيء إلى شيء آخر، فإمّا أن ينقل من الجنس إلى النوع، أو من النوع إلى الجنس، أو من نوع إلى نوع، أو ينقل بطريق المناسبة. وأعني بنقل اسم الجنس إلى النوع مثل قوله: «هذه سفينتي قد وقفت» فإنّ الرسوّ ضرب من الوقوف. وبنقل اسم الجنس إلى النوع مثل: «أمّا لقد فعل أوديسيوس عشرة آلاف مكرمة» فإنّ «عشرة آلاف» كثيرة، وهي مستعملة هنا بدلاً من
«كثيرة». وبنقل اسم النوع إلى النوع مثل قوله: «امتصّ حياته بسيف من برنز» وقوله: «قطع البحر بسفين من برنز صلب» فهنا استعملت «امتصّ» (ἀρύσαι) بدلاً من «قطع» (τομεῖν) و«قطع» بدلاً من «امتصّ»، وكلاهما نوع من الأخذ.
وأقول إنّ هناك مناسبة إذا كانت نسبة الاسم الثاني إلى الأوّل كنسبة الرابع إلى الثالث، فيصحّ عندئذٍ أن يستعمل الرابع بدلاً من الثاني والثاني بدلاً من الرابع، وربّما زادوا على ذلك فذكروا بدلاً من الشيء الذي هو موضوع القول ما ينسب إليه هذا الشيء. أعني — مثلاً — أنّ نسبة الكأس إلى ديونيسوس كنسبة الدرع إلى آرس، فيسمّى الكأس «درع ديونيسوس» وتسمّى الدرع «كأس آرس»، ونسبة الشيخوخة إلى العمر كنسبة المساء إلى النهار، فيسمّى المساء شيخوخة النهار» وتسمّى الشيخوخة «مساء العمر»، أو «مغرب العمر» كما يقول أمبدوكليس. وربّما كان بعض المتناسبات غير موضوع له اسم، فهنا أيضاً نعبّر بالمناسب. فإلقاء الحبّ في الأرض يسمّى بذراً، أمّا إلقاء الشمس بنورها علينا فليس له اسم يدلّ عليه، ولكن نسبة هذا الفعل إلى الضوء هي كنسبة البذر إلى الحبّ، فلذلك قيل: «تبذر نورها
القدسيّ». وقد يستعمل هذا النحو من الاستعارة على سبيل أخرى، فيسمّى الشيء باسم آخر ويسلب عنه بعض خصائص هذا الأخير، كأن لا يسمّى الدرع «كأس آرس» بل «كأساً بلا خمر».
والاسم الموضوع هو الذي لم يسبق لأحد استعماله في هذا المعنى، بل جاء به الشاعر من عنده، ويبدو أنّ ثمّة كلمات من هذا القبيل، مثل ἔρνυγας (النابتة) للقرون و ἀρητήρ (المتضرّع) للكاهن ... والاسم الممدود أو المقصور هو ما بولغ في مدّ حرف صائت فيه، أو زيد فيه مقطع، أو ما اقتطع منه شئ. فمن الممدود مثلاً: πόληος بدلاً من πόλεως و Πηληιάδεω بدلاً من Πηλείδου. ومن المقصور κρῖ، و δῶ و ὄψ كما في μία γίνεται ἀμφοτέρων ὄψ، ويكون الاسم مغيّراً إذا احتفظ بجزء منه وغير جزء آخر، كما في δεξιτερὸν κατὰ μαζόν بدلاً من δεξιὸν.
والأسماء أنفسها منها المذكّر والمؤنّث والمتحايد، فما كان منتهياً بالنون أو الراء أو السين Σ، Ρ، Ν أو ما يتركّب من السين (وهما الحرفان Ψ و Ξ) فهو مذكّر، وما كان منتهياً بحرف من الحروف الصائتة التي تمدّ دائماً كالأي والأو أو التي تقبل المدّ كالآ فهو مؤنّث. فينتج أنّ المذكّر والمؤنّث متساويان في عدد الحروف التي ينتهيان بها، لأنّ المركّبين من السين لا يخرجان عن كونهما سيناً. ولا ينتهي اسم من الأسماء بحرف صامت ولا بصائت قصير، وإنّما
تنتهي بالياء ثلاثة اسماء: μέλι، و κόμμι، و πιπέρι، وتنتهي بالواو خمسة δόδυ، و γόνυ، و νᾶπυ، و πώϋ، و ἄστυ. والأسماء المتحايدة تنتهي بهذين الحرفين وبالنون (Ν) والسين (Σ).
٢٢ — وجودة العبارة في أن تكون واضحة غير مبتذلة. فالعبارة المؤلّفة من الأسماء الأصليّة هي أوضح العبارات، ولكنّها مبتذلة، ومن أمثلتها شعر كليوفون وستانلس. وأمّا العبارة السامية الخالية من السوقيّة فهي التي تستخدم ألفاظاً غير مألوفة. وأعني بالألفاظ غير المألوفة: الغريب والمستعار والممدود وكلّ ما بعد عن الاستعمال. ولكن العبارة التي تؤلّف كلّها من هذه الكلمات تصبح لغزاً أو رطانة، فملؤها بالاستعارات يجعل منها لغزاً، وملؤها بالغريب يجعل منها رطانة، فإنّ حقيقة اللغز هي قول أمور واقعة مع التأليف بها على وجه يجعلها مستحيلة. وليس يمكن ذلك بالتركيب العاديّ للألفاظ
ولكنّه يمكن بالاستعارة. مثل: «رأيت رجلاً يلصق البرنز بالنار في رجل آخر»، ونحو ذلك. وتأليف العبارة كلّها من الكلمات الغريبة يجعلها رطانة أعجميّة. فينبغي الجمع بين هذه الأنواع على نحو ما: فالغريب والاستعارة والزينة وسائر الأنواع التي ذكرناها تنأى بالعبارة عن السوقيّة والابتذال، والاستعمال الأصليّ يكسبها وضوحاً. وليس أعون على اكتساب الوضوح مع اجتناب السوقيّة من المدّ والترخيم وتغيير الكلمات، فبتحوير هيئة الكلمات عن أوضاعها الأصليّة والخروج عن الاستعمال العاديّ تجتنب السوقيّة، وباشتراك هذه الأنواع مع الكلام العاديّ يكتسب الوضوح. فليس بصواب إذاً ما عاب النقّاد على الشعراء هذه الأساليب واستهزءوا بهم. كما كان أوقليديس الكبير يزعم أنّ نظم الشعر يهون أمره إذا أجيز للشاعر أن يمدّ المقاطع كلّما أراد، وكان يصوغ الشعر على هذه الطريقة متهكّماً، مثل قوله: «رأيت إبيسخارمس يمشي إلى ماراثون» Ἐπιχάρην εἶδον Μαραθωνάδε βαδίζοντα وقوله:
«ما كان محبّاً لخربقه». οὐκ ἄν γ᾽ ἐράμενος τὸν ἐκεῖ νον ἑλλέβορον
وإنّه لمضحك أن يبدو الشاعر مستخدماً لهذه الطريقة في قريب من هذا، ولكن الاعتدال أمر واجب في جميع الأجزاء، فإنّك قد تحدث هذا الأثر بعينه باستخدام الاستعارات والألفاظ الغريبة والأنواع الشبيهة بهذين استخداماً غير لائق لقصد الإضحاك. وما أبعد هذا عن
حسن التصرّف في الألفاظ! اعتبر ذلك في الملاحم بأن تدخل في الوزن كلمات نثريّة، فإنّك إذا أحللت كلمات عاديّة محلّ هذه الكلمات الغريبة وهذه الاستعارات وهذه الأنواع الأخرى، تبيّن لك صدق ما قلناه ففي بيت أيامبي واحد نظمه أيسخولوس وأوريبيديس كلاهما لم يزد أوريبيديس على أنّ غير كلمة واحدة بأن وضع كلمة غريبة في مكان الكلمة العاديّة، فإذا بأحد البيتين يبدو جميلاً وإذا بالبيت الآخر يبدو سقيماً. فقد قال أيسخولوس في «فيلوكتيتس»:
«قرحة تأكل لحم قدمه».
فوضع أوريبيديس «تنهش» (Θουνᾶται) في مكان «تأكل» (ἐσθίει) وكذلك البيت:
«والآن قد أمسي ضئيلاً عاجزاً منخوباً».
لو قلته مغيّراً بكلمات مستعملة لأصبح: «والآن قد أمسي صغيراً ضعيفاً مهدّماً». وكذلك:
«بعد أن جاء بكرسيّ زريّ وتلاه بخوان ساذج»: لو غيّرته لقلت: «بعد أن جاء بكرسيّ حقير وخوان صغير».
وكذلك لو أبدلت «والشطآن تزأر» لقلت: «والشطآن تصيح»
وكان أريفراديس يهزأ بالشعراء التراجيديّين لأنّهم يستعملون عبارات لا ترد في الحديث قطّ، مثل قولهم: «عن المنازل بعيداً» بدلاً من «بعيداً عن المنازل» ومثل: σέθειν و ἐγέ δὲ νιν وقولهم: «أخيل ما في شأنه» لا «ما في شأن أخيل» وما يجري هذا المجرى. على أنّ مجيء هذه الأساليب على خلاف العادة في الاستعمال هو الذي يجعلها تنأى بالعبارة عن الابتذال، ولكن أريفراديس ما كان يشعر بذلك.
ومن المهمّ أن تراعى المناسبة في استعمال كلّ من هذه الأنواع التي ذكرناها، وفي استعمال الكلمات المضاعفة والغريبة؛ ولكن أعظم هذه الأساليب حقّاً هو أسلوب الاستعارة؛ فإنّ هذا الأسلوب وحده هو الذي لا يمكن أن يستفيده المرء من غيره، وهو آية الموهبة، فإنّ إحكام الاستعارة معناه البصر بوجوه التشابه.
والمضاعفة من الأسماء أليق بالشعر الدثورمبيّ وشعر الملاحم، والاستعارات أليق بالشعر الأيامبيّ. وكلّ الأنواع التي ذكرناها
تصلح لشعر الملاحم، أمّا الأشعار الأيامبيّة التي تحاكي أسلوب الكلام جهد الطاقة فيناسبها من الألفاظ ما كان جارياً في لغة الحديث، وأعني بها الأصيل والمستعار والزينة.
وحسبنا الآن ما قلناه في التراجيديا والمحاكاة التمثيليّة.
٢٣ — أمّا عن صنعة المحاكاة التي تقوم على السرد الروائيّ وتصاغ في الكلام منظوم فبيّن أنّ القصّة يجب أن تنظم نظماً يعتمد على الحركة والعمل كما في التراجيديات، وأن تدور حول فعل واحد تامّ مكتمل له أوّل ووسط وآخر، حتّى تكون كالحيوان الواحد التامّ فتحدث اللذّة الخاصّة بها. وينبغي ألّا يكون نظم الحوادث كما في التاريخ، حيث يلزم ألّا يمثّل فعل واحد بل زمن واحد، فتستقصي الحوادث التي وقعت في هذا الزمن لفرد أو لجماعة، والتي لا ترتبط بعضها ببعض إلّا ارتباطاً عارضاً. فكما أنّ معركة سالاميس البحريّة وحرب القرطاجنيّين في صقلّيّة قد وقعا في زمان واحد، دون أن يتّجها إلى غاية واحدة، فكذلك الحال في الأزمنة المتتابعة، فقد يقع
حادث بعد حادث آخر دون أن يتّفقا في الغاية. وهذا ما يفعله أكثر الشعراء. ولهذا السبب يبدو هوميروس — كما قلنا من قبل — معجزاً من هذه الناحية إذا قورن بغيره. فهو لم يحاول أن يروي قصّة الحرب بأكملها، وإن كانت ذات بدء ونهاية، لأنّها مفرطة في العظم بحيث يصعب النظر إليها مجتمعة، ولو ردّ أبعادها إلى شيء من الاعتدال لاشتدّ تعقّدها بفضل تشعّب حوادثها. فاقتطع منها جزءاً واحداً واستعان بكثير من لواحقها كإحصاء السفن وغيره من اللواحق التي يتناولها في قصيدته بين الحين والحين. أمّا الشعراء الآخرون فيجعلون لقصائدهم بطلاً واحداً وزماناً واحداً، وفعلاً واحداً متعدّد الأجزاء، كما صنع صاحب (القبرصيّات) وصاحب «الإلياذة الصغيرة». ولهذا السبب لا يصنع من كلتا القصيدتين الهوميريّتين: الإلياذة والأوديسية إلّا تراجيديّة واحدة أو تراجيديّتان على الأكثر، أمّا «القبرصيّات» فتصنع منها تراجيديات كثيرة، وأمّا «الإلياذة الصغيرة» فثمانٍ على الأقلّ، وهي: «حكم السلاح»، و«فيلوكتيتيس»، و«نيوبتليموس» و«يوريبيلوس» و«الشحّاذ» و«نساء لاكيدايمون» و«خراب إيليون» و«رحيل الأسطول».
٢٤ — ثمّ ينبغي أن يكون للشعر الملحميّ من الأنواع مثل ما للتراجيديا، فيكون بسيطاً أو معقّداً أو أخلاقيّاً أو انفعاليّاً. والأجزاء هي بعينها أجزاء التراجيديا ما خلا الغناء والمنظر، فإنّ الملحمة تحتاج إلى انقلاب وتعرّف وأمور مشجّية. ثمّ ينبغي أن يكون الفكر والعبارة فيها جميلين. وقد كان هوميروس أوّل من استعمل ذلك كلّه ووفاه، فإنّ كلتا قصيدتيه مركّبة: أمّا الإلياذة فبسيطة وانفعاليّة، وأمّا الأوديسية فمعقّدة (لأنّها مملوءة بمناظر التعرّف) وأخلاقيّة. وعدا ذلك فالفكر والعبارة لا يباريان.
ولكن الملحمة تخالف التراجيديا من حيث عظم بنائها ومن حيث وزنها. فأمّا العظم فقد بيّنّا من قبل حدّه المناسب وهو أن يستطيع النظر إدارك أوّله وآخره معاً، ويتحقّق ذلك إذا كانت الملاحم أقصر من ملاحم القدماء، وكانت مناسبة في طولها لمجموع التراجيديات التي تعرض في جلسة واحدة.
على أنّ الملحمة تمتاز خاصّة بقبولها لأن تمتدّ أبعادها، وسبب ذلك أنّه لا يستطاع في التراجيديا محاكاة أجزاء كثيرة فعلت في وقت واحد، بل يجب أن يوقف عند الجزء الذي يجري على المسرح وبين الممثّلين؛ أمّا الملحمة فيمكن — بفضل أسلوبها الروائيّ السرديّ — أن يؤتى فيها بأجزاء كثيرة تفعل في وقت واحد، وهذه الأجزاء إذا أحكم ربطها بالموضوع زادت القصيدة بهاء. وامتياز الملحمة من هذه الناحية يفضي إلى امتيازها بروعة التأثير والتنقّل بالسامع وتخفيف القصّة بلواحق مختلفة، فإنّ التشابه سرعان ما يحدث السأم ويؤدّي بالتراجيديات إلى السقوط.
أمّا عن العروض فقد أثبت الوزن السداسيّ — أو الملحميّ — صلاحه بحكم التجربة. فلو أنّ قصيدة روائيّة نظمت في وزن آخر أو في جملة أوزان لبدت نافرة قلقة؛ ذلك بأنّ الوزن السداسيّ هو أرزن الأوزان وأبهاها، وأنّه أكثر قبولاً للغريب والاستعارة، وهما بعض ما تتميّز به المحاكاة الروائيّة. أمّا الوزن الأيامبيّ والوزن التروخائيّ فوزنان تشيع فيهما الحركة، فأحدهما مناسب للرقص والثاني مناسب للعمل. وأبعد من هذا عن التوفيق أن تمزج هذه الأوزان كما كان يفعل خيريمون. ولذلك لم تنظم قطّ قصيدة على شيء من الطول في وزن غير الوزن السداسيّ، فإنّ الطبيعة نفسها — كما قلنا — تعلّمنا اختيار الشيء المناسب.
وإنّ هوميروس — مع استحقاقه للثناء من نواحٍ كثيرة أخرى — لأعظم به جدارة إذ هو الوحيد من بين الشعراء الذي يعرف ماذا ينبغي أن يكون دوره. فالشاعر يجب أن يتكلّم بلسان نفسه أقلّ كلام ممكن، لأنّه ليس محاكياً بفضل هذا النوع من الكلام؛ ومن الشعراء من يشغلون المسرح هم أنفسهم طول القصيدة، فلا يحاكون إلّا قليلاً ونادراً، أمّا هوميروس فلا يكاد يمهّد بكلمات قليلة حتّى يأتي برجل أو امرأة أو بشخص آخر لا نجد أحداً منهم مفتقراً إلى خلق، بل هم جميعاً ذوو أخلاق.
ومع أنّ عنصر الروعة ينبغي إدخاله في التراجيديا فإنّ الشعر الملحميّ أشدّ قبولاً لغير المعقول، لأنّ الشخص لا يرى وهو يعمل، ومخالفة العقل هي أكبر ما يعتمد عليه عنصر الروعة. فمطاردة هتكور مثلاً لو وضعت على مسرح لأضحكت. فاليونانيّون واقفون لا يشتركون في المطاردة، وأخيل يمنعهم أن يفعلوا. أمّا في الملاحم فلا يلحظ ذلك. والأمر العجيب يلذّ، ويكفي لإثبات ذلك أنّ كلّ
من يروي قصّة يضيف إليها بعض العجائب ليسرّ السامعين. وقد كان هوميروس خاصّة هو الذي علم الشعراء الآخرين كيف يتقنون الكذب. وما ذلك إلّا القياس الكاذب، فإذا كان وجود شيء ما يتبعه وجود آخر، أو حدوث شيء ما يتبعه حدوث آخر، فإنّ الناس يظنّون أنّه إذا وجد الآخر وجد الأوّل أو حدث. ولكن هذا خطأ، فإذا كان الأمر كاذباً فليس من الضروريّ إذا وجد الثاني أن يقال إنّ الأوّل موجود، لأنّ علمنا بصدق التالي يخدع عقولنا إلى القول بصدق الأوّل، وذلك كما في «منظر الحمام» في الأوديسية.
وينبغي أن يؤثّر الشاعر استعمال المستحيل المعقول على استعمال الممكن غير المعقول. فلا يصحّ أن تؤلّف القصّة من أجزاء غير معقولة بل يجب أن تخلو من كلّ ما هو غير معقول، إلّا أن يكون ذلك خارج القصّة، كما جهل أوديبوس كيف مات لايس، لا داخلها كما في «إلكترا» من حديث الرسول عن الألعاب البيثيّة، أو كما في «الميسيون» من مجيء شخص من تيجيا إلى ميسيا دون أن ينطق بحرف. ومن المضحك أن يقال إنّه لولا ذلك لتداعت القصّة، فمثل هذه القصّة ما كان ينبغي أن تؤلّف أصلاً. أمّا إذا جيء بها وبدت معقولة فينبغي أن تقبل على الرغم من سخافتها. فإنّ القطع غير المعقولة في الأوديسية — تلك التي تدور حول طرح أوديسيوس على شاطئ إيثاكا — ما كانت لتحتمل لو تناولها شاعر آخر، أمّا الآن فإنّ الشاعر يحجب سخافتها بما يضفيه عليها من ضروب الإجادة.
وينبغي أن يعتنى ببراعة العبارة في الأجزاء الراكدة التي تخلو من عنصري الأخلاق والفكر. فإنّ الإسراف في تنسيق الأسلوب — على العكس — يطمس عنصري الأخلاق والأفكار.
٢٥ — أمّا عن وجوه النقد وحلولها، وعددها وأنواعها، فلعلّ ذلك يتّضح ممّا يلي:
لمّا كان الشاعر محاكياً — شأنه في ذلك شأن الرسّام وكلّ صانع صورة — فيجب ضرورة أن يسلك في محاكاة الأشياء أحد طرق ثلاثة: إمّا أن يحاكيها كما كانت أو تكون، وإمّا أن يحاكيها كما تقال أو تظنّ، وإمّا أن يحاكيها كما ينبغي أن تكون. وهو يعبّر عنها باللغة، إمّا بالأصليّ الشائع منها وإمّا بالغريب وإمّا بالمستعار. وثمّة وجوه كثيرة أخرى للتصرّف في اللغة يسمح بها للشاعر. أضف إلى ما تقدّم أنّ المعايير التي تطبق على الشعر غير تلك التي تطبق على السياسة، وغير التي تطبق على الصنائع الأخرى. والخطأ الشعريّ نوعان: خطأ يتبع الشعر نفسه، وخطأ يتبع أعراضه. فإذا أراد الشاعر محاكاة المستحيل لعجزه وضعف شاعريّته، فالخطأ راجع إلى الشعر؛ أمّا إذا أخطأ لسوء اختياره فرسم جواداً يمدّ أماميتيه معاً، أو أخطأ في أمر من أمور صناعة بعينها كالطبّ أو غيره، فليس هذا الخطأ راجعاً إلى صناعة الشعر نفسها. هذه هي الأوجه التي ينبغي أن نبحث عليها اعتراضات النقّاد وأن نحلّها.
فلنتكلّم أوّلاً في الأمور التي ترجع إلى صنعة الشاعر. إذا كان الشاعر يصوّر المستحيل فهو مخطئ، ولكن الخطأ يمكن أن يعتذر عنه إذا بلغت به الغاية (وقد بيّنّا فيما سبق معنى الغاية)، أعني: إذا زاد روعة هذا الجزء أو أيّ جزء آخر من القصيدة. ومثال ذلك مطاردة هكتور. أمّا إذا أمكن أن تبلغ الغاية بمثل هذه القوّة أو بأعظم منها مع المحافظة على أصول الصناعة فلا وجه للاعتذار، إذ يجب أن يجتنب كلّ خطأ يمكن اجتنابه. ثمّ نسأل: هل يرجع الخطأ إلى
الصناعة الشعريّة نفسها أم إلى عرض من أعراضها؟ فلأن يجهل الشاعر أنّ الظبية ليس لها قرنان أهون من أن يصوّرها تصويراً غير محاكٍ.
وإذا اعترض بأنّ التصوير غير مطابق للحقيقة فقد يمكن أن يجاب بأنّ الشاعر إنّما مثّل الأشياء كما ينبغي أن تكون، كما كان سوفوكليس يقول إنّه يصوّر الناس كما ينبغي أن يكونوا، على حين أنّ أوريبيديس يصوّرهم كما هم. وبهذا يرتفع الاعتراض. أمّا إذا لم يكن التصوير من هذا النوع ولا من ذاك النوع فقد يمكن للشاعر أن يجيب بأنّه يصوّرهم كما يظنّهم الناس. ويصدق هذا على الحكايات التي تروي عن الآلهة، فقد يكون صحيحاً أنّ هذه الحكايات ليست أسمّي من الحقيقة ولا مطابقة للحقيقة بل كما يقول عنها اكسينوفانيس: ولكن هذا ما يقوله الناس.
ثمّ قد لا يكون التصوير أسمّي من الحقيقة، ولكن يجاب بأنّ هذا هو ما كان. وذلك كما في قوله يصف السلاح: «وقفت الحراب على كعوبها»، فقد كانت هذه هي العادة، وهي عادة الإليريّين إلى اليوم.
أمّا البحث في جمال العبارة أو العمل أو عدم جمالها فينبغي ألّا يقصر على النظر فيما عمل أو قيل أشريف هو أم خسيس، بل يجب أن ينظر أيضاً في القائل أو الفاعل، ومن قيل أو فعل له، ومتى، ولم؛ كأن يبحث مثلاً: أكان هذا القول أو الفعل لكسب منفعة أكبر أو لدفع مضرّة أكبر؟
ومن النقد ما يردّ بالنظر في العبارة، كما في οὐρῆας μέν πρῶτον
فلعلّ الشاعر لا يستعمل οὐρῆας بمعنى «البغال» بل بمعنى «الحرّاس»، وكذلك ما قيل في دولون: ὅς δι᾽ ἤτοι εἰδὸς μὲν ἔην κακός (حقّاً لقد كان قبيح المنظر) فليس المعنى أنّ جسمه كان متنافراً بل أنّ وجهه كان قبيحاً. فإنّ أهل كريت يعبّرون بكلمة εὐειδὲς (حسن المنظر) عن جمال الوجه. وفي هذه العبارة ζωηρότερον δὲ κέραιε (امزج الشراب أقوى) لم يعن الشاعر الإكثار من الخمر والإقلال من الماء دأب السكّيرين، بل عنى الإسراع. ولعلّ الشاعر أراد أن يستعير، كما في قوله: «ونامت الآلهة والناس كلّهم الليل بطوله» مع أنّه يقول في الوقت نفسه: «ولقد يدير بصره إلى سهل طروادة فيروعه صوت النايات والصفّارات» فكلمة «كلّ» مستعملة هنا بمعنى «كثير» لأنّ الكلّ نوع للكثير. وكذلك قوله «هي وحدها المحرومة» فكلمة «وحدها» استعارة، لأنّ الأشهر يعدّ أوحد. وقد يعتمد الحلّ على النبر أو على النطق، فكذلك حلّ هيبياس الثاسيّ ما أشكل في هذين البيتين:
τὸ μέν εὐ (σύ) καταπύθεται δίδομεν (διδόμεν) δὲ οἱ ὄμβρω
وقد يحلّ المشكل بتقسيم الكلام، كقول أنبادقليس: «فجأة أصبح فانياً ما كان قبل خالداً، وما كان صريحاً قبل اختلط». وقد يرجع
الأمر إلى الاشتراك في المعنى، مثل «مضى وهن من الليل» فإنّ «الوهن» مشترك المعنى. أو إلى العرف اللغويّ، فقد يطاق اسم οἶνος (الخمر) على كلّ شراب ممزوج، ومن هنا يقال إنّ جانيميديس «يصبّ الخمر لزوس» وإن كان الآلهة لا يشربون الخمر، ويقال للحدّادين «النحاسين»، وإن كانت هذه قد تعدّ استعارة.
وإذا كانت كلمة تؤدّي إلى شيء من التناقض فيجب أن ننظر كم معنى يمكن أن تحمل عليه في سياقها. ففي قوله: «هناك وقفت الحربة البرنزيّة» ينبغي أن نسأل كم معنى يمكن أن يحمل عليه «الوقوف». وهذه خير طريقة للفهم. وهي ضدّ ما ذكره جلاوكون من أنّ بعض النقّاد يتعجّلون الحكم بدون علّة، وبعد أن يثبتوا التهمة يأخذون في البرهان، ويدينون ذلك المعنى الذي توهّموه — كأنّما هو ما قاله الشاعر — إذا وجدوه مناقضاً لما يؤمنون به. وهذا ما كان منهم في قضيّة إيكاريوس، فقد توهّم النقّاد أنّه كان من أهل لاكيدايمون: واستنكروا أنّ تيليماخوس لم يلقه عندما ذهب إلى هناك، ولعلّ ما رواه أهل كفالينيا هو الحقّ في ذلك. فهم يقولون إنّ أوديسيوس قد تزوّج
امرأة منهم، وإنّ أباها كان اسمه إيكاديوس لا إيكاريوس. فالأشكال إذاً إنّما جاء من غلطة. وينبغي — على العموم — أن يسوّغ المستحيل اعتماداً على الصنعة الشعريّة، أو على تحسين الواقع، أو على الرأي الشائع. فأمّا عن الصنعة الشعريّة فينبغي أن يفضّل المستحيل المقنع على الممكن غير المقنع. فقد يكون من المستحيل وجود أشخاص كالذين يصوّرهم زويكسيس. وأمّا عن تحسين الواقع فينبغي أن يكون المثال أفضل وأسمّي من الحقيقة. وأمّا القول الشائع فننسب إليه ما خالف العقل، ونحتجّ أيضاً بأنّ الأمور المخالفة للعقل قد يقبلها العقل، فإنّه من المعقول أن يقع شيء خارج عن المعقول.
والأمور التي تبدو متناقضة يجب أن تبحث بالقواعد نفسها التي تتبع في المناقضات الجدليّة: فينظر الشيء المعنيّ واحد؟ أمنسوب هو إلى شيء واحد ؟ أكيفيّة النسبة واحدة؟ فينبغي إذاً أن نحلّ المشكل بالرجوع إلى ما يقوله الشاعر نفسه، أو إلى ما تواضع عليه العقلاء.
والأمور غير المعقولة والخلق الخسيس معيبان إذا لم تكن ثمّة ضرورة إلى مخالفة العقل كما صنع أوريبيديس: «إيجي» أو إلى سوء الخلق كحال منلاوس في «أورستيس».
فالمآخذ التي تؤخذ على الشعراء ترجع إذاً إلى خمسة أنواع: الاستحالة أو مخالفة العقل، أو إيذاء الشعور، أو التناقض، أو الخروج على أصول الصناعة. والحلول ينبغي أن يبحث عنها في الأحوال التي أحصيناها، وهي اثنتا عشرة.
٢٦ — وقد يسأل سائل: أيّ النوعين أفضل: المحاكاة الملحميّة أو المحاكاة التراجيديّة؟ فإذا كان أفضلهما هو أبعدهما عن الابتذال، وأبعدهما عن الابتذال دائماً هو ما يتّجه إلى نظارة أفاضل، فظاهر إذاً أنّ النوع الذي يحاكي كلّ شيء هو الأخسّ. فالممثّلون يسرفون في الحركات كأنّ النظّارة لا قدرة لهم على الشعور إلّا إذا أضاف الممثّل شيئاً من عنده. شأن سوقة النافخين في الناي الذين يلتوون ويدورون إذا أرادوا أن يصوّروا قذف القرص، ويجذبون رؤوسهم إذا أرادوا أن يمثّلوا السعلاة. فالتراجيديا يصدق عليها الحكم الذي كان الممثّلون القدّاميّ يحكمونه على الناشئين بعدهم: فقد كان مينيسكوس يسمّي كاليبيديس «القرد» لإسرافه في الحركة، وكذلك كان الرأي في
بنداروس. وإذاً فنسبة صنعة التراجيديا كلّها إلى صنعة الملاحم كنسبة الممثّلين المحدثين إلى القدّاميّ. فالشعر الملحميّ — يقولون — موجّه إلى جمهور راقٍ لا يحتاج إلى هذه الإشارات، أمّا التراجيديا فموجّهة إلى السوقة، وبما أنّها مبتذلة فهي أدنى الاثنين.
ونقول أوّلاً: إنّ هذا الحكم لا يقال على صنعة الشعر بل على صنعة التمثيل والإلقاء. فإنّ الشاعر المنشد قد يبالغ الإشارات أيضاً كما كان يفعل سوسيستراتس، وربّما فعل الشاعر المغنّي مثل ذلك، كدأب مناسيتيوس الأوبونطيّ. ثمّ إنّنا لا ينبغي أن نسيء الظنّ بكلّ نوع من الحركة كما لا ينبغي أن نسيء الظنّ بكلّ نوع من الرقص، بل بذلك النوع الذي يقوم به السوقة. وذلك ما عيب على كاليبيديس وغيره من أهل زماننا، الذين انتقدوا لأنّهم يحاكون النسوة السافلات. زد على ذلك أنّ الترجيديا تفعل فعلها الخاصّ بدون حركة كالملحمة، فإنّ قوّتها تظهر بالقراءة لا غير. فإذا كانت تفضل الملحمة من سائرالوجوه فليس بضروريّ أن تفضلها من
هذا الوجه. وهي تفضلها لأنّ فيها كلّ عناصر الملحمة (حتّى ليصحّ أن تستعمل وزن الملحمة) وتزيد عليها بجزئين غير هيّنين وهما الموسيقى والمناظر، اللذان يحدثان لذّة عظيمة. ثمّ إنّ لها من البهاء حين تقرأ مثل ما لها حين تمثّل. ثمّ إنّها تصل إلى الغاية من المحاكاة في حيّز أصغر، وما كان أشدّ تركيزاً فهو ألذّ ممّا ينتشر في زمان كبير فتضعف قوّته. وأعني بذلك أن يتناول متناول تراجيديّة «أوديبوس» لسوفوكليس مثلاً فيضعها في مثل حجم الإلياذة. ثمّ إنّ المحاكاة في الملحمة أقلّ حظّاً من الوحدة. ودليل ذلك: أنّ كلّ ملحمة يمكن أن تؤخذ منها عدّة تراجيديات؛ فإذا كانت القصّة التي يصنعها الشاعر واحدة حقّاً فإمّا أن تعرض عرضاً موجزاً فتبدو هزيلة، وإمّا أن تتبع قانون الملحمة في سعة حيّزها فتبدو مائعة ... أعني إذا تألّفت من أجزاء كثيرة، كالإلياذة والأوديسية اللتين تحتويان على كثير من مثل هذه الأجزاء، ولكلّ من هذه الأجزاء عظم في نفسها. على أنّ هاتين القصيدتين متماسكتان بقدر ما يستطاع، وكلتاهما محاكاة واحدة إلى أبعد حدّ ممكن.
فإذا كانت التراجيديا تفضل الملحمة من جميع هذه الوجوه وتزيد أنّها تحدث الفعل الخاصّ بصناعتها (فإنّه لا ينبغي أن تحدث أيّ لذّة كانت بل تلك التي أشرنا إليها) فبيّن أنّها أفضل لأنّها أقدر على بلوغ الغاية من الملحمة.
وحسبنا ما قلناه عن التراجيديا والملحمة بذاتها، وعن أنواعهما وأجزائهما: كم هي وبم تفترق؛ وعن أسباب الجودة والرداءة فيهما، ومآخذ النقّاد وحلول هذه المآخذ ...