Galen: Ars medica (The Art of Medicine)

Work

Galen, Ars medica (Τέχνη ἰατρική)
English: The Art of Medicine

Text information

Type: Translation (Arabic)
Translator: Ḥunayn ibn Isḥāq
Translated from: Syriac (Close)
Date: between 825 and 873

Source

Muḥammad Salīm Sālim. al-Ṣināʿah al-ṣaġīrah li-Ǧālīnūs. Muntaḫabāt al-Iskandarānīyīn 3. Cairo (al-Hayʾah al-miṣrīyah al-ʿāmmah li-l-kitāb) 1988, 1-193

Download

gal_arsmed-transl-ar1.xml [209.46 KB]

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الصناعة الصغيرة

قال جالينوس:

كلّ التعاليم التي تجري على ترتيب فإنّ المسالك فيها على ثلثة أنحاء:

أحدها: يكون على طريق العكس والتحليل.

وهو أن تقيم الشيء الذي تقصد إليه، وتلتمس علمه في وهمّك على الغاية من تمامه، ثمّ تنظر إلى الأقرب فالأقرب ممّا لا يقوم ذلك الشيء، ولا يتمّ إلّا به، إلى أن تنتهي إلى أوّله.

والثاني: يكون على طريق التركيب، ومضادّة المسلك الأوّل.

وهو أن تبدأ من الشيء الذي كنت انتهيت إليه بطريق التحليل والعكس، ثمّ ترجع إلى تلك الأشياء فتركب بعضها إلى بعض إلى أن تنتهي إلى آخرها.

والثالث: يكون بطريق تحليل الحدّ.

وهو المسلك الذي نستعمله في كتابنا هذا.

ولك أن تسمّي هذا التعليم بدل تحليل الحدّ، شرح الحدّ كما قد سمّاه قوم، أو نقض الحدّ وتقسيمه، كما سمّاه آخرون، أو بسطه وتفسيره، كما سمّاه غيرهم.

وقد رام قوم من أصحاب إيروفيلس أن يسلكوا هذا الطريق من التعليم، وإيرقليدس المعروف بإرثراوس.

ورام أيضاً سلوك طريق التركيب أصحاب إيروفيلس، وقوم من أصحاب

أراسسطراطيس، وأثيناوس المعروف بأطالوس.

ولم يستعمل أحد ممّن كان قبلنا في شيء من كتبه التعليم الذي يكون ابتداؤه من الرمي بالوهم إلى غاية الشيء الذي يقصد إليه. على أنّ هذا المسلك هو الذي تستنبط به جميع الصناعات بطريق القياس.

وقد استعملنا ذلك التعليم في غير هذا الكتاب.

وأمّا في هذا الكتاب فإنّا نستعمل التعليم الذي يكون بطريق تحليل الحدّ.

وبقدر ما ينقص هذا التعليم عن الأوّل في الشرف، وفي لزوم القياس، فإنّه يفضله في جمعه، وحصره لجملة الأمر، وإذ كاره بجزء جزء منه. لأنّ كلّ ما يعمله الإنسان بطريق تحليل الحدّ فحفظه، وذكره يسهل عليه جدّاً. من قبل أنّ الحدّ يحتوي على جمل الصناعة كلّها، إذا كان حدّاً جيّداً، وهو الحدّ الذي

سمّاه قوم حدّاً جوهريّاً، ليفرّقوا بينه وبين تلك الحدود التي يسمّونها الصفات، لأنّ تلك الحدود إنّما تحدّ الأشياء من أعراض لحقتها.

وأمّا في هذا الحدّ الجوهريّ فيحدّ الشيء من نفس جوهره.

فأمّا تلخيص شيء شيء من جميع علم الطبّ فقد أتينا عليه في كتب أخر

كثيرة يتّسع فيها الأمر لاستعمال التعاليم الثلثة.

وأمّا الآن فإنّا نفتتح كتابنا هذا بالتعليم الذي يكون بطريق تحليل الحدّ، بعد أن تعلم بأنّا إنّما نذكر في هذا الكتاب جمل ما بيّنّاه على الشرح في غيره من الكتب، وأنّ ما فيه بمنزلة النتائج لما فيها.

(١) فنقول:

إنّ الطبّ هو معرفة الأشياء المنسوبة المتّصلة بالصحّة والمرض، وبالحال التي لم يخلص للإنسان فيها صحّة، ولا مرض.

وينبغي أن يفهم اسم المعرفة في هذا الموضع على المعنى العامّ، لا المعنى الخاصّ.

والذي يتّصل بكلّ واحد من هذه الثلثة، وينسب إليه، أعني الصحّة، والمرض، والحال التي ليست واحدة منهما، هو أحد ثلثة أشياء:

إمّا بدن، وإمّا سبب، وإمّا علامة.

فإنّ جميع أهل لغتنا ينسبون البدن القابل للصحّة، والسبب الفاعل، والحافظ لها، والعلامة الدالّة عليها، إلى الصحّة.

وعلى هذا القياس ينسبون الأبدان القابلة للأمراض، والأسباب الفاعلة، والحافظة لها، والعلامات الدالّة عليها، إلى المرض.

وكذلك أيضاً ينسبون البدن، والسبب، والعلامة الدالّة على الحال التي ليست بصحّة، ولا مرض، إلى تلك الحال.

وأوّل قصد الطبيب إنّما هو لمعرفة أسباب الصحّة، ثمّ يصير بسبب تلك إلى سائر الأسباب، أعني أسباب المرض أوّلاً، ثمّ إلى أسباب الحال التي ليست

بصحّة، ولا مرض، ثمّ من بعد هذه إلى الأبدان.

وإنّما قصده أيضاً فيها أوّلاً لمعرفة الأبدان الصحيحة، ثمّ من بعد للسقيمة، ثمّ للتي لا صحيحة، ولا سقيمة.

وعلى هذا القياس يجري أمر العلامات.

وأمّا في العمل: فإنّما يكون أوّلاً تعرّف حال الأبدان بالعلامات. ثمّ يكون من بعد ذلك استخراج علم الأسباب بصحّة الأبدان، وسقمها.

وكلّ واحد ممّا يفعل، أو يحفظ، أو يدلّ، أو يقبل، يقال على أحد وجهين:

إمّا مطلقاً، وإمّا في الزمان الحاضر.

والطبّ معرفتهما جميعاً.

والمطلق يقال على وجهين:

إمّا دائماً، وإمّا في أكثر الحالات.

وأمّا ما لا ينسب إلى صحّة، ولا إلى مرض، سبباً كان، أو علامة، أو بدناً، وبقول مطلق قيل، أو في الزمان الحاضر، فكلّ واحد من ذلك يقال على ثلثة أوجه:

أحدها: ألّا يكون منسوباً إلى واحد من الضدّين.

والثاني: أن يكون منسوباً إليهما جميعاً.

والثالث: أن يكون ينسب مرّة إلى أحدهما، ومرّة إلى الآخر.

والثاني من هذه الثلثة يقال على ضربين:

إمّا أن يكون منسوباً إلى كلّ واحد من الضدّين بالسواء، وإمّا بأن ينسب إلى أحدهما أكثر ممّا ينسب إلى الآحر.

وفى عبارة جملة هذا الحدّ موضع شكّ ينبغي أن يلخّص. وذلك أنّا إذا قلنا إنّ الطبّ معرفة الأشياء المتّصلة بالصحّة، والمرض، وبالحال التي ليست بصحّة، ولا مرض، فقد يجوز أن يفهم من هذا القول أنّه معرفة بجميعها، ويجوز

أن يفهم أنّه لبعضها دون بعض، ويجوز أن يفهم أنّه معرفة أيّ شيء التمست معرفته منها.

فأمّا أمر جميعها فلا يحصر، ولا يضبط، ولا يوصل إليه.

وأمّا أمر بعضها فناقص لا يشبه الطريق الصناعيّ.

وأمّا أمر أيّ شيء التمست معرفته منها فيشبه طريق الصناعة، ويكتفي به في جميع أمور الطبّ الجزئيّة.

وهذا هو المعنى في حدّ الطبّ.

فنبتدئ الآن بذكر الأبدان الصحيحة، والسقيمة، والتي ليست بصحيحة، ولا سقيمة: أيّ الأبدان هي. ثمّ نتبع ذلك بذكر العلامات، والأسباب.

(٢) فنقول:

إنّ البدن الصحيح مطلقاً وهو الذي يسمّى المصحّح، هو الذي بنيته من ابتداء حبلته في بطن أمّه على اعتدال من مزاج أعضائه البسيطة الأولى، ومن تركيب الأعضاء الآليّة المركّبة من تلك.

والبدن الصحيح الآن هو الذي هو كذلك في الوقت الحاضر. وهو أيضاً في الوقت الذي هو فيه صحيح، معتدل المزاج، مستوي التركيب. إلّا أنّه ليس اعتداله، واستواؤه على أفضل حالات الاعتدال، والاستواء، لكنّه اعتدال له خاصّ.

وأمّا البدن المصحّح فما كان منه كذلك دائماً فهو في غاية الاعتدال من المزاج، والتركيب. وما كان منه في أكثر الحالات كذلك فهو الذي ينقص عن أفضل الهيئات نقصاناً ليس بالكثير.

والبدن المسقام هو المولود إمّا على مزاج رديء من الأعضاء المتشابهة الأجزاء، وإمّا على تفاوت من الأعضاء الآليّة، وإمّا على الأمرين جميعاً.

والبدن السقيم الآن هو الذي هو مريض في الوقت الذي يقال فيه إنّه كذلك. وهذا أيضاً في الوقت الذي يقال فيه إنّه مريض فهو إمّا رديء المزاج في الأعضاء المتشابهة الأجزاء، وإمّا خارج عن الاعتدال في الأعضاء الآليّة. وإمّا جامع للأمرين جميعاً.

والبدن السقيم دائماً هو المولود على مزاج بعيد من الاعتدال في الأعضاء البسيطة الأولى كلّها، أو عدّة منها، أو أشرفها، أو على تركيب بعيد من الاعتدال

في الأعضاء الآليّة كلّها، أو عدّة منها، أو أشرفها.

وأمّا البدن السقيم في أكثر الحالات فهو الذي قد نقص، ولم يلحق بعد بالحال المتوسّطة.

وقد قلنا إنّ البدن الذي ليس بصحيح، ولا سقيم، يقال على ثلثة وجوه:

أحدها: أن لا يكون فيه واحد من الحالين المتضادّّين على غايتهما.

والثاني: أن يكون قد اجتمعت فيه الحالان.

والثالث: أن يكون فيه إحدى الحالين مرّة، والأخرى مرّة.

والبدن الذي ليس بصحيح، ولا سقيم على المعنى الأوّل هو المتوسّط على الحقيقة والاستقصاء بين البدن الذي هو في غاية الصحّة والذي هو في غاية السقم، والذي يقال فيه إنّه كذلك بقول مطلق هو المولود على تلك الهيئة، والذي يقال فيه إنّه كذلك الآن هو الذي في الوقت الحاضر متوسّط بالحقيقة بين أصحّ الأبدان، وأسقمها.

وما قيل فيه إنّه كذلك بقول مطلق: فمنه ما هو كذلك دائماً وهو الذي يبقى في جميع الأسنان على تلك الحال، ومنه في أكثر الحالات وهو الذي يحدث له تغايير ما.

والبدن الذي ليس بصحيح، ولا سقيم على المعنى الثاني هو المولود على اجتماع من الحالين المتضادّين فيه، إمّا في عضو واحد، وإمّا في أعضاء مختلفة.

أمّا في عضو واحد: فإذا كان في أحد صنفي المتضادّتين الكيفيّات الفاعلة، أو المنفعلة معتدلاً، وإذا كان معتدلاً في الصنفين جميعاً، إلّا أنّه به آفة في

خلفته، أو في مقداره، أو في عدد أجزائه، أو في وضعه، أو إذا كان على خلاف ذلك، أمّا في هذه فسليم في كلّها، أو في بعضها، إلّا أنّه به آفة في مزاجه.

وأمّا في أعضاء مختلفة. فقد يمكن مع ذلك أن يجمع البدن الواحد الضدّين في جميع أصناف التضادّ.

والذي هو كذلك دائماً هو الذي يبقى في جميع الأسنان على تلك الحال.

والذي هو كذلك في أكثر الحالات فهو الذي قد يحدث له التغيير.

وكذلك أيضاً فإنّ البدن الذي يقال إنّه لا صحيح، ولا مريض الآن على المعنى الثاني إمّا أن يكون بعض ما فيه صحيحاً، وبعضه سقيماً في عضو واحد، وإمّا أن يكون كذلك في أعضاء مختلفة.

والبدن الذي ليس بصحيح، ولا سقيم على المعنى الثالث هو الذي يكون مرّة صحيحاً، ومرّة سقيماً، كما قد عرض لقوم كانوا في صباهم أصحّاء، فلمّا شبّوا، سقموا. وبالعكس.

وأمّا في وقت واحد بالصحّة فلا يمكن أن يكون البدن على هذا المعنى لا صحيحاً، ولا سقيماً.

فإن توهّمت للوقت عرضاً، فقد يمكن ذلك.

وقد تعلم أنّ «الآن» يقال على وجهين:

أحدهما: الذي لا جزء له، والآخر: له أجزاء في أمّ أخرى.

فقد لخّصنا أمر البدن الصحيح، والسقيم، والذي ليس بصحيح، ولا سقيم، وبيّنّا على كم وجه يقال كلّ واحد منها، وأيّ شيء هو كلّ واحد منها تلخيصاً كافياً.

(٣) وقد ينبغي أن نتبع ذلك بذكر العلامات، فأقول: إنّ العلامات أيضاً منها للصحّة، ومنها للسقم، ومنها للحال التي ليست صحّة، ولا سقماً.

فالعلامات التي هي للصحّة هي التي تدلّ على الصحّة الحاضرة، وتنذر بها قبل أن تكون، وتذكر بها بعد أن كانت.

وعلامات المرض هي التي تدلّ على المرض الحاضر، وتنذر بالمرض الكائن قبل أن يكون، أو تذكر بالذي قد كان.

وعلى هذا المثال فإنّ علامات الحال التي ليست بصحّة، ولا مرض هي التي تدلّ على تلك الحال إذا كانت حاضرة، أو تنذر بها قبل أن تكون، أو تذكر بها بعد أن قد كانت.

وهي التي إمّا أن لا تدلّ على شيء بتّة من أمر إحدى الحالين، أو أن لا تكون أولى بأن تدلّ على إحدى حالي الصحّة والمرض منها على الأخرى.

أو التي تدلّ من وجه على حال الصحّة، ومن وجه على حال السقم.

أو التي تدلّ مرّة على حال الصحّة، ومرّة على حال السقم.

وهذه أيضاً يجري أمرها على الأزمان الثلثة على مثال ما جرى أمر علامات الصحّة، وعلامات المرض.

ونحن وإن كنّا قد خصّصنا العلامات التي تدلّ على الشيء الحاضر باسم الدالّة، والعلامات التي تدلّ على الشيء المستأنف بالمنذرة، والعلامات التي تدلّ

على الشيء الذي قد كان بالمذكّرة، فقد نجد القدماء ربّما سمّوا جميع العلامات منذرة، وإن كانت إنّما تدلّ على شيء حاضر، أو على شيء قد كان.

وأعظم الحاجة إنّما هي إلى العلامات الدالّة على الشيء الحاضر، أو على الشيء المستأنف.

فأمّا الحاجة إلى العلامات المذكرة بما قد كان فأقلّ من تلك.

(٤) الأبدان الصحيحة تقال على ضربين: منها بقول مطلق، ومنها الآن.

وقد قلنا إنّ الأبدان التي يقال لها صحيحة بقول مطلق صنفان: من قبل أنّ بعضها صحيح دائماً، وبعضها صحيح في أكثر الحالات.

أمّا الصحيح دائماً فما كان منها على أفضل الهيئات.

وأمّا الصحيح في أكثر الحالات فما كان منها قد نقص عن تلك الهيئة، وليس نقصانه كثيراً.

وينبغي أن يستدلّ عليها من الأشياء التي هي لها في حدّ جوهرها، ومن الأفعال، والأعراض التي تلزم هذه باضطرار.

أمّا من نفس الجوهر فمتى كان البدن على أفضل الهيئات، فمن علاماته: اعتدال أعضائه المتشابهة الأجزاء في الحرّ، والبرد، والرطوبة،

واليبس، واعتدال أعضائه الآليّة في مقادير الأجزاء التي هي منها مركّبة، وفي عددها، وفي خلفة كلّ واحد من الأجزاء، وموضعه، وخلقة الآلة كلّها، وموضعها.

وأمّا من الأشياء التي تلزم باضطرار فإنّ من العلامات التي تلزم الأعضاء المتشابهة الأجزاء منها يتبيّن بحسّ اللمس وهو الاعتدال فيما بين الصلابة واللين، ومنها ما يتبيّن بحسّ البصر وهو حسّ اللون، والاعتدال فيما بين قلّة الشعر وكثرته، ومنها ما يظهر في الأفعال وهو كما لها الذي قد نسمّيه فضيلتها.

ومن العلامات التي تلزم الأعضاء الآليّة اعتدال آلات البدن كلّه، وحسنها، وفضيلة الأفعال التي تكون بها.

فهذه هي العلامات الدالّة على أفضل هيئات البدن.

وأمّا الأبدان التي قد نقصت عن أفضل الهيئات إلّا أنّها بعد صحيحة: فمنها ما

الآفة فيها في مزاج أعضائها المتشابهة الأجزاء وهي مع ذلك يسيرة. ومنها ما الآفة فيها في تركيب الأعضاء الآليّة. وتلك الآفة أيضاً يسيرة.

والآفة في مزاج الأعضاء المتشابهة الأجزاء وفي تركيب الأعضاء: إمّا أن تكون في كلّها، وإمّا أن تكون في بعضها.

وأجناس الآفات هي أجناس الأشياء التي تتمّ بها فضيلتها، وهي في الأعضاء المتشابهة الأجزاء: المزاج، وفي الأعضاء الآليّة: العدد، والمقادير، والخلق، والوضع. والاتّصال مشترك بينها.

وفي هذه الأجناس بأعيانها تكون آفة الأبدان السقيمة، على أيّ المعنيين اللذين ينتظمهما هذا الاسم. فقد فهمت أمرهما. والحدّ الذي تكون به التفرقة بينهما هو ضرر الفعل المحسوس.

وأمّا الأبدان التي تنقص قليلاً عن أفضل الهيئات فقد دخل عليها أيضاً الضرر من وجه ما. إلّا أنّ ذلك الضرر غير محسوس. ومعرفتها تكون بالتفاضل في الأفعال، وفي المقاومة للأسباب المرضيّة.

وأمّا الأبدان التي يقال إنّها سقيمة بقول مطلق، فمعرفتها تكون بأنّ الأسباب المسقّمة تقهرها سريعاً، وتستولي عليها بسهولة، وأنّ نقصانها في فضيلة الأفعال كثير.

فتصير الأبدان التي لا تنسب إلى صحّة، ولا مرض، متوسّطة فيما بين هذين الصنفين، كانت تلك الأجسام ممّا يوصف بذلك على الحقيقة، أو كانت ممّا له عرض ما.

ويصير غرض الصحّة كلّها ينقسم إلى ثلثة أجزاء. ولكلّ واحد من تلك الأجزاء أيضاً غرض كبير.

وأوّل تلك الثلثة هو الأبدان المصحّحة، والثاني: الأبدان التي لا تنسب إلى صحّة، ولا مرض. والثالث: الأبدان المسقامة.

وبعد هذه الأبدان التي قد وقعت في المرض، وفرغت.

والفرق بينها وبين غيرها بالضرر المحسوس الذي يظهر فيها من الأفعال.

والأبدان التي قد عرض لها الوجع، أو حدث في حركاتها اضطراب، أو بطلت حركاتها بتّة، فحدّها بيّن.

فأمّا الأبدان التي قد ضعفت أفعالها، فإنّها إن كان ذلك الضعف قد بعد بعداً كثيراً جدّاً من الاعتدال فتمييزها سهل. وإن كان قد بعد بعداً يسيراً،

فأمرها مشكوك فيه. ولذلك صارت الحال التي لا تنسب إلى واحد من الضدّين، وهي إحدى ثلث أحوال: الأبدان التي لا تنسب لا إلى صحّة، ولا مرض إنّما تكون في هذا الجنس من الضرر.

وجميع هذه الأشياء إنّما تميّز بالحسّ، لا بنفس طبيعة الأمور، لأنّه إن جعل تمييزها على هذا النحو، فلن يؤمن على السالك هذا الطريق أن يقع في رأي من رأى أنّ الأبدان كلّها في مرض دائم.

والعلامات أيضاً التي تدل على الأبدان التي هي الآن صحيحة، إلّا أنّها مسقامة سقماً خفيّاً، أو مصحّحة، أو ليست بصحيحة، ولا سقيمة، إنّما

الفرق بينهما في مقدار البعد عن الطرفين.

وينبغي أن نجعل أفضل الهيئات والمرض الذي قد وقع في حدّين متضادّين، حتّى إذا أردنا أن نمتحن بدناً فنعلم في أيّ حدّ هو، نظرنا إلى أيّ الطرفين هو أقرب.

فإنّ البدن الذي هو إلى أفضل الهيئات أقرب، مصحّح. والبدن الذي هو من أفضل الهيئات أبعد، وأقرب إلى البدن الذي وقع في المرض، مسقام. والبدن الذي هو فيما بينهما، وبعده منهما سواء، فهو الذي لا ينسب إلى الصحّة، ولا إلى المرض.

(٥) وقد وصفنا علامات أفضل هيئات البدن.

وأمّا الأبدان التي تنقص عنها فينبغي أن تقسم أقساماً لا يحصى عددها بطريق الأكثر والأقلّ. إلّا أنّا قد أجملناها في ثلثة حدود ذوات عرض.

ونحن واصفون العلامات الدالّة على البدن الذي يقال إنّه سقيم بقول مطلق، لأنّا إذا وصفنا علامات هذا البدن تبيّن منها علامات البدنين الباقيين.

وقد وصفنا أجناسها قبل في كلامنا في أفضل الهيئات، ونحن واصفون الآن أصنافها بعد أن تقسم.

ونصف أوّلاً الأعضاء.

وأصناف الأعضاء كلّها أربعة. وذلك أنّ منها أصولاً، ومنها فروعاً تنبت

من تلك الأصول، ومنها ما ليست مستولية على تدبير غيرها، ولا غيرها مستولياً على تدبيرها، لأنّ القوى التي يكون بها تدبيرها غريزيّّة فيها. ومنها ما لها قوى غريزيّّة فيها، وقوى تجري إليها من تلك الأصول.

والأصول: هي الدماغ، والقلب، والكبد، والأنثيان.

والفروع التي تنبت من هذه الأصول، وتؤدّي عنها أمّا التي تنبت من الدماغ، وتؤدّي عنه: فالعصب، والنخاع.

وأمّا التي تنبت من القلب، وتؤدّي عنه: فالعروق الضوارب.

وأمّا التي تنبت من الكبد، وتؤدّي عنه: فالعروق غير الضوارب.

وأمّا التي تنبت من الأنثيين، وتؤدّي عنها: فأوعية المنيّ.

فأمّا الأعضاء التي تدبيرها من أنفسها فهي: الغضروف، والعظم، والرباط، والغشاء، واللحم الرخو، واللحم السمين، واللحم الفرد.

وأمّا سائر الأعضاء كلّها فتشارك هذه الأعضاء التي ذكرنا في أنّ تدبيرها يكون من أنفسها، وهي مع ذلك تحتاج إلى العروق الضوارب، وغير الضوارب، والعصب.

وأمّا الشعر والأظافر فليس لهما تدبير في نفس أبدانهما، وإنّما لهما تولّد، وحدوث فقط.

فهذه هي أصناف الأعضاء.

(٦) ونحن واصفون بعد العلامات التي تدلّ على مزاج كلّ واحد منها.

ونبتدئ بذكر العلامات الدالّة على مزاج الدماغ. وأجناس علاماته الغريزيّة خمسة.

أحدها: حال الرأس كلّه.

والثاني: صلاح الأفعال الحسّيّة، وفسادها.

والثالث: صلاح الأعمال، وفسادها.

والرابع: صلاح الأفعال التي تكون بها الأعمال، وفسادها.

والخامس: صلاح الأفعال الطبيعيّة، وفسادها.

وهاهنا جنس آخر مع هذه التي وصفنا كلّها وهو ما يعرض للدماغ من التغيّر من الأسباب التي تعرض من خارج.

فأمّا حال الرأس كلّه فيعرف من مقداره وشكله، وما فيه من الشعر.

فالرأس الصغير علامة خاصّيّة لرداءة هيئة الدماغ.

والرأس الكبير ليس يدلّ ضرورة على جودة هيئة الدماغ. وذلك أنّه إن كان عظمه إنّما أتى من قوّة الطبيعة، واستعمالها في صنعته مادّة جيّدة كثيرة، فهو علامة جيّدة. فإن كان إنّما أتى من قبل كثرة المادّة فقط، فليس هو علامة جيّدة.

فقد ينبغي أن نفرّق بينهما بالشكل، وبالأشياء التي تنبت من الرأس.

أمّا بالشكل فأن ننظر هل هو مشاكل، أم لا. فإنّ التشاكل علامة جيّدة دائماً.

وأمّا ممّا ينبت من الرأس فبأن ننظر هل الرقبة غليظة، قويّة، وحال سائر العظام على أفضل الحالات، والعصب كلّه غليظ قويّ، أم لا.

والشكل الذي خصّ به الرأس هو كأنّك توهّمت كرة شمع صحيحة الاستدارة، قد غمزت من جنبيها قليلاً. فإنّك إذا توهّمت الرأس كذلك، علمت أنّه لا محالة لا بدّ من أن يصير مقدّمه ومؤخّره أخرج من حدّ استدارة الكرة.

فانظر مع ذلك في العصب، والرقبة، وسائر العظام. فإنّه إن كانت هذه على الحال الطبيعيّة، فإنّما أتى النقصان من نقصان المادّة، لا من ضعف القوّة.

وإن كانت هذه الأشياء التي وصفنا على حال أخسّ من الحال الطبيعيّة، فاعلم أنّ الأصل ضعيف. وفي أكثر الحالات يتبع نقصان مؤخّر الرأس ضعف هذه الأشياء التي وصفنا. ولا يكاد الأمر يقع بخلاف ذلك إلّا في الندرة.

وإذا وجدت أيضاً مؤخّر الرأس أشدّ نتوءاً، فانظر في ذلك وتحديده على حسب النظر، والتحديد في الرأس كلّه إذا كان كبيراً.

ونجد في هذا أيضاً في أكثر الحالات مؤخّر الدماغ، وما يحويه من الرأس، إذا كان مع شكل متشاكل، فإنّ ذلك علامة جيّدة.

وقد سمّى قوم من الأطبّاء هذا الجزء من الدماغ دماغاً خلفيّاً، وهو خلفيّ كما وصفوه.

ويحدّه الشأن الذي يشبه باللام من كتاب اليونانيّين.

وهذا الجزء من الدماغ هو الأصل الذي ينبت منه النخاع. وإذا كان أصلاً لهذا، فهو أيضاً أصل لجميع العصب الذي تكون به الحركة الإراديّة في بدن الحيوان كلّه. وأمّا هو نفسه فإنّما ينبت منه عصب يسير العدد من عصب الحسّ. كما أنّ الجزء الآخر الذي يلي المقدّم ينبت منه عصب كثير العدد جدّاً من عصب الحسّ، وعصب قليل العدد من عصب الحركة.

فإذا كان هذان الجزءان على حال جيّدة، كانت الأشياء التي تنبت من كلّ واحد منهما قويّة.

وجميع ما لخّصناه، وحدّدناه من أمر مؤخّر الرأس، فقد ينبغي أن يستعمل في مقدّم الرأس. وذلك أنّه ينبغي أن ننظر في مقداره، وفي شكله، وفي الحواسّ التي في مقدّم الرأس، وهي: البصر، والسمع، والمذاق، والشمّ. فإنّ هذه الأشياء قد يدلّ بعضها على بعض، ويشهد بعضها لبعض. أعني أنّ الأشياء التي تنبت من الأصل قد تدلّ، وتشهد على صلاح الأصل، وفساده. والأصل نفسه يشهد على صلاح الأشياء التي تتفرّع منه، وفسادها.

فأمّا صلاح الأفعال التي يكون بها التدبير، وفسادها، فإنّها أعلام للأصل وحده. فحضور الذهن، والذكاء يدلّان على أنّ جوهر الدماغ جوهر لطيف.

وإبطاء الذهن يدلّ على أنّ جوهر الدماغ جوهر غليظ، وسرعة التعلّم تدلّ على أنّ جوهره جوهر سريع القبول لانطباع الأشياء فيه، وجودة الحفظ تدلّ على أنّ جوهره جوهر له ثبات.

وكذلك أيضاً فإنّ إبطاء التعليم يدلّ على أنّ جوهره عسر القبول لتصوّر الأشياء فيه. والنسيان يدلّ على أنّ جوهره جوهر سيّال، ليس له ثبات. وكثرة النزوات، والتنقّل في الأهواء تدلّ على أنّ جوهر الدماغ جوهر حارّ. وثبات الرأي يدلّ على أنّ جوهر الدماغ جوهر بارد.

وقد بقي فيما أرى جنسان من أجناس العلامات التي تضمّنت في مبدأ قولي ذكرهما: أحدهما: جنس الأفعال الطبيعيّة، والآخر: جنس ما يلقى الرأس من خارج.

وأنا جاعل كلامي فيهما كلاماً واحداً مشتركاً. فأقول: إنّ الدماغ إذا كان معتدلاً في الكيفيّات الأربع، فإنّ جميع الأشياء التي ذكرنا تكون فيه على

اعتدال. والفضول أيضاً التي يقذفها إلى اللهوات، والأذنين، والمنخرين تكون على اعتدال. ويكاد ألّا يناله الضرر من جميع ما يلقى الرأس من خارج ممّا يسخنه، ويبرّده، ويجفّفه، ويرطّبه. ومن كانت هذه حاله، فإنّ الشعر الذي ينبت على رأسه ما دام طفلاً يميل إلى الشقرة التي تضرب إلى الصفرة. فإذا صار غلاماً، فإنّ الشعر يميل إلى الشقرة التي تضرب إلى الحمرة. فإذا صار إلى حال التمام، فإنّ شعره يصير أشقر إلى الحمرة. وهو مع ذلك متوسّط فيما بين الشعر الذي هو جعد بالحقيقة وبين الشعر السبط. وليس يكاد من هذه حاله أن يصيبه الصلع.

وينبغي أن تفهم جميع ما وصفنا، ونصفه من العلامات على أنّ كلامنا إنّما هو فيمن كان وطنه بلداً معتدلاً.

وأمّا ما كان من هذه العلامات في الشعر خاصّة، فافهم الأمر على أنّ كلامنا فيه، مع ما وصفنا من حال البلدان، على أنّ مزاج الكيموسات أيضاً مشاكل لمزاج الدماغ.

فإن كان الدماغ أسخن من الدماغ المعتدل، وكان في الرطوبة واليبس معتدلاً: فإن كان فضل حرارته على المعتدل فضلاً كثيراً، فإنّ جميع الأعلام

التي سنصفها من بعد قويّة. وإن كان فضل حرارته على المعتدل فضلاً يسيراً، كانت علاماته ضعيفة.

وهذا القول منّي قول عامّ في جميع العلامات التي أنا واصفها في جميع أصناف المزاج.

(٧) وممّا يستدلّ به على حرارة الدماغ، مع ما وصفنا قبل، أنّ الرأس بجميع ما فيه يكون أشدّ حمرة، وأشدّ حرارة، وأنّ العروق التي في العينين تبيّن للحسّ. ومن كانت هذه حاله، فإنّ الشعر ينبت على رأسه بعد ما يولد سريعاً. وإن كان أسخن من المعتدل كثيراً، كان الشعر الذي ينبت على رأسه أسود، قويّاً، جعداً. وإن كان ليس بأسخن من المعتدل كثيراً، كان الشعر الذي ينبت على رأسه أوّلاً مائلاً إلى الشقرة التي تضرب إلى الحمرة، ثمّ إنّه يسودّ. فإذا تمادت به السنّ، عرض له الصلع، ولا سيّما إذا كانت الحرارة في دماغه كثيرة.

والفضول في اللهوات، والمنخرين، والعينين والأذنين في صاحب هذه الحال يسيرة. نضيجة، ما دام صحيحاً، ليست به قلية.

فإذا عرض له في رأسه امتلاء — وكثيراً ما يصيبه ذلك، ولا سيّما إذا لم يتحفّظ في تدبيره — فإنّ الفضول في هذه المواضع منه تكثر، إلّا أنّها لا تكون غير نضيجة.

ويعرض له الامتلاء، والثقل في رأسه من جميع الأشياء المسخنة، أطعمة كانت، أو أشربة، وروائح، والأشياء التي تلقى البدن من خارج التي يدخل في عددها الهواء المحيط، ولا سيّما إن كانت هذه الأشياء مع حرارتها رطبة.

وصاحب هذا المزاج يكتفي باليسير من النوم، مع أنّه لا يستغرقه، ولا يثقل فيه.

وأمّا علامات الدماغ الذي هو أبرد ممّا ينبغي، فأن تكون الفضول في مجاري الدماغ كثيرة، غير نضيجة، وأن يكون الشعر سبطاً، أشقر يضرب إلى الصفرة في مبدأ الأمر نابتاً. وليس ينبت الشعر على رأس صاحب هذه الحال إلّا بعد ما يولد بزمان كثير. وأوّل ما ينبت منه يكون رقيقاً، ضعيفاً. وتسرع إليهم

الآفة، والضرر من الأسباب الباردة. وفي وقت ما ينالهم ذلك الضرر، تحدث لهم النزلة والزكام.

وإذا جسست الرأس منهم، لم تجده حارّاً. وإذا تأمّلته، لم تجد لونه أحمر. والعروق التي في العينين لا تظهر للعيان. وكان صاحب هذا المزاج ينوم قليلاً.

وأمّا علامات الدماغ الذي هو أجفّ من المعتدل: فنقاء مجاري الدماغ من الفضول، وصفاء الحواسّ. وصاحب هذا المزاج يسهر كثيراً، وينبت على رأسه بعدما يولد بسرعة شعر قويّ جدّاً، وهو أقرب إلى الجعودة منه إلى السباطة. إلّا أنّه يحدث له الصلع سريعاً.

وأمّا علامات الدماغ الذي هو أرطب من المعتدل فأن يكون الشعر سبطاً، ولا يحدث لصاحبه الصلع، وأن تكون حواسّه كدرة، وأن تكون الفضول في

مجاري الدماغ كثيرة، وأن يكون نومه كثيراً، ثقيلاً.

فهذه هي أصناف المزاج البسيطة.

(٨) وأمّا المركّبة: فأوّلها الحارّ اليابس.

ومتى غلب هذا المزاج على الدماغ كانت مجاريه نقيّة من الفضول، وكانت الحواسّ صافية. وكان صاحبه من أكثر الناس سهراً. ويحدث له الصلع سريعاً. وأمّا نبات الشعر الأوّل فيسرع فيه جدّاً، ويكون له مع ذلك ثخن، وقوّة، وسواد، وجعودة. وإذا لمست الرأس منه، وجدته حارّاً. وإذا تأمّلت لونه، وجدته أحمر. وهذه حاله إلى منتهى شبابه.

فإن كان مع حرارة الدماغ رطوبة، وكان فضلهما جميعاً على الاعتدال فضلاً يسيراً، فمن علامات صاحبه أن يكون حسن اللون. وإذا لمست الرأس منه، وجدته حارّاً. وإذا تأمّلت عينيه، وجدت فيهما عروقاً غلاظاً. وتجد الفضول

في مجاري الدماغ منه كثيرة النضج، مائيّة قليلاً. وتجد الشعر سبطاً، أشقر يضرب إلى الحمرة. وليس يحدث لصاحب هذه الحال الصلع سريعاً. ويحدث له الامتلاء، والثقل في رأسه من الأشياء المسخنة، ولا سيّما إن حدثت مع السخونة رطوبة. وعند ذلك تكثر الفضول في مجاري الدماغ.

ومتى كان فضل رطوبة الدماغ وحرارته عن الاعتدال فضلاً كثيراً جدّاً، كان صاحبه كثير العلل في رأسه. وكانت الفضول فيه كثيرة. وتسرع إليه الآفة، والضرر من الأشياء الرطبة، المسخنة. والجنوب من أضرّ الأشياء، وأردأها لصاحب هذه الحال، وأحسن حالاته تكون إذا هبّت الشمال. وليس يقدر أن يلبث منتبهاً زماناً طويلاً. وإذا طلب النوم، عرض له فيه سبات مع أرق، وتخيّل في الأحلام. وبصر صاحب هذه الحال كدر، وحواسّه غير صافية.

فإن كان فضل سخونة الدماغ على المعتدل فضلاً كثيراً، وفضل رطوبته عنه يسيراً، فإنّ علامات الدماغ الحارّ تغلب، وتشوبها علامات ضعيفة من علامات الرطوبة.

وكذلك أيضاً إن كان فضل رطوبة الدماغ خارجاً عن الاعتدال فضلاً كثيراً، وفضل حرارته عنه فضلاً يسيراً، فإنّ علامات الرطوبة تكون في صاحبه ظاهرة قويّة، وعلامات الحرارة تكون ضعيفة، خفيّة.

وهذا القول منّي قول عامّ في كلّ مزاج مركّب.

وأمّا المزاج البارد اليابس إذا غلب على الدماغ فإنّه يجعل الرأس بارداً، رديء اللون بحسب ما يوجبه هذا المزاج.

فقد ينبغي أن تكون لهذا الذي قد بيّنته، وحدّدته منذ أوّل كلامي حافظاً دائماً، وهو أن تنظر — مع نظرك في مزاج الدماغ — كم مقدار ما يجب أن يتغيّر الرأس وما فيه من قبل مزاج الكيموسات.

فصاحب هذا لا تظهر في عينيه حمرة في عروقه. وتسرع إليه الآفة، والضرر من الأسباب الباردة اليابسة. ولذلك تكون صحّته صحّة مضطربة، مختلفة، لأنّه ربّما كان خفيف الرأس جدّاً. ومجاريه نقيّة من الفضول. وربّما أصابته النزلة، والزكام سريعاً من أدنى سبب. وحواسّه في شبيبته صافية، لا

قلبة بها بتّة. وإذا تمادت بهم السنّ، خمدت، وضعفت سريعاً. وبالجملة: فإنّ الشيخوخة تسرع إليه في الرأس بجميع ما فيه. ولذلك يسرع إليه الشيب. ويبطئ نبات الشعر على رأسه بعد ما يولد جدّاً، ويكون رقيقاً جدّاً، ضعيفاً، أشقر إلى الصفرة. فإذا تمادى به الزمان، إن كانت غلبة البرد أكثر من غلبة اليبس، لم يحدث له الصلع. وإن عرض له خلاف ذلك حتّى تكون غلبة اليبس على الرطوبة كثيرة جدّاً، وغلبة البرد على الحرارة يسيرة، حدث له الصلع.

وأمّا المزاج الرطب البارد إذا غلب على الدماغ فإنّه يغلب على صاحبه السبات، والنوم. وتكون حواسّه رديئة. وتكون الفضول فيه كثيرة. ويسرع إلى رأسه البرد. ويحدث له الامتلاء سريعاً. وتسرع إليه النزلة، والزكام. وليس يحدث لصاحب هذه الحال الصلع.

فهذه هي علامات أصناف مزاج الدماغ.

فإذا أردت أن تعرف أصناف مزاج كلّ واحدة من آلات الحسّ، فاسلك هذا المسلك الذي سلكته في استخراج علامات الدماغ، وانقلها إليه.

(٩) ونكتفي أن أذكر لك أمر العينين فقط، فأقول: إنّه متى كانت العينان إذا لمستهما، وجدتهما حارّتين، وكانت حركتهما سريعة، كثيرة، وكانت العروق فيها غليظة، واسعة، فإنّهما حارّتان.

ومتى كانتا على خلاف ذلك، فهما باردتان. ومتى كانت العينان مملوءتين رطوبة، فهما رطبتان. ومتى كانتا جافّتين، صلبتين، فهما يابستان، وتسرع إليهما الآفة من الأسباب التي مزاجها شبيه بمزاجهما، وينتفعان من الأسباب المضادّة لهما في المزاج، إذا استعملت استعمالاً معتدلاً.

فقد ينبغي أن تحفظ هذا، وتتّخذه أصلاً عامّاً في الاستدلال على كلّ مزاج في كلّ عضو.

فأمّا عظم العينين، فمتى كان مع مشاكلة، وفضيلة من أفعالهما، فيدلّ على أنّ المادّة التي خلقت العينان منها كثيرة، معتدلة. فإن كان عظم العينين من غير الخلّتين اللتين وصفنا، فإنّه يدلّ على أنّ تلك المادّة كثيرة، إلّا أنّها ليست بمعتدلة.

فأمّا صغر العينين، فإن كان مع مشاكلة، وفضيلة من فعلهما، فإنّه يدلّ على أنّ المادّة التي كانت منها قليلة، إلّا أنّها معتدلة. وإن كان مع سوء مشاكلة، ورداءة من فعلهما، دلّ على أنّ ذلك الجوهر الذي خلقت منه قليل، رديء.

وأمّا أمر لون العينين، فبهذا الطريق ينبغي أن يحدّد، فأقول:

إن الزرقة تغلب على العينين من كثرة نور صاف ينبعث في رطوبة صافية، غير كدرة. وإنّ السواد يغلب على العينين بخلاف ذلك. فأمّا المتوسّط بين السواد والزرقة فيكون بالأسباب المتوسّطة.

والزرقة تغلب على العين إمّا لعظم الرطوبة الجليديّة، وإمّا لصفائها، وإمّا لأنّ موضعها بارز، وإمّا لقلّة الرطوبة الرقيقة المائيّة التي في موضع الحدقة، وصفائها. ومتى اجتمعت هذه الأسباب كلّها، كانت العين في غاية الزرقة. وإن كان بعضها موجوداً، وبعضها غير موجود، كانت الزيادة، والنقصان في الزرقة على حسب ذلك.

وأمّا الكحلة فتغلب على العين إمّا لصغر الرطوبة الجليديّة، وإمّا لأنّ موضعها موضع غائر، وإمّا لأنّها ليست بالصافية، ولا بالمنيرة، وإمّا لأنّ الرطوبة الرقيقة التي في الحدقة أكثر ممّا ينبغي، وليست بصافية، وإمّا لاجتماع أسباب من هذه الأسباب، وإمّا لاجتماعها كلّها.

وزيادة الكحلة، ونقصانها يكون على حسب ما قلناه قبل في الزرقة.

والرطوبة الرقيقة التي في الحدقة إذا كانت أرقّ، وأكثر ممّا ينبغي، رأيت العين أرطب ممّا ينبغي. وكذلك إذا كانت تلك الرطوبة أغلظ، وأقلّ ممّا ينبغي، كانت العين أجفّ.

فأمّا الرطوبة الجليديّة، فإن كانت أصلب ممّا ينبغي، فإنّها تصيّر العين أجفّ. وإن كانت ألين ممّا ينبغي، جعلت العين أرطب. وكذلك أيضاً، إن فضلت على الرطوبة الرقيقة حتّى لا تعادلها، جعلت العين أجفّ. وإن نقصت عنها، جعلت العين بخلاف ذلك.

(١٠) وقد ينبغي أن نذكر الآن أمر أصناف مزاج القلب، ونذكر أوّلاً بأنّا إذا قلنا في كلّ واحد من الأعضاء إنّه أسخن، أو أبرد، أو أجفّ، أو أرطب ممّا هو، فلسنا نقول ذلك ونحن نقيسه إلى غيره، بل إلى مزاجه المعتدل.

فإنّ القلب لو بلغ من البرد غاية ما يمكن أن يبلغه في إنسان بالطبع، فإنّ مزاجه على حال أسخن كثيراً من مزاج الدماغ. ولو بلغ الدماغ غاية ما يمكن أن يبلغه من الحرارة في الإنسان بالطبع، فإنّ مزاجه على كلّ حال أبرد كثيراً من مزاج القلب.

فعلامات القلب الذي هو أسخن من مزاجه المعتدل الذي لا يفارقه، وهي به مخصوصة: عظم التنفّس، وسرعة النبض وتواتره، والشجاعة، والنشاط للأعمال.

فإن زادت الحرارة التي في القلب جدّاً، فإنّ من علاماته: سرعة الغضب، والإقدام بالتهوّر. والصدر من صاحب هذا المزاج كثير الشعر، ولا سيّما مقدّمه، وما كان من البطن، والجنبين قريباً من الصدر. وفي أكثر الحالات، فإنّ البطن كلّه يسخن بسخونة القلب إن لم تقاومه الكبد مقاومة شديدة.

وسنذكر بعد قليل علامات البدن كلّه.

وسعة الصدر أيضاً من دلائل حرارة القلب، إلّا أن يقاوم القلب في ذلك أيضاً الدماغ مقاومة شديدة. وذلك لأنّ مقدار النخاع في أكثر الحالات مناسب لمقدار الدماغ، ومقادير الفقار بحسب مقدار النخاع. فيجب أن يكون مقدار الصلب كلّه على حسب ذلك.

والصدر مركّب على جزء من الصلب، وهو اثنتا عشرة فقارة ممّا دون الرقبة، كما تركّب السفينة على الخشبة التي مبناها عليها. فيجب من ذلك ضرورة أن يكون طول الصدر مساوياً لطول الاثنتي عشرة فقارة التي هو مركّب عليها. وأمّا سعته فمتى كان تركيبه مناسباً لمقدار ثخن الفقار، فيكون بحسب الفقار. ومتى كانت الحرارة قد غلبت على القلب، فثخّنت الصدر، ووسّعته في أوّل كونه، فبحسب حرارة القلب تكون سعة الصدر. وكذلك متى كانت سعة الصدر مع صغر الرأس، فذلك من أعظم العلامات، وأدلّها على حرارة القلب. ومتى كان ضيق الصدر مع كبر الرأس، فذلك من أخصّ العلامات ببرد القلب. ومتى كان الصدر مناسباً للرأس، فاجعل تحديدك لمزاج القلب من علامات أخر. من قبل أنّك لا تقدر أن تستدلّ عند ذلك من مقدار الصدر على شيء من أمر القلب.

وإذا كان القلب أبرد من مزاجه المعتدل، كان النبض أصغر من المعتدل. وليس يجب لا محالة أن يكون أبطأ منه، وأشدّ تفاوتاً منه.

وأمّا التنفّس فإن كان مقدار صغر الصدر بمقدار زيادة برد القلب، فإنّه يكون مناسباً للنبض. فإن كان مقدار صغر الصدر بأكثر من مقدار زيادة برد

القلب، لم يكن التنفّس أصغر فقط، لكنّه يكون مع ذلك أبطأ، وأشدّ تفاوتاً. وصاحب هذه الحال يكون في طبيعته جباناً، لا نجدة له، وصاحب تأخير ومطل، ومقدّم صدره معرّىً من الشعر.

وأمّا صغر الصدر فينبغي أن نحدّه بحسب ما قلناه قبل.

وكذلك أيضاً أمر برودة البدن كلّه.

ومتى كان القلب أجفّ من مزاجه المعتدل، جعل النبض أصلب. وكان الغضب ليس بسريع، إلّا أنّه إذا هاج، استصعب، وعسر سكونه. والبدن كلّه عند ذلك في أكثر الحالات يكون أجفّ، إن لم يقاوم الكبد القلب.

ومتى كان القلب أرطب من مزاجه المعتدل، كان النبض ليّناً، وكان حركة صاحبه إلى الغضب سريعة، إلّا أنّ سكونه أيضاً سريع. والبدن كلّه يكون أرطب، إلّا أن يقاوم الكبد القلب.

(١١) وأمّا أصناف مزاج القلب المركّبة من الكيفيّات الأول فهذه حاله.

أمّا المزاج الحارّ اليابس فمن علاماته: أن يكون النبض صلباً، عظيماً، سريعاً، متواتراً. ويكون التنفّس عظيماً، سريعاً، متواتراً. والأحرى أن يكثر تزيّده في السرعة، والتواتر متى لم يكن فضل سعة الصدر بحسب فضل حرارة القلب. وصاحب هذه الحال من أكثر الناس شعراً في مقدّم الصدر، وما يلي الصدر من البطن، والجنبين. وهو نشيط للأعمال، قويّ سريع الغضب. وخلقه خلق متسلّط، متقلّب في غضبه، يهيج سريعاً، ويعسر سكونه.

وأمّا أمر مزاج البدن كلّه، وأمر سعة الصدر فينبغي أن نحدّدهما على حسب ما قلناه قبل.

وإن غلبت على القلب الرطوبة مع الحرارة، كان الشعر في صاحب هذا المزاج أقلّ منه في الذي ذكرناه قبل، إلّا أنّه ينقص عنه في النشاط للأعمال. وليس يستصعب غضبه، لكنّه يسرع إليه فقط. فأمّا نبضه فعظيم، ليس بسريع، متواتر. وأمّا تنفّسه، فمتى كان الصدر مناسباً للقلب، فإنّه يكون على نحو ما عليه النبض. ومتى كان الصدر أصغر، فإنّ النفس يزداد في السرعة، والتواتر ممّا وصفنا بحسب مقدار صغر الصدر.

وإذ كان التغيّر في هذا المزاج كثيراً، مفرطاً، لا سيّما إن عرض أن يكون ذلك في الرطوبة، فإنّه مع ما وصفنا تعرض له أمراض من عفونة، لأنّ الكيموسات في صاحب هذا المزاج تفسد، وتعفن. ويكون إخراج النفس

أعظم، وأسرع من إدخاله. ويكون الانقباض من نبض العروق سريعاً.

ومتى كان القلب أرطب، وأبرد من مزاجه المعتدل فإنّ النبض يكون ليّناً. ويكون صاحب هذا المزاج عديم النجدة، جباناً، كسلاناً. ويكون مقدّم صدره عارياً من الشعر. ولا يكاد يحقد، ولا يسرع إليه الغضب.

وأمّا حال الصدر، وحال البدن كلّه، فينبغي أن نحدّدهما بحسب ما تقدّم. فأمّا المزاج البارد اليابس إذا غلب على القلب فإنّه يجعل النبض صلباً، صغيراً. فأمّا التنفّس فإنّه إن كان الصدر صغيراً بقياس برد القلب فإنّه يجعله معتدلاً. وإن كان الصدر أعظم بقياس برد القلب، وصار التنفّس متفاوتاً، بطيئاً. وصاحب هذا المزاج من أقلّ الناس غضباً، إلّا أنّه إذا أخرج بضرب من الضروب إلى الغضب، حقد. وهو من أقلّ الناس شعراً في مقدّم الصدر.

فأمّا الحال في صغر الصدر، والحال في برد البدن كلّه، فينبغي أن تحدّدهما بحسب ما تقدّم.

وينبغي أن تكون حافظاً لأمر قد يعمّ جميع ما وصفنا: وهو أنّ ما ذكرناه الآن، أو نذكره في كلام غير هذا من أمر الأخلاق، ونحن نريد به تعرّف مزاج القلب، فليس نعني به الأخلاق التي يستفيدها الإنسان من نظر، وتفلسف، جيّدة كانت الأخلاق أو رديئة، لكنّا إنّما نعني به الأخلاق الغريزيّة التي طبع عليها كلّ واحد من الناس.

(١٢) وأمّا الكبد، إذا كانت حارّة، فعلاماتها: سعة العروق غير الضوارب، وأن تكون المرّة الصفراء أغلب، وفي وقت منتهى الشباب تكثر معها المرّة السوداء أيضاً. وأن يكون الدم أسخن، ولذلك يسخن البدن كلّه أيضاً، إلّا أن

يقاوم القلب الكبد. وكثرة الشعر فيما دون الشراسيف والبطن.

فإذا كانت الكبد باردة فعلاماتها: ضيق العروق غير الضوارب، وأن يكون البلغم أكثر، وأن يكون الدم أبرد، وأن يكون البدن كلّه أقرب إلى البرد، إلّا أن يسخنه القلب. وأن يكون ما دون الشراسيف والبطن معرّىً من الشعر.

وإذا كانت الكبد يابسة فمن علاماتها: أن يكون الدم أغلظ، وأقلّ، وأن تكون العروق غير الضوارب صلاباً، وأن يكون البدن كلّه أجفّ.

وإذا كانت الكبد أرطب من مزاجها المعتدل، فمن علاماتها: أن يكون الدم أكثر، وأرطب، وأن تكون العروق غير الضوارب ألين، وكذلك البدن كلّه، إلّا أن يقاومها القلب.

وإذا كانت الكبد حارّة يابسة فمن علاماتها: أن يكون الشعر فيما دون الشراسيف على أكثر ما يكون، وأن يكون الدم أغلظ، وأقلّ، وأن تكون المرّة الصفراء على أكثر ما يكون، وفي وقت منتهى الشباب تكثر معها السوداء، وأن تكون العروق غير الضوارب واسعة، صلبة، وكذلك يكون حال البدن كلّه. فإنّ الحرارة التي تنبعث من القلب تقدر أن تقهر البرودة التي تنبعث من الكبد. كما أنّ برودة القلب أيضاً تغلب حرارة الكبد.

فأمّا اليبس الذي يكون من قبل الكبد فلن يقدر أن يغلب رطوبة القلب.

وأمّا الرطوبة التي تكون من قبل الكبد فمتوسّطة بين الحالين اللتين ذكرنا. وذلك أنّ يبس القلب يغلبهما أكثر ممّا تغلب الرطوبة التي تكون من قبل القلب اليبوسة التي تكون من قبل الكبد. وبرد القلب يغلب حرارة الكبد أكثر ممّا يغلب يبسه رطوبتها. وحرارة القلب لبرد الكبد أكثر غلبة من يبس القلب لرطوبة الكبد، من قبل أنّ البرد الذي يكون من الكبد هو أسرع، وأقرب إلى الغلبة من جميع الكيفيّات التي تكون منها.

فقد تبيّن أنّه متى اجتمع مزاج هذين الأصلين على شيء واحد، فإنّ البدن كلّه على الصحّة والحقيقة يصير حاله حالهما. وسنخبر بعد قليل بالعلامات التي تدلّ عليه.

فإذا كانت في الكبد رطوبة حارّة فإنّها تجعل الشعر فيما دون الشراسيف أقلّ منه في صاحب الكبد الحارّة، اليابسة، وتجعل الدم على أكثر ما يكون، وتجعل العروق غير الضوارب عظاماً، والبدن كلّه حارّاً، رطباً، إن لم يقاوم القلب الكبد.

فإن تباعد مزاج الكبد في الكيفيّتين جميعاً بأكثر من هذا على الحالة الطبيعيّة، أسرعت إلى صاحبها أمراض العفونة التي تكون من رداءة الكيموسات، ولا سيّما إن زادت الرطوبة زيادة كبيرة جدّاً، وزادت الحرارة زيادة يسيرة. فإن كان الأمر بالعكس، أعني أن تكون زيادة الرطوبة يسيرة، وزيادة الحرارة كبيرة جدّاً، فلا يكاد أن يعرض لصاحب هذا المزاج رداءة الكيموسات.

ومتى كانت الكبد باردة رطبة، فإنّ ما دون الشراسيف يكون معرّىً من الشعر، ويكون الدم قد غلب فيه البلغم، مع ضيق العروق غير الضوارب. ويكون البدن كلّه على قريب من هذه الحال، إلّا أن يقلبه القلب إلى الضدّ.

(١٣) ومتى كانت الكبد باردة يابسة، فإنّ البدن يكون قليل الدم، ضيّق العروق، بارداً، ويكون ما دون الشراسيف عارياً من الشعر، إلّا أن يغلب القلب.

وأمّا الأنثيان فإنّ مزاجهما إذا كان حارّاً، فإنّ صاحبهما يكون صاحب باه، كثير التوليد للذكور، منجباً، ويسرع فيه نبات الشعر في أعضاء التوليد، ويتّصل بما حولها.

وإذا كان مزاجهما بارداً، فإنّ علاماته أضداد هذه التي وصفنا.

وإذا كان مزاجهما رطباً، فإنّ صاحبهما يكون غزير المنيّ، رطبه.

وإذا كان مزاجهما يابساً، فإنّ صاحبهما يكون قليل المنيّ، ويكون منيّه إلى الغلظ قليلاً.

وإذا كان مزاجهما حارّاً يابساً، فإنّ المنيّ يكون على أغلظ ما يكون، ويكون صاحبهما كثير التوليد جدّاً، ويهيج للجماع سريعاً جدّاً في أوّل مراهقته. وينبت له الشعر في مواضع الأعضاء المولدة سريعاً، وفي جميع ما حولهما. ويتّصل من فوق إلى نواحي السرّة، ومن أسفل إلى وسط الفخذين. وصاحب هذا المزاج يهيج لطلب الجماع بقوّة، إلّا أنّه يكلّ، وينقطع سريعاً. فإن حمل

على نفسه، واستكرهها، ناله من ذلك ضرر.

ومتى اجتمعت مع الحرارة في الأنثيين رطوبة، فإنّ الشعر يكون في صاحبهما في مواضع التوليد أقلّ، ومنيّ هذا أكثر، إلّا أنّ شهوته للجماع ليست بأكثر من غيره.

ويحتمل الجماع الكثير من غير أن يناله منه مضرّة. فإن زادت الكيفيّتان جميعاً زيادة كثيرة، أعني الرطوبة والحرارة، لم يقدر صاحب هذا المزاج أن يمتنع من الجماع من غير أن تناله مضرّة.

ومتى كان مزاج الأنثيين بارداً، رطباً، كان ما حولهما عارياً من الشعر، ويبطئ صاحبهما من أوّل استعماله للجماع، ولا يكاد أيضاً أن يهشّ له. ويكون

منيّه مائيّاً، رقيقاً، قليل التوليد، مولّداً للإناث.

ومتى كان مزاج الأثنيين بارداً، يابساً، فأمر صاحبهما في سائر أحواله كحال الذي قبله، إلّا أنّ منيّه يكون أغلظ، ويكون قليلاً، وتحاً جدّاً.

(١٤) وأمّا حالات البدن كلّه، فقد قلنا فيها قبل إنّها تتشبّه بالقلب، والكبد، إلّا أن يغلب فيه شبه أيّهما كانت معه كيفيّة أقوى، أيّ الكيفيّات كانت من الأوّل التي تسمّى الفعالة.

وإذا قلنا حال البدن كلّه، فأكثر ما نعني بذلك من الأعضاء ما يقع أوّلاً تحت العيان، وذلك هو العضل الملبّس على العظام كلّها.

والعضلة هي لحم مركّب من اللحم المفرد الأوّل، ومن الليف الذي يتلبّس، ويشتمل عليه اللحم. وجوهر العضلة الخاصّ إنّما هو هذان الشيئان. فأمّا العروق التي تتّصل بها فإنّما هي لها بمنزلة السواقي، وليس هي متمّمة لجوهرها، لكنّها تعين على بقائها.

وأنا واصف لك علامات مزاج العضل في المسكن المعتدل. فإنّ المساكن الرديئة المزاج تغيّر الجلد، وتميله إلى ما يشاكلها، ويفسد بعض العلامات.

وكذلك أيضاً إن تعرض متعرّض في بلد معتدل للشمس في وقت صائف، وبدنه مكشوف، فإنّه يغيّر من علامات بدنه ما كان من طريق اللون، والصلابة، واللين.

فإن كان البلد معتدلاً، وقصد صاحب البدن في تدبيره قصد الاعتدال، ولم يتعرّض، وبدنه عارٍ، للشمس في كلّ يوم زماناً طويلاً حتّى تحرقه، ولم يسكن في الظلّ، كما يفعل قوم، بمنزلة الجارية البكر، فإنّ علامات مزاجه تتبيّن على حالها، وحقائقها.

فافهم عنّي ما أقول لك على أنّ كلامي إنّما هو فيمن هذه حاله، فأقول:

إنّ علامات المزاج المعتدل في البدن كلّه أن يكون اللون مركّباً من حمرة، وبياض، وأن يكون الشعر أشقر إلى الحمرة، فيه جعودة معتدلة على الأكثر، وأن يكون اللحم معتدلاً في كمّيّته، وكيفيّته، لأنّ هذا البدن متوسّط بالحقيقة فيما بين جميع أنحاء الإفراط، من قبل أنّ كلّ إفراط إنّما يقال، ويفهم بالقياس إليه. وذلك أنّ البدن العبل إنّما يقال إنّه عبل بالقياس إلى هذا البدن. وكذلك القضيف إنّما يقال قضيف بالقياس إليه. وعلى هذا المثال يضاف إليه الكثير اللحم، والقليل اللحم، والسمين، والمهزول، والصلب، والليّن، والأزبّ، والأزعر. وليس واحد من هذه الأبدان بمعتدل، لكن المعتدل هو ما كان بمنزلة المثال الذي هيّأه فولوقليطس، وسمّاه قانوناً، قد بلغ غاية الاعتدال كلّه حتّى يكون إذا لمس، لا يظهر أنّه ليّن، ولا أنّه صلب، ولا أنّه حارّ، ولا أنّه بارد. وإذا نظر إليه، لم يوجد أنّه أزبّ، ولا أزعر، ولا عبلاً، ولا قضيفاً، ولا قد غلب عليه شيء من الإفراط.

(١٥) فأمّا الأبدان التي هي أسخن من المعتدل، وليس هي بأرطب منه، ولا بأجفّ منه، ومزاجها هذا المزاج في جنس اللحم، فإنّ كلامنا الآن إنّما هو في هذا. فإنّه قد يظهر لحسّ الجسّ منها حرارة أزيد من حرارة المعتدل بحسب فضل حرارة مزاجها على البدن المعتدل، وبحسب حرارتها كثرة الشعر، وقلّة الشحم. وأمّا في اللون فإنّها أزيد حمرة، والشعر فيها أسود.

فهذه هي علامات المزاج الحارّ.

وأمّا علامات المزاج البارد: فأن يكون صاحبه أزعر، قليل الشعر، كثير الشحم، وإذا لمسته، وجدته بارداً، وترى لون بدنه، وشعره إلى الشقرة التي

تضرب إلى الصفرة. وإذا كانت البرودة مفرطة فإنّ اللون يكون كمداً. ومن عادة الأطبّاء أن يسمّوا هذا اللون لون الرصاص.

وأمّا علامات المزاج اليابس فأن يكون صاحبه أقضف، وأصلب من البدن المعتدل بحسب فضل يبسه. وأمّا سائر العلامات فعلى المثال الأوّل.

وكذلك أيضاً فإنّ صاحب المزاج الرطب تكون سائر علاماته تجري على هذا المثال، إلّا أنّ لحمه أكثر، وبدنه ألين.

(١٦) وإذا تركّبت الكيفيّات الأول، وكان منها مزاج غير معتدل، كانت العلامات أيضاً التي تدلّ عليه مركّبة.

وذلك أنّ المزاج الحارّ اليابس يكون صاحبه أكثر شعراً، وأزيد سخونة، وصلابة، ويكون عديم الشحم، قضيفاً، ويكون شعره أسود. فإذا ازدادت

غلبة الحرارة، فإنّه يكون أدم.

وأمّا المزاج الحارّ الرطب فإنّ صاحبه ألين بدناً، وأسخن، وأكثر لحماً من صاحب أفضل الهيئات بحسب فضل زيادة الكيفيّتين فيه على ذلك البدن. وإذا أفرط فيه هذا المزاج، أسرعت إليه الأمراض التي تعرض عن عفونة، وتصير الكيموسات التي فيه رديئة.

فإن كان فضل الرطوبة فيه يسيراً، وفضل الحرارة فيه كثيراً، كان فضل لينه، وكثرة لحمه على البدن المعتدل يسيراً. وكان فضل زيادة الشعر فيه عليه ليس بيسير. وإذا جسسته، وجدته أسخن كثيراً. وشعره أسود. ولحمه معرّىً من السمن.

وإن كان فضل الحرارة فيه يسيراً، وفضل الرطوبة فيه كثيراً، كان لحمه لحماً ليّناً كثيراً، وكان لونه مختلطاً من الحمرة والبياض. وإذا لمسته، وجدت فضل حرارته يسيراً.

وأمّا المزاج البارد الرطب إذا كان فضله في هاتين الكيفيّتين عن المعتدل فضلاً يسيراً، فإنّه يكون أزعر، أبيض، ليّناً، عبلاً، سميناً. وإن كان فضل هاتين الكيفيّتين عن المعتدل فضلاً كثيراً، فإنّ سائر العلامات تزداد بحسب تزيد الكيفيّتين، ويكون لون الشعر، والجلد أشقر إلى الصفرة. ومتى كانت هاتان الكيفيّتان على أكثر ما يكون، فإنّ اللون يصير كمداً. فإن كان تزيّد الكيفيّتين ليس على تساوٍ، فإنّ خواصّ الكيفيّة التي زيادتها أكثر تكون أغلب.

فإن غلب بالطبع في البدن البرد مع اليبس على تساوٍ، فإنّه يكون صلباً، قضيفاً، أزعر. وإذا لمس، وجد بارداً. وهذا البدن، وإن كان قضيفاً فقد يخالط لحمه السمن. فأمّا الشعر، واللون فإنّهما يكونان بحسب البرد.

فإذا انقلب المزاج الحارّ اليابس في وقت انحطاط السنّ إلى المزاج البارد اليابس، فإنّ البدن يكون من القضافة، والصلابة على الحال التي وصفنا، لأنّ المرّة السوداء تغلب عليه. وكذلك تغلب عليه الأدمة، ويكثر فيه الشعر.

فإذا كانت إحدى هاتين الكيفيّتين قد غلبت عليه غلبة كثيرة، وكانت الأخرى لم تغادر الاعتدال إلّا قليلاً، فإنّ علامات أغلب الكيفيّتين تكون أغلب، وعلامات الكيفيّة الأخرى تكون ضعيفة.

وأعطيك علامة عامّيّة مع جميع ما وصفت، وأصف، تدلّك على المزاج.

إنّ العضو إن كان يبرد سريعاً، فذلك يدلّ منه على برد، وعلى تخلخل. وإن كان لا يبرد إلّا بعسر، فذلك يدلّ منه إمّا على حرارة، وإمّا على كثافة. وإذا رأيت العضو يعرض له من الأشياء المجفّفة أن يقحل، ويجفّ، وتعسر حركته، فذلك يدلّ منه على اليبس. وكذلك أيضاً إذا رأيت العضو تثقّله

الأشياء الرطبة، فذلك دليل على رطوبته.

وقد ينبغي أن تنظر هل مزاج جميع العضل مزاج واحد في طبعها، أم لا. وتنظر — مع نظرك في أمر جميع العضل — في مقادير العظام التي عليها العضل موضوعة. فإنّه ربّما ظنّت أنّ العضو دقيق، وليس هو بدقيق من قبل العضل، لكنّك تراه كذلك من قبل دقّة العظم.

وكذلك أيضاً قد نتوهّم كثيراً أنّ العضو غليظ، ولم يأت غلظه من قبل غلظ العظام، ولكن من قبل كثرة اللحم.

واللحم بحسب زيادته، ونقصانه، وتزيّده في الصلابة، واللين، يجعل حال العضو الذي هو فيه له فضل اليبس، أو فضل الرطوبة. وذلك أنّ اللحم القليل الصلب يجعل العضو أجفّ، واللحم الكثير اللين يجعل العضو أرطب.

وكذلك أيضاً فإنّ المواضع التي فيما بين الأعضاء المتشابهة الأجزاء بحسب كثرة ما تحوي من الرطوبة، وقلّتها، وفضل غلظها، ورقّتها تجعل حال العضو الذي هي فيه في فضل رطوبته، ويبسه. وذلك أنّ تلك الرطوبة إذا كانت أرقّ،

وأكثر جعلت العضو رطباً، وإذا كانت أغلظ، وأقلّ جعلت العضو جافّاً.

فأمّا الأعضاء الثابتة التي هي بالحقيقة ثابتة، أصليّة فليس يمكن بوجه من الوجوه أن تجعلها أرطب ممّا هي. ويكتفي أن يحوطها، ويمنعها من أن تجفّ سريعاً. وأمّا المواضع التي فيها بينها، فقد يمكن أن تملأها رطوبة هي بحال دون حال. وهذه الرطوبة هي الغذاء الخاصّ للأعضاء المتشابهة الأجزاء التي تجتذبه بالمجاورة، لا من العروق.

وهذا القول منّي عامّ في جميع الأعضاء التي ذكرت، وسأذكر أيضاً عند ذكري الأسباب المصحّة، والمسقمة.

وأمّا الآن فإنّي مقبل على ما يتعمّل بما كنت فيه، فأقول:

(١٧) إنّ علامات المعدة التي في طبعها أجفّ من مزاجها المعتدل أن يكون صاحبها يعطش سريعاً. ويكفيه من الشراب اليسير. وإن شرب الكثير، ثقل عليه، وحدث له منه خضخضة في المعدة إذا طفا الفضل، فصار في أعلى المعدة، وأن يهشّ لما كان من الأطعمة أجفّ.

وعلامات المعدة التي هي أرطب من مزاجها المعتدل أن يكون صاحبها قليل العطش، وأن يحتمل الكثير من تناول الشيء الرطب، وأن يهشّ للأطعمة التي هي أرطب.

وأمّا المعدة التي هي أسخن في طبعها من مزاجها المعتدل فالاستمراء فيها أجود من الشهوة، ولا سيّما استمراء الأغذية الصلبة التي تعسر استحالتها، لأنّ الأطعمة التي استحالتها سريعة تفسد فيها. ويهشّ صاحبها للأطعمة، والأشربة الحارّة، وليس تضرّه فيها الباردة، إن استعملها على القصد والاعتدال.

فأمّا المعدة التي هي في طبعها أبرد، فالشهوة فيها أجود من الاستمراء، وخاصّة هضمها للأطعمة الباردة التي تعسر استحالتها، من قبل أنّه يحمض فيها سريعاً. وكذلك من كانت معدته بهذه الحال، فإنّه يتجشّأ جشاء حامضاً، ويهشّ للأشياء الباردة، إلّا أنّه يسرع إليه ضررها في معدته، إن أفرط فيها فضل قليل. وكذلك أيضاً لا يحتمل من كان هذا حال معدته أن تلقاها زماناً

طويلاً من خارج أشياء حارّة.

وأمّا المزاج الرديء العارض في المعدة من مرض، فالفرق بينه وبين مزاجها الرديء الذي يكون بالطبع أنّ صاحب المزاج الرديء العارض يشتهي ما ضادّ مزاج معدته، لا ما شاكله، وأشبهه، كما يشتهي صاحب المزاج الرديء الكائن في المعدة بالطبع.

فأمّا أصناف المزاج الرديء الكائن في المعدة المركّبة فتعرفها بتركيب الأصناف البسيطة.

وقد ينبغي أن تنعم النظر فيما قلنا لتفرّق بينه وبين ما نحن قائلوه: وهو أنّه ليس من قبل المعدة فقط يكون الإنسان يعطش، ولا يعطش، ويشتهي شرب البارد، أو يشتهي شرب الحارّ، لكن قد يكون ذلك من قبل الآلات التي في الصدر، أعني القلب والرئة.

إلّا أنّ من كان عطشه بسبب حرارة في هذه الآلات فإنّه يستنشق من الهواء أكثر، ويكون لإخراجه الهواء في التنفّس مدّة، وطول، ويحسّ في صدره بالتهاب، لا فيما دون الشراسيف، كما يحسّ من كان سبب عطشه حرارة في المعدة. وإذا شرب الماء أيضاً فليس يسكن عطشه على المكان. وشرب الماء البارد يسكّنه أكثر ممّا يسكّنه شرب الكثير الحارّ. وقد يسكّن عطش من كانت هذه حاله الهواء البارد أيضاً إذا استنشقه، وليس يسكّن عطش من كان سبب عطشه حرارة في المعدة.

وكذلك أيضاً من كان على ضدّ هذه الحال، فقد يحسّ بأذى الهواء البارد

(١٨) إذا استنشقه، وذلك من أعظم الدلائل على برد الرئة.

وكما أنّ صاحب هذه الحال إذا استنشق الهواء البارد يحسّ منه بأذى بيّن، وبرد، فكذلك يجب استنشاق الهواء الحارّ. ويقذف فضولاً بلغميّة إذا تكلمّ مع السعال.

ومن كانت رئته يابسة، وليس له فضل يقذفه، فصوته صافٍ. وأمّا من كانت رئته رطبة، فصوته غير صافٍ، أبحّ. وإذا استعمل من الصوت ما هو أعظم، وأحدّ، حدث في قصبة رئته فضول. إلّا أنّه ليس عظم الصوت يكون من قبل الحرارة، ولا صغره يكون من قبل البرودة. لكن عظم

الصوت يتبع سعة قصبة الرئة، وفضل قوّة خروج الهواء من الصدر دفعة. فأمّا صغر الصوت فتابع للأسباب التي هي في ضدّ هذه.

وليس يجب دائماً أن يتبع عظم الصوت، وصغره لا الحرارة، ولا البرودة. ولا إذا تبع عظم الصوت أو صغره الحرارة، والبرودة، فذلك منهما بأنفسهما، لكنّه إنّما يكون منهما بعرض، ويتبع ذلك المزاج الطبيعيّ، لا المزاج الحادث.

وذلك أنّه لمّا كانت الأعضاء الآليّة إنّما تكون بالحال التي هي عليها من قبل مزاجها، وكانت حال الصوت تابعة لحال الأعضاء الآليّة، وجب من قبل ذلك أن يقيس من الصوت على مزاجها الطبيعيّ. من ذلك أنّ الصوت الأملس يتبع ملاسة قصبة الرئة، والصوت الخشن يتبع خشونتها. وملاسة قصبة الرئة تتبع اعتدال مزاجها، وخشونتها تتبع يبسها. وذلك أنّ الخشونة إنّما هي اختلاف في جسم صلب. وإنّما تصير قصبة الرئة صلبة من قبل يبس الأعضاء المتشابهة

الأجزاء التي تركيبها منها. وإنّما يكون فيها اختلاف من قبل نقصان الرطوبة المبثوثة فيها. وكذلك أيضاً فإنّ الصوت الحادّ بالطبع لا يمكن أن يكون إلّا مع ضيق قصبة الرئة، والحنجرة. والصوت الثقيل لا يكون إلّا مع سعتها. وضيقها يتولّد من بردها الغريزيّ. وسعتها تتولّد من حرارتها الغريزيّة. وعلى قياس أصناف الأصوات الطبيعيّة تكون الأصناف التي تحدث من قبل الأمراض، فتصير تلك أيضاً علامات دالّة على الأسباب الفاعلة لها. وقد لخّصنا جميع ذلك تلخيصاً كافياً في كتابنا في الصوت.

فأمّا سائر أعضاء البدن الباطنة، فالعلامات التي تدلّ على مزاجها خفيّة. لكنّه قد ينبغي لك أن تروم على كلّ حال أن تستدلّ عليها بما ينفعها، ويضرّها، وبأفعال قواها الطبيعيّة.

وقد ذكرت في المقالة الثالثة في علل الأمراض بأيّ مزاج يكون صلاح كلّ واحدة من تلك القوى، وفضيلتها، وبأيّ مزاج يكون فسادها، ورداءتها.

وقد فرغت من ذكر علامات المزاج.

(١٩) وأمّا الأعضاء التي تكون بها آفة في عظمها، أو في خلقتها، أو في عددها، أو في وضعها، فما كان منها يقع تحت الحواسّ فقد يسهل تعرّفها. وما كان منها لا يقع تحت الحواسّ، قمنها ما يعسر تعرّفه، ومنها ما لا يمكن تعرّفه بتّة.

أمّا عظم الرأس، وشكله، وعظم الدماغ مع ذلك، وشكله، فأمرها بيّن. وقد وصفته قبل. وكذلك الحال في الصدر.

وعلى هذا المثال ليس يعسر عليك تعرّف أمر الكتفين، والمنكبين، والعضدين، والساعدين، والكفّين، والوركين، والفخذين، والساقين، والقدمين، كانت الآفة في كلّ واحد منها في الخلقة، أو في القدر، أو في العدد، أو في تركيب الأجزاء التي كلّ واحد منها هو منها مركّب. وضرر فعل كلّ واحد منها أيضاً بيّن.

فأمّا الأعضاء الباطنة فليس يمكن في جميعها تعرّف أمرها.

أمّا المعدة فقد رأيتها في بعض الناس صغيرة، مستديرة، بارزة في المواضع التي دون الشراسيف، حتّى كان يتبيّن للمتأمّل لها، واللامس حدّها الخاصّ بها على الاستدارة بياناً شافياً.

وكذلك أيضاً قد رأيت مثانة بارزة، صغيرة، حتّى أنّ صاحبها كان إذا أبطأ عن البول قليلاً، يظهر في موضعها انتفاخ محدود بحدّ بيّن.

وأمّا سائر الأعضاء الباطنة فلا أعلم أنّ شيئاً عنها ظهر لي ظهوراً بيّناً. إلّا أنّه قد ينبغي أن نروم ما أمكننا أن نعرف صلاحها، وفسادها، وإن لم يمكن تعرّفه بالحقيقة، فبحدس مقرّب.

وأضرب لك في ذلك مثالاً من الكبد. فقد رأيت قوماً كثيراً عددهم عروقهم ضيّقة، وألوانهم في البدن كلّه حائلة، وإن تناولوا من الطعام فضلاً قليلاً، لا سيّما إن كان الطعام نافخاً، غليظاً، لزجاً، أحسّ بعضهم في الجانب الأيمن ممّا دون الشراسيف كأنّ هناك في العمق شيئاً ثقيلاً موضوعاً على شيء أو معلّقاً بشيء. وأحسّ بعضهم مع ذلك بتمدّد مؤلم. فتوهّمت على من كانت هذه حاله أنّ كبده صغيرة، ضيّقة المجاري.

ورأيت رجلاً في بدنه كلّه شواهد غلبة البلغم، وهو مع ذلك يتقيّأ في كلّ يوم مراراً أصفر، فرأيت أنّه ينبغي أن أنظر، وأتفقّد حال برازه، فوجدت المرار في البراز يسيراً جدّاً، فزكيت في هذا الرجل أن يكون المجرى الذي يقذف فيه المرار ينبت منه قسم عظيم إلى أسفل المعدة، وهو الموضع الذي يلقّبه الأطبّاء بالبوّاب، كما قد يرى ذلك في بعض الحيوان.

وهذه الأشياء تدلّ على أنّ معرفة ما يظهر في التشريح، ووجود أفعال الأعضاء، ومنافعها عظيمة المنفعة في تعرّف ما يخفى من الحسّ. فمن أراد أن يقوي على الاستدلال في الأبدان التي فيها أشباه هذه الآفات، فينبغي له أن يرتاض في التشريح، وفي وجود أفعال الأعضاء ومنافعها.

وقد كتبت في كلّ صنف من هذه الأصناف كتاباً مفرداً. وسأذكر تلك الكتب في آخر كلامي في هذا الكتاب، كيما يعلم المحبّ للتعلّم في أيّ كتاب يجد علم شيء شيء ممّا يجب علمه. وفيما ذكرنا في هذا الباب كفاية.

(٢٠) فأمّا الأبدان التي هي سقيمة الآن، أعني التي قد سقمت، فينبغي أن يستدلّ عليها إن كانت واقعة تحت الحسّ بتغيّر ما لها في طبائعها من مقادير العظم، واللون، والشكل، والعدد، والوضع، والاختلاف في الصلابة واللين والحرّ والبرد.

وإن كانت فيما لا يظهر للحسّ، فينبغي أن يستدلّ عليها بالجملة: إمّا بفساد الأفعال، وإمّا بما ينبت منها، وإمّا بالأوجاع، وإمّا بالغلط المجاوز للأمر الطبيعيّ، وإمّا بعدّة من هذه، وإمّا بجميعها.

وأمّا عضو عضو فينبغي أن يستدلّ عليه على هذا المثال.

أمّا الأمراض التي تكون في الدماغ فينبغي أن يستدلّ عليها إمّا بأصناف

اختلاف الذهن، وإمّا بأصناف تخيّل ما يتخيّل من الأشياء المحسوسة، وإمّا بآفات الحركات الإراديّة، وإمّا بما ينبعث من اللهوات، والأذنين، والمنخرين وإمّا بأصناف الأوجاع التي تعرض فيها.

وأمّا الأمراض التي تعرض في القلب، فينبغي أن يستدلّ عليها من أصناف تغيّر النفس، ومن الخفقان العارض فيه، ومن نبضه، ونبض العروق، ومن سرعة الغضب وإبطائه، والحمّى، وبرد البدن، وأصناف الألوان والأوجاع العارضة فيه.

وأمّا الأمراض التي تعرض في الكبد، فينبغي أن يستدلّ عليها من نقصان الكيموسات، وتزيّدها، وتغيّرها عن حالها الطبيعيّة إلى حال خارجة من الطبيعة، ومن رداءة اللون، ومن التغيّر الذي يعرض من انقسام الغذاء في البدن، أو تشبّهه بالأعضاء، أو في نقاء ما ينقّى منه في الفضول، من الثقل أيضاً الذي يحسّ فيها، والأورام، والأوجاع التي يكون بعضها في موضع الكبد نفسه، وبعضها من مشاركته، وبنوع من تغيّر النفس، والسعال.

وكذلك أيضاً ينبغي أن نستدلّ على الأمراض التي تكون في المعدة بالآفات التي تعرض في الهضم، وفي شهوة ما يتناول من الرطب أو اليابس، وفي قذف الفضول المتولّدة فيها. وكذلك أيضاً قد يستدلّ عليها بالفواق، والجشاء، والغثيان، والقيء، وأصناف ما يخرج في القيء، وبالأوجاع، والأورام، وتغيّر النفس.

فأمّا الأعراض التي تعرض في الصدر، فينبغي أن يستدلّ عليها بأصناف تغيّر النفس، والسعال، وبالأوجاع العارضة فيه، وبأصناف ما ينفث منه.

وأمّا الأورام العارضة في قصبة الرئة فيدلّ عليها تغيّر النفس، والسعال، والوجع العارض في موضعها، وما ينفث منه، والآفات العارضة للصوت.

وعلى هذا القياس يكون الاستدلال على أمراض جميع الأعضاء من الغلظ، والوجع العارض فيها، ومن الآفات العارضة لأفعالها، ومن أصناف ما يبرز منها.

وحيث ما كان من البدن غلظ مجاوز للمقدار الطبيعيّ، فينبغي أن تبحث هل من الورم الحارّ، أو من الجاسي الصلب، أو من الرخو المنفوخ.

فأمّا الأوجاع فحيث كان من البدن ثابتة فهي تدلّ إمّا على تفرّق الاتّصال، وإمّا على تغيّر كثير حدث دفعة.

والاتّصال يتفرّق بالانقطاع، والتآكل، والتمدّد، والانشداخ.

وجوهر العضو يتغيّر بالحرّ، والبرد، واليبس، والرطوبة.

والآفة تحدث في الفعل على أحد ثلثة أنواع: إمّا بأن يضعف، وإمّا بأن يتغيّر من جهته، وإمّا بأن يبطل.

والأشياء التي تنبعث، وتبرز، منها ما هي أجزاء من الأعضاء التي فيها الألم، ومنها ما هي فضول لها، ومنها أشياء هي محصورة فيها بالطبع. وكلّ واحد من هذه الأصناف يدلّ على شيء خاصّ.

وقد تكلّمنا في جميع هذه الأشياء كلاماً أشرح من هذا في كتابنا في المواضع الآلمة.

ولم يتقدّمنا أحد إلى السلوك في ذلك الغرض بالطريق الجادّ القاصد الخاصّ به، ولا بلغ فيه إلى الغاية. كما لم يبلغ أيضاً في غرض من الأغراض أحد من القدماء، لكنّهم ابتدأوا بها، ولم يتمّوها.

وقد ينبغي لك أن تأخذ علامات الأبدان التي قد مرضت من ذلك الكتاب.

وأمّا علامات الأبدان التي قد قربت من أن تمرض أو من أن تصحّ، فينبغي أن تأخذها من هذا الكتاب.

(٢١) وعلامات الأبدان التي قربت من أن تمرض فهي متوسّطة بين ما يعرض للأصحّاء وبين ما يعرض للمرضى. فإنّ جميع ما يوجد في الأصحّاء جارٍ على الأمر

الطبيعيّ، وجميع ما يوجد في المرضى، من طريق ما هم مرضى، على خلاف الأمر الطبيعيّ.

وأمّا علامات الأبدان التي قد قربت من المرض فهي على التخوم فيما بين تلك وهذه. ومنها ما هو من جنس الأمور الطبيعيّة، إلّا أنّها قد تبدّلت في مقاديرها، أو في حالاتها، أو في أوقاتها. ومنها ما هي من جنس الأشياء الخارجة عن الطبيعة، إلّا أنّها أقلّ، وأنقص ممّا يعرض من الأمراض. وكذلك حال الأبدان التي قد قربت من المرض نفسها هي من الأحوال التي لا تنسب إلى صحّة، ولا إلى مرض. والعلامات أيضاً الدالّة عليها فإنّها إنّما تدلّ أوّلاً على تلك الحال، ثمّ تدلّ بوجه ثانٍ على الأمراض، فتعبّر العلامة الواحدة بالإضافة إلى شيء دون شيء من العلامات التي لا تدلّ على صحّة، ولا على مرض. ومن العلامات التي تدلّ على المرض إمّا من طريق ما يدلّ على الحال التي هي في البدن فليس يدلّ

على صحّة، ولا على مرض، وأمّا من طريق ما يدلّ على الحال الكائنة بعد فيدلّ على المرض. وعلى هذا القياس أيضاً فإنّ العلامات التي تظهر في المرضى فتدلّ على الخلاص قد يقال إنّها علامات للصحّة لأنها تنذر بصحّة كائنة فيما بعد. ويقال أيضاً إنّها علامات للمرض من قبل أنّها تدلّ على مرض حاضر. وإذا كانت تدلّ على الحالين فهي من العلامات التي لا تنسب إلى المرض خاصّة، ولا إلى الصحّة خاصّة على نحو من الأنحاء التي يدلّ عليها هذا اللفظ، أعني قولنا: لا صحّة، ولا مرض.

وليس بعجب أن تكون العلامة الواحدة تنسب إلى هذه الأنحاء الثلثة بإضافات مختلفة، فيقال إنّها علامة للصحّة، وعلامة للمرض، وعلامة لا للصحّة خاصّة، ولا للمرض خاصّة.

وقد نقول على معنى آخر غير هذا إنّ العلامات التي توجد في بدن من قد استقلّ من المرض من العلامات التي لا تدلّ على صحّة، ولا على مرض. وكذلك

العلامات التي توجد في أبدان المشايخ. وجميع هذه العلامات تنسب أنساباً مختلفة.

وأمّا العلامات التي توجد في الأبدان الصحيحة التي ليست بها قلبة، فليس تنسب إلّا إلى الصحّة.

والعلامات التي توجد في المرضى، وليست تنذر بصحّة كائنة، فهي أيضاً إنّما تنسب إلى المرض فقط.

وسنذكر هذه فيما بعد.

ونذكر أوّلاً العلامات التي تنذر بمرض حادث. وهذه كما قلنا صنفان: ونذكر أوّلاً ما كان منها إمّا غادر الأمر الطبيعيّ في المقادير، وفي الحالات، وفي الأوقات، لا في نفس أجناسها، مثل أن تكون شهوة الطعام قد تزيّدت، أو تنقصت، أو قد تجاوزت الوقت الذي كانت العادة جرت بأن تتحرّك فيه، أو مالت إلى أطعمة لم تجر العادة بها، وأن تكون فضول الغذاء التي تنبعث أقلّ من المقدار، أو أكثر منه، أو ألين، أو أصلب. وكذلك أيضاً الحال في نقصان الفضول الرطبة، وزيادتها المغادرين للأمر الطبيعيّ، أو تغيّر ألوانها، أو قوامها،

أو أوقات تفرّغها، والأرق، والنوم الزائدان، أو الكائنان في وقت لم تجرّبه العادة. وعلى قياس ذلك أيضاً يجري أمر شهوة الشراب الأكثر، والأقلّ، أو الحارّ، والبارد بخلاف العادة. واستعمال الباه المفرط أو الكائن في غير وقته. والعرق إذا كان أكثر ممّا ينبغي، أو أقلّ ممّا ينبغي. والكسل عن الحركات، والثقل عندما يروم الإنسان الحركة، والاسترخاء، والضعف الشديد، واحتباس الطمث، واستفراغه بأكثر ممّا ينبغي، أو بأقلّ ممّا ينبغي. وكذلك أيضاً استفراغ الدم من أفواه العروق التي في الدبر والقبل. والالتذاذ أيضاً لما يؤكل أو يشرب إذا خالف ما كان يجري عليه أمره فإنّه ينذر بمرض حادث. وكذلك أيضاً كلال الذهن إذا كان صاحبه لم يطبع على ذلك. والنسيان العارض لمن لا يعرفه من نفسه. والنوم إذا كان فيه من التخيّل أو الأحلام أكثر ممّا كان قبل. والسمع، والشمّ، والبصر إذا كان كلّ واحد منها قد ضعف. وبالجملة: جميع الأشياء الطبيعيّة إذا زادت، أو نقصت، أو تغيّرت عن أوقاتها، أو عن

أحوالها. من ذلك لحم البدن إذا نقص، أو زاد، أو مال إلى الحمرة، أو إلى البياض، أو إلى الكمودة، والسواد. والجشاء، والعطاس والريح التي تخرج من أسفل إذا زادت، أو نقصت عن المقدار الطبيعيّ. وكذلك أيضاً ما ينحدر من الأنف، أو من اللهوات، أو يخرج من الأذنين، وممّا ينقّى به الدماغ إذا تغيّر مقداره، أو حاله، أو وقته. وجميع هذه الأشياء التي ذكراها من جنس الأشياء الطبيعيّة.

فأمّا اللذع العارض في المعدة، أو في المريء، أو في شيء من الأمعاء، وعند البراز، والقيء، والبول، والوجع اليسير، فإنهّا من جنس الأشياء الخارجة عن الطبيعة، إلّا أنّ من عرض له ذلك لم يمرض بعد. وكذلك أيضاً حال من أحسّ في رأسه بثقل، أو بوجع ما دام لم يمنعه ذلك من الأعمال التي جرت بها عادته. وهذا هو حدّ المرض في أشباه هذه الأحوال. ولذلك قد تسمّى الحال الواحدة بالإضافة إلى شيء دون شيء مرّة مرضاً، ومرّة لا صحّة، ولا مرضاً. وذلك أنّ كلّ واحد من هذه الأحوال التي وصفتا بحسب مقدار القوّة، واحتمالها لها، وانهزامها منها يكون إمّا مرضاً، وإمّا حالاً ليست بصحّة، ولا مرض.

وكذلك أيضاً فإنّ جميع الآفات التي تكون في الحواسّ المخالف بعضها بعضاً، لا في الكثرة والقلّة، لكن في الجنس بأسره هي خارجة من الطبيعة. فإنّها أيضاً من علامات أمراض ما دامت يسيرة، ولا تمنع من عرضت له من الأفعال التي جرت بها عادته.

من ذلك: أمّا في المذاق فأن يحسّ الإنسان طعم جميع ما يأكله، ويشربه مالحاً، أو مرّاً، أو فيه غير ذلك من سائر الطعوم، أو يحسّ من غير أن يتناول شيئاً ريقه له بعض هذه الطعوم.

وأمّا الشمّ، فأن يحسّ الإنسان برائحة، ولذّة، وليس بحضرته شيء يشمّ، أو تدنى منه أشياء كثيرة مختلفة فيحسّ من جميعها برائحة واحدة، وربّما لم يحسّ الإنسان برائحة شيء بتّة، أو أحسّ برائحة منتنة، وليس بحضرته شيء منتن.

وأمّا في السمع، فإنّ الطنين، والدوى من جنس الأشياء الخارجة عن الطبيعة.

وأمّا في العين فيما يتخيّل الإنسان أن يراه من الأشياء المظلمة، والليليجيّة، والصفر، والحمر، بعضها مستديرة، وبعضها مستطيلة، وبعضها دقيقة، وبعضها غليظة، ويتخيّل كأنّها تطير.

وأمّا في جنس الحسّ فأن يحسّ الإنسان باختلاف، واضطراب، أو بتكاثف، أو بثقل، أو بتمدّد، أو بقرح في بدنه.

وكذلك أيضاً إذا كان في عضو من الأعضاء، أيّ عضو كان، تمدّد، أو ضغط، أو لذع، أو ثقل، إذا كان كلّ واحد من هذه يسيراً، وليس بثابت، فإنّه يدلّ على أنّ حال البدن ليست حال صحّة، ولا مرض، وتنذر بمرض سيحدث.

(٢٢) وأمّا العلامات التي تظهر فيمن قد مرض فيدلّ بعضها على الصحّة، وبعضها على الموت. ولأوّل منها تنسب إلى الصحّة. والثواني تنسب إلى المرض في الجنس، وإلى المرض المهلك في النوع. وهذه العلامات توجد بالجملة من جودة الأفعال، ورداءتها. وأمّا على التصنيف فتوجد من الأفعال الجزئيّة. وقد لخّصنا أجناسها قبل. وأوّلها: جنس الأعضاء التي هي أصول، والثاني: جنس الأعضاء التي هي فروع عن تلك الأصول. والثالث: جنس الأعضاء التي لها من أنفسها تدبير خاصّ، ويأتيها من الأصول فروع ما. والرابع: جنس

الأعضاء التي تدبيرها من أنفسها، وليس هي أصول لغيرها، لا غيرها أصولاً لها، ولا لشيء ممّا فيها.

وهذا الجنس الرابع: أمّا من نفسه فليس ينتفع به في تقدمة المعرفة، وأمّا بالعرض فقد يؤخذ أيضاً من هذا الجنس تقدمة معرفة، كما قد يؤخذ من الفضول. إلّا أنّ تقدمة المعرفة التي تؤخذ من هذه الأعضاء إنّما تؤخذ عن طريق المشاركة في الألم. وأمّا تقدمة المعرفة التي تؤخذ من الفضول فقد تؤخذ دائماً لأنّ فيها علامات للنضج وخلافه.

فيجب أن لا يخلو من الدلالة دائماً على أنّ الطبيعة هي الغالبة للمادّة، أو المادّة غالبة للطبيعة، أو ليس واحد منهما بالقاهر للآخر. وإذا دلّت على أنّ الطبيعة هي القاهرة نسبت إلى الصحّة. وإذا دلّت على أنّ الطبيعة مقهورة،

نسبت إلى المرض. وإذا دلّت على أنّ المقاومة بين الطبيعة والمادّة متكافئة لم تنسب إلى الصحّة، ولا إلى مرض.

والعلامات التي تدلّ على النضج هي من علامات الصحّة، والعلامات التي تدلّ على عدم النضج هي من علامات المرض، والعلامات التي لا تدلّ بتاتاً لا على النضج، ولا على عدم النضج فهي من العلامات التي لا تنسب إلى الصحّة ولا إلى المرض.

ومن العلامات أيضاً التي لا تنسب لا إلى صحّة، ولا إلى مرض العلامات التي تدلّ مرّة على شيء، ومرّة على ضدّه، مثل سواد الأصابع. وكذلك الأعراض التي تكون من قبل البحران.

وقد تكلّمنا في جميع تلك الأمراض والعلامات في كتاب البحران. وتكلّمنا أيضاً في الأعراض التي تكون في كلّ واحد من الأفعال في المقالات التي عرضنا فيها علل الأمراض. فقد ينبغي أن يجمع جميع أصنافها الجزئيّة من تلك الكتب.

وأمّا أنا فإنّي أحذر من التطويل قاطعاً في هذا الموضع كلامي في العلامات

ومقبلاً على الكلام في العلل.

(٢٣) والعلل أيضاً بعضها علل الصحّة، وبعضها علل المرض، وبعضها علل لا للصحّة، ولا للمرض.

فأنا واصف أوّلاً أمر العلل التي هي للصحّة.

وعلل الصحّة أيضاً صنفان: منها ما يحفظ الصحّة، ومنها ما يفعلها. والعلل التي تحفظ الصحّة أقدم في الزمان والشرف من العلل التي تفعلها.

فأنا مبتدئ أوّلاً بذكر العلل الحافظة للصحّة، فأقول:

إنّه لمّا كان البدن الصحيح ليس هو واحداً، لكنّه أصناف شتّى، كما قد لخّصنا قبل، فقد يجب أن يكون لكلّ واحد من أصنافه علّة حافظة خاصّيّة، لأنّ كلّ علّة إنّما هي بطريق الإضافة إلى شيء. وقد ينبغي أن أجعل كلامي في أفضل هيئات البدن. وأطلب العلل التي هي حافظة لصحّة ذلك البدن. ووجود تلك العلل تكون من نفس الشيء المطلوب. وذلك أنّه لو كان البدن لا يألم، ولا يستحيل، لكان سيبقی البدن الذي له أفضل الهيئات دائماً على حاله، ولم يكن يحتاج إلى صناعة تدبّره.

ولمّا كان قد يستحيل، ويفسد، ويتغيّر، ولا يحفظ الحال التي طبع عليها من أوّل أمره، احتاج إلى معونة بقدر ذلك. وبقدر عدد الوجوه التي يتغيّر منها، يجب أن يكون عدد وجوه المعونة له، أعني بذلك عدد العلل الحافظة له.

وبيّن ممّا قلنا أنّ تلك العلل هي من جنس العلل التي تصلح الفساد. لكنّها لمّا كانت إنّما تصلح قليلاً قليلاً، من قبل أنّه يعرض ضرر كثير دفعة، لم يعدّها الأطبّاء في عداد العلل التي تتقدّم فتحوط البدن من بليّة تريد أن تحدث عليه، لكنّهم عدّوها في عداد العلل التي تحفظ حاله الحاضرة.

والأبدان تتغيّر من أسباب ما ضروريّة، ومن أسباب ما ليس بالضرورة. وأعني بالأسباب التي تغيّر البدن ضرورة ما لا بدّ للبدن من أن يلقاه. وأعني

بالأسباب التي لا تغيّر البدن ضرورة سائر الأسباب الواقعة بالاتّفاق. وذلك أنّه لا بدّ للبدن من أن يلقاه الهواء دائماً، ومن الأكل والشراب، ومن النوم واليقظة.

وأمّا السيوف، والسباع، والهوامّ فليس هو ممّا لا بدّ من أن يلقاه البدن.

وأمّا الجنس الثاني من الأسباب فليس للطبّ فيه عمل.

وإذا نحن لخّصنا كم تلك الأسباب التي تغيّر البدن ضرورة، وجدنا في كلّ واحد من أجناسها جنساً خاصّيّاً من العلل الحافظة للصحّة.

وأحد أجناس الأسباب التي تغيّر البدن ضرورة وهو من ملاقاة الهواء المحيط بأبداننا. والجنس الثاني: من الحركة، والسكون في البدن كلّه، وفي عضو عضو من أعضائه. والثالث: من النوم واليقظة. والرابع: ممّا يتناول. والخامس: ممّا ينبعث من البدن، ويحتقن فيه. والسادس: من الأعراض النفسانيّة. وذلك أنّه لا بدّ للبدن من أن يستحيل ويتغيّر من جميع هذه حتّى يصير بحال ما. وأمّا من الهواء فبأن يسخن أو يبرد، أو يجفّ، أو يرطب، أو يحدث فيه شيئاً من هذه الأشياء على التركيب، أو يتغيّر جوهره كلّه حتّى ينقلب. وأمّا من الحركة والسكون فإذا كان كلّ واحد منهما خارجاً من الاعتدال. وكذلك أيضاً لا بدّ من أن يتغيّر من النوم واليقظة. وعلى هذا المثال لا بدّ من أن يتغيّر

البدن ممّا يتناول من طعام، أو شراب، وممّا ينبعث منه، أو يحتقن فيه، ومن العوارض التي تحدث في النفس. فإنّ جميع هذه الأشياء التي وصفنا تغيّر البدن ضرورة: منها بأنفسها، ومنها بأسباب متوسّطة، وإن دام وكثر ذلك التغيّر أفسد للصحّة.

وقد تكلّمنا في جميع هذه الأسباب في كتابنا في تدبير الصحّة. وهذه الأجناس كلّها التي وصفناها من أجناس الأسباب محتملة التصرّف. فإذا استعملت على ما ينبغي صارت أسباباً حافظة للصحّة وإذا تعدى فيها الاعتدال صارت أسباباً للمرض.

فقد تبيّن من هذا أنّه ليس ينبغي أن يتوهّم أنّ أعيان الأشياء التي هي من خارج البدن ممّا قد يحفظ عليه صحّته، أو يردّها إذا زالت غير أعيان الأشياء التي تفعل المرض، وتحفظه، لكنّها هي بأعيانها تكون مرّة أسباباً للصحّة، ومرّة أسباباً للمرض بالإضافة إلى شيء دون شيء. وذلك أنّه متى احتاج البدن إلى الحركة، فالرياضة له سبب للصحّة، والسكون سبب للمرض. وإذا احتاج البدن إلى الراحة، فالسكون له سبب للصحّة، والرياضة سبب للمرض. وكذلك الحال في الأطعمة، والأشربة، وسائر الأشياء الأخر. فإنّ كلّ واحد منها، إذا صادف من البدن حاجة إليه، وكان مقداره بمقدار الحاجة، كان سبباً للصحّة. وإذا صادف البدن وهو غير محتاج إليه، أو لم يكن بمقدار الحاجة، صار سبباً للمرض.

وهذان هما الغرضان في كلّ واحد من أسباب الصحّة والمرض، أعني نوع الشيء الذي يصادف البدن، ومقداره.

وليس ينبغي أن نعدّ وقت الحاجة غرضاً ثالثاً مع هذين، كأنّه شيء غيرهما، إذ كان محصوراً فيهما. وذلك أنّه إن كان البدن قد احتاج إلى مصادفة نوع من الأنواع بمقدار من المقادير، فبيّن أنّ مصادفته في وقت الحاجة إليه. وإنّما صار وقت الحاجة ممّا ينبغي أن ننظر فيه لمكان أنّ كلّ بدن يموت، ويتغيّر، وينحلّ سريعاً يحتاج على قدر أنحاء تغيّره في الأوقات المختلفة أن تكون الأشياء التي يقصد بها المنفعة مختلفة الأنحاء.

فقد بان من هذا أنّ وقت الحاجة ليس هو غرضاً ثالثاً من غير جنس الغرضين الأوّلين، إلّا أنّا قد نستعمله على طريق التعليم كثيراً للعلّة التي وصفنا.

(٢٤) ولمّا كانت أسباب للصحّة التي كلامنا فيها، وسائر أسباب الصحّة إنّما قوامها بهذين الغرضين فقد ينبغي أن نرجع إلى تلك الأسباب فنجدها فيها، فأقول:

إنّه إذا كان البدن على أفضل الهيئات، ثمّ كان الهواء الذي يلقاه معتدلاً، فالذي يوافقه الاعتدال الصحيح من السكون، والحركة، والنوم، واليقظة، وما يتناول، وما ينبعث، وسائر ما ذكرنا قبل. وإذا كان البدن على تلك الهيئة، ثمّ تميل تلك الأشياء الأخر عن الاعتدال إلى خلاف الجهة التي مال إليها الهواء بقدر ما زال الهواء عن الاعتدال. وينبغي أن تجعل غرضك في الاعتدال: أمّا في الهواء فألّا يقشعرّ البدن لبرده، ولا يعرق لحرّه. وأمّا في الرياضة فأن تأمر بالراحة حين يبتدئ البدن يعيی. وأمّا في الأطعمة فصحّة الاستمراء، واعتدال البراز في مقداره، وحاله.

وإذا كان البدن على أفضل الهيئات، فمقدار الشهوة فيه مساوٍ لمقدار الاستمراء. وليس يحتاج إلى مقدار يقدر له مقدار ما يتناوله. وذلك أنّ البدن إذا كان على أفضل الهيئات، فالمقدار الذي يشتهيه ممّا يتناوله هو المقدار الذي يقوى على استمرائه. وكذلك أيضاً الحال في مقدار النوم. فإنّ الطبيعة تقدر المقدار الذي يحتاج إليه من النوم في البدن الذي هو على أفضل الهيئات. وإنّما يذهب عنه النوم إذا لم يبق به إليه حاجة. وإذا كان تدبيره هذا التدبير، لم تعرض له آفة بتّة في انبعاث ما ينبعث منه بالبراز، والبول، وتحلّل البدن كلّه. لأنّ اعتدال ما يتناول من الطعام والشراب يوجب أن يكون البراز والبول على الحال التي يكونان عليها في الصحّة. واعتدال الرياضة يوجب أن يكون ما يتحلّل من البدن كلّه على حال ما يتحلّل من الأصحّاء.

وقد ينبغي لصاحب هذا البدن أن يمتنع من الإفراط في جميع عوارض النفس، أعني بعوارض النفس: الغضب، والغمّ، والغيظ، والفزع، والحسد. فإنّ هذه العوارض كلّها تغيّر البدن، وتخرجه عن حاله الطبيعيّة.

وأمّا الجماع فإنّ أفيقورس يرى أنّه ليس شيء من استعماله يكون سبباً

للصحّة، وأمّا الحقّ فإنّ من استعمل منه شيئاً، كان من عداد أسباب الصحّة، وهو أن يكون بين أوقات استعماله من البدن ما لا يحسّ المستعمل له معه إذا استعمله باسترخاء، وضعف، بل يحسّ أنّ بدنه بعد استعماله إيّاه أجفّ ممّا كان قبل أن يستعمله، ونفسه أجود ممّا كانت قبل أن يستعمله. وأمّا وقت استعماله فهو إذا كان البدن متوسّطاً بالحقيقة بين جميع الحالات العارضة من خارج حتّى لا يكون ممتلئاً جدّاً، ولا خاوياً جدّاً، ولا قد سخن جدّاً، ولا قد برد جدّاً، ولا قد جاوز الاعتدال في اليبس، أو في الرطوبة.

فإن غلظ المستعمل له في استعماله، فينبغي أن يكون ذلك الغلط يسيراً. وأن يستعمل الجماع وقد سخن خير من أن يستعمله وقد برد. وأن يستعمله وهو ممتلئ خير من أن يستعمله وهو خاوٍ. وأن يستعمله وهو رطب خير من أن يستعمله وقد جفّ.

فأمّا النوع الذي ينبغي أن يختار من كلّ واحد من هذه الأسباب للبدن الذي هو على أفضل الهيئات فهو ما أصف.

أمّا الرياضة فيجب أن يختار منها النوع الذي يتحرّك فيه جميع الأعضاء على نسبة واحدة، ولا يتعب بعضها أكثر، وبعضها أقلّ. وأمّا ما يؤكل ويشرب فينبغي أن يختار منه ما هو في غاية الاعتدال. لأنّ ما كان كذلك فهو أوفق الأشياء للطبائع التي هي في غاية الاعتدال. وكذلك الحال في سائر الأشياء.

(٢٥) وإذا كان البدن ناقصاً من أفضل هيئاته، ثمّ لم يكن نقصانه عن ذلك كثيراًّ، فإن العلل الذي تحفظ صحّته تكون زائلة عن الاعتدال بقدر زواله عنه.

وأصناف الأبدان التي هي على هذه الصفة كثيرة. فقد ينبغي أن نفرد لكلّ صنف منها كلاماً على حدة، فأقول: إنّ البدن الذي قد تجاوز الاعتدال في مزاجه، ولم يغادر الاعتدال في تركيب أعضائه الآليّة، فإنّ أسباب صحّته صنفان:

أحدهما: يحفظ مزاجه على ما هو عليه، والآخر: ينقل مزاجه إلى أفضل المزاج.

والأسباب التي تحفظ مزاجه منحرفة عن الأسباب التي تحفظ المزاج الذي هو في غاية الاعتدال بقدر انحراف مزاج ذلك البدن الذي يحفظ عن المزاج الذي هو في غاية الاعتدال.

وذلك أنّ الأبدان التي هي أسخن منه تحتاج من التدبير إلى ما هو أسخن من التدبير الذي يحتاج إليه صاحب ذلك المزاج الأوّل.

والأبدان التي هي أبرد منه تحتاج من التدبير إلى ما هو أبرد.

والأبدان التي هي أجفّ تحتاج من التدبير إلى ما هو أجفّ.

والأبدان التي هي أرطب تحتاج من التدبير إلى ما هو أرطب.

وعلى هذا التركيب أيضاً: فإنّ الأبدان التي هي أسخن وأجفّ تحتاج من التدبير إلى ما هو أسخن وأجفّ.

وعلى قياس هذا يجري أمر الثلثة الأصناف الأخر المركّبة.

وإنّما يقدر أن يستعمل هذه الأشياء التي قلنا إنّها إذا صرّفت تصريفاً جيّداً، صارت أسباباً للصحّة، على ما ينبغي، من عرف قواها التي طبعت عليها.

مثال ذلك: أنّ الحركة، والإقلال من الطعام والشراب، والسهر، والاستفراغ، وجميع الأعراض النفسانيّة تجفّف البدن. وأضداد هذه ترطّب البدن.

وكذلك الحال في الأشياء التي تسخن، وتبرّد من الأعمال، والأطعمة، والأشربة. وبالجملة: فإنّ من عرف أصناف جميع الأشياء التي تعمل في البدن، وقواها، قدر أن يجعلها أسباباً للصحّة بأن يختار منها للبدن ما شاكله، وشابهه، إذا أراد حفظ مزاجه على حاله التي يجدها عليها.

وإذا أردنا أن ننقله، ونقصيه إلى مزاج هو أجود من مزاجه، فإنّ له في هذا الباب جنساً آخر من أسباب الصحّة مضادّ للأسباب التي ذكرناها، وبعده من الأسباب المعتدلة المتوسّطة التي قلنا إنّها توافق صاحب المزاج المعتدل الفاضل إلى خلاف الجهة التي ميل ذلك البدن إليها بعداً سواء. وذلك أنّ البدن إذا كان أسخن، وأجفّ، فليس التدبير المسخن، المجفّف يردّه إلى الاعتدال الصحيح، بل التدبير الذي هو أبرد، وأرطب من المزاج المعتدل بقدر فضل

سخونة ذلك المزاج، ويبسه على المزاج المعتدل. وهذا الجنس من الأسباب يصلح المزاج الرديء بالطبع، والجنس الآخر الذي ذكرناه قبل يحفظ المزاج الرديء بالطبع على حاله. والطبيب يحتاج إليهما جميعاً في أوقات مختلفة. وذلك أنّه متى كان لصاحب المزاج الرديء فراغ طويل، ويمكنه معه أن يصلح مزاجه الرديء الذي بالطبع، فإنّ الطبيب يقصد فيه إلى ذلك الجنس من العلل، فينقل به البدن قليلاً قليلاً عن مزاجه إلى المزاج الذي هو أفضل. لأنّ الطبائع لا تحتمل الانتقال دفعة. فإذا كان صاحب المزاج الرديء بالطبع مشغولاً بأشغال اضطراريّة، فبالحرى أن يحفظه الطبيب على مزاجه الطبيعيّ.

فإن قلت: ما بالنا نسمّي هذا الجنس من الأسباب حافظاً، والأولى كان يسمّى ناقلاً، وشافياً، ومصلحاً للأوقات الطبيعيّة؟ قلنا إنّا نضيف هذه الأسباب إلى جنس الصحّة، لا إلى أصنافها، ونسمّي جميع الأسباب التي تحفظ أبدان الأصحّاء على صحّتها حافظة، كانت ممّا مع حفظها للصحّة تنقل المزاج بأسره إلى الذي هو أفضل، أو كانت ممّا يحفظ المزاج على حاله الأولى. ونسمّي جميع الأسباب

التى تنقل المزاج إلى ما هو أردأ أسباباً ممرّضة. وإذا كان المزاج الرديء في جميع الأعضاء واحداً، فمداواته واحدة.

وإذا كان المزاج الرديء ليس في جميع الأعضاء واحداً فليس مداواة ذلك البدن مداواة واحدة. وذلك أنّه قد يمكن أن تكون المعدة أبرد ممّا ينبغي، والرأس أسخن ممّا ينبغي، فيحتاج كلّ واحد منهما إلى ما يوافقه. وكذلك أيضاً الحال في كلّ واحد من سائر الأعضاء إذا كان أرطب من المزاج المعتدل، أو أجفّ منه، أو أبرد، أو أسخن، فإنّه يحتاج من التدبير إلى ما يوافق مزاجه. فيجب متى كان مزاج أعضاء البدن مختلفاً أن تكون رياضة أعضاء البدن كلّها بالسواء، ولا يكون ترطيبها، أو تجفيفها، أو غير ذلك ممّا يفعل بها على مثال واحد.

وسنشرح ذلك شرحاً أكثر من هذا في كتابنا في تدبير الأصحّاء.

(٢٦) وأمّا أسباب صحّة الأعضاء الآليّة التي بها آفة، فبحسب تلك الآفة تخالف أسباب صحّة البدن الذي هو على أفضل الهيئات. وذلك أنّ أسباب صحّة

الأعضاء التي بها آفة في الخلقة غير أسباب صحّة الأعضاء التي بها آفة في مقدارها، أو في عددها، أو في وضعها.

وقد يعرض في الخلقة آفات كثيرة، وذلك أنّه إن تغيّر شكل العضو عن اعتداله، أو كان فيه عمق بالطبع فيغيّر، أو حدثت به آفة في مجرى فيه، أو في فم مجرى، أو في خشونة، أو في لين، ثمّ كانت الآفة يسيرة، فإنّ صاحب ذلك البدن يقال إنّه صحيح. فإن كانت الآفة أكثر من ذلك، سمّي مسقاماً. فإن بلغت به الآفة إلى أنّه قصر بالفعل، فهو مريض.

وأمّا في المقدار: فالكبر، والصغر يصيران البدن إلى هذه الأصناف التي وصفناها.

وأمّا في العدد: فالزيادة والنقصان من جزء واحد، ومن أجزاء شتّى. فالأشياء التي تتولّد في البدن بخلاف الطبع هي من هذا الجنس.

وقد بقي جنس آخر يكون في وضع كلّ واحد من الأعضاء المفردة. وفيه أيضاً أربعة أصناف:

أوّلها: البدن الذي هو على أفضل الهيئات في هذا الباب.

والثاني: البدن الذي هو زائل عنه قليلاً.

والثالث: البدن الذي هو فيه مسقام، وهو الذي قد تغيّر فيه وضع الأعضاء تغيّراً يسيراً.

والرابع: البدن الذي قد سقم، وفرغ، وهو الذي قد تغيّر فيه وضع الأعضاء تغيّراً كثيراً.

والأعضاء التي بها آفة في شكلها مثل الرجلين المنقلبتين إلى خارج، أو إلى داخل، والرأس المسفّط.

أمّا في الأطفال حين يولدون، ما دامت أعضاؤهم ليّنة، فقد يمكن أن تردّ إلى الحال الطبيعيّة بالتسوية، والشدّ.

وأمّا في الأبدان التي قد يبست، وصلبت، فليس، يمكن أن تصلح.

وكذلك أيضاً فإنّ الأعضاء التي بها آفة في تجويف، وعمق فيها، فقد يمكن

أن تصلح تلك الآفة ما دامت في النشوء، فإن كانت قد استكملت، لم يمكن إصلاحها.

والذي يصغر التجويف والعمق، إذا كان أعظم ممّا ينبغي، هو السكون والشدّ. والذي يعظم تجويف الأعضاء وعمقها، إذا كان أصغر ممّا ينبغي، هو حركة تلك الأعضاء، وحصر النفس. ومعنى حصر النفس أن يحبس النفس، ويدفع إلى داخل دفعاً شديداً.

وعلى هذا المثال أيضاً تتّسع، وتضيق المجاري، وأفواهها.

والأعضاء أيضاً التي هي أكبر ممّا ينبغي، فالسكون، والشدّ الموافق يصغرانها. والأعضاء التي هي أصغر ممّا ينبغي، فحركتها الطبيعيّة، والدلك المعتدل، وسائر الأشياء التي تجتذب إليها دماً أكثر يعين على كبرها.

فأمّا الأعضاء التي عددها ناقص، فما كان منها تولّده من الدم، فقد يمكن أن يتمّم، وما كان منها تولّده من المنيّ، فيكاد أن يكون إتمامه غير ممكن.

إلّا أنّه قد يمكن في أعضاء كثيرة أن يستبدل مكان ما نقص شيء يقوم مقامه، ويخلفه. وجميع ما يتولّد من هذه الأشياء إنّما الفاعل له الطبيعة، وأمّا الطبيب فإنّما هو خادم لها.

فأمّا الأعضاء التي عددها زائد، فسبب صحّتها هو نقصان ما زاد فيها. وقد ينبغي أن ننظر في أيّ الأعضاء يمكن ذلك. فإن رأيت أنّه لا يمكنك أن تنزع ذلك الشيء الزائد، فالتمس أن تنقله.

والأعضاء أيضاً التي بها آفة في وضعها، إنّما يكون صلاحها بنقلها إلى مواضعها.

وبيّن أنّه قد يمكن أن يعرض للعضو الواحد آفتان، وثلث من هذه الآفات. من ذلك أنّي رأيت رجلاً كانت معدته صغيرة، مستديرة، موضوعة على حجابه. فكانت بها الآفة في مقدارها، وفي شكلها، وفي وضعها. وكان مزاجها أيضاً أبرد ممّا ينبغي. ولم يمكن ردّ هذه المعدة على الحالة الطبيعيّة. والذي أمكن فيها أن صيّرنا تأذي صاحبها بها أقلّ. وذلك أنّه كان إذا امتلأت معدته، يعسر عليه نفسه، فصيّرت طعامه طعاماً يسيراً، كثير الغذاء، ليس ببطئ الانحدار، ثلث مرّات في اليوم.

ورأيت رجلاً آخر كان يعرض له في كبده السدد كثيراً، لضيق مجاريها، فاحتلت له بأن صيّرت تدبيره تدبيراً لطيفاً. فكان ذلك سبب صحّته.

(٢٧) وقد يبقى جنس واحد من الآفات يعمّ الأعضاء المتشابهة الأجزاء والأعضاء الآليّة وهو تفرّق الاتّصال.

ولعلّ بعض الناس لا يوافقوننا على أنّ هذه الآفة تكون بمن هو صحيح، ليس به قلبة. لكنّها متى كانت، فهي مرض. وصاحب هذا القول لا يعلم أنّ ما يلزم في هذا قد يلزم في سائر أجناس الآفات.

وذلك أنّا إن لم نجعل ضرر الفعل المحسوس هو الفرق بين المرض والصحّة، وتوهّمنا أنّ المرض إنّما هو في كيفيّة تركيب البدن فقط، اضطررنا إلى أن

نقول بقول من قال: إنّ الأبدان لا تنفكّ من المرض. لأنّه ليس يوجد أحد من الناس تسلم له جميع أفعال أعضائه على أفضل حالاتها.

والبحث عن هذا بالمنطق أشبه منه بالطبّ. فينبغي أن نفرد له كلاماً على حدته.

(٢٨) وقد ينبغي أن نصف الآن أسباب صحّة الأبدان التي لا يشكّ في أنّها مريضة، ونجعل مبدأ كلامنا في جنس المزاج الرديء.

وينبغي أن تحدّد أوّلاً في هذا الموضع شيئاً أغفله جلّ الأطبّاء، وهو أنّ أسباب صحّة البدن الذي قد حدث فيه المزاج الرديء، وفرغ غير أسباب صحّة البدن

الذي مزاجه الرديء في حال الحدوث، وغير أسباب صحّة البدن الذي قد قرب من أن يحدث فيه المزاج الرديء.

وذلك أنّ أسباب صحّة هذا البدن الذي ذكرته أخيراً، منها ما هي داخلة في باب التقدّم في الاحتياط، ومنها ما هي داخلة في باب حفظ الصحّة.

وأمّا أسباب صحّة البدن الذي ذكرنا أوّلاً فداخلة في باب المداواة فقط.

وأمّا أسباب صحّة البدن الذي ذكرناه فيما بينهما فتدخل في باب التقدّم في الحياطة، وفي باب المداواة.

وذلك أنّ المرض إذا كان قد حدث، وفرغ، فينبغي أن نقصد لبرئه. وإذا كان المرض لم يحدث بعد، لكنّه مستعدّ لأن يحدث من قبل سبب في

البدن، فينبغي أن يحسم، ويمنع من الحدوث.

وأمّا المرض الذي هو في حال الحدوث، فمنه شيء قد حدث، وفرغ، وينبغي أن نقصد لبرئه. ومنه شيء مستعدّ أن يحدث، فينبغي أن يحسم، ويمنع من الحدوث.

وحسم ما هو مستعدّ أن يحدث، ومنعه من الحدوث يكون بدفع السبب الذي منه يكون حدوثه. وبرء المرض الذي قد كان، وفرغ، يكون بنقل الحال التي منها خاصّة وجب ضرر الفعل. وتلك الحال هي عين المرض.

والمداواة التي يكون بها البرء غرضها الأوّل العامّ هو المضادّة للشيء الذي نقصد إلى نقضه، ودفعه. وجميع الأسباب الفاعلة للصحّة هي من هذا الجنس. وأمّا الأغراض الجزئيّة فتؤخذ من المضادّة لواحد، واحد من الأمراض. وضدّ المرض الحارّ السبب المبرّد، وضدّ المرض البارد السبب المسخن. وكذلك الحال في سائر الأمراض، والأسباب.

وذلك أنّه لمّا كان كلّ ما هو خارج عن الطبيعة غير معتدل، وكلّ ما هو طبيعيّ فهو معتدل، وجب ضرورة أن يكون الشيء الخارج عن الاعتدال إنّما يرجع إلى الاعتدال من شيء آخر خارج عن الاعتدال، مضادّ له.

وبيّن أنّه إنّما ينبغي أن يتناول الشيء الذي يسخن، أو يبرّد، أو يفعل غير ذلك ممّا أشبهه من الأفعال بقوّته، لا الشيء الذي يوهم في ظاهر أمره أنّه كذلك.

وأعني بقولي: إنّ الشيء بقوّته، أن يكون بفعل ذلك الفعل الذي يقال إنّه يفعله بالصحّة، والحقيقة.

وأعني بقولي، إنّ الشيء يوهم أنّه يفعل ما يقال إنّه يفعل، أن يكون في ظاهر ما يحسّ منه يرى كأنّه يفعل ذلك الفعل، وليس هو بالحقيقة على ما يظنّ به.

وقد وصفت في كتابي في قوى الأدوية المفردة كيف ينبغي أن تختبر هذه الأشياء، وتتعرّف.

وينبغي أن نستعمل في وجود الأسباب الفاعلة للصحّة بإبطال المرض الذي قد حدث، وفرغ الطريق الذي يفرّق به بين الشيء الذي يوهم أنّه على الحال التي يوصف بها، وبين الشيء الذي هو في قوّته على ما يوصف.

ونستعمل في وجود الأسباب الفاعلة للصحّة في البدن الذي مرضه في حال الحدوث مع هذا الطريق الذي قد ذكرت، الطريق الذي تستخرج به علل الأمراض.

وأنا ممثّل لك في ذلك مثالاً تفهمه.

فأنزل: أنّ الأخلاط عفنت، فتولّد منها حمّى، فأقول:

إنّه ينبغي لك أن تستدلّ من ذلك على أنّه ينبغي لك أن تحدث تغيّراً، واستفراغاً. أمّا التغيّر فأن تسكّن العفونة. وأمّا الاستفراغ فأن تستخرج الجوهر الذي كان قبل العفونة بأسره.

وهذا النوع الذي وصفت من التغيير هو النضج.

فإذا استفرغنا، وعلمنا من أيّ الأسباب يمكن أن يكون نضج، استفدنا العلم بالأسباب الفاعلة للصحّة من هذا الطريق.

وأمّا الاستفراغ فيكون بفصد العرق، والإسهال، وبالحقن، وبالبول، وبالتحليل من الجلد، وبالجذب إلى المواضع المضادّة، والنقل إلى المواضع القريبة. ويدخل في هذا الجنس إدرار الطمث، وتفتيح أفواه العروق التي في الدبر، والقبل، وتنقية المنخرين، واللهوات.

وإذا نحن استخرجنا في هذا الباب أيضاً الأصناف التي يكون بها الاستفراغ، ثمّ استعملناها في الوقت الذي ينبغي، وبالمقدار الذي يجب، وطريق الاستعمال الصواب، كنّا قد استخرجنا علل الصحّة في هذا الباب.

وقد تكلّمنا في استخراج جميع هذه الأسباب في كتاب حيلة البرء.

وعلى هذا المثال نستخرج علل الصحّة في الثلثة الأصناف الأخر من المزاج الرديء. وقصدنا فيها غرضاً واحداً عامّاً، وهو أن نحذف أوّلاً السبب الفاعل لها، ثمّ نقبل قبل المرض الذي حدث فيه.

وأمّا المزاج المركّب الرديء فتركيبه من الأشياء المفردة يدلّك على الأشياء الفاعلة للصحّة. ولكن الغرض الذي نقصد إليه في هذا الباب أيضاً أن نجعل مقدار الشيء الذي نقصد به البرء بحسب مقدار المزاج الرديء الذي نعالجه به.

مثال ذلك: أن ننزل أنّ عضواً من الأعضاء تغيّر عن مزاجه الطبيعيّ، فآل

إلى الحرارة واليبس. إلّا أنّ ميله إلى الحرارة كان عشر درجات، وإلى اليبس سبع درجات فينبغي أن يكون السبب الشافي لهذا العضو فيه من البرد عشر درجات، وفيه من الرطوبة سبع درجات.

وإن كان الدواء الذي يلقى العضو نفسه الذي فيه المرض، فينبغي أن يكون معه من البرد والرطوبة بمقدار ما دلّ عليه نفس المرض.

وإن كان العضو الذي فيه المرض بعيداً، غائراً في العمق فينبغي أن يحتال أن يكون مع السبب الشافي من فضل القوّة ما تأمن معه أن لا تضعف قوّته في الطريق قبل أن يبلغ إلى العضو الذي فيه المرض.

وكذلك إن كان العضو يحتاج أن يكون السبب الشافي له أسخن من المعتدل، فليس ينبغي أن تكون حرارته بمقدار ما يحتاج إليه المرض فقط، لكن ينبغي أن نزيد في قوّته بحسب ما يحتاج من الزيادة فيها لمكان بعد موضع العضو.

وإن احتاج العضو إلى أن يكون السبب الشافي له أبرد من المعتدل، فليس ينبغي أن تقصد إلى أن يكون أبرد بذلك المقدار فقط، لكن ينبغي أن ننظر أوّلاً في جوهره. فإن كان غليظاً، فليس يمكن أن يغوص إلى مدّة كثيرة من العمق، لكنّه كثيراً ما يفعل ضدّ ذلك بتقبيضه سطح البدن. وإن كان لطيفاً، فقد يمكن أن يغوص، ويصل من العمق إلى مدّة بعيدة.

وعلى هذا المثال قد ينبغي أن ننظر في الأشياء المرطّبة، والمجفّفة في غلظ جوهرها، ولطافته.

وعلى هذا المثال قد يستدلّ من موضع العضو على السبب الجالب لصحّته.

وأمّا من خلقته، ومشاركته لما يليه، فإذا كانت له مجارٍ محسوسة، مفتوحة إلى أعضاء أخر، أو ليست له مجارٍ بتّة. وذلك أنّه إذا كان للعضو مجارٍ تجري فيها فضوله إلى أعضاء هي أشرف منه، منعنا تلك الفضول من أن تجري إلى تلك الأعضاء.

وإذا كان للعضو مجارٍ تجري فيها فضوله إلى أعضاء أخسّ، هيّجنا تلك الفضول لأن تجري إلى تلك الأعضاء.

وبيّن أنّ المداواة بالاستفراغ إنّما هي للأسباب الفاعلة للمزاج الرديء. وأمّا المزاج الرديء نفسه فإنّما مداواته بالتغيير.

(٢٩) وأمّا الاتّصال، فإذا تفرّق، فالغرض من مداواته هو الاتّصال. وليس

يمكن أن يكون ذلك في الأعضاء الآليّة. فأمّا في الأعضاء المتشابهة الأجزاء، فليس هو ممكن دائماً، لكنّه ممكن في بعضها.

مثال ذلك: أنّ هذا إذا عرض في الأعضاء اللحميّة، كان شفاء هذا المرض الالتزاق. ولا فرق بين أن أقول: الالتزاق، والالتحام. وقبل الالتحام، إذا كانت الجراحة عظيمة، وجميع الأجزاء التي قد تفرّقت. وذلك من جنس تسوية الخلقة. وكيما تنبت تلك الأجزاء على الاجتماع. فقد يحتاج إلى الرباط الذي يجمع الأجزاء المتفرّقة، والرفائد المتضاعفة التي شكلها، ووضعها يوجب ذلك، والخياطة.

والطبيعة هي التي تلزق الأجزاء التي تفرّقت، وتردّها إلى ما كانت عليه من الاتّصال. فأمّا العمل الذي يعمله الطبيب فمنه أن يجمع، كما قلت، الأجزاء التي تفرّقت، ويضمّ بعضها إلى بعض، ومنه أن يحفظها على اجتماعها. والثالث أن يحترز ألّا يقع بين شفتي الجراحة شيء. والرابع: أن يحفظ جوهر العضو على صحّته.

وقد بيّنت كيف يفعل الفعل الأوّل، والثاني. وأمّا الفعل الثالث فإنّه يفعل إمّا في الوقت الذي تجمع فيه الأجزاء المتفرّقة، إذا لم يترك أن يقع بينهما

شيء من خارج. وذلك أنّه كثيراً ما يقع فيما بين الأجزاء المتفرّقة التي يريد أن يلحمها: الشعر، أو الدهن، أو غير ذلك من الرطوبات فتمتع تلك الأجزاء من أن تتّصل.

وأمّا فيما بعد فالتحفّظ بهذا الغرض الثالث يكون إذا احتيل للجراحة من أن يكون ما يجتمع فيها يجري من أسفل وينبغي أن يكون إمّا بالزيادة في فتح فم القرحة حتّى يتّسع، أو بأنّ للقرحة فماً آخر من أسفل، وبالشكل الموافق لذلك.

وأمّا جوهر العضو فيحفظ على صحّته بالأدوية التي تجفّف تجفيفاً معتدلاً.

فهذا هو علاج تفرّق الاتّصال إذا كان في عضو لحميّ، ثمّ كان وحده ليس معه غيره.

فإن تركّب مع مرض آخر، كانت الأعراض التي تدلّك على علاجه أكثر.

وسنذكرها فيما بعد عند ذكرنا الأمراض المركّبة.

وأمّا الآن فنقبل على سائر أصناف تفرّق الاتّصال، فنقول:

(٣٠) إنّ الكسر هو تفرّق اتّصال العظم. وهو لا يبرأ بطريق الغرض الأوّل، لكنّه يبرأ بطريق غرض ثانٍ.

والغرض الأوّل هو الالتحام، وليس يمكن أن يكون الالتحام في العظم لصلابته. والغرض الثاني هو ارتباط أجزاء العظم التي تفرّقت. وقد يمكن أن يكون ذلك الارتباط بدشبد يثبت على العظم الذي انكسر، ويستدير عليه حتّى يربطه. وتولّد ذلك الدشبد مشارك لتوليد غيره في أنّه يكون من حضور مادّة، ومن فعل الطبيعة، إلّا أنّه لمّا كان جوهره قريباً من جوهر العظم، كان تولّده من غذاء العظم.

وأمّا العظم الليّن في الصبيّ فقد يمكن أن يلتحم.

وقلّ ما يكون هذا المرض وليس معه مرض آخر غيره. وذلك أنّه إذا انكسر العظم، فالعضل الذي يليه، وسائر الأجرام التي تتّصل بالعظم تألم معه، فيصير لعلاج المرض غرضان: أحدهما: يؤخذ من العظم، والآخر يؤخذ من الأجسام التي حوله.

وسنذكر هذه الأغراض عند ذكرنا تفرّق الاتّصال المركّب الكائن في الأعضاء اللحميّة.

وأمّا الآن فينبغي أن نتكلّم في الكسر، فأقول:

إنّه لمّا كان انجبار الكسر إنّما يكون بالدشبد، ويحتاج في تولّد ذلك الدشبد إلى غذاء من غذاء العظم، فقد ينبغي أن تجد الطبيعة فضلاً من ذلك الغذاء ليتولّد منه الدشبد. وينبغي أن يكون ذلك الفضل معتدلاً في كيفيّته، وكمّيّته. ولذلك قد ينبغي أن يطعم صاحب الكسر من الأطعمة ما يجعل الدم الذي يجري إلى العظم في كمّيّته، وكيفيّته بحسب ما يصلح أن يتولّد منه الدشبد. ولأنّ ذلك الدم قد يجري في مواضع العظم المتخلخلة ينبغي أن نتفقّد كمّيّته، وكيفيّته. وعلى حسب ذلك نميل الغذاء إلى اليبس، أو إلى الرطوبة.

وسأشرح ذلك، وأبيّنه بياناً أكثر في كتاب حيلة البرء.

(٣١) وأمّا تفرّق الاتّصال الكائن في العصب والأوتار فإنّه لفضل حسّ هذه الأعضاء، ولاتّصالها بالدماغ تجلب التشنّج سريعاً، لا سيّما إذا لم تنحلّ الفضول التي فيه إلى خارج. وذلك يكون إذا انسدّ شقّ الجلد.

فلذلك ينبغي أن يفتح هذا الشقّ، وتجفّف القرحة بدواء جوهره جوهر لطيف يمكن أن يغوص، ويصل إلى العمق حتّى يصل إلى العصبة التي نالها الشقّ.

وقد وصفت ذلك وصفاً تامّاً في كتاب حيلة البرء.

فهذه صفة أسباب الصحّة إذا كان تفرّق الاتّصال مفرداً.

(٣٢) فأمّا إذا كان مركّباً، فأوّل ما يتركّب مع القرحة التجويف.

وقد يظنّ قوم أنّ ذلك ليس هو مرض آخر غير القرحة، وإنّما هو صنف من أصنافها، وليس التجويف صنفاً من أصناف القرحة، لكنّه جنس آخر من المرض يذهب فيه من جوهر العضو شيء.

ولمّا كان هذا المرض مركّباً من مرضين، احتاج إلى أن يكون مركّباً من غرضين. وذلك أنّ تفرّق الاتّصال يحتاج إلى الالتئام، وذهاب ما ذهب من جوهر العضو يحتاج إلى أن يتولّد، ويعود.

وقد وصفنا قبيل الأغراض في تولّد الجوهر، ونفس الشيء يدلّك أنّه إنّما ينبغي لك أن تقصد أوّلاً إلى هذا المرض، أعني النقصان، ثمّ تروم التئام تفرّق الاتّصال. إلّا أنّه إذا امتلأ ذلك الموضع الأجوف، وساوى سطح الجلد، عرض أن يبطل أحد الغرضين. وذلك أنّ اللحم الذي يتولّد في القرحة، إذا صار فيما بين شفتيها، فليس يمكن أن تلتئم تلك الأجزاء التي كانت متفرّقة بعضها إلى بعض.

وينبغي أن تحتال في استخراج غرض آخر للبرء. واستخراج ذلك الغرض يكون من الأمر الطبيعيّ الذي ينبغي أن يفعل في العضو. وقد كان العضو في طبعه إن كان مغطّىً بجلد، فينبغي أن يفعل ذلك فيه. فإن كان هذا الغرض لا يمكن أن يتمّ، فينبغي أن يعمل شيء شبيه بالجلد.

فينبغي أن يحتال لسطح ذلك اللحم أن يصير شبيهاً بالجلد. وإنّما يصير كذلك إذا جفّ، وصلب. ولذلك تحتاج القروح التي قد امتلأت لحماً حتّى تندمل إلى أدوية تجفّف، وتقبّض من غير تلذيع.

وكذلك أيضاً إن تولّد في القرحة وسخ، فينبغي أن يكون غرضك جلاء ذلك الوسخ. والدواء الجالب للصحّة حينئذٍ هو الدواء الجلّاء.

وقد ذكرت الأدوية التي تجلو في الكتب التي وصفت فيها أمر الأدوية.

وكذلك أيضاً إن كان مع القرحة ورم حارّ، أو صلب، أو رخو، أو شدخ، فينبغي أن تقصد أوّلاً لعلاج هذه الأمراض بالطرق التي سنصفها.

وكذلك أيضاً إن كانت تتحلّب إلى القرحة رطوبة، فينبغي أن تعالج ذلك بما يصلح لحسم ما يجري، ويتحلّب.

وكذلك أيضاً إن كان مزاج العضو الذي فيه القرحة قد فسد، فينبغي أن نقبل أوّلاً قبل الأدوية التي تصلح فساد مزاجه.

وقد نكتفي في هذا الباب بما وصفنا.

(٣٣) وقد ينبغي أن نقبل على جنس آخر من المرض، وهو المرض الذي في الخلقة.

وهذا الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة، إلّا أنّه ينبغي أن نبتدئ بأبينها، وذلك هو تغيّر الشكل، فأقول:

إنّه ما دام البدن في النشوء، فقد يمكن أن يصلح شكل أكثر أعضائه. فإذا استكمل البدن نشوءه، لم يمكن أن يصلح شكل أعضائه. وينبغي أن يكون غرضك في الأعضاء التي يمكن إصلاحها أن تردّها من الجهة التي اعوجّت إليها إلى خلافها. ومتى كان فساد الشكل في اليدين، والرجلين من قبل كسر لم يسوّ، أو يجبر على ما ينبغي، ثمّ كان العظم الذي انكسر قد انجبر انجباراً مستحكماً، فينبغي أن تدعه، ولا تعرض له. وإن كان انجباره لم يستحكم، ويشتدّ، فينبغي

أن تكسره من الرأس، ثمّ تسوّيه، ثمّ تحتال أن تنبت فيه الدشبد، وينجبر به.

والسدّة أيضاً من هذا الجنس من المرض. ومتى كانت السدّة من فضل لزج، غليظ، فالغرض في مداواتها غرض واحد، مضادّ لنفس المرض، وهو التفتيح. والأسباب الجالبة للصحّة فيه هي الأدوية التي تقطع، وتجلو.

وإن كانت السدّة من زبل صلب قد لحج، وارتبك في موضع من الأمعاء، الغرض الأوّل في مداواتها تليين صلابة ذلك الزبل بالحقن الرطبة، الدسمة. والغرض الثاني: استفراغه بالحقن الحادّة.

وإن كانت السدّة من قبل حجر في المثانة، فالغرض في علاجها في العاجل إزالة الحجر عن المجرى الذي قد سدّه. وأمّا البرء التامّ فيكون بالشقّ، وإخراج الحصى.

ومتى اجتمعت رطوبة في موضع من الأعضاء، ثمّ كانت تلك الرطوبة خارجة من الطبع، فعلاجها هو استخراجها بأسرها، مثل المدّة التي تحتقن في الصدر.

وأمّا الامتلاء المفرط قد واؤه الاستفراغ المعتدل. مثل الدم الكثير المجتمع في العروق.

وكذلك أيضاً متى اجتمع في المعدة، أو في الأمعاء، أو قصبة الرئة، أو في الرئة مدّة، أو دم، فإنّ ذلك يحتاج إلى استفراغه بأسره.

ومتى كان في المعدة فضل من طعام، أو من شراب لم يبعد عهده، قد واؤه أن يستفرغ بعضه بالقيء.

وإذا كان الفضل في الرئة، أو في الصدر، فاستفراغه يكون بالسعال بالأدوية الملطّفة.

وإذا كان الفضل في الكبد، أو في العروق، أو في الكلى، فاستفراغه

يكون إمّا بالبول، وإمّا بالإسهال. واستفراغه بالبول يكون بالأدوية التي تلطّف تلطيفاً قويّاً. واستفراغه بالإسهال يكون بالأدوية التي تجذب، وتفتح.

وإذا كان الفضل في المعدة، فاستفراغه يكون بالقيء، وإذا كان في الأمعاء، فاستفراغه يكون بالإسهال.

وإذا كان الفضل تحت الجلد، فاستفراغه يكون بالبطّ، أو بالكيّ، أو بالأدوية المحرقة. وربّما استفرغ أيضاً الفضل الذي في التجويف الطبيعيّ بهذا الطريق، كالذي قد نفعل إذا اجتمع في الصدر مدّة.

وبالجملة: أنّه متى كان في عضو من الأعضاء شيء محتبس، وكان جنس ذلك الشيء خارجاً من الطبيعيّة، فالغرض في البرء منه إخراجه. فإن لم يمكن أن يتمّ هذا الغرض، فالغرض الثاني في البرء منه هو نقله.

ومتى كان الشيء المحصور في العضو ليس جنسه خارجاً من الطبيعة، لكن مقداره، فالغرض في مداواته استفراغ بعضه.

واستخراج أسباب البرء يكون بعضه من نفس المرض: وأكثره من العضو الذي فيه المرض.

وأيّ عضو من الأعضاء خرج عن طبعه بأن خشن؛ فينبغي أن تحتال في ردّ ملاسته الطبيعيّة عليه. وذلك يكون أمّا في العظم فبالخلّ، وأمّا في قصبة الرئة واللسان، فبالرطوبة اللزجة التي ليس لها تلذيع.

وأيّ عضو من الأعضاء خرج عن طبعه بأن صار أملس، فينبغي أن تحتال في ردّ خشونته الطبيعيّة عليه. وذلك يكون في بعض الأعضاء بالأدوية التي تجلو جلاء قويّاً. وفي بعضها بالحكّ اليسير.

ومتى كانت السدّة، أو الضيق تابعة لأمراض أخر، فينبغي أن يقصد أوّلاً قصد مداواة تلك الأمراض.

(٣٤) وقد بيّنّا في المقالة التي وصفنا فيها أصناف الأمراض أنّ السدّة والضيق كثيراً ما يتبعان الأورام الحارّة، والصلبة، والرخوة، واليبس الفرد، والأشكال الرديئة التي تحدث للأعضاء التي تجري تلك المجاري التي تنسدّ، وتضيق، فيها.

وإذا تركّبت هذه الأشياء بعضها مع بعض، كانت أنحاء الاستدلال على ما يداوى به كثيرة، مختلفة.

وقد أكتفي بأن أذكر شيئاً واحداً أجعله مثالاً يستدلّ به على ما سواء. وسأتكلّم في جميع ذلك كلاماً أوسع من هذا في كتاب حيلة البرء.

فأنزل أنّه تحلّب إلى عضو من الأعضاء دم كثير حتّى تتمدّد العروق التي فيه. ويعرض ذلك التمدّد في العروق الكبار، وفي العروق الصغار التي كانت أوّلاً تخفى من الحسّ، ثمّ صارت الآن تظهر لامتلائها، كما قد ترى تلك العروق تظهر في العين كثيراً لبياض غشائها. ولعلّ عروقاً أخر أيضاً أدقّ من تلك العروق التي تظهر تتمدّد بسبب امتلائها، ولا تظهر لدقّتها.

وإذا كانت ذلك، فيكاد أن يرشح من العروق شيء فينصبّ في المواضع الفارغة التي فيما بين أجزاء العضو، أو يكون قد جرى إليها شيء يسير، وفرغ، فأقول:

إنّ علاج هذا المرض إنّما غرضه الاستفراغ. والأجود، والأبين أن أقول استفراغ بعض ما في العضو، لأنّ هذا المرض إنّما حدث من قبل أنّ العضو امتلأ امتلاء مفرطاً. واستفراغ ذلك الفضل من الدم يكون ضرورة إمّا بأن يرجع إلى ورائه، وإمّا بأن يجري من العضو الذي فيه العلّة. ورجوعه يكون إمّا بأن يدفع، وإمّا بأن يجذب بشيء، وإمّا أن يشدّ بشيئين من هذه التي وصفت، وإمّا بجميعها.

واستفراغه من العضو الذي فيه العلّة: منه ما يكون بطريق ظاهر محسوس، ومنه ما يكون بأن يلطف حتّى يصير بخاراً. إلّا أنّه متى كان في البدن كلّه امتلاء، فليس ينبغي أن يستفرغ الفضل من العضو الذي فيه العلّة. وذلك إن رمت أن تبطّه حتّى تستخرج الفضل منه، وتستفرغه استفراغاً ظاهراً للحسّ، حدث فيه من قبل ذلك وجع، فاجتذبت بسبب الوجع إليه مادّة أكثر. وإن رمت تحليل ذلك الفضل بالأدوية المسخنة، اجتذبت إليه بحرارة تلك الأدوية أكثر ممّا تحلّل منه. وإن رمت أيضاً أن تضطرّ ذلك الشيء الذي يجري إلى العضو أن

يرجع، لم يقبله البدن لامتلائه. فلهذين الأمرين جميعاً قد ينبغي أن يستفرغ البدن كلّه، ثمّ يجتذب ما يجري منه إلى العضو. فإن لم يستفرغ البدن كلّه، اجتذبت ما يجري إلى العضو في مواضع أخر، مضادّة له. فإذا فعلت ذلك، فرم أوّلاً أن تدفع من ذلك العضو الفضل المحتبس فيه. ثمّ رم بعد تحليله. فإنّ استفراغه حينئذٍ يؤاتيك بسهولة، لأنّه يكون حينئذٍ بمجار أوسع.

ودفعك عن العضو العليل ما يجري إليه يكون بأن تقضّيه، وتردّه.

والعروق أيضاً التي تستفرغ تحيّز إليها ذلك الشيء الذي قد دفعته عن العضو العليل.

وقد بيّنّا أيضاً في كتاب القوى الطبيعيّة.

والعروق أيضاً التي في العضو العليل إذا قريتها بالأدوية القابضة، سيّرت ذلك الفضل من العضو العليل إلى ما وراءه.

فإذا أنت فعلت ذلك، فإن رجع إلى البدن جميع ما سال منه إلى ذلك العضو العليل، فيها ونعمة.

وإن حصل في العضو شيء منه، فينبغي أن تعلم أنّ ذلك الشيء الذي حصل فيه لزج، غليظ، ولذلك لحج، وارتبك، وبقي في العضو، وعسر انحلاله.

وقد يمكن أن لا يكون كذلك، ويكون السبب في ارتباكه، وبقائه في العضو أنّه خرج من العضو، فصار فيما بين الأعضاء المتشابهة الأجزاء. وذلك وقت ينبغي لك فيه أن تستفرغه من نفس العضو العليل، بعد أن تضع على ما فوق ذلك العضو أدوية تدفع ما يجري إليه.

والاستفراغ يكون بالبطّ، وبالأدوية المحلّلة، ولا سيّما إن توهّمت أنّ في المواضع التي فيما بين الأعضاء المتشابهة الأجزاء شيئاً محتبساً.

والأدوية المحلّلة كلّها مزاجها حارّ. ومن فعل هذا المزاج التلذيع، إذا كان مفرط الحرارة. فقد ينبغي أن تحذر في هذا الموضع استعمال الأدوية التي لها حرارة قويّة، لا سيّما إن كان العضو العليل بارزاً، ظاهراً، فإنّك إذا استعملت

أشباه هذه من الأدوية، حتّى يجمع عليه مع علّته التلذيع، عرض فيه من الوجع أمر ليس باليسير.

وكلّ وجع فهو يهيّج، ويجلب المادّة.

فالدواء إذا الذي معه حرارة معتدلة هو الذي لا يحدث في مثل هذه الأعضاء وجعاً، ولا سيّما إن كان مع ذلك رطباً.

وقد يكتفي بالدواء المحلّل، وإن لم يكن بالقويّ، في تحليل الأعضاء البارزة، الموضوعة في ظاهر البدن.

فإن كانت المواضع الخارجة لا علّة بها، والعضو الذي يحتاج إلى الاستفراغ في العمق غائراً، فينبغي أن يقوى الدواء المحلّل، ويزاد في حرارته، لأنّه لا يؤمن أن يضعف، وتبطل قوّته قبل أن يبلغ، ويصل إلى عمق البدن.

وليس يخاف على المواضع الخارجة التي يلقاها أذىً لأنّه لا علّة بها.

فقد وافق الأمر من الوجهين جميعاً في استعمال الأدوية التي هي أسخن، وأحرّ، من قيل أنّ الأعضاء الظاهرة تحتملها، والأعضاء الباطنة تحتاج إليها. وهذا الاستدلال أخذناه من موضع العضو.

وينبغي أن ننظر هل بقي شيء ممّا يحتاج إليه في العلاج.

وأرى أنّه قد بقيت أشياء ليست باليسيرة. وذلك أنّ الأعضاء العليلة التي فيها الفضل الذي سال إليها، منها ما هي سخينة في طبعها، رخوة، ليّنة، ومنها كثيفة، ملزّزة، صلبة.

وما كان من الأعضاء على الصفة الأولى فهو يستفرغ سريعاً. وما كان منها على الصفة الثانية فإنّه يحتاج كما يستفرغ إلى أدوية هي أحدّ من تلك، ويحتاج أن تكون تلك الأدوية ألطف. فإن كانت مع ذلك تلك الأجزاء غائرة جدّاً، موضوعة على العمق، فهي إلى ذلك أحوج كثيراً.

فاحفظ هذا النوع الآخر من الاستدلال على العلاج المأخوذ من جوهر العضو العليل.

وقد يؤخذ استدلال آخر على العلاج من خلقة العضو، ومشاركته لغيره.

فأنزل في هذا المثل: أنّ المرض الذي ذكرنا قبل حدث في الكبد، وأنّه قد لحجت في الأطراف الضيّقة من العروق التي فيها رطوبات لزجة، أو غليظة، أو كثيرة، أقول:

إنّه إذا كان ذلك، سهل أن تستعمل الأطعمة، والأشربة الملطّفة، فيلطّف أوّلاً بها الغلط، واللزوجة، ثمّ يستفرغ الشيء المؤذي، لا بالطرق الضيّقة التي لا ترى فقط كما تستفرغ سائر الأعضاء، لكن بطرق واسعة. وذلك أنّ العروق التي في الكبد من أوسع العروق، وأكثرها عدداً. وما كان من تلك العروق في حدبة الكبد فهو ينتهي إلى العرق الكبير، المسمّى العميق. وما كان من تلك العروق في جانب الكبد المقعّر فهو ينتهي إلى العرق المسمّى الباب. ولذلك قد يسهل، متى حدث اللحج في عروق الكبد، في أيّ الجانبين كان اللحج، أن يستفرغ الفضل الفاعل له بأيسر السعي، وأهونه.

فإذا كانت الرطوبة قد لحجت في العروق التي في جانب الكبد المقعّر، اجتذبتها إلى البطن بالأدوية الجاذبة.

وإذا كانت قد لحجت في العروق التي في حدبة الكبد، استفرغتها بالبول، وبالعرق العميق.

وقد يوجد مع ما وصفنا استدلال آخر على العلاج من الكبد، من قبل أنّها أصل العروق.

وذلك أنّه لمّا كان تدبيرها ليس هو لنفسها فقط، كجلّ الأعضاء، لكنّه قد تنبعث منها قوّة إلى العروق، لم يؤمن إن أرخينا قوّتها بإنقاعها بالأذهان، واستعمال الأضمدة المرخية، المحلّلة، أن تضعف هي أوّلاً في فعلها، ثمّ تضعف بضعفها جميع العروق.

ولذلك قد ينبغي أن يخلط فيما يوضع على الكبد بعض الأدوية القابضة.

ولمّا كان موضع الكبد موضعاً بعيد الغور، لم يؤمن أن تضعف قوّة الدواء القابض، وتبطل قبل أن تصل إليها، إن لم يكن معه جوهر آخر لطيف يوصله، مثل طبيعة الأشياء العطريّة. والأجود أن يكون الدواء قد جمع أن

يكون قابضاً، ويكون عطراً، فإنّه إذا جمع هاتين القوّتين، كان فعله أقوى.

فأنزل: أنّك قد استفرغت الشيء الذي كان محتبساً في هذا العضو على خلاف الأمر الطبيعيّ، ورجع من اعتدال الكيموسات إلى الأمر الطبيعيّ، فقد ينبغي عند ذلك أن تتفقّد، وتنظر أن لا يكون مزاج الكبد تغيّر من كيفيّة تلك الرطوبة التي كانت محتبسة فيها، فبردت الكبد منها إن كانت بلغميّة، أو سخنت منها إن كانت من جنس المرار، حتّى تصلح مزاجها أيضاً إن كان فسد، فتردّها إلى الصحّة ردّاً تامّاً. وإصلاح مزاجها يكون بأن تدخل عليه كيفيّة مضادّة له، كما قد قلنا في علاج المزاج الرديء.

وينبغي إن كانت سخنت أن يكون مقدار تدبيرنا لها بمقدار ما سخنت، أعني بمقدار ما زادت سخونتها على المزاج المعتدل.

فيجب إذاً في هذا أيضاً أن تكون عالماً بالاعتدال الطبيعيّ لهذا العضو. وذلك أنّك إن لم تعلم مقدار حرارة الكبد الطبيعيّة، لم تعلم بكم هي الآن أسخن من مزاجها الطبيعيّ. ولا متى ينبغي أن تقف، وتمسك من تدبيرها.

وكذلك أيضاً إن برد عضو من الأعضاء، فقصدت لأن تسخنه، ثمّ لم تعلم كم مقدار برده الطبيعيّ، لم تصل إلى معرفة الدواء الذي ينبغي أن تسخنه به

خاصّة، ولا قدرت أن تعلم متى ينبغي لك أن تمسك، وتكفّ عن إسخانه.

(٣٥) وإذ قد تكلّمنا في هذا بما فيه كفاية، فينبغي أن نقبل على الأعضاء التي هي في العدد خارجة عن مجرى الطبع. وذلك يكون على صنفين: أحدهما: النقصان، والآخر: الزيادة. فإذا كان عضو من الأعضاء قد نقص، فالغرض في علاجه أن تردّ ذلك الشيء الذي قد نقص. وذلك يكون بأن تخدم الطبيعة، وتعينها على عمله على الوجه الذي وصفته قبيل.

وإذا زاد شيء في عضو من الأعضاء، فالغرض في علاجه قطعه إمّا بحديدة، وإمّا بنار، وإمّا بدواء محرق.

ويكاد كلّ عضو تحدث فيه الزيادة أن يمكن فيه البرء. وليس كلّ عضو ينقص، يمكن أن يتولّد فيه ما نقص منه، ما بيّنت في كتاب المنيّ.

ومن الأعضاء أعضاء، وإن كان لا يمكن أن تتولّد هي بأعيانها، فقد يمكن أن يتولّد فيها غيرها ممّا يقوم مقامها. من ذلك أنّه إذا سقط من عضو من الأعضاء عظم بأسره، أمكن أن يتولّد مكانه جوهر آخر غير العظم، وغير اللحم. فإنّ الجوهر الذي يتولّد في موضع العظم كأنّه لحم دشبديّ، أو دشبد لحميّ. وكلّما تمادى به الزمان، كان إلى الدشبد أميل. وقد كان في ابتداء أمره إلى اللحم أميل.

وإذا فقد عضو من الأعضاء، ولم يمكن أن يتولّد حتّى يعود هو بعينه، لا شيء شبيه به يقوم مقامه، فالغرض الثالث: أن يحتال للعضو بتحسين ما، مثل ما يفعل في الأعضاء التي تقصر.

وهذا الجنس من المرض الذي يكون في العدد مشارك للجنس الذي يكون في العظم. وذلك لأنّ الصنف منه الذي يكون في عدد الأشياء الطبيعيّة قريب من الجنس الذي يكون في العظم، وإنّما يخالفه في نوعه الآخر الذي يكون في عدد الأشياء التي هي في جنسها خارجة عن الطبيعة.

والغرض الأوّل في علاج هذا الصنف هو إخراج ذلك الشيء المتولّد على خلاف مجرى الطبيعة، وحذفه عن العضو الذي تولّد فيه.

فإن رأيت أنّ هذا الغرض لا يمكن أن يتمّ، فالغرض الثاني في علاجه: أن ينقله، مثل ما يفعل في الماء الذي يتولّد في العين.

فإذا كان النقصان ليس هو نقصان عضو بأسره، لكن نقصان جزء من العضو، وكانت الزيادة أيضاً على هذا المثال، فالغرض في علاج ما نقص إمّا تغذية العضو، وإمّا تولّد ما نقص منه. والغرض في علاج ما زاد قطع الشيء

الزائد، أو تضميره وتذويبه. ولذلك ليس الغرض في علاج هذه الأشياء غير الغرض في علاج ما وصفنا قبلها. ولأنّ طبيعة الأدوية التي تصلح لها في هذا الجنس غير طبيعة الأدوية التي تصلح لتلك.

وقد ينبغي لنا أن نقبل على جنس آخر من أسباب الصحّة قد بقي علينا ذكره، وهو الجنس الذي يصلح الآفات الحادثة في وضع الأعضاء، مثل الخلع، والمعى الذي ينحدر فيقع في كيس الأنثيين.

والخلع يكون إمّا من تمديد، وإمّا من دفع عنيف.

وانحدار المعى إلى كيس الأنثيين يكون إمّا من فتق يحدث في الغشاء الذي يحوي الأمعاء، وإمّا من اتّساع المجرى الذي ينحدر من ذلك الغشاء إلى كيس الأنثيين.

ولذلك صار إصلاح الخلع يكون بالتمديد، والدفع إلى خلاف تلك الجهة التي زال إليها المفصل.

وإصلاح انحدار المعى إلى كيس الأنثيين بأن تحتال في تضييق ما اتّسع من ذلك الغشاء الذي يحويه.

وقد بيّنت في كتاب حيلة البرء الطرق التي ينبغي أن تسلك في استخراج الأشياء الجزئيّة التي ينبغي أن تعالج بها هذه الأشياء.

(٣٦) وقد بقي علينا أن نصف الأسباب التي أخّرنا ذكرها فيما مضى من كلامنا، وهي الأسباب التي تتقدّم فتحوط البدن.

وأجناس هذه الأسباب ثلثة: الجنس الأوّل: هو جنس الأسباب التي تتقدّم فتحوط البدن الصحيح، السليم، والجنس الثاني: جنس الأسباب التي تتقدّم فتحوط البدن الصحيح الذي ليس بسليم، ولكن قد ينكر منه شيء،

والجنس الثالث: هو جنس الأسباب التي تتقدّم فتحوط البدن المريض.

وعلم الجنس الأوّل من علم حفظ الصحّة. وهذا الجنس، كما قلنا قبل، هو ضربان.

وعلم الجنس الثاني هو علم التقدّم في الحياطة.

وعلم الجنس الثالث من علم حيلة البرء.

وهذا الجنس كلّه من الأسباب إنّما قوامه، خاصّة من الكيموسات.

وليس ينبغي أن تكون الكيموسات لا لزجة، ولا غليظة، ولا رقيقة مائيّة، ولا كثيرة، ولا قليلة، ولا أسخن ممّا ينبغي، ولا أبرد، ولا لذّاعة، ولا عفنة،

ولا لها كيفيّة رديئة، سمّيّة.

فإنّ هذه الكيموسات إذا تزايدت في هذه الأحوال صارت أسباباً للأمراض، وربّما كان تزيّدها من ذلك السبب الذي كان أصل تولّدها منه، وربّما كان من قبل قتلها للأخلاط التي في البدن، وإحالتها لها إلى مثل ما هي عليه.

ولمداواتها غرضان: أحدهما: الإحالة، والآخر: الاستفراغ.

واستحالة الكيموسات تكون إمّا من نفس البدن إذا أنضجها، وإمّا من قوى بعض الأدوية. وفي هذا الجنس من الأدوية يدخل ما يسقى من سموم ذوات السموم، ومن الأدوية التي هي من جنس السموم.

واستفراغ الكيموسات يكون بالأدوية التي تسخن إسخاناً قويّاً، وبالإسهال، وبالحقن، وبالعرق، وبالقيء.

وهذه هي أصناف الاستفراغات العامّيّة.

وأمّا الخاصّيّة: فتؤخذ من المواضع التي تجتمع فيها تلك الكيموسات، كما بيّنت في كتاب تدبير الأصحّاء، وخاصّة في المقالة الثالثة والرابعة من ذلك الكتاب عند وصفنا الإعياء، وسائر العلل الشبيهة بالإعياء.

واستفراغ الكيموسات يكون أسهل إذا استفرغ ما كان منها في العروق الأول بالإسهال، واستفراغ ما كان منها فيما بعد عن الكبد من العروق بالبول، واستفراغ ما كان منها في البدن كلّه بالعرق، وما كان منها في الرأس باللهوات، أو المنخرين، أو بهما جميعاً، وما كان في الصدر، وقصبة الرئة بالسعال، وما كان في الكلى، أو في المثانة بالبول.

وأمّا الاستفراغ الذي يكون بطريق الجذب فهو استدلال عامّ لجميع الأعضاء أن يكون من أبعد المواضع من ذلك الموضع الذي يقصد إلى الجذب منه.

وأمّا الاستفراغ الذي بطريق استخراج ما يحصل في العضو فيكون من المواضع القريبة.

وجميع الأشياء التي تشفي هذه الحالات تسمّى أسباب الصحّة. وجميع الأشياء التي تهيّج هذه الحالات، وتزيد فيها تسمّى أسباب المرض. فأمّا الأشياء التي لا تضرّ فيها ولا تنفع، فتسمّى أسباباً لا للصحّة، ولا للمرض.

وقد يمكن أن لا تسمّى أسباباً بتّة. كما قد يفعل كثير من السوفسطائيّين ممّن يغفل النظر في وجود اختلاف أعيان الأشياء، ويفني أكثر عمره في الأسماء.

وقد تكلّمت في غير هذا الكتاب كلاماً أشرح من هذا في فسخ دعواهم.

وقد فرغت في صفة الصنف من الطبّ المعروف بالتقدّم في الحياطة.

(٣٧) ومن الطبّ صنف آخر يسمّى التقوية، والتغذية ونستعمله فيمن قد برأ من المرض، وفي الشيخ.

وقد بيّنت في كتاب حيلة البرء بياناً تامّاً حال أبدان هؤلاء، ومن أيّ الأسباب يرجعون إلى الحال الطبيعيّة.

وأنا واصف ذلك باختصار في هذا الموضع، فأقول:

إنّ حال أبدان هؤلاء أنّ الدم الذي في أبدانهم دم جيّد، إلّا أنّ مقداره يسير. وكذلك أيضاً حال الروح الحيوانيّ، والنفسانيّ. وأمّا أعضاؤهم الثابتة فيابسة، ولذلك قواهم ضعيفة. ولضعف هذه القوى فإنّ البدن كلّه يكون أبرد.

فأمّا الأسباب التي تصلح هذه الحال، وتجلب لصاحبها الصحّة، فإن أحببت أن أجملها لك فهي: كلّ ما أعان على أن ينال البدن غذاء سريعاً، حريزاً.

وإن أحببت أن أفصّلها لك فهي الحركة المعتدلة، والطعام والشراب المعتدلان، والنوم المعتدل.

وأصناف الحركة: هي الركوب، والمشي، والدلك، والاستحمام.

فإن صلحوا صلاحاً كثيراً بعد استعمال هذه الأشياء، فينبغي أن يلتمسوا التصرّف في يسير ممّا كانت عادتهم التصرّف فيه من الأعمال.

وأمّا الأطعمة: فينبغي أن تكون أوّلاً من الأشياء الرطبة، السريعة الانهضام التي ليست بباردة. فإذا تمادى بهم الزمان، فينبغي أن يكون ممّا غذاؤه أكثر.

وأمّا الأشربة: فأصلحها لهم الشراب المعتدل بين العتيق، والحديث. وإذا نظرت إليه رأيته صافياً، نيّراً. ولونه إمّا أبيض، وإمّا مائل إلى الحمرة. وإذا شممته، وجدته طيّب الرائحة باعتدال. وإذا تطعّمته، وجدته لا ميّت الطعم، ولا قويّة جدّاً، حتّى يكون قد غلبت عليه العفوصة، أو الحرافة، أو المرارة، أو الحلاوة.

وقد وصفت جميع هذه الأشياء، كما قلت قبل، وصفاً أشرح من هذا في كتاب حيلة البرء.

وليس غرضي في هذا الكتاب أن أصف جميع الأشياء الجزئيّة، لكنّي إنّما قصدت في هذا الكتاب إلى أن أذكر جمل ما قد شرحته، وبيّنته في سائر كتبي.

وأنا ذاكر تلك الكتب، ومصنّف واحداً واحداً منها، ثمّ أقطع — بعد وصفي ذلك — كتابي هذا.

وقد قلت قبل إنّي كتبت مقالة وصفت فيها كيف قام الطبّ.

ويتقدّم هذه المقالة مقالتان وصفت فيهما كيف كان قوام جميع الصناعات.

إلّا أنّ هذه المقالات مع هذه المقالة التي هي انقضاؤها غير الكتب التي وضعتها على الشرح، والاتّساع في الكلام.

وأمّا تلك الكتب فهذه مراتبها ونظامها:

وأوّلها كتاب وصفت فيه أمر الأسطقسّات على رأي أبقراط.

وبعده ثلث مقالات وصفت فيها أمر المزاج. ووصفت في الاثنتين الأوليين منها أمر مزاج الحيوان، ووصفت في الثالثة أمر مزاج الأدوية. وذلك صار لا يمكن أحد أن يفهم كتابي في قوى الأدوية المفردة على ما ينبغي إن لم يتقدّم فيقرأ المقالة الثالثة من كتابي في المزاج، ويستقصي فهمها.

وقد جعلت مقالة أخرى صغيرة تتّصل بالمقالتين الأوليين من كتابي في المزاج، وعنوانها: في المزاج الرديء المختلف.

ومثله مقالتان أخريان، أحداهما عنوانها: أفضل هيئات البدن، والأخرى عنوانها: في خصب البدن.

وبعد كتاب المزاج كتاب آخر فيه ثلث مقالات وصفت فيها أمر القوى الطبيعيّة.

وقد يمكن أن تقرأ هذا الكتاب من بعد قراءتك المقالتين الأوليين في المزاج، ومن بعد قراءتك المقالة التي وصفت فيها أمر الأسطقسّات، فتكون قراءتك على نظام متّصل.

ولي من بعد هذا الكتاب كتب كثيرة وصفت فيها أمر الأفعال النفسانيّة.

إلّا أنّه لمّا كان ممّا ينتفع به في البراهين عليها أمر ممّا يظهر في التشريح

ليس باليسير، وجب أن يقدم الارتياض في كتب التشريح.

وأبلغ الكتب التي وصفت فيها التشريح: كتاب علاج التشريح.

وبعده كتب أخر كثيرة، منها مقالتان وصفت فيهما أمر ما وقع في التشريح من الاختلاف.

ومنها مقالة وصفت فيها أمر تشريح الحيوان الميّت، ويتّصل بها مقالتان وصفت فيها أمر تشريح الحيوان الحيّ.

ومنها مقالات أخر جعلتها للمتعلّمين في تشريح العظام، والعضل، والعصب، والعروق غير الضوارب والضوارب. ومقالات أخر شبيهة بهذه.

وممّا يدخل في طبقة هذه المقالة مقالة بيّنّا فيها أنّ الدم محتبس في العروق الضوارب بالطبع.

وأمّا الأفعال، فوصفنا أمرها في مقالتين، وصفنا فيهما حركة العضل، وفي ثلث مقالات وصفنا حركة الصدر، والرئة. ويتبع هذه كتاب في علل التنفّس.

وبعد هذه مقالات في الصوت.

وأمّا أمر القوّة التي تسمّى المدبّرة من قوى النفس، وسائر ما يحتاج إليه البحث عنه من أمر الأفعال الطبيعيّة، والنفسانيّة، فبيّنّاه في كتاب فيه مقالات كثيرة جعلها عنوانها: في آراء أبقراط وفلاطن.

ويدخل في هذا الجنس من العلم مقالتان جعلناهما في المنيّ، وكتاب في

تشريح أبقراط. ثمّ من بعده الكتب كلّها تتبع كتاب منافع الأعضاء.

وأمّا الكتب التي ينتفع بها في تعرّف الأمراض، فمنها كتاب في تعرّف علل الأمراض الباطنة، ومنها كتاب في النبض وصفنا فيه تقدمة المعرفة التي تكون من النبض.

ويتقدّم كتاب النبض مقالتان: إحداهما في الحاجة إلى التنفّس، والأخرى في الحاجة إلى النبض.

وأمّا كتابنا في النبض فينقسم إلى أربعة أقسام، وصفنا في القسم الأوّل منه أصناف النبض، ووصفنا في الثاني كيف تعرف تلك الأصناف، ووصفنا في

القسم الثالث الأسباب الفاعلة لتلك الأصناف. ووصفنا في القسم الرابع تقدمة المعرفة التي تكون من تلك الأصناف.

ويدخل في هذا الجنس مقالة جعلناها للمتعلّمين في النبض.

وإنّي لأهمّ بأن أجعل مقالة أخرى أجمل فيها جميع ما قلته في هذه المقالات التي في النبض، ولعلّي أن أجعل عنوان تلك المقالة إمّا صناعة النبض، وإمّا جمل أمر النبض.

وممّا ينتفع به في هذا العلم مقالات فسّرت فيها ما قال أرشيجانس في النبض، وامتحنته، فبيّنت صوابه من خطائه.

وأمّا الكتب التي ينتفع بها في تقدمة المعرفة فأبلغها كتاب البحران، ويتقدّمه كتاب في أيّام البحران، والكتاب أيضاً الذي جعلته في رداءة النفس. وقد ينتفع به في تعرّف الشيء الحاضر، وفي تقدمة معرفة الشيء الكائن من خير، أو شرّ يحدث للمريض.

فجميع هذه الكتب ومقالات أخر معها مفردة تحتاج إلى أن تقرأ، وتتدبّر.

منها مقالة وصفت فيها أمر العلل البادئة. ومنها مقالة في التجربة الطبّيّة. ومنها مقالة في التدبير الملطّف. ومنها مقالة في فصد العروق عاندت فيها

أرسسطراطس. ومنها مقالة في الأورام. ومنها مقالة في كثرة الأخلاط. وغير ذلك ممّا أشبهه. وممّا لا بدّ منه في فهم كتاب حيلة البرء. ومقالة وصفنا فيها الأمراض، ومقالة صنّفنا فيها الأعراض، ومقالة أخرى ثالثة وصفنا

فيها علل الأعراض. وثلث مقالات بعد ذلك وصفنا فيها علل الأعراض. وإحدى عشرة مقالة وصفنا فيها أمر قوى الأدوية المفردة — وقد ذكرناها قبل — وسبع عشرة مقالة وصفنا فيها أمر تركيب الأدوية.

ويتلو هذه الكتب كتاب حيلة البرء، وكتاب تدبير الأصحّاء.

وقد بيّنت في مقالة وصفت فيها أفضل الحيل.

إلّا أنّه ينبغي قبل هذه الكتب كلّها أن يرتاض في كتابي الذي وضعته في البرهان من أراد أن يستعمل هذه الصناعة بطريق القياس.

وأمّا سائر الكتب والتفاسير التي وضعتها فليس يضطرّني شيء إلى ذكرها في هذا الموضع، لأنّ من رأيي أن أحصيها كلّها في مقالة واحدة، أو في مقالتين، وأجعل عنوان الكتاب: جالينوس، في ذكر كتبه.