Galen: De consuetudinibus (On Habits)

Work

Galen, De consuetudinibus (Πρὸς Φαβωρῖνον)
English: On Habits

Text information

Type: Translation (Arabic)
Translator: Ḥubayš ibn al-Ḥasan
Translated from: Syriac
Date: between 850 and 890

Source

Felix Klein-Franke. "The Arabic Version of Galen's Περὶ ἐθῶν". Jerusalem Studies in Arabic and Islam 1 (1979), 125-150

هذه مقالة جالينوس في العادات

(١) قال جالينوس: إنّ حذّاق الاطبّاء وجميع الناس كافّة يرون أنّ أحد الأغراض التي يقصد نحوها في التماس الصحّة الغرض المأخوذ من العادة وإن كان قوم ممّن شأنهم إفساد الأمور الجميلة يرومون أن يطرحوه ويرذلوه وإذا هم سألونا عن السبب الذي من أجله إذا أكل إنسان لحم بقر فضرّه متى اتّفق ذلك في أوّل أمره يأكله ثمّ اضطرّه الأمر إلى أن يأكله في كلّ يوم من السنة أجمع إمّا لم يضرّه بتّة وإمّا كان ما يناله من مضرّته أقلّ ممّا ينال من لم يعتد أكله فأجبناهم في ذلك وردّوا علينا بعض كلّ جواب فأتيناهم به بالقول ظنّوا أنّهم مع نقضهم لجوابنا بالقول قد أبطلوا نفس وجود الأمر بمنزلة ما لو أنّ رجلًا نقض كلّ رأي اعتقده الناس في البصر كيف يكون فقال إنّ الناس لا يبصروا أصلًا

والأمر في أنّ الغرض المأخوذ من العادة عظيم النفع في استخراج الأشياء التي بها تكون المداواة أمر ظاهر ومن أجل ذلك قد نجد أبقراط يقول في كتاب الفصول: «إنّ من اعتاد الصبر على التعب في الأشياء التي قد ألفها وإن كان ضعيفاً أو شيخاً فالأمر عليه في احتمالها أسهل وأضف منها على القويّ والشابّ الذي لم يعتدها» وذكر أيضاً بكلام طويل في كتاب تدبير الأمراض الحادّة المضادّ العارضة من الأغذية التي لم يعتدها أكلها والمنافع المكتبسة من التدبير التي جرت به العادة وكذلك أيضاً أرسسطراطس في المقالة الثانية من كتابه في الاسترخاء قد نجده امتثل قول أبقراط فيما وصف من علمه بأمر العادات ومع هذا أيضاً فلسنا نجد أحداً من هؤلاء ولا غيرهم من سائر الأطبّاء القدماء إلّا وقد يظنّ به أنّه قد ذكر في أمر العادات أشياء لا تدخل في باب الإجماع ولا تنفكّ من حجج ينقضها أيضاً فإنّ القوم إنّما الذين يظنّ بهم الظانّ أنّهم قد وجدوا شيئاً مقنعاً إنّما وجد كلّ واحد منهم ما وجده من السبب في نوع واحد غير النوع الذي وجد فيه صاحبه فمنهم من وجد سبباً مقنعاً في الأطعمة وحدها ومنهم من وجد في الرياضات أو في الأعمال وأمّا في الأنواع كلّها جملة فليس فيهم أحد وجد سبباً مقنعاً.

ولذلك قد تخالفنا قوم مراراً كثيرة في إسقاء الماء البارد لمن به مرض حادّ فمنعونا من إسقاء المحموم ماء بارداً ويأمرونا بالاقتصاد على الاستدلالات المأخوذة من الأغراض الأخر أعني من المواضع الآلمة ومن الأمراض التي فيها ومن الأسباب الفاعلة لها ومن

أوقات السنة والبلدان وأمزاج المرضى على ما جرت العادة بالنظر في ذلك ويقولون إنّ هذا الأمر حقيق بأن نضحك منه أن تكون الكبد وارمة أو الرئة أو المعدة أو غير ذلك من سائر الأعضاء التي منزلتها من الشرف منزلة هذه ويؤمر المريض المعتاد لشرب الماء البارد لشربه لا لشيء من الأسباب الأخر بل للعادة فقط فإنّ ذلك فيما زعموا تشبيه بأن يأذن الرجل لمن اعتاد الاستحمام بالماء البارد أن يفعل ذلك ولو كان محموماً كانا نحن معشر من يتبع العادة نأمر جميع المرضى على أيّ الحالات كانت أمراضهم أن يفعلوا ما كانوا معتادية من غير أن نستعمل مع الغرض الذي نقصد نحوه من العادة جميع الأغراض الأخر.

ومن ذلك أنّ أرسطاطاليس الميطولينيّ وقد كان رجلاً مقدّماً في علم الفلاسفة المشّائين لمّا وقع في مرض قد كان في مثله يمكن أن ينفع شرب الماء البارد وكان رجلاً لم يشرب الماء البارد قطّ ردّ على من أشار عليه بشربه وقال لهم إنّه يعلم يقيناً أنّه إن ذاق الماء البارد تشنّج وذلك بزعمه لأنّه قد كان رأى آخر عرض له التشنّج من الماء البارد ممّن كان شبيهاً به في مزاج بدنه وسحنته وكان معتاداً لشرب الماء الحارّ ولو كان أرسطاطاليس اعتاد شرب الماء البارد لكان حريّاً ألّا يفزع ولا يجبن منه ولو أنّه فزع وجبن منه لكان الأطبّاء الذين يتولّون علاجه سيقهرونه لا محالة ويقسرونه على شربه إلّا أنّ هذا مات في مرضته هذه فيما بلغني عنه ولمّا سألني من حضر وفاته هل كنت تقدّم على إسقائه الماء البارد بثقة ويقين كما تقدّمت على ذلك في بشر كثير فأسقيت بعضهم الماء البارد في وقت مرضه كلّه وبعضهم في وقت دون وقت على أنّ غيري من الأطبّاء كانوا يجبنون عن إسقائهم إيّاه أم قد أصاب الرجل في امتناعه منه وأحسن في الحرس على طبيعته فأجبتهم بأنّه قد أصاب غاية الصواب في حرسه لأنّه كان منهوك البدن جدّاً وكان فم معدته بارداً منذ أوّل أمره حتّى أنّه كان إن حمل عليها فضلاً قليلاً أصابه من ساعته فواق ولكن كما أنّ هذا لا يحتمل شرب الماء البارد لمكان عادته ولمكان طبيعة بدنه على أنّ مرضه كان يدلّ أنّه ينبغي أن يسقى ماء بارداً كذلك كنت أنا أسقي مريضاً ماء بارداً بغاية الثقة والاتّكال متى كانت حمّاه الحمّى المحرقة خالصة وهي التي ترعى ما وسوس ولم يكن في شيء من أحشائه ورم بيّن وكنت أسقي إنساناً آخر ماء بارداً وأنا ليس منه في غاية الثقة والاتّكال لكن كنت أسقيه إيّاه بعد أن أقول لخواصّه إنّه إن لم يشرب ماء بارداً يموت لا محالة وإن شرب رجوت له أن يسلم ويعافى رجاء كبيراً وتاللّه أنّ جميع من شربه ممّن رجوت له العافية سلم وعوفي وإذا كان هذا

الباب هو أحد الأشياء التي يداوى بها الأمراض 〈و〉قد امتحن بالتجارب على طول الزمان فقد ينبغي لنا أن نأخذ في البحث عن سببه بعد أن نذكر أوّلاً بما قاله بقراط في كتابه في تدبير الأمراض الحادّة وما قاله أرسسطراطس في المقالة الثانية من كتابه في الاسترخاء والذي قاله بقراط هو هذا:

«إنّه قد تقدر أن تعلم بأهون السعي أمر التدبير الرديء في المطعم والمشرب إذا كان يجري على أمر واحد يشبه بعضه بعضاً دائماً فهو أوثق وأحرز وأبعد عن الخطر في التماس الصحّة من أن ينقل الرجل تدبيره دفعة ويغيّره تغييراً عظيماً إلى شيء آخر أفضل منه لانّ من اعتاد أن يتغذى في كلّ يوم مرّتين أو من اعتاد أن يتغذى مرّة واحدة في اليوم يعرض له من الانتقال عن ذلك دفعة مضرّة وضعف فمن كان قد اعتاد أن لا يتغدى فهو إن تغدّى عرض له من انتقاله عن عادته دفعة ضعف وثقل في جميع بدنه وكسل فإن هو مع هذا تعشّى عرض له جشاء حامض وقد يعرض لبعضهم الخلفة وذلك لأنّه أثقل معدته ثقلاً لم يعتده وإنّما اعتادت تجفّ ولا تنتفخ مرّتين في اليوم ولا تطبخ الطعام مرّتين». ثمّ إنّ بقراط إذا هو أدخل في وسط كلامه صفة السبيل في مداواة ما يعرض لهؤلاء من المضارّ عاد إلى ما كان فيه وأتبع ذلك بذكر من يدع عادته فيقول هذا القول: «وإن أكل من هذه حاله ثلث مرار في اليوم 〈و〉يشبع في كلّ مرّة منها كان ما يناله من الأذى أشدّ وإن هو أيضاً أكل أكثر من ثلث مرار كان الأذى أعظم على أنّ خلقاً كثيراً يحتمل بأهون سعي أن يأكل في اليوم ثلث مرّات أكلاً كثيراً أعني من قد اعتاد ذلك وكذلك أيضاً من اعتاد أن يأكل في اليوم مرّتين متى لم يتغدى عرض له خمول وضعف وتهيّب لكلّ عمل ويصيبه وجع الفؤاد ويظنّ أنّ أحشاءه معلّقة ويبول بولاً حارّاً أصفر اللون ويكون برازه يتوقّد وبعضهم يعرض له مرارة في فمه وتكون عيناه غائرتين وصدفاه يضربان وتبرد يداه ورجلاه وجلّ من لا يتغدّى لا يقدر أن يأكل في العشاء أكلاً كثيراً وإن هو تعشّى أثقل معدته وكان نومه أردأ منه لو أنّه كان قد تقدّم فتغدّى فإذا كانت هذه الأشياء قد تعرض للأصحّاء على ما وصفت وذلك بسبب تغيّر التدبير الذي جرت به العادة في نصف النهار فالأمر ظاهر أنّه ليس ينبغي أن يزاد فيما جرت به العادة ولا ينقص منه فإذا كان هذا الذي أكل مرّة واحدة وخرج في أكلته عن العادة إذا هو مكث نهاره أجمع يحلّل بدنه ثمّ تعشّى بمقدار ما لم يزل يعتاده فبالواجب يكون ثقل ذلك أعظم عليه وأشدّ إذ كان حين لم يتغدّى أذاه ذلك

وأضعفه فلمّا تعشّى أثقله العشاء وإن هو مكث مدّة أطول يتحلّل بدنه ثمّ تعشّى دفعة كان ما يناله من الثقل أعظم وأكثر.» ثمّ إنّ أبقراط من بعد هذا أيضاً كما فعل قبل لمّا وصف الوجه في إصلاح المضرّة العارضة لمن يتحلّل تحلّلاً خارجاً عن العادة أتبع ذلك ووصله بأن قال:

«وللإنسان أن يعدّد أشياء كثيرة إجابة لهذه من الأشياء التي ترد المعدة وغير ذلك لأنّ الناس يسهل عليهم احتمال الأطعمة التي قد ألفوها واعتادوها وإن لم تكن أطعمة خياراً في طبائعها وكذلك الأشربة ويعسر عليهم احتمال الأطعمة التي لم يألفوها ويعتادوها وإن كانت ليست برديئة وكذلك الأشربة وليس بعجب لمن يتناول من اللحم مقداراً كبيراً على غير عادته أو تناول أنجدان أو لبن الأنجدان وهو الحلتيت أو قصب نبات الأنجدان أو غير ذلك ممّا قوّته عظيمة أن يعرض له من أمثال هذه الأشياء في البطن وجع وأن يكون ذلك من بعضها أكثر من بعض وإنّما التعجّب متى علمتكم مقدار ما يحدثه الطعام الذي يسمّى مازا من الأذى والنفخة والرياح في بطن من اعتاد أن يأكل الخبز إذا هو أكل ذلك الطعام على غير اعتياده له وأيّ ثقل يحدث عن الخبز واحتباس البطن فيمن قد اعتاد أكل المازا والخبز أيضاً نفسه إذا أكل حارّاً أيّ عطش يحدث عنه وكيف يشبع دفعة بسبب تجفيفه وإبطاء الحرارة والخبز المختبز من السميذ النقيّ والخبز المختبز من دقيق ليس بالنقيّ إذا أكل كلّ واحد منهما على غير اعتياد من أكله له ما الذي يفعله كلّ واحد منهما من الأفعال المخالفة لأفعال غير والمازا نفسها إذا أكلت يابسة على غير اعتياد من أكلها لها أو رطبة أو لزجة والسويق ما الذي يفعله الحديث منه فيمن لم يعتد تناول الحديث وما الذي يفعله السويق الآخر فيمن قد اعتاد بشرب السويق الحديث وشرب الشراب وشرب الماء إذا انتقل عن كلّ واحد منهما إلى الآخر دفعة على غير اعتياد لذلك وشرب الشراب الكثير المزاج والشراب الصرف إذا شرب كلّ واحد منهما بغية يحدث في المعدة ترهّلاً ورياحاً وفي الأمعاء نفخة والصرف يحدث اختلاجاً في العروق وثقلاً في الرأس وعطشاً والشراب الأبيض والشراب الأسود يحدثان في أبدان من يبدل كلّ واحد منهما بالآخر ولو كانا كلاهما في الخمريّة على مثال واحد تغيّراً كثيراً فيكون تعجّب الإنسان من أنواع الشراب الخمريّة وأنواعه الحلوة إذا وجدها عندما تبدّل الواحد من هذه بالواحدة من تلك لم يكن فعلهما

فعلاً واحداً أقلّ». فقد أتينا من كلام أبقراط إلى هذه الغاية في قوى العادات بمثالات فيها كفاية وبلاغ.

وأمّا أراسسطراطس فإنّه قال في المقالة الثانية من كتابه في الاسترخاء قال قولاً هذه حكايته: «وقد ينبغي لمن يريد أن يداوي مداواة تجري على حقّها وصدقها أن يبحث عن أمر العادات بحثاً كثيراً وذلك أنّ أنواع التعب والكدّ إذا عاناها من قد ألفها واعتادها لم يتعب وسلم معها من الإعياء ومن عاناها على غير اعتياد منه لها فإنّه وإن تعب تعباً يسيراً يعرض له إعياء والأطعمة أيضاً ما هو منها قد جرت به العادة وإن كان أعسر في الانهضام من غيره فهو يستمرأ أسرع وأسهل من الطعام الذي لم تجر به العادة وإن كان أسرع انهضاماً. والاستفراغات أيضاً التي تنقص البدن إذا جرت بها العادة البدن يقبضها وإن كانت لا تنفع ومتى فقدها وقع في المرض مثال ذلك ما يعرض في استفراغ الدم من السعلة وفي أنواع النقص التي ينقص بها قوم أبدان أنفسهم حتّى تصير عادة وفي القروح التي تخرج من البدن في وقت دون وقت وبعض الناس يعرض له أيضاً في الوقت بعد الوقت هيضة فإنّ هذه الأنواع من النقص كلّها وإن كانت لا تنفع قد يقبضها البدن ويطلبها وإذا لم تكن في وقت العادة وقع أصحابها الذين اعتادوا نقص أبدانهم بها في علل كبيرة وذلك كلّه إنّما يكون بسبب العادة ومع هذا فلو أن إنساناً طالبنا بأن نذكر له من وسط قول ما كلمتين أو ثلث من غير أن نكون اعتدنا ذلك لما أمكنّا أن نذكر له ذلك بسهولة فإن نحن أخذنا في القول على النسق من الكلام الذي قيل تلك الكلمات التي اقترحها علينا أتيناه بما أراد بسهولة وإن كنّا قد اعتدنا أن نقول كلمات منتزعة من وسط كلام سهل علينا الأمر فيما يطلبه منّا وقد يعرض للناس أيضاً هذا الذي أصفه وهو أنّ من لم يعتد أن يتعلّم فهو يبطئ في التعلّم ويتعلّم اليسر فإذا اعتاد التعلّم فهو يتعلّم أكثر وأسرع وهذا أيضاً بعينه يعرض في الفحص والبحث عن الأشياء على هذا المثال وذلك أنّ من لم يعتد أصلاً أن يبحث ويفحص عن شيء يعمى عقله في أوّل حركته ويتشوّش ويتخيّل فيدع البحث من ساعته ويتنحّى عنه وذلك لأنّ فكرته تعيى وتكلّ وتضعف وتتحيّر كما يعرض ذلك لمن يحضر إحضاراً لم يعتده فأمّا من قد اعتاد أن يفحص فإنّه يغوص وينفر عن كلّ شيء وتبلغ فكرته أقاصي الأشياء فيفحص عنها وينقل فكرته إلى مواضيع شتّى من غير أن يخرج عن البحث لا في بعض نهاره فقط لكن في جميع عمره فيناقض المطالبات ويقلب فكرته ويديرها في معاني مختلفة وهذا ما يظهر عياناً من قوّة العادة وتمكّنها في جميع حالات الناس من

عوارض النفس وآلام البدن وقد أتينا في هذا الباب بما يحتاج إليه في هذا القول وإذا نحن صرنا إلى الكلام الكلّيّ في الطبّ ذكرناه بكلام طويل كثير فإنّ ذكره والبحث عنه هناك ممّا لا بدّ منه ضرورة متى أردنا أن لا يدخل كلامنا في الطبّ خلل ونقصان في أشياء كثيرة».

فهذا ما قاله أحمد الأطبّاء مذهباً وأبعدهم صوتاً وهو أرسسطراطس وبقراط في قوى العادات ولم يسند استخراج ما استخرجاه من علم ذلك إلى القياس بل أسنداه إلى الأشياء التي تظهر بالحسّ عياناً وذلك أمر يفهمه أيضاً من سائر الناس خلق كبير ممّن ليس عيشه كعيش الخنازير والحمير أعني أيّ الأشياء تنفعهم وأيّها تضرّهم فإنّك تسمعهم في كلّ يوم يقولون إنّهم ألفوا هذا الطعام وهذا الشراب واعتادوه فهم لذلك لا يقدرون على تركه لأنّهم متى تركوه وانتقلوا عنه إلى غيره أضرّ بهم ذلك وعلى هذا المثال يقولون في أبواب التصرّف بمنزلة الاستحمام وخلافه وركوب الخيل والتقنّص والإحضار والصراع والسهر والتردّد في الشمس والبرد والهمّ وجميع أمثال هذه الأشياء ونظائرها.

(٢) ولذلك نحن مستخفّون بمن يظنّ أنّ الغرض المقصود إليه من العادة لا منفعة فيه في شيء من أبواب المداواة أو هو قليل المنفعة وفاحصون عن السبب الذي من أجله صارت للعادة قوّة عظيمة على هذا من الحال وهل السبب في العادات كلّها واحد أم في كلّ واحد منها سبب غير السبب في الأخرى بمنزلة أنّ السبب في الأطعمة غير السبب في الرياضة وغيره في الاستحمام وفي غير ذلك ممّا أشبهه ونجعل مبدأنا في ذلك من الأشياء التي تؤكل فنقول لم صار من اعتاد أكل لحم البقر بعضهم لا يضرّه ذلك أصلاً وبعضهم يضرّه أقلّ من مضرّته إيّاه في أوّل الأمر ولم صار بعض الناس بسبب ما عليه طبيعته من أوّل أمره كما قال أرسسطراطس في كتابه يستمرئ لحم البقر أسرع وأسهل من استمرائه السمك الرضراضيّ والسبب الذي به صاروا هؤلاء يستمرئون لحم البقر أسرع وأسهل من استمرائهم للسمك الرضراضيّ قد ذكرناه في الموضع الذي بحثنا فيه عن القوى الطبيعيّة وسنذكره أيضاً هاهنا بعد قليل بسبب اشتراك الكلام فأمّا في هذا الموضع فإنّا نجعل مبدأ كلامنا فيمن يستمرئ طعاماً من الأطعمة أيّ طعام كان أجود من استمرائه لغيره بسبب اعتياده له بعد أن أضع أوّلاً أصلاً يصطلح عليه ويجري عليه مبنى الأمر في هذه الأبواب كلّها وهو أنّ بالطبع أشياء خاصّيّة تقوم مشاكلة لطبائعهم وأشياء غير خاصّيّة لهم ولا مشاكلة لطبائعهم وقد قلت في ذلك كلّه قولاً طويلاً في الموضع الذي فحصت فيه عن أمر القوى الطبيعيّة.

وأنا مبتدئ هاهنا في القول بعد أن أضع أوّلاً معنى الاستمراء والهضم فأقول إنّه كما أنّ خبّازي الخبر يقال إنّهم قد خبزوا الخبز وأنضجوه لا عندما يطحنون الحنطة ويصيّرون أجزاء صغاراً وينقّونها لاكن عندما يعمدون إليها بعد فعلهم بها ذلك فيلتّون دقيقها بالماء ويخلطون معه الخمير والملح ثمّ يعجنونه ويغطّونه بشيء ممّا يمكن فيه أن يسخنه ويتركونه حتّى يختمر ثمّ يخبزونه وينضجونه بعد ذلك إمّا في تنّور وإمّا في فرن وكذلك الأمر فيما يرد المعدة أعني أنّا لا نقول عندما ينطحن ويصير أجزاء صغاراً إنّه قد انهضم بل إنّما نقول إنّه قد انهضم عندما تتغيّر كيفيّته بمنزلة ما تتغيّر الحنطة إذا خبزت وأنضجت فكما أنّ الحنطة ينبغي أن تتغيّر وتستحيل إلى كيفيّة مشاكلة لمن يأكلها خاصّيّة به تنضجها وتصيّرها خبزاً كذلك بالحريّ ينبغي للطعام أن يستحيل ويتغيّر في المعدة إلى كيفيّة أخصّ بالبدن وأكثر مشاكلة له أعني بقولي طعاماً أخصّ وأكثر مشاكلة الطعام الذي منه غذاء مشبه للبدن الذي يريد أن يغتذي به وذلك لأنّ لكلّ واحد من الأجسام المغتذية شيئاً ممّا يغذو خاصّاً به مشاكلاً له غير الشيء الخاصّ بغيره المشاكل لغيره وبهذا السبب صارت الحيوانات تقصد إلى الأغذية الخاصّيّة بها المشاكلة لطبائعها عن غير تعلّم وطبائعها تدعوها وتنازعها إلى ذلك. أمّا البهائم فتقصد إلى العشب والحشيش والتبن والكلأ والشعير وأمّا الأسد فإلى اللحوم وكذلك النمور والذياب فكما أنّ أجناس الحيوانات قد تختلف الأغذية الخاصّيّة بكلّ واحد منها المشاكلة له اختلافاً عظيماً كذلك قد يوجد في أنواع هذه الأجناس اختلاف عظيم في الأغذية من ذلك أنّ في الناس قوماً لا يستطيعون أن يذوقوا الشراب فضلاً عن أن يشربوه وقوماً آخر يكثرون من شربه. وبعض الناس كما قلنا يستلذّون أكل لحوم البقر والتيوس والكباش ويستطيبونها ويستمرئونها بلا أذى ولا مشقّة وبعضهم لا يقدرون على طعام آخر بمنزلة ما يعرض للناس في وقت المجاعة والقحط قهروا أنفسهم وأكلوا أمثال هذه اللحمان ولم يقدروا على استمرائها بلا مضرّة وعثت أنفسهم على المكان وعرض لهم منها جشاء لا يقدرون أيضاً على احتماله والصبر عليه بلا أذى ولا مشقّة وإذا كانت هذه أمور توجب عياناً على ما وصفت فقد ينبغي لنا أوّلاً أن نذكر هذه الخصلة وهي أنّ الناس يأكلون أشياء مختلفة يتفرّد كلّ واحد منهم بواحد منها خاصّة بحسب خصوصيّة طبيعة كلّ واحد منهم وأنّ الذي يدعوهم إلى أكل مثل هذه الأطعمة مع سائر الأسباب الأخر أنّهم يستلذّونها أكثر ويجتنبون الأشياء التي لا يستلذّونها ويهربون عنها ويعسر استمراؤهم لها فتكون العادة حينئذٍ علامة تدلّ على الخصوصيّة والمشاكلة الطبيعيّة وقد تكون العادة أيضاً مراراً كثيرة سبباً وعلّة فيمن يتناول في أوّل الأمر طعاماً ما لا يستلذّه أو يجد له مضرّة حتّى إذا هو اعتاده وألفه قليل بعد قليل باستلذاذ منه له ولا يجد له مضرّة والسبب في كلّ واحد من هذه هو هذا أقول إنّه كما أنّ كلّ واحد من الأشياء

التي تؤكل وتشرب تستحيل وتتغيّر كيفيّته كذلك هو أيضاً قد يغيّر ويحيل الشيء المغيّر والمحوّل له قليلاً قليلاً وممّا يستدلّ به على ذلك استدلالاً بيّناً اختلاف الأخلاط المتولّدة عن كلّ واحد من الأطعمة وذلك أنّ من الأطعمة ما يولّد دماً سوداويّاً ومنها ما يولّد دماً بلغميّاً أو دماً الأكثر فيه مرّة صفراء أو حمراء ومنها ما يولّد دماً صافياً وإذا كان ذلك كذلك فلا بدّ ضرورة من أن تحدث في الأعضاء التي تغتذي بها تغيّراً ما بحسب نوع الدم الذي يغدوها والدليل البيّن على تشبّه المغتذي بالغاذي تغيّر حالات النبات والبذور فإنّ هذه كثيراً ما تتغيّر تغيّراً كثيراً يبلغ من كثرة أن تكون الشجرة [التي"/> تضرّ غاية المضرّة ما دامت في الأرض التي هي فيها فإذا هي نقلت عنها وغرست في أرض أخرى صارت معما لا تضرّ تنفع وقد جرب ذلك مراراً كثيرة أصحاب الكتب في الحراثة وفي النبات كما جرّب الأمر في تغيّر الحيوانات بحسب المواضع أصحاب الكتب في قصص الحيوانات فإذا كان إذا ليس الغاذي فقط يستحيل ويتغيّر إلى المغتذي بل قد يستحيل ويتغيّر أيضاً المغتذي إلى الغاذي تغيّراً قليلاً واستحالة يسيرة فقد يجب ضرورة أن يكون هذا التغيّر القليل والاستحالة اليسيرة إذا اجتمعا على طول الزمان عظما وصارا ذات قدر فتكون الخصوصيّة والمشاكلة الكائنة بسبب العادات الطويلة المدّة مساوية للخصوصيّة والمشاكلة الطبيعيّة مقارنة لها.

(٣) وأنا أحسب أنّي قد أتيت على السبب في قوى العادات في الأشياء التي تؤكل وتشرب فلنأخذ الآن فيما يتّصل بذلك من الأشياء التي يلقى البدن من خارج وأنا أرى أنّ السبب في هذه أيضاً هو جنس السبب في الأشياء التي يقدّم ذكرها وذاك أنّ هذه أيضاً أكثر ممّا يحدثه من التغيّر في البدن إنّما يحدثه أوّلاً في الأعضاء التي في ظاهر البدن ثمّ يحدث ذلك أيضاً في الأعضاء الباطنة وذلك أنّ أوّل ما يحدث من الأشياء التي تبرد أنّ الجلد يستحصف ويكتنز ويتكاثف ثمّ يتّصل ذلك الأجزاء المتّصلة به وإن دام ذلك التغيّر على البدن مدّة أطول وصل التغيّر إلى الأعضاء الباطنة حتّى تشرك فيه الأعضاء الظاهرة ويعرض أيضاً في أوّل الأمر أنّ التغيّر الكائن على المكان بطريق العرض لا بنفس فعل السبب الفاعل للتغيّر أوّلاً يصل إلى الأعضاء الباطنة وتغيّرها ليس بدون تغييره للأعضاء الظاهرة وذلك أنّ الجلد إذا تكاثف كمنت الحرارة واجتمعت في باطن البدن كلّه وكما أنّ السبب البارد يفعل ما وصفنا من التغيير كذلك يفعل السبب الحارّ تغييراً مخالفاً للتغيير الحادث عن السبب البارد وذلك أنّ في الطبع إنّما تكون الأفعال الأضداد من أسباب أضداد وبعضها يكون أوّلاً بفعل نفس السبب وبعضها بطريق العرض وهذا

هو الأمر الذي فيه خاصّة يغلط ويخطئ خلق كثير إذا نظروا إلى أشياء كثيرة يفعلها سببين متضادّين على مثال واحد بطريق العرض وكذلك إذا نظروا إلى أشياء أضداد تحدث مراراً كثيرة من أسباب واحدة بأعيانها وكذلك قد يعرض لهم أن يغلطوا في أمر الأشياء التي تسخن غلطاً شبيهاً بهذا أو ذلك أنّ السبب الذي يسخن بمنزلة الشمس إذا هي لقيت البدن زماناً طويل المدّة فهو يحدث فيه شيء خلاف ما أحدثه في أوّل الأمر لأنّه في أوّل الأمر يسخن الرطوبة ويرخي الجلد ويجعل اللحم ألين ممّا كان وإن داوم الرجل التردّد فيه والتعرّض له أيّاماً كثيرة في وقت الصيف عرياناً صار جلده قحلاً صلباً وصار لحمه أيضاً صلباً إلّا أنّ من كانت هذه حاله فليس العمل في بدنه للحرارة الطويلة المكث وحدها لكن لليبس المزاوج لتلك الحرارة إنّما في ذلك عمل كبير وكثير ما يذهب هذا عنّا وننساه في النظر في أمر الأسباب فلا ننظر في السبب المزاوج للسبب الفاعل فإنّه قد ينبغي لنا أن نتفكّر في أنّ فعل الحرارة المرطّبة غير فعل الحرارة اليابسة فهذا أمر كثيراً ما لا نفعله ولذلك نغلط إذا نحن لم ننظر في فعل كلّ واحد من السببين الخاصّ به فإن تثبّت الرجل وجعل ذهناً في الأمر علم وتيقّن أنّ كلّ واحد من الفعلين باقٍ على حاله وذلك أنّه كما أنّ الرطوبة وحدها خلوا من الحرارة أو البرودة الظاهرة إنّما ترطّب البدن فقط والحرارة وحدها تسخنه كذلك اجتماعهما يوجد عياناً يأتي بالفعلين كليهما وذلك أمر يعرض من الاستحمام بالماء العذب وأمّا في التردّد في الشمس فإنّما يزاوج السبب المسخن سبباً يابساً لأنّ الشمس الصيفيّة حالها هذه الحالة وإذ كان ذلك كذلك فبالواجب صار من أدمن التردّد فيها والتعرّض لها في وقت طويل المدّة عرياناً بمنزلة الحصّادين والملّاحين صار جلده صلباً يابساً على مثال جلود الحيوانات ذوات الجبن القشريّة فكما أنّ الخصوصيّات الطبيعيّة من جملة جوهر البدن تحتاج إلى أنواع من الأطعمة والأشربة مختلفة واختلاف حالات الجلد بالطبع في الصلابة واللين والكثافة والتخلخل يوجب أن لا تكون الأبدان تسخن معها كلّها على مثال واحد كذلك الأمر في خصوصيّة الجوهر واختلاف حالات الجلد الكائنين بسبب العادة بمنزلة الخصوصيّة واختلاف الحال الطبيعيّة يوجبان أن يحدث في البدن منفعة أو مضرّة من قبل التغيّر العارض من الأطعمة والأشربة ومن الأشياء التي سخن وبرد على مثال ما يحدث من تلك وذلك أنّ البدن المتخلخل الليّن تسرع إليه الآفة إذا هو سخن وإذا هو برد من خارج والبدن الكثيف الصلب يحتمل ما يلقاه من خارج ويصير على مقاومته ولا يبالي به إن كان ممّا سخن وممّا برد وإن كان ممّا هو صلب أو خشن ولذلك صارت أمثال هذه الأبدان تحتمل النوم على الأرض وتصبر عليه والأبدان المخالفة لها لا تحتمل مثل ذلك ولا تصبر عليه وذلك أنّها تفسخ سريعاً وتبرد وتنالها الآفة من كلّ شيء يلقاها أيّ شيء كان سريعاً.

(٤) فهذا ما أردنا من القول في الأشياء التي تلقى البدن من الخارج.

فلنأخذ الآن في ذكر أنواع الرياضة وعسى أن تكون الأعضاء التي ترتاض من أعضاء البدن تكون أقوى وأصلب فتكون بهذا السبب تستطيع أن تحتمل الحركات الخاصيّة بها المشاكلة لها أكثر من غيرها ممّا اكتسبه عدم الرياضة أن تكون أضعف وألين وهذا كلام شامل عامّ لأنواع الرياضات النفسانيّة التي نروض بها أنفسنا إمّا في أوّل الأمر ففي الكتاب ما دمنا صبياناً وإمّا بعد ذلك فعند الخطباء والحسّاب والمهندسين والمنطقيّين وذلك أنّه لمّا كان سياسة النفس قوّتين لا بدّ منهما ضرورة في جميع الصناعات أحدهما القوّة التي بها نفهم الكلام المتّفق والمتناقض والقوّة الأخرى التي بها نحفظ الأشياء ونذكر صرنا إذا استعملنا الرياضات النفسانيّة اكتسبنا بذلك القوّة الأولى فضل فهم فكنّا أجود فهماً واكتسبنا بالقوّة الثانية فضل حفظ فكنّا أجود حفظاً وذلك لأنّ من شأن القوى كلّها بالطبع أن تنمو وتزيد وتصحّ وتقوى بالرياضة وتضرّها العطلة والبطالة وتجحف بها كما دلّ على ذلك أفلاطون في كتابه المسمّى طيماوس حيث يقول هذا القول أيضاً: «وكما قلنا مراراً شتّى أنّ فينا ثلثة أنواع نفوس في ثلثة مواضع وكلّ واحد منها له حركة كذلك ينبغي أن نقول هاهنا أيضاً بحسب ذلك القول أنّ النوع الذي يتعطّل ويمسك عن حركته من هذه الأنواع يجب ضرورة أن يكون ضعيفاً جدّاً والنوع الذي يراض منها يجب ضرورة أن يكون قويّاً جدّاً وإذا كان الأمر على هذا فقد ينبغي أن نحفظها لتكون حركة بعضها إلى بعض معتدلة». وبعد أن قدّم هذا القول أتبعه بأن قال:

«فأمّا نوع النفس الذي هو أشرفها فينبغي أن نعلم أنّه شيء من جنس الملائكة خصّ اللّه تعالى به كلّ واحد منّا فنحن نقول في هذا النوع إنّ مسكنه في رأس البدن وإنّه يحسب مناسبته للسماء ترفعنا عن الأرض على أنّ قولنا صواب أنّا من نوع النبات لا نبات أرضيّ بل نبات سماويّ وذلك أنّ النوع الإلاهيّ إنّما هو في الموضع الذي فيه أوّل كون النفس كيما إذا هو صدّ رأسنا وأصلنا ورفعه فوق البدن كلّه على الاستقامة فمن كانت همّته في الشهوات وحب الغلبة وكان يتعبّد لها تعبّداً شديداً فلا بدّ ضرورة من أن تكون أراؤه إذاً مائتة فيكون ليس له ألبة ولا أقلّ القليل من الحال التي هي خلاف حال الأشياء الميّتة التي يمكن أن تكون خاصّة لمن لا يموت فأمّا من كانت همّته في حبّ التعلّم وفي فهم الحقّ وكان يروض نفسه في هذين خاصّة فهو ضرورة يتفكّر فكراً إلاهيّة غير مائتة متى التمس الحقّ ولابسه ويجب ضرورة أن يكون لا يعجز شيء من الحال التي هي خلاف حال الأشياء المائتة التي يمكن في طبع الناس قبولها ومن

قبل أنّه لا يزال دائماً يرضى الإلاهيّ وله مدبّر جميل الأمر متّفق ساكن فيه معاً هو في الطبقة العليا من الفوز والأرضى وإتيان المسرّة إنّما هو واحد يدلّ على كلّ شيء وهو أن يغذى كلّ واحد من الأشياء بالغذاء الخاصّ به المشاكل له ويحرّك بالحركة الملائمة له».

فقد علّمنا أفلاطن في هذا الكلام من أمر ثلثة أنواع النفس ما ينتفع به لا من أمر الفلسفة فقط لكن وفي أمر صحّة البدن أيضاً وإنّما تبع في ذلك بقراط الذي قال جملة: «إنّ البطالة تفني وتذيب وإنّ الاستعمال يقوّي ويصحّ». وقال أيضاً قولاً مفرداً في الرياضة وحدها: «إنّ التعب ينبغي أن يكون قبل الطعام». وقال في جميع أنواع التصرّف المفردة هذا القول: «إنّ التعب والأطعمة والأشربة والنوم والجماع ينبغي أن تكون كلّها معتدلة». وقد ينبغي لنا هاهنا أيضاً أن نثبت ونجعل ذهننا فيما قال وذلك أنّ في الكلام بعض ما يدهش كما في سائر الأقوال الأخر متى توانى السامع له في فهمه كما قد فعل ذلك قوم وذلك أنّا نريد أن يرتاض في كلّ شيء أيّ الأشياء كان رياضة ليست على غير حدّ وعلى غير المقدار الذي ينبغي لأنّ الرياضات إذا طالت بها المدّة بأكثر من المقدار هتكت القوّة وأخملتها وكذلك الأمر في الأطعمة والأشربة والنوم والجماع وينبغي أن يكون ما يستعمل منها بالمقدار الذي ينبغي ولا ينقص عن المقدار ولا يزاد عليه وذلك لأنّ الزيادة المجاوزة المقدار تضعف القوّة وتهتكها والنقصان عن المقدار المعتدل يمنع كلّ واحد من هذه الأشياء من أن تنفع على التمام بمقدار نقصانه عن الاعتدال وهو أمر قد حذّر منها وتقدّم فيه بقراط بما قاله منه في شيء واحد على طريق المثال حيث قال: «إنّ من يرتاض إذا هو أمسك عن الرياضة حين يبتدئ يتأذّى بها لا يصيبه الإعياء». وقد دخل في هذا الكلام على طريق اتّصال الكلام ذكر بعض ما يحتاج إلى فعله من أمر أفعال النفس في الحفظ والفكر والمطالبات القياسيّة المنطقيّة وقد ذكر أراسسطراطس هذه الأفعال في كلامه في العادات من غير أن يزيد معها ذكر السبب وإن كان قد ذكر بقراط وأفلاطن اللذين ذكرا السبب وهو أنّ ارتياض كلّ واحدة من القوى بالرياضات الخاصّيّة بها المشاكلة لها بالمقدار المعتدل يكسبها صحّة وقوّة.

(٥) فهذا ما أردنا ذكره من أصناف العادات واختلافها بحسب قوّة الأشياء التي فيها يكون قوامها وأصناف الصحّة التي تحدث عنها ولأنّ أرسسطراطس قد قال كما أنّ البدن يقتضي أيضاً الاستفراغات إذا هو اعتادها قد ينبغي لنا أن نبحث عن ذلك وذاك أنّا قد نعلم أنّ قوماً يصيبهم الرعاف بأدوار في أوقات متساوية وقوم آخرون يستفرغ منهم الدم من العروق التي في السفلة وقوم آخرون يستفرغون بالقيء أو باختلاف

نصيبهم وقوم آخرون يفرغون الدم من أبدانهم بإرادتهم بفصد العروق أو بشرط العروق التي إلى جانب الكعبين أو من المنخرين أو يفرغون أبدانهم بالأدوية المسهلة أو بالأدوية التي تبعث القيء أو التي تحدر الطمث وذلك أيضاً ممّا ينبغي أن نبحث عنه فإنّي لا أرى أنّ هؤلاء إنّما يحتاجون إلى مثل هذه الاستفراغات للعادة لكن للسبب الذي من أجله احتاجوا إلى الاستفراغ الأوّل الذي فعلته الطبيعة أو فعله رجل حكيم بقياس طبّيّ لذلك السبب بعينه يحتاجون إلى معاودته بعينه مرّة ثانية ومراراً كثيرة وذلك أنّ في الناس قوماً يجمع في أبدانهم بسبب سوء تدبيرهم دماً كثيراً وأخلاطاً رديئة وبعض الناس يعرض لهم ذلك بسبب أنّ هيئة بدنه هيئة رديئة فهم بهذا السبب ينتفعون بالاستفراغات التي ذكرناها إذا تحرّكت الطبيعة ففرغت من أبدانهم فضولها قبل أن يمرضوا أو فعل ذلك بهم بعض الأطبّاء وبضعهم إذا هو مرض كانت مداواة مرضه بهذه الاستفراغات إذا انبعثت من الطبيعة أو بعثها الطبيب باستعماله في المداواة ما يحتذى به فعل الطبيعة ثمّ إنّهم إذا أصابهم بعد ذلك مرض شبيه بالأوّل وتداووا بتلك الاستفراغات ويروا أن عرض لهم في وقت ما أن يجدوا مرّة أخرى حسّ ثقل في جميع البدن أو في الرأس وحده أو يجدون اضطراباً في البدن أو غير ذلك من الأشياء الخارجة عن الطبيعة سألوا الأطبّاء أن يتقصّوا أبدانهم لما يتخوّفونه من أن تصيبهم الأمراض التي قد كانت أصابتهم عندما عرضت لهم هذه الأعراض على هذا المثال فإذا هم أفلتوا أو تخلّصوا من المرض الذي كانوا يتوقّعونه إمّا بإسهال وإمّا بإخراج دم بادروا وسارعوا إلى ذلك العلاج حتّى أحسّوا في بعض الأوقات بأعراض شبيهة بتلك وبعضهم من قبل أن يحسّ بشيء من الأعراض لخوفهم من حلول الوقت الموقّت الذي كان يصيبهم فيه بعض العلل بأدوار معلومة يتقدّمون فيتفرّغون أبدانهم ويظنّون أنّ هذا الاستفراغ الذي يفعلونه على طريق التقدّم بالحفظ قد صار عادة لهم وبالحقّ أقول إنّ البدن ليس يناله من أمثال هذه الاستفراغات شيء من التغيير فوجب أن يكون ذلك عادة له كما بيّنّا أنّه يناله من الأشياء التي تقدّم ذكرها بل إنّما يصيبه من سبب واحد بعينه أمر واحد بعينه ولذلك متى أبدلوا أصحاب هذه الاستفراغات تدبيرهم وقلّلوا من طعامهم وزادوا في رياضتهم سلموا من الأمراض فإبدال العادة حينئذٍ ممّا ينتفعون به لا ممّا يضرّهم كما يضرّ أولائك الذين ذكرناهم قبل وذلك أنّه ليس الذي يتّفق لهم من الانتفاع بالاستفراغ إنّما هو سبب العادة بل إنّما ذلك بسبب أنّهم يتدبّرون تدبيراً رديئاً يجتمع في أبدانهم أخلاطاً رديئة وامتلاء.