Aristotle: De sophisticis elenchis (On Sophistical Refutations)
Work
Aristotle, De sophisticis elenchis
(Περὶ σοφιστικῶν ἐλέγχων)
English: On Sophistical Refutations
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator: Ibn Nāʾimah al-Ḥimṣī?
Translated from: n/a
(Paraphrase)
Date:
between 790 and 839
Source
ʿAbd al-Raḥmān Badawī. Manṭiq Arisṭū, al-ǧuzʾ al-ṯāliṯ. Dirāsāt islāmīyah 7/3. Cairo (Maṭbaʿat Dār al-kutub al-miṣrīyah) 1952, 737-1016
Download
arist_sophel-transl-ar3.xml [164.62 KB]
بسم اللّه الرحمن الرحيم
«سوفسطيقا» بنقل الفاضل أبي زكريا يحيى بن عديّ — أعلى اللّه منزلته — ، وبنقل أبي على عيسى بن إسحق بن زرعة، وبنقل قديم منسوب إلى الناعميّ، مثبت في كلّ صفح ما نقله كلّ واحد، وغيره، عن المعاني الثابتة في ذلك الصفح
نقل قديم منسوب إلى الناعميّ، ولست أعلم من أيّ لغة نقله
كتاب أرسطوطالس في «التبصير بمغالطة السوفسطائيّة»:
١
الذي ينحوه في هذا الكتاب تبكيت السوفسطائيّين الذين يظنّ أنّه نقض للقياس وليس هو في الحقيقة كذاك، بل هو مغالطة لا حقيقة لها وغير مبطلة
ولا تجربة للأشياء، فكأنّه ينظر إليها من بعد، فمن أجل ذلك يشتبه عليه. وإنّما القياس بالحقيقة شيء تتقدّمه أشياء يتولّد منها غيرها باضطرار. فأمّا التبكيت فإنّه قياس مناقض للنتيجة. وقد يفعل السوفسطائيّون ذلك وهم لا يظنّون أنّهم فعلوه لعلل كثيرة أحدها لحال الأسماء، وإن كانت لطيفة المأخذ مشهورة في العوامّ؛ لأنّه لمّا لم يمكنّا عند لفظنا أن نباشر الأشياء، بل إنّما نستعمل الأسماء
مكان الأشياء كانت أسماء الأشياء دليلة عليها وعلامات لها. فظنّنا أنّه يعرض للأشياء ما يعرض في الأسماء كما يعرض للمتفكّرين في الحساب؛ إلّا
مضطرّ إلى طلب جنس هذا الكلام الذي ذكرنا، لأنّ هذا هو الواجب قبل العمل. وبهذه القوّة أمكنهم التصنّع بزيّ الحكمة، لا عن نيّة منهم لطلبها. وقد تبيّن أنّه قد يوجد جنس لمثل هذا الكلام. وإنّما سمّينا «سوفسطائيّ» لمن اشتهى مثل هذه القوّة. ونحن قائلون كم نوع يكون كلام السوفسطائيّين، وكم العدد الذي منه قوام قوّتها، وكم أجزاء صناعتهم. ونقول أيضاً فيما كان متمّماً لصناعتهم فيكون ذلك كاملاً.
٢
〈أنواع الحجج في المناقشة〉
إنّ أجناس الكلام في كلّ فنّ منه أربعة: منها جنس تعليميّ، وجنس جدل، وجنس امتحان، وجنس مماحكة.
فجنس الكلام الذي من طريق التعليم وإفادة العلم لا يكون إلّا من خاصّة أوائل ذلك العلم المستفاد، لا من حاصل جواب المجيب فيه؛ ولذلك يجب
التقليد على المتعلّم. وجنس كلام الجدل لا يكون إلّا من جمع فكر محمود مناقض للقول. وجنس كلام الامتحان والاختبار لا يكون إلّا من الأشياء المظنونة عند المجيب واللاتي يضطرّ إلى علمها من أراد إيجاد الحكمة كالذي فصّلنا وجرّ بنا في غير هذا الكتاب. وجنس كلام المماحكة لا يكون إلّا من أشياء محمودة في ظاهرها وليست بالحقيقة من صنف القياس أكثر من أنّها كذلك فيما ظهر منها. وقد تكلّمنا في كتاب «أنالوطيقا» —، وهو الكتاب الثالث من كتبنا — في جنس كلام التعليم البرهانيّ، وتكلّمنا أيضاً في جنس كلام الجدل والامتحان قبل هذا الكتاب، وهو الكتاب الرابع: «أفودقطيقي». فأمّا جنس كلام المماحكة والمنازعة فنحن متكلّمون فيه في كتابنا هذا، وهو الخامس.
٣
〈الأغراض الخمسة للحجاج السوفسطائيّ〉
فلنضع أوّلاً الجهات التي يستعملها هؤلاء الذين يشغبون ويماحكون بكلامهم وهي خمسة عدداً: أوّلها التبكيت، والثانية الكذب، والثالثة
ضعف الفهم لما يدخله من شكوك، والرابعة العجومة، والخامسة الهذر والهتار — وهذه الخصلة تضطرّ المتكلّم إلى تكرار كلامه أو يتكلّم بالشبه والتمويه لا بالحقيقة. فغايتهم أوّلاً أن يكونوا مبكّتين في ظاهر أمرهم؛ وثانياً أن يروا أنّ المتكلّم كاذب وأن يروا الكذب؛ وثالثاً أن يضعفوا الفهم ويقودوا إلى الشكّ وقلّة اليقين؛ ورابعاً أن يضطرّوا المتكلّم إلى العجمة بحرف يأتون به فيبقى المجيب فيه مستعجماً عنه؛ وخامساً تكرير الكلام بالهذر والهتار.
٤
〈التبكيت في القول وخارج القول: التبكيت في القول〉
وأنواع التبكيت على جهتين: منها ما يكون بالكلمة، ومنها ما يكون خارجاً من الكلمة. فاللاتي
مداخل الشبهة على الفهم بسبب الكلمة الملفوظ بها ستّة عدداً: أوّلها اشتراك الأسماء؛ والثاني الشكّ في الكلام؛ والثالث تركيبه؛ والرابع تجزئته
قاعداً. فالفعل من المريض يدلّ أحياناً على فعل المريض اليوم، وأحياناً على فعل مريض كان مريضاً قبل اليوم؛ ويسمّى صحيحاً متى نقه من مرضه، ويسمّى صحيحاً من ليس له عهد بمرض. فهذا ومثله من اشتراك الأسماء.
والشكّ في الكلام كقولك: الشيء الذي يعرف الإنسان هو يعرف، والإنسان يعرف الحجر، والحجر إذاً يعرف. فإنّ قولك: «يعرف» قد يقع على العارف وعلى المعروف. وأيضاً الشيء الذي يراه الإنسان هو يرى، والإنسان قد يرى الأسطوانة، فالأسطوانة إذن ترى. وأيضاً ما قال الإنسان إنّه كذلك فهو كذلك؛ والإنسان قال حجر؛ فهو إذن حجر. وأيضاً ما قلت فيه إنّه قد تقول في نفسك إنّك بمثل ما قلت فيه فقد تقول في الحجر إنّه، فأنت حجر لا محالة. وأيضاً كقولك: هل يجوز أن يتكلّم إلّا متكلّم؟ — كان ذلك على جهتين: أحدهما على صمت المتكلّم؛ والآخر على انقطاع الكلام.
وقد يكون أيضاً من اشتراك الأسماء والتشكيك ثلاثة أنحاء: منها إذا كان الاسم والكلمة يدلّان بالكثير على الحقيقة كقولك: عقاب، كلب. ومنها إذا قلنا ما جرت عليه عادتنا. ومنها ما إذا كان مركّباً مؤلّفاً دلّ على الكثير، وإذا كان مفترقاً على غير تأليف دلّ على مبسوط من الأمر مرسل
كقولك: علم الكتابة. فكلّ واحد من هذين الحرفين إذا انفرد دلّ على شيء واحد إن قلت: «علم»، وإن قلت: «كتابة». فإذا اجتمعا دلّا على الكثير، إمّا أن يثبت للكتابة علم، وإمّا أنّ الكتابة للكاتب. — فالتشكيل والاشتراك في الاسم إنّما يكون من هذه الأنحاء. وقد يكون من التركيب والتأليف أنحاء غيرها كقولك: قد يستطيع الجالس أن يمشي، ومن لا يكتب أن يكتب، فلا تكون دلالة هذين القولين بحال واحدة إذا كان القول مؤلّفاً أو مفترقاً. وذلك أنّك إذا قلت بالتأليف إنّ من لا يكتب يكتب دللت على أنّ له قوّة على الكتابة في الوقت الذي لا يكتب، وعلى تعليم الكتابة واستفادتها في الوقت الذي لا يعلم. وممّا يشبه ذلك أن نقول إنّ الذي يستطيع أن يأتي بشيء واحد قد يستطيع أن يأتي بالكثير. فهذه الأنحاء التي تكون من تأليف الكلام وتركيبه.
ونقول بالتجزئة والقسمة كقولك إنّ الخمسة اثنان وثلاثة، أزواج وأفراد؛ ويقال الأكثر مساوٍ لمثل هذا العدد ولأكثر منه قليلاً، وليس ما فضل من الكلام ثمّ ألّف كانت دلالته واحدة وإن ظنّ به ذلك. وتقول: أنا صيّرت الأحرار عبيداً.
ونقول إنّ الماجد أشلوس قتل من خمسين رجلاً مائة.
فأمّا النوع الذي يكون من جهة الإعراب وتعجيم النقط والعلامات فليس يسهل علينا الكلام فيه دون أن ننطس بكتاب مقدّمات أهل المجادلة.
ولكنّا سنبيّن منه شيئاً بما قد كتب وقيل من الأشعار مثل قول من [أ]عاب أوميروس وخطّأه في قوله إنّ كذا وكذا ليس شانياً للمطر، فأجاب عنه أقوام فقالوا بوضع علامة في التعجيم على لفظة «ليس» فينقلها فتصير على جهة الاستفهام فيصحّ معناها. ويقولون في منام أغاممنن: ليس زوس القائل يعطيه الفخر، لكنّه أمر لصاحب الرؤيا أن يعطيه الفخر. فهذا من القول — ومثله يدخل التشبيه بسبب التعجيم والإعراب وهو منصرف غير ثابت.
فأمّا الأنحاء التي تكون من شكل الكلام فإنّها أنحاء ثلاثة، لا مثل الكلمة إذ كانت بحال واحدة ولم تتقسّمها تلك الحال. فأصل الكلمة التي تصير المذكّر مؤنّثاً والمؤنّث مذكّراً أو تكون ما بين هذين فيوضع مكان واحد منهما، أو توضع الكمّيّة مكان الكيفيّة، أو الكيفيّة مكان الكمّيّة، أو الفاعل مكان المفعول، أو المفعول مكان الفاعل، وسائر ذلك مع مثل ما
قسّمنا وجزأنا أوّلاً. فكثيراً ما تكون الكلمة دليلاً على مفعول، ومخرجها يدلّ على فاعل — من ذلك أنّ القوى تدلّ على كيفيّته ووصفه. وقولك: «يقطع»، «يبني» قد يدلّ على كيفيّة فعله ذلك. وكذلك يجري هذا القول في سائر الأشياء المشاكلة له.
والمباكتات التي تكون من الكلام فبهذه الجهات تكون. فأمّا أنواع المضلّات التي تكون خارجة من الكلام فهي سبعة عدداً: الأوّل منها يكون بالعرض: والثاني — مرسلاً كان أو غير مرسل —، يكون إمّا في شيء، وإمّا في مكان، وإمّا في زمان، وإمّا مضافاً إلى شيء. والثالث يكون من قلّة العلم بالتبكيت. والرابع يكون من لواحق الكلام ومن وضع المقدّمات. والخامس يكون من أوّل المسئلة. والسادس يكون بإثبات علّة لا كعلّة. والسابع أن يجعل المسائل الكثيرة مسئلة واحدة.
٥
〈التبكيتات التي خارج القول〉
فالمضلّات التي تكون من الأعراض هكذا تكون: أن تضع مقدّمة فيثبت معنى واحد.
للشيء الذي فيها وللعارض لها وليس هي بالاضطرار لما تثبت له وحده، بل هي لآخرين معه — ومثال ذلك أن يقال إن كان قوريسقوس سوى الإنسان فهو إذن سوى نفسه لأنّه إنسان، وإن كان آخر غير سقراطيس، وسقراطيس إنسان، فالإنسان إذن غير الإنسان، لأنّه عندما قال: سقراطيس إنسان، عرض من ذلك ما أضلّ معنى الإنسان. فهذه الطرائق المضلّات ممّا يعرض من المقدّمات والمضلّات التي تكون بقول مرسل قد تكون مرّة على غير تحقيق، فإنّها مستفاض على الكثير؛ وهكذا إذا كان الذي يقال بالجزء متأوّلاً على الكثير بقول مرسل كقولك إن كان ما ليس
فإنّه إذا كان بهذه الجهة أبيض وجب أن يكون أسود وغير أسود فترى أنّك قد صرت إلى حملنا بطلب المسؤول إذ وجب أن يكون أسود وغير أسود بما يعاب من الفكر وأتممت عليه من مسئلتك إيّاه. فأمّا طائفة من الناس فقد نعت هذا المذهب عليهم كثيراً، وذلك إذا قيل منه في شيء إنّه سواء بأنّه لم يلحقه ما قيل فيه بالقول المرسل: وكذلك ليس كلّ ما ليس بيسير المعرفة لا يعلم من الأشياء أنّها تثبت بحقيقة وأنّها لا تثبت، وإنّما يكون هذا النحو في الأشياء التي يكون الاختلاف فيها بالسواء ولأنّه يظنّ التئاماً كليهما ألّا يكون حقّاً ولا في واحد منهما كقولك: إن كان نصف الشيء أبيض ونصفه أسود فبأيّهما تنعته: بالأبيض أم بالأسود؟ فأمّا الذين يضلّلون وهم لا يحدّون ما القياس
وأمّا المباكتة فإنّما يكون ذلك منهم لمكان النقص في الكلام، وذلك أنّ نفس التضليل إنّما هو أنطيفاسيس، أي مناقضة الشيء بعينه المفرد الذي ليس باسم، بل هو غير مسمّى باسم، بمواطأة مقرون إلى اسم شيء غيره فيتناقض ذلك الشيء بعينه بالأشياء التي يؤتى بها بالاضطرار، ولا يعدّ معه ما كان في الابتداء، بل يكون بحال واحدة وإلى شيء واحد، كالذي كان في زمان واحد. وعلى هذا النحو يكون الكذب على الشيء. فبعض الناس إذا نقضوا شيئاً من هذه التي ذكرنا كانوا كالمبطلين، كقولك: إنّ الشيء بعينه ضعف وغير ضعف، وذلك أنّ الاثنين ضعف الواحد وليسا هما بضعف الثلاثة، وكقولك إنّ الشيء نفسه ضعف نفسه وغير ضعف، لا من جهة واحدة: فيكون من جهة الطول ضعفاً، وليس ضعفاً من جهة العرض، أو يكون ضعفاً من جهة واحدة ونحو واحد، لأنّ ذلك ليس معاً، من أجل ذلك يتخيّل أنّه من الكلام تضليل. وقد يجوز أن نضع هذا النحو مع الأنحاء التي قلنا إنّها تكون من نقض الكلام.
فأمّا الضروب التي تكون من المأخوذ في بدء الكلام فقد يجوز لها أن تكون بكلّ جهة كان فيها افتتاح المسئلة. وبذلك القدر من الكلام يرى أنّها مضلّلة مبكّتة للذي لا يجد سبيلاً إلى مقدّمة للفصل بين الشيء من غيره.
فأمّا التبكيت الذي يكون من لواحق الكلام فإنّما يكون للذي يظنّ المتكلّم أنّه قد أقلب لاحقة الكلام، كقولك إنّه متى كان هذا باضطرار فقد يظنّ بغيره يكون كذلك باضطرار من أجل ما يعرض ذلك للوهم من قبل الحسّ، فقد ظنّ بالمرّة أنّها عسل لمكان الصفرة التي في لونها. وقد يعرض للأرض أن تبتلّ بعد المطر، فمتى كانت مبتلّة ظننّا أنّ ذلك لمكان المطر، وليس ذلك باضطرار. وكذلك برهان أصحاب الهذر إنّما يثبتونه من قبل العلامات التوابع، لأنّهم إذا أرادوا أن يثبتوا على إنسان أنّه زانٍ أخذوا برهان ذلك ممّا يلحق بذلك الإنسان، فيقولون إنّه متصنّع بالزينة، أو أنّه لا يزال يرى بالليل متردّداً، وقد يكون هذا في الكثير من الناس فلا يثبت من ذلك نعت.
الرأي، فكذلك يكون في الأشياء المتسلجسة، أي المحمولة على القياس، كقول مالسّس الحكيم إنّ الكلّ لا نهاية له، وذلك أنّه جعل مقدّمته أنّ الكلّ
من شيء ليس بمكوّن (ومن غير شيء لا يكون شيء)، وأنّ الكائن إنّما كان بأوّليّة. فإن كان الكلّ من شيء ليس بحادث فليس للكلّ أوّليّة. من أجل ذلك وجب ألّا تكون له نهاية. وليس يثبت هذا المعنى باضطرار، لأنّه وإن كانت أوّليّة لكلّ كائن فليس يلزم باضطرار ما كانت له أوّليّة أن يكون حادثاً، كما أنّه لا يلزمنا إذا نحن قلنا إنّ المحموم حارّ أن نجعل كلّ حارّ محموماً باضطرار.
فأمّا النوع السادس الذي يكون بإثبات ما ليس بعلّة كعلّة فإنّما يكون بأخذنا العلّة في غير موضعها، فيكون التبكيت من أجلها. وقد يعرض مثل هذا في السولوجسموسات التي تكون على غير مثال، وذلك أنّه لا بدّ من رفع شيء من الموضوع فيها. فإذا عددت مع المسائل اللازمة ظنّ بها مع الذي هي عليه من غير الإمكان أنّها ممكنة. ومثال ذلك أنّ القول: ليست النفس والحياة شيئاً واحداً — أنّه إن كان الكون ضدّ الفساد، فقد يجوز أن يكون كلّ جزئيّ ضدّ فساد جزئيّ، والموت ضرب من ضروب الفساد،
وهو مضادّ للحياة، فيجب بذلك أن تكون الحياة كوناً وأنّ الحياة تتكوّن، وذلك ما لا يمكن، فلا محالة أنّه ليس النفس والحياة بحال واحدة. ولا ضائع لإقامة هذا المعنى جميع السولوجسموسات، فإنّ القائل لم يقل إنّ النفس والحياة بحال واحدة فيعرض من ذلك غير الإمكان، ولكن سيعرض أقلّ ما فيه التضادّ. وذلك أنّ الحياة ضدّ الموت الذي هو فساد، والكون ضدّ الفساد، فهذا ومثله من الكلام ليس هو مؤلّفاً منه على ما يكون عليه تأليف السولوجسموس. وقد يذهب مثل هذا على أصحاب المسئلة بأعيانهم فيجهلونه مراراً كثيرة.
فهذا ومثله أنواع تهجين الكلام من لواحقه من إثبات ما ليس بعلّة كعلّة، فيظنّ أنّ ذلك تبكيت. وقد يكون ضروب غير هذه في تهجين الكلام إذا جعلت المسألتين مسئلة واحدة أو إن 〈كان〉 كثير الجهل لشيء معهنّ فأجاب بجواب مسئلة واحدة.
ومثال هذا كأنّ سائلاً سأل فقال: خبّرني عن الأرض: بحر هي أم سماء؟ فبعض الناس قد تقصر معرفته عن ذلك قليلاً: فإمّا أقرّ أنّه لا جواب عنده فيما يسأل وأنّ المسألة واحدة، وإمّا أن يبكّت، فكأنّ
الظاهر منه أنّه قد أبكت بالحيرة — ومثال ذلك أن يقول: يا ليت شعري هل هذا وهذا هما إنسان! والضارب لهذا وهذا إنّما ضرب إنساناً، لم يضرب إنسانين. ومن ذلك أن تقول أيضاً: من الأشياء ما هو خير، ومنها ما ليس بخير، فمجموعهما أخير هو أم غير خير؟ فأيّ هاتين قلت فقد هجّنت القول وجعلته كالتبكيت أو جعلته كذباً ظاهراً، لأنّ من أثبت الخير فيما لا خير فيه أو نفاه عمّا يثبت فيه فقد قال كذباً، وإن أنت زدت على ذلك القول شيئاً فقد يصحّ، وإن كان تبكيتاً وتهجيناً كقولك إنّ الواحد والكثير قد يقال بنحو واحد إنّها بيض وإنّها عراة وإنّها عميان. فإن كان الأعمى هو من لا بصر له وقد يمكن أن يكون له بصر، فالعميان قد يمكن أن تكون لهم أبصار. فإن كان أحد هذين له مرّة بصر ومرّة لا بصر له، فقد يكونان جميعاً إمّا مبصرين وإمّا أعميين؛ وذلك ما لا يمكن.
٦
فإمّا أن نقسم السولوجسموسات والتبكيت المتخيّلة على هذا النحو، وإمّا أن نرفعها جميعاً إلى الجهل بالتبكيت
فيصير ذلك لنا ابتداءاً. وقد يجوز أن ننقض جميع هذه الأنحاء التي قيلت إذا نحن صرنا إلى تفصيل التبكيت. — فأوّل ذلك إن كانت هذه الأنحاء على تأليف السولوجسموس، فإنّ الواجب أن نستخرج النتيجة من الموضوع قبلها، فيكون القول باضطرار غير متخيّل. وبعد ذلك أن يكون بقدر أجزاء القياس، لأنّ من الكلام ما يكون مذهبه مبنيّاً على جهتين كقولك: اشتراك الأسماء والكلمات واشتراك الاسكيم وهو الشكل، فأنّه من العادة إذا قلت: كلّاً — فكأنّك تدلّ على 〈شيء〉 مشار إليه. فأمّا التأليف والقسمة والتعجيم فإنّ الاسم فيها ليس تبديلاً، والمعنى في ذلك على غير حال واحدة، وقد كان يجب أن يكون المعنى واحداً.
كما أنّ الشيء الواحد إن كان مشرفاً على أن يكون تبكيتاً أو سولوجسموس — ومثال ذلك أنّه إن كان الموضوع أراد ألّا يجمع القياس على أنّه ربطه، بل إنّه أراد بقوله ربطه هو 〈حقّ〉 إلّا أنّه غير مؤلّف: وهو بعد محتاج إلى مسئلة: لم كانا جميعاً عند طالبهما بدلالة واحدة؟ فأمّا الأنحاء التي تكون
من العرض عند تحديد القياس فتلك بيّنة واضحة، وذلك أنّ حدّ القياس وحدّ التبكيت حدّ واحد، إلّا أنّ حدّ التبكيت على معنى مناقضة القياس، لأنّ التبكيت إنّما هو مقياس مناقضة. فلمّا لم يكن القياس عرضيّاً لم يكن تبكيتاً، لأنّه ليس من الاضطرار إذا كانت هذه المشار إليها أن يكون هذا كذلك: فإن كان هذا أبيض فلم يكن باضطرار أبيض لمكان القياس. وكذلك الأطريغنون وهي المثلّث، لمّا كان زواياه مساوية لزاويتين قائمتين لم يجب أن يكون الاسكيم عارضاً له، فتكون لمكان الاسكيم أوّليّة أو ابتداء. وذلك أنّ البرهان عليه لم يكن لأنّه اسكيم أو لأنّه أوّليّة، بل يثبت البرهان عليه لأنّه مثلّث؛ وكذلك في سائر الأشياء. من أجل ذلك إن كان التبكيت قياساً مناقضاً لا يكون إلّا من العارض في القياس، لذلك لا يصحّ معنى التبكيت؛ إذ لا يكون إلّا بالعرض. ولذلك ما يتحيّر مهرة الصنّاع والعلماء عند تبكيت الجاهل إيّاهم: لأنّهم يجمعون القياس من العارض فيلقون به العلماء وهم لا يقدرون على القسمة: فإمّا سئلوا فأجابوا، وإمّا لم يجيبوا فظنّوا أنّهم قد أجابوا.
فأمّا ضروب التبكيت التي تكون ممّا في الشيء أو من المرسل من القول، فإنّما تكون من أجل أنّ الموجبة والسالبة لا تكونان لشيء واحد بعينه بحال واحدة. لأنّ الذي هو أبيض في شيء فسالبته أن يكون في شيء ليس بأبيض؛ وكذلك ما كانت موجبته بأنّه أبيض بالمرسل، فسالبته ألّا يكون أبيض بذلك القول من المرسل. فإن أعطاك القائل أنّ الأبيض أبيض في شيء وتأويله أبيض بالقول المرسل
أي ليس في شيء، بل مشاع مستفاض. فمثل هذا الفهم لا يعمل تبكيتاً وإنّ ذلك يخيّل عند السامع الجواب لجهله بحال التبكيت، وما هو.
وأبين هذه كلّها تلك التي قيلت أوّلاً من حدّ التبكيت، ومن أجل ذلك سمّيت بمثل ما ذكرنا. فقد يكون الاشتباه بهذه الحال من نقص الكلام، لا سيّما عند الذين يريدون القسمة، فنقصان الكلام يعمّ هذه كلّها.
وكذلك الضروب التي تكون من الموجود في ابتداء المسألة ووضع ما ليس بعلّة كعلّة، وذلك بيّن من الحدّ لأنّه يجب للنتيجة أن تكون مضاهية لمعاني مقدّماتها، فليس ذلك بموجود فيما ليس بعلّة. وأيضاً يجب أن لا يعتدّ بما كان في ابتداء المسئلة، وليس كذلك يفعل السوفسطائيّون في مسائلهم.
فأمّا ضروب تهجين الكلام من الحرف اللاحق فذلك من العرض لأنّ اللاحق أبداً بالكلام عارض. وفرق ما بين العارض في الكلام واللاحق — وإن كان عرضاً — أنّ العرض يمكن أن يوجد في واحد فقط (كقولك إنّ الأشقر والعسل بحال واحدة، لأنّ العسل بعينه هو عسل وأشقر، وأبيض والثلج هو ثلج وهو أبيض)، فأمّا اللاحق أبداً فإنّما يكون من الأكثر. ومن أجل ذلك يتولّد التبكيت من اللاحق بالكلام، إلّا أنّه ليس بصادق من كلّ جهة إن هو كان كالعرض، لأنّ الثلج والإسفيداج إنّما صارا بحال واحدة
ببياضهما، أو كالذي قال مالسّس الحكيم أيضاً فإنّه تأوّل الآنية والكون بحال واحدة فزعم أنّ لهما ابتداءا، كقولك إنّ المساوي بحال واحدة من قدر أجسامهما. وذلك أنّ مالسّس أثبت أنّ ما قد كان كانت له أوّليّة؛ وما كانت له أوّليّة فقد كان، وكلاهما بحال واحدة، لأنّ لهما أوّليّة ونهاية. وكذلك ما كان مساوياً فقدر جسمه بحال واحدة، وما كان جسمه بحال واحدة فذاك مساوٍ. من أجل ذلك عمد مالسّس إلى أخذ اللاحق بالكلام فصيّره مقدّمة. — فلمّا كان التهجين الكائن من العارض في الكلام لا يتكوّن إلّا من قلّة المعرفة بالتهجين، وكان اللاحق في الكلام من باب العرض، وجب أن تكون ضروب التهجين من اللاحق مثلها. وسنتقصّى النظر في ذلك من جهة أخرى.
فأمّا أنحاء التهجين في الكلام الذي يكون من قبل أنّا نجعل المسائل الكثيرة مسئلة واحدة، فإنّما يكون من أجل أنّا لا نلخّص ولا نوضح معنى المقدّمة وحدها. لأنّ البروطاسسه، وهي المقدّمة، إنّما هي شيء واحد بحال واحدة
والحدّ واحد للشيء المفرد وللشيء المرسل الكلّيّ المشاع، كقولك على الإنسان الكلّيّ والإنسان الواحد المفرد؛ وكذلك يجوز هذا القول في سائر الأشياء. فإذا كانت المقدّمة الواحدة أيّما هي التي تثبت شيئاً واحداً على واحد فقد تكون مثل هذه المسألة مقدّمة مرسلة مشاعة. فلمّا كان القياس من مقدّمة جاز التهجين والتبكيت من مقدّمة. وكما أنّ المقدّمة إنّما هي شيء واحد على واحد، فكذلك هو بيّن أنّ التهجين لا يكون إلّا من قلّة المعرفة بالتبكيت: وذلك أنّ المقدّمة تخيّل من كلامهم كأنّها مقدّمة حقّ وليست كذلك. فإن كان المسؤول قد جعل جوابه جواباً عن مسئلة واحدة، وإنّما سئل عن كثير، فعند ذلك ما يكون جوابه جواباً مهجّناً؛ وإن لم يكن أعطى الجواب، بالحقيقة فقد يخيّل فصار شبيهاً بالهجنة. ومن أجل ذلك وجب أن تكون جميع هذه الأنحاء إلى مبدأ واحد وهو قلّة المعرفة بالتبكيت. وأنواع التهجين التي من كلمة فهي في ظاهر أمرها كقول مناقض بالأنطافاسيس؛ وذلك خاصّ للتبكيت، فأمّا الضروب الباقية فإنّما تكون من أجل الخطأ في حدّ القياس.
٧
〈أسباب الأغاليط〉
وقد يكون الغلط في بعض الناس من اشتراك الأسماء ومن أجل الحدّ أنّهم لا يجدون سبيلاً إلى تفصيل ما يقال بوجوه كثيرة (وكذلك نجد أشياء ليست تجزئتها بيسيرة: مثل قولك: واحد، وأنّه والذي هو بحال واحدة هذه ليست قسمتها بيسيرة). ومن الناس من يدخل عليه الغلط من قبل التأليف والتركيب ومن قبل القسمة والتجزئة لأنّهم لا يظنّون فرقاً بين التأليف والقسمة. وكذلك الأكثرون من العوامّ. وقد يدخل الغلط أيضاً على الناس من الإعراب والتعجيم بالنقط والعلامات، وذلك أنّهم لا يرون 〈أنّ〉 الحرف إذا ثقّل أو خفّف تصرّفت معانيه لا في الواحد ولا في الكثير. فأمّا الغلط الذي يدخل على الناس من شكل الكلمة وصورتها فذلك لا يكون إلّا لمكان الاشتباه فيها. وقد يصعب الفرق في ذلك حتّى يعرف ما كان يقال من ذلك بالمثال والحال الواحدة، وما إذا قيل كان غيريّاً. فبالحريّ أنّ من قدر على فرق ما بين هذين كان قريباً من الوقوع على الصدق والحقّ، ولا سيّما أنّه يقارب ذلك لا بالظنّ أنّ كلّ ما ثبت شيئاً
كان مشاراً إليه وإنّما نسمعه ونفهمه كشيء واحد. وذلك أنّه لا يشبه أن يشار إلى شيء فيقال «هذا» أو «إنّه» إلّا ما كان مفرداً أو جوهراً من الجواهر. من أجل ذلك قلنا إنّ هذا الضرب من التهجين لا يكون إلّا في الضرب من الكلمة. وقد يجب أن تعلم أوّلاً أنّ الضلالة والغلط قد تكون أكثر عند مناظرتنا غيرنا أحرى من أن تكون إذا كنّا متفكّرين بذاتنا. (وعلّة ذلك أنّ المناظرة مع غيرنا لا تكون إلّا بكلام واسط متروٍّ فينا)؛ وأنّ الفكر من الإنسان إذا كان بذاته لا مع غيره، فأكثر ذلك لا يكون إلّا من نفس الشيء معبّرة عنه بلا واسطة من الكلام.
وقد يجوز الغلط من الإنسان وهو متفكّر في نفسه، سيّما إذا كان فكره في الكلام الذي يقع فيه الاشتباه 〈في〉 المعبّرة عن الشيء. وأيضاً إنّ الضلالة والغلط إنّما يكونان من الاشتباه، والاشتباه لا يكون إلّا من أجل الكلمة والصوت واللفظ. فأمّا أنحاء الغلط التي من العرض فإنّما تكون من أجل أنّه لا يستطيع المتكلّم أن يفصّل بين نفس الشيء وغيره، وبين الواحد والكثير ولأيّة الأشياء المعروضة تعرض هذه كلّها. — وكذلك تكون ضروب الغلط ممّا يلحق بالكلام لأنّ لاحق الكلام هو جزء من العرض؛ وذلك أنّه يتخيّل كأنّه على الكثير، وهذا مذهبه يقول إن كان هذا لا يفارق فإذن إنّما لا يفارق غيره. — فأمّا الغلط الذي يكون من نقص الكلمة وما يقال في الشيء أو يقال بالقول المرسل فذلك غلط صغير، ولذلك ما ضربنا عنه البتّة، لأنّ قولك: الآن، وفي، وكيف لا تربح المعنى إلّا أقلّ ذلك، وكذلك الغلط الكائن من الموجود في ابتداء المسألة ووضع ما ليس بعلّة كعلّة أو من تصيّر المسائل الكثيرة مسئلة واحدة؛ فإنّ الغلط في هذه كلّها لا يكون إلّا القليل من الأمر، وذلك أنّا لا نستقصي حدّ المقدّمة ولا حدّ القياس لمكان العلّة التي ذكرنا.
٨
〈المباكتات السوفسطائيّة في المادّة〉
فإذا قد حصل من قولنا بكم جهة تكون المقاييس المتخيّلة المتشبّهة بالمقاييس الصحيحة وليست كذلك، فقد حصل من كم جهة تكون مقاييس السوفساطئيّين ونقائض ليست أريد بها المقاييس فقط والنقائض التي هي متخيّلة في ظاهر أمرها كالمقاييس وللنقائض، وليست كذلك، بل أريد بها أيضاً التي هي بالحقيقة مقاييس ونقائض، إلّا أنّها في ظاهر أمرها متشبّهة بكلام المجادلين الذين لا يتناقضون من نفس الشيء ليبيّنوا الجهل على من كلّمهم. وذلك أنّ طريق المجادلين امتحان ما يريد المتكلّم أن يتكلّم به، فيجمعون عليه من فكرهم قياساً كاذباً لقلّة معرفة المتكلّم لهم بحدّ الشيء الذي يتطالبان به جميعاً: السائل والمسؤول. وأمّا السوفسطائيّون في تهجينهم الكلام إذا ألّفوا قولاً مناقضاً فليسوا يجعلون ذلك القول واضحاً بيّناً. فالجاهل به لا يعطي جواباً، والبصير به قد يبطئ عن الجواب.
وهذا معروف لصناعتهم وكلامهم فبقدر ما يعطون السامعين فيرون أنّه قد وجبت المسألة من تأليف الكلام، وبقدر ذلك يدخل الغلط على المجيب فيما يحتاج إليه من الجواب. من أجل ذلك وجب ألّا تكون المقاييس الكاذبة إلّا: إمّا لكلّ هذه، وإمّا لبعضها، لأنّ من لم يسأل يظنّ أنّه
منها. فقد استبان من كم تكون المضلّات وأنّها لا تكون من الأشياء أكثر من هذه، بل إنّها تكون من الأنواع التي قيلت.
فتبكيت السوفسطائيّين والتهجين من كلامهم ليس بتهجين مشاع يعمّ الكثير، بل إنّما يلاقي به واحد؛ وكذلك قياسهم. غير ما لم يأخذ شيئاً مفرداً لدلالة خارجاً من اشتراك الأسماء أو يأخذوا شيئاً واحداً مشاراً إليه غير مشابه بشكل غيره وكان سائر كلامهم كذلك، لم يفعلوا تبكيتاً ولا قياساً لا مشاعاً ولا مفرداً عدد الواحد المسؤول. وإن هم جعلوا كلامهم كلّيّاً جاز أن يكون قياسهم وتبكيتهم موافقاً للواحد المسؤول، لا للكثير، لأنّهم يأخذون شيئاً دلالته مفردة بالتخيّل لا بالحقيقة.
٩
〈استحالة معرفة كلّ التضليلات〉
فأمّا سائر وجوه التبكيت والتهجين في الكلام فليس ينبغي لنا أن نتعاطى معرفتها قبل العلم بجميع الأشياء، وذلك لا يكون لصناعة واحدة.
فعسى أنّ العلوم لا نهاية لها، ومعروف أنّ براهينها كذلك. وقد تكون تبكيتاً محقّاً صادقاً لأنّ كلّ ما جاز لأحد أن يثبت فيه برهاناً قد يجوز تبكيت لمن وضع نقيض الحقّ — كقولك إن كان من وضع أنّ القطر مقدّر، فقد يجوز للمبكّت إثبات البرهان أنّ القطر غير مقدّر. من أجل ذلك نحتاج إلى أن نكون بجميع هذه الأشياء وأمثالها مهرة علماء، لأنّ هذه الأقاويل إنّما تثبت من أوائل صناعتها: فما كان منها للمساحة فإنّما يقوم بقدر أوائلها ونتائجها، وكذلك ما قيل في الطبّ وسائر الصناعات. وأيضاً فإنّ النقائض الكاذبة لا غاية لها بمثل ما قلنا في العلوم إنّها لا نهاية لها، لأنّ في كلّ علم من العلوم مقاييس كاذبة كقولك: قياس مساحيّ في المساحة 〈وقياس طبّيّ في مذهب الطبّ〉. وقولي: «قياس في الصناعة» إنّما أريد به الذي وضع في أوائل الصناعة. ولسنا نتفقّد ولا نأخذ في كتابنا هذا جميع أنحاء التبكيت والتهجين من الكلام ما خلا الذي يذهب فيه المجادلون، لأنّ الأنحاء التي يأخذ فيها أهل التهجين هي عامّة لكلّ صناعة ولكل قوّة كلام. فأمّا
التهجين والتبكيت الذي يكون في ضرب من ضروب العلم على حدته فليست معرفته إلّا للحاذق الماهر به: كان متخيّلاً بالتهجين، أو كان حقّاً، أو لم يكن. فأمّا معرفة التهجين والتبكيت الذي يكون من كلّ مشاغب فتلك واجبة على أهل الجدل، وهم الدياليقطيقيّون، لأنّا إذا وجدنا ما منه تكون المقاييس المحمودة عن أيّ الأسماء كانت، فنحن واجدون ما منه يكون التبكيت، لأنّ التبكيت إنّما هو مقياس مناقضة، وإن كان مقياسان متناقضان فهما إذن تبكيت.
فلا محالة أنّه قد حصل من كم جهة يكون هذا ومثله من التبكيت، وإذ قد وجدنا ذلك فقد أصبنا النقض عليه لأنّ في منازعتها نقضاً.
وفى خلال ذلك قد استبان لنا المتخيّل منها من كم جهة يكون. وقولي: «مخيّل» لست أريد به ما كان متشبّهاً بشيء مشار إليه، بل ما كان شبيهاً بكذا وكذا، وهو شيء غير محدود، فكذلك هي أنواع التبكيت المخيّلة إنّ أحد استقصى النظر فيها فعلم من كم جهة تكون. فقد استبان أنّ المجادل يجد السبيل لوجد هذه الضروب وأخذها ممّا منه تكون وأخذه إيّاها بمعنى مشترك، فإمّا: تبكيتاً محقّاً وإمّا مخيّلاً، والمجادل لا يعدو
أن يكون إمّا مخيّلاً في مجادلته وإمّا ممتنحاً.
١٠
〈الحجج اللفظيّة والحجج الموضوعيّة〉
وليس هناك فصل كالذي قال بعض الناس في دلالة الاسم وفي المعنى الثابت في الفكر من دلالة الاسم، فيكون المعنى في الاسم غير المعنى الراكد في الضمير. فإنّه من القبيح أن يظنّ أنّ دلالة الاسم غير ما يثبت عليه المعنى في النفس. ومن تأوّل الاسم على غير ما يثبت في الفكر لا يزل الاستعمال للاسم تحت الجواب من المسؤول عنه، وكذلك صرف المعنى عن دلالة الاسم لا يكون إلّا للشكّ فيما فهم وأجابك المسؤول. فإن أحد ظنّ — سائلاً كان أو مسؤولاً — أنّ الاسم الكثير الدلائل مفرد بالدلالة كقولك في الواحد وفي الموجود أو ما يثبت عليه أنّه هذه، وليس منها شيء إلّا دليل على كثير، فالسائل والمسؤول قد يلتبس عليهما الكلام كالذي فعل زينن، فإنّه ظنّ
ما هو فصل من جهة الاسم: وقبيح أن يقال إنّ كلّ ما كان مضلّلاً من جهة اللفظ فذلك من قبل الاسم: فقد تكون مضلّات لا من قبل جواب المجيب عليها، ولكن من قبل الكلمة في المسئلة وما يدلّ عليه من الكثير.
وقبيح النيّة أن نتكلّم في شيء من التبكيت والتضليل قبل أن نتكلّم في المقياس، وذلك أنّ التضليل إنّما هو مقياس. ومن أجل ذلك يجب أن نتكلّم أوّلاً على المقاييس.
قبل أن نتكلّم على التضليل الكاذب، فإنّه ما كان كذلك فإنّما هو تضليل مخيّل ومقياس مناقضة. ولذلك يجب أن تكون العلّة إمّا في المقياس، وإمّا في الأنطافاسيس وهي المناقضة (وقد ينبغي أن يزيد فيقول: ربّما كان التضليل المخيّل في الأمرين جميعاً). فقولك: «الساكت يتكلّم» — وهو تضليل وهو من الأنطافاسيس لا في المقياس. وإذا «أعطى الإنسان من كلامه ما ليس له» كان المضلّل في الأمرين. وقولك إنّ «شعر أوميروس إنّما هو شكل بدائرة» فهذا بقول مضلّ بالمقياس. وما لم يكن واحداً من هذه فهو مقياس صادق.
فلنعد إلى ما جرى عليه الكلام؛ ولننظر: من أين يكون التضليل في كلام العلوم: من الفهم أو من غير الفهم؟ وإن أحد ظنّ أنّ المثلّث كثير الدلائل وأعطى أنّه ليس مثل الشكل الذي يجتمع فيه خطّان متساويان، فما نحن قائلون: هل قائل هذا القول عند نفسه فهم، أم لا؟
وأيضاً إن كان الاسم دليلاً على أشياء كثيرة والناظر فيه لا يقسمه ولا يظنّ ذلك، فكيف تكون ضلالة ذلك عند نفسه أو كيف ينبغي أن يسأل
إلّا أن يعطى أو لا (فإن أحد سأل فقال: يجوز للساكت أن يتكلّم أو لا يجوز)، أو ذلك جائز مرّة، ومرّة ليس بجائز. فإن أجاب مجيب فقال إنّه ليس بجائز البتّة، ثمّ تكلّم الساكت، أفما أن يكون المجيب مبكّتاً عند نفسه؟ وقد يظنّ أنّ التضليل في هذا القول من قبل الاسم. 〈و〉لا محالة أنّه ليس لهذا الكلام الذي يسند إلى الفكر جنس جامع له، بل إنّما يكون بعضها من قبل الاسم. وليست كلّها مضلّات، ولا المخيّلة كلّها بمضلّات، فقد تتخيّل مضلّات من غير اللفظ كالذي يكون من العارض في الكلام.
فإن أحد حمل نفسه على القسمة فقال: إنّ «للساكت أن يتكلّم» إمّا هكذا وإمّا هكذا — فليعلم أوّلاً أنّ ذلك قبيح به، لأنّه ربّما لم يكن المسؤول متصرّفاً لأوجه كثيرة ولا فهما بالقسمة وما لم يكن مظنوناً لم تمكن قسمته. وأيضاً إنّ إفادة العلم ليست غير إثباته على غير فكر المتفكّر وعلى خلاف الجاهل الظانّ له، وإلّا فما المانع له من أن يفعل 〈ذلك〉 فيما ليس بمضاعف؟!
كقولك: ليت شعري أيّ الآحاد مساوية للأزواج في الترابيع؟! فمن الأزواج ما هو بحال كذا وكذا؛ ومنها ما هو بحال غيرها، أو كقولك: هل العلم علم واحد حاصر للأضداد، أم ليس كذلك؟ فمن الأضداد ما كان معروفاً، ومنها ما ليس بمعروف. فمن أجاز هذا ومثله كان شبيهاً بمن جهل أنّ حال المفيد للعلم غير حال المتكلّم، وأنّ الواجب على مفيد العلم ألّا يكون سائلاً، بل يكون مبيناً عمّا علم وأنّ المسألة لغيرة.
١١
〈أنواع تجاهل الردّ〉
وأيضاً إنّ الإثبات والنفي ليسا لمن لم أراد أن يبصّر بالطريق، وإنّما هو للمجرّب المتبحّر، لأنّ من شأن المجادل الامتحان والاختبار. من أجل
طريق السوفسطائيّة. فالقول يحيّر إذا لم يكن نفس صنعة الشيء؛ فذلك مقياس ممّا يرى مخيّل؛ وإن كان من نفس الشيء فذاك مقياس بعيد من قول المماراة والشغب، لأنّه ما لم يكن من نفس الشيء بالحقيقة والاستقصاء فذاك لغير تخيّل، لذلك وجب أن يكون [وجب] مطيعاً عالماً. 〈فكما〉 أنّ الظلم
فى المضاف أو الصراع إنّما نوع من أنواع الجور في القتال، كذلك المضادّ في الكلام هو ضرب من الجور في قتال الكلام: فكلّ يتناول كلّاً. وكذلك يفعل ها هنا أهل المراء: فأحد الفريقين حريص على نفس الغلبة، يبطشون بكلّ، ولذلك يقال إنّهم مشاغبون محبّون للقتال. فأمّا السوفسطائيّون فإنّهم يمارون في الكلام طلباً للفخر، لأنّ مذهبهم كما قلنا مذهب مقتبس من حكمة مخايلة ببرهان مخايل. فالمشاغبون والسوفسطائيّون كلامهم كلام
حال المشاغبات عند المجادل بمثل حال مفتعل الخطوط عند الماسح لمّا كان البتّة مشاغباً ولا ممارياً.
إلّا أنّا نرى أنّ المجادل ليس يقصد قصد جنس من الكلام محدود، ولا يثبت البرهان على شيء البتّة، لا مفرد ولا غير مفرد، ولا مذهبه مثل مذهب من تكلّم بالجهل لأنّه لا يقع جميع كلامه تحت جنس واحد. ولو أنّه أمكن ذلك، لما جاز أن يرفع الأشياء إلى أوائل محدودة، فلا تكون أوائل غيرها. من أجل ذلك لا يجوز أن تكون الصناعة مسائلة ما كانت منسوبة إلى طباع بيّنة لها، لأنّها لا تدري بأيّ الحرفين تتقوّم. والمقياس
يذهبون هذا المذهب على غير اتّفاق ولا تثبّت — وهذه صناعة الديالقطيقس وهم المجادلون المشاغبون — صار الامتحان في طريق من استعمال صناعة القياس. فمن أجل أنّ هذا كثير في جميع الأشياء، وليست حاله كحال شيء، قائم بطباعه أو جنس من الأجناس، بل إنّما حال بعضه كحال السالبة النافية، وبعضه ليس كذلك، بل حال خاصّة
جاز أن يوجد الامتحان منها والعبارة على جميع الأشياء، وأن يكون ذلك ضرباً من الصناعة، وليس كالصناعة التي تري شيئاً أو تثبت برهاناً. من أجل ذلك لا يجب أن تكون حال المشاغب من كلّ جهة مثل حال مفتعل الخطوط، لأنّ هذا ليس بمضلّل، وذلك أنّه يضع أوائل كلامه من أصل جنس محدود. فأمّا المشاغب فإنّه يبطش بكلّ ضرب ويتناول كلّ جنس.
فهذه مواضع تضليل السوفسطائيّين: وليس يعسر أن ترى للمجادل سبيلاً إلى أن ينظر في هذه كلّها، لأنّ صناعة المقدّمات قد تحصر جميع هذه المذاهب.
١٢
〈الغرض الثاني من السوفسطيقا: إيقاع الخصم في الضلال أو فيما يخالف المشهور〉
وقد قيل في المضلّات المخيّلة ما قد قيل. — فأمّا التبصير بالكذب وانسياق القول إلى شيء غير محدود (وهو الضرب الثاني من بغية المشاغبين): فإنّما يعرض أكثر ذلك من السؤال ومن الفحص بأيّة حال تكون المسئلة، إذا لم تكن عن موضع محدود كانت داعية إلى هذه ومثلها، من أجل أنّهم إذا قالوا شيئاً باطلاً إذا لم يكن على شيء موضوع محدود أو الجواب كثيراً بعد أن يكون المقول عليه محدوداً والجواب مظنوناً، فذلك يجعل سبيلاً لانسياق الكلام إلى الكذب وإلى غير محدود من الجواب. أو سئل أحد فأثبت أو نفى، فقد يستطيع أن يسوق القول إلى ما ذكرنا من المتّسع؛ إلّا أنّه بعد إثباته أو نفيه أقلّ مقدرة على التضليل والفكر في القول منه أوّلاً. فقد يطالب من فعل هذا الفعل فيسأل عمّا صار إليه أخيراً وما زال عنه ما كان من ابتداء به. فالأصل الذي يصير منه الإنسان إلى الكذب أو إلى
غير المحدود من القول ألّا نجعل مسئلته من أوّل افتتاح كلامه عن موضوع مفرد، بل يكون نائياً عن مسئلته وهو محتاج إلى التعليم: وفي الفكر ما يظهر به كذب الكاذب.
ومن أجل ذلك وجب لهذا الموضوع أن يكون من مذاهب السوفسطائيّين لأنّه يسوق إلى المتّسع في الكلام. وقد يكون في مثل هذا الفعل صواب وغير صواب كالذي قيل أوّلاً.
وإن أراد أحد أيضاً أن يقول بقول غير محمود فقد يوجد مثل هذا في كلّ فنّ من الفنون.
والأصل المقتدر لذلك من المعرفة بما توضع عليه المقدّمات. ونقيضة التي يليق فيه بشرحها أنّ الذي ليس بمحمود لم يعرض لمكان لفظة الكلمة: والمجادل قد يحتاج إلى هذا ويريده.
وأيضاً قد يكون تضليل ما بين الفكر وما يلفظ به ظاهراً، وذلك أنّه ليس ما يريدون في أنفسهم ويلفظون به شيء واحد، وكأنّهم يقولون من الكلام ما يحسن مخرجه ويريدون ما يتخيّل أنّه خير وأفضل، كقول القائل: ينبغي أن نموت كراماً دون أن نحيا حياة دنيئة، والمسكنة مع العدل خير من الغنى مع الجور والظلم، — فقد يلفظون بما يحسن مخرجه ويريدون في أنفسهم ضدّ ذلك. فمن كان كلامه على الضمير الخفيّ في النفس فلينقد إلى الظاهر في القول من محمود اللفظ، ومن كان كلامه على المحمود ممّا ظهر فليأت إلى الخفيّ من الضمير: فالشنعة في القول والذمّ قد يلزم باضطرار. وقد يلزم
الأمرين، جميعاً لأنّهم أبداً يقولون خلاف ما يظهر من ضميرهم وما خفي. وفي مثل هذا الموضع فسحة للمتكلّم بالمعجبات، كالذي يخبر به في كتاب فلاطن إلى «غرجيا〈س〉» من كلام قاليقلس: وجميع القدماء قد ظنّوا أنّه يعرض المضادّ فيما بين الطباع والناموس. ويقولون إنّ الطبع والناموس ضدّان، فالعدل من طريق الناموس خير، وليس هو من طريق الطباع بخير. فالواجب لمن أراد أن يقول بالشنعة والأعجوبة إذا سمع قائلاً يقول بالناموس أن يسمع جوابه بالطباع، وإذا آثر أن يقول بالطبع إذ يجرّه إلى الناموس فكلاهما معجب، وإن كان القول صادقاً من جهة الطباع والقول بالناموس المظنون عند الكثير. — فقد تبيّن أنّ هؤلاء القدماء إمّا متحوا قول المجيب، وإمّا أنحوه إلى القول بالشنعة والأعجوبة في الجواب وأنّ نقض السائل غير محمود على الجهتين — ومثال ذلك أن تقول: لأيّما ينبغي أن نطيع: أللحكماء
أم للآباء؟ والعمل بالإصلاح، أم بالعدل؟ والرضا بأن يكون مظلوماً، أو ظالماً؟ فالواجب أن يوجه إلى ما يضادّ الكثير والحكماء. فإن قال قائل ممّا يقول به أهل الكلام فانسياق إلى المحمود عند الكثير؛ وإن قال بما يقول به الكثير فانسياق إلى ما يقول الحكماء؛ فإنّ بعضهم يزعم أنّه من الواجب باضطرار للسعيد أن يكون عدلاً، فأمّا الذي عند الكثير فليس بجائز أن لا يكون سعيداً من أوتى ملكاً. فجميع أمثال هذه ليست بمستحسنة، والقول بها يضادّ الناموس والطباع — [هو شيء واحد]: وذلك أنّ الناموس إنّما هو رأي استحسنه الكثير؛ فأمّا الحكماء فإنّما قالوا بالطباع وبالصدق.
١٣
〈غرض آخر للسوفسطيقا: إيقاع الخصم في المهاترة〉
فما كان مستشنعاً غير محمود فمن مثل هذه الأماكن يجب طلبه. — فأمّا افتعال الهتار والهذر وما هو فقد قدّمنا ذلك وقلنا بدءاً. وغاية جميع ما كان من نحو هذا الكلام أن يفعل الهتار، إلّا أن يكون الاختلاف للاسم والكلمة، كقولك إنّ الضعف وضعف النصف شيء واحد، لأنّه أن كان ضعف النصف فجائز أن يكون الضعف ضعف النصف ونصف. وأيضاً إن جعل الذاكر الضعف لا يذكره باسم مفرد دون أن يضمّ إليه النصف، فيقول: نصف وضعف، فقد كاد أن يكون هناك ذكر ثلاثة أنصاف النصف، والضعف الجامع للنصف. ومن ذلك أن يقول يا ليت شعري أ[ن] تكون الشهوة لملذّ من الأشياء؛ وما كان كذلك فهو شوق إلى شيء ملذّ؛ فلا محالة أنّ الشهوة شوق ملذّ.
وجميع ما يكون الكلام بهذا النحو إنّما هو محصور في فنّ المضاف الذي ليست الأجناس فيه تسمّى بهذا الاسم فقط، بل وهذه بأعيانها تقال إنّها منه لأنّها ترجع إلى شيء واحد، والمسؤول إذا سئل أعطى الجواب فيها (كقولك إنّ الشوق لا يكون شوقاً إلّا لشيء، والشهوة لا تكون شهوة إلّا لشيء، والضعف لا يكون ضعفاً إلّا لشيء)؛ وكلّ ما كان معنى جوهره
بالمضاف لا بالآنية وله أحوال ثابتة، والآخر، أو ما شاكل ذلك يستدلّ عليه بما فيه من نعته وصفته
من ذلك أن يقول إنّ العدد المفرد واسط؛ وقد يكون عدداً فرداً، فلا محالة أنّه قد يكون عدداً وهو عدد واسط. وكذلك إن كانت الفطوسة عيباً في الأنف، وهو قد يوجد أنف عائب، فلا محالة أنّه يكون أنفاً عائباً.
فقد يتخيّل بها ولا يفعلون شيئاً وهم غير فاعلين، من أجل أنّهم لم يقدّموا المسئلة في أن كان الضعف يدلّ بذاته على شيء، أو لا يدلّ على شيء. فإن كان يدلّ على شيء: فعلى نفسه، أو على غيره؟ وإن كانت النتيجة توضح ذلك من ساعته، إلى أن تحيل الدلالة فيها أنّها واحدة.
١٤
〈غرض آخر للسوفسطيقا: الاستعجام〉
فأمّا الاستعجام فقد قيل ما هو أوّلاً. وقد يجوز أن تكون العجمة من فاعلها ولا يظنّ به أنّه فعلها، كالذي قال بروطاغورس إن كان الغضب والعمل مذكّرين فالفاعل «تهلك»، بالتأنيث، «تهلك» الضعف معاً استعجاماً، وليس ذلك ظاهراً لغيره. وإن كان قال بالذكورة: يهلك الغضب، والغضب
باليونانيّة مؤنّث، فقد تخيّل لكثير أنّه قد أعجم، وهو بالحقيقة لم يفعل ذلك. وقد يمكن الصناعة من الصناعات أن تفعل ذلك؛ من أجل 〈أنّ〉 كثير〈اً〉 من الكلام إذا صار إلى القياس كان ما يظهر من قياسه عجمة، كالتي ترى في مقياس التضليل.
فجميع الاستعجام إلّا يسيراً منه لا يكون إلّا بهذا النحو؛ فإذا كان التصريف غير مذكّر وغير مؤنّث وكان واسطاً فيما بينهما، فإنّ قولك «هذا» هو دليل على مذكّر من الاسم، وقولك «هذه» هو دليل على مؤنّث من الاسم. فأمّا قولك «طوطو» فهو اسم دليل على هاتين، وكثيراً ما دلّ على أحدهما، كقول القائل إذا أشار فقال: «طوطو» ما هو؟ فإن يكن المشار إليه أنثى قال أنّها أنثى؛ وإن كان غير مؤنّث ولا مذكّر كاسم العود باليونانيّة أجاب فقال إنّه كسولن. وإن كان مذكّراً أجاب فقال إنّه فلان. فجميع تصريف الأسماء المذكّرة والمؤنّثة فرقها بيّن. فأمّا تصريف الأسماء الواسطة: فمنها ما له فرق، ومنها ما لا فرق له. فأكثر ذلك إذا أعطى أحد الاسم الواسط، كان القياس فيه تضليلاً على ما ذكرنا. وكذلك يكون إذا جعل المتكلّم تصريفاً مكان تصريف، لأنّ التضليل يكون هناك من أجل أنّ هذا الفعل مشترك لتصاريف كثيرة. وذلك أنّ
«طوطو» إذا كان في موضع المذكّر دلّ مرّة على هذا، ومرّة على هذا. فما جمعت إليه: «هو»، دلّ على «هذا»، كقولك: هو هذا. وإذا جمعت إليه: «أنّه كان»، «لهذا»: كقولك: هو فلان وإنّه فلان. وكذلك يجوز في هذا النحو في الأسماء المؤنّثة وفي الآنية التي لأسمائها تصاريف: إمّا مذكّرة وإمّا مؤنّثة: «فالسرير» مؤنّث باليونانيّة، وهو عود، وهو اسم واسط بين المؤنّث والمذكّر؛ والرقّ اسم مذكّر، وهو جلد، واسمه لا مذكّر ولا مؤنّث. فكذلك يكون الفرق في الأسماء إذا ضمّ إليها: إمّا «كان»، وإمّا «هو». فبنحو من الأنحاء قد يشبه الاستعجام للمضلّات التي إذا قيلت يشبه بعضها بعضاً بنحو واحد. فكما أنّ المقاييس المضلّلة في الأسماء، كذلك حال الاستعجام في الأسماء، لأنّ الإنسان هو شيء وهو أبيض وهو اسم.
فقد تبيّن أنّ الاستعجام إمّا يتألّف من مثل هذه التصاريف التي قيلت.
وهذه ضروب كلام المشاغبة وأجزاؤها وأنواعها. وليس الفرق بينها يسيراً للسائق إلى الجهل إذا وضعت بهذه الجهة المسئلة، كالذي يكون
في كلام المجادلين، فلنقل هنا أوّلاً بعدما قيل.
١٥
〈ترتيب الحجج〉
إنّ طول الكلام ضرب واحد من ضروب التضليل؛ وذلك أنّه يصعب فهم الكلام الكثير ليكون فهماً معاً، واستعمال هذه الأحرف والتصاريف التي ذكرنا معين في طول الكلام. — وضرب ثانٍ من التضليل الاستعجال في الكلام، فإنّهم إذا أبطأوا في لفظهم قلّما يبرمون ممّا يقدّمون عليه بعمادهم. — وأيضاً الغضب والمماراة نحو آخر من التضليل، لأنّهم إذا اضطربوا قلّما يمكن التحفّظ عليهم: وأصول الغضب فيهم شيئان: أنّهم يريدون بذلك إظهار جور الجائر، ومكابرة. — وفيما بين ذلك يضعون المسائل بالتبديل: كان عند آخر منهم فيها كلام كثير، أو لم يكن؛ فإنّه يعرض للمجيب عند ذلك أن يكون محتفظاً معاً من الكثرة والتضادّ. —
〈و〉في الجملة كلّ ما قيل أوّلاً بالخفاء فذاك نافع في كلام المجادلين، لأنّ السيرة في الكلام إنّما يراد بها إدخال الجهل، وذاك من الخديعة.
أمّا الذين يتصنّعون في كلامهم فإذا ظنّوا أنّهم قد صاروا إلى الحجّة فليسألوا مسألة أنتافاسيس، كأنّ سائلها يريد المضادّة أو يجعلها مساوية لمسألتهم، لأنّ السوفسطائيّ إذا لم يعلم ما الذي يحتاج إلى أن يأخذ من كلام المتكلّم له، كان أقلّ شغباً. وأمّا إذا أعطى أحد جواباً في الأجزاء، والجواب كلّيّ، فربّما لم يسأله، ولكنّا نبني على كلامه كم قد أعطى الجواب. وكثيراً ما يظنّ مثلهم أنّه قد أعطى الجواب، ويتخيّل ذلك للسامعين لمكان ما يذكرون من قول الفخار وأنّهم لم يسألوا باطلاً. وأمّا الكلام الذي لا يدلّ بالاسم، بل دلالته عليه بالشبه، فتلك نستعملها على قدر ما يوافق من الحاجة إليها، لأنّ الشبه يدخل الدهش على السامع.
حتّى لا يدري كيف يأخذ الأفروطاسيسه. وإن كانتا اثنتين لم ندر أيّهما نختار، وعن أيّتهما نسأل. ومثال ذلك: ينبغي أن يطاع الآباء في كلّ شيء، أو يعصوا في كلّ شيء، ويطاعون مراراً في الكثير أو يعصون
قليلاً في القليل؟ وأيّ ذلك أوفق: القليل أم الكثير، لا سيّما إن كان أكثر ذلك محمولاً على الاضطرار، لأنّا إذا جمعنا بين الأضداد عند ذلك ما يظهر الأكثر والأقلّ، والأعظم والأصغر، والأجود والأشرّ.
وأكثر ما يصير من التضليل ضيم السائل من السوفسطائيّين وقرفهم من كلّموا، لأنّهم لا يؤلّفون مقياساً، ولا يجعلون آخر كلامهم على مسئلة، ولكنّهم يجعلونه بالنتيجة كمن قد ألّف المقياس فيقولون: لا محالة إنّه ليس كذا وكذا.
ومن فعلهم أن يكون سبب الكلام غير محدود، فيجيبوا على ما يظهر منه ويضربوا عن الأصل الذي هو غير محمود؛ فإن أعطى الجواب أعطى جواباً مضلّلاً، وإن لم يعط لم ير أن يعطي، فذلك غير محمود. وإن هو لم يجب ورأى أنّ الجواب واجب، فذاك منه شبيه بالتضليل.
وكذلك نرى حال المتضادّ من كلام الريطوريقيّين (وهم الخطباء)، وجلّ كلام المبكّتين المضلّلين فيما قالوا عند أنفسهم وفيما أقرّوا به من حيثيّة ما قال قائل، أو فعل أو ظنّ به أنّه متشبّه بهم أو مثلهم في أكثر ذلك، أو كلّه. — كالذي يفعل المجيبون إذا تجبّروا فظنّوا أنّهم لم يضلّوا، ويسألون فيجعلون مسألتهم أحياناً بينهم وبين من يضادّهم؛ فيثبت أنّها كذلك أو ليس كذلك لتأوّله أنّها بجهة ما من الجهات — كالذي فعل
قلاوفون الحكيم في «مجلس المشاورة». — والواجب إن أحال عن كلامه إلى مسئلة أخرى فشغب بذلك المجيب، أن يوجز في جوابه وأن يتقدّم فيسبق ويضع. — وأحياناً ربّما قلنا بغير ما وضع، فجعلناه كموضوع الكلام. وإن لم يكن أحد يأخذ بالأصل الذي كان فيه الكلام، كالذي فعل لوقفون عند
ابتداء مدح القيثار. فأمّا من استقصى المسئلة فقال في بادئ نطسها فأولئك لمّا كان يجب أن يعطوا الجواب، وقد قيل بعض ذلك، فجوابهم بما يعرض في جملة التضليل أشدّ حرزاً وتحفّظاً، وهو الأنطيفاسيس، أي القول المناقض، فيرفع الذي وضع ويضع الذي نفي وسلب. وليس العلم لمّا كان علماً لأشياء متضادّة بغير مفرد، وليس بعلم واحد، والنتيجة لا يسأل عنها بمثل ما يسأل إلّا بروطاسيسه، (وبعضها لا يسأل عنها): بل يستعمل كمقرّ بها.
١٦
〈حلّ التضليلات〉
وقد قيل في مواطن الشغب والمحاورة، وماذا تكون المسائل، وكيف تكون. فأمّا عن الجواب، وما ينبغي أن يكون، وكيف، وفي أيّ الأشياء الضرب من هذا الكلام نافع، فنحن قائلون في موضعنا هذا.
إنّ هذا الكلام نافع في الفلسفة لأمرين: أوّلهما أنّه إذا كان الشيء مشتركاً في دلالته فصّلت جهاته فاستبان كلّ واحد منها: أيّ شيء حاله، وأيّها مشابه، وأيّها غير مشابه. وذلك يعرض في الأشياء وفي الأسماء؛ فهذا أحد الأمرين الذي تعرف به منفعة هذا الكلام في فنّ الفلسفة. — وقد ينفع أيضاً فيما يتكلّم به الإنسان ويطالبه عند نفسه، لأنّ من كان سريع الانقياد يسير
الاتّصال بكلام غيره بغير حسّ يحسّه من اتّصال نفسه، أخلق به أن يصاب بذلك من نفسه فلا يحسّ به. — والضرب الثالث من منافع هذا الكلام التضرّي في جميع الفنون لئلّا يكون الناظر فيه لا خبرة له: لأنّ من كان صاحب كلام فذمّ الكلام ولم يكن عنده فصل بمن ذمّه، فقد جعل السبيل ليظنّ به أنّ ذمّه إيّاه إنّما كان للجهل به وقلّة الخبرة بالكلام، لا لطلب الصدق والحقّ.
وجواب مثل هذا الكلام وكيف التعبئة للقاء من يكلّمه بمثله ظاهر واضح، لا سيّما إن كنّا قد قلنا أوّلاً قولاً مستقيماً مبنيّاً ممّا تكون المضلّات، وفصّلنا بالكفاية كيف تكون الزيادة في المسائل. فليس من وردت عليه كلمة فاستعمل نظره فيها لبعض ما فيها من الخطأ بمساوٍ لمن سئل فاستطاع أن يجيب سريعاً: لأنّ ما علمناه فبقيناه عامّاً، ربّما جهلناه إذا غيّر عن حاله. كما أنّ في سائر الأشياء إنّما تكون السرعة والإبطاء من التضرّي فيها كثيراً من أجل ذلك، وإن نحن علمنا الشيء بعد ألّا نكون منه على رويّة ربّما أبطأنا في وقته. وقد يعرض في ذلك أحياناً ما يعرض في الكتاب والخطوط؛ لأنّا هناك إذا نقضنا ربّما لم نقدر أن نؤلّف: كذلك تكون الحال في التضليل. وإن عرفنا القول الذي منه عرض التضليل، إلّا أنّه يضيق بنا تأليفه.
١٧
〈الحلول الظاهريّة للأغاليط السوفسطائيّة〉
وكما أنّا نؤلّف المقياس أحياناً بالظنّ لا بالحقيقة، فكذلك ربّما نقضنا التأليف بالظنّ لا بالحقيقة. وفي الجملة، إنّا ننازع المبارين ليس كالمبكّتين أو المضلّلين لهم، بل نكون نشبه أولئك في كلامنا لهم، لأنّا لا نزعم أنّهم يؤلّفون مقياساً ولا يقسمون سولوجسموس. فينبغي لنا أن نصلح من
ظنونهم. لأنّه إن كان التضليل قولاً متناقضاً ليس بمؤلّف من أشياء مشتركة، فليس هناك فرق بينه وبين المشكوك فيه والمشتركة (لأنّها لا تفعل مقياساً)؛ ولكنّا إذا فعلنا فرقاً لم نفعله إلّا لما كان أنّ نتيجته تتخيّل كمضلّلة. فالواجب أن يحصل عليهم الظنّ لا الإضلال؛ فأمّا المسئلة فالتشكّك والاشتراك من الأسماء، وكلّما اشتدّ ذلك من التعنيت، فذلك يجعل التعنيت الصحيح غير بيّن، ولا يعلم به ما بين الضالّ وغير الضالّ. فلمّا كان جائزاً في آخر كلام السوفسطائين أن ينتج، فلا يبقى ما أوجب ولا يوجب ما أبقى، ولكن باشتراك من الأسماء والتشكيك: ولو صار إلى ذلك بالبحث لما كان تضليله بظاهر، لأنّه لا يعرف ما يقول إن كان حقّاً. ولو كان إذا سأل فصّل ما بين المشترك والمشكوك فيه، لما كان التضليل يبقى إذا طلب الممارون الجواب من المسئوول بـ«ـلا»، أو «نعم»؛ ولكن لأنّ السائلين لا يجيدون المسئلة، من أجل ذلك يضطرّ المجيب إلى إصلاح ما في المقدّمة من الفساد. فأمّا 〈إن كان〉 قد فصّل مسألته بالكفاية، فالمجيب عند ذلك مضطرّ إلى أن يقول بـ«ـلا» أو بـ«ـنعم».
وإن سبق إلى ظنّ أحد بضرب من الضروب أنّ الاشتراك في الأسماء مضلّل فلا سبيل له إلى أن ينجو من التصليل إن كان مجيباً. وأمّا في الذي يري، فقد يضطرّ إلى رفع الاسم الذي وضع وإلى وضع ما رفع. وقد قال أقوام إنّه ليست في ذلك منفعة لأنّهم يقولون إنّ فلاناً ملهٍّ، وذلك الفلان غير ملهٍّ، ولكن فلان ملهٍّ وفلان الآخر غير ملهٍّ وإلّا وجب القولان لواحد، فيكون الإيجاب والنفي معاً، وذلك أنّه ليست دلالتهما مساوية بحال واحدة، ومن أجل ذلك يوجب الفصل لا سيّما إذا كان ما أعطانا أحد القولين مرسلاً وكان في القول الآخر زيادة من التحديد بفلان هذا. ولو لم يكن ذلك كذلك، لما كان هناك فصل بينهما.
فلمّا كان من لم يجعل فرقاً في المشكوك من كلامه مجهولاً إن كان ضلّ أو لم يضلّ، ومن مذاهب السوفسطائين 〈في〉 الكلام السبيل في تفصيله، فبذلك قد يستبين أنّ من لم يفصّل كلامه فأجاب بجواب مبهم أنّ ذلك منه خطأ، وإن لم يكن عند نفسه بضالّ الفكر، إلّا أنّ قوله ضالّ. وقد يعرض أحياناً بعد المعرفة بما في الكلام من التشكّك الكسل عن تجربته لدهاء من استعدّ لمثل هذه المسائل لئلّا يكثر شغبهم من كلّ جهة. فإذ كان السبيل لتجربة الكلام وتفصيله، فلا يكسل عن فعل ذلك، كما قيل أوّلاً.
ولو أنّهم لم يجعلوا المسألتين مسألة واحدة لما كان تضليلاً من الاشتراك في الأسماء أو من التشكيك، ولكن إمّا كان يكون تهجيناً من القول أو غير تهجين. فما الفصل في فلان وفلان:
ملهّيين أو هما ملهّيان باسم جامع لمعنيهما وهما في غير اسم واحد. وإن كان من الصواب ألّا يعطي أحد جواباً واحداً عن مسئلتين فيكون الجواب منهما، فقد استبان أنّه لا يحسن أن يكون الجواب ساذجاً مرسلاً عن معنى فيه اشتراك، ولا لو كان ذلك حقّاً في كلّها، كالذي رأي أقوام، وذلك أنّه لا فصل في السؤال يقال: فلان وفلان كلاهما أقارب، أم ليس بأقارب؟ وحضور أم ليس بحضور؟ لأنّ المقدّمات في الأمرين كثيرة، وليس من
الحقّ أن يظنّ بهذا القول أنّه مسئلة واحدة. فقد يمكن ألوف المسائل إذا سئلت أن يجاب فيها إمّا بـ«ـلا» وإمّا بـ«ـنعم» وأن يكون ذلك حقّاً: إلّا أ〈نّه ليـ〉ـس الجواب فيها بجواب واحد، وإلّا بطل الكلام. وقد يكون أن نضع ذلك الاسم بعينه لشيء آخر. فإن كان ينبغي ألّا يجيب أحد بجـ〈ـوا〉ب مفرد عن مسئلتين، فقد استبان أنّه لا ينبغي أن يعطي أحد عن المشتركات جوابا بـ«ـلا» أو بـ«ـنعم»: وأنّه إن أعطى لم يجب، ولكنّه قال، 〈وإن كان قوله قو〉لاً جائزاً في مواضع من الكلام من أجل أنّه يغبى 〈عن〉 العارض في كلامه.
كالذي قلنا أوّلاً، فإنّ من تهجين السوفسطائيّة للكلام ما يظنّ به أنّه مضلّل وليس هو بالحقيقة كذاك، وقد يكون كذاك نقائض مظوناً بها أنّها نقائض وليست بالحقيقة كذلك. وبمثلها ينبغي أن نجيب في الأخبار لا بالصادقة، لا سيّما عند كلامنا الممارين وجوابنا لمسئلتهم المضعّفة. — فليك جوابنا إمّا في المظنون بها بأن نقول: قد تكون، فإنّه إذا كان كذلك أخلق به ألّا يكون قولاً مضلّلاً. فإن اضطرّ القائل إلى أن يقول شيئاً ناقضاً للمحمود فهناك بالحريّ يزيد: «تلك المظنونة بها». فإذا كان القول —
هكذا لم يكن مضلّاً ولا ناقضاً للمحمود. — فأمّا كيف المسئلة في الابتداء فذلك معروف ... فإذا كان القائل شيئاً يعرف باضطرار وذلك من موضع الكلام فذلك إمّا كذب وإمّا غير محمود، لأنّ ما عرض من الكلام باضطرار فذاك من موضع واحد. — وأيضاً إذا صار الإنسان إلى أحد معنيي الكلّ لا بالاسم، ولكن بالإضافة، يقال له ليس كذلك أعطيتنا وليس أخذك له كالذي قدّمت: فقد يكون التضليل من مثل هذا كثيراً.
فإذا منعنا من ذلك فلنصر إلى تعريفهم أنّهم لم يبصروا حسناً، بأن نلقاهم بالحدّ الذي قيل.
فالأسماء ما كانت مشهورة، فالمجيب عنها مضطرّ إلى أن يجيب إمّا بالحقيقة [وإمّا بالجزم] وإمّا بالقسمة: فأمّا ما كان يدخل فيه معنى غيره كالقول إذا لم يكن واضحاً أو كانت المسألة ناقصة قصيرة ففي مثل هذا يعرف التضليل. كقول القائل: هل ما كان لأهل آثانس هو قنية لهم؟ فيجاب بنعم. وكذلك يجري هذا القول فيما خلف ذلك: فالإنسان من الحيوان، وهو قنية للحيوان، فلا محالة أنّ الإنسان للحيوان، لأنّه من الحيوان؛ وفلان آثينائيّ لأنّه منهم. فقد استبان أنّ ما لفظ به أحد فلم يكن واضحاً لم ينزّل ولم يجب فيه بجواب مرسل.
فاثنان: إذا كان أحدهما ثابتاً، بالاضطرار والآخر قد يجوز فيه الظنّ، وليس نسأل عن ذلك الآخر بالاضطرار، وينبغي أن نعطي أوّلاً الأقلّ: لأنّه يعسر تأليف السولوجسموس من الكبير. وإن فعل ذلك أحد صار بعض ما يقول مضادّاً وبعضه ليس به، إن كان القول صادقاً أنّ التضليل قد يكون في شيئين أحدهما
ليس له اسم موضوع.
لأنّ طائفة منهم تقول فتكذب، وطائفة لا تكذب من ذلك ما قيل فكان مشكوكاً فيه (كقولك: نفس الحيوان فاسدة هي أو غير مائتة؟ فإنّ الأكثريّين لم يجعلوا في ذلك فصلاً)، فكذلك حال كلّ ما لم يك بيّناً، فيعلم بأيّ جهة يقال كالآراء التي عن الفكر، فقد يسمّون الظنون الصادقة آراءاً، ولكلّ قول سالب كقولك: القطر ليس بمقادر الضلع. — وقد يكون الحقّ أيضاً على جهتين، لا سيّما إذا نقل أحد الأسماء عن مواضعها: فالحقّ إذا كان غير بيّن فكيف ينبغي أن يقال، وبأيّ جهة — من أجل ذلك لا يظنّ به أنّ فيه حيلة، ومن أجل أنّ فيه جهتين لا يظنّ به كذب، ولا نقل الأسماء عن مواضعها يجعل القول غير مدفوع.
ففي جميع المسائل إذا شعر الإنسان فليسبق وليتقدّم فيقول، فإنّه إذا فعل هذا أخلق به أن يمنع السائل عن سؤاله.
١٨
〈الحلّ الحقيقيّ للأقيسة السوفسطائيّة〉
فلمّا كان النقض الصحيح إظهار كذب تأليف المقياس بأيّة مسئلة عرض ذلك الكذب، وكذلك تأليف المقياس فقد يقال على جهتين (إمّا مؤلّف فكان كذباً، وإمّا لم يتألّف فظنّ به أنّه مقياس مؤلّف)، فالنقض الذي ذكرنا إنّما هو إصلاح المقياس المتخيّل أنّه مقياس بأيّة جهة كانت فيه المسألة. فبعض ما يؤلّف من الكلام إنّما يكون برفع شيء منه وإبطاله، ونقض ما تخيّل منه أنّه مؤلّف إنّما يكون بتجربته وقسمته. — وما تألّف أيضاً واقترن من الكلام فمنه نتيجة صادقة، ومنه ما نتيجته كذب 〈وما هو كذب〉 في نتيجته قد ننقضه على جهتين: بأن نبطل شيئاً من المسؤول عنه، وبأن نري أنّ النتيجة حالها ليست كالذي قيلت. فأمّا الكلام الذي كذبه في
مقدّماته فإنّما ننقضه بأن ننزع منه شيئاً فقط، لأنّ نتيجته صادقة. فالذين يريدون نقض القول، الواجب عليهم أوّلاً أن يتفقّدوا القول إن كان اقترن أو ائتلف أو لم يقترن؟ وهل النتيجة صادقة أو كاذبة؟ لكنّما إذا رفعنا شيئاً من القول فنقضناه إمّا قسمناه فجزّأناه فصرنا إلى نقضه بذلك، وإن نحن نزعنا منه شيئاً نزعناه إمّا بجهة كذا، وإمّا بجهة كذا، كالذي قيل أوّلاً. — والفصل عظيم في نقض قول بيّن وقول مسؤول عنه غير بيّن، لأنّ تقدّم المعرفة بالشيء قد يصعب، فأمّا استعمال الفكر كثيراً فذاك أسهل.
١٩
〈حلّ التبكيتات الناشئة عن اتّفاق الاسم والمراء〉
فالتضليل الذي يكون من اشتراك الأسماء والتشكيك بعض مسائله قد تدلّ أكثر، ونتائج بعضها قد تقال بوجوه كثيرة: من ذلك 〈أنّك〉
إذا قلت إنّ الساكت يتكلّم، صارت النتيجة مشتركة على جهتين، وإذا أنت قلت إنّ الذي لا يعلم يعلم أحد المسئلتين فذاك مشكوك فيه. 〈و〉الذي على جهتين: مرّة يكون، ومرّة لا يكون، إلّا أنّه يدلّ على الجهتين، وإحداهما ثابتة والأخرى ليس بها.
فالأقاويل التي عند آخرها تكون دلالة على كثرة الوجوه إن لم يجتمع إليها الأنطافاسيس — وهو القول المتناقض — فليس تكون تضليلاً: كقولك «إنّ الأعمى يبصر» فالتضليل لا يكون بغير الأنطافاسيس — أي القول المتناقض. — والذين ليس لهم في مسائلهم اشتراك، فليس هو مضطرّ إلى إثبات جهتين: لأنّ القول ليس لهذا، ولكن من أجل هذا. فإذا كان في افتتاح الكلام اسم له معنى مشترك على جهتين، فليجب أنّها تكون بجهة كذا وكذا، ولا تكون بجهة كذا وكذا — كمثل قولك إنّ «الساكت يتكلّم»، فإنّ ذلك يكون بجهة ولا يكون بتلك الأخرى، وكقولك: ينبغي فعل ما ينبغي: فإنّ منها ما ينبغي بجهة، ومنها ما لا ينبغي بتلك الجهة، لأنّ الذي ينبغي من الأشياء له وجوه كثيرة. وإن جهل ذلك فليزد في آخر جواب المسئلة ما يصلح كقولك: هل الساكت البتّة متكلّم؟ — فيقال: لا، ولكن الساكت بجهة كذا وكذا يتكلّم. وكذلك حال القول الذي بمقدّماته أوجه كثيرة —
وكقولك: «أليس يعلمون أنّهم يعلمون»؟ فيقال: نعم! «إلّا أنّهم ليسوا كالذين علموا بجهة كذا وكذا״، لأنّه ليست الحال واحدة فيمن علم شيئاً بجهة
من الجهات ومن لم يعلمه إلّا بغيرها. وعلى كلّ حال لا بدّ من أن تكون هناك نتيجة تضادّ، ولو كان ما يتألّف القياس مرسلاً، لأن ليس ما رفع وضع، ولكنّه فعل ذلك بالاسم؛ ومن أجل ذلك لم يصر تضليلاً.
٢٠
〈حلّ التبكيتات الناشئة عن القسمة والتأليف〉
فأمّا التضليل الذي يكون 〈من〉 القسمة والتأليف فبعض ذلك بيّن، لأنّ القول إذا جزّئ أو ألّف يدلّ بذلك على غير ما كان عليه أوّلاً، فنتيجته متضادّة. فكلّ هذه الأقاويل إنّما تكون من القسمة والتأليف كقولك: «هل الذي رأيته أنت مضروب»، بدل: «كان هذا الضرب [و]ما به» [و]كان يضرب هذا إيّاه أنت رأيت. فإنّ في مثل هذا القول تشكيكاً من المسائل، إلّا أنّ ذلك من التأليف. فأمّا ما كان يقال بالقسمة فليس المعنى فيه بمضعّف لأنّ القول لا يبقى على حاله إذا جزّئ وقسّم، لا سيّما إذا كان «ورس» و«ورس» بكتاب واحد بأحرف لا خلاف فيها، ودلائلها مختلفة بالتعليم الذي يجب لها، لأنّ «ورس»: جبل، و«〈هـ〉ـورس»:
حدّ من الحدود. (ولكن الاسم في الكتاب بحال واحدة، إذ كانت الأحرف لا اختلاف فيها، فأمّا الملفوظ به فليس بواحد). ومن أجل ذلك لم يكن التضليل من قسمة الكلام بمضعّف بجهتين. ومن هذا بان لنا أنّه ليس جميع المضلّات ممّا احتمل الجهتين، كالذي قال أقوام.
فالمجيب أولى بالقسمة بأن يقول ليس: «النظر بالأعين للمضروب»، والقول عن «الأعين إنّها ترى المضروب» — بحال واحدة. وكذلك قول أوتوديمس: هل تعلم أنت في هذا الوقت كائناً بفيرا أنّ في سقلّيّة سفناً ذوات ثلاثة سكّانات؟ وهل يجوز للخيّر إذا كان إسكافاً أن يكون شريراً؟ فإذن الإسكاف الصالح إسكاف سوء؛ فيكون الصالح شرّاً. ومن ذلك أن نقول أيضاً: هل ما كان علمه محروصاً عليه فذاك علم فاضل؛ والشرّ محروص عليه؛ فالعلم به إذن فاضل، ولكن الشرّ وعلمه شرّ. ومن ذلك أن نقول أيضاً
هل من قال إنّك كنت الآن كان حقّاً، فلا محالة أنّك قد كنت. إلّا أنّ أوّلاً دلالة هذا القول تجلب هذه إذا صار إلى القسمة، لأنّ من قال إنّك قد كنت الآن قال حقّاً، إلّا أنّ ذلك ليس على نفس الآن. ومن ذلك أيضاً هل الذي قيل من القوّة وما يقدر على فعله كذلك يفعله، فأنت في الحال التي لا تضرب بالطنبور قبل قوّة ضربه فلا محالة أنّك ضارب وإن لم تضرب. إذ ليست القوّة في أن تكون حاله إذا يضرب غير ضارب في الحال التي لا تفعل به قوّة ليفعل.
وقد ينقض هذا القول أقوام بغير هذه الجهة، إذ يقولون: إن كان أعطى من قوله كالذي يستطيع أن يفعل، فليس يعرض أن يكون ضارباً في الحال التي لا يضرب، لأنّه لم يعط أنّه البتّة فاعل كالذي يستطيع أن يفعل. وليست الحال واحدة في أن يعلم كما يستطيع، ويفعل البتّة كما يستطيع. — وبهذا يستبين أنّهم لم ينقضوا هذا الباب جيّداً، لأنّ الكلام إذا كانت حاله حالاً واحدة كان نقضه واحداً. وليس يجوز ذلك النقض في كلّ كلام، وليس هو لازماً على حال للمسؤول، ولكن قد يكون أن يلزم السائل لا للقول.
٢١
〈حلّ التبكيتات الناشئة عن النبرة〉
فأمّا من التعجيم فليس يكون كلام لا فيما يكتب ولا فيما يقال، ما خلا قليلاً كقولك: هل يمكن ألّا يخرب بيت؟ فقولك: إذاً «لا يخرب البيت» قول نافٍ وهو أنتافسيس، فلا محالة أنّ البيت أنتافسيس. وهذا بيّن أنّ كيف ينقض، لأنّ دلالته ليست بواحدة إذا قيل مخفّفاً، وإذا قيل مثقّلاً.
٢٢
〈حلّ التبكيتات الناشئة عن شكل القول〉
وبهذه يتبيّن كيف يناقض من لم يجعل مخرج الكلام بما هو عليه من مخارجهم، لا سيّما إذا كان لنا في الحاصل أجناس النعوت. لأنّ أحد الاثنين أعطي عند ما سئل ألّا يكون شيء من هذه التي تدلّ على شيء، والآخر ثبت وجود شيء من المضاف أو من الكمّيّة مظنون أنّه دليل على شيء من أجل اللفظ به، كقولك: هل يمكنك أن تكون فاعلاً —
لشيء وقد فعلت فعالاً، ولكن قد يمكن في حال نظرك إلى الشيء قد نظرت إليه معاً، فلا محالة أنّه يكون شيئاً منفعلاً فاعلاً معاً. وكذلك يقال إنّ فلاناً حسّ، فإنّ ذلك دليل على مفعول وفاعل. ومن ذلك أيضاً إذا قيل: قد تكلّم، أو أحضر، أو نظر، فجميعها يشابه بعضها بعضاً: فالنظر من العين إنّما هو أن يحسّ شيئاً، وبذلك وجب أن يكون فاعلاً مفعولاً معاً. فمن أعطى أنّه لا يمكن الشيء أن يكون معاً فاعلاً وقد فعل، ثمّ زعم أنّ ذلك ممكن في النظر من العين أن يكون يرى وقد رأيت، فقائل هذا القول لم يضلّ بعد، إن لم يقل إنّ النظر من العين انفعال لا فعل، فإنّه محتاج إلى هذه المسئلة. وإن كان مظنوناً به عند السامع أنّه قد أعطى وأنّه فعل شيئاً فقوله: «يقطع»، أو «قد قطع»، وكذلك حال ما كان من هذا النحو: لأنّ ما ينقض من الكلام فالسامع يزيده وينجمه لمكان أشباهها، أو أنّها تقال بنحو واحد؛ وغير هذه قد تقال، إلّا أنّها ليست مشابهة، وإن كانت تتخيّل أنّها مشابهة لمكان اللفظ. فذلك الذي يعرض من اشتراك
الأسماء هو بعينه يعرض لهذه: لأنّ الجاهل بالضلال يظنّ أنّ الذي أثبت في المشتركة من الأسماء إيّاه يقال للاسم؛ وما كان كذلك فهو محتاج إلى المسئلة عنه إن كان عنى بالمشتركة من الأسماء شيئاً واحداً: وإن كان لم يعط ذلك فعند ذلك ما يكون في قوله التضليل.
وممّا يشبه هذا الكلام أن يقول القائل إن كان لأحد شيء فأخبر أنّه لم يكن له، فهل طرحه وألقاه؟ فالذي ألقى كعباً واحداً فقط لا يكون أن تكون له عشرة كعاب، أو ما ليس هو الآن لأحد وقد كان له أوّلاً إيّاه ألقى، وليس بمضطرّ أن يلقي ما لم يكن له أو كلّ ما كان له. ولكن السائل لمّا سأل فقال ما هو له ألحقها بالجميع، لأنّ العشرة كمّيّة. فلو كان هذا أوّل ما سئل قال: هل ما لم يكن لأحد الآن وقد كانت له أوّلاً، جميعاً ألقى؟ لما أجابه المجيب إلّا إمّا بجميعها وإمّا بشيء منها. — ولو لم يعط الإنسان ما له لأنّه ليس له كعب واحد يعطي أو لم يعط ما ليس له
ولكن كمن لم يكن له واحد. فأمّا قوله: «فقط» فليس يدلّ على مشار إليه، ولا يدلّ على صفة، أو مثل كم، ولكن كمضاف إليه، إلّا أنّه ليس مع آخر، كما أنّه لو سأل فقال: هل يعطي أحد ما ليس في ذلك، فلم يجب، لم يسأل: أيعطي سريعاً، أو ليست له سرعة؟ فأجاب: بـ«ـنعم»، لكن قد أثبت أنّه يعطي ما ليس له. وهذا بيّن أن ليس فيه تأليف مقياس، لأنّ قوله: «يعطي سريعاً» ليس على شيء مشار إليه، ولكن على الكيف والمثل، كقولك: قد يعطي المعطي الشيء لا كما كان له، أي قد كان له سرور وأعطاه بغمّ.
وهذا أيضاًً يشبه هذه الأقاويل إذا أنت قلت: هل يضرب ضارب بيد ليست له؟ أو يرى بعين ليست له، وليس عيناه عيناً واحدة؟ وقد أجاب أقوام في ذلك، فقال بعضهم إنّه يراد بهذا القول كمن له عين واحدة. وقال بعضهم إنّ الذي له أعين كثيرة يرى كمن له عين واحدة؛ ومعنى الكثير داخل في الواحد. وآخرون يبطلون المسئلة ويزعمون أنّه يمكن أن يكون في يد الإنسان ما لم يأخذ — كقولك: أخذ الإنسان شراباً لذيذاً، ففسد بعد الأخذ، فصار حامضاً. — ولكن كلّ هذا الكلام كالذي قيل أوّلاً إنّما ينقضون به على القائل له، لا على القول. فلو كان هذا نقضاً، لما كان — إذا أعطى ما يضادّ قوله — قادراً على نقضه كالذي يراه في غير هذا النحو — مثل قولك: يمكن أن يكون شيء، ويكون ألّا يكون ينقض ذلك في أن كان أعطى القول في الجملة مرسلاً، فله جماع ونتيجة. وإن لم تكن له نتيجة وجماع فليس ذلك بنقض، فأمّا التي قيلت كلّها، وإن أعطاناها قائلها، فلسنا نزعم أنّها تأليف مقياس.
وهذا أيضاً من هذا الكلام نقول: هل من كتب أخذ كتابة، والمكتوب الآن كلمة كاذبة أنّك أنت قاعد، وقد كان هذا القول حقّاً عندما كتب، فلا
بل سيكون واحد من الكثير. ومن المعروف أنّا لا نعطي نعتاً جارياً على الكلّ بشيء مشار إليه، بل نقول إنّه يدلّ على كيف أو مضاف أو كم أو على شيء من هذا النحو.
٢٣
〈القاعدة العامّة لحلّ التبكيتات الناشئة عن القول〉
وفي الجملة كلّما كان التضليل فيه من قبل الكلمة، فنقضه أبداً ممّا يضادّه أو ممّا كان خارجاً عن معنى الكلمة.
كقولك إن كان ذلك من التأليف فنقضه بالقسمة؛ وإن كان من القسمة، فنقضه من التأليف. — وإن كان من التعجيم الذي يدلّ على تثقيل اللفظ، فنقضه بالتعجيم الدليل على تخفيف اللفظ. — وإن كان باشتراك الأسماء
فنقضه باسم مخالف لمعنى ذلك الاسم؛ أي إن قال القائل قولاً 〈عن شيء إنّه〉 ليس بذي نفس فنقض قوله برفع ذلك، وألّا نفس لما يثبت له النفس. — وكذلك يجوز النقض في التضليل الكائن من التشكيك. — وفيما كان منه قبل اشتباه الكلمة بغيرها، فإنّ النقض فيه ممّا يضادّه، كقولك لا محالة إنّه قد يعطي أحد ما ليس له. فيقال لك: لا ما ليس له، بل ما له — كمن ليس له، بل الكعب الواحد فقط. ومن ذلك أن يقول: لا محالة أنّ من علم شيئاً إذا وجده أو تعلمه: إيّاه علم، ومن مشى في شيء: إيّاه وطئ، وسائر ذلك من هذا النحو.
٢٤
〈حلّ التبكيتات المأخوذة من العرض〉
فأمّا التضليل الذي يكون من العارض في الكلام فنقضه واحد في جميع الأنحاء، لأنّه ليس بمحدود متى يجوز العرض من القول على نفس الشيء المقول؛ وذلك أنّه في البعض من الكلام قد يظنّ به أنّه يكون؛ وفي البعض زغم [أن] أقوام أنّه لا يكون بالاضطرار، لأنّه لا ينبغي إثبات الكيف. — والكلام الذي يكون التضليل من العارض فيه هو هذا بقول القائل لا محالة أنّك تعلم ما أريد أن أسألك، وأنّك تعلم من الداخل علينا والمختفي منّا، وأنّ الصنم عملك، وأنّ لك كلباً هو أب. فلا محالة أنّ الذي يكون مراراً كثيرة قليلاً أنّه قليل. ففي كلّ هذا الكلام قد بان بأنّ العارض
فيه ليس يجوز معناه بالاضطرار على نفس الأمر. وإنّما يرى ذلك جائزاً فيما كان له قوام على حياله بفصل جوهريّ. فأمّا الجواد في نفسه فليست حاله في أنّه جواد وأنّه مسؤول، حالاً واحدة في أن يكون داخلاً وهو فلان ذلك، لم يجب أن أكون عارفاً بفلان وأنا جاهل بالداخل، فأكون به عارفاً غير عارف.
وأيضاً إذا كان هذا عملاً معمولاً، وهو لي، لم يجب لذلك أن يكون عملي، بل إنّما هو مباع لي أو أمر من سائر أموري.
وقد ينقض أقوام هذه المسألة بالرفع، فيزعمون أنّه يمكن الصبيّ أن يعرف وأن يجهل، إلّا أنّ ذلك لا يكون معاً، لأنّك إذا عرفت فلاناً أو علمت أنّ داخلاً دخل، وقد كان الداخل فلاناً ذاك ولم يعلم أنّه فلان بعينه، فقد علمته وجهلته، وإن كان كلّ واحد منهما في حال غير حال الآخر. — وقد قيل أوّلاً إنّه ينبغي لما كان فيه التفصيل من الكلام أن يكون إصلاحه من نفس ذلك الكلام؛ وليس يكون ذلك إلّا أن تصير
المقدّمة مخبرة عن آنية الشيء، لا عن العلم به، كقولك: هذا أب، فهو أب لك. ولكن، وإن كان هذا حقّاً في بعض الأشياء، وقد يمكن أن يعرف الشيء وأن يجهل لأنّه في هذا الموضع لا يشرك لما قيل. — وليس يمتنع القول من أن يكون فيه خطأ كثير. وليس إظهار الخطأ نقضاً له: فقد يمكن الإنسان أن يبصر كذب تأليف القياس، ويجوز ألّا يمكنه ذلك كقول زينون إنّه لا حركة. من أجل ذلك وإن رام أحد تأليف القياس لبدا أنّ ذلك مخطئ وأنّه لا إمكان فيه، وتمّ له تأليف المقياس عشرة ألف مرّة على هذا النحو، لمّا كان ذلك ناقضاً لذلك القول، لأنّ بعض القول إنّما هو إظهار كذب المقياس من الجهة التي هو فيها كذب. — وعسى ألّا يمتنع هذا من أن يكون عارضاً في طوائف من الكلام ما خلا هذا النحو، فإنّه لا يظنّ ذلك به، لأنّ فلاناً والداخل قد يمكن أن يعرف كلّ واحد منهما وألّا يعرف أن يعرف أنّه أبيض، ولا يعرف أنّه رقّاص: فبهذه الجهة
نعرف الشيء ولا نعرف، فهما جهتان. فأمّا فلان، وهو الداخل، فمعرفة ذلك قد تمكن من جهة واحدة.
وقد أعطى أولئك الذين ينقضون ويقولون إنّ كلّ عدد قليل كالأعداد التي قلنا، فهم يخطئون، وإن قالوا إنّ كلّ عدد قلّة وكثرة.
ومن الناس من ينقض الكلام بالتأليف كقولك إنّ لك أباً وابناً أو عبداً. ومعروف أنّه، وإن كان التضليل ممّا إذا قيل كانت له
أوجه كثيرة لأنّه يجب للاسم والكلمة أن تحصر معاني كثيرة: فأمّا أن يكون هذا ابناً لهذا ومولى لعبد، فهو ترتيب من العرض في الكلام، لا ممّا يقال على النحو بأوجه كثيرة. ومن ذلك أن يقول هذا لك، فيجيب بـ«ـنعم». ثمّ يقال 〈لك〉 وهو له؟ فيقول: نعم! فلا محالة أنّه. ولذلك عرض في الكلام أنّ كذلك وألّا يكون — يكون.
ومن ذلك أن نقول: قد يكون من الشرور خير، لأنّ العقل عارف بالشرور. ومن ذلك إذا قيل إنّ هذا لهذا لم يكن ذاك ممّا تكثر فيه الأوجه، بل إنّما توجد حدة له، ولكان يكون الإنسان مع المقولة بكثرة الأوجه (إذ نزعم أنّه حيوان؛ إلّا أنّه ليس للأشياء شيء؛ فالشيء، وإن رفع بالقول إلى الشرّ، فليس يجب لذلك أن يكون من الشرّ)، بل ذاك من الشرّ بالحقيقة إذا رفع إلى فاعل فلم يقل بالقول المرسل المخيّل. — مع أنّه قد يمكن بجهتين أن يظهر الشيء من الشيء كخير. — لا في مثل هذا القول بل فيما كان عبداً وهو صالح، فإنّ الأكبر أبداً إنّما هو ثمّ اسم الشرّ، وعسى ألّا يكون هكذا، لأنّه إن كان صالحاً لهذا فليس من الواجب أن يكون صالحاً لذلك. ولسنا إذا قلنا إنّ الإنسان للحيوان كان ذلك ممّا يقال
بجهات كثرة، فقد نقول قولاً وندلّ به على شيء. وإن بقينا منه شيئاً لم يجب بذلك أن يكون مقولاً على جهات كثرة كقولنا: نصف بيت من الشعر، فإنّا ندلّ 〈به〉 على كذا وكذا، وذاك أنّ المعنى مرسل على غير تحقيق.
٢٥
〈حلّ التبكيتات الناشئة عن استعمال الحدود المطلقة أو النسبيّة〉
فأمّا إذا كان متى وأين وكيف فذاك مضاف، وبعضه ليس بمرسل. ويجب تفقّد نتيجته كيف حالها في التناقض إن كان يمكن عرض شيء من هذه لها، لأنّ المتضادّة والمختلفة في الإثبات والنفي لا يمكنها أن توافي 〈في〉 شيء واحد. ولا يمتنع في الجملة من أن يكون فيها بعض هذه: إمّا كيف وإمّا أين وإمّا متى، من أجل ذلك القول ما كان فيه كيف أو متى. فلم يكن في ذلك بعد تضليل. وذلك إنّما يعرف من النتيجة وحالها في التناقض.
وهذا لجميع ما يشبه هذا الكلام، ونقول إنّه لا محالة هل يمكن وجود ما ليس، فقد يرى أنّه يوجد شيء ليس بموجود. فعلى هذا النحو: الموجود
وربّما لم يكن بخير. فقد صار الشيء خيراً [أ] وغير خير معاً. وليس يمتنع من أن يكون الشيء بجهة خيراً، وبجهة غير خير، أو في وقت من الأوقات إلّا في الآن، أو في مكان ما، لا في غيره. ومن ذلك أن يقول إنّ ما لا يريده الحكيم فذاك شرّ؛ وليس يريد الحكيم إطراح الخير، فالخير بذلك شرّ؛ وليس يستوي أن يقول القائل إنّ الخير شرّ وإن إطراح الخير شرّ؛ وعلى هذا النحو يجوز الكلام في السارق —
وليس لأنّ السارق شرّ وجب أن يكون أخذ الشيء شرّاً، لأن ليس كلّ أحد يريد الشرّ؛ ولأخذ في نفسه خير. ومن ذلك أنّ المرض شرّ، وليس استدفاع المرض بشرّ. ونقول أيضاً لا محالة أنّ العدل وما كان بالعدل مقدّم على الجور وما كان من الجور، إلّا أنّ منيّة الإنسان بأن يكون مظلوماً مقدّمة على المنيّة بعدل. — ويجب بذلك أن يكون الظلم مقدّماً على العدل؛ ولكن إذا كانت المنيّة على جهة ظلم أصلح للمبتلي بها من المنيّة بعدل، 〈لم〉 يجب لذلك أن يكون الجور مقدّماً على العدل، بل العدل في الجملة مقدّم. وليس يمتنع أحد من أن يكون ميّتاً بظلم اللّه، والظلم عنده خير من العدل. ومن هذا النحو أيضاً أن يقول إنّ ما حكم به الحاكم فكان عدلاً بظنّه
والحكومة في نفسها باطل، فذاك يجب ثباته في السنّة. فأن يوجب ذلك فلا محالة أنّ الشيء في نفسه جور وباطل وعدل وجور، إلّا أنّه لا تمتنع تلك الحكومة من أن تكون بجهة من الجهات عدلاً في جملة الحكومات. وكذلك قد تكون أشياء جائرة في نفسها ويقال أنّها عادلة لمكان ما قيلت عادلة كمثل المتناقضين. فالقول لا يجب لذلك أن يكون نقضه بالفعل. من أجل ذلك إذا كانت المقولة عليها جائرة لا يمتنع القول من أن يكون عدلاً وإن لفظ بالجور، لأنّه يقول كلام حكاية للظلم زعت للعدل.
٢٦
〈حلّ التبكيتات الناشئة عن تجاهل المطلوب〉
فأمّا الذين يجعلون التضليل في كلامهم غير حال التي ذكرنا أوّلاً فلنفحص عن نتيجتهم فيه كيف حالها في التناقض عند نفسها وفي أن يثبت ذلك لها وأن يكون على حال واحدة وزمان واحد. وما قد قيل في ابتداء المسألة فلا يقرّنّ، لأنّه لا يمكن الشيء أن يكون ضعفاً وغير ضعف، فيه مقارنة. وجميع هذا ينحلّ فيه فيقال هكذا أيّ شيء قد صار التضليل ولكن يقال قولاً وليس الكلام كقولك: أرأيت من عرف كلّ واحد أنّه واحد كان عارفاً بالأشياء؛ والجاهل أيضاً كذلك. فالإنسان إذا عرف
〈عن〉 سعيد أنّه سعيد ولم يعلم أنّه ملّهٍ فقد علمه وجهله. ويقول أيضاً إنّ ذا أربعة أذرع أعظم من ذي ثلاثة أذرع؛ وقد يكون من ثلاثة أذرع أربعة أذرع بالطول. والأعظم إنّما هو أعظم ممّا كان أصغر منه فلا محالة أنّ الشيء بعينه أعظم من نفسه وأصغر.
٢٧
〈حلّ التبكيتات الناشئة عن المصادرة على المطلوب الأوّل〉
فأمّا التضليل الذي يكون في ابتداء السؤال إن كان ظاهراً عند —
الفحص فلا يعطى جواب؛ لا وإن كان الحقّ مظنوناً وإن ذهب على السامع ولم يفطن به لمكان الفكر فيما أشبه هذا الكلام، فليردّ على السائل كمن لم يضلّ، لأنّ الضلال قد يكون بغير ما في الابتداء. ثمّ من بعد ذلك ما أعطي من شيء، الفكر مؤلّف على التضادّ.
٢٨
〈حلّ التبكيتات الناشئة عن فساد اللزوم〉
فأمّا التضليل الذي اتّفقوا عليه وضرب من اللاحق بالكلمة، فليشرح ذلك من نفس الكلام، وذلك اللاحق يكون بجهتين: إمّا كلحاق الكلّ للجزء، [و]كقولك: إنسان، فإنّه يلحق به الحيوان، وذلك مسلّم لقائله. فيكون شيء يلحق بشيء. وأمّا كان ذلك في إيجاب، فيلحق الشيء بما ناقضه وخالفه، كقول مالسّس الحكيم: إنّه إن كانت أوّليّة لما قد كان، 〈فإنّ〉 〈ما〉 لم يكن يجب ألّا تكون له أوّليّة؛ من أجل ذلك إن لم يكن كوّنت السماء، فهي سرمديّة. فليس يكون هذا، لأنّ اللاحق ها هنا على الخلاف.
٢٩
وكما ألّف مقياساً؛ فإن زاد فيه فلينظر فيه إن كان يغدو على ما زيد فيه حالة واحدة في ألّا يكون ممكناً. ثمّ بعد ذلك فليشرح وليقل كما أعطي، لا كمظنون به؛ بل بقدر القول. فأمّا ما يصير إليه من الاستعارة والتأويل، فذاك ليس على الكلمة أو القول.
٣٠
〈حلّ التبكيتات الناشئة عن جمع المسائل الكثيرة في مسئلة واحدة〉
فأمّا الذين يجعلون المسائل الكثيرة مسئلة واحدة فينبغي [من] تفصيل ذلك من ساعته ومن ابتداء المسألة، لأنّ المسألة الواحدة بجواب واحد ولا جوابات كثيرة لمسئلة واحدة، بل واحد على واحد: إمّا بإثبات وإمّا بنفي، كالذي كان في الأسماء المشتركة؛ فربّما كان هذا موجوداً في كليهما، وربّما لم يوجد إلّا في أحدهما؛ من أجل ذلك من أجاب بجواب مبسوط مرسل لمن لم تكن مسئلته مبسوطة، لم يعرض له شيء من التضليل. وكذلك يكون في هذه إذا كانت مسائل كثيرة على جواب
واحد أو جوابات كثيرة على مسئلة واحدة يعرض فيها تضادّ. فأمّا إذا قيل شيئان فكان لأحدهما شيء وليس للآخر مثله، أو قيلت كثيرة على كثيرة، فجاز مرّة أن يوجد شيء لكليهما مرّة، ومرّة لا، فمن مثل هذا يجب التحفّظ — ومثال ذلك الكلام أن يقول إن كان بعض الشيء جيّداً وبعضه رديئاً، فأنت صادق متى قلت إنّ ذلك الشيء جيّد ورديء، ولا جيّد ولا رديء، لأنّه ليس أحدهما للآخر، فيجب بذلك أن يكون الشيء جيّداً ورديئاً، ولا جيّداً ولا رديئاً. وأيضاً إن كان الصالح يصير صالحاً ويصير الطالح طالحاً، فهما لشيئين غير متساويين، وهما في أنفسهما متساويان، فيجب لذلك أن يكونا متساويين وغير متساويين. وقد يقع هذا الكلام في —
نقائض غير هذه، كقولك باليونانيّة: اثنان، وقولك جميع. فإن كان كلّ واحد من هذين يدلّ على كثير، وليس هما شيئاً واحداً ما خلا أسماء تعرف فيه: إمّا الإثبات وإمّا النفي. وهذا فليس بتضليل.
٣١
〈حلّ التبكيتات المؤدّية إلى الهذر وتحصيل الحاصل〉
وقد استبان أنّ ما لم تكن المسئلة الواحدة مسائلة كثيرة، بل واحدة، فالجواب واحد: إمّا بنفي وإمّا بإثبات، أنّه لا يعرض هناك شيء لا إمكان فيه. فأمّا الكلام الذي يؤدّي بأخرة مراراً إلى شيء واحد، فمعروف أنّه لا يعطى فيه شيء من المضاف الدالّ على شيء إذا فصّلت نعوته كقولك: الضعف، فإنّه ليس بضعف بغير ضعف أو نصف؛ والعشرة إنّما هي عشرة آحاد؛ وعلى الواحد تقال العشرة؛ والذي يفعل داخل في الذي لا يفعل؛ وفي الجملة، الوضع في الرفع. إلّا أنّه من قول القائل إنّ هذا ليس بأبيض — لا يثبت أنّه أبيض. فأمّا الضعف فلعلّه لا يدلّ على شيء، كما أنّه ولا في النصف دلالة، وإن دلّ لم يدلّ على شيء حاله حال واحدة بعد الاجتماع. والعلم ليس في الصورة، كقولك إنّ الطبّ علم مشاع جامع، وإنّما الطبّ علم المعلوم. — وذاك لا يوجد إلّا في الواحد، فأمّا التي تنعت نهاية به تعرف فهذا قولنا فيها إنّه ليس منها في الكلام شيء مفرد بدلالته دون ما هو داخل فيه، لأنّ قول القائل عميق في الحنية، فذاك تجمع دلالته ما في الأنف من الفطوسة، وما في الساق من العجوجة. وليس يمنع ذلك الشيئين من أن يكون أحدهما مضافاً إلى الأنف، ومضافاً إلى الساق. ولا فرق في أن يقال أنف عميق أو أنف
أفطس، ولسنا نقول هذه الكلمة بقول من شكّ، وإلّا فهي كذب، لأنّه ليس الفطوسة أنفاً عميقاً، بل إنّما هي عارض عرض في الأنف. فإذن ليس بقبيح أن تقول: الأنف الأفطس هو الأنف الذي له عمق.
٣٢
〈حلّ التبكيتات المؤدّية إلى السولوقسموس〉
وقد قيل أوّلاً في التضليل العارض من عجمة الكلام، ونقض من شرحنا إيّاه، لأنّ اشتباه هذا الكلام، إنّما نريد به مثل قولك: يا هذا.
ليس ما نقول حقّاً وهو ذاك، وقد قلت: «عود»، فلا محالة أنّ ذاك عود. فالعجمة في هذا القول أنّ ذاك مذكّر بكلام اليونانيّين، والعود لا مذكّر ولا مؤنّث، فقيل العود وهذه حاله مع مذكّر من الأسماء، فوجبت بذلك العجمة. ومن ذلك أن يقول: ذاك هو هذه، فـ«ـذاك» مذكّر، و «هذه» مؤنّثة. فلمّا لم تكن المسئلة على إعراب اليونانيّين لزمتها العجمة. وتقول أيضاً: أنت تعرف هذا؟ وهذا حجر، فأنت تعرف حجراً. وبذلك المعرفة به إن عارفا به، فلك معرفة الحجر، فأنت لا محالة عارف بالحجر. وكلّ ما كان مثل هذا الكلام فالعجمة تشوبه، وليس تأليفه استعجاماً. وممّا قيل أوّلاً فقد تبيّن بتخيّل فيه بالعجمة وكيف ينبغي أن يكون الجواب فيه.
٣٣
〈مراتب الصعوبة في حلّ التضليلات〉
وقد ينبغي أن تعلم أنّ من الكلام كلاماً تسهل معرفته، ومنه ما تضعف معرفته. فكثيراً ما يكون الكلام كلاماً واحداً فيضلّ السامع له في وجوه كثيرة. فمنه ما يكون من اللغة، ومنه ما يكون من العارض. وقد يكون
الاتّصال من غير هذه الجهة، أي من نقل الأحرف عن مواضعها، فلا تكون حال الكلام بما كانت عليه، ولا كالاتّصال الذي يكون من اشتراك الأسماء، فإنّ ذلك النوع أسخف أنواع الاتّصال؛ ومنه ما هو معروف عند كلّ من سمعه، لا سيّما جميع الكلام الذي يضحك منه ما خلا يسيراً، كقولك: رجل كان يؤتى به على سلّم بكرسيّ، وكان متوثّباً على سنان الرمح؛ ومن ذلك أن يقول أيّ البقرتين تضع من مقدّمها، وليست منهما واحدة تضع من مقدّمها، بل كلتاهما تضع من خلفها. ومن ذلك قول القائل: إنّ 〈ربح〉 الشمال صافية وأكثر هذا الكلام بهذا النحو معروفة سخافته. ومنه ما يغبى على المهرة. وعلامة ذلك أنّهم ربّما ناقض بعضهم بعضاً في الأسماء. من ذلك أنّهم يسألون فيقولون —
إذا قال قائل هو، وقال أيضاً واحد، فهذان دلالتهما واحدة في كلّ معنى، أو كلّ واحد له دلالة غير دلالة صاحبه، فقد ظنّ أقوام أنّهما يدلّان على شيء واحد، وظنّ آخرون ما قال زينون وپرمنيدس أنّه بقدر ما صارت له جهات الواحد كثيرة، بقدر ذلك ينصرف الذي هو لأوجه كثيرة؛ وكذلك سائر الكلام: منه ما سهلت معرفته ما يعرض فيه وينصرف له، ومنه ما عسرت معرفته. والمعرفة في أيّ جنس هي، وهل يجب أن يكون مضلّلاً أو غير مضلّل؛ وأصعب الكلام ما كان مضطرّاً إلى الشكّ فيه، لأنّ ذلك من الكلام وهو عويص، والشكّ شكّان: أحدهما فيما ألّف من الكلام؛ فإنّ ذاك إذا رفع منه أحد شيئاً كان مشكوكاً فيه؛ والشكّ الآخر يكون في أهل الشغب عند مماحكة بعضهم بعضاً: كيف ينبغي أن يقول القائل مقدّمته؟ من أجل ذلك القصاص من الكلام في المقاييس يوجب الفحص 〈جدّاً〉. والقصاص في المؤلّف من الكلام هو الذي يكون من الذي يظنّ كثيراً أنّ المحمود منهما يرفع —
ويوضع، لأنّ هذا القول، وإن كان قولاً واحداً، إذا بقيت مناقضة مقدّمته، كان تأليفه واحداً، ومن أجل ذلك تجب المسئلة والحيرة فيه بالاضطرار. فهذا القول خاصّة وما كان مثله مضاء وهو الذي يجعل النتيجة مساوية للمسائل. — والقول الذي في مرتبة ثأنية من الصعوبة هو الذي يجعل النتيجة من الكلّ شبيهة به؛ فإنّ هذا القول أيضاً يلجئنا إلى أن نسأل في أيّ المقدّمتين يبطل. وذلك عسر صعب: لأنّ إبطال أحدهما واجب، فأمّا أيّهما يبطل، فليس بمعروف. — فأمّا الصعب من كلام أهل الشغب ألّا يكون استبان نصف أو كلّ ما ألّف منه المقياس أو لم يؤلّف؛ وإن كان تأليفاً: أمن كذب تأليفه، أم من قسمته؟ ومن أجل النتيجة كان ذلك، أو من أجل المقدّمات؟
وربّما كان القول الذي فيه تأليف جاهلاً أهلاً أن يحتقر إذا كانت مقدّماته إمّا كاذبة وإمّا غير محمودة؛ وربّما لم يستأهل التهاون، لأنّه إذا كان ينقض شيء من المسائل التي كهذه إمّا عند سامع القول، وإمّا من قائله، فلم يستدرك ذلك ولم يؤلّفه، فذلك المقياس جاهل. وإذا كان ذلك لا بضدّ القول، بل من الذي خارج من القول، فليس القول بأهل أن يحتقر، لأنّ القول مذهب ليّن، والسائل قد سأل ولم يجد. فكما أنّه
يجوز لنا مرّة أن ننقض عند القول ومرّة عند المسائل أو المسئلة؛ وربّما لم يجز ذلك ولا عند واحد منهما، بقدر ذلك يجوز لنا أن نسأل وأن نؤلّف بقدر وضع الكلام والمجيب فيه، وبقدر الزمان، إذا أمكننا النقض فيه.
〈خاتمة عامّة〉
هذا ما قلنا في أنواع المضلّات، وكم من جهة يكون ذلك في أهل الكلام، وكيف يرى القائل به كاذباً ويلجئه إلى أن يصير إلى غير محمود من القول، ومن غلب أيّ الأشياء يعرض الاستعجام، وكيف يجب أن يجعل السؤال، وما مراتب المسائل، ولماذا ينتفع بمثل هذا الكلام؛ وفي الجملة، كيف كلّ جواب، وكيف ينتقض الكلام ويعرف الاستعجام. فإذ قد فرغنا من ذلك كلّه وذكرنا ما كان من وعدنا في أوّل الكتاب، فلنقل في ذلك شيئاً يسيراً، ثمّ لنختم الكتاب.
فقد كنّا مشتاقين إلى أن نجد قوّة مؤلّفة للكلام —
من أجل الذي يضع مقدّماته من الموجود كمن الظنون، لأنّ هذا فعل الديالقطيقيّين وهم المجادلون — أي بالبلاغة — وكذلك فعل الزابرين للكلام الممتحنين له. فلمّا كانت المسئلة على من قال بهذا القول لمكان محاورة السوفسطائيّين إيّاه أنّ استطاعته ليست في أن يأخذ محنة الكلام بالبلاغة فقط، بل حاله فيها كحال من يعلمه. ومن أجل ذلك قلنا إن ليس القول
وحده فعل الصناعة والمقدّرة على أخذ القول واستيعابه، لكن فعلها، كيفما كان الجواب، أن يحفظ وضع الكلام فيجيب بما يشبه ذلك النوع من المظنون. وقد أخبرنا فيما مضى من كلامنا بعلّة ذلك، وأنّ سقراطيس لذلك كان يسأل الجميع ولم يكن يجيب، وذلك أنّه كان مقرّاً بأنّه لا يعلم. وقد قيل أوّلاً من أيّ الأشياء يكون هذا، ومن كم، ومن أين نصير إلى حدته، وكيف السؤال، ومن أيّة مسئلة وجوابها، وبعض تآليف المقاييس، ومن سائر ما كان لهذه الصناعة من الكلام، وأتينا مع ذلك أيضاً على جميع المضلّات، فقد صرنا إلى غاية ما أردنا من كتابنا هذا.
ويجب ألّا يذهب علينا ما عرض، وذلك أنّ كلّ ما وجده أحد من الكتب لا يعدو أن يكون إمّا موجوداً من آخرين قد عنوا به فألّفوا أجزاء من أجزائه فزاد عليه القابلون له منهم أخيراً. وما كان من الأصل موجوداً، وما كان كذلك أقلّ ما عاد أنّ الزيادة فيه، وذلك أكثر منفعة من التي قد زيد فيها أخيراً. والابتداء في كلّ شيء هو عظيم. ومن أجل ذلك صار عسراً مستعصباً، لأنّه بقدر حاله في القوّة وشدّتها بقدر ذلك صار صغيراً في قدره فاستصعب وجوده. ومتى ما وجد أحد الابتداء، سهلت الزيادة فيه وتمام ما بقي منه. وقد يعرض هذا في كلام الخطباء، وفي سائر الصناعات الأخر. فالذين وجدوا الأوائل فأقلّ ما قالوا ووضعوا؛ وأمّا الذين اتّبعوا الآثار 〈فقد〉 سمعوا فأحسنوا، وذلك أنّهم تناسخوا العلم من كثير، فزادوا فيه جزءاً
بعد جزء فأتمّوه بذلك. فطسيس أخذ من فعل هذا الفعل بعد من تقدّمه؛ وبعد طسيس، تراسوماخوس؛ وبعد تراسوماخوس، ثيادروس، وكثر القول أجزاءاً كثيرة. ومن أجل ذلك ليس بعجب أن تكون للصناعة كمّيّة كبيرة.
فأمّا صناعتنا هذه فلم يكن منها شيء موجوداً مستعملاً، ومنها شيء موجوداً لا مستعمل، بل لم يكن منها شيء موجوداً البتّة. فالذين يتأدّبون بأن يضعوا أنفسهم للمراء والمحك فأدبهم شبيه بصناعة جرجيس.
لأنّ صناعة جرجيس الأدب، من كلام الخطباء، وصناعة الآخرين كلام المراء أو المحك. والذي كان يدعوهم إلى المراء أنّ أكثر ما كانوا يظنّون أنّهم يستعملون من الكلام هذين الضربين. لذلك كان يكون التعليم سريعاً، إلّا أنّه لا منفعة فيه؛ وذلك أنّهم لم يكونوا يعلمون صناعة، لكن كانوا يؤذنون بإفادة شيء للصناعة، كمن زعم أنّه يفيد علماً لئلّا تحفى الأقدام ثمّ لم يعلم كيف صناعة الحذاء ولا من أين مكتسبها؛ ولكنّه أضرب عن ذلك وأفاد علم قوالب الحذاء وكثرة أنواعها. فالذي فعل هذا الفعل قد أفاد شيئاً معيناً على الحاجة، ولم يفد صناعة.
وقد قيل قديماً في كلام الخطب كثيراً. فأمّا في السلجسموس وتأليف المقدّمات فلم يكن لنا قديماً شيء، بل قد أقمنا زمنا مجتهدين في طلب ذلك، بل قد ظهر لكم فيما تبحّر ثمّ إنّ ما وجدت له أوّليّة من الصناعات كان أفضل من سائر الصناعات التي تمّت وزادت بالتناسخ.
فواجب على جميع من حضر من السامعين أن يعذروا على ما لم يوجد من الصناعة، وأن يشكرونا شكراً عظيماً على الموجود منها.
][ تمّ كتاب أرسطوطالس المسمّى «سوفسطيقا» في التبصير بمغالطة السوفسطائيّة — نقل الناعميّ. وللّه على ذلك الحمد والمنّة. قوبل به وصحّ ][