Galen: Ad Glauconem de methodo medendi (Therapeutics to Glaucon)
Work
Galen, Ad Glauconem de methodo medendi
(Τῶν πρὸς Γλαύκωνα θεραπευτικῶν)
English: Therapeutics to Glaucon
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator: Ḥunayn ibn Isḥāq
Translated from: Syriac
(Close)
Date:
between 845 and 850
Source
G =
Princeton, Princeton University Library, Garrett 1G (12),
281v-342v
A =
Istanbul, Süleymaniye, Ayasofya 3701 (4),
102r-181v
Text transcribed and collated by Uwe Vagelpohl based on the above manuscripts.
Download
gal_adglauc-transl-ar1.xml [294.70 KB]
المقالة الأولى من كتاب جالينوس إلى اغلوقن في شفاء الأمراض
(١) قال جالينوس: إنّه ليس ينبغي للطبيب أن يقتصر على معرفته بالطبيعة التي تعمّ جميع الناس يا اغلوقن دون أن يعرف الطبيعة التي تخصّ كلّ واحد من الناس. وقد سبق أبقراط فأنذر بالصواب في ذلك بدءً وعنينا نحن بذلك في نفس أعمال الطبّ كما قد علمت عناية بالغة. إلّا أنّه ليس يمكن أن يوصف في الكتاب أمر الطبيعة التي تخصّ كلّ واحد من الناس كما يمكن أن يوصف أمر الطبيعة التي تعمّ جميع الناس لكن الأمر في الكتاب على ضدّ الأمر في العمل في أشياء كثيرة وخاصّة في هذا الأمر الذي قصدت إلى أن أكتب إليك فيه وذلك أنّك سألتني أن أرسم لك طريقاً مجملاً في التأتّي لشفاء الأمراض. وذلك أنّه إنّما يلتأم بصفة كيفيّة كلّ واحد من الأشياء التي نعالج بها وكمّيّتها والجهد في استعمالها والأمر الذي هو أغمض من هذين وأعسر منهما تعرّفاً وهو الوقت وذلك لأنّ أمره ضيّق شديد الضيق. وقد وصف هذا من أمره ذلك الرجل الذي قادنا إلى جميع الأمور المحمودة. ولهذا ما قد ترى كثيراً من أفاضل الأطبّاء فضلاً عن أخسّائهم يخطئون في
تعرّفه. وقد وصف أيضاً ذلك الرجل في بعض كتبه من أمر الكمّيّة أذ قال إنّ أمر الكمّيّة لعظيم إذا حسن تقديرها بحسب القوّة.
فإذ كنّا قد نرى أنّ وقت ما يتعالج به وكمّيّته من أبلغ الأشياء موقعاً في حسن التأتّي لمداواة الأسقام وكان أمر كلّ واحد منهما لكلّ واحد من المرضى خاصّيّاً وكان لا يمكن أن يوصف شيء من الأمر الخاصّ بالقول اضطررنا إلى أن نقتصر في الكتاب على صفة الأمر العامّ وإن كانت منفعته دون منفعة معرفة الأمر الخاصّ. وذلك أنّا قد نتولّي كثيراً علاج قوم من المرضى لم نعرفهم في صحّتهم فيجب إذ كنّا لم نعرف أحوالهم في اللون والسحنة ومقدار الحرارة الطبيعيّة ونبض العروق ألّا نصل إلى الوقوف الصحيح على مقادير أمراضهم. وذلك أنّ كلّ واحد من الأمراض إنّما مبلغ مقداره وعظمه بحسب مقدار خروجه عن الأمر الطبيعيّ وإنّما يصل إلى أن يعلم مقدار خروجه وبعده عن الأمر الطبيعيّ من عرف الأمر الطبيعيّ على الحقيقة والاستقصاء فقط. فإذا لم نصل فيهم إلى معرفة هذا المقدار التجأنا إلى تعرّف الأمر العامّ حتّى لا نتحيّر أصلاً. وللحاذق في هذا الموضع أيضاً فضل على الجاهل.
وقد وصف بقراط هذا الفضل أيضاً قبل جميع من عرفناه ثمّ فسّره وشرحه من أتى بعده ممّن فهم كتبه. وأحدهم منيسيثاوس من أهل أثينة وقد كان هذا الرجل قويّاً في جميع أمور الطبّ ولم يكن أحد يتقدّمه
يستعمل تقاسيم رديئة.
فأمّا من سلك هذا الطريق من التقسيم في جميع الأمور الطبيعيّة والخارجة عن الطبيعة واستخراج الاستدلال على ما يحتاج إليه من جميع ما يخرج من القسمة فهو وحده بمقدار طاقة الإنسان يصل إلى التأتّي للبرء من غير خطاء ويقوى على شفاء من عرفه من المرضى في صحّته بأجود ما يقوى عليه غيره وعلى شفاء من لم يعرفه في صحّته بأقرب مّما يمكن أن يداوى به من طريق مداواة من قد عرفه في صحّته. وذلك أنّه إن حدّد أوّلاً الاختلاف بين الناس في أسنانهم ثمّ من بعد ذلك الاختلاف في المزاج والقوى وسائر ما في أبدان الناس أعني الألوان ومقادير الحرارة واختلاف السحن وحركات النبض والعادات والمهن وأخلاق النفس ثمّ أضاف إلى ذلك الاختلاف بين الذكر والأنثى وما ينبغي أن يحدّد من أمر البلدان وأوقات السنة وسائر حالات الهواء المحيط فإنّه يقرب بذلك من معرفة طبيعة المريض التي تخصّه. وقد حدّدنا بعض هذه الأمور في كتابنا في النبض وبعضها في كتابنا في المزاج وحدّدنا أيضاً أصناف جميع الأمور الخارجة من الطبيعة على أنواعها وأجناسها واستقصيناها عن آخرها في كلامنا في العلل. وأنا جاعل الآن كلامي كلّه في المرضى على أنّا قد عرفنا طبائعهم ووقفنا عليها وقوفاً صحيحاً قبل حدوث الأمراض عليهم. وتفهم عنّا ما يفهم من أمر أولئك أمر سائر المرضى الذين لم
نعرف طبائعهم قبل حدوث الأمراض عليهم عن آخرهم. وذلك أنّه ليس يعسر استخراج ما لم يحدّد ممّا قد تكامل تحديده.
(٢) وأنا مبتدئ بذكر الحمّيات لأنّي رأيت أكثر قصدك في مسألتك إيّاي أن أصف لك الطريق في مداواتها. وأذكر أوّلاً منها ما هو أبسطها وهي الحمّيات التي سمّاها أبقراط فيمارس ومعنى ذلك حمّى يوم. وهذا الصنف من الحمّيات هو الحمّيات التي تكون من التعب ومن الغمّ ومن الإكثار من شرب الأنبذة ومن الغضب والغيظ وسائر هموم النفس الشديدة. والحمّى أيضاً التي تكون من ورم الغدد التي في الأربيّة والإبط هي من هذا الجنس إلّا أن تكون من غير عقر ظاهر فإنّها إذا كانت من غير عقر ظاهر ارتبث بها ولم يتوهّم عليها من السلامة مثل ما يكون مع حمّى يوم. والسهر أيضاً قد يجلب كثيراً هذه الحمّى البسيطة السليمة وربّما جلبها أيضاً البرد وحرّ الشمس وكلّ ما كان من الحمّى من هذا الجنس فهو من أسهل الحمّيات انحلالاً وذلك أنّه إنّما يحتاج فيها إلى أن تبادر بأصحابها إلى الحمّام ويلزمون سائر ما اعتادوه من التدبير بالمطعم والمشرب وغيره بعد سكون الحمّى. فأمّا القوم الذين ينتظرون بأصحاب هذه الحمّى الثلاثة الأيّام المشهورة ولا يطعمونهم فيها ويلزمونهم فيها الحمية من كلّ شيء فكثيراً يكسبون بذلك أصحاب هذه الحمّى حدّة فيها وصعوبة بهذا التدبير ويضيفون إلى هذا أنواع أخر من الخطاء كما قد ترى أكثرهم
يخطئون على المريض في كلّ دخلة يدخلون عليه فيحدثون له مرضاً مكتسباً.
فالأمر في مداواة هذا الصنف من الحمّى فهو سهل هيّن وأمّا الأمر في تعرّفها والاستدلال عليها فيحتاج فيه إلى فضل استقصاء سيّما إذ كان لم يكتب فيه أحد ممّن تقدّمنا بالمقدار الذي ينبغي. فليس إذاً بعجب أن يخطئ كثير من الأطبّاء في علاج هذه الحمّيات بحسب خطائهم في الاستدلال عليها. فكثيراً ما تحدث لأقوام أمراض صعبة وقد اتّفق أن عرض لهم عارض من الأعراض الظاهرة مثل سخونة من شمس أو غضب أو برد أو إعياء أو سهر أو غير ذلك من سبب من الأسباب التي قد تنكي البدن على حدتها فيظنّ أنّ جميع ما عرض لهم إنّما عرض من ذلك السبب الظاهر لا من قبل حال أخرى فيسلكون في تدبيرهم غير طريق التحفّظ والتحرّز فيه فيوقعونهم بذلك وهم لا يشعرون في مرض صعب إمّا لا برء له وإمّا يعسر برؤه جدّاً. وكذلك قد ينبغي أن يعنى كما وصف بقراط بتقدمة المعرفة ولا يقتصر فيها على سابق العلم بما هو كائن دون سابق المعرفة بما قد كان وما هو حاضر. فإنّ الأمر الذي قصدنا إليه بكلامنا الآن إنّما هو من ذلك الجزء من الطبّ وأنا كاتب فيه بأبلغ ما يمكن من الشرح والبيان.
وذلك أنّ الفرق بين أن ندخل المعتلّ إلى الحمّام ونؤمّنه ونشعر قلبه الثقة والطمأنينة وبين أن نحميه وندبّره بغاية التحرّز والتحفّظ والحذر
أمر ليس بيسير. فقد ينبغي إذا دخلنا على المريض أن نبتدئ أوّلاً بالنظر في أحواله فإنّ النظر فيها من أعظم الدلائل ثمّ ننظر بعدها في سائر الأعلام ولا ندع ما أمكنّا دليل من الدلائل ولو كان من أقلّها دلالة. وذلك أنّ فضل ثقتنا بأعظم الدلائل ونقصانها إنّما يكون بإضافتنا سائر الأعلام إليها. فأعظم الدلائل في جميع المحمومين هي في النبض والبول. وقد ينبغي أن يضاف إليها سائر الأعلام كلّها أعني الأعلام التي ذكر بقراط أنّها تتبيّن في الوجه وأحوال المضجع والتنفّس وما يستفرغ من فوق ومن أسفل. وإن رأيت أيضاً عرضاً قد حدث في عضو من الأعضاء أيّ عضو كان أو في فعله مثل الأعراض التي وصف منها بقراط عدداً كثيراً جدّاً فاحذر أن تغفل شيئاً من ذلك وتتجاوزه. وهذا أمر عامّ ينبغي لك أن تقصد له في جميع الحمّيات. وإن كان كذلك فواجب في هذه الحمّيات التي هي أبسط الحمّيات وأسلمها التي كلامنا فيها ألّا ندع النظر في شيء من هذه الأمور.
ولكن إذا تبيّن لك من أحوال النبض والبول سلامة الحمّى وكان النبض ليس فيه دليل يدلّ على ورم ولا اختلاف أصلاً في قرعة واحدة من العرق أو إن كان فيه شيء من ذلك كان ضعيفاً خفيّاً جدّاً وكان البول إمّا شيبه في جميع أحواله بالبول الطبيعيّ أو غير بعيد منه فعند ذلك ينبغي لك أيضاً أن تنظر في سائر الدلائل كلّها التي ذكرناها قبل. فإذا اتّفقت كلّها
ولا غير ذلك من الأذى ثمّ اتّصلت له بعد الحمّام خفّة البدن والراحة فثق وتقدّم فاعذه واسقه الشراب بغير حذر ولا توقٍّ بالمقدار القصد بحسب الحال الحاضرة.
وأمّا أنا كما قد علمت فإنّي قد أروم أن أخبر المرضى بالسبب الذي يقدّم الحمّى وحدثت عنه من غير أن أحتاج أن أنتظر حتّى أسأل عنه المريض ومبلغ نفع اكتساب هذه القوّة في البعد من الخطاء أعظم مبلغ. فإن كانت عيادتك المريض قد عرض له شيء من عوارض النفس وبه من ذلك العارض بقيّة فاقصد لتعرّف ذلك العارض من النبض خاصّة كما وصفت في كتابي في النبض ثمّ من بعد ذلك فاطلب الاستدلال من سائر الأعلام. فإن كانت عوارض النفس قد سكنت وإنّما بقيت الحال الحادثة منها فقد نجد دليلاً في النبض على العلّة التي قد أحدثت الحمّى إلّا أنّه خفيّ. وقد يغنيك عن الاستدلال من النبض سائر الدلائل من غيره وهي أنّه يعمّ جميعهم أنّ أبوالهم تكون أشبع صفرة.
ومع من عرضت له الحمّى من غمّ من حدّة الحرارة أكثر ممّا معه من كثرتها ومع من عرضت له الحمّى من غضب خلاف ذلك. وضمور البدن فيمن عرضت له الحمّى من الغمّ أبين وتكون أعينهم غائرة ويحدث لهم فساد لون مخالف لما عهد منهم. وهذه الدلائل قد تعمّ من اغتمّ ومن اهتمّ بنحو من الأنحاء وأقرب ما يميّز به ذلك أمر العينين. فقد يمكن أن تستدلّ من العينين في الأصحّاء على خلق النفس والأعلام منها في المرضى أبين وأوضح عند من
يمكنه تفقّدها. وبهذا الوجه ينبغي أن تفرّق بين من اهتمّ بتعلّم أو بنظر وبين من اغتمّ. فأمّا من سهر فتقدر أن تفرّق فيما بينه وبين غيره بخاصّة فساد لونه. وذلك أنّ معه تهيّج ويحرّكه عينيه أيضاً وذلك أنّه بكدّ ما يقلّ جفنه وبرطوبة عينيه أيضاً. وذلك أنّ العينين من صاحب الغمّ والهمّ تكونان جافّتين. فأمّا غور العينين فعامّ لجميع أصحاب هذه العوارض أعني الغمّ والهمّ والسهر وليس يعمّ ذلك أصحاب الغضب فإنّ أصحاب الغضب ليس يتبيّن فيهم غور من العينين ولا فساد من اللون وتكون الحرارة فيهم كثيرة سريعة الارتفاع من عمق البدن وليس ينقص عظم نبض عروقهم كما ينقص من السهر والهمّ والغمّ. فيجب من ذلك أن يكون تمييز أصحاب الغضب من أصحاب الهمّ والغمّ بيّن جدّاً فأمّا تمييز الهمّ من الغمّ فعلى ما وصفنا قبل.
فأمّا من حمّ من إعياء فإنّ جلدته تكون أجفّ من جلدة سائر من حمّ هذه الحمّى من سبب غير هذا السبب. إلّا أنّ هذه الدلالة تعمّ جميع من حمّ من إعياء في الوقت الذي بين أوّل الحمّى وبين منتهاها. فإمّا فيما بعد فأكثرهم وهم من لم يفرط في التعب فتندى أبدانهم ويرتفع من عمقها بخار حارّ. ومنهم من يبقى معه اليبس ويدوم به في وقت انحطاط الحمّى وذلك يعرض خاصّة لمن أفرط في التعب أو لمن يعرض له مع الإعياء برد أو سخونة من شمس. وحال النبض أيضاً ليس بمستوٍ في الصنفين جميعاً وذلك أنّ من أفرط في التعب يكون نبضه صغيراً وأمّا أصحاب الصنف الآخر فيكون نبضهم
عظيماً. فأمّا الحمّى التي تكون من استحصاف الجلد فهي وحدها من دون الحمّيات علّة احتقان واستحصافه يكون إمّا إذا برد وإمّا إذا لقيته كيفيّة قابضة لم يعتدها كالذي عرض للرجل الذي استحمّ بماء الشبّ. وقد يمكن أن يستدلّ على هذه الحمّى من المجسّ كما قد يستدلّ بالمجسّ على حال أصحاب اليبس والجفاف والنحافة وأصحاب الإعياء. وذلك أنّه ليس يخفى تكاثف جلدة أولئك أيضاً على من كانت معه دربة بحسّ اللمس في هذه الأحوال. وحركة الحرارة تكون أيضاً كأنّها تكون متزيّدة فأوّل ما تضع يدك تحسّها ساكنة هادئة فإن لبثت يدك مدّة طويلة حسست منها بتزيّد حدّه.
وليس يكون البول أيضاً في أصحاب هذه الحال مشبّع الصفرة ولا يكون حجم البدن منهم ضامراً ولا تكون أعينهم غائرة جافّة لكن قد تراها في بعضهم كأنّها أرطب وأزيد جحوظاً ممّا كانت في طبيعتها. وليس يكون النبض أيضاً أميل إلى الصغر كما يكون في أصحاب الغمّ والهمّ والسهر وإفراط التعب. وأمّا في الحمّى التي تكون من الورم العارض في الغدد فإنّ النبض يكون على أعظم حال يكون عليها ويكون سريعاً متواتراً وتكون الحرارة كثيرة. وحين تبلغ الحمّى منتهاها فقد يترقّى من عمق البدن ندى حارّ لذيذ وذلك أنّ الحدّة واللذع في هذه الحمّى أقلّ منه في جميع الحمّيات. ويكون الوجه في أصحاب هذه الحمّى في أكثر الحالات أحمر مشبّع الحمرة ممتلئاً منتفخاً ويكون البول يميل إلى
البياض. ويعمّ جميع هذه الحمّيات أعني حمّى يوم استواء النبض فإنّ القليل منها جدّاً يظهر فيه اختلاف في قرعة واحدة وليس ذلك أيضاً في تلك ببيّن جدّاً ولا يظهر. فهذه هي دلائل هذه الحمّيات.
(٣) وأمّا مداواة أصحاب هذه الحمّى فينبغي أن تكون على هذا الطريق فينبغي أن تدخل جميعهم إلى الحمّام إلّا أنّ من كان منهم إنّما عرضت له الحمّى بسبب استحصاف الجلد أو بسبب ورم الغدد التي في الأربيّة والإبط إن أتت أمرته أن يطيل اللبث في هواء الحمّام لم يضرّه ذلك شيئاً. وأمّا سائر من عرضت له هذه الحمّى من غير هذين السببين فجميعهم بنبغي لهم أن يقلّوا اللبث في هواء الحمّام ويؤذن لهم في اللبث في الماء ما أحّبوا وإن آثروا أن يطيلوا اللبث فيه جدّاً فيلبثوا. وأمّا المرخ الكثير بالدهن الفاتر الكثير بالأيدي الليّنة فهو لأصحاب التعب أنفع منه لسائر من عرضت له هذه الحمّى ثمّ من بعد أصحاب التعب لأصحاب الاستحصاف والاحتقان ثمّ من بعدهم لمن عرضت له هذه الحمّى من ورم الغدد. وينبغي أيضاً أن يستعملوا أصحاب هذه الحالات دخول الحمّام مراراً بحسب ما يمكن. وأمّا الطعام فقد يمكن أن يتناولوا منه أصحاب التعب مراراً كثيرة وليس يصلح ذلك لأصحاب الاستحصاف والاحتقان ولا لأصحاب ورم الغدد لكنّه إنّما يصلح لأصحاب هاتين الحالتين التدبير اللطيف. فأمّا من عرضت له هذه الحمّى من الإعياء فينبغي أن يتقدّم إليه أن يتناول من الطعام أكثر المقادير الذي يقوي على
وتلذيذها وتطييبها بالكلام والفعال وبما يلهى به ممّا ينظر إليه وبما يتحدّث به وعلى هذا المثال أيضاً قد ينبغي لمن اهتمّ أن يفتر عن الفكر أصلاً ويهدأ. ومن عرضت له هذه الحمّى من ورم الغدد فينبغي أن تعالج ذلك الورم وتتأتّى لانحلاله ويداوى قبله العقر الذي بسببه حدث. فهذا القول في دلائل حمّى يوم وعلاجها قول كافٍ لك.
فأمّا سائر الحمّيات فمنها ما يهيج من أورام حارّة ومنها ما يهيج من عفونة الأخلاط. وأمّا الحمّيات التي تحدث من الأورام فكأنّها أعراض تابعة لتلك الأعضاء التي تحدث فيها الأورام وأسماء تلك العلل على الأكثر مشتقّة من اسم العضو الذي حدثت فيه العلّة مثل ذات الجنب وذات الرئة وذات الكلى وما أشبه ذلك وسنذكر هذه العلل فيما بعد.
(٤) فأمّا الحمّيات التي تهيج من الأخلاط فإنّها تعرف بهذا الاسم أعني اسم الحمّيات وليس هي بأعراض لأمراض أخر لكنّها هي نفسها أمراض. وهذه الحمّيات منها ما لا تكون معها أعراض وهي أسلمها ومنها ما تكون معها أعراض ونحن ذاكرون أوّلاً ما كان منها ليس معه أعراض. وقد ينبغي في هذه الحمّيات أن تتعرّف أمرها منذ أوّل يوم تحدث إن أمكنك ذلك كيف الحال فيها هل هي مزمنة أو حادّة وهل هي مفترة أو لازمة. فإن لم يكن ذلك في أوّل يوم منها فينبغي أن يرام استعلام نوع الحمّى في اليوم الثاني فإن لم يمكنك في اليوم الثاني أيضاً الوقوف الصحيح عليها
فأمرها يتبيّن لك لا محالة ويصحّ في اليوم الثالث. وأمّا أقلّ من الحمّيات ما يحتاج في استقصاء تعرّفها إلى أن تنتظر بها اليوم الرابع. وأنا واصف بأوجز ما أقدر عليه من القول الدلائل التي تستدلّ بها على نوع الحمّى وأنا واصف تلك الدلائل بأوسع من هذا القول وأشرح منه في كتاب غير هذا.
(٥) فأقول إنّ الحمّيات التي تبتدئ بنافض فينبغي لك أن تعدّها من الحمّيات التي تنوب بأدوار. وذلك أنّ الربع والغبّ في أكثر الحالات إنّما تحدثان مع نافض إلّا أنّ الغبّ في أوّل حدوثها تبتدئ بنافض شديد فأمّا الربع فلا أعلم متى رأيتها ابتدأت بنافض شديد لكن إنّما تشتدّ النافض وتصعب فيها على طول الأيّام مع أنّها ليس تبتدئ منذ أوّل الأمر لكنّها في أكثر الحالات إنّما تحدث عن نقله من حمّيات أخر قد تقدّمتها. وحمّى الربع تتبع الحمّى التي تسمّى المختلطة فأمّا الحمّى النائبة في كلّ يوم فليس يكاد أن تحدث إلّا مع علّة فم المعدة كما أنّ الربع ليس يكاد أن تحدث إلّا مع علّة الطحال. فالحمّى التي تبتدئ بنافض شديد فهي أولى أن تكون غبّاً من أن تكون غيرها من سائر الحمّيات. فإن كان مع ذلك أيضاً سائر الدلائل التي أنا واصفها بعد موافقة مشاهدة لهذه الدلالة فإنّك تستدلّ استدلالاً بيّناً منذ أوّل يوم على الحمّى أنّها غبّ. فإن كان ابتداؤها مع نافض يسير احتجت عند ذلك إلى النظر في سائر الدلائل حاجة أكثر لأنّه قد يمكن
أن تكون تلك الحمّى الحمّى النائبة في كلّ يوم ويمكن أن تكون ربع وليس هاتين فقط لكن قد يمكن أن تكون الحمّى المشاطرة للغبّ وغيرها من الحمّيات المتّصلة الدائمة.
وأمّا سائر الدلائل فهي كيفيّة الحرارة وكمّيّتها وحركة العروق وحال النافض والوقت الحاضر من أوقات السنة والبلد وحال الهواء في ذلك الوقت وطبيعة المريض وسنّه وما تقدّم من أمره قبل حدوث الحمّى به وما تبع حمّاه. وذلك أنّ الحرارة ينبغي أن تكون في الغبّ كثيرة حادّة والنبض ينبغي أن يكون فيها عظيماً قويّاً سريعاً متواتراً ليس فيه شيء من الاختلاف سوى الاختلاف اللازم للحمّى. والنافض ينبغي أن يكون كان الجلد ينخس بشيء حادّ ويكون بذلك أشبه منه بأن يكون يؤلمه شيء بارد بخلاف الحال في النافض في الربع والنائبة في كلّ يوم. وذلك أنّ أصحاب تلك الحمّيات يحسّون من النافض ببرد شديد وينبغي أن يكون الوقت الحاضر من أوقات السنة صيفاً وأن يكون البلد حارّاً وكذلك حال الهواء في ذلك الوقت وتكون طبيعة المريض أميل إلى السخونة وغلبة المرار ويكون سنّه سنّ الشباب ويكون ما تقدّم من أمره قبل حدوث الحمّى به مشاكلاً لحمّاه وهو أن يكون إلى الحركة والرياضة أميل منه إلى الخفض والدعة وإلى أن يناله حرّ الشمس أقرب منه إلى أن يناله البرد وإلى الإقلال من
الطعم أقرب منه إلى الشبع. والسهر أيضاً والغمّ والنصب والهمّ الشديد يعين على حدوث هذه الحمّى. فإن كان قد عرض أيضاً لكثير ممّن مرض في ذلك الوقت أن كانت حمّاه غبّ ففي ذلك دليل يصحّح ما ذكرناه من الدلائل. فإن رأيت هذه الدلائل كلّها موجودة أو أعظمها وأقواها ثمّ رأيت بالمريض عطشاً شديداً وقيء مرار أو عرق أو شيء من هذا الجنس يتبع حمّاه أو الأمرين جميعاً فقد تبيّن لك عند ذلك بياناً ظاهراً أنّ الحمّى غبّ. فإن رأيت بعد هذه الحمّى قد سكنت أعني ظاهرها الذي يعرفه جمهور الناس والمتحرّك منها وبقي منها في حركة العروق الاختلاف الذي يخصّ الحمّى فثق واقض ثباتاً أنّ تلك الحمّى غبّ كما لو رأيتها قد نابت عليه غبّاً.
(٦) وقد ينبغي الآن أن أصف لك دلائل حمّى الربع فأقول إنّ من أبين دلائلها دليل يظهر في أوّل نوائبها ما دام النافض قائم بصاحبها وذلك أنّ نبضه يكون شديد التفاوت شديد الإبطاء في ذلك الوقت. فأمّا عند بلوغ هذه الحمّى منتهاها وفي أوقات تزيّدها أيضاً فلا بدّ من أن تحدث في النبض سرعة وتواتر إلّا أنّه على حال قد يبقى فيه من الإبطاء والتفاوت المخصوص به شيء إن أنت نسبت ما حدث فيه من السرعة والتواتر إلى هيجان الحمّى وفورها. وإن أنت قست بين منتهى نوبة الربع وبين منتهى نوبة الغبّ وجدت العروق في الغبّ تنبض نبضاً أسرع كثيراً وأشدّ تواتراً من النبض في الربع. والاختلاف أيضاً
الذي يحدث في حركة واحدة من العروق قد يدلّ في الربع على طبيعتها وذلك أنّك تجد الاختلاف العامّ لجميع الحمّيات العارض في قرعة واحدة من العرق أبين منه في سائر الحمّيات من قبل أنّك تجد أوّل الحركة وآخرها أسرع كثيراً من وسطها. وليس الأمر كذلك في الغبّ من قبل أنّ تفاضل السرعة في الحركة في حمّى الغبّ يسير وخاصّة في وقت منتهاها.
ودليل الحرارة أيضاً فيما بين هاتين الحمّايين مختلفة وذلك أنّك لا تجد في الربع ما تجده في الغبّ من شدّة الحرارة والتلهّب والغليان. وهذه هي أعظم دلائل الربع وليس ينبغي أن تدع سائر الدلائل التي من خارج ولا في هذه الحمّى لكن يجب أن تنظر في طبيعة المريض هل هي إلى السوداء أميل وفي الوقت الحاضر من أوقات السنة هل هو الخريف وفي حال الهواء الحاضرة هل هي مختلفة بأن يكون مرّة حرّ ومرّة برد. وكذلك ينبغي أن تتفقّد طبيعة البلد أيضاً وطبيعة الأمراض الفاشية في ذلك الوقت وتنظر هل تقدّم الحمّى عظم من الطحال أو حمّيات غير لازمة لنظام أدوار معروفة وتنظر في سنّ المريض هل هو جاوز منتهى سنّ الشباب وتنظر أيضاً هل تسكن حمّاه مع عرق. وليس ينبغي أن تتوقّع في هذه الحمّى قيء مرار وكذلك في الحمّى النائبة في كلّ يوم لأنّ ذلك إنّما هو من خاصّة حمّى الغبّ. فإن رأيت بعد سكون الحمّى دليل الحمّى باقياً ثابتاً والنبض أشدّ تفاوتاً من النبض الطبيعيّ وأبطأ فقد تبيّن لك بياناً
ظاهراً أنّ تلك الحمّى ربع.
(٧) فأمّا الحمّى النائبة في كلّ يوم فبهذه الدلائل خاصّة تعرفها وهي أنّك تجد الحرارة فيها مع فضل رطوبة وشيء من حدّة وليس تظهر لك تلك الحدّة في أولّ ما تلمس اليد البدن لكنّها إنّما تظهر لك إذا طال لبث يدك على البدن فإنّك عند ذلك تحسّه كأنّه ترتفع منه حرارة دخانيّة يخالطها بخار كثير وكأنّها بأن تكون من نار قد غمرتها رطوبة كثيرة أشبه منها بأن تكون من نار قد غلبت واستحوذت على مادّتها. ويكون النبض أيضاً في أصحاب هذه الحمّى أصغر منه في أصحاب الربع بأكثر من صغر نبض أصحاب الربع ونقصانه عن نبض أصحاب الغبّ. ويكون النبض أيضاً في أصحاب الحمّى النائبة في كلّ يوم أشدّ تفاوتاً منه في الغبّ بحسب فضل تفاوت النبض في حمّى الربع على النبص في الحمّى النائبة في كلّ يوم. وأمّا الإبطاء في النبض فمتساوٍ فيهما والعطش في الحمّى النائبة في كلّ يوم أقلّ منه في الحمّى الربع بحسب قلّته ونقصانه في الربع عنه في الغبّ. واللسان وسائر البدن كلّه يكون في الغبّ على أشدّ ما يكون يبساً ويكون في الحمّى النائبة في كلّ يوم رطب. ويكون القيء فيها بلغميّ ويكون ما يخرج بالبراز أميل إلى البرودة والنهوكة والمائيّة والبلغميّة. وتجد البدن في هذه الحمّى مملوءاً من أخلاط غير نضيجة وإنّما تعرض هذه الحمّى أيضاً لأصحاب الأسنان والطبائع والأمزجة التي هي إلى الرطوبة أميل وفي الأوقات من السنة التي الرطوبة
عليها أغلب.
وما رأيت قطّ شابّاً يغلب عليه المرار ومزاجه يابس أعثرته هذه الحمّى لكنّها إنّما تسرع إلى الصبيان وخاصّة من صغر منهم وإلى من كان من المستكملين البلغم عليه أغلب وسحنة بدنه أميل إلى الغلظ والسمن ومن يستعمل الخفض والدعة والبطالة وشأنه الإكثار من الطعام والشراب والتملّي والاستحمام بالماء الفاتر المتواتر وخاصّة بعد الطعام والبلدان أيضاً التي هي إلى الرطبوة أميل ومن أوقات السنة الشتاء ومن حالات الهواء التي هي أرطب تجلب هذه الحمّى. فإن كانت هذه الحمّى أيضاً في ذلك الوقت فاشية فإنّ ذلك دليل قويّ أيضاً معين لك مع سائر الدلائل التي وصفت. وليس يسكّن العرق أقلاد هذه الحمّى كما يسكّنها في الربع والغبّ ولذلك لا يكاد أصحاب هذه الحمّى ينقّون منها نقاء بيّناً إلّا في الفرد. وأمّا البول فيما ترى منه من حالاته في الحمّيات عند تماديها فذلك يدلّك على أوقات جملة المرض. وأمّا ما يظهر لك من أحواله في ابتداء الحمّيات فقد يدلّك أيضاً على طبيعة الحمّى. وذلك أنّك تجده في ابتداء الحمّى النائبة في كلّ يوم إمّا رقيق أبيض وإمّا غليظ كدر أحمر مشبّع وتجده في الغبّ إمّا مشبّع الصفرة وإمّا دون المشبّع وتجده في الربع مختلف الأحوال لكنّه في تلك الأحوال كلّها غير نضيج. فهذه هي دلائل الحمّيات المفترة.
(٨) فأمّا الحمّيات المتّصلة الدائمة فمن أبلغ الدلائل لك في تعرّفها ألّا تجد فيها شيئاً من الأعلام التي وصفنا أنّه
ينبغي أن توجد في الحمّيات المفترة وأن تمضي بالحمّى أربعة وعشرون ساعة فلا تنقضي فيها وأن يكون تزيّدها تزيّداً مختلفاً وهذه الدلائل مع سائر ما يدلّ عليه من أمرها قد ينذر منها بفضل طول وأن يكون الدليل الخاصّ بالحمّى في النبض ظاهر بيّن. فإن كان في النبض مع ذلك سوء نظام أو اختلاف أو سوء وزن فإنّ ذلك دليل أيضاً على عظم الحمّى وأنّها ليست من الحمّيات المفترة. فإن بقيت هذه الحمّى بهذه الحال ثمّ رأيت في اليوم الثالث لها هيجان أزيد أو رأيت مع ذلك البراز والبول ليس فيهما شيء من النضج فليس يمكن أن تنقضي تلك الحمّى ولا يأتي فيها البحران نحو السابع. فإن كانت الحال أيضاً في اليوم الرابع شبيهة بالحال في اليوم الثالث ورأيت الحمّى كأنّها باطنة مندفنة ورأيت الوجه وسائر البدن كلّه غير ضامر فاعلم أنّ من شأن مثل هذه الحمّى أن تلبث زماناً أطول. فهذه هي أصناف الحمّيات التي ليست معها أعراض.
(٩) وأنا واصف لك فيما بعد طريق مداواة كلّ واحد منها وأبدأ أوّلاً بالحمّيات المفترة ثمّ أصف بعد ذلك علاج الحمّيات المتّصلة الدائمة. فأقول إنّ أحدّ الحمّيات المفترة وأسلمها الغبّ وأطولها الربع وليس فيها خطر من تلقائها. وأمّا النائبة في كلّ يوم فطويلة غير سليمة من الخطر فقد ينبغي أن تقدّر الغداء منذ أوّل هذه الأمراض بحسب مدّة طول كلّ واحد منها. وذلك أنّ ما كان منها حادّاً سريع البلوغ إلى منتهاه فإنّك إن آثرت أن تدبّر صاحبه بغاية التدبير
اللطيف لم يضرّه ذلك شيئاً. وما كان منها أطول مدّة فإن أنت لم تدبّر صاحبه منذ أوّل الأمر بأغذية أغلظ أتلفت المريض مع مرضه أو اضطررت إلى أن تنتقل عن ذلك التدبير إلى غيره في غير الوقت الذي ينبغي أن تدبّره فيه بذلك التدبير. وذلك أنّه ليس ينبغي إذا قرب المرض من منتهاه أن تدبّر صاحبه بأغذية أغلظ من الأغذية التي كان يدبّر بها قبل لكن الذي ينبغي هو ضدّ ذلك وهو أن تجعل ألطيف جميع ما تدبّر به صاحب هذه العلّة في وقت منتهى علّته.
وهذا هو أمر عامّ لجميع الأمراض. وقد ينبغي أن تنظر مع هذا في الأمور التي تخصّ كلّ واحد من الحمّيات المفترة. ومثال ذلك حمّى الغبّ فقد رأيت أنّ من الأجود أن أفتتح قولي بها فأقول إنّه قد ينبغي منذ أوّل ابتداء هذه الحمّى أن تميّز وتحدّد هل هي خالصة نقيّة أو غير خالصة ولا نقيّة. فإنّ هذه الحمّى متى كانت خالصة فانقضاؤها يكون على أطول ما يكون في سبعة أدوار وهي مع ذلك من أسلم الحمّيات من الخطر ومتى كانت غير خالصة ولا نقيّة فالحال فيها على خلاف ذلك. وإنّي لأعلم أنّ هذه الحمّى ابتدأت مرّة بغلام في أيّام الخريف فلم تفارقه إلى الربيع. فعرض له في طول هذه المدّة ما لا يزال يعرض مثله وهو أنّ المريض جعل لا يطيع الأطبّاء في كلّ ما يأمرونه به بل يخطئ على نفسه وجعل الشتاء أيضاً يضرّه في علّته فالتأم من ذلك أن عظم طحاله غاية العظم وجعل يعرض له نفخ في جنبيه وفساد لون وجهه مع تربّل
وكان ذلك خاضة بيّناً منه في الرجلين حتّى إنّا خفنا على الغلام واحتجنا إلى أن نعالجه بأعظم ما يعالج به مثله. فهذا مّما يدلّك على أنّ هذه الحمّى الغبّ التي هي غير خالصة ولا نقيّة غير متشابهة أصلاً بحمّى الغبّ الخالصة النقيّة. ولذلك قلت إنّه ينبغي أن يميّز ويحدّد منذ أوّل يوم ابتدأ بها وذلك أنّه بحسب اختلاف حمّيات الغبّ في طبائعها يجب أن يختلف أيضاً تدبير الغداء فيها. وقد ينبغي أن أصف كيف ينبغي أن تميّز وتحدّد ويكتفي في ذلك أن أصف ما عرض لذلك الفتى حتّى يكون مثالاً لحمّيات الغبّ التي ليست بخالصة وتذكرة لك عمّا رأيته من أمره.
فأقول إنّ الوقت من السنة كان الوقت الذي بين غروب الثريّا وبين الاستواء الذي قبله فابتدأت الحمّى بذلك الفتى مع قشعريرة قريباً من وقت الصبح ولم تكن حرارة حمّاه شبيهة بحرارة الغبّ ولا نبض عروقه شبيه بنبض العروق في تلك الحمّى ولا أصابه قيء مرار ولا عرق كثير لكّنه لبث يومه ذلك محموم وليلته إلى الغد. فلمّا كان نحو الساعة الثالثة ندي بدنه ندىً يسيراً لا أكثر من ذلك فلمّا كان ذلك تحلّلت عنه الحمّى بعض التحلّل إلّا أنّه تحلّل ضعيف حتّى إنّه بكدّ ما ظهر نقاء بدنه نحو العشيّ. إلّا أنّه على حال قد بقي في نبضه دليل الحمّى بيّن قويّ البيان إلّا أنّه كان في سائر حالاته خفيف البدن جدّاً في تلك العشيّة وفي ليلته أجمع. فلمّا كان نحو الصبح من اليوم الثالث عرض له
قلد ثانٍ شبيه في جميع حالاته بالقلد الأوّل خلا مدّته وذلك أنّه في الليلة القابلة ندي بدنه مثل ذلك الندى قبل الصبح بقليل وسكنت عنه الحمّى في غداة اليوم الرابع. ولبث سائر مدّة الخريف وشتوته تلك كلّها يحمّ على هذا المثال في جميع أحوال الأقلاد وفي وقت أخذها وتركها وكان سنّ الغلام ابن ثمانية عشر سنة أو شبيه بذلك وكان لونه أبيض وكان في سحنته سمين وكان تدبيره فيما تقدّم تدبير خفض ودعة وكان لا يزال يتملّأ كثيراً من الطعام والشراب وواجب على من كان كذلك أن لا يستمرئ الطعام استمراء محموداً. وتبيّن في عروقه في أوّل حمّاه صلابة في النبض إلّا أنّ تلك الصلابة كانت في اليوم الأوّل والثاني يسيرة ثمّ تزيّدت في اليوم الثالث والرابع وفي سائر الأيّام إلى السابع حتّى صارت من الحال إلى أن يظنّ ظانّ لو اقتصر على الاستدلال من النبض وحده أنّ ذلك المرض قد أتت عليه شهور كثيرة وما زالت حال النبض كذلك دائمة إلى الاستواء الربيعيّ. فلمّا كان ذلك الوقت ابتدأ النبض يلين فلمّا كان يوم الأربعين من ذلك اليوم خرج ذلك الفتى من تلك الحمّى الغبّ خروجاً تامّاً بعد أن لان نبضه قليلاً قليلاً وظهر في بوله رسوب محمود وقد كان بوله فيما تقدّم من الزمان كلّه بعيد من النضج جدّاً.
فهذا حال الغبّ التي هي أبعد شيء من الخالصة وأمّا سائر أصناف الغبّ التي بين الخالصة
وغير الخالصة وهي كثيرة جدّاً فليس يعسر عليك تعرّفها من الغايتين إذ قد حدّدنا ذلك. وذلك أنّ دلائل الغبّ التي قد وصفتها في أوّل قولي إذا لم توجد كلّها مجتمعة لم تكن الحمّى غبّاً خالصة وإذا كانت خالصة فإنّ مدّة القلد منها لا محالة تكون قصيرة نحو من أربع ساعات أو خمس أو ستّ وأطول ما تكون نحو من إحدى عشر ساعة أو اثنتي عشر ساعة. وبول صاحب هذه الحمّى أيضاً قد يظهر فيه في اليوم الثالث والرابع لا محالة بعض الدلائل التي تدلّ على النضج. فهكذا ينبغي لك أن تعرف الغبّ الخالصة وغير الخالصة.
وعلى هذا القياس ينبغي أن تتعرّف الربع والنائبة في كلّ يوم. وذلك أنّ الحمّى التي يوجد فيها جميع دلائل حمّى الربع التي وصفتها فيما تقدّم فهي ربع خالصة نقيّة والحمّى التي لا يوجد فيها جميع تلك الدلائل فهي مشوبة غير نقيّة ولا خالصة. والحمّى أيضاً النائبة في كلّ يوم متى كانت جميع الدلائل التي وصفتها قبل من دلائلها موجودة فيها فهي خالصة ومتى لم تكن فيها تلك الدلائل موجودة فليست بخالصة. فيجب من ذلك أن لا تكون الربع والنائبة في كلّ يوم إذا لم تكونان خالصتين من طول المدّة على مثل ما عليه الخالصتين لكن كما أنّ الغبّ الخالصة حادّة قصيرة المدّة كذلك الربع والنائبة في كلّ يوم طويلتي المدّة ومزمنتين. فهذا ما ينبغي أن تنظر فيه من أمر الحمّيات المفترة فأمّا سائر الحمّيات فينبغي أن تقصد بالنظر من أصحابها إلى البول والبراز وسحنة البدن كلّه والحرارة فيه وحركة العروق وسائر الأمور الأخر
مع هذه التي أمرنا بالنظر فيها بقراط ودلّ طول التجربة على الحاجة إلى النظر فيها أعني البلدان وأوقات السنة وأحوال الهواء والأسنان وأمزجة الأبدان والعادات وما تقدّم الحمّى من الأسباب وما حدث في وقت حدوثها وما يظهر بعد حدوثها.
وقد يمكن أن يظنّ ظانّ أنّي قد تقدّمت فوعظت بجميع ما يحتاج إليه وليس الأمر كذلك على الحقيقة. وذلك أنّه قد بقي عليّ شيء لم أذكره بعد وهو في نفس الفعل أعظم وأجلّ من أمر جميع ما وصفت وهو في القول أقلّ من جميع ما ذكرت وهو أمر كمّيّة المرض ... . فإنّ هذا المعنى إنّما يحتاج إليه في الدلالة عليه إلى اسم واحد والأمر في الحاجة إليه والانتفاع به عظيم جدّاً. وذلك أنّه لا يمكن أن تصل إلى تقدمة المعرفة بشيء من الأشياء دون أن تقف بالاستقصاء والحقيقة على كمّيّة كلّ واحد من الأمور التي ذكرنا من ذلك أنّك لن تصل إلى أن تتقدّم فتعلم على ما ينبغي هل المرض قتّال أو غير قتّال وفي أيّ الأوقات خاصّة يمكن أن يموت المريض إن كان يموت أو أنّه يخرج من علّته دون أن تنظر وتستقصي النظر في كمّيّة كلّ واحد من الأمور التي ذكرنا قبل وتضيفها إلى جملتين إحداها نفس المرض والأخرى قوّة المريض. وذلك أنّه متى كانت قوّة المريض معها من الفضل ما يقهر به المرض فوجب ضرورة أن يسلم ذلك المريض ومتى كان الأمر بخلاف ذلك فهو لا محالة يموت. فليس ينبغي لك أن تقتصر على أن تنظر من أمر المرض أيّ نوع هو فقط لكن قد ينبغي أن تنظر مع ذلك كم مقداره. وذلك
يحتاج إلى دربة ليست باليسيرة لخصال منها أنّه ليس يمكن أن يكتب أمر كمّيّة كلّ واحد من الأمور ولا يوصف أصلاً بقول. فإن كان ما عندنا في هذا الباب حظّاً فلم نصل منه إلى عظيم ما وصلنا من اللطف والاستقصاء إلّا بكثرة ما معنا من الدربة والحدس والتخمين على الكمّيّة وهذا الباب إنّما يمكن أن يتعلّمه المتعلّم ويعلّمه المعلّم في نفس أعمال الطبّ. وأمّا الأمور التي تحديدها من باب الكيفيّة فأنا واصفها في كتابي هذا على الاستقصاء وبأبلغ ما يمكن من الشرح والبيان والإيجاز.
(١٠) فأقول إنّ حمّى الغبّ إذا ما كان تولّدها من المرّة الصفراء إذا تحرّكت وقويت فقد ينبغي أن تجتهد بأبلغ ما يمكنك في ترطيب بدن صاحبها وتبريده. وذلك أنّ شفاء الضدّ بالضدّ إذا كان إنّما تنقص ممّا قد فضل وتزيد فيما قد نقص. والمرّة الصفراء أسخن جميع الأخلاط التي في البدن وأجفّها. وينبغي أن تقصد أيضاً تسهيل استفراغ هذا الخلط من البدن فما سال منه إلى المعدة فينبغي أن يستفرغ بالقيء وما انحدر منه إلى أسفل فينبغي أن يعان على استفراغه بالبراز وقد يكون ذلك من تلقاء نفسه في الغبّ الخالصة. وقد ينبغي أيضاً أن تسهل سبيل البول والعرق فإنّ تنقية البدن بهما أيضاً من المرار محمود والذي ينبغي أن تقصد به للمعونة على إسهال البطن بالحقن الليّنة. والذي ينبغي أن تقصد به لإدرار البول أن ينقع في الأشربة التي يشربها المريض شيء من الكرفس والشبتّ. وإن رأيت علامات النضج قد ظهرت فثق وتقدّم على أعطائه شيء من شرب الأفسنتين فإنّ له عمل محمود من وجوه وهو مع
ذلك من أجود ما يتعالج به في العلل التي تحدث في فم المعدة من تلذيع المرار وخاصّة إن قصدت إلى ورقه وزهره وأخذت منه مقداراً كافياً ونقعته في ماء العسل. وأمّا الاستحمام بالماء العذب الحارّ المشروب فإنّه يستفرغ ويخرج شيئاً من المرار وينتفع بكيفيّته منفعة عظيمة. وذلك أنّ الاستحمام بهذا الماء يرطّب البدن ويبرّده بقوّته. وأمّا الاستحمام بماء يشوبه من المياه مثل ماء البحر أو ماء مالح أو بورقيّ أو كبريتيّ فهو يستفرغ من البدن ويستخرج منه أكثر ممّا يستفرغ الاستحمام بالماء العذب إلّا أنّ الانتفاع به أقلّ من الانتفاع بالماء العذب كثيراً بل الأولى أن يقال إنّه لا ينفع أصلاً إذ كان يضرّ بكيفيّته بأكثر ممّا ينتفع باستفراغه لأنّه يستفرغ الرطوبات دون المرار ويجفّف ولا يرطّب. وإنّي لأعرف رجلاً ذهب إلى فكر خطأ بفكره فاستعمل الاستحمام بهذه المياه فأورثه ذلك يبساً شديداً في أعضائه الأصليّة حتّى بلغ منه الأمر إلى أن آلت حالته إلى العلّة المعروفة بالذبول والخمود والسلّ ثمّ مات. وقد كان مع هذا نحا في سائر تدبيره نحو استفراغ المرار ولم يعلم أنّه ينبغي أن يدخل على كلّ كيفيّة تغلب فتخرج عن الأمر الطبيعيّ ضدّها وأنّ ذلك أصلح كثيراً من سائر الاستفراغ ولا قبل أيضاً ممّن كان يخبره بذلك.
فينبغي أن يكون غرضك في إدخال صاحب هذه الحمّى إلى الحمّام أن تبلّ بدنه وترطّبه ولذلك لا ينبغي أن يقرّب بدنه شيء من الأشياء الحارّة التي قد يستعمل مثلها في الحمّام مثل البورق والملح والخردل كما قد ترى كثيراً من الأطبّاء يستعملون مثل ذلك ويأمرون المريض بالدلك به فيعطبونهم بذلك لكنّه إنّما ينبغي أن تصبّ على
منها عسر الانهضام جدّاً وجنّبهم العسل والخردل والمالح وسائر الأشياء الحادّة الحرّيفة والشراب العتيق وما هو منه في طبعه قويّ الحرارة. فهذا هو التدبير الذي ينبغي أن تقصد إليه لجمهور الناس فأمّا أنت وسائر الناس ممّن لا يرى الترفة فينبغي أن تقصد به في التدبير للطريق الذي قد رأيتني دبّرت به بدني في الغبّ الخالصة التي كانت أصابتني وهو أن تقتصر على ما قاله أبقراط على ماء كشك الشعير وتلزمه إلى أن يكون البحران. فهذا ما ينبغي أن تقصد له في حمّى الغبّ الخالصة.
(١١) فأمّا ما كان منها غير خالص فينبغي أن تصرف إليها أكثر عنايتك وتتوخّى ما أمكنك ألّا تزيد في المرض ولا تهدّ قوّة المريض معما هي مستأنفة من طول معاناة المرض. وإنّ ضبط الأمر من الوجهين جميعاً لشاقّ عسر من قبل أنّ الحمية بحسب مبلغ نفعها في سرعة نضج المرض يكون مبلغ إضرارها بالقوّة بل ربّما كان أكثر والغذاء بحسب مبلغ زيادته في قوّة المريض يكون مبلغ تعويقه وتثبيطه للنضج لكنّه قد ينبغي لك في هذه الحال أيضاً أن تعلم كم مبلغ عظم المرض وكم مبلغ قوّة المريض كيما تنحو نحو أحوجها إلى المعونة فتتقدّم على الحمية والمنع من الغذاء متى كانت القوّة قويّة جدّاً وكان المرض عسر النضج وتتقدّم على إعطاء الفضل من الغذاء متى كانت القوّة أضعف وكان المرض ليس بعسر النضج جدّاً. وهذا ممّا ينبغي أن تنظر فيه وتقصد له في جميع الأمراض.
فأمّا في حمّيات الغبّ التي ليست بخالصة فليس إدخالك أصحابها إلى الحمّام منذ أوّل العلّة بمحمود
به هذه الحمّى فإنّي قد أعرف كثيراً منهم خرجوا من العلّة أصلاً خروجاً تامّاً باستعمالهم القيء مرّة واحدة.
(١٢) فإذ قد فرغت من صفة علاج أصحاب حمّى الغبّ فإنّي آخذ في صفة علاج أصحاب الربع. وقد ينبغي لك أيضاً أن تدبّر أصحاب هذه الحمّى في أوّل الأمر بالقصد والرفق ولا تسقيهم شيئاً من الأدوية القويّة ولا تروم استفراغ أبدانهم اللّهمّ إلّا أن ترى الدم كثيراً غالباً جدّاً. وإذا أنت فصدت العرق فتفقّد حال الدم فإن رأيت ما يجري منه أسود غليظ وأكثر ما تجده كذلك في أصحاب الأطحلة الغليظة فثق وتقدّم على الإمعان في الاستفراغ فإن رأيت الدم ناصع الحمرة رقيق فاقطع إخراجه على المكان. والعرق الذي تقصد لفصده ينبغي أن يكون إمّا العرق من الجانب الأنسيّ الذي من الجانب الأيسر وهو المعروف بالباسليق أو العرق الأوسط من مأبض المرفق وهو المعروف بالأكحل فتدبّر صاحب هذه الحمّى بالأغذية التي لا تولّد الرياح والنفخ بل تحلّلها وتغذو غذاء محموداً وتتوخّى تليين البطن ما أمكنك بالأشياء المألوفة. فإن لم تنجح استعملت الحقن ويكون ما تستعمله منها أوّلاً ليّن ثمّ بأخرة تجعل ما تستعمله منها أزيد حدّة وامنعهم من تناول لحوم الخنازير وسائر الأطعمة التي فيها لزوجة وتبطئ في النفوذ ومن جميع الأطعمة التي تبرّد وترطّب وتستعمل من الشراب ما كان منه أبيض رقيقاً ومعه من الحرارة مقدار معتدل ويأكلون من لحوم الطير ما لم يكن مأواه في الآجام
ومن السمك ما كان سريع الانهضام رخص اللحم ليس فيه شيء من اللزوجة. ويستعملون أيضاً السمك المالح والخردل وإن تناولوا أيضاً في الأيّام الأول شيئاً من المعجون المتّخذ بأصناف الفلفل الثلاثة ومن المعجون الذي يعرفوه القدماء بدسبوليطيون ويعرف الآن بالكمّونيّ. فإنّ ذلك صواباً كذلك إن شربوا شيئاً من الفلفل وحده مع ماء قراح في كلّ يوم.
فأمّا الدلك والمشي ودخول الحمّام وسائر ما جرت به عادتهم فلا تمنعهم منه المنع التامّ إلّا أنّهم إن قدروا على الإمساك أصلاً عن الحمّام واقتصروا على الدلك وحده فإنّ ذلك أبلغ لهم كثيراً في الانتفاع. فإن كانت حمّى الربع قصيرة ولم تكن بالصعبة فلا بأس أن يستعمل صاحبها بعض الرياضة التي قد جرت بها عادته في يوم راحته. فهذا ما ينبغي أن تفعل في أوّل هذه الحمّى وإلى وقت منتهاها. فإذا ظننت أنّ صاحبها قد بلغ منها منتهى مرضه فعند ذلك ينبغي أن تدبّره بأغذية ألطف من الأغذية التي كنت تدبّره بها قبل ومن الأغذية التي تدبّره بها بعد وتأمره بأن يقرّ ويهدأ مدّة طويلة وتعنى بأحشائه بما تحتاج إليه من التنطيل والتضميد بما من شأنه أن يليّن من صلابتها ويرخي من تمدّدها ثمّ تستعمل بعد ذلك ما يدرّ البول. وإن ظهرت لك علامات النضج فاقصد عند ذلك للإسهال بما يفرغ الأخلاط السوداويّة وليس ينبغي لك أن تقتصر على استعمال ذلك مرّة واحدة بل تستعمله مراراً كثيرة. وكذلك قد ينبغي أن تستعمل القيء على التملّي من الطعام فقد ينبغي أن تواليه في ذلك
الوقت وإن لم يعق عائق فينبغي أن تسقيهم شيئاً من الخربق الأبيض ويكون استعمالك إيّاه في أوّل مرّة بأن تسفّفه (؟) فتصيّره (؟) عيداناً ثمّ تغرزها في فجل ثمّ تخرجها من الفجل بعد أن يأخذ من قوّتها وتعطيهم الفجل. فإن لم يبلغ لك ذلك تقدّمت على جرم الخربق فأسقيتهم منه. فأمّا من لا يمكنه القيء فينبغي أن تسهله إسهالاً فيه فضل قوّة ثمّ تسقيه من المعجون المتّخذ بلحوم الأفاعي وهو المسمّى الترياق ومن سائر الأدوية المنعوتة في هذه الحمّى وأبلغها الدواء الذي من عادتنا أن نستعمله وهو الذي يقع فيه الحلتيت. فأمّا الذين استعملوا شيئاً من هذه الأدوية منذ أوّل هذه العلّة وبالجملة قبل وقت منتهاها فإنّهم كثيراً ما تكون الربع واحدة مفردة فيصيّرونها ربعين وإن لم يصيّروها ربعين صيّروها لا محالة أعظم وأصعب ممّا كانت وربّما كانت ربعين فيصيّروها ثلاثاً وإن لم يصيّروها ثلاثاً صيّروا الربعين لا محالة أعظم وأصعب ممّا كانت. وإنّى لأعرف رجلاً من الأطبّاء تقدّم فسقى رجلاً كانت به من الحمّيات الربع ثلاث من المعجون المتّخذ بلحوم الأفاعي ولم يكن مرضه بعد بلغ منتهاه. فلمّا فعل به ذلك تزيّدت حمّياته الثلاثة وحقّ لها أن تتزيّد فاتّصلت فصارت حمّى مطبقة فقتلت الرجل.
(١٣) فأمّا الحمّى النائبة في كلّ يوم فإذا أنت رمت مداواتها فاستعمل السكنجبين في الأيّام الأول من العلّة وما يدرّ البول إدراراً صالحاً واجعل جملة التدبير في هذه العلّة معه فضل تلطيف وتقطيع ثمّ نحو منتهى هذه العلّة أعنى الحمّى فقد ينبغي أن تتقدّم بالعناية
في أمر المعدة وخاصّة بفمها. ثمّ من بعد ذلك ينبغي أن تأمر بالقيء بعد تناول الفجل والتملّي من الطعام والإسهال بما يستفرغ البلغم. وأمّا سائر ما ينبغي أن يدبّر به أصحاب هذه الحمّى فإنّك تستخرجه بالنظر في الأعراض العامّيّة.
(١٤) وأمّا الحمّيات الدائمة فما كان منها لا يجاوز منتهاه اليوم السابع ونحوه وكانت القوّة فيها قويّة والسنّ محتملة فينبغي أن تدبّر أصحابها بالتدبير الذي هو في غاية اللطافة والاستقصاء. وما كان منها يجاوز منتهاه السابع ونحوه أو كانت القوّة من صاحبه غير قويّة فينبغي أن تدبّره أوّلاً بتدبير أغلظ فإذا دنا منتهى الحمّى دبّره بتدبير ألطف فإذا انتهت الحمّى منتهاها دبّره بألطف التدبير ثمّ عدت فدبّرته بعد بتدبير أغلظ قليلاً قليلاً وجعلت مراتب التدبير أي التزيّد في تغليظ الغذاء على مثال مراتب التنقيص فيه قبل منتهى العلّة. فأمّا إخراج الدم فينبغي أن تستعمله متى كان المرض عظيماً ومتى رأيت الحمرة في البدن أزيد ممّا كانت في الطبع كثيراً أو كان العليل يحسّ بثقل في بدنه كلّه بخلاف العادة وكانت عروقه دارّة متمدّدة فعند مثل هذه الحالات ينبغي أن تستفرغ الدم إلّا أن يعوقك عائق أعني أمر القوّة أو أمر السنّ أو غير ذلك ممّا وصفت في أوّل قولي. فأمّا التدبير الرطب بالأغذية وغيرها فنافع لجميع أصحاب الحمّيات الحادّة وذلك قول قد قيل قديماً وأصاب قائله فيه. فينبغي أن تغذو أصحاب هذه الحمّيات بماء كشك الشعير إلّا من كان
منهم يحمض في معدته وبماء العسل إلّا من كان منهم يستحيل ماء العسل في بدنه إلى المرار وبالأحساء المتّخذة بالحنطة الروميّة المعروفة بخندروس وبالخبز المنقع في الماء وسائر ما قوّته قوّة هذه أو شبيهة بها. ومتى كانت الحمّى شديدة الحرارة والتلهّب فأوّل ما ترى فيها أعلام النضج قد ظهرت فثق وتقدّم فاسقِ أصحابها الماء البارد وقدّر مقدار ما تسقي منه بحسب الوقت الحاضر من أوقات السنة والبلد والسنّ وطبيعة العليل وعادته. فهذه هي جملة الأمر في مداواة ما كان من الحمّيات ليس معه أعراض.
(١٥) فأمّا ما كان من الحمّيات معه أعراض فليس ينبغي أن تقدّر بالعلاج القصد للحمّى لكنّه ينبغي لك أن تقدّر ما أمكنك وتخمّن كم مقدار الحمّى وكم مقدار العرض الذي فيه الخطر وتقاوم أشدّهما وأصعبهما أمراً من غير أن تغفل أمر الآخر الإغفال التامّ. وأنا ممثّل ذلك لك فأقول إنّ رجلاً عرضت له الحمّى وفي بدنه امتلاء من الدم إلّا أنّه قريب العهد بتخمة عرضت له ويجد لذعاً وعصراً في فم معدته أو قد تقيّأ خلطاً رديئاً فأضرّ ذلك الخلط بمروره بالمواضع التي مرّ فيها مضرّة عظيمة حتّى يكون الرجل في قلق وكرب فانظر هل ينبغي أن نقتصر فيمن كانت هذه حاله على النظر في الحمّى وحدها أو نروم الاستفراغ لذلك الامتلاء كما كنّا سنفعل ذلك لو لم تكن في المعدة علّة غير أن يلحق ذلك مكروهاً أو هل ينبغي أن نتقدّم العناية أوّلاً بفم المعدة حتّى إذا صلحت الحال فيه استعملت استفراغ البدن كلّه؟ أمّا أنا فإنّي أرى أنّه
إنّما ينبغي أن نفعل ذلك وذلك أنّي قد رأيت مراراً كثيرة كثيراً من أصحاب هذه الحال عندما رام الأطبّاء أن يستفرغوا أبدانهم قبل تقوية المعدة بعضهم هلك وبعضهم بلغ به الخطر إلى أن أشرف على الهلاك.
ومن عرضت له أيضاً مثل هذه الحمّى وكان قد عرض له معها إسهال ذرب فليس يحتاج معه إلى إسهال غيره ولا استفراغ غيره لكنّه يكتفي به وإن لم يكن بحسب مقدار امتلاء بدنه. وذلك أنّ من ظنّ بمن كانت هذه حاله أنّه يحتاج إلى استفراغ أكثر ممّا به فتقدّم على إخراج الدم من بدنه أو على أن تزيد في إسهاله فإنّه يكتسب له من الخطر أمراً حادّاً عاجلاً. وكذلك أيضاً متى كان قد عرض للمريض تشنّج وكان مع ذلك يحتاج إلى استفراغ الدم فليس ينبغي أن يستفرغ من الدم بمرّة واحدة بمقدار ما يحتاج إليه بحسب ما في بدنه من الامتلاء لكن قد ينبغي أن تستبقي منه شيئاً بسبب ذلك العارض إذ كان قد يهيج كثيراً العرق ويجلب الأرق ويهدّ قوّة المريض. وكذلك أيضاً متى كان بالمريض أرق شديد أو وجع مؤلم فقد ينبغي أن تحذر الاستفراغ الكثير وما يكون منه في دفعة. وقد ينبغي أيضاً أن تقدّر مزاج الهواء المحيط بمنزلة عرض من الأعراض إذا كان في غاية الحرّ واليبس كما قد رأينا حاله كانت في سنة من السنين فيما بين طلوع الشعرى العبور وبين طلوع الشمال الرامح. ولذلك مات جميع من تقدّم الأطبّاء على فصده من غير أن يتفقّدوا أمر الوقت.
وكذلك متى كان مزاج الهواء أيضاً بارداً جدّاً فقد ينبغي عند ذلك أن نتوقّى إخراج الدم لعلمنا أنّه يلحق إخراجه في مثل هذه الأوقات من الخطر أمراً ليس باليسير. وحدوث الهلاك يكون إمّا على من يستفرغ بغير الصواب في حالات الهواء التي هي في غاية الحرّ بالغشي الذي يسمّيه اليونانيّون بسنقوبي وتأويله انقطاع القوى دفعة ويسمّونه أيضاً ديافوريسيس وتأويله التحلّل. وأمّا على من يستفرغ بغير الصواب في حالات الهواء البارد فبرد شديد يعرض له في أوّل نوبة الحمّى فلا ينجو منه.
ولهذا السبب لا نتقدّم على إخراج الدم لا في البلدان الحارّة جدّاً ولا في البلدان الباردة جدّاً لكنّا متى كان أمر الوقت الحاضر من أوقات السنة موافقاً لأمر البلد امتنعنا أصلاً عن إخراج الدم. ومتى لم يتّفقا فإنّا قد نستفرغ منه شيئاً لكن يكون ما نستفرغ منه أقلّ كثيراً مّما كنّا نستفرغه لو كان الوجه الآخر غير مانع. وممّا ينبغي أن نتوقّى بمنزلة عرض من الأعراض أن يكون المريض خوّاراً تسرع إليه الآفة فقد نرى كثيراً من الناس لا يحتملون من الاستفراغ ما فيه فضل أزيد بنوع من أنواع الاستفراغ ولا الإمساك عن الطعام مدّة أطول لكن بعضهم يعرض لهم من ذلك أن تضعف منهم قوّة البدن كلّها وتخور سريعاً ومنهم من يعرض له من ذلك آفة في معدته حتّى يتصرّف عن شهوة الطعام وإن تناوله مستكرهاً له إمّا أن لا يلبث في جوفه وإمّا أن لا يستمرئوه على ما ينبغي. وقد يجب أن يدخل في هذا الباب من الاستدلال
أمر مزاج العليل أيضاً فإنّ من كان في طبيعته حارّاً يابساً فإنّ الآفة تسرع إليه من الاستفراغ الزائد. وللعادة أيضاً فه هذا حظّ ليس باليسير في الستدلال على الاستفراغ كما لها من الحظّ في جميع الأنحاء من سوى ذلك. فإنّ من الناس من لم يعتد الاستفراغ الكثير قطّ ولم يزل يكثر من الطعام ومن الناس من حاله بالعكس أعني أنّه ليس عادته الاستكثار من الطعام وهو معتاد للاستفراغ. فمن كانت هذه حاله فينبغي أن تستفرغ بغير توقٍّ إذا كانت جميع الحالات الأخر توجب الاستفراغ. وأمّا الأخر فليس ينبغي أن تستفرغ ولا إن كانت جميع الحالات الأخر توجب الاستراغ.
وعلى هذا المثال ينبغي أن تنظر في سحنة الأبدان وذلك أنّ من كان لحمه لحماً ملزّزاً مكتنزاً فبدنه بدن صبور محتمل ولذلك لا ينبغي أن تتوقّى استفراغه دفعة إن طاوعت سائر الحالات. وأمّا من كان لحمه لحماً ليّناً رخواً سخيفاً سريع التحلّل فالآفة تسرع إليه ولذلك لا ينبغي أن تخرج ممّن كانت هذه حاله الدم وإن كانت سائر الحالات تستدعي إخراجه فينبغي أيضاً أن تستعمل القصد والتوقّي ما أمكن في سائر أنواع الاستفراغ ممّن كانت هذه حاله. وكذلك أيضاً الحال فيمن أفرط عليه السمن ومن أفرط عليه الهزال فقد ينبغي أن تحذر فصد العروق فيمن هذه حاله وسائر أصناف الاستفراغ الكثير. والسنّ كأنّها أيضاً عرض من الأعراض مانع من الاستفراغ الكثير وذلك أنّه
لن يحتمله الصبيّ ولا الشيخ من غير أذى. فجميع هؤلاء الذين ذكرنا إذا كانت حالاتهم تستدعي الاستفراغ فلا ينبغي أن يستفرغوا في مرّة واحدة ولا كثيراً ولكن مقداراً قليلاً قليلاً بالحمية المعتدلة وبالدلك وبالحقن الليّنة وبالتنطيل وبالتضميد وباحتمال الأشياف وبالحمّام وينبغي أن تأخذ الاستدلال على ما يحتاج إليه من استعمال هذه الأمور التي وصفنا من الوجوه التي تقدّمت صفتها قبل.
وكذلك أيضاً متى عرض للمريض عرضان متضادّان فينبغي أن تنظر أيّهما أقوى. وكذلك إن كان به مرضان يدلّان من العلاج على دلالتين متضادّتين فإنّه قد ينبغي عند ذلك أيضاً أن تقصد قصد أشدّهما إرهاقاً من غير أن تغفل الآخر أصلاً. وليس ينبغي أن تقتصر في الاستدلال من الأعراض والأمراض على ما يدلّان عليه من العلاج فقط لكن بحسب السبب الفاعل لكلّ واحد من الأعراض والأمراض. مثال ذلك أنّ الضرب من الغشي الذي من عادة الأطبّاء أن يسمّوه نقصان النفس واسترخاء القوّة هو في نفسه عرض واحد وأسبابه كثيرة. فقد يعرض هذا العارض لمن تعرض له الهيضة ولأصحاب الذرب ولأصحاب السحج في الأمعاء ولأصحاب العلّة التي تعرف بزلق الأمعاء ولمن يعرض له النزف من النساء من القبل ولمن يعرض له ذلك من جراحة أو من انفتاح أفواه العروق التي في الدبر والقبل ولمن ينفث الدم من صدره أو من رئته ولمن يعرض له الرعاف الشديد ولمن يعرض له من النساء النزف في النفاس. وربّما جلب الغشي
الغشي لقوم من قوّة عوارض النفس وأكثر ما يعرض ذلك للمشايخ والضعفاء من أيّ سبب كان ضعفهم فإنّ كثيراً من هؤلاء إذا أغتمّوا أو سرّوا أو غضبوا عرض لهم الغشي.
وربّما عرض لأصحاب هذه الأحوال الغشي من أدنى رشح ترشحه أبدانهم إذا كان في غير الوقت الذي يحتاج إليه فيه كما قد يعرض ذلك لمن فيه فضل قوّة عند إفراط العرق به. ومتى انفجر خراج أو دبيلة فيمن ليست قوّته بالقويّة جدّاً وخاصّة إن خرجت المادّة عند انفجاره دفعة إلى معدته أو إلى مريئه أو إلى صدره فلا بدّ من أن يعرض له مع ذلك الغشي. وكذلك متى بطّ المتطبّب خراجاً أو دبيلة فاستفرغ من المدّة شيئاً كثيراً في دفعة فلا بدّ من أن يعرض مع ذلك الغشي. كذلك من أعنف في استعمال الدواء المسهل أو المقيّئ أو في استعمال الحقنة أو في غير ذلك من ضروب الاستفراغ فالغشي عارض مع ذلك ضرورة. فقد ترى الرطوبة التي في أصحاب الاستسقاء فضلاً عمّا سواها على أنّها رطوبة فضل خارجة عن الحدّ الطبيعيّ لن يحتمل صاحبها أن يستفرغ منها شيء كثير دفعة من غير أن يناله مكروه لكنّه يجب ضرورة أن يعرض له عند ذلك الغشي بسبب الوجع. وقد يعرض أيضاً الغشي بسبب الوجع إذا كان أعظم من لذع يحدث دفعة أو مغص أو ضرب من ضروب القولنج وخاصّة الضرب منه الشديد الذي يتقيّأ منه الرجيع ويعرفه اليونانيّون بإيلاوس. ومتى حدث في العصب أيضاً أو في رؤوس العضل جراحة
فقد يجلب ذلك الغشي وكذلك تفعل القروح الخبيثة التي تكون في المفاصل وكلّ ما كان منها في طريق إماتة الموضع الذي يحدث فيه أو يسعى فيه. وقد يجلب الغشي أيضاً إفراط البرد أو إفراط الحرّ وانحلال القوّة الحيوانيّة. فهذه هي أسباب الغشي.
وله بحسب كلّ واحد منها علاج خاصّ وليس يمكن أن أصف لك في كتابي هذا جميع تلك الأصناف من العلاج. وذلك أنّه ليس يمكن مداواة الأعراض التي تلحق العلل دون مداواة نفس تلك العلل وشفائها. فأنا مقتصر في كتابي هذا على أن أصف لك ما إذا علمته قدرت على أن تقاوم ما يفاجئ دفعة من نوائب الغشي فتردعه وتسكّن عاديته. مثال ذلك أنّه ينبغي لك أن تعمد إلى من أصابه الغشي من هيضة أو من ذرب أو من غير ذلك من أنحاء الاستفراغ التي تكون منها شيء كثير دفعة فتنضح عليهم الماء البارد وتسدّ مناخرهم وتدلك منهم فم المعدة وتأمرهم بالقيء أو تهيج المريء بإدخال إصبعك أو ريشة نحوه وتشدّ منهم اليدين والرجلين. ومتى كان الاستفراغ من الأعضاء السفليّة مثل الاستفراغ الذي يكون من انفتاح أفواه العروق التي في القبل والدبر ومن الذرب وما يعرض للنساء من الاستفراغ من الرحم فينبغي أن يكون ما تستعمله من الرباطات على اليدين خاصّة أكثر وأشدّ وثاقاً وإنّك عند هذه الأحوال إن شددت الرجلين شدّاً شديداً لم تأمن أن تجذب شيئاً إلى أسفل. ومتى كان الاستفاغ من فوق مثل الرعاف
يمنع من ذلك مثل ورم حارّ يكون قد حدث في بعض الأحشاء أو صداع كثير أو علّة قد غيّرت الذهن أو حمّى شديدة محرقة في مرض لم ينضج بعد.
فإنّه يلحق شرب النبيذ في جميع هذه الأحوال ضرراً عظيماً يكاد أن لا يكون له برءاً. ومتى لم يكن له مانع فينبغي أن تحدّد أمر طبيعة المريض وعادته وسنّه ومزاج الهواء المحيط به فإنّك بنظرك في هذه الوجوه تعلم كيف ينبغي لك أن تسقيه الشراب إمّا بحارّ أو ببارد. وذلك أنّه متى كان المريض لم يعتد الشراب البارد أو يناله منه ضرر بيّن أو كان في طبيعته أميل إلى البرد أو كان سنّه منتهٍ إلى الشيخوخة أو كان في بلد في طبيعته أميل إلى البرد وكان الوقت شتاء فينبغي أن تمنع من الماء البارد. ومن كانت حاله ضدّ هذه الحال سقيته البارد بلا توقٍّ واختر من الخمور متى كان الاستفراغ من أشياء تنصبّ إلى المعدة ما كان منه رقيقاً غير قويّ الحرارة مثل شراب باحية لسبس. ومتى كان الاستفراغ من رعاف أو من انفجار دم فليكن الشراب غليظاً أسود عفصاً. وينبغي أن تقصد إلى المواضع التي يكون منها الاستفراغ فتضع عليها ما يقطعه فتضع على المعدة وعلى الرحم وعلى المريء وعلى الصدر ما من شأنه أن يقوّي تلك المواضع وتضع على الرأس وعلى الجبهة معما من شأنه التقوية ما يبرّدها. وإن كان الرعاف من عرق ظاهر انفجر في المنخر فأدخل فيه من الأدوية ما يمنع من الدم. وأمّا الحمّام فمن أوفق الأشياء لمن
استفراغه من أشياء تنصبّ إلى معدته وأمّا الرعاف وسائر الانفجار فيهيّجه الحمّام تهيّجاً شديداً. ومن أصابه الغشي من كثرة العرق فالحمّام من أضرّ الأشياء له وذلك أنّه إنّما ينبغي أن تقصد بصاحب تلك الحال إلى ما يقبض جلده ويبرّده لا إلى ما يرخيه ويسخّفه. ويكون ما يسقى هذا خاصّة من الشراب بالبارد ولا يدنى منه أصلاً شيء حارّ ولا تشدّ أيضاً أطرافه ولا يبعث على القيء ولا يحرّك أصلاً بوجه من الوجوه. وتحتال في أن تدخل البيت الذي فيه مضجعه رياح باردة وفي أن يكتسب هواء ذلك البيت كيفيّة باردة قابضة بأن تفرش فيه آس وأطراف الكرم وورد. وليس شيء من ذلك بنافع لمن استفراغه من أشياء تنصبّ إلى معدته وذلك أنّ استفراغه يزيد كلّما كثفت الجلد. فبهذا الطريق ينبغي أن تتدارك في عاجل الأمر من يعرض له الغشي بسبب ضرب من ضروب الاستفراغ.
وأمّا من يعرض له الغشي بسبب الامتلاء فليس طريق تداركه يكون على هذا النحو لكن الطريق فيه أن تدلك يديه ورجليه دلكاً كثيراً جدّاً وتسخن وتشدّ وتمنع من النبيذ ومن الطعام ومن الحمّام إن كانت به حمّى وتكتفي بأن تجعل شرابه ماء العسل بعد أن يظبخ فيه سعتر أو فوذنج جبليّ أو نعنع برّيّ أو زوفا. والسكنجبين أيضاً موافق لصاحب هذه الحال وذلك أنّه يقطع ويلطّف غلظ الأخلاط. ومن أصابه من النساء الغشي بسبب علّة الرحم فبهذا الطريق ينبغي أن تعالج خلا السكنجبين ويقصد الشدّ والدلك
إلى الرجلين خاصّة دون اليدين. وكما تضع المحاجم نحو الثديين عند الاستفراغ الكثير من الرحم كذلك تضعها على الأربيّتين والفخذين في المرأة التي يتقلّص منها الرحم واستقلّ شاهقاً أو مال إلى أحد الجانبين وتدني من منخريها ما له رائحة كريهة في غاية الكراهة ومن الرحم أدوية طيّبة الرائحة ومن شأنها أن ترحي وتسخن. فإن كان الغشي من ضعف فم المعدة فينبغي أن تضمد بالأشياء التي من شأنها تقويته مثل الأضمدة المتّخذة بالقسب والشراب وسويق الشعير والزعفران والصبر والمصطكى والتنطيل بالأدهان المتّخذة بالأفسنتين وبالسفرجل والمصطكى وبالسنبل مع الشراب. فإن كان في المعدة تلهّب فينبغي أن تخلط بهذه بعض الأشياء المبرّدة مثل ماء القرع وماء الخسّ وماء البقلة الحمقاء وماء عنب الثعلب وماء الهندباء وماء الحصرم وفي ماء الحصرم مع تبريده تقبيض. والماء البارد أيضاً إذا شرب في الوقت الذي ينبغي قد ينفع كثيراً شربه من به تلهّب في فم المعدة ومن شربه في غير وقته ضرّه مضرّة عظيمة. فلذلك قد ينبغي أن يكون أكثر ما يسقى من به ضعف في معدته شراب بالماء الحارّ إن لم يمنع من ذلك مانع. وقد ينتفع أيضاً بشدّ الأطراف من يصيبه الغشي بسبب ضعف المعدة منفعة عظيمة. فإن تماثلت حال العليل بعد علاجك إيّاه بهذه الأشياء فبادر بمن كان به تلهّب في معدته فأدخله إلى الحمّام.
وأمّا من يحسّ في معدته ببرد فاسقه شيئاً من المعجون المتّخذ بأصناف الفلفل الثلاثة أو شيئاً من نفس
الفلفل على وجهه وشيئاً من الأفسنتين. وأمّا من يصيبه الغشي بسبب أخلاط رديئة تلذع فم المعدة فاسقه ماء حارّاً قراحاً أو مخلوطاً مع شيء من الأدهان ثمّ مره بالقيء. فإن كان القيء يعسر عليه فسخّن منه أوّلاً فم المعدة ونواحيها وقدميه وكفّيه. فإن لم يطاوعه القيء ولا بعد هذا فهيّجه بإدخال الإصبع فيه أو الريشة. فإن لم يطاوعه القيء ولا بهذا فخذ دهناً من أجود ما تقدر عليه فسخّنه واسقه منه. ومن شأن الدهن في كثير الحالات أن لا يهيج القيء لكن يليّن الطبيعة وفي ذلك أيضاً لصاحب هذه الحال صلاح ليس بالسير. فإن لم يكن هذا طوعاً فينبغي أن تستدعي وتتلطّف فيه وليكن التماسك الاستدعاء بالشياف خاصّة فإن رأيته قد أقبل بعد فعلك ما تفعل من ذلك وصار إلى حال أمثل فخذ شيئاً من حشيش الأفسنتين فاطبخه بماء العسل واسقه منه ثمّ اسقه بعد ذلك الشراب واحتل في تقوية تلك الأعضاء بكلّ وجه يمكنك من الأضمدة التي تضعها عليها من خارج ومن سقي الأفسنتين.
ولست آمرك أن تفعل ذلك في أوّل الأمر لكن بأخرة بعد نقاء المعدة وما يليها. فأمّا ما دام فيها أخلاط رديئة فلا تروم استعمالك ما تقبّض لكن اكتفِ بالتسخين فقط كما قلت قبل. ومتى كان في فم المعدة بلغم كثير بارد مجتمع فداوم التنطيل بدهن قد طبخ فيه أفسنتين ثمّ اسقه بعده شيئاً من ماء العسل بعد أن يظبخ أو ينقع فيه حشيس الزوفا يابس أو شيئاً ممّا أشبه ذلك واسقه أيضاً السكنجبين أو شيئاً من الفلفل ومن المعجون المتّخذ
لم يصر إلى حال الهلاك لكنّه ينبغي أن يكون ما تنيله من الغذاء مريئاً سريع الانهضام مقوّياً للمعدة. فإن ظننت أنّ الخطر الكائن شديد فتقدّم فاسقه أيضاً شيئاً من الشراب ومن أبلغ الأشياء في ذلك أن تطبخ له شيئاً من الحنطة الروميّة التي يسمّيها اليونانيّون خنداريس وتصبّ عليها شراباً وتحسيه فإن جعلت مكان الحنظة خبزاً بلغ لك مبلغها.
فإن كان ما تتوقّاه من الغشي يسيراً فليست بك حاجة إلى الشراب لكن يكتفي عند ذلك أن تخلط بالغذاء شيئاً من الرمّان أو من الكمّثرى أو من السفرجل أو من التفّاح أو من غير ذلك من الفواكه القابضة. فإن رأيت بعد استعمالك ذلك المريض قد احتمل نوبة الحمّى احتمالاً صالحاً لم تكن بك حاجة في تغذيتك إيّاه فيما بعد يضطرّك إلى استعمالك الفواكه. وهذا ممّا ينبغي لك أن تفعله متى تقدّمت فعلمت ما هو كائن. فأمّا من فاجأه الخطر بغتة فاسقه شيئاً من الشراب بالحارّ ويكون معه شيء يسير جدّاً من الخبز أو من الحسو المتّخذ من الحنظة الروميّة فإنّك إذا زدت فيما تنيله له فضلاً قليلاً أو كان في الغذاء الذي تنيله بعض الإبطاء في الاستمراء لم تأمن أن يختنق فضلاً عن أن يصيبه الغشي. فأمّا من يصيبه الغشي بسبب سدّة في عضو نفيس فاسقه السكنجبين والأشربة المتّخذة بالزوفا والفوذنج الجبليّ والبرّيّ مع العسل وأطعمه من الأطعمة ما فيه فضل تلطيف وتقطيع فأمّا الأطعمة الغليظة اللرجة فتجلب لمن هذه حاله ضرراً عظيماً. ولا بأس أيضاً بأن تشدّ أطراف صاحب هذه العلل وتدلكها. واستعمال الأشربة أيضاً التي تدرّ البول صالحة له مثل
الأشربة المتّخذة بالشبتّ والرازيانج والكرفس البستانيّ والجبليّ الذي يسمّيه اليونانيّون فطراسالنون وبالنانخواه وبزر الجزر البرّيّ وسنبل الطيب. فإذا استعملت هذه الأشربة وتبيّن لك الانتفاع بها استعملت من الشراب الأبيض الرقيق ما لم يكن بعتيق جدّاً.
والدليل الذي نستدلّ به على تلك السدد هو اختلاف النبض وذلك الاختلاف يكون في أنحاء شتّى وخاصّة في العظم والصغر والقوّة والضعف من غير أن تكون الدلائل التي تدلّ على الامتلاء مجتمعة حاضرة فإنّ هذا الاختلاف في البنض عامّ للسدد والامتلاء. وقد يكون أيضاً من السدد إذا كانت عظيمة ومن الامتلاء الشديد النبض المعروف بالمفتر وهو الذي تتوقّع منه حركة فتكون مكانها فترة وسكون. وهذا ممّا قد أتينا على صفته وبالغنا فيها في كتابنا في النبض. فأمّا الآن فإنّي راجع إلى قولي في سائر ما بقي من ضروب الغشي مثل الغشي العارض بسبب انفجار خراج أو دبيلة أو بسبب بطّه والغشي العارض بسبب الاستفراغ الكثير دفعة للماء من المستسقي. وقد يكتفي في تقوية أصحاب هذه الأحوال في عاجل الأمر بالأشياء التي تشمّ ثمّ من بعد قليلاً بالأحساء المريئة السريعة الانهضام. فأمّا من أصابه الغشي من حزن أو من فرح أو من فزع أو من غضب أو من هول فبعد أن تستردّ من قوّته بالروائح وتسدّ المنخرين فابعثه على القيء. وكذلك ينبغي أن تقوّي في العاجل من يصيبه الغشي من جراحة أو من وجع في المفاصل والعصب وأطراف العضل ثمّ من بعد ذلك تقصد قصد العلّة فتعالجها بما
ينبغي أن تعالج به.
فأمّا الغشي العارض لأصحاب علل القولنج وخاصّة الصنف الصعب منه الذي يسمّيه اليونانيّون أيلاوس أو غير ذلك من العلل التي تكون منها أوجاع شديدة فتسكينها يكون خاصّة بتكميد مواضع العلل وبدلك الأطراف. فأمّا الغشي العارض بسبب ضعف القوى خاصّة التي بها يقوم تدبير البدن الحادث من سوء مزاج الأعضاء التي منها تنبعث تلك القوى فينبغي أن تقصد لمداواته بمقابلة كلّ مزاج مفرط بمزاج مضادّ له. فمتى كان المزاج المفرط حارّاً قابلته بالمزاج المفرط البارد حتّى تردّه إلى الاعتدال ومتى كان المزاج المفرط بارداً قابلته بالحارّ وعلى قياس ذلك يجري الأمر في سائر الكيفيّات. والدليل الذي نستدلّ به على ضعف القوّة الحيوانيّة التي بيّنّا أنّ انبعاثها من القلب هو النبض الضعيف. والدليل الذي نستدلّ به على ضعف القوّة الطبيعيّة المنبعثة من الكبد التي تسمّى الغادية والشهوانيّة هو نوع من البراز يضرب إلى الدم يكون أوّلاً في ابتداء الأمر مائيّاً رقيقاً ثمّ إنّه بأخرة يغلظ فيصير بمنزلة العكر الذي يكون للزيت. وأمّا أمر القوّة المنبعثة من الدماغ وهي التي يخصّها قوم باسم النفسانيّة فيعرف بضعف الحركات الإراديّة. وسأصف لك أمر هذه الحالات في كتاب غير هذا أفرده لذلك فإنّ الذي قد ذهب على الأطبّاء من أمرها أشياء كثيرة.
(١٦) وأمّا الآن فإنّي راجع إلى ما كنت فيه إلى هذه الغاية من الكلام في الأعراض والغرض العامّ الذي نقصد إليه في جميعها هو غرض واحد وهو أن ننظر ما
السبب الفاعل لكلّ واحد منها فإنّ السبب هو الذي يدلّك على ما ينبغي أن تداوى به العلّة. مثال ذلك أنّه متى شكا شاكٍ صداعاً ثمّ كان به كرب وغثي ونخس في الفؤاد فينبغي أن تأمره بالقيء فإنّه يتقيّأ إمّا مراراً وإمّا بلغماً وإمّا الأمرين جميعاً. فإن لم تحسّ في معدته بعارض بيّن فينبغي أن تنظر هل حدوث ذلك الوجع من امتلاء في الرأس أو من سدّة أو من ورم في بعض المواضع التي في الرأس. واستخراج علم ذلك يكون بمساءلتك المريض أوّلاً هل يجد ذلك الوجع فاشياً في الرأس كلّه على نحو واحد أو هو في موضع من مواضع الرأس أشدّ شوكة وأقوى ثمّ تنظر بعد ذلك هل يجد الوجع مع ثقل أو مع تمدّد أو مع لذع أو مع ضربان. فإنّ ما كان من الأوجاع مع ثقل فهو يدلّ على الامتلاء وما كان منها مع لذع فهو يدلّ على حدّة من بخارات أو من أخلاط وما كان منها مع ضربان فهو يدلّ على ورم حارّ وما كان منها مع تمدّد فإن كان ليس معه ثقل ولا ضربان فهو يدلّ على كثرة ريح غير نضيج غليظ نافخ وإن كان معه ضربان فهو يدلّ على ورم حارّ في جرم من جنس الأغشية وإن كان معه ثقل فهو يدلّ على فضل محتبس في جوف أغشيته.
فإذا لخّصت جميع ذلك وحددته فانظر في السبب الفاعل لكلّ واحد من هذه الأحوال فأمّا السبب فهو الذي يدلّك على ما يحتاج إليه من العلاج. مثال ذلك أنّه متى كان فضل من البخارات أو من الأخلاط محتقناً في الرأس فينبغي أن تنظر هل السبب
في ذلك أنّ الحمّى بفرط عظمها أذابت الأخلاط وأحدثت لها شبيهاً بالغليان فارتفعت إلى الرأس وإنّما السبب في ذلك ضعف الرأس أو إنّما السبب في ذلك امتلاء غالب في البدن كلّه. فإنّه متى كان الصداع إنّما حدث من امتلاء في البدن فليس تعسر مداواته إذا أنت قصدت إلى استفراغ البدن كلّه. فأمّا الصداع العارض بسبب ضعف الرأس فالوجه في علاجه أن تجتذب الموادّ إلى ضدّ الجهة التي مالت إليها أعني من الرأس إلى جميع نواحي البدن وأن تستعمل مع ذلك ما يصلح حال الرأس. وجذب الموادّ إلى ضدّ الجهة التي مالت إليها يكون باستعمال الحقن الحادّة وبشدّك الأعضاء السفليّة واستعمالك فيها الدلك الكثير وإن احتجت فيها أيضاً إلى إخراج الدم من هناك أخرجت منه شيئاً يسيراً. وإصلاح حال الرأس يكون إمّا في الوقت الذي تستعمل فيه الجذب من الرأس إلى سائر البدن فبتغريق الرأس بالأدهان وغيرها ممّا شأنه أن يدفع الشيء عن الرأس ثمّ من بعد ذلك باستعمال ما شأنه منها التحليل والاستفراغ ثمّ بأخرة باستعمال ما شأنه منها التقوية.
وممّا يدفع عن الرأس زيت الأنفاق وغيره من الأدهان الشبيهة به ودهن الورد المضروب بالخلّ ودهن الورد وحده وما يتّخذ من الخشخاش مع قشرة وورق الزيتون الطريّ وأطراف الصنف من اللبلاب الذي يسمّيه اليونانيّون افساروس والنعنع الطريّ والسيسنبر. وينبغي أن يكون استعمالك لهذه متى كان الفضل أميل إلى التهوّر والبرد وهي فاترة ومتى كان الفضل أميل إلى الحرارة فيكون استعمالك لها وهي باردة. وممّا يحلّل
ويستفرغ من الرأس الدهن المسخّن على وجهه خاصّة متى كان عتيقاً أو كان من الزيت الذي يعمل ببلاد اسيقونيا وبعد أن يظبخ فيه شبتّ. فإنّ الفضل متى لم يكن غليظاً جدّاً ولا لزجاً فقد تبلغ لك هذه الأدهان في تحليله واستفراغه ما تريد. فإن أنت طبخت في الدهن شيئاً من نمّام أو من ورق الفوتنج البرّيّ أو من ورق الفوتنج النهريّ أو النعنع أو السيسنبر أو الحشيشة التي يسمّيها اليونانيّون سفنداليون بلغت لك تلك الأدهان في تحليل ما هو أغلظ من ذلك الفضل. وفي هذه الأدهان أيضاً تشديد لتلك المواضع وتقوية ما ضعف منها فينبغي أن تستعملها مدمناً إلى استكمال البرء. وإن احتجت إلى ما هو أبلغ في تنقية الرأس فاستعمل ما ينفضه بالمنخرين والحنك واستعمل التعطيس أيضاً.
وإن أدخلت صاحب هذه العلّة إلى الحمّام فادلك الرأس منه بمناديل يابسة وانثر عليه ملحاً وبورقاً وخردلاً من غير دهن فهذا هو علاج الصداع العارض بسبب ضعف الرأس. وأمّا الصداع العارض بسبب عظم الحمّى الذي قد تحتاج فيه إلى المداواة فينتفع فيه بالكيفيّات والقوى الباردة ممّا يوضع على الرأس من الدهن المضروب بالماء ودهن الورد المضروب بالخلّ وما يتّخذ من الأدهان بالخشخاش بقشرة مع ما وصفنا. وأمّا الصداع الدالّ على رعاف أو على قيء يكون بهما بحران فليس ينبغي أن تطلب له مداواة وذلك أنّه ليس ينبغي أن تظنّ به أنّه عرض من المرض لكنّه إنّما هو دليل خير فقط بمنزلة سائر
الدلائل التي تكون من قبل البحران التي قد يهول العوامّ وإنّما ينذر بخير كائن. ومن أجمل الأمور أن يصل الواصل إلى أن يعرف حال البدن عند تثوّر الطبيعة باستعدادها للبحران بالقيء والرعاف وسائر أنحاء البحران. وإنّما قصدت بذكر البحران بالقيء والرعاف خاصّة لأنّ الصداع علم من أعلامه غير مفارق له وسأصف جميع أعلام ذلك وأبلغ في تلخيصها في غير هذا الكتاب. وأمّا الآن فإنّ قصدي أن ألزم ما هممت به منذ أوّل قولي ما أمكنني وآتي في تلك الدلائل بجملة وجيزة.
فأقول إنّه ينبغي لك أوّلاً أن تنظر في طبيعة الحمّى هل هي قويّة الحرارة ملتهبة محرقة فإنّ ما كانت هذه حاله من الحمّيات فشأنها أن يكون فيها البحران باستفراغ فأمّا ما كان من الحمّيات ليّناً رقيقاً شبيهاً بالنار المدفونة فمن شأن تلك الحمّيات أن تطول والبحران يكون فيها على الأمر الأكثر بالخراجات. ثمّ ينبغي أن تنظر بعد ذلك هل المرض سليم فإنّه ليس أحد يرجو بحراناً محموداً في مرض قتّال. ثمّ تنظر بعد ذلك أيّ وقت هو من أوقات جملة المرض فإنّك إن رأيت علامات ابتداء المرض أو علامات تزيّده قائمة ولم تظهر بعد علامة تدلّ على بلوغ المرض منتهاه ولا على نضجه من البول أو من البراز أو من البصاق فليس يمكن أن يحدث للمرض بحران صالح. فبهذه الدلائل أيضاً يصل الواصل إلى أن يقوى رجاؤه لانقضاء المرض ببحران يكون باستفراغ.
وأمّا الدلائل التي يستدلّ بها على أنّ البحران قد حضر وقته وليس يتأخّر فهي ما أصف من ذلك أنّه يتقدّم كلّ بحران
قلق وصعوبة وتڤل من العلّة ومتى كان البحران كائناً نهاراً كان القلق ليلاً ومتى كان البحران كائناً ليلاً كان القلق نهاراً. فمتى رأيت شيئاً من ذلك فانظر كم للمريض يوماً منذ مرض. فإنّ من الأيّام أيّام من شأنها أن يتهيّأ فيها البحران وإن كانت الحركة فيها من الطبيعة يسيرة ومن الأيّام أيّام أخر كثيراً ما يلتأم فيها البحران عند حركة شديدة قويّة تكون من الطبيعة ومتى ما لم تكن حركة الطبيعة فيها كذلك لم يتهيّأ فيها البحران. فينبغي أن تنظر في مقدار عظم تثوير الطبيعة وتحريكها بحسب طبيعة اليوم الذي يكون فيه ذلك التثوير والتحريك منها. وذلك أنّ اليوم السابع قد تقوى حركة الطبيعة واستعدادها وإن كان يسير الالتئام البحران بالاستفراغ. وأمّا اليوم السادس فيحتاج فيه من الطبيعة حتّى يلتأم البحران إلى حركة وتثوير شديد وكثيراً ما لا يلتأم فيه البحران فإن التأم فيه لم يخل من الخطر ولم يكن حريزاً موثوقاً به. وكذلك قد يوجد لكلّ واحد من سائر الأيّام طبيعة خاصّيّة وسأصف ذلك وأحدّد طبيعة كلّ واحد من أيّام البحران في كتاب أفرده لأيّام البحران.
فأنزل أنّ اليوم الذي حدث فيه الحركة والتثوير من الطبيعة بحسب مقدار ذلك التثوير والحركة من الطبيعة دالّ على البحران فقد ينبغي بعد ذلك أن تنظر بأيّ شيء يكون البحران. فليست بي حاجة الآن إلى أن أصف الحال في جميع أصناف البحران ويكتفي أن نصف الحال في البحران الذي يكون بالقيء أو بالرعاف
سوء التنفّس واستقلال المواضع التي دون الشراشيف إلى فوق والثقل الحادث في الرقبة مع الرأس لكن اجعل اختلاط العقل دليلاً لك مع هذه الدلائل على حدوث البحران.
وقد يكتفي بهذه الدلائل فيما تحتاج إليه لتعرّف هذه الباب. وكثيراً ما توافق هذه الدلائل سنّ المريض وطبيعته فتحقّقان الرجاء وتؤكّدانه ومع ذلك أيضاً الوقت الحاضر من أوقات السنة ومزاج الهواء في تلك الأيّام منه. وذلك أنّه إن كان المريض فتيّاً أو كان بسبب غير السنّ في طبيعته حارّاً أو كثير الدم فليزدد رجاؤك قوّة فإن كان مع ذلك قد كان يعرض له الرعاف كثيراً في مرضه وصحّته فقد يكتفي بهذا الدليل وحده في التأميل والرجاء بحدوث الرعاف. فإن رأيت الوقت الحاضر من أوقات السنة مع ذلك صيفاً أو ليس هو بصيف لكن تلك الأيّام منه الحاضرة حارّة فلست أشكّ أنّك قد تستفيد من ذلك أيضاً بصيرة واستدلالاً. وإن كان مع ذلك كثير من المرضى في ذلك الوقت قد أصابهم البحران بالرعاف فإنّ هذا أيضاً ممّا يزيد في رجائك ويقوّيه ومع ذلك أيضاً إن كان المرض مرض من امتلاء وإن كان المريض قد كان اعتاد استفراغ ما فانقطع عنه. أمّا أنا فلست أرى مع كثرة هذه الدلائل وبيانها الدالّة على الرعاف الكائن أنّه يعسر الوصول إلى تقدمة المعرفة به لكنّي أرى أنّ التقصير عن سابق العلم بذلك قبيح بعيد من مذهب الأدب لكن بسبب تواني أهل دهرنا من الأطبّاء قد يعجب ممّا ليس هو
بعجب. من ذلك أنّه ليس بعسر ممّا قد وصفنا أن يستدلّ هل الرعاف كائن من المنخر الأيسر أو من المنخر الأيمن وكثير من الأطبّاء يرى أنّ ذلك محال أصلاً فضلاً عن أن يرى أنّه ممّا يعسر.
على أنّ أمر هذين النوعين من الاستفراغ وسائر أنحاء الاستفراغ قد يمكن أن تتقدّم لمعرفته من نظر في هذين الوجهين وهما من أيّ مكان تكون حركة الطبيعة وإلى أيّ مكان. فإنّا مع ذلك أيضاً قد نصل إلى أن نعين ما نقص من الاستفراغ على بلوغ الحاجة ونمنع ما أفرط منه متى علمنا هذين الشيئين. مثال ذلك أنّه متى كان الرعاف من الطحال فوضعنا المحاجم العظام على ما دون الشراشيف من الجانب الأيسر اجتذبت الدم إلى ضدّ الجهة التي مال إليها وقطعته بسهولة ومتى كان الرعاف من الكبد فوضعنا المحاجم على ما دون الشراشيف من الجانب الأيمن فعلت مثل ذلك. والأمر في سائر الأنحاء أعني أنحاء الاستفراغ يجري على هذا القياس فقد تصل من واحد منها إلى أن تقيس على جميعها إذا نظرت في الأمر العامّ.
فلذلك قد رأيت أن أقطع هذه المقالة في هذا الموضع وأصف لك في المقالة التي بعدها أمر الحمّيات التي تكون من الأورام الحارّة أو من سائر العلل التي تحدث في كلّ واحد من أعضاء البدن. وقد يسمّي أهل دهرنا من اليونانيّين الورم الحارّ فلغموني وهذا الاسم في لغة اليونانيّة مشتقّ من الالتهاب وقد كان الأوائل يسمّون بهذا الاسم كلّ علّة حارّة شبيهة بالالتهاب. وأمّا أهل دهرنا فليس يسمّون بهذا الاسم جميع
تلك العلل وذلك أنّهم لا يعدّون البثر المسمّى النملة ولا الورم المعروف بالحمرة ولا شيء غيرهما من أشباه ذلك في عداد هذه العلّة لكنّهم إنّما يخصّون بهذا الاسم علّة واحدة من العلل الحارّة وهي العلّة التي يكون معها انتفاخ صلب ووجع وضربان. وليس نجد الحمّيات تلحق هذا الورم وحده فقط لكنّها قد تلحق مع ذلك بالجملة جميع العلل الحارّة التي يكون معها شبيه بالغليان. وأنا واصف أمر هذه العلل وسائر ما أشبهها في المقالة التي بعد هذه.
تمّت المقالة الأولى من كتاب جالينوس إلى اغلوقن في شفاء الأمراض.
المقالة الثانية من كتاب جالينوس إلى اغلوقن في شفاء الأمراض
(١) قال جالينوس: أمّا بعد فإنّي آخذ في صفة أمر العلل التي تعرض في عضو عضو من أعضاء البدن يا اغلوقن وأفتتح قولي بذكر العلّة التي تسمّى فلغموني. وذلك
أنّها علّة تعرض كثيراً ومن أكثر ما يعرض من العلل ولها مع ذلك أصناف كثيرة جدّاً وتلحق جميع أصنافها الحمّى. ويعمّ جميع تلك الأصناف أمراً واحداً وهو الحرارة المفرطة التي هي بمنزلة اللهيب ومن ذلك اشتقّ لها هذا الاسم في لسان القدماء من اليونانيّين. وتجد لكلّ صنف منها فصلاً خاصّاً تعرف به ذلك الصنف وتستخرج به ما تحتاج إليه فيه من المداواة. فإنّ العلّة التي تسمّى النملة تحتاج فيها إلى علاج خاصّ غير ما تعالج به سائر أصناف هذه العلّة وكذلك الورم الذي يسمّى الحمرة يحتاج من العلاج إلى غير ما يحتاج إليه غيره من تلك الأصناف وكذلك سائر أصناف العلّة التي تسمّى فلغموني. فيجب من ذلك أيضاً أن يكون الأمر المتقدّم هو الوصول إلى تعرّف العلل على الصواب. وأنا ملتمس وصف ذلك أوّلاً لك بعد أن ألخّص أوّلاً جميع الفصول التي في هذه العلّة.
فأوّل فصل في هذه العلّة أنّ بعضها رطب وبعضها يابس. والرطب منها هو الذي يكون مع مادّة حارّة قد انصبّت إلى موضع من المواضع واليابس منها هو الذي يكون قد عرض فيه للحرارة الغريزيّة أن خرجت عن الاعتدال فأفرطت وتلهّبت من غير أن يكون انصبّ إلى العضو شيء من الموادّ. وهذه العلّة تبقى إلى مدّة ما وهي كأنّها إنّما هي حمّى تستولي على ذلك العضو وتخصّه. فإذا صارت إلى حال تكون الحرارة واليبس قد أفرطت عليها فإنّها عند ذلك تصير إلى حال فساد ذلك العضو وموته أصلاً ولذلك ليس يحتمل هذا الصنف من هذه العلّة التقسيم إلى أنواع شثّى كما يحتمل
الصنف الآخر الذي قلنا إنّه يكون مع انصباب شيء من الكيموسات يتحلّب إلى العضو الذي هو فيه. وذلك أنّ أنواع هذا الجنس كثيرة من قبل أنّه متى كان ما سال إلى العضو دماً كانت العلّة الحادثة غير العلّة التي تكون إذا انصبّت إلى العضو مرّة صفراء وإذا انصبّ إلى العضو الخلطان جميعاً معاً كانت علّة ثالثة غير العلّتين الأوليين. وفي كلّ واحد من هذه العلل أيضاً قد يكون ما سال إلى العضو سال إليه وهو عفن أو يكون يسيل إليه وهو لم يعفن بعد ثمّ يغوص ويلحج في العضو فيعفن ويكون ذلك الشيء الذي يسيل غليظاً في قوامه أو يكون رقيقاً ويكون أيضاً عذباً طيّباً ويكون حادّاً.
فمتى انصبّ إلى عضو من الأعضاء دم جيّد معتدل في ثخنه ورقّته وكان ما انصبّ منه كثيراً دفعة فغاص ولحج فيه بسبب كثرته فإنّه يعرض لصاحب هذه العلّة وجع شديد اللّهمّ إلّا أن يكون العضو الذي ينصبّ إليه قليل الحسّ جدّاً ويعرض في باطن العضو وعمقه ضربان مؤذٍ ويظنّ صاحب هذه العلّة أنّ ذلك العضو منه يمدّد إلى جميع النواحي وأنّه يرضّ رضّاً ويحسّ فيه بحرارة كثيرة حتّى يظنّ أنّه يحترق احتراقاً ويشتاق إلى تبريده. وتعلوه حمرة شبيهة بالحمرة التي تعلو الجلد فيمن دخل الحمّام واصطلى بالنار أو تدلّك أو سخّن بدنه بغير ذلك من وجوه التسخين. وهذه العلّة قد اختصّت بالاسم الشامل لجنسها كلّه وذلك أنّها تسمّى فلغموني على نحو ما تخصّ أشياء أخر كثيرة من الأنواع باسم الجنس الذي يعمّها وغيرها. وهذه العلّة تعرض كثيراً
وتكاد أن تحدث من كلّ سبب مؤلم وذلك أنّها قد تلحق الجراحات والهتك والخضد والفسخ الحادث في مواضع العصب من العضل وفي مواضع اللحم منها والوهن الحادث من الرياضة والخلع والكسر والقروح العارضة من تلقاء أنفسها. وتكون أيضاً من غير جميع هذه الأسباب إذا امتلأت العروق من الأخلاط امتلاء مفرطاً فقذفت الفضل ممّا فيها إلى موضع من المواضع إذا كان ذلك الموضع في ذلك الوقت بحال من الأحوال يتهيّأ معها قبول الفضل بأكثر من تهيّؤ غيره من سائر المواضع. ولا بدّ من أن يكون ذلك الموضع إمّا أضعف من غيره من سائر المواضع وإمّا أن يكون أسخف من سائرها وإمّا أن يكون أشدّها تهيّؤاً للجذب وإمّا أن يكون أقلّها حركة وإمّا أن يكون أشدّها حركة من أيّ سبب من الأسباب كان اكتسابه لهذه الأحوال. فإنّه ليس قصدي وصف هذه.
فأمّا المرّة الصفراء فمتي كانت باقية على طبيعتها ثمّ جرت مع الدمّ في جميع البدن فإنّه يقال لذلك العارض يرقان. ومتى قذفتها وحدها إلى عضو من الأعضاء فتمكّنت فيه قيل للعلّة الحادثة منها النملة. ومتى كانت تلك المرّة ثخينة في قوامها فقرحت ثخن الجلد كلّه إلى أن يبلغ إلى ما دونه من اللحم وبقراط يسمّي هذا الصنف من النملة النملة المتأكّلة. ومتى كانت المرّة رقيقة لم تحرق إلّا ظاهر الجلد فقط وهذا الصنف من النملة قد اختصّ باسم الجنس وذلك أنّه يسمّى نملة على الإطلاق من غير استثناء صفّه. وليس كذلك النوعين الباقيين
لكن الأوّل الذي تقدّمت صفته يسمّى كما قلت النملة المتأكّلة والآخر الباقي يلقّبه بالجاورس من قبل أنّه تخرج في ظاهر الجلد نفّاخات صغار شبيهة بحبّ الجاورس. وهذا النوع من النملة إنّما يحدث أيضاً من المرار لكن المرار الذي يحدث عنه أقلّ حدّة وحرارة من المرّة التي يتولّد فيها النوعان الآخران اللذان تقدّمت صفتهما.
فإن كان ما سال إلى العضو فضلاً مختلطاً من دم ومرّة صفراء كلاهما أسخن المقدار الذي ينبغي أو إن كان ما سال إليه من دم إلّا أنّه دم حارّ يغلي رقيق في قوامه قيل للعلّة الحادثة منه الحمرة. وهذا الورم أسخن كثيراً من الورم المخصوص باسم فلغموني وحمرته أقرب إلى اللون الناصع. وإذا أنت لمسته زال الدم تحت ملمسك سريعاً ثمّ لا يلبث أن يعود فيتبيّن لك بالصحّة أنّه رقيق سيّال. وليس يجد صاحب هذه العلّة من الوجع مثل الذي يجده صاحب هذه العلّة المسمّاة فلغموني ولا في واحد من أنواع الوجع فيها وذلك أنّه لا يكون فيه مثل ما يكون في تلك الأمراض من من الضربان ولا من الخضد ولا من التمدّد لكنّه ربّما كان أذاه يسيراً جدّاً لا سيّما إذا كان الفضل إنّما انصبّ إلى الجلد فقط من غير أن يكون نال ما دون الجلد من اللحم منه شيء وكذلك يكون الأمر في أكثر الحالات وهذه هي الحمرة الصحيحة. فإنّ الحمرة التي تشوب ما دون الجلد منها شيء ليس يكون الفضل الذي انصبّ فيها خالص الرقّة ولا هي بحمرة مفردة لكنّها علّة مركّبة من الورم الذي يعرف بالحمرة ومن الورم الذي يسمّى فلغموني. وربّما كان الأغلب فيها
خواصّ الورم المسمّى الحمرة ويسمّي عند ذلك تلك العلّة أهل دهرنا من الأطبّاء حمرة يخالطها فلغموني وربّما كانت خواصّ الورم المسمّى فلغموني أغلب فيها ويسمّى عند ذلك فلغموني تخالطها حمرة ومتى لم تكن خواصّ أحدهما أغلب عليه ظاهرة لكن ترى متساوية فإنّه يقال عند ذلك إنّ في العضو فلغموني وحمرة مختلطتان.
فالحمرة الصحيحة إنّما هي علّة تعرض في الجلد وحده. وأمّا الورم المسمّى فلغموني فليس هو علّة في ما دون الجلد من الأعضاء فقط لكنّه بتلك أوّلاً وأخصّ وربّما كان في الجلد. ومتى كان في الجلد فإنّ وجعه يكون في سائر أحواله ليس بدون ما يكون منه فيما دون الجلد إلّا أنّه لا يكون منه ضربان. ومتى كان الدم الذي سال إلى العضو شديد الحرارة غليظاً وكان ما سال منه شيئاً كثيراً دفعة إلى أيّ عضو كان مسيله فأحرق ذلك العضو أحدث فيه قرحة ذات خشكريشة شبيهة بموضع الكيّ وأحدث في جميع ما حول القرحة ورماً كان حارّاً يغلي غلياناً مؤلماً جدّاً وتسمّى هذه القرحة حمرة. ومتى كان الدم الذي جرى إلى العضو أسود غليظاً عكراً وكان في الحرارة والغليان شبيه بالأوّل وكان يخالطه مع ذلك صديد رقيق أحدث في ظاهر الجلد نفّاخات بمنزلة النفّاخات الحادثة من حرق النار فإذا تشقّقت تلك النفّاخات وتفطّرت ظهرت من ورائها تلك القرحة ذات الخشكريشة وهذه القرحة أيضاً تقال لها حمرة. فهذه هي أنواع العلّة المسمّاة فلغموني المنقسمة من نفس طبيعة العلّة.
ولعلّ ظانّاً يظنّ أنّه قد ألغي
ذكر أنواع كثيرة من أنواعها ممّن يغرّه كثرة الأسماء. مثال ذلك أنّ من الورم الحارّ ما يسمّيه اليونانيّون فوفون ومنه ما يسمّونه فوما ومنه ما يسمّونه فوجتلن ومنه ما يسمّونه أفثلميا وهو الرمد ومنه ما يسمّونه فاريفلومونيا وهو ذات الرئة ومنه ما يسمّونه فلوريطس وهو ذات الجنب ويسمّون أسماء أخر كثيرة على هذا المثال. وجميع هذه إنّما هي أورام حارّة داخلة في الأنواع التي لخّصناها وإنّما يسمّى كلّ واحد منها باسم خاصّ من قبل أنّ الواضعين الأوّلين لتلك الأسماء أحبّوا أن يفهم عنهم بها معنى مركّب من العلّة مع العضو القابل لها باسم واحد. وذلك أنّ الورم المسمّى فوفون والورم المسمّى فوما والورم المسمّى فوجتلن إنّما هي علل تكون في الغدد التي تكون في الأربيّة والإبط وغيرهما. أمّا فوفون فإنّما هو فلغموني يكون في تلك الغدد وفوما هو أيضاً من هذا الجنس إلّا أنّ الذي تخصّه سرعة تزيّده وتقيّحه وأمّا فوجتلن فهو حمرة يشوبها فلغموني أو فلغموني يشوبها حمرة يكون في تلك الغدد. وكذلك أيضاً الرمد إنّما هو فلغموني يكون في الغشاء المنطبق الملتحم بالطبقة القرنيّة التي في العين. وأمّا ذات الجنب فإنّما هي فلغموني يكون في الغشاء المستبطن للأضلاع. وأمّا الذبحة فإنّما هي فلغموني يكون في الحلق. وأمّا ذات الرئة فهي فلغموني يكون في الرئة. وعلى هذا القياس يجري الأمر في ورم كلّ واحد من سائر الأعضاء.
وما كان من الأورام في الأعضاء الظاهرة فتعرّفها سهل وما كان منها في الأعضاء الباطنة التي تجلب الأورام الحارّة
الحادثة فيها لا محالة حمّى فليس الأمر في سهولة تعرّفها كذلك لكنّه يحتاج فيه إلى ذهن دقيق جدّاً وخبرة بطبيعة الأعضاء الباطنة المستفادة من التشريح مع استقصاء معرفة أفعال الأعضاء ومنافعها وقد وصفت الأمر في تلك الأورام في كتب أخر. وأمّا الآن فليس يمكن أن أصف في هذا الكتاب أمر تلك الحمّيات لِما حدث لك بغتة من الحاجة التي اضطرّتك إلى الشخوص. وأنا مقتصر على أن أبتدئ فأصف لك كيف أجود الوجوه في مداواة الأورام الحادثة في الأعضاء الظاهرة وأفتتح قولي بالورم الذي يحدث كثيراً ولذلك اختصّ باسم جنسه كلّه فسمّي فلغموني. فأقول إنّه ينبغي أن تنظر قبل كلّ شيء من أمر هذه العلّة الأمر الذي هو في سائر العلل كلّها أيضاً من أعظم الأمور خطراً وهو وجود السبب المحدث للمرض.
(٢) من ذلك أنّ من أسباب الأورام الظاهرة سبب ليس بالخفيّ جدّاً وهو فضل يسيل إلى عضو من الأعضاء اللّهمّ إلّا أن يتّفق معه سبب من الأسباب الظاهرة فيظنّ أنّ جميع ما حدث منه أيضاً إنّما هو من ذلك السبب الظاهر. فمتى لم يتقدّم سبب من تلك الأسباب الظاهرة وحدث بغتة في عضو من الأعضاء ورم فالسبب الفاعل له سيلان فضل من الفضول إلى ذلك العضو ولذلك يقال لهذه العلّة علّة سيلان. وينبغي في هذه الأورام خاصّة أن يكون ابتداء العلاج ابتداء محموداً. وذلك أنّ الخطاء الواقع في ابتداء علاجها يصيّر العلّة إلى حال إمّا أن يعسر معها برؤها وإمّا ألّا تبرأ أصلاً. وأعظم ما يقع في علاجها من الخطاء هذان النوعان أحدهما ألّا يعنى
بجملة البدن فيقصد إلى استصلاحه أصلاً والنوع الآخر إسخان العضو الذي حدث فيه الورم وترطيبه. وأكثر الأطبّاء يخطئون في هذين النوعين جميعاً من الخطاء وبعضهم يدعوه إلى ذلك أنّه يرى رأي القوم الذين زعموا أنّه يكتفي بهذه الجملة في الطبّ أن ينظر هل العلّة علّة احتقان أو علّة انبعاث أو مركّبة من الحالين ويعالج على حسب ذلك. فيزعمون أنّ الأورام كلّها علّة احتقان ويزعمون أنّه ينبغي أن يستعمل فيها ما يحلّل ويرخي. وبعضهم يتبع أولئك بلا حجّة ولا نظر ولا عذر لهم في سوء فعلهم إلّا عذراً واحداً وهو أنّه يشركهم في هذا الخطاء عدد كثير من الأطبّاء. وليس كذلك يرى أحد من أصحاب القياس في الطبّ ولا من أصحاب التجربة لكنّهم يقصدون قصد ما يوجبه القياس وتدلّ عليه التجربة وهو أن يستفرغ البدن كلّه بما يمكن من أنحاء الاستفراغ ويعالج العضو الذي فيه الورم من التنطيلات والأضمدة بما شأنه دفع ما يسيل إلى العضو العليل عنه واستفراغ ما قد حصل فيه واكتساب المواضع التي قد وهنت قوّة وشدّة.
فأمّا الوجوه التي ينبغي أن تنظر فيها إذا هممنا بالاستفراغ فقد وصفناها قبل ونحن مذكّرون بها أيضاً الآن بقول وجيز كيما تقيمها في نفسك وتحفظها في جميع ما أنا واصفه ولا تحتاج في كلّ واحد من العلل إلى أن توصف لك الأعراض التي تدلّ على الاستفراغ. وأقول إنّا قد قلنا إنّه ينبغي لك أن تنظر في السنّ وفي الوقت من السنة وفي البلد وفي الحال الحاضرة من الوقت وفي قوّة المريض وفي سحنة بدنه وفي عاداته
وفي أصل مرضه فإنّك من هذه الوجوه تقدر أن تعلم هل ينبغي لك أن تستفرغ أو لا وإن كان ينبغي لك أن تستفرغ فمن أيّ موضع وكيف. وأنا ممثّل لك ذلك في هذه العلّة التي كلامنا فيها فأنزل أنّه انحدر إلى الركبة فضل فتورّمت منه ورماً عظيماً جدّاً دفعة وأنّه يتبيّن لك من أمر البدن كلّه امتلاء وأنّه ممتلئ من الدم وأنّ قوّة المريض قويّة وكان الوقت من السنة ربيعاً وكان البلد معتدلاً وكان المريض فتيّاً. أقول إنّ من كانت هذه حاله يحتاج أن يستفرغ منه الدم من أعلى بدنه وينبغي أن يفصد له من العروق التي في مأبض المرفق إمّا الأنسيّ وهو المعروف بالباسيلق وإمّا الأوسط وهو المعروف بالأكحل.
فإن كانت مثل هذه العلّة في بعض الأعضاء التي قد تكون في أعلى البدن فينبغي أن تخرج الدم من أسفل وذلك أنّه ينبغي أن تقصد دائماً لجذب الفضل إلى ضدّ الجهة التي مال نحوها وإليها. وتضمد العضو بالضماد المتّخذ من الحشيشة التي تسمّى عند اليونانيّين أيروان وهي حيّ العالم ومن قشور الرمّان المطبوخة بالشراب ومن السمّاق ومن سويق الشعير فإنّ هذا الضماد من أجود الأضمدة في مثل هذه العلل ومن شأنه أن يفعل جميع ما نحتاج إلى فعله منها وذلك أنّه يدفع عن العضو ما يجري إليه وينشّف ما قد حصل فيه فيجفّفه ويقوّي نفس الأعضاء. وقد يمكنك أن تركّب أدوية أخر كثيرة على هذا القياس إذا استفدت علم الطريق في تركيبها من كتبنا التي وصفنا فيها أمر الأدوية ولذلك قد اقتصرت في كلّ واحد من الأحوال أن أرسم لك دواء واحداً ليكون لك تذكرة
ومثالاً تستدلّ به على قوّة سائر الأدوية التي تذهب ذلك المذهب. وهذه الأدوية ونحوها هل ينبغي أن تستعمل متى لم يكن ألم شديد فأمّا متى كان مع انصباب الفضل إلى العضو وجع شديد فقد ينبغي أن تقصد إلى تسكينه ولكن لا بالماء الحارّ ولا بالدهن ولا بالأضمدة المتّخذة بدقيق الحنطة لأنّ جميع هذه الأشياء بالغة الضرر في العلل التي تكون مع انصباب فضل وإن كانت قد تخيّل إلى صاحب هذه العلّة أنّها تجلب له في العاجل بعض السكون والراحة. لكن ينبغي أن تقتصر في تسكين شدّة الوجع على بعض ما هو في مذهب ما يتّخذ من عقيد العنب ودهن الورد وشيء يسير من شمع مذاب فيهما. وينبغي أيضاً أن تستعمل هذا بأن يبلّ فيه صوف وسخ فيه من الدسومة التي يسمّونها اليونانيّون لفتيونس شيء كثير أكثر ما يكون منها في الصوف وينبغي أن يوضع ذلك الصوف في الصيف وهو بارد وفي الشتاء وهو فاتر. وكذلك ينبغي أن تفعل بالأضمدة ... .
ويوضع فوق المواضع التي هي على المكان العليل بقليل إسفنج مبلول في شراب عفص أو بماء بارد والأجود أن يخلط بالماء شيء يسير من خلّ. فإن ظهر لك عند استعمالك ذلك من الانتفاخ مقدار صالح ولم يتبيّن لك في شيء من تلك المواضع أثر للمدّة أصلاً فينبغي أن تستعمل المراهم التي تصلح المواضع التي ينصبّ إليها فضل. وأجود تلك المراهم ما من شأنه أن يجفّف وينشّف ويدفع مع ذلك عن العضو ما يجري إليه من الدم من غير تهيّج وجع. فإنّ المراهم التي تهيج تهيّجاً شديداً حتّى توجع وتؤلم فيكون الضرر الحادث منها بالوجع أكثر
من النفع الحادث منها بالتجفيف فيه. فينبغي أن يكون الدواء في قوّته على نحو المرهم الذي من عادتنا أن نتّخذه ونستعمله وهو المتّخذ بالقلقطار. وإن أخذت أيضاً صوفاً نقيّاً فبللته بشراب عفص ووضعته على العضو من خارج أعنى من فوق الدواء كان الانتفاع به أزيد. ومتى ظهرت لك في العضو للمدّة أثر فينبغي ضرورة أن تستعمل الضماد مرّة أو مرّتين أو نحو ذلك. ومن أجود الأضمدة في مثل هذه الحال ما يتّخذ من دقيق الشعير وقد ينبغي أن تخلط فيه أيضاً على حال شيئاً من الخلّ أو من الشراب.
وإن أنت بططت الموضع واستخرجت ما فيه من المدّة فاحذر منه في ذلك الوقت وفيما بعده أن تستعمل الدهن أو الماء. ومتى احتجت أن تغسل الجرح فإنّما ينبغي لك أن تستعمل ماء العسل والخلّ الممزوج والشراب وحده والشراب المخلوط بالعسل. وتضع عليه إن كان قد بقي فيه بعد شيء من الورم شيئاً من الضماد المتّخذ بالعدس وإن لم يكن فيه من الورم شيء فضع عليه بعض سائر الأدوية والمراهم التي نستعملها في مثل هذه الأحوال بعد البطّ وخاصّة الضماد المتّخذ بالقلطار. فينبغي أن تضع عليها من خارج إمّا إسفنجاً وإمّا صوفاً منقعاً بشراب عفص ومتى لم يحضرك شراب عفص فامزج خلّاً بماء حتّى يمكنك شربه وانقع فيه الصوف. والأشربة أيضاً التي يخلط فيها شيء من ماء البحر موافقة في هذه الحال وقد يمكنك أيضاً في وقت الحاجة أن تتّخذ منها ما تحتاج إليه بأن تخلط في الشراب الذي يحضرك ملحاً. واحذر
أن تدني من الجرح شيئاً من الأشياء التي لها دسومة مثل المرهم الذي يسمّى ماقادنيقون والمرهم المتّخذ من أربعة أدوية وذلك أنّ هذه المواضع تحتاج إلى أن تجفّف ويستقصى تخفيفها. فبهذا الطريق ينبغي أن تداوى الأورام التي تكون من فضل دم سال إلى موضع من البدن من غير سبب من خارج.
(٣) فأمّا الأورام التي تكون منه ببعض الأسباب التي من خارج فليس يمنعك مانع من أن تربّطها وتسخنها. وإن قصدت لتقييحها فلا عليك أن تضمدها بدقيق الشعير قد طبخ بماء ودهن. وإن احتجت أيضاً أن تشرطها فليس ينبغي أن تتوقّى ذلك فأمّا الأورام التي تحدث من فضل دم ثمّ يسيل إلى بعض الأعضاء من غير سبب من خارج فإن أنت استعملت فيها الشرط اكتسبت لصاحبها بلاء عظيماً وخاصّة إن فعلت ذلك من أوّل الأمر. فإنّ هذه الأورام إذا طالت بها المدّة وكان البدن كلّه قد استفرغ واستعمل من العلاج ما ينبغي في العضو فبرأ وبقيت فيه بعض الصلابة وكان فيه مع الصلابة سواد فلن تخطئ إن أنت أخرجت منها شيئاً من الدم وذلك أنّ العلّة حينئذٍ ليس ينبغي أن تظنّ بها أنّها العلّة الأولى المسمّاة فلغموني ولكنّها قد آلت إلى جنس آخر من العلل. وكذلك أيضاً الورم الذي يسمّى الحمرة إذا آلت حاله إلى الكمودة والخضرة والسواد فليس ينبغي أن تظنّ بتلك العلّة أنّها بعد حمرة. وقد ينبغي في الورم المسمّى حمرة أيضاً أن تستعمل التبريد في أوّل الأمر وخاصّة متى كان حدوثه من غير سبب
ظاهر. فإذا هدأت حرارته وبطل غليانه فقد ينتفع فيه عند ذلك بالشرط والتضميد بالضماد المتّخذ من دقيق الشعير مسخن وبأن يوضع عليه بعض المراهم التي تحلّل. وليس يجب ضرورة أن تستفرغ من صاحب هذه العلّة من العرق دماً لكنّه يكتفي بأن تسهل بطنه. وينبغي أن يكون الدواء الذي تسقيه من شأنه أن يستفرغ المرّة الصفراء ومتى كانت هذه العلّة يسيرة فليس يضطرّك الأمر أوّلاً إلى أن تسقي صاحبها دواء مسهلاً لكنّه يكتفي بأن تحقنه بحقنة حادّة.
فأمّا ما يحدث من الحمرة بسبب الجراحات والقروح وسائر ما كان منها سببه ظاهراً فلن يضرّ استعمالك فيه على المكان الضماد المتّخذ من دقيق الشعير وخاصّة إن تقدّمت فشرطت الموضع. فأمّا ما كان من الأورام من جنس فلغموني ويشوبه شيء من جنس الورم المعروف بالحمرة وما كان من الأورام المعروفة بالحمرة يشوبه شيء من فلغموني فينبغي أن يكون مذهبك في علاجها أن تخلط علاج إحدى العلّتين بعلاج آخر وتتوخّى دائماً مقاومة أغلبهما. وأمّا الأورام الحارّة أيضاً التي تكون في الغدد التي في الأربيّة والإبط والرقبة وغيرها من المواضع التي قلنا إنّ لها اسماً عند اليونانيّين ويسمّون بعضها بوبون وبعضها فوما وبعضها فوجتلن فإنّما السبيل في علاجها مثل السبيل في علاج العلل الشبيهة بها الحادثة في سائر الأعضاء إلّا أنّ الغدد قد تحتمل من الأدوية ما هو أزيد حدّة من الأدوية التي تحتملها سائر الأعضاء في تلك العلل بأعيانها.
وأمّا العلّة التي تسمّى النملة فينبغي أن تقصد فيها لاستصلاح البدن
كلّه بالاستفراغ على مثال ما يفعل في الورم المسمّى الحمرة. وأمّا ما ينبغي أن يعالج به نفس العضو العليل فليس ينبغي أن يكون في جميع أصناف هذه العلّة مثل الذي يعالج به أصحاب الحمرة. وذلك أنّ ما كان معه من النملة تأكّل فصاحبه يحتاج من التبريد إلى مثل ما يحتاج إليه أصحاب سائر أصناف النملة الأخر وأصحاب الحمرة لكن الأدوية التي فيها مع تبريدها ترطيب فليس يوافق أصحاب ذلك الصنف من النملة لكنّهم إنّما يحتملون من الأدوية المبرّدة ما كان منها شأنه التجفيف. فاحذر أن تستعمل في هذه العلّة الخسّ أو عصا الراعي أو الطحلب أو النيلوفر أو البزرقطونا أو البقلة الحمقاء أو الهندباء أو حيّ العالم أو غير ذلك ممّا شأنه الترطيب والتبريد في مذهب ما ذكرنا من الأدوية التي توافق الحمرة. واحذر أيضاً أن تتقدّم على أن تضع على موضع العلّة في حال من الأحوال إسفنجاً مبلولاً بماء بارد وأن تضع عليه عنب الثعلب على أنّ عنب الثعلب من شأنه التجفيف والتبريد إلّا أنّ التجفيف منه يسير وذلك أنّ الصنف من النملة يحتاج من التجفيف إلى ما هو أقوى من تجفيف عنب الثعلب. فينبغي أن يكون ما تضع على موضع تلك العلّة أمّا في أوّل الأمر فأطراف الكرم وأطراف العلّيق ولسان الحمل ثمّ من بعد ذلك فاخلط بهذه العدس إن احتجت إلى ذلك وشيئاً من العسل أيضاً في وقته وسويق الشعير والضماد الذي وصفته فيما تقدّم من قولي للأورام التي تكون من الدم عن غير سبب من خارج ولكن ينبغي أن تنزع منه حيّ العالم.
وأمّا نفس مواضع
أديفت بالماء فينبغي أن تخلط مع الماء شيئاً من الخلّ فإن أنت أدفتها بماء عنب الثعلب أو بماء لسان الحمل كان الانتفاع بها أبلغ.
وبالجملة قد ينبغي أن تعلم هذا من أمر كلّ قرحة كان حدوثها من تلقاء نفسها أو كان من عفن أنّها تحتاج دائماً إلى تجفيف ولكن تحتاج إلى أن يكون الدواء الذي يجفّف تجفيفاً لا يعنف بها كما قال أبقراط وعنى بذلك أن يكون الدواء لا يلذع موضع القرحة ولا يهيجه تهيّجاً شديداً اللّهمّ إلّا أن تكون القرحة خبيثة معها عفونة. فإن كان ما كان كذلك من القروح فقد يحتاج من الأدوية إلى ما هو منها في غاية الحدّة حتّى تصارع قوّته النار مثل الزاج والقلقطار والزرنيخ الأصفر والأحمر والنورة فقد تحرق هذه الأدوية كما تحرق النار. وكثيراً ما قد نستعمل النار في مثل هذه القروح إذا غلبت هذه الأدوية فقصرت عن فعلها فيها. ولذلك قد يصلح هذا النوع من الأدوية للعلّة المعروفة أيضاً بالحمرة إذا وضعت على نفس موضع الخشكريشة وهو الموضع الذي نالته خاصّة العفونة. وليس ينبغي أن يوضع على ما حول ذلك الموضع فإنّك إن فعلت ذلك أحدثت في ذلك الموضع قرحة وأنت لا تشعر من غير حاجة منك إلى ذلك لكنّه إنّما ينبغي لك أن تستعمل في تلك المواضع الأقراص التي ذكرناها فيما تقدّم من قولنا مثل قرص أندرون. فإن رأيت في تلك المواضع حمرة غالبة والتهاباً شديداً فينبغي أن تديف الدواء بعقيد العنب أو بماء لسان الحمل. فإن كان في تلك المواضع ورم عظيم
فادف الدواء أوّلاً بشراب عفص ثمّ من بعد ذلك بالخلّ وضمّد تلك المواضع بدقيق الكرسنّة المعجون بخلّ وعسل. وقبل جميع ذلك فقد ينبغي منذ أوّل الأمر أن تخرج من الدم مقداراً كافياً إن لم يمنعك مانع.
(٤) فهذه هي وجوه مداواة هذه العلل على حسب كلّ واحد من أجناسها وقد تختلف بحسب طبائع الآلات التي تحدث فيها هذه العلل. ووجوه الاستدلال من الأعضاء على ما يجتاج إليه من مداواة العلل التي تحدث فيها أربعة الأوّل من مزاجها والثاني من هيئتها أعني من خلقتها والثالث من موضعها والرابع من القوّة التي فيها. أمّا من مزاجها فمن قبل أنّ بعضها في طبيعته أميل إلى اليبس وبعضها أميل إلى الرطوبة وبعضها أميل إلى البرودة وبعضها أميل إلى الحرارة وبعضها ميله على التركيب من كيفيّتين فهي إمّا إلى الرطوبة والحرارة أميل وإمّا إلى الرطوبة والبرد وإمّا إلى الحرارة واليبس وإمّا إلى البرد واليبس وبعضها معتدل في جميع الجهات. وينبغي أن يكون غرضك ودستورك في مداواة العضو العليل مزاجه الطبيعيّ وذلك أنّه هو يدلّك إلى أيّ مقدار ينبغي لك أن تبرّد أو تجفّف أو تفعل غير ذلك من الأفعال. من ذلك أنّ الأعضاء اللحميّة إذا حدثت فيها في المثل العلّة التي تسمّى فلغموني فمقدار ما يحتاج إليه من التجفيف يسير. وما كان من الأعضاء الغالب عليه العروق غير الضوارب فإنّ تلك وإن كانت عند حدوث تلك العلّة بها أحوج إلى التجفيف من الأعضاء اللحميّة فإنّها على كلّ حال ليس تحتاج إلى التجفيف القويّ. وأمّا ما
كان الغالب عليه من الأعضاء العروق الضوارب فهو أحوج إلى التجفيف ممّا كان من الأعضاء الغالب عليه العروق غير الضوارب وأحوج من تلك أيضاً إلى التجفيف الأعضاء العصبيّة وأزيد من تلك أيضاً كثيراً الأعضاء الغضروفيّة والأعضاء العظميّة. وذلك أنّ العضو العليل ما لم يعد إلى طبيعته المخصوص بها فليس ينبغي أن تتوهّم أنّه قد استكمل الشفاء. وإنّما يردّ العضو إلى المزاج الذي هو في غاية اليبس الأشياء التي هي في طبيعتها في غاية اليبس وإلى المزاج الذي هو في غاية البرد الأشياء التي هي في طبيعتها في غاية البرد وعلى هذا المثال يجري الأمر في الكيفيّتين الباقيين. والذي يردّ العضو إلى المقدار القصد في كلّ واحد من الكيفيّات ما كان على مقدار قصد من تلك الكيفيّة. فبهذا الوجه تختلف مداواة العلل في الأعضاء بحسب اختلاف مزاجها.
وأمّا بحسب هيئاتها أعني خلقتها فعلى هذا الوجه: إنّ من الأعضاء ما فيه من داخله فضاء ومنها ما له فضاء يحويه من خارج ومنها ما له فضاء من داخله وخارجه ومنها ما لا فضاء له لا من داخله ولا من خارجه. وأنا ممثّل لك ذلك أوّلاً من الأعضاء المفردة فأقول إنّ العروق الضوارب وغير الضوارب أمّا ما هو منها في اليدين والرجلين فله فضاء من داخله فقط وأمّا ما هو منها في جوف الصفاق فله فضاء من داخله وخارجه. وأمّا العصب فما كان منه في اليدين والرجلين فلا فضاء له لا من داخله ولا من خارجه وأمّا ما كان منه في جوف الصفاق فله فضاء من خارجه فقط. ثمّ أمثّل لك ذلك من الأعضاء
المركّبة فأقول إنّ لجميع الأحشاء في الجملة فضاء كبير من داخلها وخارجها. واللحم أيضاً منها مختلف فاللحم من الرئة سخيف واللحم من الكلى على غاية التلزّز والكثافة ثمّ من بعده لحم الكبد فأمّا لحم الطحال فبحسب فضل كثافته وتلزّزه على اللحم الذي للرئة فضل سخافته على لحم الكبد. فينبغي أن تنظر في جميع هذه الأحوال من الأعضاء كلّها فما لم يكن له منها فضاء فليس يمكن أن يقبل شيئاً من الفضل الذي ينصبّ إليها لا من داخلها ولا من خارجها فتلك تحتاج إلى تجفيف قويّ وإن لم تكن في طبائعها جافّة جدّاً مثل العصب وخاصّة ما هو منه في اليدين والرجلين. وما كان من الأعضاء له من داخله وخارجه فضاء يمكن أن يفضي إليه شيء من الورم الحادث فيها فليس تحتاج تلك الأعضاء إلى ما يجفّف تجفيفاً شديداً وخاصّة إن كان اللحم منها رخواً سخيفاً مثل الرئة.
وليس ينبغي أيضاً أن تغفل الاستدلال من موضع العضو على ما ينبغي أن تعالج به العلّة الحادثة فيه فإنّ موضع العضو هو الذي يدلّك خاصّة من أيّ موضع ينبغي أن تستفرغه وكيف ينبغي أن تستفرغه. وما كان من الأعضاء العليلة قد ينصبّ بعد إليها الفضل فإنّما يكون شفاؤها بالجذب إلى ضدّ الجهة التي يجري إليها ذلك الفضل ولذلك يسمّي أبقراط هذا النوع من الجذب باسم مشتقّ من هذا المعنى. وأمّا ما كان من الأعضاء العليلة قد انصبّ إليها الفضل وفرغ فإنّما يكون شفاؤه باستخراج ذلك الفضل من أقرب المواضع التي يكون فيها. وهذين النوعين جميعاً من الاستفراغ إنّما يأمر أن يلتمسا من المواضع التي بينها وبين الأعضاء العليلة
فيه العلّة إن كان قصدك الجذب إلى ضدّ موضع العلّة أو كان قصدكا استخراج ما قد حصل في موضع العلّة من حيث يتّصل به اللّهمّ إلّا أن تكون العلّة متقادمة فإنّها إذا كانت متقادمة جعلنا الاستفراغ من الموضع العليل نفسه.
ومن ذلك أن نفصد لأصحاب الذبحة العرقين اللذين تحت اللسان إذا كنّا قد استفرغنا البدن كلّه وكانت العلّة قد تطاولت وتقادمت. ومن ذلك أيضاً أنّا قد نضع المحاجم على الطحال والكبد في مثل تلك الحال التي قد وصفنا. ومن ذلك أيضاً أنّه متى كانت العلّة في عضو من الأعضاء غير هذه فقد نشرط العضو ونبطّه إلّا أنّا ليس نفعل ذلك ما دامت الأخلاط تنصبّ إليه. فإنّك إن فعلت ذلك في تلك الحال هيّجت تلك الأخلاط إلى الانصباب وزدت فيه وتضاعفت البليّة على العليل لكنّا إنّما نفعل ذلك إذا كان البدن كلّه قد بقي من الفضول وليس يجري إلى العضو العليل شيء إلّا أنّه قد بقي ممّا كان قد انصبّ فيما تقدّم في العضو شيء محتقن. ومواضع الأعضاء ومشاركتها بعضها لبعض علّمنا أنّ ما كان من الأورام والعلل متّصلاً بالكبد فيما يلي حدبتها فينبغي أن تقصد لإدراره نحو البول وما كان منها ممّا يلي الناحية المقعّرة منها فينبغي أن تقصد لإطلاقه نحو البراز. وبذلك أيضاً علمنا أنّ الصدر والرئة إنّما ينبغي أن تقصد لتنقيتها بالسعال والمعدة والمريء إنّما ينبغي أن تقصد لتنقيتهما بالقيء والأمعاء إنّما ينبغي أن تقصد لتنقيتها بالإسهال. وكذلك الطحال والكلى إنّما ينبغي أن تقصد لتنقيتهما بالبول والرحم إنّما ينبغي أن يقصد لنتقيته بإدرار الطمث.
والدماغ والامٮر (؟) إنّما ينبغي أن تقصد لتنقيتهما بالحنك واللهوات والمنحرين. وبمعرفة مواضع الأعضاء أيضاً علمنا أنّه متى كانت العلّة في عضو ظاهر فإنّما ينبغي أن تكون قوّة الأدوية التي توضع عليه بحسب ما تحتاج إليه علّته فقط ومتى كانت العلّة في عضو باطن ولا يمكن أن تلقاه قوّة الدواء حتّى تلقى قبله أعضاء كثيرة فليس ينبغي أن يكون مقدار قوّته بحسب ما هو عليه قبل أن يصل لكن بحسب ما يصير إليه حاله عند وصوله.
فينبغي أن لا ننظر من الدواء إلى قوّته الحاضرة كان ممّا يؤكل أو يشرب أو كان ممّا يوضع من خارج لكن ننظر إلى القوّة التي تحصل له إذا هو وصل إلى العضو العليل. ولذلك متى كان في الرئة ورم حارّ فاحتاج الأطبّاء إلى أن يضعوا أضمدة من خارج تحيط بالصدر جعلوا تلك الأضمدة أقوى كثيراً وأزيد حدّة ممّا لو كانت توضع على نفس الرئة وذلك أنّ هذه الأدوية لمّا إن كانت لا تصل قوّتها إلى الرئة حتّى تلقى قبلها أعضاء أخر كثيرة فيما بين تلك الأدوية والرئة والأدوية لو كانت قوّتها منذ أوّل الأمر ضعيفة لقد كانت لا محالة تستحيل وتبطل فيجب أن تزاد في قوّتها بحسب ما تنقص منها في مسافة الطريق حتّى يبقى من قوّتها بعد أن يصل ما يساوي قوّة الدواء الذي ينفع بملاقاته موضع العلّة. ولذلك متى حدث ورم في الصدر أيضاً ثمّ كان ذلك الورم منه في ظاهره فقد يكتفي فيه من الأضمدة بما شأنه أن يحلّل ويرخي فقط. ومتى كان
الورم منه في باطنه أو كان في الغشاء المستبطن له فقد يحتاج من الأدوية إلى ما هو أزيد حدّة. والقول في هذه الأعضاء التي ذكرنا وفي الطحال وفي الكبد وجميع الأعضاء التي من وراء الصفاق هو قول واحد. فقد يقرح الجلد كثيراً من الأدوية التي توضع على الأحشاء على أنّ الجلد أصلب كثيراً من الأحشاء. ولو كان يمكن أن توضع الأدوية التي يحتاج إليها في كلّ حال من الأحوال على الأحشاء أنفسها لكانت إنّما تحتاج من الأدوية إلى ما هو ألين بحسب فضل لين طبيعتها وسرعة قبولها الأثر ما يؤثّر فيها. والأدوية أيضاً التي يؤمر بأكلها وشربها لتنفع من علل الأحشاء هي أزيد حدّة وأقوى كثيراً ممّا تحتاج إليه تلك الأعضاء العليلة خلا ما تنفع منها المعدة والمريء وإنّ المعدة والمريء فقط من بين سائر الأعضاء الباطنة يقتصر من أدويتها على مقدار ما تحتاج إليه العلل التي تكون فيها فقط. وأمّا سائر الأدوية كلّها فهي أزيد حدّة وأقوى وخاصّة ما يشرب منها بسبب الكلى أو بسبب الرئة.
فانظر كم من عضو يمرّ به الدواء حتّى يصل إلى الرئة فإنّك تجد في عدد تلك الأعضاء غدداً (؟) كثيراً. وذلك أنّه يمرّ أوّلاً بالفم والحلق والمريء ثمّ يمرّ بالمعدة وببعض الأمعاء الدقاق ثمّ بالعروق التي في العضو المريض (؟) ثمّ بالعروق التي تتشعّب في جانب الكبد المقعّر ثمّ ينفذ من تلك العروق إلى العروق التي في حدبة الكبد ثمّ يصير من تلك إلى العرق الأعظم الذي يعرفه اليونانيّون بالعميق وهو الوتين ثمّ يصل بعد ذلك إلى القلب ثمّ من بعد ذلك إلى الرئة. وليس
لقائل أن يقول إنّه لا يخالط ذلك الدواء في ممرّه بكلّ واحد من هذه الأعضاء شيء ممّا فيه من الأخلاط ويناله أيضاً مع ذلك فيه استحالة وتغيّر مشاكلة لطبيعة ذلك الحشا الذي يمرّ به حتّى يكون ما يبقى من قوّته يسيراً جدّاً ضعيفاً بمقدار ما لا يكتفي به في نفع ذلك العضو العليل. فهذا هو مبلغ ما يختلف به علاج العلّة الواحدة في الأعضاء المختلفة بحسب اختلاف مواضعها. وأنا واصف بعد اختلاف العلاج بحسب اختلاف مواضعها اختلاف العلاج بحسب اختلاف القوّة التي تكون في كلّ واحد من الأعضاء.
فأقول إنّ من الأعضاء أعضاء إنّما يقوم تدبير مصالحها بقوى تنبعث إليها ومن الأعضاء أعضاء أخر القوى التي بها يكون تدبير مصالحها غريزيّة فيها. وتلك الأعضاء أيضاً منها ما قواها التدبير لأنفسها فقط ومنها ما هي أصول لقوى تبعث إلى أعضاء أخر غيرها. وبعض الأعضاء إنّما فعله له خاصّة وبعضها قد يعمّ فعله سائر الأعضاء. فيجب ضرورة أن يختلف علاج الأعضاء بحسب كلّ واحد من هذه الأصناف من اختلافها. وذلك أنّ من الأدوية أدوية كثيرة قد تحلّل العلل إلّا أنّها تضرّ بالقوى الغريزيّة التي في تلك الأعضاء العليلة وما ينال تلك الأعضاء من الضرر يصل إلى البدن كلّه. وذلك يكون على ضربين إمّا لأنّ ذلك العضو أصل لقوّة تعمّ جميع الأعضاء وإمّا لأنّ فعل ذلك العضو نافع لجميع البدن. من ذلك أنّ الكبد والقلب والدماغ والأنثيين أصول لقوى مشتركة
تعمّ جلّ أعضاء البدن فأمّا المعدة والرحم فالقوّة التي في كلّ واحد منهما غريزيّة له لكنّه ليس يشركه فيها ولا واحد من سائر الأعضاء وأمّا الفعل فهو من المعدة عامّ النفع لجملة البدن وليس الفعل من الرحم كذلك.
ومداواة العلّة كما قلت قبل قد تضرّ كثيراً بالقوّة التي في العضو الذي فيه العلّة. وذلك أنّ ما كان من الأدوية يحلّل ويرخي إرخاء شديداً مفرطاً فإنّه يحلّ شدّة العضو فيجب من ذلك أيضاً أن يحلّ قوّته. وما كان أيضاً من الأدوية يبرّد تبريداً شديداً مفرطاً فإنّه يطفئ الحرارة الغريزيّة التي هي خليق أن تكون كما قد ظنّ قوم من علية الأطبّاء والفلاسفة إنّما هي جوهر القوى فإن لم يكن جوهر القوى فهي لا محالة أوّل آلاتها والتي هي إليها أحوج ضرورة من سائر آلاتها. وقد تكون في الأدوية أيضاً كيفيّات ما منكرة تحلّ القوى وتسقطها. فليس ينبغي أن يفوتك شيء من هذه الأشياء في مداواة العلل كيما لا يفوتك وأنت لا تشعر أنّ العلّة قد برأت إلّا أنّ العليل مات كما قد ترى الأكثر يفعل دائماً ممّن ينتحل التجربة بلا قياس ومن ينتحل تلك المقالة الرديئة التي قد أفسدت جميع محاسن الطبّ التي يسمّى ماثوديقي. وأصحاب تلك المقالة قد يتعلّقون بشيء من القياس إلّا أنّه قياس رديء كثير الخطاء.
وقد يدخل في باب الاستدلال من القوّة التي في الأعضاء أن تكون قليلة الحسّ أو كثيرة الحسّ. فإنّ ما كان من الأعضاء كثير الحسّ لم يحتمل الأدوية الحادّة ولا الأخلاط الحادّة. من ذلك أنّه متى اجتمع في فم المعدة خلط حارّ
دائماً من نفس العلّة وأمّا الأمراض التي تكون بغلبة مزاج مفرط فقط فإنّ برءها يكون بالكيفيّات المضادّة لها. أمّا المزاج الحارّ فبالأشياء المبرّدة كانت تلك الأشياء المبرّدة تبرّد بطبيعتها أو كانت تبرّد بالعرض والمزاج البارد فبالأشياء المسخنة وكذلك اليابس بالأشياء المرطّبة والرطب بالأشياء المجفّفة.
وأمّا الأمر فيما يسخن بطبيعته أو بالعرض فقد نظرنا فيه وبحثنا عنه بحثاً شافياً ونظراً بالغاً كما قد علمت في كتابنا في قوى الأدوية المفردة فبيّنّا أنّ الشيء الذي يبرّد بطبيعته ربّما أسخن بالعرض كصبّ الماء البارد على البدن إذا أحدث للحرارة انعطافاً وحقنها إلى البدن وأنّ الشيء الحارّ في طبيعته قد يبرّد بالعرض مثل صبّ الماء الحارّ على البدن الذي يسخنه ويوسّع مسامّه حتّى يحلّل الحرارة التي فيه. وما كان من تغيّر الأبدان في الكيفيّات الفاعلة له فقط فعودته تكون إلى الحال الطبيعيّة بقوّة الأشياء التي تسخن وتبرّد وترطّب وتجفّف فقط من غير أن يحتاج البدن إلى استفراغ. وأمّا ما كان من تغيّر الأبدان بسبب انصباب مادّة من الموادّ فينبغي أن تنظر في تلك المادّة فإن كانت معتدلة المزاج فالعضو يحتاج 〈في〉 تلك العلّة إلى الاستفراغ فقط وإن كانت غير معتدلة المزاج فالعضو يحتاج إلى الاستفراغ وإلى الاستحالة بالكيفيّات المضادّة التي تغلب عليه أمّا الاستفراغ ففي مثل العلل التي تحدث من انصباب الفضل. وقد كتبنا في تلك العلل كما قد علمت مقالة مفردة وبيّنّا في تلك المقالة في أوّلها أنّ هذه
العلل إنّما تحدث من ضعف القوّة الغادية عندما يجري ما يجتمع من الفضل إلى الأعضاء التي هي أضعف جميع الأعضاء. ومتى كان الدم الذي يجري إلى تلك الأعضاء في هذه العلل التي ذكرنا قد يشوبه شيء من الأخلاط الرديئة حدثت منه علّة مختلطة مركّبة ولعلّ ذلك قد يكون في الندرة. وأمّا الذي رأيته دائماً فأن يكون الدم الذي يجري إلى تلك الأعضاء دماً رقيقاً ليس يشوبه بلغم ولا مرّة صفراء ولا سوداء. ومتى تورّم عضو من الأعضاء من أيّ سبب كان تورّمه فقد ينبغي أن تنظر هل ذلك الورم من الأورام الحارّة التي تسمّى فلغموني أو من الأورام الصلبة التي تسمّى سقيدوس أو من الأورام الرخوة التي تسمّى أوديما وعنيت في هذا الموضع باسم فلغموني كلّ علّة حارّة ملتهبة وقد وصفت أصنافها قبيل. وقد آن لي أن أرسم لك من أمر الأورام الرخوة التي من جنس الانتفاخ والتربّل شيئاً بإيجاز لتتذكّر به ما سمعته منّي على الشرح البالغ.
(٥) فأقول إنّ هذا الجنس من الأورام خاصّة يسمّيه اليونانيّون أوديما وهو ورم رخو لا وجع فيه. وقد بيّنّا لك أنّ هذا الورم إنّما يكون من جوهر بلغميّ أو من ريح بخاريّة مثل الذي يتولّد في جثث الموتى حتّى تنتفخ منها ومثل الذي يتولّد في القدمين وسائر ما يتّصل بهما من الساقين والرجلين كثيراً في علل الاستسقاء وللسلّ من قرحة الرئة وغير ذلك ممّا أشبهها من العلل التي يفسد فيها مزاج الأعضاء الأصليّة فساداً فادحاً. إلّا أنّ ما يحدث من الانتفاخ في تلك العلل إنّما هو عرض تابع لعلّة خبيثة ذات خطر وليس يحتاج إلى علاج يخصّه
دون علاج العلّة التي تخصّها. فقد يسكّنه الدلك فقط بدهن ورد مخلوط بخلّ وربّما استعمل فيه الملح مع الدهن أو ملح مع دهن الورد المضروب بالخلّ وأشياء أخر كثيرة شبيهة بهذه فيسكن. ومتى كان هذا الانتفاخ بسبب كيموس بلغميّ سال إلى عضو من الأعضاء فربّما سكّنه إسفنج مبلول بماء قد خلط به شيء يسير من خلّ. فإن لم يسكّنه ذلك فزد من الخلّ فضلاً قليلاً والمعتدل من مزاج الخلّ والماء ينبغي أن يكون بقدر ما يمكن شربه. وما كان أرقّ من هذا المقدار فينبغي أن تستعمل في أوّل الأمر في الأبدان الليّنة وما كان أقوى منه فينبغي أن تستعمل في الأبدان القويّة التي الجلد منها صلب وفيمن قد استعمل فيه أوّلاً الرقيق والمعتدل فلم ينتفع بهما. وقد ينبغي أن يكون الإسفنج الذي يستعمل جديداً فإن لم يحضرك جديد يعني قريب العهد بالبحر فينبغي أن تستقصي غسل ما يحضرك منه بالنطرون وبالبورق وبماء الرماد المعروف بالقاطر.
فإن لم يسكن الانتفاخ عند استعمالك ذلك أيضاً فينبغي أن تلقي في الماء معما تلقي فيه شيئاً يسيراً من الشبّ ويكون الإسفنج الذي تضعه جديداً لا محالة. فإن كان هذا الانتفاخ في بعض مواضع اليدين والرجلين فينبغي لك أن تستعمل الشدّ وتبتدئ به من أسفل وتنتهي به إلى فوق وتتوخّى أن يكون وقوع الرباط ومقدار ضغطه وتلفيفه كلّه مثل الذي يفعل في الكسر. فإنّ الغرض في مداواة هذه العلل وأشباهها مركّب من شيئين أحدهما أن تحلّل شيئاً من جوهرها والآخر أن تجمع العضو وتشدّه. فإن استعملت ما قد تقدّم ذكره فلم يسكن الانتفاخ
فينبغي عند ذلك أن تستعمل من الأدوية ما هو أقوى من هذه ممّا طبيعته مركّبة من هاتين القوّتين اللتين وصفناها. وأمّا أنا فقد عالجت ورماً من هذا الجنس قد كان تقادم بأن مسحت العضو أوّلاً بدهن ثمّ وضعت عليه إسفنجاً مبلولاً بماء الرماد وشددته شدّاً أزيد وثاقاً فبرئ صاحب تلك العلّة من علّته برءاً تامّاً. وبيّن أنّه لم يكن الغرض في ذلك العلاج تركيب القوّتين لكن إنّما ننحو به خاصّة نحو التحليل والتقطيع وقد نعلم أنّ ذلك العلاج منجح بالغ في كلّ علّة تطول في كلّ عضو على الأمر الأكثر. وإذ قد وصفنا من أمر الأورام الرخوة ما يكتفي به فقد ينبغي أن نتبع ذلك بصفة أمر الأورام الصلبة التي يسمّيها اليونانيّون سقيروس.
(٦) وهذا الورم متى كان خالصاً كان مع صلابته عديم الحسّ أصلاً ومتى لم يكن خالصاً فلن يكون عديماً للحسّ أصلاً لكنّه يكون قليل الحسّ لا محالة. وما كان من هذا الورم عديم الحسّ فلا برء له وأمّا ما كان منه قليل الحسّ فليس هو ممّا لا برء له لكنّه ليس هو ممّا يسهل برؤه. فإنّ هذا الورم يكون من خلط لزج غليظ يرسخ في تلك الأعضاء التي يحدث فيها هذا الورم رسوخاً يعسر تحليله. وربّما ابتدأ هذا الورم قليلاً قليلاً وتزيّد حتّى يستحكم وفي أكثر الأمر إنّما يحدثه الأطبّاء عند تبريدهم وتقبيضهم الأورام الحارّة تبريداً وتقبيضاً شديداً. وإن استعمل مستعمل في الأعضاء التي يحدث فيها الورم الصلب من الأدوية ما معه تحليل قويّ فإنّ ذلك الورم ينقص في أوّل الأمر نقصاناً بيّناً حتّى تثق أنّه إن داوم استعمالك تلك الأدوية استكمل
شفاء ذلك الورم في مدّة يسيرة وليس الأمر بالحقيقة كذلك فقد يجهل المستعمل لهذا الطريق أنّه باستعماله إيّاه يصيّر باقي العلّة إلى حال لا يمكن معها البرء. وذلك أنّه إذا تحلّلت الرطوبة الرقيقة اللطيفة التي فيه جفّ ما يبقى فيه منها حتّى يصير بمنزلة الحجر.
فقد يجب من ذلك أنّه ينبغي أن يكون الدواء الذي تقصد به لشفاء الأعضاء التي يحدث فيها الورم الصلب ليس بمجفّف جدّاً لكن تكون فيه حرارة فاترة وتكون الرطوبة فيه لا كثيرة ولا قليلة جدّاً. وذلك أنّ ما كان رطباً جدّاً مفرط الرطوبة فليس بمحلّل أصلاً وما كانت رطوبته قليلة جدّاً فهو يجفّف بأشدّ ممّا يحتاج إليه. فينبغي أن ينال الموضع الذي فيه الورم الصلب من الدواء الذي من شأنه أن ينفعه مثل الذي ينال الشيء الجامد من الشمس حتّى تحلّه الأدوية التي هذه حالها 〈التي〉 تسمّى مليّنة. وقد تكلّمنا فيها كلاماً أبين من هذا في المقالة الخامسة من كتابنا في الأدوية المفردة. ووصفنا أيضاً مثالات منها فذكرنا من المفردة الأمخاخ كلّها والشحوم. والمقدّم على جميع الأمخاخ مخّ الأيّل ثمّ يتلوه مخّ العجل فأمّا الشحوم فأبلغها من شحوم الطائر شحم البطّ ومن شحوم ذوات الأربع شحم الأسد. ويتلو شحم البطّ شحم الدجاج ويتلو شحم الأسد 〈شحم〉 النمر ويتلو شحم النمر شحم الدبّ ويتلوه من بعدها شحم الثور وأمّا شحم الماعز فهو أغلظ من هذه وأميل إلى اليبس خاصّة شحم التيوس.
وقد قلنا فيما تقدّم إنّ هذه العلّة ليس يحتاج فيها من الأدوية إلى ما يجفّف تجفيفاً شديداً. وأمّا الحال في اختلافها في اللطافة والغلظ فقد أشرنا إليها إلّا أنّا لم نشرجها ونبيّنها بعد. ولذلك قد ينبغي لي أن
فكنت أرى ذلك الورم الصلب رؤية بيّنة عند استعمال تلك الأطلية التي تتّخذ بالخلّ فنقص نقصاناً بيّناً كثيراً وعند استعمال الأطلية التي ترخي وتليّن فلا ينقص ولكن جعلت استعمال تلك مرّة وهذه أخرى مع المقدار الذي ينبغي فباستعمالي ذلك برأ ذلك الصبيّ. ولو أنّ مستعملاً اقتصر على استعمال أحد هذين الجنسين من الأدوية فعالج به ذلك الصبيّ لما انحلّ به عند ذلك الورم الصلب.
ومتى كان هذا الورم الصلب في الأوتار وأعني بالأوتار أطراف العضل حيث ينحسر عنها اللحم ويحصل العصب فقط فإنّك إن استعملت أوّلاً الأدوية التي وصفنا ثمّ استعملت بعد هذا العلاج بالحجر الذي يعرف بالمرقشيثا رأيت منه منفعة بيّنة جدّاً. وقد ينبغي أن تحمّي ذلك الحجر بالنار ثمّ ترشّ عليه من الخلّ ما هو في غاية الثقافة ثمّ تعلّق العضو الذي فيه العلّة فوق الحجر ويرجّح عليه كيما يلقاه البخار الذي يترقّى منه فينحلّ به ورمه الصلب. فقد رأيت أعضاء كثيرة قد كانت تعقّفت أصلاً وتنشب فيها الزمانة عندما استعمل فيها هذا الطريق من العلاج قد برأت برءاً تامّاً وهي بعد ترجّح في ذلك البخار حتّى يكون ذلك بمنزلة سحراء ورقية. لكنّه ينبغي أوّلاً أن يهيّأ ويعدّ العضو الذي فيه الورم الصلب بالتليين بالأدوية التي وصفناها في وقت العلاج أيضاً بذلك الحجر فقد ينبغي أن تتقدّم فتنطل العضو تنطيلاً كثيراً بدهن مسخن وتختار من الدهن ألطفه مثل الزيت المعروف من بلده بسابين أو غيره ممّا يعدله في اللطافة. ولا بأس أيضاً أن يطبخ فيه الشبتّ
بورقه وخاصّة الطريّ منه الغضّ. فإن لم يحضرك الحجر المعروف بالمرقشيثا فاستعمل مكانه حجر الرحا ومن عادة الناس أن يسمّوا بهذا الاسم الحجر الذي يهيّأ منه الرحا التي يطحن فيها البرّ.
(٧) ومتى كان الورم الصلب في الطحال فليس ينبغي أن تقتصر على علاجه بالأدوية القويّة التي تضعها عليه من خارج دون أن تعالجه أيضاً بالأدوية القويّة التي تشرب وتقصد منها إلى أقواها فإنّ هذا الحشا قد يحتمل القويّ من الأدوية بلا أذى ولا مكروه. وأبلغ تلك الأدوية فيه قشر أصل الكبر والحشيشة التي يسمّيها اليونانيّون اسقولوفندريون وأصل الطرفا وأطرافه وينبغي أن تطبخ جميع هذه وما أشبهها بالخلّ والسكنجبين. وكثيراً ما تجسّ الطحال فتجده يدافع يدك ولا يكون فيه ورم صلب ولكن تكون فيه نفخة من ريح وإذا كان كذلك فينبغي أن تتقدّم أوّلاً فتنطل بدهن ورد قد ظبخ فيه أفسنتين ثمّ يوضع عليه ضماد معه قوّة مركّبة مثل الضماد المتّخذ بالكبريت والشبّ. فقد تجد تأليف أكثر الأدوية المرسومة للطحال في الكتب التي فيها تثبيت نسخ الأدوية تسلك هذا المسلك. وقد ينبغي لك أن لا تقتصر على تفقّد قوى الأدوية التي منها تركيب الخلط دون أن تتفقّد مع ذلك مقادير ما يخلط من كلّ واحد منها. فإنّه متى كانت في الطحال نفخة من ريح فلن تضرّ الأدوية القابضة التي تقع في الخلط وإن أكثرت مقاديرها وأحرى أن لا تضرّ متى كانت النفخة التي في الطحال من جنس الورم الرخو البلغميّ. ومتى كان في الطحال ورم صلب فينغي أن
يكون الغالب في الخلط قوّة الأدوية المحلّلة ويكون مخالطاً لها شيء يسير من قوّة الأدوية القابضة. وقد نرى أنّ ما كانت هذه حاله من الأدوية المفردة قد ينفع الورم الصلب الذي يكون في الطحال مثل السورج الذي يكون فوق الملح في الملاحة فإنّه إذا طلي على قطعة جلد ووضع على الطحال من خارج برئ به الورم الصلب الذي يكون فيه.
وأمّا الورم الصلب الذي يكون في الكبد فقد عالجنا منه في أوائل حدوثه مراراً كثيرة وأمّا ما تطاولت به الأيّام منه فلا أنا قد قدرت على أن أتأتّى لبرئه ولا رأيت غيري وصل إلى ذلك منه. وجميع من تصيبه هذه العلّة يلحقه منها الاستسقاء وأكثر أصحاب هذه العلّة يموتون بعد مدّة أطول. وقد رأيت منهم من عطب سريعاً وهو من كان منهم به اختلاف كثير وبيّن أنّ القصّة في أولائك كانت أنّ أفواه العروق التي يتأدّى فيها الغذاء من جانب الكبد المقعّر إلى جانبها المحدّب كانت قد ضاقت وانضمّت واجتمعت ضيقاً وانضماماً شديداً. وأمّا من برئ من أصحاب هذه العلّة فإنّما كان برؤه وتخلّصه بالعلاج الذي وصفنا أنّه ينبغي أن يعالج به الورم الصلب الحادث في الأعضاء العضليّة. فإنّ هذا الحشا ليس يحتمل الأدوية القويّة كما يحتمل الطحال فإنّما ينبغي لك أن تعمد إلى تلك الأدوية التي نستعملها في أورام الكبد التي من جنس فلغمني فتقويتها بأن يخلط مهعا بعض الأدوية المعروفة بالمليّنة ونستعملها في ورم الكبد. وقد كانت تلك الأدوية التي نستعملها في ورم الكبد الذي من جنس
فلغموني متّخذاً من حشيسة الأفسنتين وكسب أو قشر حبّ البان وصنفي سنبل الطيب أعني الهنديّ والاقليطي وهو الذي يسمّيه الفرس مرزنجوش وزعفران وورد الكرم والسعد والمصطكى الذي يؤتى به من كيوس والأدهان الطيّبة المتّخذة من سنبل الطيب وبالدهن المتّخذ بالمصطكى والمتّخذ من شجرة المصطكى والمتّخذ بالسفرجل والمتّخذ بورد الكرم. فهذه الأدوية إذا خلط فيها الأشّق والمقل والأمخاخ التي ذكرناها والشحوم كان منها شفاء الورم الصلب الحادث في الكبد. وبيّن أنّه قد ينبغي أن يكون مع ذلك ما ينبغي من التدبير بالأغذية وغيرها ممّا يدبّر به البدن وشرب ما ينبغي أن يشرب من الأدوية فينبغي أن يكون الغرض في ذلك تفتيح السدد من الكبد وجلاء ما قد رسخ فيها وغسله. وجميع هذه قد يفتّت الحجارة التي تكون في الكلى وقد كتب كثير من الأطبّاء في هذه الأدوية فوصف مادّتها. وقد ينبغي أن تخلط بهذه الأدوية بعض الأدوية التي تدرّ البول والأدوية أيضاً التي تدرّ البول كثيرة وقد كتب فيها كثير من الأطبّاء فوصف مادّتها وقد وصفناها نحن أيضاً في كتبنا في الأدوية. ولذلك قد يكتفي في مخاطبتي إيّاك خاصّة ما قد وصفت من هذا الباب.
(٨) فقد آن لي أن أقبل على جنس آخر من الانتفاخ الذي تكون مادّة تولّده ريح غليظة نافخة. وقد يسمّى هذه الريح نافخة ويسمّى أيضاً نفخة وهي كما قلت ريح غليظة بخاريّة في جوهرها لا هوائيّة رقيقة. وافهم عنّي طبيعة هذه الريح من هذا الهواء المحيط بنا بأن تخطر ببالك كيف تكون حاله إذا هبّت الجنوب وكيف
تكون حاله إذا هبّت الشمال. فإنّ الريح النافخة شبيهة بالهواء عند مهبّ الجنوب والروح الطبيعيّ التي فينا شبيهة بالهواء عند مهبّ الشمال. وممّا يعين على أن لا تنحلّ تلك الريح تكاثف الأجسام التي هي من ورائها. فيجب أن يكون الغرض في علاج هذه العلّة غرضاً واحداً عامّاً للأمرين جميعاً أعني تسخيف تلك الأجسام المتكاثفة وتلطيف تلك الرياح الغليظة. فإنّك إذا أسخنتها جميعها إسخاناً بالغاً بجوهر لطيف سخّفت الجسم أيضاً المتكاثف ولطّفت الريح الغليظة. وطبيعة الأعضاء التي فيها العلّة قد تدلّك وتستدلّ على الموافقة من الأدوية وغيرها ممّا تعالج به وعلى المقدار الأزيد والأنقص الذي ينبغي أن تقدّره منها.
فإنّ هذه الريح الغليظة البخاريّة ربّما اجتمعت من وراء الأغشية التي تحيط بالعظام فاحتقنت فيها وربّما اجتمعت من وراء الصفاق وربّما اجتمعت في جوف الأمعاء أو في جوف المعدة فاحتقنت فيها وربّما احتقنت أيضاً من وراء الأغشية التي تحيط بالعضل أو من وراء الوترات الشبيهة بالأغشية. فقد تحتقن أيضاً في الأماكن التي إنّما إدراكها يكون قياساً لأجسام من العضل ومن سائر الأجسام وقد وصفت أمر تلك الأماكن في كلامي في التشريح. وبهذا الوجه قد تنتفخ العضلة نفسها وتحتقن الريح النافخة في نفس جثّة المعدة والأمعاء. ومتى كانت تلك الريح مع غلظها باردة شديدة البرد حدث عنها وجع شديد جدّاً. والعلاج العامّ الذي يشتمل على جميع هذه النفخ كما قلت يكون بجوهر لطيف وإذا كان مع النفخة وجع فينبغي أن يكون مع ذلك
الجوهر اللطيف من الحال ما يقوى به على تسكين الوجع. وبحسب اختلاف الأعضاء التي تعرض فيها هذه العلّة تختلف موادّ ذلك الجوهر ويزاد في قوّته وينقص منها.
من ذلك أنّه متى حدث في الأمعاء بسبب هذه الريح النافخة وجع فإنّك إن حقنت صاحبها بدهن لطيف قد طبخت فيه بعض الأدوية التي تظبخ فيه في هذه الحال سكنّت عنه الوجع على المكان. فأمّا الأدوية التي تطبخ بالدهن فلتكن أدوية مسخنة مع لطافة وهي الكمّون الذي ينبت عندنا والكمّون الحبشيّ وهو أقوى من الذي ينبت عندنا وبزر الكرفس البستانيّ والجبليّ الذي يسمّيه اليونانيّون فطراسالينون وبزر الرازيانج البرّيّ والأفربيون الروميّ والأنيسون والكاشم الروميّ الذي يسميّه اليونانيّون ليبسطيقون والأنجدان الروميّ الذي يسمّيه اليونانيّون ساسالي وبزر الجزر البريّ وبزر الحشيشة التي يسمّيها اليونانيّون سبندوليون. فإنّ ذلك الأمر على أنّ حال تلك الأعضاء التي فيها الوجع حال برد فاطبخ في ذلك الدهن سذاب ورازيانج وحبّ الغار واخلط معه قفر قير ودهن الغار وسائر ما معه من الإسخان مثل ما مع هذه. فإن ظننت أنّه يشوب ذلك الوجع شيء من الورم الحارّ المسمّى فلغموني فاحذر ما كان من الأدوية معه حرافة شديدة وإسخان قويّ واستعمل ما معه من ذلك مقدار قصد وهو ما قوّته أن ترخي وتحلّل فاطبخ عند ذلك في الدهن مكان السذاب شبتّاً واخلط معه شحم البطّ أو شحم الدجاج. وهذا ما ينبغي أن تفعله متى كان الوجع شديداً فأمّا متى كان الوجع ليس بشديد فقد
ستّة أشهر. ومتى كانت العلّة في الأمعاء الدقيقة فالأدوية التي تشرب أبلغ وأنجح وأسرع عملاً في تسكين الوجع ومتى كانت العلّة في الأمعاء الغلاظ فما يحتمل من الأدوية في المقعدة أبلغ فيها وأسرع نفعاً. وقد ينفذ من قوّة الأدوية التي تشرب مقدار ليس باليسير إلى الأمعاء السفلانيّة إذا كانت العلّة فيها ومن قوّة الأدوية التي تحتمل في المقعدة إلى الأمعاء الفوقانيّة إذا كانت العلّة فيها.
فأمّا اجمتاع الريح النافخة في المواضع اللحميّة فربّما لم يكن معه وجع أصلاً ويلبث مدّة أطول وخاصّة متى كان قريباً من مفصل وذلك من قبل أنّ ما يلي المفصل من العضل أكثر عصباً وأشدّ تكاثفاً فأمّا ما فوق ذلك الموضع من العضل أعني الموضع الأوسط منها فهو أكثر لحماً وأسخف. وقد تأتّيت لبرء هذه العلل كما قد علمت بالأدوية التي تتّخذ بالزفت وصمغ البطم وشحم الأسد وشحم الثور. وقد ينفع في هذه العلل أيضاً الضماد المتّخذ بوسخ الحمّام والنورة والضماد المتّخذ بالخمير وبالجملة كلّ دواء قويّ اللطف ألقيت فيه خلط من أدوية مليّنة.
(٩) وإذ قد وصفنا من هذا الباب أيضاً ما يكتفي به فقد ينبغي أن نأخذ في صفة أمر الخراجات والدبيلات. ويعمّهما عند اليونانيّين اسم واحد وهو أفوسطيماطا وهذا الاسم مشتقّ في لسانهم من التفرّق والتباعد ويسمّون به العلل التي تتفرّق فيها أجسام قد كانت أوّلاً متلامسة حتّى يباعد بعضها عن بعض. وإذا كان كذلك فلا بدّ من أن يحدث فيما بين
الجسمين اللذين قد تفرّقا موضع خالٍ ولا بدّ من أن يكون ذلك الموضع يحوي جوهراً من جنس الريح أو من جنس الرطوبات أو مركّباً منهما. وقد ينتقل إلى هذه العلّة بعض الأورام الحارّة التي تسمّى فلغموني وكثير من الأورام المعروفة بالحمرة التي قد يشوبها شيء من فلغموني. وقد تكون هذه العلّة من غير تلك الأورام بسبب فضل من رطوبات أو من رياح بخاريّة إمّا متولّدة في نفس مواضع العلّة وإمّا جارية إليها من مواضع أخر وإمّا صائرة إليها على طريق الانتقال وأعني بالانتقال إذا كانت الأخلاط من أخلاط قد كان يتأدّى بها أوّلاً في عضو من الأعضاء فانصرفت عن ذلك العضو وانتقلت إلى غيره وبأيّ وجه من الوجوه حدثت هذه العلّة فالموضع الذي بين الجسمين اللذين تفرّقا يمتلئ من تلك الرطوبات التي أحدثت ذلك التفرّق.
فإذا طال لبث تلك الرطوبات فإنّه ربّما حدثت فيها استحالات كثيرة مختلفة فقد توجد كثيراً في الدبيلات أجسام شبيهة بالحجارة وبالرمل والأخزاف وبالخشب وبالفحم وبالطين وبعكر الزيت وبالدرديّ وبغير ذلك من أنواع شتّى. وما كان منها حدوثه فيما يلي الجلد فتعرّفه من أسهل الأمور ومداواته ليست بالصعبة وذلك أنّه تستدلّ عليه بسهولة بخاصّيّة الملمسة ويداوى بالأشياء التي توضع عليه من خارج من غير أن يحتاج إلى أدوية تشرب مثل الذي يحدث منها في باطن البدن وخاصّة في الأحشاء. وأمّا عند الغمز لتعرّف الاستدلال قد يتحرّك ما يتقيّح من الأورام تحت مغمز الأصابع
ولا يدافع مدافعة الورم المسمّى فلغموني وخاصّة ذلك الانحراك متى كان في الورم رطوبات رقيقة غير خصوصيّة متى كان فيه قيح ومتى كان فيه خلط لزج مخاطيّ فخصوصيّة انحراكه غير خصوصيّة انحراك الأوّل. وكثيراً ما نغمز على موضع الدبيلة فنحسّ منه بتمدّد شبيهاً بالتمدّد الذي يكون من الريح فإذا نحن بططناه وجدنا فيه دماً جامداً. فمن رأى هذه العلّة مرّتين أو ثلاثة ثمّ كان حريصاً حافظاً قدر أن يستدلّ في تلك الأورام أنّ الشيء المحصور فيها دم جامد بما قد أودع حفظه من خصوصيّة ذلكـ التمدّد والانحراك. وخليق أن يكون الأجود أن نقول مكان خصوصيّة التمدّد والانحراك في هذا الموضع كيفيّة التمدّد والانحراك.
وأمّا علاج الأورام الحارّة التي تكون في ظاهر البدن إذا آلت الحال فيها إلى أن تصير في حدّ الدبيلات أعني إلى أن تتفرق أجسام قد كانت متماسّة فتجتمع الفضول فيما يحدث بينهما من الفضاء بسبب ذلك التفرّق والتباعد بعضها عن بعض أمّا في أوّل مبدأ حدوث ذلك فيكون بالطريق الذي يسلك فيه مسلك تسكين الوجع وإرخاء التمدّد ثمّ من بعد إذا استمكن أعني استحكم الأمر في هذه العلّة فبالانتقال إلى الطريق الذي يسلك فيه مسلك الإنضاج والتقييح. فقد وصفت ذلك الطريق كما وصفت سائر أشباه ذلك من طريق العلاج في المقالة الخامسة من كتابي في الأدوية المفردة. فقد ينبغي حينئذٍ أن تمعن في صبّ الماء الحارّ على العضو الذي فيه الورم فتغرقه بالذهن المسخن وتضمّده بدقيق الحنطة بعد أن
تطبخ معه ماء ودهن طبخاً معتدلاً. فإنّ هذا الضماد أسرع تقييحاً من الضماد المتّخذ من الخبز وذلك أنّ الضماد المتّخذ من الخبز أبلغ في التحليل لما في الخبز من الملح والخمير ولجودة نضجه وليس من ذلك شيء موجود في الضماد المتّخذ من دقيق الحنطة. وإذا أنت رمت مداواة ورم حارّ قد يبدأ في التقيّح ثمّ رجوت أن تمنعه من التقيّح فاطبخ الخبز وبالغ في طبخه بعد أن تبلّه بماء ودهن وينبغي أن يكون الماء أضعاف الدهن. وأبلغ من هذا الضماد في منع التقييح الضماد المتّخذ من دقيق الشعير إذا طبخ على مثل هذا المثال وينبغي أن يكون قد طبخ في الماء الذي تصبّه في موضع العلّة في هذا العلاج أصل الخطميّ.
فإن كان في الجلد المحيط بالعضو الذي فيه الورم تمدّد شديد فينبغي أن تشرطه شرطاً غير غائر ثمّ تطبخ دقيق الشعير كما وصفت وتضمّده به. وقد جرّبت مراراً كثيرة الشرط الخفيف الذي ليس بغائر والشرط الغائر العمق في الطول والشرط الذي هو فيما بين هذين الشرطين في الطول والعمق فوجدت الشرط الذي ليس بغائر ضعيف النفع قليل العناء ووجدت الشرط الغائر العمق في الطول يستفرغ من الدم مقداراً كثيراً جدّاً حتّى يكاد صاحبه يغشى عليه إلّا أنّ الشرط نفسه يحتاج إلى علاج خاصّ بمنزلة ما تجتاج الجراحات. ووجدت الشرط الذي بين الشرطين سليماً من الآفتين اللتين وصفنا ولذلك آثرت استعماله دائماً على استعمال غيره من الشرط. إلّا أنّه متى كان الورم عسر التقييح وعسر التحليل فقد يدلّنا ذلك منه أنّ الأخلاط التي لحجت في ذلك العضو
معها فضل غلظ ولزوجة ففي مثل تلك الحال فقط يصلح استعمال الشرط الغائر. وممّا يصلح أيضاً في هذه الأورام الضماد المتّخذ بالتين اليابس المطبوخ وليس ينبغي أن يكون ما يلقى في الضماد من التين نفس جرمه بل الماء الذي طبخ فيه التين حتّى تهرّأ. وينبغي أن يكون التين من أحلى ما يكون منه وأسمنه حتّى تكون فيه رطوبة شبيهة بالعسل فإنّك إن أخذت ما كانت هذه حاله من التين فطبخته وبالغت في طبخه صار الماء الذي طبخته فيه شبيهاً في قوامه بالعسل الرقيق. فينبغي أن تقصد إلى ذلك الماء فتخلطه فيه مرّة بدقيق الشعير ومرّة بخبز الخشكار وهو الخبز المتوسّط بين النقيّ الذي في غاية النقاء وبين الخبز المتّخذ من الحنطة أعني القطاعة.
وقد يقتصر بعضهم في تسمية هذا الخبز على أن ينسبه إلى جملة الحنطة لأنّ الخبز النقيّ ليس يتّخذ من دقيق الحنطة على وجهه لكنّ بعد أن تقطع فتميّز نخالته وقطاعته من لبّه. والخبز المتّخذ من القطاعة أيضاً ليس يتّخذ من جملة دقيق الحنطة لكن بخلاف الخبز النقيّ ينتزع أوّلاً منه لبّه. فأمّا خبز الخشكار فيتّخذ من دقيق الحنطة على وجهه من غير أن يميّز وينبغي أن يكون أيضاً الحنطة التي يتّخذ منها ذلك الدقيق من الحنطة التي تعرف بالكريمة. فإنّ من الحنطة ما الغالب عليها النخالة وتلك تسمّى الوضيعة ومنها ما الغالب عليها اللبّ المسمّى السميذ وهي التي قلت إنّها تسمّى الكريمة. فليس ينبغي أن تكون الحنطة التي يتّخذ منها الدقيق الذي نستعمله في هذا الضماد حنطة الغالب عليها النخالة لكن
تكون حنطة الغالب فيها اللبّ كما قلت. فإن اتّخذت ذلك الدقيق من حنطة وضيعة فينبغي أن تنزع منه بعض ما فيه من النخالة والقطاعة ثمّ تتّخذ منه الخبز المسمّى المتوسّط ثمّ اعمد إلى هذا الخبز فخذ منه لبّه أو ما لان منه فاخلطه في الأضمدة إذا آثرت كما قلت لك أن تكون قوّة الضماد متوسّطة بين الضماد المتّخذ من دقيق الشعير وبين الضماد المتّخذ من دقيق الحنطة. فإنّ الضماد المتّخذ من دقيق الحنطة من أبلغ الأضمدة في التقييح والإنضاج والضماد المتّخذ من دقيق الشعير من أبلغ الأضمدة في التحليل. وأمّا الضماد المتّخذ من الخبز الذي وصفنا قبل فهو بين الضمادين الأوّلين كما أنّ الدقيق المتّخذ منه بين الدقيقين اللذين وصفنا قبل. فانظر في هذه الوجوه التي وصفنا وبحسب ما ترى فليكن ما تخلطه في ماء التين من أصناف الدقيق والخبز. فإن رأيت الورم قد تحلّل منه شيء إلّا أنّ ما يتحلّل منه أقلّ ممّا ينبغي فينبغي أن تطبخ مع التين من الصعترة التي تسمّى الزوفا ومن الذي يسمّى الفوذنج الجبليّ. فإن احتجت أن تستعمل في الورم ما يجفّف تجفيفاً أقوى فألق في ماء التين شيئاً من الملح ثمّ اخلط به شيء من دقيق الشعير بعد أن تنخله وتخرج منه جميع نخالته واطبخه ثمّ ضمد به.
ومتى رأيت في الورم عسر التحلّل فاحذر أن تبقى منه بقيّة تصلب وتتحجّر فقد ينبغي لك أن تتفقّد وتستقصي النظر في كلّ واحد من الأورام التي تعالجها عند كلّ حلّة تحلّه فتنظر إلى أيّ شيء انتقلت حاله. فإنّ العلاج بالأضمدة التي تجفّف تجفيفاً قويّاً يبقي من الورم بقيّة
وصفته فيما تقدّم من قولي.
فأمّا الآن فإنّي راجع إلى الأورام التي تتقيّح فأقول إنّه ينبغي لك إذا أيست من تحلّلها أن تستعمل فيها الأضمدة المتّخذة بدقيق الحنطة فإنّ هذه الأضمدة تعين على سرعة التقيّح معونة بالغة. ثمّ بعد أن تبطّها إن أنت رأيت ما حول موضع البطّ نقيّ من الورم أصلاً فاستعمل المراهم وينبغي لك أن تكون قوّة تلك المراهم التي تستعملها قويّة مجففّة ليس معها لذع ولا تركيبها من الأدوية القابضة لكن يكون تركيبها إمّا من أدوية محللّة فقط ليس معها في ذلك عنف ولا مكروه وإمّا من أدوية فيها مع التحليل شيء يسير من قبض. وقد استعملت مراراً كثيرة في مثل هذه الأحوال المرهم المتّخذ بالخمير والمرهم المتّخذ بالعظام المحرقة والمرهم المتّخذ بالقلقطار. فإن رأيت في بعض المواضع التي حول موضع البطّ ورماً فأدف شيئاً من المرهم المتّخذ بالقلقطار بدهن ثمّ أنزله من النار ودعه حتّى يبرد قليلاً ثمّ ألقه على صلاية ورشّ عليه شيئاً من الشراب وادلكه بكفّيك كما تعلم أنّك رأيتني أفعل. وأمّا أكثر ما أستعمل هذا المرهم دون سائر المراهم كما وصفت في كتابي في تركيب الأدوية. ومن رأيي أن أضع كتاباً آخر أصف فيه الأدوية التي تصلح لعلل كلّ واحد من الأعضاء وأستقصي فيه شرح قوى جميع الأدوية التي من عادتي أن أستعملها وأصف طريق استعمالها على ما ينبغي إن شاء اللّه. وأمّا أنت فقد أخذت من نسخ هذه الأدوية التي ذكرتها في كتابي هذا على تقسيط أوزانها وطريق صنعتها. ومتى عرض للجلد عند التقييح أن يذوب ويرقّ جدّاً حتّى يصير شبيهاً بالخرقة عسر التزاقه بما تحته من اللحم فيضطرّ
حينئذٍ المعالج إلى أن يعالج بالعلاج الذي يسمّى علاج المطاولة.
(١٠) ومتى بقي الجلد مدّة طويلة لا يلزق بما تحته من اللحم فربّما سمّوا هذه العلّة مخبأ وربّما سمّوها ناصوراً. وأنا آخذ الآن في إذكارك العلاج الذي رأيتني أعالج به مراراً كثيرة كثيراً ممّن حدثت به هذه العلّة. فأقول إنّ الأجود أن يكون معدّاً عندك أنبوب مستقيم الثقب من نحاس أو من قرن فإن لم يحضرك معدّاً فاعمد إلى بعض تلك الآلات التي عندك تجذب بها المدّة فخذ منها أوسعها ثقباً وخذ شيئاً يسيراً من دوائي الذي أتّخذه بالقرطاس المحرق فاخلطه بشيء كثير من دهن الورد وتحقن به ذلك المخبأ بتلك الآلة ثمّ سدّ فم ذلك المخبأ بخرقة كتّان قد نقبتها ثمّ لففتها. وأمّا المراهم التي نديفها بدهن الورد ونحقن بها هذه المخابئ فليس ينفذ من ثقب تلك الآلات التي تجتذب بها المدّة فمتى آثرت أن تحقن بتلك المراهم فخذ مثانة خنزير فشدّها على أنبوب مستقيم الثقب واحقن بها. وينبغي أن تكون تلك المراهم التي نذيبها بالدهن أحدّ من المراهم التي نستعمل مع الفتائل فليكن من نحو هذه المراهم الخضر الذي يعرفها الكلّ. وذلك أنّها تحتاج إلى أن يخلط بها حتّى يذوب من دهن الورد مقدار ليس باليسير كيما يمكن أن يحقن بها المخبأ وقوّة تلك المراهم التي تستعمل بالفتائل إذا خلط بها هذا الدهن الكثير انحلّت وضعفت. فالمراهم التي توافق المخابئ هي تلك المراهم التي يكون طريق استعمالها بأن تبسط بسطاً على موضع القرحة. فإذا احتيج إلى أن يستعمل بالفتل احتيج إلى أن يخلط بها شمع مذاب بدهن مثل المرهم المعروف بمرهم ماخاريون والمرهم المعروف بمرهم
إبيقونس والمعروف بإيسيس. والعلّة التي لها يخلط بها الشمع المذاب بالدهن لها بعينها صارت موافقة في هذه الحال وإنّما يخلط بها المشع المذاب بالدهن من قبل أنّ قواها قوى قويّة لذّاعة إن أذيبت على حدتها ولم يخلط بها شمع مذاب بدهن كان ضررها أكثر من نفعها فإذا كان دهن الورد الذي يخلط بها كثيراً وأمّا ما يداف من المرهم بذلك الدهن إن كان يسيراً تبقى معه حدّته.
فإذا نبت من اللحم في المخبأ مقدار معتدل وضع عليه بعض المراهم التي شأنها أن يلصق كما لو كنت تعالج جراحة طريّة بدمها. وهذه المراهم كثيرة وبعضها يتّخذ بالحمر وهو القفر اليهوديّ ويسمّى العجميّة ولا أدري كيف سمّيت بهذا الاسم وبعضها حمر ويتّخذ بمرداسنج والزنجار المطبوخين طبخاً شديداً. فإنّ الزنجار إذا بولغ في طبخه احمرّ كأنّه إذا طبخ طبخاً يسيراً جعل المراهم التي يقع فيها أصفر. وقد علمت أنّ جميع الأدوية المعدنيّة كلّما بولغ في طبخها ازدادت لطفاً وتجفيفاً وتلك المراهم التي تصير في وقت عملها حمر إذا هي بردت جمد على ظاهرها جمد ويتكرّج ويكون ما تحت ذلك الجمد من عمق الدواء أشدّ حمرة ممّا كان أوّلاً ولذلك قد يسمّي بعض الناس هذه المراهم ذوات لونين ويسمّيها بعضهم ذوات وجهين. وكلّما كانت المراهم ألطف وأشدّ تجفيفاً كان عملها في المخابئ أبلغ وذلك أنّه يحتاج أن تصل قوّتها إلى العمق كما يبلغ الغرض الذي تقصد إليه فيها. فأمّا المراهم التي تلصق الجراجات الطريّة التي هي بدمها فإنّها وإن كان أقلّ تجفيفاً من تلك فقد تلصق شفتي الجراحة وذلك أنّه إن كانت الشفتين يسيرتين قليلتي الغور فلهذا السبب بعينها قد تصل تلك المراهم إلى أن تفعل ما ينبغي بسهولة وسرعة وإن كان للجراحة غور كان من عادتنا أن نضمّ شفتيها بالخياطة وبالرفائد التي تسمى أنقطيرس.
وجميع المخابئ ليست تنشقّ بمفردها فقط لكن يكون قد انقشر فيها من الجسم الذي هي فيه موضع كثير في ناحية من نواحيه وتلك الناحية قد تختلف وليس ينبغي أن تقتصر في النظر في ذلك أيضاً ولا تغفله. فإنّ المخبأ متى كان أسفله فوق سال الصديد من فمه بسهولة ومتى كان أقصى المخبأ من أسفل استكنّ فيه الصديد وأكل ما يتّصل به. ومتى كان المخبأ هذه حاله إن لم تشقّ أسفله شقّاً يسيل منه الصديد لم تصنع شيئاً لا في إنبات اللحم فيه ولا في إلصاقه. وأمّا في سائر المخابئ فليست بك حاجة إلى ذلك الشقّ إن أنت حفظت العضو الذي فيه المخبأ على النصبة التي يحتاج إليه فقط وقد تقدر بالنصبة في بعض الحالات أن تجعل المخبأ الذي أسفله فوق بحال ينقلب فيه فيصير أقصاه أسفل وتجعل المخبأ الذي أقصاه أسفل بحال يصير أسفله فوق. فقد رأيتني تأتّيت لبرء مخبأ كان في الساعد وكان فمه نحو المرفق بأن نصبت الساعد النصبة التي كانت فيها أسفل ذلك المخبأ فوق فاستغنيت بذلك عن أن أشقّ أسفله. وإنّني أيضاً قد تأتّت لبرء مخبأ كان في الفخذ على هذا المثال كان أقصاه أسفل عند الركبة وكان فمه فوق الموضع الأوسط من الفخذ من غير أن أشقّ أسفله بأن وضعت تحت مأبض الركبة مخدّة ليّنة حتّى صار موضع الأربيّة أخفض من موضع الركبة. وقد اكتفيت في ذلك المخبأ وفي مخابئ أخر أكثر منه بأن حقنته بماء العسل وحده في أن أعدّ باطنه كلّه لأن يمكن التصاقه. وقد رأيت قوماً يحقنون هذه المخابئ بماء الرماد المعروف بالقاطر وقد كانوا يحقنوها أوّلاً بالمراهم التي تبني اللحم وكان فعلهم الثاني مناقض فاضح لفعلهم الأوّل وذلك أنّه لا يمكن أن ينبت اللحم الطريّ على اللحم الأوّل وعليه وسخ يغشّيه وكيف استجازوا أن يستعملوا المراهم التي تلصق وكان المخبأ قد ينبت فيه من اللحم الطريّ ما يكتفي به وهم يرومون بعد غسلها بماء الرماد كأنّه وسخ شديد والوسخ واللحم النقيّ لا يحتمل الحادّ من ماء العسل فضلاً عن غيره؟ فمتى كان اللحم كذلك فيكفي أن يكون ما يحقن به من ماء العسل بالحال الذي يلتذّ بها شاربها.
ومن عادتي من بعد استعمال ماء العسل وقبل وضع الدواء الذي يلزق أن أحقن المخبأ بالشراب أحياناً وبالشراب الممزوج بالعسل أحياناً فإنّ ماء العسل في غسل ما في المخبأ من الصديد وتنقيته أبلغ والشراب على الالتزاق الكائن بعد أعون فليكن ذلك الشراب متوسّطاً في مقدار تنقيته وفي قبضه. فإذا أنت وضعت المرهم الذي من شأنه أن يلزق فخذ إسفنجاً جديداً فبلّه بشراب مضروب بعسل أو بشراب على جهته ولبّسه على المرهم وليكن الإسفنج الليّن ما تقدر عليه منه ثمّ على ذلك القماط واجعل ابتداءه من أسفل المخبأ ومنتهاه نحو فم المخبأ واجعل ما تلفّه منه على أسفل المخبأ يضغطه بعض الضغط من غير أن يؤلمه ثمّ أرخه فيه قليلاً قليلاً إلى أن ينتهي إلى فم المخبأ. ويكون وضع ما تضعه على نفس فم المخبأ من المراهم مسترخياً بعد أن تقرض بمقراض من الخرقة التي عليها المرهم المحيط من خارج بموضع المخبأ ما يحاذي منها فم المخبأ كيما يمكن أن يسيل فيخرج منه صديد إن أنقص منه. وتأخذ خريقة أخرى صغيرة فاطل عليها شيئاً من ذلك المرهم وتضعها على فم المخبأ وتدعها إلى وقت حلّه واجعل حلّك إيّاه في كلّ ثلاثة أيّام مرّة. وإذا أنت حلّلته فاقلع
تلك الخريقة الصغيرة التي كأنّها صمام أو طبق على فم المخبأ ودع الخرقة العظمى التي عليها المرهم المحيط بموضع المخبأ كلّه على حالها.
وتصل إلى أن تستدلّ وتعلم هل التزق غور ذلك المخبأ على ما ينبغي أوّلاً ممّا يسيل منه من الصديد بأن تنظر هل هو كثير أو قليل ونضيج هو أم غير نضيج ومع ذلك أيضاً فتفقّد موضع المخبأ نفسه وانظر هل يحسّ صاحبه فيه بوجع أم ليس فيه وجع وهل فيه ورم أم ليس فيه ورم لكن موضعه كلّه ضامر يابس هادئ من الوجع. فإن رأيت مع ذلك مدّة حسنة على فم المخبأ فليقوى رجاؤك لأن يكون المخبأ قد التزق. وضع الإسفنج كما وصفته أوّلاً وشدّ القماط كما وصفت ثمّ حلّه في غد أو في اليوم الثالث ومتى حللته فاستبدل بالخرقة الموضوعة على فم المخبأ بخرقة أخرى مطليّة بذلك المرهم. ولتكن تلك الخرقة الصغيرة محيطة بفم المخبأ كلّه كما يدور ولا ينبغي أن يكون لاطئة لاصقة به جدّاً لكن يكون بينهما وبينه من الفسحة ما يمكن معه أن يخرج من ذلك الفم جميع ما يكون في المخبأ من الصديد. وإن خرج من المخبأ من ذلك الصديد في اليوم الأوّل والثاني شيء رقيق فلا تيأس من التراقه فإنّه كثيراً ما تعمل قوّة المرهم الذي يغشى به الموضع العليل في الجلد وما دونه من اللحم فتعصر منه بقوّة شديدة رطوبة رقيقة إذا كانت حال البدن الذي يعالج بهذا العلاج حال يمكن فيها ذلك بسبب مزاجه الطبيعيّ أو بسبب تدبير رديء. فإذا انعصرت تلك الرطوبة وجرت وجفّت
تلك المواضع جفوفاً معتدلاً والتزقت كان ذلك أجود. فإن خرج من فم المخبأ من ذلك الصديد في اليوم الثالث أو في الرابع شيء غير نضيح فاعلم أنّ المخبأ لم يلتزق وليكن قبل كلّ شيء المرهم الذي يغشى به الموضع العليل مرهم معه من التجفيف مقدار قويّ إلّا أنّه لا ينبغي أن يكون معه تلذيع ولا تهييج مثل المرهم الأحمر الذي أتّخذه من غير شمع بأدوية معدنيّة تظبخ مع دهن خروع وخلّ. فإنّ من شأن هذا الدواء أن يلزق الجراحات الطريّة التي هي بدمها من غير أن يحدث أذى ولا مكروهاً ويجفّف المخابئ.
وقد رأيتني عالجت به أيضاً ناصوراً حتّى برئ وكان ذلك الناصور ضيّقاً طويلاً وكان ظهر لي منه أنّه لم يكن بعد صلب اللحم الذي يستبطنه كما من عادته أن يصلب في هذه العلّة حتّى يصير من الصلابة في حدّ الثواليل لكنّه إنّما كان فيه وسخ فقط. فحقنتها أوّلاً بماء الرماد وتركته يلبث في الناصور مدّة من الزمان بمقدار ما رجوت أنّه يبلغ لي في قلع ذلك الوسخ كلّه ثمّ إنّي من بعد ذلك وضعت على الموضع ذلك المرهم. وكذلك أيضاً ألزقت به مخابئ لم يكن يغشيها إلّا الجلد وحده ولم يكن يحتاج إلى أن ينبت فيها اللحم إلّا أنّ المتولّين لعلاجها كانوا يجهلون علاجها فحين تولّيت علاجها عالجتها بذلك الدواء فالتزقت إلّا أنّي لم أعالجها بذلك الدواء حتّى حقنتها أوّلاً بماء الرماد لأنّ المتولّين كانوا لعلاجها لم يكونوا استعملوا فيها شيئاً من الأدوية التي تنقّي القروح. ومتى كان بإنسان ورم فآلت حاله إلى الخراج ثمّ تأخّر بطّه إمّا لجهل المعالج
وإمّا لجبن المعالج إذا لم يطاوع أن يبطّ وتأخّر الأمر حتّى أكلت المدّة على طول الأيّام ما دون الجلد فإنّه يعرض من ذلك كثيراً أن يصير جميع ما كان يحيط به بالمدّة التي اجتمعت في الخراج من الجلد رقيقاً جدّاً شبيهاً بالخرقة ولذلك قد يشبّه الأطبّاء بها ويشتقّ له اسم منها. وإذا صار الجلد منها إلى هذه من الحال عسر التراقه وخاصّة إذا وضعت عليه مراهم هي في قوامها يابسة فإنّه إذا وضعت على الجلد الذي هذه حاله أمثال هذه من الأدوية ازداد يبساً وتشبّهاً بالخرقة بل وبالصحف المدلوكة. فرأيت من الرأي أنّ الذي ينبغي أن يستعمله المستعمل لإلزاق هذا الجلد مرهم هو في قوامه رطب وهو في قوّته يابس.
وقد قلت في كتبي التي وصفت فيها أمر الأدوية أنّ من عادة الأطبّاء أن يقولوا أدوية يابسة في القوّة وهم لا يعنون بذلك أنّها أدوية من شأنها أن تجفّف. وأبلغ تلك المراهم كلّها المرهم الذي ألّفته من المرداسنج وشحم الخنزير والقلقطار والزيت العتيق وهو مرهم رطب ليّن في قوامه يابس في قوّته فقد جرّبت أن أبلغ ما يكون من عمله في أمثال هذه العلل إذا ما لم يكن صلباً جدّاً ولا شديد الخمود. وإن كان أيضاً قد عمل جامداً صلباً فإنّه في تلك الحال أيضاً يلزق الجراحات الطريّة التي هي بدمها ويدمل جميع القروح وإذا حلّ بالدهن ثمّ رشّ عليه شراب عتيق معتدل في مقدار عتقه وعجن به ثمّ وضع في أمثال هذه العلل على الموضع كما يدور فإنّه قد يلزقها كثيراً بلا أذى ولا مشقّة. وقد ينتفع في أمثال هذه
الأحوال التي وصفنا أعني إذا كان الجلد قد صار بمنزلة الخرقة العسل أيضاً إذا طبخ حتّى يصير في ثخنه بمنزلة المرهم. إلّا أنّ الوقوف على المقدار المعتدل من طبخه يعسر على من لم يشاهده معاينة وذلك أنّه ينبغي أن يكون بحال لم يبلغ فيها من الجمود والصلابة أن ينبو عن الموضع ولا هو بعد من الرقّة بحال يسيل معها ويتفرّق. فإنّ الجامد الصلب معه من الآفة ما في المراهم الجامدة الصلبة والرطب الرقيق إذا كان يوضع على جسم حارّ يسيل ويتفرّق إلى ما حول الخرقة التي يطلى عليها حتّى تبقى تلك الخرقة يابسة. وإذا صارت الخرقة بتلك الحال لم تنفع شيئاً بل كانت وبالاً على ذلك الجلد الذي تريد أن تلزقه بما دونه. فإذا طبخ العسل طبخاً معتدلاً كان من أبلغ الأدوية نفعاً في مثل هذه المخابئ. وإذا كان يعسر الوقوف على المقدار المعتدل من طبخه فإنّي أرى أنّ الأجود أن تنثر عليه من المسحوق 〈من مرّ〉 أو صبر أو كندر أو اثنين من هذه الأدوية أو ثلاثها وخاصّة متى رأيته بعد أن تطليه على الخرقة أرقّ ممّا ينبغي وأنا أنثر هذه الأدوية على العسل من المنخل وقد علّقته فوق العسل ويكتفي أن تقرع المنخل قرعة أو قرعتين حتّى ينفذ منه المقدار المعتدل. وربّما نثرت بعض هذه الأدوية التي ذكرت على العسل وأنا أطبخه ولا سيّما متى كان المخبأ عظيماً غائراً.
وقد جرّبت أيضاً القنطوريون الدقيق فوجدته دواء عجيباً عند هذه الحاجة وبعده الدواء الذي يسمّيه اليونانيّون سمفوطن وبعد هذا أصل السوسن الأسمانجونيّ
الذي يؤتى به من بلاد إلوريس وبعده دقيق الكرسنّة. وبيّن أنّه ينبغي أن تدقّ هذه الأدوية كلّها وتنخل بمنخل صفيق ثمّ تسحق سحقاً ناعماً. وتخلط بالعسل في الوقت الذي تهمّ ترفعه عن النار ولا تلبثه على النار بعد ذلك إلّا بمقدار ما تتّحد تلك الأدوية نعماً بالعسل المطبوخ بل الأجود أن ترفع الطنجير عن النار أوّلاً وتنثر عليه هذه الأدوية كلّها ثمّ تحرّكه نعماً إلى أن يصير العسل من الفتور بحال يمكن أن يوضع منها على البدن الذي تعالجه به.
(١١) وقد يتلو ما وصفنا أن نصف لك شيئاً من أمر الأورام التي تصير من الفساد إلى الحال التي يسمّيها اليونانيّون غنغرانا وقد علمت أنّهم يسمّون بهذا الاسم المواضع التي يعظم فيها الورم جدّاً حتّى تختنق فتصير إلى حدّ ما يموت وليس يسمّون بهذا الاسم ما قد مات وفرغ من الأعضاء لكنّهم إنّما يسمّون به ما هو بعد في طريق ذلك. فإنّ العضو إذا مات أصلاً حتّى لا يحسّ إذا أنت نخسته أو قطعته أو أحرقته بالنار فإنّما ينبغي أن تبادر إلى قطعه من حيث تلقى الموضع الصحيح الذي يتّصل به العضو الذي يبلغ هذه الحال فإنّه لا محالة يصير أسود. وأمّا العضو الذي هو بعد في طريق هذه الحال ولم يبلغ بعد أن يموت فتسمّى حاله كما قلت غنغرانا وبرؤه يكون بأن يستفرغ من الدم الذي قد احتقن في ذلك العضو العليل أكثر المقادير الذي يمكننا استفراغه منه فإن أشرف ذلك العضو على الموت إنّما هو بسبب ما اغتصّ فيه من الدم إذا ما لم تقدر العروق التي فيه أن تنبسط لضيق الموضع عليها ومزاحمة ما يزاحمها
فيه ثمّ يتأتّى لما يبقى فيه من ذلك الدم أن يكون له موضع متنفّس. ولذلك قد ينبغي إمّا أن تبطّ جلد ذلك العضو كلّه في مواضع كثيرة بطّاً غائراً حتّى تشقّ مع الجلد ما دونه من اللحم وإمّا أن تشرطه شرطاً كثيراً غائراً وتدع الدم يجري منه ثمّ تضع عليه من الأدوية بعض ما يصلح للمواضع التي تعفن. ومن هذه الأدوية دقيق الكرسنّة معجون بخلّ وعسل أو دقيق الشيلم مثله فإن لم يحضرك هذان فاستعمل دقيق الباقلّى والخلّ المضروب بالعسل أيضاً على وجهه صالح لهذه الحال.
فإن آثرت أن تقوّيه فألق فيه ملحاً أو بعض الأقراص المجفّفة بعد أن تسحقه وتبالغ في سحقه مثل القرص المنسوب إلى أندرون والقرص المنسوب إلى بولوايدس 〈و〉القرص المنسوب إلى باسيون. ودواء موساس أيضاً المرسوم في صفيحة إيراس من أبلغ الأدوية في هذه الحال. وينبغي أن يكون استعمالك لهذه الأدوية ولما ذكرت قبلها بعد أن تتفقّد وتتدبّر أمر البدن من صاحب العلّة فإنّه إن كان البدن قويّاً صلباً بالطبع احتاج من الأدوية إلى أقواها وإن كان البدن بدن امرأة ليّنة اللحم احتاج من الأدوية إلى أضعفها وكذلك من الرجال أيضاً من كان الغالب عليه البياض ولين اللحم وكان كثير الاستعمال للحمّام وقليل الاستعمال للرياضة فإنّما يحتاج من الأدوية إلى الليّن منها وكذلك الصبيان. متى قطعت أيضاً عضو قد عفن أو قد مات فخذ بالوثيقة والتحرّز فاستعمل الأدوية التي قد وصفتها قبل بعد أن تنظر في طبائع الأبدان التي تعالجها مع النظر في طبعية العضو الذي فيه العلّة. فإنّ من الأعضاء ما
تسرع إليه العفونة جدّاً والأجود فيها أن تأخذ بالوثيقة متى قطعت أو قوّرت الموضع العفن أن تعمد إلى الموضع الذي هو كأنّه أصله المتّصل بالمواضع السليمة فتكويه كما من عادتنا أن نفعل كثيراً في القروح. وربّما باشرنا بالمكاوي نفس تلك المواضع وربّما وضعنا عليها قبل ذلك حشواً. ثمّ إنّا من بعد الكيّ من عادتنا أن نستعمل كما قد علمت ماء الكرّاث ومتى لم يحضرنا ماء الكرّاث استعملنا الأدوية التي ذكرتها قبل.
فإذا فعلت ذلك ورأيت العفونة قد أمسكت وآثرت أن تسقط الخشكريشة سريعاً فاستعمل الدواء الذي يستعمل في جراحات الرأس ولذلك يسمّى من اسم الرأس قافاليون بعد أن تخلطه بعسل. والأجود أن تضمّد الموضع من خارج بخبز قد طبخته بماء ودهن أو بدقيق الشعير مهيّأ بهذه الهيئة وحده أو بعد أن تخلط به دقيق الحنطة. والمرهم أيضاً المتّخذ من الأدوية الأربعة والمرهم المسمّى ماقادونيقون بالغين في التقييح وسقوط الخشكريشة وكذلك جميع ما يقيح. والخبز أيضاً المدقوق مع ورق الكرفس أو ورق الباذروج فقد يقلع ويستأصل الخشكريشة من المواضع الصحيحة. ومن الأدوية المفردة التي تخلط بالعسل أصل السوسن الأسمانجونيّ وأصل الجاوشير والزراوند والوجّ. وأمّا في الأبدان الليّنة فقد يكتفي بدقيق الكرسنّة مع العسل وبالكندر مثله. وقد يقلع الخشكريشة أيضاً المرهم المنسوب إلى ماخاريون والمرهم المسمّى إيسس إذا أديفا بعسل فغمست فيها خرق ووضعت عليه. فإذا انقلعت وسقطت الخشكريشة
فإنّ اللحم ينبت في القرحة بأدنا مرهم يوضع عليها ونبات اللحم في أمثال هذه القروح أسرع منه في سائر القروح.
(١٢) وإذ قد وصفنا من هذا الباب مقدار قصد فقد يتلو ذلك أن نصف أمر الأورام التي هي من جنس السرطان. وتلك الأورام قد تكون في جميع الأعضاء وأكثر ما تكون في الثديين من النساء إذا ما لم تنقّ أبدانهنّ التنقية الطبيعيّة بالطمث وإذا كانت تلك التنقية على ما ينبغي فإنّ المرأة تبقى على صحّتها دائماً من غير أن ينالها شيء من الأمراض أصلاً. وجميع هذه الأورام التي من هذا الجنس إنّما يكون تولّدها من فضلة سوداويّة. فقد وصفت أمر تلك الفضلة في كتابي في القوى الطبيعيّة وبيّنت أنّها تتولّد في الكبد مع تولّد الدم وهي منه بمنزلة الدرديّ من الخمر وإنّ الذي ينقّي الدم باجتذاب هذه الفضلة منه هو الطحال إذ كان شأنه أن يغتذي بهذا الكيموس. وإذا كان مزاج البدن الطبيعيّ ليس يولّد من هذا الخلط إلّا اليسير وكان التدبير معيناً على ذلك وكان الطحال يجتذب إليه ما يتولّد جذباً كافياً لم يجتمع من هذه الفضول في العروق من البدن شيء ومتى اجتمعت الأسباب المضادّة لهذه إمّا كلّها وإمّا بعضها اجتمع هذا الفضل في العروق فأحدث الأمراض التي أنا واصفها.
وأعني بالأسباب المضادّة للأسباب الأول أن يكون الكبد مستعدّة لتوليد ذلك الفضل وأن يكون التدبير بالأطعمة والأشربة وغير ذلك ما من شأنه توليد الدم الغليظ العكر وأن يكون الطحال بحال من الضعف يعجز بها عن أن يجتذب إليه كلّ ما يتولّد في الكبد من ذلك الفضل. فإذا كان البدن
بهذه الحال غلظ الدم الذي في العروق وتكدّر. وربّما قذفته العروق إذا كانت فيها قوّة دافعة كما في سائر الأعضاء من أفواه ما هو منها في الدبر أو في القبل ويسمّي ذلك الاستفراغ اليونانيّون إمورايدس وهي البواسير التي يجري منها الدم. وربّما قذفته العروق إلى أضعف ما فيها فغاص هناك وأكثر ما يكون ذلك في الرجلين أو في الفرج من المرأة يجري منها الدم فاتّسعت تلك العروق اتّساعاً منكراً ودرّت دروراً شديداً وتغيّر لونها إلى السواد فتكون العلّة التي يسمّيها اليونانيّون قرسوس ويسمّى بالعربيّة الدوالي. وربّما اندفع ذلك الفضل من العروق إلى الجلد من البدن كلّه ومن ذلك يتولّد الجذام. وربّما صار ذلك الخلط إلى أعضاء أخر من أعضاء البدن إذا كانت بحال هي فيها أضعف من جميع الأعضاء فترى العروق التي في ذلك العضو رؤية بيّنة مملوءة من الدم العكر الكمد اللون الغليظ وكلّما كان ذلك الدم أغلظ وأشدّ سواداً كانت العلّة أردأ.
وقد رأينا هذه العلّة كثيراً حدثت في الثديين وكان ذلك الورم الحادث فيهما شبيهاً شبهاً صحيحاً بالحيوان الذي يسمّى السرطان وذلك أنّه كما أنّ أرجل ذلك الحيوان عن جنبتي بدنه كذلك يكون عن جنبتي الورم في هذه العلّة عروق متوتّرة حتّى تصير جملة شكل الورم شبيهة بالسرطان. وهذه العلّة ما دامت في الابتداء قد عالجناها مراراً كثيرة فبرئت فأمّا إذا تفاقم أمرها وعظم الورم فيها عظماً ذا قدر فما أحد وصل إلى التأتّي لبرئها إلّا بعلاج الحديد. والغرض في كلّ علاج الحديد لقطع الورم أن يستأصل ذلك الورم بأسره كما يدور من حيث يلقى الموضع
وكثير منهم يأكلون لحم الحمير وغير ذلك ممّا يشبه هذا ممّا يولّد خلطاً غليظاً سوداويّاً. ولمّا كان مع ذلك هواء ذلك البلد هواء حارّاً كان ميل ذلك الخلط وحركته نحو الجلد.
وما وصفنا من الإسهال قد ينفع في هذه العلّة أيضاً. وإن واتى السنّ والقوّة فقد ينبغي أن تستعمل الفصد أوّلاً وأمّا في السرطان فالفصد أيضاً إن لم يمنع منه مانع فإنّه نافع ثمّ من بعد هذا تستعمل الإسهال. وإن كانت العلّة بمرأة فينبغي أن تدرّ طمثها ما لم تكن المرأة قد بلغت الخمسين سنة وضع على موضع العلّة ماء عنب الثعلب فإنّه من أبلغ دواء في أمثال هذه العلل. فإن لم يطاوعك الذي تعالجه أن تضع على موضع العلّة منه دواء في هذه الحال من الرطوبة ولا سيّما إذا كان لا بدّ له من أن يخرج عن منزله ويعالج بما عادته أن يعالج به فضع على موضع العلّة منه المرهم المتّخذ بالتوتيا الذي قد علمت أنّي قد استعملته أيضاً في السرطان الذي معه قرحة وإن لم يحضرك هذا المرهم فاستعمل مرهمي الذي اتّخذته بالقلقطار. فأمّا في التدبير فينبغي أن يكون أكثر ما تغذيه ماء كشك الشعير وماء الجبن ومن البقول الخيار والسرمق والبقلة اليمانيّة وفي الوقت الذي يكون فيه القرع موجوداً فاستعمله فيها واستعمل من السمك ما كان مرعاه في الصخور والطيور كلّها خلا ما كان منها مأواه الآجام. وأمّا أصحاب الجذام فأكل لحوم الأفاعي لهم دواء جيّد عجيب وينبغي أن يأكلوها بعد أن تهيّئها كما رأيت القوم الذين يسمّون مرسو يهيّؤون الأنكليسيّ وهو أن تقطع أوّلاً منها الرؤوس والأذناب
على أربع أصابع من الجانبين وتخرج أجوافها عن آخرها وتسلخ جلودها ثمّ تغسل أبدانها بالماء. وصنعتها إلى هذا الموضع موافقة لطبيعتها إذا أردنا أن نتّخذ منها المعجون المعروف بالترياق ثمّ إنّها بعد ذلك يختلف طبخها. وذلك أنّا إذا أردناه لعمل الترياق طبخناها بالماء وألقينا معها شبيتّاً وشيئاً يسيراً من ملح. ومتى أردناها لعمل الدرياق لأصحاب الجذام هيّأناها كما يهيّأ الأنكليس في المرقة المعروفة بالبيضاء وتلك المرقة تكون إذا نحن ألقينا من الماء مقداراً كثيراً ومن الزيت شيئاً يسيراً وألقينا معه شيئاً من الكرّاث وشيئاً من الشبتّ. وبيّن أنّه ينبغي أن تبالغ في طبخ لحم الأفاعي حتّى يتهرّأ. والدواء المتّخذ أيضاً بلحم الأفاعي الذي يسمّى الترياق مّما ينفع شربه لأصحاب هذه العلّة وإن أراد مريد أيضاً أن يطليه على الجلد كان ذلك نافعاً. فإنّا إذا فعلنا هذه الأشياء كلّها ربّما تقشّرت عن الجلد قشرة شبيهة بالقشرة التي تنحسر عن الحيّات التي تعرف بالسلخ.
(١٣) وأمّا سائر الأورام فلم تسألني أن أكتب لك ممّا يعالج به شيئاً منها من العلاج باليد وقد أخذت منّا أبلغ الأدوية جيّداً في أكثرها. وأمّا من أدوية الخنازير فما شأنه أن ينقص من قوّتها ويجفّفها وما شأنه منها أن يقيّحها. وأمّا من أدوية السلع التي فيها رطوبة شبيهة بالعسل ما شأنه منها أن يحلّلها. وقد أخذت أيضاً منّا أدوية تحلّل المدّة وأدوية تحلّل الماء الذي يجتمع في العضو والذي يجتمع من وراء الصفاق لتستعملها في أصحاب الاستسقاء. فإنّ الغرض في أصحاب تلك العلّة أيضاً نوعان أحدهما أن يداوى الورم الصلب الذي في الحشا والآخر أن تحلّل الرطوبة
التي قد اجتمعت. وقد وصفت فيما تقدّم علاج الأحشاء التي قد حدث فيها الورم الصلب. فيجب أن يكون علاج أصحاب الاستسقاء ينحى به نحو هذه الثلاثة الأغراض أحدها أن تتأتّى لشفاء الورم الصلب الذي في الحشا والآخر أن تستعمل الأضمدة التي تحلّل الرطوبة والثالث أن تسقى أدوية تدرّ البول. وقد أظنّ أنّ ما قد وصفت لك من هذا إذ كتب على الشخوص إلى بلد بعيد مقدار قصد. وإن تهيّأ لي أن أضع ذلك الكتاب الذي قد هممت بوضعه لأصف فيه الأدوية التي تصلح لعلّة علّة بحسب موضع موضع من البدن فسأفيدك إيّاه إذا رجعت من سرفك. وأنا أهمّ أيضاً بأن أضع كتاباً آخر أيضاً عظيماً أصف فيه الطريق والحيلة للتأتّى في البرء في جميع الأمراض لأنّ أصحابي قد سألوني ذلك وإن طال لبثك بالبعد عنّا وتأخّر قدومك فلست أغفل بالبعثة إليك بما أكتبه من ذلك أوّلاً فأوّلاً إن شاء اللّه تعالى.
تمّ كتاب جالينوس إلى اغلوقن في شفاء الأمراض.