Galen: De febrium differentiis (On the Differences of Fevers)

Work

Galen, De febrium differentiis (Περὶ διαφορᾶς πυρετῶν)
English: On the Differences of Fevers

Text information

Type: Translation (Arabic)
Translator: Ḥunayn ibn Isḥāq
Translated from: Greek (Close)
Date: between 850 and 870

Source

Matthias Wernhard. "Galen Über die Arten der Fieber in der arabischen Version des Ḥunain Ibn Isḥāq". Ph.D. thesis, Munich (Ludwig-Maximilians-Universität) 2004, 4-294

المقالة الأولى من كتاب جالينوس في أصناف الحمّيات ترجمة حنين بن إسحاق

١ إنّ أخصّ أصناف الحمّيات وأولاها بها ما كان منها من نفس طبيعتها. وأمّا سائر أصنافها، فمن بعض الأعراض التي تلزمها. وليست طبيعة تلك الأعراض التي تلزمها واحدة، لكن منها ما هو أقرب إلی طبيعتها تلك التي تُقسّم وأخصّ بها، ومنها ما هو أبعد منها وأغرب. ولمّا كان ذلك كذلك، صارت الأصناف المأخوذة من تلك الأعراض ليست جنساً واحداً.

وأعظم الناس خطاء من ترك ذكر تلك الأصناف التي هي أخصّ أصناف الحمّيات وأولاها بها، وبعده من ذكر تلك الأصناف، ثمّ خلط بها جميع الأصناف المأخوذة من الأعراض كأنّها مساوية لها، ولم يميّز بين ما ينتفع به منها وبين ما لا ينتفع به. وليس في أجناس أصناف الحمّيات فقط غلط أكثر الأطبّاء، إمّا بأنّهم زادوا فذكروا ما لا يحتاج إليه منها، أو نقصوا فتركوا ذكر

بعض الأصناف التي يحتاج إليها، لكنّهم غلطوا مثل ذلك الغلط أيضاً في تقسيم تلك الأجناس إلی أصنافها.

من ذلك أنّ أوّل جنس من أجناس أصناف الحمّيات وأخصّه وأولاه بها يؤخذ من نفس طبيعة ذلك الشيء الذي يقسّم، فنجد بعض الأطبّاء قد ألغوا ذكر هذا الجنس بأسره، ونجد بعضهم قد زاد في تقسيمه أو نقص منه، على أنّ بقراط قد استنظف هذه القسمة على أحسن الوجوه في المقالة السادسة من كتابه المسمّى إبيذيميا. وهذا كلامه فيها بلفظه:

الحمّيات منها ما يلذّع اليد، ومنها طيّبة المجسّ، ومنها ما لا تجدها لذّاعة ثمّ تتزيّد، ومنها ما تجدها حادّة ثمّ تخور عن اليد، ومنها ما تجدها شديدة الإحراق منذ أوّل لمسها، ومنها ما تجدها خامدة يابسة دائماً، ومنها مالحة، ومنها نفّاخيّة كريهة شنعة المنظر، ومنها نديّة المجسّ، ومنها شديدة الحمرة، ومنها شديدة الصفرة، ومنها إلی الخضرة والكمدة، وغير ذلك ممّا أشبهه.

فإنّ بقراط في هذا الكلام جرّد القول فجعل قسمة الشيء الذي قصد

لتقسيمه إلی أصنافه الخاصّيّة من نفس طبيعته ومن طريق الاستدلال عليها. وذلك أنّ طبيعة الحمّيات هي في جنس الحرارة الخارجة من الطبيعة، وأصناف تلك الحرارة هي ما كان منها من طريق كثرتها وقلّتها، وما كان منها من طريق العنصر الذي تكون فيه تلك الحرارة الخارجة من الطبيعة، وما كان منها من طريق حركتها. فضمّن هذه الأصناف كلّها بطريق تعرّفها فوصفها في هذا الكلام، كما سنبيّن ذلك فيما يستأنف من القول.

فما كان من الأصناف من طريق كثرة تلك الحرارة وقلّتها، فهي بيّنة، ومن عادة الأطبّاء أن يقولوا في هذا الجنس من الأصناف حمّى كبيرة وحمّى صغيرة. وما يجري استعمالهم لهذه الأسماء، وهم يريدون أن يدلّوا بها على شيء من جنس الكيفيّة، على التحقيق، إذ كانت إنّما هي من الأسماء التي تدلّ على الكمّيّة. إلّا أنّه، وإن كان الأمر كذلك، فقد جرت عادتهم أن يفعلوا ذلك لا في الحمّيات فقط، لكن في غيرها من أشياء كثيرة هي من جنس الكيفيّة، وينسبونها إلی الكبر والصغر.

وأمّا الأصناف التي تكون من العنصر الذي تكون فيه تلك الحرارة الخارجة من الطبيعة، فهي من أخصّ الأصناف بتلك الحرارة. وذلك أنّها إمّا أن

يكون تمكّنها من نفس جرم القلب، وإمّا من الأخلاط التي يحويها بطنا القلب.

والصنف الثالث الذي بقي من هذه الأصناف هو أن يكون الجوهر الهوائيّ وحده قد سخن سخونة كثيرة، والرطوبات والأعضاء الجامدة في حال ما يسخّن بعد، لا في حال ما قد سخن.

فإنّ الفرق بين أن يكون الشيء يسخّن بعد وبين أن يكون قد سخن ليس باليسير. وتقدر أن تفهم ما قلت بأوضح الطرق من هذه المثالات: توهّم ماء حارّاً قد ألقي في قدر باردة، وجرم القدر يسخّن من ذلك الماء بمجاورته له، ولم يصر بعد إلی الحال التي يكون فيها حارّاً قد استحوذت عليه بأسره الحرارة. ثمّ توهّم قدراً حارّة محميّة قد ألقي فيها ماء بارد، وذلك الماء يسخّن من تلك القدر بمجاورته لها، ولم يصر بعد حارّاً. فعلى هذا المثال الثاني يكون الصنف الأوّل من الحمّيات التي قلنا إنّها تتمكّن من نفس جرم القلب، وعلى المثال الأوّل يكون صنف الحمّيات التي تكون في الأخلاط التي في القلب.

وأمّا الصنف الثالث الذي بقي، فليس يوجد له مثال يشبهه في جميع

حالاته. لكن كيما يضح لك وتفهمه، فتوهّم زقّ حدّاد يجتذب إليه هواء حارّاً جدّاً، وذلك الزقّ يسخّن بعد من ذلك الهواء ولم يصر بعد إلی حال ما قد سخن. وهذا المثال يكون أدلّ على طبيعة هذا الأمر الذي قصدنا للدلالة عليه، إن أنت توهّمت أنّ في ذلك الزقّ رطوبة محصورة، وخاصّة إن توهّمت مجاري الزقّ التي يجتذب بها الهواء ويخرجه قد جعلت بحال من الضيق لا يمكن معها أن تنفذ فيها الرطوبة المحصورة في الزقّ ويمكن أن ينفذ فيها الهواء. وهذا هو من أعظم ما تباين فيه أعمال الطبيعة أعمال الناس.

فإنّ الجوهر الهوائيّ مخالط للدم في جميع العروق الضوارب، إذ كانت تدخل الهواء وتخرجه بمسامّ كثيرة، وفي القلب أيضاً حاله تلك ليست بدون حاله في العروق، إذ كانت تلك العروق كلّها تنفذ إليه.

٢ فهذه الحرارة الخارجة من الطبيعة التي نسمّيها حمّى تبتدئ في حال دون حال من واحد واحد من هذه الجواهر الثلاثة التي ذكرنا وتسعى منه إلی الجوهرين الباقيين، فتحيلهما باستحالة ذلك الجوهر الذي قبلها. ووصول الحرارة من الرطوبات إلی الروح أسهلها، وأقلّ منه سهولة وصول السخونة من الروح إلی الرطوبات. والجرم الجامد أيضاً يؤدّي الحرارة إلی الأجرام الرطبة والهوائيّة بأسهل وأسرع ممّا يتأدّى إليه من ذينك الجرمين، لأنّ كلّ جوهر لطيف فهو أسهل وأسرع استحالة من الجوهر الغليظ. وألطف تلك الجواهر جوهر الهواء، وأغلظها جوهر الأجرام الجامدة. فأمّا جوهر الأجرام الرطبة، فهو فيما بينهما.

ولا فرق عندي في كلامي هذا بين أن أقول روح وبين أن أقول هواء، إذ كنت قد حدّدت الأمر في ذلك واستقصيته في غير هذا الكتاب. وأمّا الآن، فيكفيك أن تعلم هذا المعنى، وهو عندي المعنى الذي دلّ عليه بقراط حين قال الأشياء التي تحصر والأشياء التي تحصر والأشياء التي تنفذ. وعنى بالأشياء التي تحصر أعضاء البدن وعنى بالأشياء التي تحصر الرطوبات، وعنى بالأشياء التي تنفذ فيها الروح.

فإنّ حرارة الحمّى تبتدئ في حال دون حال من واحد واحد من هذه الأجناس، ثمّ لا تقف عند ذلك الجنس الأوّل الذي نالته الآفة، لكنّها تسعى إلی الجنسين الباقيين. وإن لم تسبق فتنحلّ وتنقضي، صيّرتهما على طول المدّة بالحال التي عليها ذلك الأوّل. فهذه هي جمل قولي، وقد ينبغي أن آتي بالبرهان على ما قلت وأن أصف دلائل كلّ واحد من أجناس الحمّيات، ويجب ضرورة أن أصف شيئاً من أمر تولّدها.

٣ فأقول إنّ من البيّن عند جميع الناس أنّه قد يرى قوم يحمّون من إعياء ومن غضب ومن حزن وغمّ يصيبهم ومن حرّ الشمس ومن البرد ومن السهر ومن التخم ومن الإكثار من النبيذ ومن الأورام الحارّة، وإنّما عرف ذلك جميع الناس من ظهوره لهم عياناً. وليس يذهب على أحد أيضاً ممّن له فهم أنّ الحال التي تكون للهواء في وقت الموتان تجلب الحمّى، وكذلك الحال أيضاً في أنّ ملابسة من يمرض مرض الموتان خطر . وذلك أنّه لا يؤمن أن يُعدي كما يُعدي الجرب والرمد. ومن الخطر أيضاً ملابسة أصحاب السلّ، أعني قرحة الرئة، ومساكنتهم، وبالجملة كلّ من تكون حال الهواء الذي يخرج منه في النفس حال عفونة، حتّى يغلب النتن على البيوت التي يأويها. وقد علم أيضاً بطول التجربة أنّ الذين يكونون قد تعوّدوا الرياضة، فيدعونها، قد تعرض لهم الحمّى مع أمراض أخر غيرها، وعلم أيضاً أنّ الحال التي يقال لها الامتلاء تجلب الحمّيات وأطعمة ما من الأطعمة الرديئة وبعض الأدوية والحرّ الذي يكون عند طلوع الشعرى العبور وغير ذلك ممّا أشبهه. وهذا كلّه ممّا قد عرفه جميع الناس في المثل.

فأمّا الحال التي تحدث في الأبدان من هذه الأشياء التي تكون منها الحمّى،

فلا يعلمها جمهور الناس ولا كثير من الأطبّاء. والأطبّاء الذين يجهلون أشباه هذه الأشياء صنفان، أحدهما صنف الذين يقتصرون على التجربة فقط ويقولون إنّه ليس يمكن أن توجد بالقياس طبيعة شيء من الأشياء، والصنف الآخر جماعة كثيرة من الناس يظنّون بأنفسهم أنّهم حكماء، وحالهم في الجهل حال الذين ذكروا قبلهم، إلّا أنّهم يتوهّمون أنّ عندهم معرفة. وإنّما عرض لهم الجهل من قبل أنّهم لم يتقدّموا فيرتاضوا أوّلاً في طرق القياس والمنطق التي بها يعرف ويميّز بين القضايا البرهانيّة وبين القضايا التي هي مقنعة، إلّا أنّه ليس يمكن أن يستخرج منها أمر صحيح حقيقيّ ولا يبرهن. ثمّ اجتمع فيهم مع هذا الجهل زهو وطغيان، فبلغ ببعضهم من قلّة الحسّ أو من الإقدام ألّا يقرّوا بالأشياء التي يعرفها جميع الناس لصحّتها عندهم بالتجربة أنّها من أسباب الحمّيات.

وقد تكلّمت كلاماً كافياً في تلك الأشياء في مقالة وصفت فيها أمر الأسباب التي يقال لها البادئة، فلست أحتاج في هذا الموضع أن أذكر غباوتهم وهذيانهم بالباطل، لأنّي لم أقصد بكلامي هذا للقول في الأسباب ولا لنقض المغالطات، لكنّي إنّما قصدت فيه لسياقة علم صحيح وطريق تعليم، وأبني

الأمر فيه على أصول قد أتيت بالبرهان عليها في كتب أخر وأخبر فيه بأصناف الحمّيات.

والأصول التي أبني الأمر في كلامي هذا عليها، هي أنّ الحارّ والبارد واليابس والرطب هي أركان الأبدان، وأنّ الأمراض الأول إنّما تكون لسوء مزاج هذه، وأنّ الحمّى هي أحد أصناف سوء المزاج وتكون إذا صارت في القلب حرارة خارجة من الطبيعة.

وأصناف تلك الحرارة التي كان كلامنا فيها تؤخذ من أصناف العناصر التي تقبل حرارة الحمّى، وهي ثلاثة أجناس. وذلك أنّا قد قلنا إنّ تلك الحرارة إمّا أن تشتعل أوّلاً في نفس جرم القلب، وإمّا في الأخلاط، وإمّا في الروح.

وإنّ ابتداء حدوث جميع الحمّيات يكون بأسباب يعرفها جميع الناس، وهي التي ذكرتها قبل، وصاحب التجربة قد يتسبّب من تلك الأسباب ممّا قد حفظ ببعض ما يحتاج إليه في العلاج. فأمّا صاحب القياس، فيترقّى منها إلی نفس طبيعة المرض، فيأخذ منه على طريق الاستدلال أشياء يحتاج إليها في تقدمة المعرفة بما هو كائن وفي وجود العلاج الصواب، ويستعمل جميع ما يستخرج بالتجربة ويضيف إليها أشياء كثيرة تستخرج بطريق القياس.

وسندلّ في كتاب غير هذا أيّ الأشياء يوجد بكلّ واحدة من هتين الآلتين أعني التجربة والقياس. وأمّا الآن، فغرضي أن أذكر أيّ حال يحدث في البدن من كلّ واحد من الأسباب البادئة، حتّى تلتهب منه حمّى.

٤ وقد نرى أنّ توّلد الحرارة وتزيّدها ليس يكون بطريق واحد، وكذلك نجد الأمر في النار، لكنّا نرى الحرارة إمّا من قبل حركة، وإمّا من قبل عفونة، وإمّا من قبل ملاقاة حرارة أخرى لها، وإمّا من قبل احتقان شيء حارّ يتحلّل، وإمّا من قبل مخالطة جوهر آخر حارّ لها، كأنّها من ينبوع تفور، إمّا أن تتوّلد عند حسّنا، وإمّا أن تتزيّد. فيجب ضرورة أن تضاف أسباب الحمّى إلی هذه الطرق التي ذكرنا.

من ذلك أنّ الحرارة المؤذية التي يقبلها البدن من الشمس وغيرها من كلّ حرارة يكتسبها، هي حرارة خارجة من الطبيعة، وليست بحمّى ما دامت لم تسخّن القلب. وهذا الجنس كلّه من الأسباب يكون من ملاقاة الشيء المسخّن، كان ذلك شمساً أو ناراً أو دواء حارّاً يلقى البدن من خارج، وسواء عليّ متى قلت يلقي، أو يماسّ، أو يدنو، أو يلاقي، أو يلامس، أو كيف شئت أن تقول.

فأمّا الغضب، فكأنّه غليان أو حركة شديدة من القوّة الغضبيّة المغروزة في جرم القلب، ويسخّن بسخونة القلب أحياناً جوهر الروح، وأحياناً جوهر الدم أيضاً. وإن اتّفق أن يكون هذان الجوهران مستعدّين متهيّئين لقبول تلك

الحرارة والتمسّك بها مدّة طويلة، فإنّ حركة القلب تلك وإن سكنت، بقي ذانك حارّين حرارة خارجة من الطبيعة، ويجب عند ذلك أن يحمّ صاحب تلك الحال.

فهذه الحمّى إنّما أصلها وابتداؤها حركة الحرارة الغريزيّة وغليانها. وأمّا الحمّى التي تكون من الحزن والغمّ، فليس أصلها وابتداؤها غليان الحرارة الغريزيّة، لكن حركتها فقط. وأمّا الحمّى التي تكون من الإعياء، فأصلها أيضاً وابتداؤها فضل حركة تكون من العضل والعصب والرباطات والمفاصل. فإنّ هذه الأعضاء هي التي تسخّن عند التعب أوّلاً، ثمّ إنّ الحرارة تسعى وتتأدّى من هذه الأعضاء إلی القلب لاتّصال الأعضاء بعضها ببعض، وعند ذلك تكون الحمّى.

وأمّا الحمّى التي تكون من تكاثف الجلد واستحصافه مثل الحمّى التي تعرض خاصّة كثيراً لمن برد جلده أو تقبّض من شيء قابض، فإنّما تكون من قبل اجتماع الشيء اللذّاع الذي كان يتحلّل من البدن فيه. فإنّ جميع أبدان الحيوان تتنفّس دائماً على وجهين، أحدهما أنّ الفضول البخاريّة والدخانيّة التي تتولّد فيها تتحلّل وتخرج من البدن دائماً، والآخر أنّه يجتذب إلی داخل البدن شيء من جوهر الهواء، فيبرّد ويروّح الحرارة الطبيعيّة.

فإذا لقي البدن سبب من الأسباب قويّ وكثّف الجلد وضمّ تلك المسامّ

التي يكون بها ذلك التنفّس والتحلّل، فإنّه ربّما اجتمع من ذلك في البدن امتلاء، وذلك يكون إذا كان ذلك الشيء الذي كان يتحلّل من البدن فاحتقن بخاراً صالحاً عذباً. وربّما حدثت من ذلك حمّى، وذلك يكون إذا كان ذلك الشيء الذي كان يتحلّل من البدن فاحتقن بخاراً لذّاعاً، وعند ذلك خاصّة يكون ممّا يزيد في الحرارة تعذّر اجتذاب ما يجتذب إلی داخل البدن من الهواء ليبرّد من حرارته.

وإنّما يكون الفضل الذي يتحلّل من البدن لذّاعاً فيمن كان دمه بالطبع رديئاً، أو يأكل أطعمة رديئة، أو يتخم كثيراً، وخاصّة متى كان الماء الذي يشرب على هذه الأطعمة ماء عكراً من ماء النقائع ومواضع الحمأة أو من ماء الآجام والغياض أو من أيّ ماء كان بعد أن يكون فاسداً عفناً. وكذلك أيضاً يكون ما يتحلّل من البدن فيمن يسرف في التعب أو في الاهتمام أو في السهر أو يديم تناول بعض الأدوية الحادّة.

وأعني بالأطعمة الرديئة الأطعمة التي هي في طبعها كذلك مثل البصل والثوم والحرف والكرّاث والكرنب والباذروج والقرّيص وسائر البقول التي تسمّى البرّيّة مثل هذا الخردل البرّيّ الذي ينبت عندنا، والأطعمة التي هي في طبعها محمودة، إلّا أنّها إذا نالتها عفونة، صارت بها إلی حال مساوية في

الرداءة لحال تلك الأول التي ذكرنا وأزيد منها مثل الحنطة والشعير وسائر الحبوب إذا عتقت، حتّى تصير إلی حال العفونة، أو عرض لها التكرّج من قبل سوء خزنها، أو نالتها آفة في أوّل تولّدها من شوب أو يرقان أصابها.

فقد اضطرّ قوم كثير في زماننا هذا إلی أن أكلوا أشباه هذه من الأطعمة بسبب جدب، فمنهم من مات، ومنهم من عرضت له حمّيات عفونة ووباء، ومنهم من عرضت له بثور من جنس الجرب والعلّة التي يقال لها التقشّر. فمتى كان البدن مملوءاً من هذه الأخلاط، ثمّ لم يكن في شيء من الأحشاء شيء من السدد أصلاً، ولم يكن مانع يمنع البدن كلّه من التنفّس والتبرّد بمسامّ الجلد، فإنّه يبقى صحيحاً، إلّا أنّ صحّته تكون غير وثيقة ولا مأمونة بل قريبة من الخطر. ومتى كانت حال البدن تلك الحال، ثمّ استحصف سطحه الخارج أو عرضت له سدد في مجاريه الباطنة، فإنّه يعرض له من استحصاف الجلد هذا الجنس من الحمّى الذي ذكرته، ويعرض له من السدد الجنس من الحمّى الذي أنا ذاكره بعد قليل.

فليس إذاً بعجب أن يكون بعض من يتخم يحمّ، وبعضهم لا يحمّ. وذلك أنّ من كان دمه رديئاً وليس يتنفّس بدنه ويتحلّل على ما ينبغي، وكان

يتعب في غير وقته ويعجل في الدخول إلی الحمّام، فإنّ الحمّى تسرع إليه. وأمّا من كان دمه دماً جيّداً محموداً وبدنه يتنفّس ويتحلّل على ما ينبغي، ويستعمل إذا عرضت له التخمة السكون وإسخان نواحي المعدة والكبد، فليس يمكن أن يحمّ. وذلك أنّ الشيء الذي قد فسد يبقى كلّه هناك وينضج على طول المدّة قليلاً قليلاً، حتّى يصير جيّداً محموداً.

فأمّا من استعمل بعد التخمة حركة قويّة أو تعرّض لشمس حارّة صيفيّة أو لحمّام أو لاستحمام بماء حارّ، فإنّ ذلك الشيء الذي قد فسد ينتشر ويتفرّق كلّه في بدنه. وكذلك أيضاً من خرج منه من أسفل ذلك الطعام الذي قد فسد، فإنّه لا تلحقه حمّى، إلّا أن تعرض له بسبب آخر مثل إعياء يصيبه من كثرة القيام والترداد، أو من به ورم يحدث فيما يلي المعدة.

٥ وأمّا عند انسداد المجاري واغتصاص الأخلاط، فقد أخّرت القول في ذلك إلی هذه الغاية، فإنّه تعرض لصاحبها حمّى العفونة، لأنّ كلّ شيء حارّ رطب يكون في موضع حارّ، ثمّ يعدم التنفّس والتبرّد، فإنّ العفونة تكون إليه أسرع شيء. فليس إذاً بعجب أن تكون الحمّيات تتبع الامتلاء، لأنّ البدن في تلك الحال تكثر فيه السدد ويعسر تنفّسه وتحلّله، وعنيت بالامتلاء في هذا الموضع كثرة الأخلاط بقياس العروق.

فأمّا الجنس الآخر من الامتلاء، وهو كثرة الأخلاط بقياس القوّة، فإنّه إذاً كان أسرع إلی الأخلاط الفساد، لأنّه ليس لها ما يمسكها وينضجها على ما ينبغي، إذ كانت القوّة التي تنضجها وتصلحها قد ضعفت. ولذلك صارت أيضاً الأطعمة اللزجة الغليظة أحرى بأن تمرض، لأنّ الخلط المتولّد منها أسرع إلی أن يلحج ويغتصّ ويتشبّث في المجاري، فتحدث منه السدد.

فإن قلت: فما بال الأطعمة التي هي ضدّ هذه أيضاً ممرضة، أعني الأطعمة الملطّفة الحادّة؟ فقد نرى المغرقين في استعمال كلّ واحد من هذين الجنسين من التدبير تعرض لهم الحمّيات بالسواء، قلت إنّ ذلك من قبل ما ذكرت قبل من أنّ تلك الأطعمة كلّها رديئة الكيموس. فهذه الأطعمة تكون

سبباً للحمّى من قبل رداءة الخلط المتولّد منها، والأطعمة اللزجة الغليظة تولّد الحمّى بسبب العفونة.

والأعضاء أيضاً التي ترم إنّما تحدث من قبلها الحمّى بسبب العفونة. وذلك أنّ الفضل الذي ينصبّ إليها إذا لحج وتشبّث واغتصّ فيها، ثمّ كان في طبيعته حارّاً، عفن إذ كان لا يتنفّس. ومتى كان ذلك الفضل الذي انصبّ إلی العضو من جنس المرار المرّ خالصاً، عرضت منه في ذلك العضو حرارة مع ورم يعرف بالحمرة. ومتى كان ذلك الفضل الذي انصبّ إليه من جنس الدم، عرض في العضو الورم الحارّ الذي يسمّيه اليونانيّون فلغموني. ومتى كان مختلطاً منهما، كان الورم شيئاً بين الورمين، ويكون اسمه بحسب الخلط الذي هو أغلب، ويوصف باسم الآخر.

والحمّى تعرض من جميع هذه الأورام بطريق المشاركة. وذلك أنّ العضو إذا سخن، يسخّن بسخونته دائماً العضو المتّصل به، ولا تزال تلك السخونة تسري حتّى تبلغ إلی القلب. وقد يسخّن أيضاً بسخونة العضو الذي تعرض فيه القروح التي يقال لها الجمر ما يتّصل به، وتلك القرحة تكون من دم قويّ الحرارة، إلّا أنّه مائل إلی السواد بسبب احتراقه.

٦ وأمّا سخونة الهواء المحيط بالأبدان مثل السخونة التي تعرض فيه عند طلوع الشعرى العبور، فإنّها تسخّن القلب خاصّة بما يصل إليه منها في الهواء الذي يدخل في التنفّس بغير متوسّط. وإذا كان الهواء أيضاً محيطاً بالبدن كلّه، فإنّه يسخّنه بأسره، وخاصّة العروق الضوارب منه، إذ كانت معما ينالها من حرّ الهواء الحارّ قد تجتذب من نفس جوهره شيئاً إليها. ويجب ضرورة أن يستحيل القلب باستحالة جميع تلك الأعضاء، حتّى إذا أفرطت عليه تلك الحرارة، صارت فيه أوّلاً الحال الحمّائيّة، ثمّ أدّاها إلی البدن كلّه.

فأمّا عند حال الهواء التي يعرض منها الموتان، فإنّ الذي يدخل من الهواء بالتنفّس يكون خاصّة سبب الحمّى، وقد تكون بسبب الأخلاط التي في البدن، إذا كانت مستعدّة متهيّئة لقبول العفونة، عند أدنى سبب يكون من الهواء سبباً لابتداء حدوث الحمّى، إلّا أنّ أكثر ذلك إنّما تبتدئ من قبل الهواء

الذي يدخل بالنفس، إذا كان ذلك الهواء قد أفسده بخار عفن خالطه.

وابتداء العفونة يعرض في الهواء إمّا من جثث كثيرة من جثث الموتى لم تحرق كما قد يعرض في الحروب، وإمّا من بخار يرتفع من نقائع أو من آجام

في وقت صائف. وربّما كان ابتداء الأمر من حرارة مفرطة تكون في الهواء مثل ما عرض في الموتان الذي حدث على أهل أثينا الذي قال فيه ثوقيذيذس إنّهم أووا إلی أخبئة مختنقة ومدة في وقت صائف، فعرض لهم الموتان. وتكون الأخلاط التي في البدن بسبب التدبير الرديء مستعدّة متهيّئة لقبول العفونة، فيكون من قبل ذلك ابتداء الحمّى الوبائيّة. ولعلّه أن يكون أيضاً جرى في الهواء للاتّصال من بلاد الحبشة إلی الموضع الذي كان فيه أهل أثينا شيء من البخار العفن، فكان سبباً لتولّد الحمّى في الأبدان التي كانت مستعدّة إلی أن تسرع إليها الآفة والضرر منه.

فقد ينبغي أن تكون حافظا لهذا في جميع ما يجري من قولي دائماً أنّه ليس يمكن أن يعمل في البدن شيء من الأسباب دون أن يكون البدن مستعدّاً متهيّئاً لقبول ما يؤثّر فيه ذلك السبب. ولولا ذلك، لكان كلّ من أطال اللبث في الشمس الصيفيّة سيحمّ، وكذلك كلّ من تحرّك فضل حركة، أو غضب أو اغتمّ، ولكان، فيما أحسب، جميع الناس سيمرضون عند طلوع الشعرى العبور، وكان الناس كلّهم سيموتون عند حدوث الموتان، إلّا أنّ الأمر على ما وصفت من أنّ أقوى الأسباب في توليد الأمراض إنّما هو استعداد البدن القابل

للآفة لقبولها. وأنا ضارب لك في ذلك مثلاً لتفهم به ما وصفت من هذا.

فأنزل أنّه قد شاب الهواء شيء من الوباء، وأنّ الأبدان التي يلقاها، منها مملوءة فضولاً من كلّ نوع مستعدّة من أنفسها دون الهواء أن تعفن، ومنها نقيّة لا فضل فيها، وليكن مع ذلك في الأبدان الأول سدد في المجاري في مواضع كثيرة والحال التي يقال لها الامتلاء، وليكن أصحابها مستعملين للخفض والدعة والإسراف في المطعم والمشرب والجماع وما لا بدّ من أن يتبع هذه وهو التخم، وفي الأبدان الأخر النقيّة التي لا فضل فيها، فليكن معما فيها من الخير أن تكون جميع مجاريها حسنة التنفّس ولا سدد فيها ولا ضغط، وليكونوا مستعملين من الرياضة المقدار المعتدل ومن التدبير التدبير المقتصد. فإذا وضعت هذا، فاخطر ببالك ما ينبغي أن يكون من حال كلّ واحد من هذين الصنفين عند دخول ما يدخل من ذلك الهواء العفن بالنفس إلی الأبدان. أتراك لا تعلم أنّ الأبدان التي فيها الفضول منذ أوّل ما يرد عليها ذلك الهواء بالتنفّس تبتدئ فيها العفونة ويبلغ من نكايته فيها كلّ مبلغ؟ فأمّا الأبدان النقيّة التي لا فضل فيها، فمنها ما لا يؤثّر فيه ذلك الهواء أصلاً، ومنها ما يؤثّر فيه أثراً يسيراً حتّى يكون رجوعها إلی الحال الطبيعيّة بأسهل الوجوه وأسرعها.

وكذلك أيضاً متى زال مزاج الهواء عن الحال الطبيعيّة زوالاً مفرطاً إلی

الرطوبة والحرارة، فإنّه يجب ضرورة أن تعرض أمراض وبائيّة، إلّا أنّ الذي يبتلى بتلك الأمراض خاصّة الأبدان الممتلئة من الرطوبة الكثيرة الفضول. فأمّا من يستعمل من التعب المقدار المعتدل ومن التدبير الطريق المقتصد، فإنّه لا يكاد يبتلى بشيء من تلك الأمراض عند جميع تلك الحالات.

وهذا القول قد قلته الآن في شيء واحد لأجعله مثالاً، وهو يصحّ مثل صحّته في هذا في جميع أجناس الأسباب. ومن أحبّ أن يستكمل الارتياض فيه، فليقرأ مقالة جعلتها في الأسباب البادئة. وأمّا أنا، فإنّي الآن إشفاقاً من التطويل أجمل هذا كلّه جملة واحدة أحصره فيها ثمّ أدعه.

فأقول إنّه ينبغي أن ننظر في كلّ واحد من الأسباب بأيّ قوّة يمكنه خاصّة أن يمرض، ثمّ ننظر أيّ الأبدان حالها حال موافقة له وأيّها حالها حال مقاومة له، ونعلم علماً يقيناً أنّ الآفة منه تسرع إلی الأبدان التي حالها حال موافقة له. فأمّا الأبدان التي تضادّه وتقاومه، فبحسب مبلغ قوّة مضادّتها له يكون امتناعها من غلبته عليها وثباتها له.

وإنّي لأعلم أنّه قد كانت حدثت مرّة في الهواء الحال التي وصف بقراط أنّها حدثت بقرانون، فحدث بسببها لكثير من الناس القروح التي تسمّى

الجمر، وكان تولّد تلك القروح وجميع الأعراض التي كانت معها على الطريق الذي وصفه بقراط بعينه. وأعلم أيضاً أنّه حدثت للهواء حال أخرى مثل الحال الوبائيّة التي ذكرها في المقالة الثالثة من كتاب إبيذيميا. فكان جميع ما عرض فيها مثل ما عرض في تلك. وكانت جملة تلك الأشياء التي حدثت كما قد دلّ على ذلك بقراط العفونة، ولمّا تقدّمت فعلمت ذلك، بادرت منذ أوّل ما ابتدأت تلك الحال في الهواء، فتفقّدت الأبدان، فما كنت أراه منها رطباً، فإنّي كنت ألتمس تجفيفه بكلّ وجه أقدر عليه، وما كنت أجده منها يابساً، فإنّي أحفظه على طبيعته الأولى، وما كنت أجد فيه منها فضولاً، فإنّي كنت أداويه بالاستفراغ بالإسهال والقيء، وكنت أتلطّف لتفتيح السدد التي في آلات البدن، فأجلوها وأنظّفها.

إلّا أنّ هذه الأشياء كلّها سالكة لطريق الحيلة للبرء، وسأشرحها شرحاً أكثر من هذا في ذلك الكتاب. وإنّما ذكرتها في هذا الموضع، لمّا دعاني إليه اتّصال الكلام الذي قصدت لأخبر فيه بالطريق الذي من قبله يعرض السبب الواحد القويّ لأبدان شتّى، فمنها ما يعرض له منه الحمّى، ومنها ما لا يعرض

له منه ذلك، وهو أنّ حالات الأبدان حالات مختلفة غير متشابهة، فمنها ما يغلبه ويهزمه ذلك السبب الفاعل سريعاً لاستعداده لقبول الأثر من فعله فيه، ومنها ما هي بعيدة جدّاً من أن يغلبها ويهزمها ذلك السبب.

ورمت أن آتي بالبرهان على هذا القول، فاضطررت إلی ذكر المداواة. فعرض لي من ذلك ما عرض لبقراط حين قال في بعض المواضع في كلام شبيه بهذا ذلك القول المشهور وهو قوله: ويدلّ على ذلك برؤه.

٧ والطريق الذي يتقدّم فتحفظ به الأبدان من وجه ما مداواة وتأتٍّ للبرء. ولذلك قد نجد الأسماء التي يسمّى بها كلّ واحد من هذين الطريقين مختلطة في كثير من كلام الأطبّاء. وإنّما قلت إنّ الطريق الذي يتقدّم به في حفظ الأبدان هو من وجه ما طريق المداواة والتأتّي للبرء من قبل أنّ كلّ فعل يفعله الطبيب كما قد بيّنت في كتاب غير هذا، إنّما هو تأتٍّ لإصلاح آفة قد نالت البدن. وليس نحتاج في هذا الكلام إلی هذا التدقيق كلّه.

وذلك أنّك إن قسمت جميع ما يفعله الطبيب في البدن قسمين وسمّيتهما باسمين مختلفين، أعني الحفظ والمداواة، أو جمعت ذلك فصيّرته شيئاً واحداً وسمّيته باسم واحد، أعني باسم المداواة، فإنّ حال الأبدان التي امتنعت من أن تنالها تلك الأمراض العامّيّة الحادثة الوبائيّة ليست بدليل يسير على أنّ الأبدان ليس يعمل فيها السبب الواحد عملاً سواء. وذلك أنّ الغرض الأوّل الذي يعمّ جميع من يمتنع من قبول الآفة من ذلك السبب هو أن يكون البدن نقيّاً من الفضول غاية النقاء، حسن التنفّس والتحلّل. والغرض الثاني في ذلك أن يكون البدن يقدر أن يقاوم ذلك السبب الذي قد قوي. فأمّا الأبدان التي هي على ضدّ ذلك، فهي أسرع الأبدان إلی قبول الآفة وأكثرها وقوعاً في

المرض.

ولأنّي ذكرت الحمّيات الوبائيّة، وجميع هذه الحمّيات إنّما تكون من العفونة، فقد يجب أن أوقف الكلام في هذا الموضع وأبحث عن قول قاله بعض القدماء، وهو أنّ كلّ حمّى فإنّما تكون من عفونة الأخلاط. فإنّ أثيناؤس أيضاً وشيعته قريبون من أن يروا هذا الرأي، وأولائك قوم معهم معرفة ليست باليسيرة بجميع أنحاء الطبّ وبأمر الحمّيات خاصّة، وأنا موافق لهم في أكثر أمورها ما خلا شيئاً واحداً، وهو أمر الحمّى التي تسمّى حمّى يوم.

وذلك أنّي لست أرى أنّ هذا الجنس من الحمّى يكون من عفونة الأخلاط، لكن الذي تصيبه هذه الحمّى من الشمس، فإنّما تصيبه من قبل أنّ بدنه استحال فسخن من سخونة السبب الفاعل فيه. وأمّا الذي تصيبه هذه الحمّى من غضب، فإنّه يجب ضرورة أن يكون قد حدث في الدم الذي في قلبه غليان، إلّا أنّه لم تنله مع ذلك عفونة، والذي يتعب أيضاً فيكثر، فقد يجب أن تلتهب فيه حرارة خارجة من الطبيعة من غير عفونة الأخلاط، والذي استحصف جلده أيضاً، وقد كان يتحلّل منه فضول حادّة، فإنّ الحمّى إنّما تحدث به لاجتماع تلك الفضول في بدنه من غير عفونة تكون في الأخلاط.

وقد قال أيضاً بقراط إنّ كلّ حمّى تكون مع ورم اللحم الرخو الذي في

الحالبين وغيره ممّا أشبهه، فهي رديئة، إلّا أن تكون حمّى يوم. وأنا موافق في الورم لمن قال إنّ الحمّى إنّما تحدث عنه بسبب العفونة، لأنّ هذا هو السبب في حدوث الحمّى من جميع الأورام الحارّة، لا كما ظّن أراسسطراطس. إلّا أنّه على حال قد يكون من الحمّيات التي تحدث مع ورم اللحم الرخو الذي في الحالبين وغيره ممّا أشبهه ما هو من جنس حمّى يوم، ومن تلك الحمّيات حمّيات تدلّ على أنّ بصاحبها مرضاً ليس بالهيّن، وذلك أنّه يتولّد عن ورم أو قرحة أو دبيلة أو غير ذلك ممّا أشبهه من الأمراض يكون في بعض الأحشاء.

والفرق بين حمّى يوم التي تكون عن ورم اللحم الرخو الذي في الحالبين أو غيره ممّا أشبهه وبين الحمّيات التي تكون من العفونة الحادثة في بعض الأحشاء أو في أعظم العروق وأوسعها تجويفاً، أنّ حمّى يوم التي تكون عن ذلك الورم سببها أنّ الحرارة التي تتولّد في موضع ذلك الورم تسخّن دائماً ما يتّصل به، وتسري تلك الحرارة حتّى تتأدّى إلی القلب، من غير أن يصل إليه معها شيء من بخار ذلك الفضل الذي عفن في موضع الورم، لكن ذلك الفضل يبقى محصوراً في ذلك الموضع، وإنّما تصل حرارته إلی القلب بطريق استحالة ما يتّصل بذلك الموضع من حرارته فقط على الطريق الذي تتأدّى به

الحرارة فيمن تسخّن رأسه الشمس أو يسخّن مفاصله وما يليها التعب، من تلك الأعضاء التي تسخّن أوّلاً بهذين السببين. فأمّا متى كانت العفونة في الأحشاء أو في العروق الكبار، فإنّه يتأدّى إلی بطني القلب شيء شبيه بالدخان من الأخلاط التي تعفن هناك.

والعفونة أيضاً تعرض للفضل الذي في الورم الحادث في اللحم الرخو الذي في الحالب أو في غيره ممّا أشبهه دفعة، حتّى تستولي عليه كلّه بمدّة كان ذلك في يوم واحد أو كان في يومين متّصلين، لأنّ أجزاء ذلك الفضل مجاورة بعضها لبعض دائماً، وهي كلّها محصورة في موضع واحد. فأمّا الأخلاط التي تعفن في الأحشاء وفي العروق الكبار، فمن قبل أنّ تلك الأخلاط تجري دائماً وتعفّن بعفونتها ما تلقاه، فإنّ عفونتها والحرارة المتولّدة عنها تتّصل، ويحدث منها شيء بعد شيء في مدّة أطول.

وبالجملة فإنّ الذي يعرض من هذا في البدن شبيه بما يعرض من خارج لجميع الأجسام التي تسخّن بسخونة خارجة عن طبيعتها من أيّ سبب كان ذلك. فإنّ الشيء الذي يسخّن، إن كان ممّا لا يعفن مثل الحجر أو الخشبة أو غيرهما ممّا أشبههما، فإنّه يبقى على حرارته مدّة ما إلی أن يبرد قليلاً قليلاً،

وإن كان ممّا يمكن أن يعفن، فإنّ حرارته تسعى دائماً من الجزء الذي يسخّن أوّلاً إلی الذي يتّصل به مثل الذي رأيت مرّة في بعض القرى قد عرض في زبل دوابّ وحمام كان مجموعاً في موضع.

فسخّن جزء منه من شمس حارّة أصابته سخونة قويّة، حتّى جعل يرتفع منه بخار كثير جدّاً بمنزلة الدخان يلذّع تلذيعاً قويّاً ويؤذي من دنا منه في عينيه ومنخريه. وكان أيضاً قد بلغ من سخونة ذلك الزبل عند اللمس أنّه كان من أدخل فيه كفّه أو قدمه ولبث فيه فضل لبث أحرقه. إلّا أنّ هذا العارض لم يكن يبقى دائماً، لكنّه كان في غد ذلك اليوم يبرد جميع ما كان من ذلك الزبل قد بلغت فيه الحرارة والغليان بالأمس غاية منتهاها. ثمّ كان الجزء الذي يتّصل بذلك الجزء الأوّل الذي كانت الحرارة لا تزال تتأدّى إليه قليلاً قليلاً في وقت ما كان ذلك الجزء الأوّل في منتهى غليانه، إذا بدأت حرارة ذلك الجزء الأوّل تنتقص، يأخذ هذا الجزء الثاني أيضاً في السخونة والغليان، ثمّ إنّه بعد قليل يبلغ منتهاه من الحرارة، والجزء الأوّل قد برد. ثمّ إنّ حرارة ذلك الجزء الثاني أيضاً كانت تبتدئ في الانحطاط والجزء الذي يتّصل به يتزيّد قليلاً قليلاً حرارة، ثمّ لا يلبث ذلك الجزء الثالث أن يشتعل ويبلغ منتهاه من الحرارة، ويبرد الجزء الثاني.

وكان هذا الدور يكون في قريب من يوم وليلة حتّى يكون مثالاً خاصّاً للحمّى النائبة في كلّ يوم. ولو كان هذا الدور كان في يومين وليلتين، لكان سيكون مثالاً لحمّى الغبّ، ولو كان في ثلاثة أيّام بلياليها، لكان مثالاً للربع، ولو كان في أربعة أيّام، لكان مثالاً للخمس، إن كانت تكون حمّى تنوب في الخامس. فإنّي أنا ما رأيت إلی هذه الغاية هذا الدور رؤية أحقّها ولا دوراً غيره من وراء دور الربع. وسأتكلّم بعد في الحمّيات التي تنوب بالدور.

فأمّا العفونة التي تكون في الأخلاط في جوف العروق، فهي شبيهة بالعفونة التي تكون في الأورام والخراجات والدبيلات، وهي جنسان مفردان، وجنس ثالث مختلط مركّب منهما كثير الأصناف. وذلك لأنّ اختلاف اختلاطهما في تفاضل كلّ واحد منهما على الآخر في الكثرة والقلّة لا يحصى.

فأمّا الجنسان المفرَدان، فأحدهما يكون إذا غلبت الطبيعة، والجنس الآخر يكون إذا غلبت. والذي يكون إذا غلبت الطبيعة في الأورام والخراجات كلّها المدّة، وفي الأخلاط التي في العروق الضوارب وغير الضوارب شيء مناسب للمدّة، وهو الثفل الذي يرسب في البول. وهذا الجنس من العفونة ليس هو

عفونة فقط، لكنّه يشوبه شيء من النضج. وذلك أنّ الخلط الذي كان عفن إنّما يصير إلی هذه الاستحالة، إذا كانت القوّة المنضجة المغيّرة التي في الأوعية باقية ثابتة.

ويكون من العفونة جنس آخر، إذا بلغ من ضعف تلك القوّة المغيّرة، ألّا تؤثّر في ذلك الخلط الذي عفن أثراً محموداً ولا تحيله أصلاً. وذلك ربّما كان إذا كانت تلك القوّة قد صارت إلی غاية الضعف، وإن كانت الرطوبة التي عفنت قليلة الرداءة، وربّما كان والقوّة لم تبلغ إلی غاية الضعف، إلّا أنّ الرطوبة التي عفنت في غاية الرداءة. وعفونة الفضل الذي هذه حاله ليس يكون معها قوامه قواماً واحداً ولا لونه لوناً واحداً ولا رائحته رائحة واحدة، لكن كلّ واحد من هذه الثلاثة يختلف دائماً على حسب جوهر ذلك الفضل الذي عفن. فأمّا تلك العفونة الأخرى التي قلنا إنّه يكون معها نضج، فاستحالة المدّة فيها تكون إلی نوع واحد في اللون والقوام والرائحة.

٨ وإذا غلبت الطبيعة الغلبة الصحيحة، كانت المدّة التي هي في غاية الحسن، وهي التي في منظرها بيضاء ثخينة متشابهة الأجزاء وفي ملمسها ملساء ليّنة وفي رائحتها ليست بالكريهة. وإذا لم تكن غلبة الطبيعة الغلبة الصحيحة التامّة، كان في تلك الاستحالة الجنس الثالث الذي ذكرناه قبيل.

وقد قلنا أيضاً إنّ هذا الجنس كثير الأصناف جدّاً، وذلك أنّ تفاضل قبول الفضل للنضج في الكثرة والقلّة لا تحصى أصنافه. وذلك أنّه ربّما كان قد صار أبيض، إلّا أنّه إمّا منتن وإمّا رقيق في قوامه، وربّما لم يكن مع ذلك أبيض، لكنّه يكون إلی الخضرة والكمودة، وتفاضل أحواله في جميع هذه الوجوه في الكثرة والقلّة بلا نهاية.

وبقدر أصناف العفونة التي توجد في المدّة في الخراجات والدبيلات توجد أصناف الثفل الذي ينحدر مع البول في الحمّيات التي تكون من العفونة. وذلك أنّ أجوده، وهو الذي يكون من الخلط الذي قد عفن، إذا أنضجه العرق الذي يحويه، يكون منه في البول ثفل راسب أبيض أملس مستوٍ

غير كريه الرائحة، وأردؤه هو ما كان في جميع الحالات على ضدّ هذا. فأمّا الذي بينهما، فعلى حسب قربه من أحد الطرفين يكون فضل رداءته أو جودته. وقد وصفت أصناف البول في كتابي في البحران.

وأمّا الحمّيات التي تتولّد من العفونة، فينبغي أن تعلم أنّها غير هذه الحمّيات التي ذكرنا أعني حمّى يوم. وليس يعسر عليك تعرّف هذه الحمّيات، وإن كان قوم قد ظنّوا أنّه ممّا لا يمكن، وقد بيّنت بالفعال ذلك مراراً لا أحصيها كثرة. فتقدّمت إلی من عرضت له هذه الحمّى أن يدخل إلی الحمّام فيستحمّ ويغتذي بغذاء معتدل ويلزم عمله وآمنته من معاودة الحمّى إيّاه. وكان الأمر على ما أنذرت.

وأوّل دلائل هذه الحمّى المعروفة بحمّى يوم أن يكون ابتداؤها من سبب حادث بيّن. ومن عادة جميع الأطبّاء الحداث أن يسمّوا السبب الذي هذه حاله سبباً بادئاً، إلّا أنّ هذا الدليل، وإن كان غير مفارق لهذه الحمّى، فإنّه ليس هو لها خاصّة دون غيرها، لأنّه قد يكون من الحمّيات الأخر ما يكون ابتداؤه عند حدوث سبب من الأسباب الظاهرة.

فأمّا الدليل الذي هو غير مفارق لهذه الحمّى وخاصّ بها دون غيرها، فهو

ظهور النضج في البول منذ أوّل يوم، ومثله أيضاً أن يكون النبض قد تزيّد عظماً وسرعة تزيّداً ذا قدر، ويكون مع ذلك التواتر في الوقفة التي من داخل ناقصاً بقياس العظم والسرعة. وأكثر من هذا خاصّة وأحرى بأن يكون خاصّاً غير مفارق أن يكون انقباض العرق لا يتزيّد سرعة بتّة. فإن تزيّد في بعض الحالات، كان تزيّده يسيراً جدّاً يعسر الوقوف عليه، وخروجه عن الحال الطبيعيّة يسيراً جدّاً، وطيب الحرارة أيضاً ولذاذتها دليل خاصّ غير مفارق لهذه الحمّى.

ومن الدلائل التي لا تفارق هذه الحمّى أيضاً استواء النبض وتزيّد الحمّى من غير تضاغط في الحرارة ولا في النبض، إلّا أنّ هذين الدليلين ليسا بخاصّيّين لهذه الحمّى دون غيرها. وذلك أنّهما قد يوجدان في بعض الحمّيات الأخر، وكذلك أيضاً قلّة عاديّة الحمّى في وقت منتهاها. فإنّ هذا الدليل أيضاً ليس بخاصّ لهذه الحمّى، وإن كان يكون فيها أكثر ممّا يكون في سائر الحمّيات. والأجود أن نجعل هذه الدلائل العامّيّة التي تظهر في حال تزيّد الحمّى ومنتهاها دلائل خاصّيّة لهذه الحمّى التي تعرف بحمّى يوم، من طريق ما هي فيها أكثر منها في سائر الحمّيات.

فإنّا إذا فعلنا ذلك، فإنّه، وإن لم يكن نفس

الشيء دليلاً خاصّاً لهذه الحمّى، فإنّ أحسن ما فيه وأخلصه يكون دليلاً خاصّاً غير مفارق لهذه الحمّى، وكذلك أيضاً انحطاط الحمّى، إذا كان مع عرق أو نداوة أو مع بخار طيّب يتحلّل من البدن، ثمّ أعقب ذلك إقلاع تامّ من الحمّى. وهذا هو الطريق العامّ في تعرّف هذا الجنس من الحمّيات المعروفة بحمّى يوم. فأمّا الطريق الخاصّ في تعرّف صنف صنف من هذا الجنس فسأصفه بعد.

٩ وأمّا سائر الحمّيات التي هي خلاف حمّى يوم، فليس لها اسم يعمّها كلّها، وهي جنسان يخالف كلّ واحد منهما الآخر بفصول ليست بخفيّة. وذلك أنّ من تلك الحمّيات ما يتولّد من عفونة الأخلاط، ومنها ما يتشبّث بنفس أعضاء البدن الثابتة الأصليّة، واليونانيّون يسمّون هذا الجنس من الحمّى باسم مشتقّ من الثبات، وهو أقطيقوس، إمّا من قبل أنّ هذه الحمّى حمّى لها ثبات ولبث يعسر معه انقضاؤها، وإمّا لأنّ تشبّثها بالأعضاء الثابتة الجامدة التي هي أعضاء البدن الأصليّة. وإنّما تنسب هذه الأعضاء إلی الثبات والجمود ليفرق بينها وبين ما في البدن من الأشياء الرطبة التي لا ثبات لها ولا جمود. وأنا واصف لك دلائل هذين الجنسين من الحمّيات ومبتدئ بذكر دلائل حمّيات العفونة.

فأقول إنّ أوّل دلائل هذا الجنس من الحمّى دليل ليس هو بغير مفارق لها، إلّا أنّه خاصّ لها دون غيرها، وهو ألّا يتقدّم هذه الحمّى شيء من الأسباب الظاهرة التي تعرف بالبادئة. فإنّ ذلك ليس هو لواحد من الجنسين الآخرين من قبل أنّ جميع الحمّيات التي من الجنس المعروف بحمّى يوم إنّما يكون من بعض تلك الأسباب. وأمّا الحمّيات التي من الجنس الآخر التي قلنا إنّ اليونانيّين

يسمّونها الثابتة وهي الدقّ، فقد تكون من غير أن تتقدّمها تلك الأسباب، إلّا أنّها متى كانت ولم تتقدّمها تلك الأسباب، فليس تبتدئ هي منذ أوّل الأمر، لكنّه يتقدّمها غيرها من الحمّيات.

فيجب من ذلك أن تعلم، متى رأيت إنساناً قد ابتدأت به الحمّى من غير أن يتقدّمها شيء من الأسباب البادئة، أنّ سبب حمّاه من الأخلاط. وربّما تقدّم سبب من الأسباب الظاهرة، فولّد حمّى هي بحسب عمل ذلك السبب حمّى يوم، ثمّ أعقبت تلك الحمّى حمّى العفونة، وذلك يكون إذا كان البدن مستعدّاً متهيّئاً لحدوث ذلك به، أعني إذا كان غير نقيّ كثير الفضول. وذلك أنّ تلك الفضول تسخّن سخونة أزيد في تلك الحمّى التي هي من جنس حمّى يوم، فتبتدئ بها العفونة من تلك السخونة، فتولّد صنفاً آخر من الحمّى بعد سكون الصنف الأوّل. وأنا واصف لك الطريق الذي يتعرّف به هذا التعاقب.

فأقول إنّ أحد الدلائل الدالّة على ذلك، وهو دليل خاصّ غير مفارق في جميع الحالات، هو أن تكون تلك الحمّى التي من الجنس المعروف بحمّى يوم لا تنتهي إلی إقلاع صحيح. وربّما عرض أن ترى عند منتهى تلك الحمّى التي من جنس حمّى يوم بعض الأعراض الدالّة على انقلابها. وذلك يكون أبين كثيراً عند انحطاط تلك الحمّى، والدليل الذي يستدلّ به على ذلك في تلك

الحال، هو أن يفقد فيها ذلك الدليل الذي وصفته فيما تقدّم، فقلت إنّ الحال في الحمّى التي هي حمّى يوم في وقت انحطاطها أخفّ أحوال سائر الحمّيات في ذلك الوقت.

ومن دلائل حمّى العفونة أن يكون في ابتدائها نافض من غير أن يكون أصاب البدن قبل حدوثها حرّ شمس شديد ولا برد شديد مثل ما يعرض خاصّة لمن يسير في الثلج أو يتعرّض بوجه من الوجوه لبرد شديد ويلبث فيه فضل لبث. وهذا الدليل دليل خاصّ للحمّيات التي تكون من عفونة الأخلاط، إلّا أنّه ليس بغير مفارق لها. وذلك لأنّه ليس يوجد فيها كلّها، وكذلك أيضاً الاقشعرار. فإنّ الاقشعرار أيضاً ليس هو بغير مفارق لهذه الحمّيات، وليس هذا فقط، ولكنّه مع ذلك ليس بخاصّ.

ومن دلائل حمّيات العفونة اختلاف النبض واختلاف الحرارة، وهذا الاختلاف، في ابتداء الحمّى كان أو في وقت تزيّدها، هو دليل خاصّ لهذا الجنس من الحمّيات، إلّا أنّه ليس بغير مفارق، وذلك لأنّه ليس يوجد أيضاً في جميعها. فإنّه قد تكون من هذا الجنس حمّيات كثيرة تبتدئ وتتزيّد إلی أن تبلغ إلی منتهاها من غير أن يكون فيها اختلاف محسوس.

وكذلك أيضاً الحال بل أكثر في أن يكون ابتداء النوبة الواحدة كأنّه

يتكرّر مراراً كثيرة، وفي تضاغط النبض، ومعنى تضاغط النبض فيما جرت به عادة الأطبّاء أن يكون النبض في ابتداء نوبة الحمّى صغيراً جدّاً مختلفاً. فإنّ هذا الدليل أيضاً ليس هو غير مفارق لهذه الحمّيات، إلّا أنّه ليس يعمّ مع هذا الجنس من الحمّيات جنساً آخر غيره، لكنّه خاصّ له دون غيره. وكذلك الحال أيضاً في اختلاف النبض، إذا لم يكن من عارض عرض.

فإنّه كثيراً ما يعرض أن يكون قد اجتمع في فم المعدة خلط رديء فيلذّعه أو يبرّده، فيصير النبض صغيراً مختلفاً. وممّا يميّز به بين ما يبرّد وبين ما يلذّع أنّ صغر النبض الحادث من الشيء المبرّد يكون أكثر واختلاف النبض الحادث من الشيء الملذّع يكون أزيد. إلّا أنّه متى قذف ذلك الفضل الذي في فم المعدة بالقيء، سكن هذان العرضان جميعاً. ومتى لم تكن في فم المعدة علّة، فهذا النبض دليل خاصّ لهذا الجنس من الحمّى الذي كلامنا فيه.

ومن أعظم دلائل حمّيات العفونة كيفيّة الحرارة فيها. وذلك أنّه ليس فيها شيء من الطيب واللذاذة ولا من الهدوء بمنزلة ما يوجد في حرارة الحمّى التي هي من الجنس المعروف بحمّى يوم، لكن حرارة حمّيات العفونة كأنّها بالدخانيّة أشبه، حتّى تؤذي وتقرص اللمس كما يؤذي ويقرص الدخان العينين والمنخرين، وقد سبقني إلی ذكر ذلك منها أفاضل من كان قبلي من

الأطبّاء. إلّا أنّه في ابتداء نوبة الحمّى، من قبل أنّ الحرارة في ذلك الوقت تكون مغمورة، والفضول التي تعمل فيها الحرارة بعد باطنة، لا تدرك منذ أوّل ما تلمس البدن ما وصفنا من أمر تلك الحرارة. فإن طال لبث الكفّ على البدن، ارتفعت الحرارة من عمق البدن وجاءت بذلك النوع الذي وصفنا. وإنّي لأتوهّم على ثاميسن أنّه إنّما ظنّ أنّ هذا الدليل دليل خاصّ غير مفارق لجميع الحمّيات من قبل أنّه وجده في هذه الحمّيات. وسننظر في هذا فيما بعد في الموضع الذي يشاكله من كلامنا هذا.

وأمّا هذا النوع من الحرارة الذي كأنّه ينخس ويقرص اليد كما يفعل الدواء الحرّيف، فإنّما يتولّد من عفونة الأخلاط، وهو يظهر ظهوراً بيّناً في وقت تزيّد نوبة هذه الحمّى وفي وقت منتهاها. فأمّا في ابتدائها، فليس يظهر ظهوراً بيّناً منذ أوّل ما تلمس البدن.

ومن دلائل هذا الجنس من الحمّى الذي يتولّد من عفونة الأخلاط الخاصّيّة له التي لا تفارقه سرعة انقباض العروق، وذلك يظهر ظهوراً أبين في وقت تزيّد نوبة الحمّى، وليس هو بالخفيّ في وقت ابتدائها وفي وقت منتهاها. ويكون معه في وقت ابتداء نوبة الحمّى النبض صغيراً سريعاً وفي وقت منتهاها يكون النبض معه عظيماً سريعاً. وكذلك أيضاً التواتر في الوقفة التي تكون في

النبض من خارج يكون في هذه الحمّيات بيّناً، وليس هو كذلك في الحمّى المعروفة بحمّى يوم ولا في حمّى الدقّ.

ومن أخصّ الدلائل بهذه الحمّى ألّا يظهر فيها في البول للنضج أثر، والأثر الخفيّ الضعيف أيضاً من النضج دليل خاصّ بالحمّيات التي تكون من الأخلاط. وذلك أنّك لا تجد البول في الحمّى المعروفة بحمّى يوم لا عديماً للنضج ولا أثراً للنضج فيه خفيّاً ضعيفاً.

وكلّ واحد من هذين الدليلين، إذا أفرد فقيل على حدته، كان دليلاً خاصّاً للحمّيات التي تكون من الأخلاط، ولا يكون غير مفارق. وإذا قرنا فقيل إمّا ذا وإمّا ذا، صار دليلاً غير مفارق أصلاً. وذلك أنّ الأبوال الأول في هذا الجنس من الحمّيات إمّا أن تكون عديمة للنضج أصلاً، وإمّا أن يكون أثر النضج فيها خفيّاً ضعيفاً. وليس يظهر في وقت من الأوقات أثر عظيم ذو قدر للنضج في الأبوال الأول في هذه الحمّيات بعد أن يخرج عنها ما يكون منها بالانقلاب من حمّى يوم، وقد وصفت ذلك الانقلاب فيما تقدّم.

ومن دلائل هذه الحمّيات التي كلامنا فيها معما وصفنا أن يظهر في وقت منتهى نوبة الحمّى شيء من الأعراض التي تكون في الحمّى المحرقة، أو من أعراض الحمّى التي يحسّ فيها صاحبها بالبرد مع الحرّ معاً التي يسمّيها اليونانيّون إيبيالس، أو من أعراض الحمّى التي تكون فيها في باطن البدن حرارة شديدة وظاهره بارد التي يسمّيها اليونانيّون ليفورياس، أو من أعراض الحمّى التي يسمّيها اليونانيّون إيميطريطاؤس وهي شطر الغبّ، أو من أعراض الحمّى المعروفة باللثقة، أو من أعراض غير ذلك من أشباه هذه الحمّيات.

وهذه الأعراض هي أعراض خاصّيّة لهذا الجنس من الحمّيات التي تكون من عفونة الأخلاط، إلّا أنّها ليست غير مفارقة. ولذلك متى لم تكن حاضرة، فالتعرّف يكون بغيرها، فمتى كانت حاضرة، فهي تدلّ على هذا الجنس من الحمّيات وتدلّ مع ذلك أيضاً أيّ نوع تلك الحمّى من أنواع هذا الجنس. وانحطاط الحمّى أيضاً، إذا لم يؤل إلی إقلاع من الحمّى، كان ذلك مع عرق أو لم يكن، فليس يخلو الأمر من أحد شيئين، إمّا أن يكون ذلك دليلاً خاصّاً لانقلاب الحمّى، إن كانت الدلائل التي تقدّمت كلّها دلائل حمّى يوم، وإمّا أن تكون تلك الحمّى بعض الحمّيات التي تكون من الأخلاط قد ابتدأت منذ أوّل

الأمر، إن كانت تلك الدلائل لم تتقدّم.

ومتى وجدت النبض في اليوم الأوّل من الحمّى صلباً، فينبغي أن تنظر هل ذلك من جمود حدث في البدن من برد، أو من يبس، أو من تمدّد من جنس التشنّج، أو من ورم من بعض الأورام الحارّة أو الصلبة، وتعلم علماً يقيناً أنّه إنّما يصير النبض صلباً من هذه الأسباب فقط.

فقد بيّنت بياناً كافياً في كتابي في النبض خطاء أرخيجانس فيما يفهم من معنى النبض الصلب وما يستدلّ به عليه، ولا بدّ للناظر في كتابي هذا من معرفة ما وصفت في ذلك الكتاب، وخاصّة في المقالات الأربع التي وصفت فيها تعرّف أصناف النبض. فإنّي قد أفردت لأسماء أصناف النبض والمعاني التي تدلّ عليها تلك الأسماء كلّها ولإحصاء عدد جميع أصناف النبض أربع مقالات جعلت عنوانها في أصناف النبض، ووصفت كيف ينبغي أن يتعرّف كلّ واحد من تلك الأصناف في أربع مقالات أخر جعلت عنوانها في تعرّف أصناف النبض، ووصفت في أربع مقالات بعدها أسباب حدوث تلك الأصناف من النبض وجعلت عنوانها في أسباب النبض، ووصفت في أربع مقالات بعد تلك تقدمة المعرفة التي تكون بالنبض، ولم أقتصر على تبيين منفعة ذلك العلم بالكلام دون أن بيّنتها بالفعال أيضاً.

ومن حضرني عند المرضى، وأنا أبيّن صحّة ذلك العلم الذي وصفته في كتبي بالفعال، فإنّه قد صدّق بجميع ما وصفت، وبأنّ النبض الصلب ليس بخاصّ ولا بغير مفارق للحمّيات. إلّا أنّه ليس هذا وقت الكلام في ذلك، لأنّي قد بيّنت جميع هذه الأشياء بياناً كافياً في تلك المقالات التي ذكرت وفي ثماني مقالات أخر امتحنت فيها قول أرخيجانس في كتابه في النبض. وأمّا الآن، فإنّي أذكر ما ينتفع به فيما نحن نعرضه.

فأقول إنّ النبض الصلب ليس بخاصّ ولا غير مفارق لواحد من أجناس الحمّيات، لا للجنس المعروف بحمّى يوم ولا لجنس حمّى الأخلاط ولا لجنس حمّى الدقّ. إلّا أنّه أكثر ما يوجد مع حمّى الدقّ، وربّما وجد مع الجنسين الآخرين بسبب عارض يعرض معهما، أمّا في الحمّى التي تعرف بحمّى يوم، فإذا كانت أنمّا حدثت من برد شديد، أو كان مع تلك الحمّى تمدّد في العصب، وربّما كان ذلك فيها بسبب نكاية شديدة من حرّ الشمس، أو بسبب إعياء، أو بسبب إقلال من الطعم، أو بسبب سهر مفرط، أو بسبب استفراغ، إذا كانت هذه الأشياء أيضاً بعد إقلال من الطعم. وأمّا في الحمّيات التي تكون من عفونة الأخلاط، فيكون النبض الصلب، إذا كان قد حدث معها ورم أو جساوة في بعض الأحشاء، ويكون أيضاً النبض الصلب فيها من عارض يعرض

معها مثل تمدّد يكون في العصب أو يبس، ويكون أيضاً من شرب ماء بارد في غير وقته أو استحمام به، أو من الإكثار من أكل بعض الفواكه.

فأمّا من نفس الحمّى من طريق ما هي حمّى، فليس يكون النبض في حال من الاحوال صلباً، لا في الحمّى المعروفة بحمّى يوم، ولا في حمّيات العفونة. فإنّه وإن حدثت الحمّى من ورم، فكان النبض صلباً، فليس حدوث الحمّى وحدوث صلابة النبض يكونان من طريق واحد، لكن الحمّى تكون بسبب عفونة الأخلاط، وصلابة النبض تكون بسبب تمدّد العروق من قبل امتلائها.

وبالجملة، فإنّي أقول إنّ الصلابة إنّما تحدث في صفاقات العروق الضوارب، إمّا من قبل جمود، وإمّا من قبل تمدّد، وإمّا من قبل يبس. والجمود يفعله البرد القويّ، والتمدّد يفعله الورم والجساوة والعلل المناسبة للورم الكائنة في العصب، واليبس يفعله الاستفراغ المتقادم بالذرب أو بزلق الأمعاء أو باختلاف الدم أو بالقيء الدائم أو بغير ذلك ممّا أشبهه، والجوع إذا طالت مدّته، والحمّيات المحرقة إذا طالت، وفي جملة القول، كلّ حمّى تجفّف نفس الأعضاء الجامدة تجفيفاً شديداً مثل ما تفعل أيضاً حمّيات الدقّ التي قد ينبغي الآن أن نأخذ في الكلام فيها ونفتتح ذلك بصفة تولّدها.

١٠ فأقول إنّ حمّيات الدقّ تتولّد على وجهين، أحدهما، وهو يكون في أكثر الأمر، أن تكون هذه الحمّى تحدث بعقب حمّيات محرقة قد طال لبثها، حتّى أفنت على طول المدّة رطوبة جرم القلب أو أحرقت منها شيئاً، وبقيت منها بقيّة صالحة القدر. الأولى من هتين ليست من حمّيات الدقّ فقط، لكنّها مع ذلك من جنس الذبول. وأمّا الثانية التي تكون وقد بقيت من رطوبة جرم القلب بقيّة صالحة، فإنّها تتشبّث بجرم القلب وتشتعل فيه كما تشتعل نار السراج في فتيلته. وهذه إحدى جهتي تولّد هذه الحمّى.

وأمّا جهة تولّدها الأخرى، فهي أن تبتدئ منذ أوّل الأمر من غير أن تتقدّمها حمّى أخرى، ويكون أوّل حدوثها بمنزلة حدوث الحمّى المعروفة بحمّى يوم من غمّ أو غضب أو إعياء شديد كان من تعب في شمس حارّة. وهذه الحمّيات ليست ممّا تعسر مداواته. فأمّا من يصير منها إلی حال الذبول لقلّة معرفة من يدبّره من الأطبّاء، فليس يمكن مداواته، فضلاً عن أن يكون ممّن تسهل مداواته، أعني إذا كان قد صار إلی حمّى الذبول بالحقيقة والكمال وليس هو منها بعد في أوائلها.

وطبيعة حمّى الذبول حارّة يابسة وينال القلب فيها بمنزلة ما تنال فتيلة

السراج، إذا احترقت احتراقاً شديداً. فإنّ الفتيلة التي قد بلغ منها الاحتراق هذا المبلغ تتفتّت وتنحلّ ويذهب اتّصالها بعدمها للتماسك، حتّى لا يمكن، وإن صببت عليها من الزيت أيّ مقدار شئت، أن تشتعل منها نار كثيرة، لكن لا تزال تلك النار الصغيرة الضعيفة تضطرب وتزداد قلّة إلی أن تطفأ.

وهذه هي حال حمّى الذبول الصحيحة، وليس هذا المرض هو العارض الذي يقال له الذبول، لأنّ ذلك العارض يعرض للشيخ الفاني من غير حمّى بسبب خمود حرارته الطبيعيّة وانطفائها، وهذا الموت خاصّة هو الموت الذي يكون بلا أذىً وعلى المجری الطبيعيّ ويحدث من قبل اليبس. وكذلك الحال أيضاً في النوع الآخر من الذبول الذي يعرض لقوم على خلاف المجری الطبيعيّ، وهو النوع من الذبول الذي يسمّيه فيلبس الهرم الحادث من المرض الذي قد رأينا كثيراً ابتلوا به ليس من الكهول فقط، لكن من الصبيان فضلاً عن غيرهم. فأمّا حمّى الذبول، فليس العارض فيها يبساً فقط، لكنّه يبس مع حرارة. وقد تطفأ في هذه العلّة أيضاً الحرارة التي في بدن الحيّ انطفاء أسرع كثيراً ويذبل البدن كلّه بمنزلة الشجرة التي تجفّ، فتبلغ الغاية القصوى من الجفوف، إمّا بسبب طول مدّتها، وإمّا بسبب نار تجاورها، وإمّا بسبب يبس قويّ مفرط يغلب على الهواء. وقد وصفت الحال كلّها في الذبول كيف هي في مقالة أفردتها فيه.

١١ وأمّا حمّى الدقّ، فهي صنفان، كما قد لخّصت قبيل. فأنا آخذ في صفة طريق تعرّف هذين الصنفين. فأقول إنّ حمّى الدقّ التي تعرض مع الذبول هي من أسهل الحمّيات وأقربها تعرّفاً. وذلك أنّك من قبل أن تجسّ العرق وتلمس البدن لتعرّف حرارته، ترى العينين غائرتين جدّاً كأنّهما في حفرتين، من قبل أنّ الجوهر الرطب الذي كان فيهما قد نفد كلّه، حتّى ترى حروف العظام التي تتّصل بها الجفنان ناتئة. وترى في العينين رمصاً يابساً وحالاً من اليبس أشبه شيء بحال من قد سار في غبار نهاره كلّه في شمس حارّة. ويذهب أيضاً عن لونهما نور الحياة، وذلك يعرض أيضاً في الوجه كلّه، وترى في الجلدة التي على الوجه كلّها يبساً مفرطاً، وخاصّة في جلدة الجبهة، حتّى تجدها ليبسها صلبة متمدّدة. وترى صاحب هذه الحال لا يقدر أن يقلّ جفنيه على ما ينبغي، لكن حاله دائماً شبيهة بحال الناعس، وتجده أيضاً في أكثر الحالات مغمض العينين، كأنّه نائم. وليس ما يعرض له من ذلك بنوم، لكنّه إنّما هو ضعف وعجز من الانتباه. وتجد اللحم الذي في الصدغين قد ذاب، حتّى ترى

مواضعهما لاطية غائرة.

فما بدن صاحب هذه الحال كلّه شيء سوى العظام والجلد؟ حتّى إن عرّيته وتأمّلت بطنه، توهّمت أنّه لم يبق من أمعائه ولا من أحشائه شيء، وترى ما دون الشراسيف منه قد انجذب إلی فوق إلی ناحية الصدر انجذاباً شديداً. وإن آثرت أن تلمسه، وجدت الجلد منه قحلاً في غاية القحل، وإن أخذت موضعاً منه بأصابعك فمدّدته إلی فوق، بقي قائماً بمنزلة الجلود المدبوغة. ووجدت نبضه دقيقاً صلباً ضعيفاً متواتراً. ووجدت حرارة بدنه في أوّل ما تضع عليه كفّك ضعيفة، ثمّ إنّك بعد قليل تتبيّن منها الحدّة والقرص، ولا سيّما إن أطلت مدّة اللمس. وما بي حاجة بعد هذا إلی ذكر سائر الدلائل في هذه العلّة، إذ كان أمرها من البيان على ما وصفت. والأجود أن أقبل على الذبول الذي هو بعد في حال ابتدائه.

فأعني بالذبول الذي هو في حال ابتدائه، إذا كانت الرطوبة الغريزيّة المبثوثة في كلّ واحد من الأجسام في مواضع الخلل الذي فيما بين الأجزاء المتشابهة التي منها تغتذي تلك الأعضاء بلا توسّط قد أشرفت على أن لا تكون موجودة في جرم القلب. وذلك أنّه ما دام شيء من تلك الرطوبة باقياً،

فإنّ الحمّى إنّما هي حمّى دقّ فقط، وليس معها بعد ذبول. فإذا أشرف القلب على ألّا يكون بقي فيه شيء من تلك الرطوبة أصلاً، فإنّه قد حلّ به الذبول الصحيح.

والحال في حمّيات الدقّ كلّها حال صعبة، إذا كانت قد جاوزت مدّة ابتدائها. ولست أحدّ ابتداءها بعدد من الأيّام أو من الساعات، كما لست أفعل ذلك في سائر الأمراض، لكنّي إنّما أحدّه بكيفيّة الحال. وذلك أنّ البدن في أوّل زواله وخروجه عن اعتدال مزاجه الطبيعيّ لا تكون رطوبته بعد نفدت ولا قوّته ضعفت، لكنّه إنّما يحدث له أوّلاً كالغليان في رطوبته، وفي ذلك الوقت تكون هذه الحمّى أسهل ما تكون علاجاً، لأنّ الآفة بعد لا تكون نالت القوّة. ثمّ من بعد، فإنّ تلك الرطوبة تأخذ في الفناء من ذلك الغليان ولا يزال ذلك يتزيّد، حتّى تصير الأجسام المتشابهة الأجزاء التي منها تركيب القلب أجفّ ممّا كانت وأهزل، وتضعف القوّة بحسب مقدار ما غلب على القلب من اليبس والحرارة، وقد كان يكفي أن يغلب أحدهما حتّى تضعف القوّة.

وهذه الحمّى متوسّطة بين حمّى الدقّ التي معها ذبول التي لا تبرأ بتّة، وبين حمّى الدقّ التي وصفتها قبيل التي هي في حال ابتدائها، وهي أسهل ما

تكون منها علاجاً وأسرع برءاً. ولها في ذلك أيضاً عرض كثير جدّاً، لأنّ الحال فيها ليس التفاضل في الأكثر والأقلّ فيها بيسير. فالحمّى التي بعدها من كلتي الحمّيين بعداً سواء، أعني من الحمّى التي معها ذبول صحيح ومن الحمّى التي ليس معها بعد شيء من الذبول أصلاً، هي أيضاً كأنّها متوسّطة في البرء، وميلها إلی كلّ واحد من الجانبين بين الخوف والرجاء. والحمّى التي هي إلی حمّى الذبول أقرب، فإنّها قريبة من الخطر، وكذلك أيضاً الحمّى التي هي قريبة من الحمّى الأولى، الرجاء فيها قويّ. وينبغي الآن أن نقبل على صفة دلائل هذه الحمّيات، ونذكر أوّلاً دلائل الحمّى التي هي منها سهلة سريعة البرء، إلّا أن يقع صاحبها في يد واحد من أطبّائنا هؤلاء الكثيرين.

وهذه الحمّى، متى كانت مفردة وحدها، لم يعسر تعرّفها، ومتى تركّب معها شيء من الحمّيات التي تكون من عفونة الأخلاط، عسر الوقوف عليها لموضع الاختلاط. فأنزل أوّلاً أنّها حدثت وحدها مفردة من بعض الأسباب التي ذكرتها قبل، وأنّه ظهر في أوّل يوم من الحمّى جميع الدلائل التي تدلّ على الجنس من الحمّى المعروف بحمّى يوم. وقد يظهر مع هذه الحمّيات منذ أوّل أمرها إمارات تدلّ على السبب البادئ الذي منه حدثت، وسنبيّن ذلك أيضاً فيما يستأنف من القول.

وقد يمكنك أيضاً أن تسائل العليل فتعلم، إن كان لا ينكر شيئاً من جميع أحواله، ثمّ حدث له غضب شديد أو غمّ أو غيره ممّا أشبهه، فحدثت به الحمّى من قبل ذلك فقط. فإن رأيت الأمر على هذا من الحال، ورأيت الحمّى قد دامت بصاحبها في اليوم الثاني وليست تسكن فتقلع، ولا تشتدّ فتقوى، ورأيت البدن أزيد يبساً وجفوفاً، فاتّهم تلك الحمّى بأنّها تؤول إلی الدقّ.

فإن بقي أيضاً على ذلك إلی اليوم الثالث وآثر أن يمسك عن الطعام إلی أن يجوز الأوقات التي يتوقّع فيها حدوث النوبة الكائنة غبّاً، فرأيت الحمّى لم تزدد ولم تنتقص زيادة أو نقصاناً ذا قدر، لكن رأيت بقايا الحمّى الأولى تلك اليسيرة قد امتدّت ودامت مع يبس وجفوف من البدن، ووجدت الحرارة في أوّل ما تضع كفّك على البدن هادئة ليّنة، فإذا طال لبث كفّك على البدن، أحسست منها بحدّة ولذع ويبس، فاعلم أنّ تلك الحمّى حمّى دقّ.

وأعظم دليل يستدلّ به على طبيعة هذه الحمّى وأبعده من الشكّ دليل يظهر لك، إذا غذوت المريض بعد أن يجوز جميع الأوقات التي تتوقّع فيها لحمّاه نوبة، وهو أنّه بعد أن يتناول المريض الغذاء بساعة أو ساعتين، يصير إلی حال يتوهّم عليه معها جميع من يلمسه، أنّه قد حدث له في حمّاه تزيّد.

ويكون من أناله ذلك الغذاء غير بعيد من أن يلومه لائم على أنّه غذّاه في غير وقته، وأنّه إنّما غذّاه في وقت نوبة حمّاه، وأنّه كان ينبغي له أن يؤخّر غذاءه مدّة أكثر، وأنّ نوبة حمّاه تأخّرت. وليس الأمر كذلك.

لكن هذا أمر خاصّ غير مفارق لجميع من به حمّى الدقّ، أن يكون، إذا تناول الغذاء، تلتهب به الحرارة ويقوى ويتزيّد نبضه عظماً وسرعة، حتّى يظنّ من رآه أنّه حدث له في حمّاه ابتداء نوبة ليس معها تضاغط. وأعني بقولي ليس معها تضاغط، إذا لم يكن مع النوبة اقشعرار، ولا برد في الأطراف، ولا حال سبيهة بالميل إلی النوم، ولا كسل بيّن، ولا اختلاف أصلاً في الحرارة ولا في النبض، ولا صغر في النبض ولا ضعف، ولا شيء من أشباه هذه الأعراض أصلاً، لكن يصير النبض عظيماً سريعاً أعظم وأسرع ممّا كان، كما يصير في غير من هذه حاله إذا اغتذى.

وقد يكون في بعض الحالات في غير الدقّ من الحمّيات تزيّد من الحرارة من غير تضاغط. وبحسب هذا قد يتوهّم المتوهّم أنّ هذا العارض ليس هو بخاصّ غير مفارق لحمّى الدقّ. إلّا أنّ الفرق بين ما يعرض منه في الدقّ وبين ما يعرض في غيرها ليس باليسير، إذا نظرت في جملة الدلائل التي وصفنا كلّها. وذلك أنّ ابتداء النوائب التي تكون على هذه الصفة في سائر جميع الحمّيات

إنّما يكون من غير أن يكون من تحدث به تناول الغذاء.

وهذا الذي يعرض من تزيّد الحرارة في حمّى الدقّ على ضدّ ذلك كلّه، إذ كان ليس يعرض فيها إلّا بعد تناول الغذاء، وليس يحدث لهذه الحمّى في وقت من الأوقات نوبة، لكنّها دائمة متّصلة مثل الحمّى التي تسمّى خاصّة الحمّى المطبقة، ويسمّيها بعض اليونانيّين سونوخس. إلّا أنّه يلقى الكفّ في تلك الحمّى من الحرارة شيء شبيه بلهيب نار كثيرة، ويكون مع ذلك النبض على أعظم ما يكون وأسرعه وأشدّه تواتراً. فأمّا حمّى الدقّ، فليس يلقى الكفّ منها حرارة كثيرة، ويكون النبض فيها أصغر وأبطأ وأشدّ تفاوتاً من النبض في الحمّى المطبقة بحسب نقصان حرارتها عن حرارة تلك.

١٢ ويعمّ جميع حمّيات الدقّ أن تكون ضعيفة دقيقة مستوية دائماً منذ أوّل ابتدائها إلی آخر انقضائها. ويخصّ ما يكون منها مع الذبول اليبس. فقد تكون كثيراً حمّيات من الدقّ ليس معها يبس ولا تنتقل إلی الذبول، كما عرض في هذا الزمان لخلق كثير من الناس في هذا الموتان العظيم الذي حدث.

فحمّيات الدقّ تخالف الحمّيات المطبقة بما وصفت. وأمّا سائر الحمّيات التي تكون فيها نوائب لا يكون معها تضاغط، فتخالفها حمّيات الدقّ بهذه الخلّة خاصّة، وهي أنّ أصحاب تلك الحمّيات الأخر، متى اغتذوا في وقت نوائبها أو قبله بقليل، فلا بدّ من أن يكون مع النوبة تضاغط. وأمّا أصحاب حمّيات الدقّ، فإنّ ما يعرض لهم من الشيء الشبيه بالنوبة التي ليس معها تضاغط، إنّما يعرض بعد تناول الغذاء. وليس ذلك الشيء الذي يعرض لهم، كما قلت قبيل، بابتداء نوبة، إلّا أنّه يغلط من ليس معه دربة في أشباه هذه الأشياء بكثرة ما يحدث من الحرارة في البدن وبما يحدث في العروق من تزيّد عظم النبض وسرعته.

والأمر في هذه الحمّى من غد يزداد بياناً، ويكون بها أشدّ بصيرة، إذا أنت تفقّدت ونظرت إلی كم يدوم ما تغيّر من بعد تناول المريض الغذاء في نبض عروقه وفي حرارة بدنه. وذلك أنّك تجد ذلك التغيير كلّه إنّما يدوم ما دام ذلك

الغذاء يتأدّى ويصل إلی القلب، فيرطّب من يبسه. ثمّ إنّ الحال بعد ذلك تعود إلی ما كانت عليه أوّلاً قبل تناول الغذاء. فإن أنت غذوت المريض من غد ذلك اليوم في وقت غير الوقت الذي غذوته فيه بالأمس، ثمّ غذوته من بعد الغد في غير الوقت الذي غذوته فيه في اليوم الذي قبله، وجدت هذا الشيء الذي ذكرت يكون، وهو أنّ الحرارة تتزيّد بعد تناول الغذاء ويتغيّر النبض، فيصير بالحال التي وصفت.

فيشبه أن يكون ما يعرض لأصحاب هذه الحمّى بمنزلة ما يعرض في حجارة النورة وفي الحجارة المحميّة. وذلك أنّك، إذا صببت عليها الماء، وإن كان في غاية البرد، وجدتها قد صارت أسخن كثيراً ممّا كانت. وذلك يكون، فيما يسبق إليه الوهم، من قبل أنّ الحرارة التي فيها حرارة معها يبس، فإذا صادفت جوهراً رطباً، اغتذت منه. والبحث عن السبب الذي من قبله يكون هذا، هو من طريق المسائل الطبيعيّة. فأمّا أنّ الأمر يكون على هذا، فيقدر أن يتعرّف ذلك كلّ من آثر أن يمتحنه.

من ذلك أنّك إذا أخذت بيدك حجراً من حجارة النورة، استهنت بما فيه من الحرارة. فإن وضعته في الأرض ثمّ صببت عليه ماء، رأيته من ساعته يسخن سخونة شديدة ويغلي بمنزلة غليان القدر، إذا وضعت على نار كثيرة

قويّة، وتراه أيضاً يرتفع منه بخار ليس باليسير. فإن أنت تقدّمت على لمسه في تلك الحال، أحرقك إحراقاً شديداً سريعاً.

فهذا ممّا يدلّك على أنّ الحرارة التي معها رطوبة أبين كثيراً قوّة وفعلاً من الحرارة التي معها يبس، وممّا يدلّك على أنّ الحرارة التي في حمّيات الدقّ التي يتبعها الذبول حرارة معها يبس، أنّك لا تجد أحداً ابتلي بهذه الحمّى ابتداء ممّم بدنه بدن رطب، لكنّك إنّما تجد هذه الحمّى تعرض ابتداء لمن كان في طبيعته أقرب إلی اليبس، وخاصّة إن كان مع ذلك مزاجه إلی الحرارة أميل، وكان مع ذلك قد مال في تدبيره إلی التعب والنصب والسهر والاهتمام والغذاء اللطيف. فإنّ حمّى الدقّ إنّما من عادتها أن تعرض مبتدئة لمن كانت هذه حاله عند غضب يغضبه أو عند غمّ يغتمّه، وخاصّة متى عرض له ذلك في صيف وحال من الهواء حارّة يابسة وبلد تلك حاله.

وحدّ ابتداء هذه الحمّى هو أن تكون في الوقت الذي تصير فيه حمّى يوم إلی الانحطاط والهدوء، ثمّ إلی الإقلاع، من غير أن يكون شيء من ذلك، ثمّ يتزيّد اليبس تزيّداً بيّناً. فإنّ ذلك هو أوّل وقت تزول فيه الحمّى عن حدّ الحمّى المعروفة بحمّى يوم، فتصير في حدّ حمّى الدقّ.

وحدّ تزيّد هذه الحمّى واستحكامها وكمالها هو وقت النوبة التي تحدث

في غيرها في اليوم الثالث. وذلك أنّك، إن وجدت صاحبها، كما قلت قبيل، في اليوم الثالث لم تحدث عليه نوبة أخرى ولا أقلعت عنه الحمّى، واليبس يتزيّد فيه، علمت علماً يقيناً، أنّ حمّاه من حمّيات الدقّ، وإن تمادى بها الزمان، آلت الحال معها إلی الذبول سريعاً، إن لم يعالج صاحبها على ما ينبغي.

وحدّ انقلاب هذه الحمّى إلی الذبول هو أوّل ما يصير النبض ضعيفاً صلباً. وقد يجب ضرورة أن يكون هذا النبض صغيراً متواتراً، إلّا أنّه ليس من قبل ذلك وجب أن تكون تلك الحمّى حمّى ذبول، لكنّه إنّما وجب أن يكون كذلك لضعف النبض وصلابته. وذلك أنّ ضعف النبض إنّما يكون من قبل سوء المزاج القويّ الحادث للقلب، وصلابة النبض إنّما تكون من قبل يبسه. ومتى كان هذان العارضان قد عرضا للقلب، فواجب أن تكون الحمّى في تلك الحال حمّى ذبول.

ويقع في هذه الحمّى بعقب الحمّيات الحادّة المحرقة أكثر من يخطئ عليه الأطبّاء في علاجه، وخاصّة من كان يحتاج إلی أن يشرب الماء البارد، فمنع منه، ولم يتلطّف له مع ذلك بشيء غيره من الأشياء المبرّدة التي توضع على الصدر وما دون الشراسيف. فإن كان مع أنّه لم يعالج بشيء من ذلك قد بولغ

في علاجه أيضاً بالأضمدة التي تتّخذ من الخبز والعسل التي قد يستعملها كثيراً أهل زماننا هذا، فهو أحرى بأن يصير إلی حال الذبول سريعاً، كانت حمّاه مفردة أو كانت من ورم حدث في الكبد أو في المعدة.

فإنّ الذبول أكثر ما يحدث إنّما يحدث عن أورام هذه الأعضاء، إذا لم تعالج بالصواب، حتّى إنّ قوماً ظنّوا أنّه لا يمكن أن يكون الذبول إلّا من قبل تلك الأورام، ولم يعلموا أنّه لا يحدث ورم الكبد ولا ورم المعدة ولا ورم شيء من الأحشاء أو من سائر الأعضاء لا ذبولاً ولا حمّى دقّ أصلاً دون أن تنال القلبَ الآفة على ما وصفت.

والآفة التي تحدث للقلب ربّما كانت منه نفسه مثل ما يعرض له من الغضب والغمّ القويّ الدائم الذي تطول مدّته، وربّما كانت من الحمّيات المحرقة، وربّما كانت من العلل التي تحدث في الرئة والصدر وخاصّة من المدّة التي تتولّد فيما بين الرئة والصدر ومن القرحة التي تحدث في الرئة.

وكما تكون حمّى الدقّ والذبول من علل تلك الأعضاء، كذلك تكون من علل المعدة والكبد، وبالجملة، من كلّ ورم يطول لبثه في عضو ذي خطر مع يبس من البدن كلّه وخاصّة من القلب. فقد أعلم أنّي رأيت الذبول حدث

من قبل ورم طالت مدّته في المعي المعروف بالقولون ومن ورم مثله كان في المريء ومن ورم مثله كان في المثانة ومن ورم مثله كان في الكلى. وأصابت أيضاً قوماً ممّن كان بهم اختلاف الدم هذه الحمّى بسبب ورم كان بهم في أمعائهم. وأصحاب زلق الأمعاء أيضاً والذرب المزمن، إذا عرضت لهم منذ أوّل عللهم أو بعد أن تتمادى بهم حمّى ضعيفة دقيقة، فإنّه يلزمهم الذبول، وبالجملة، متى كان جرم القلب قد سبق إليه اليبس، ثمّ قبل حرارة الحمّى قبولاً يعسر معه انحلالها.

١٣ ولذلك صار من أعظم دلائل حمّيات الدقّ أن توجد العروق الضوارب أسخن من المواضع التي حولها، وليس يعرض ذلك لها في سائر الحمّيات. وهذا العارض يزداد بياناً بعد دخول صاحب هذه الحمّى إلی الحمّام واستحمامه بالماء الحارّ العذب وتخلخل بدنه وتسخّفه بذلك السبب أو بسبب غيره أيّ سبب كان، حتّى يندى بدنه وتتحلّل بعض حرارته.

فإنّه من بعد ذلك التحلّل توجد الحرارة في مواضع البدن كلّها معتدلة خلا العروق الضوارب. فإنّ الحرارة في العروق الضوارب لا توجد في تلك الحال قد نقصت شيئاً عمّا كانت عليه قبل ذلك. وإحساسك يكون خاصّة لتلك الحرارة فيها إحساساً صحيحاً عند انبساط النبض، وانبساط النبض أيضاً لا يتغيّر عمّا كان عليه من بعد التحلّل الذي وصفنا، لكنّه يبقى على مثل ما كان عليه في جميع حالاته.

وحمّى الدقّ، متى كانت مفردة وحدها، فإنّ أمرها بيّن، كانت حمّى دقّ فقط أم كانت حمّى ذبول. ومتى كانت مع حمّى أخرى، كان تعرّفها أصعب مثل الحمّى التي كانت بامرأة رأيتها منذ قريب، وكانت حمّاها تنوب عليها مرّتين في اليوم، إحداهما بالنهار والأخرى بالليل، ولم يكن ذلك من أمرها

يخفى. فإنّ أمر هذه المرأة فيما كان بها من حمّى الذبول ذهب عن جميع من كان يعودها من الأطبّاء، لأنّهم كانوا يظنّون أنّه لا يكون في حمّيات الدقّ ابتداء نوبة محسوس ولا تزيّد ولا منتهى ولا انحطاط، كأنّه لا يمكن أن تتركّب مع حمّى الدقّ بعض الحمّيات التي تكون من الأخلاط.

فأمّا أنا، فإنّي فهمت تلك الحمّى وعرّفتها في هذه المرأة أيضاً منذ الأيّام الأول من علّتها من قبل أنّي وجدت كلّ واحدة من تينك النوبتين، أعني النوبة التي كانت تكون بالنهار والنوبة التي كانت تكون بالليل، تكون أجزاؤها قصيرة المدّة، وكثيراً ما كنت أجدها تتحلّل وتنقضي مع ندى كان ينداه بدن تلك المرأة وبخار كان يتحلّل منها انقضاء بيّناً، حتّى كان البدن، إذا لمس، وجد معتدل الحرارة. فأمّا الدلائل التي كانت تظهر في العروق الضوارب، وهي الدلائل التي وصفتها قبيل، فإنّها كانت تبقى وتدوم، فلا تبرد تلك العروق، كما كانت تبرد سائر الأعضاء ولا تنتقص سرعة حركتها وتواترها.

فأنا قائل الآن قولاً قد قلته مراراً كثيرة في غير هذا الكتاب، وهو أنّه ليس ينبغي أن نقتصر على النظر في الأدوار وتناسب النوائب، لكنّه ينبغي قبل

ذلك أن ننظر في نفس طبيعة الحمّى، حتّى تكون معرفتنا بالحمّى من نفس طبيعتها، كما يعرف الناس من صورهم. وعلى هذا الوجه تجدني أعرف كثيراً طبيعة الحمّى منذ أوّل يوم تعرض، ولا أحتاج أن أنتظر عودتها في اليوم الثالث أو في الرابع أو في الثاني. وقد وصفت هذه الأشياء، فبالغت في صفتها في المقالة الثانية من كتابي في البحران، ووصفت أيضاً في تلك المقالة كيف ينبغي أن تتعرّف أصناف الحمّى المعروفة بحمّى يوم.

وقد أعلم أنّي قد كنت وعدت أن أصف أمرها في كتابي هذا أيضاً. ثمّ إنّي ذكرت أنّ الذي وصفته في ذلك الكتاب من أمرها إنّما ينقص نقصاناً يسيراً عن أن يكون قد استقصي كلّه الاستقصاء التامّ، فرأيت أنّ نسخ ما قد كتبته هناك في هذا الكتاب فضل، وأنّه ينبغي أن أقتصر على إلحاق ما تركت ذكره هناك.

١٤ فأقول إنّ من أصابته تلك الحمّى من حرّ الشمس، فإنّ جلدة بدنه توجد على حال من السخونة واليبس أكثر من الحال التي يوجد النبض قد مال فيها إلی نبض الحمّى، وهو أيضاً أقلّ عطشاً من غيره ممّن حرارته مساوية لحرارته. وحين تضع كفّك على بدنه، تجد حرارته في غاية منتهاها بخلاف حال من تصيبه هذه الحمّى من استحصاف البدن. وذلك أنّك تجد الحرارة فيمن تلك حاله عند أوّل وضعك يدك على البدن يسيرة، ثمّ إذا لبثت كفّك موضوعة على البدن، وجدت الحرارة تتزيّد.

ومن أصابته تلك الحمّى من حرّ الشمس، فإنّك تجد رأسه خاصّة كأنّه يحترق احتراقاً، وتتوق نفسه إلی صبّ الماء البارد عليه وينتفع به أيضاً مع ذلك. وتجد عينيه أسخن وأشدّ حمرة مع يبس، إذا لم يكن مع تلك الحمّى زكام ولا نزلة. فإنّه قد تعرض هذه الأعراض لبعض من يبلغ منه حرّ الشمس، ومن كانت تلك حاله، فإنّ رأسه مع حرارته يكون ممتلئاً من الدم، حتّى تكون عروقه كلّها ممتلئة متصدّرة ممتدّة، أعني العروق التي في العينين والعروق التي في الصدغين والجبهة والوجه كلّه. وهذا من أعظم الدلائل التي يفرّق بها بين صاحب هذه الحال وبين من تعرض له تلك الحمّى من برد يصيبه.

فإنّ الذي يبلغ منه البرد أيضاً، إذا نالته آفة من البرد في رأسه، يسرع إليه الزكام والنزلة، وربّما كانت الحمّى التي تعرض لصاحب تلك الحال إنّما تعرض له بسبب الآفة التي نالته في رأسه. فأمّا في أكثر الحالات، فإنّما تكون الحمّى، إذا كان البدن كلّه أيضاً قد ناله البرد أو الحرّ.

ومن كانت الآفة التي نالته إنّما هي من البرد، فإنّك تجد جلدة بدنه أقلّ سخونة، وتجد بدنه أملأ وأشدّ انتفاخاً، ولا ترى في وجهه شيئاً من اليبس الذي تراه في وجه من تعرض له الحمّى من حرّ الشمس من غير أن يكون قد عرض له في رأسه امتلاء. وصاحب هذه الحال يعرض له الامتلاء في رأسه في أكثر الحالات، إلّا أن يكون بدنه نقيّاً نقاء صحيحاً ليس فيه شيء من الفضول. فإنّ الذي هذه حاله فقط، يمكن، إذا سخن رأسه، أن يبقى على حاله من غير أن يعرض له امتلاء، إلّا أنّك على حال ربّما وجدت الرأس كلّه قد نالته حرارة شديدة جدّاً من قبل حرّ الشمس من غير أن يكون قد عرض فيه امتلاء. وهذه الحال تخالف حال البرد مخالفة بيّنة جدّاً.

فأمّا الحال التي يكون معها الامتلاء، فتمييزها عسر، إذ كان يعرض معها النزلة والزكام، وكان هذان العارضان يعرضان لمن ناله البرد، إلّا أنّ اليبس وشدّة

سخونة الجلد وسائر الدلائل التي وصفتها قبيل دلائل تخصّ من نالته الآفة من حرّ الشمس.

وسنصف أمر ذلك ونستقصي صفته في كتاب طريق الحيلة للبرء مع سائر أصناف الحمّى المعروفة بحمّى يوم كلّها، وقد وصفت دلائلها في المقالة الثانية أيضاً من كتابي في البحران، فلست أحتاج إلی أن أصفها في كتابي هذا. لكنّي أقطع هذه المقالة في هذا الموضع وآخذ في المقالة التي بعدها في صفة جميع أصناف الحمّيات التي تتولّد من عفونة الأخلاط.

تمّت المقالة الأولى من كتاب جالينوس في أصناف الحمّيات.

المقالة الثانية من كتاب جالينوس في أصناف الحمّيات ترجمة حنين بن إسحاق

١ والذي بقي علىّ أن أصف أصناف الحمّيات التي تتولّد من الأخلاط، وأنا جاعل أوّل ما أفتتح به القول فيها أنّه ليس يكفي، على ما ظنّ قوم في توّلد هذه الحمّيات، أن يتزيّد ويكثر ويغلب في البدن المرار المرّ الذي يصفه بعضهم بالصفرة ويصفه بعضهم بالحمرة. لأنّه لو كان الأمر كذلك، لكان جميع من يصيبه اليرقان سيعرض له من هذه الجهة من الحمّى أعظم ما يكون منها وأقواه، إذ كان في أبدان أصحاب اليرقان من ذلك المرار شيء كثير منبثّ في البدن كلّه، وليس نجد أصحاب اليرقان يحمّون إلّا من سبب آخر ربّما عرض مع اليرقان سنصفه بعد قليل.

والتوهّم أيضاً بأنّ أبدان الذين تصيبهم حمّى الربع والحمّى النائبة في كلّ يوم قد اجتمع فيها من المرّة الصفراء شيء كثير كما اجتمع في أبدان أصحاب الغبّ والحمّى المحرقة شنيع قبيح. وذلك أنّا نرى الأمر على خلاف ذلك من قبل أنّه ليس يخرج في الحمّى النائبة في كلّ يوم ولا في حمّى الربع المرار الأصفر لا بالقيء ولا بالعرق ولا بالبول ولا بالبراز، ومع ذلك أيضاً فليس شيء ممّا يتقدّم هتين الحمّيين ولا ممّا كان معهما يشهد على غلبة الصفراء فيهما.

وذلك أنّ الغبّ إنّما تحدث في أكثر الحالات في الأبدان التي تغلب عليها الصفراء بالطبع، وفي أصحاب السنّ التي هي منتهى الشباب، وفي هذه السنّ تكون الصفراء أغلب منها في سائر الأسنان كلّها، ومن أوقات السنة في وقت الصيف خاصّة، وفي ذلك الوقت يكون ذلك الخلط هو الغالب، وفي البلدان التي مزاجها حارّ يابس، وإذا كان مزاج الهواء بتلك الحال، والسيرة أيضاً، إذا لم تكن سيرة خفض ودعة وتكاسل في أكثر الحالات، لكن سيرة نصب وتعب واهتمام وسهر وتعرّض لحرّ الشمس والإقلال من الغذاء واستعمال الحرّ اليابس منه. والإسراف أيضاً في استعمال الأدوية الحارّة اليابسة ممّا يجلب سريعاً حمّيات الغبّ.

فأمّا الحمّيات المعروفة بالنائبة في كلّ يوم، فأمرها على ضدّ ذلك. وذلك أنّها إنّما تحدث في أصحاب الطبائع البلغميّة، ومن أوقات السنة في الشتاء، ومن حالات الهواء فيما كان منها أزيد رطوبة وبرداً، وفي المشايخ والصبيان خاصّة، وفي البلدان الباردة الرطبة، وإذا كانت السيرة سيرة خفض ودعة وسكون مع إكثار من الطعام، وخاصّة إذا كان المستعمل لهذا التدبير يستعمل الدخول إلی الحمّام بعد الطعام، وأكثر من ذلك، إذا كانت أطعمته أيضاً أطعمة هي في طبيعتها إلی توليد البلغم أميل. وليس يتقيّأ صاحب هذه الحمّى مراراً مرّاً، ولا يخرج منه ذلك بالبراز ولا بالبول كما يخرج في الغبّ. وذلك أنّ الغبّ إنّما تكون من المرّة الصفراء، إذا هي عفنت.

وأمّا الحمّى المعروفة بالنائبة في كلّ يوم، فإنّما تتولّد من أخلاط هي إلی البلغم أميل، إذا هي عفنت، وأمّا الربع، فتكون من الأخلاط السوداويّة، إذا هي عفنت. ولذلك صارت حمّى الربع إنّما تتولّد في طبائع الأبدان التي هي إلی السوداء أميل، وفي سنّ الكهول، وفي وقت الخريف، وعند استعمال جميع ما شاكل ذلك من الأطعمة والأشربة وجميع التدبير، أعني إذا كانت

هذه الأشياء كلّها باردة يابسة. ولذلك صار النافض الذي يتقدّم هذه الحمّيات غير متشابه، لكن النافض الذي يتقدّم الغبّ ينبئك بأنّ السبب الفاعل له يلذّع وينخس الأعضاء الحسّاسة. فأمّا النافض الذي يتقدّم الربع، فيحسّ كأنّ السبب الفاعل له يبرّد تلك الأعضاء.

وقد وصفت أصناف النافض وحالاته صفة شافية في المقالات التي وصفت فيها علل الأعراض، وبيّنت فيها أيضاً أمر الاختلاف بين الحمّيات التي هي من جنس واحد. فأوضحت أنّ الحمّيات المفارقة، وهي التي تقلع إقلاعاً محسوساً، إنّما تكون متى كان الخلط المولّد للحمّى متحرّكاً جارياً في البدن كلّه. وأمّا الحمّيات الدائمة، فإنّما تكون، إذا كان الخلط المولّد للحمّى محصوراً في جوف العروق، وقد وصفت كيف يكون تعرّف هذه الحمّيات في المقالة الثانية من كتابي في البحران.

٢ وأصناف الحمّيات المفارقة كلّها ثلاثة، وهي الحمّى المعروفة بالنائبة في كلّ يوم والغبّ والربع. والمعروفة بالنائبة في كلّ يوم تتولّد من البلغم، والغبّ تتولّد من المرّة الصفراء، والربع تتولّد من المرّة السوداء.

وأمّا الحمّيات الدائمة، فإنّ ما يكون منها من المرّة الصفراء صنفان. أحدهما صنف الحمّيات التي تسمّى سونوخس، وهي المطبقة التي مدّة زمانها كلّه كأنّه نوبة واحدة منذ أوّلها إلی انقضائها. والصنف الآخر صنف الحمّيات التي تسمّى باسم مشترك بينها وبين جنس هذه الحمّيات كلّها، وهي التي تخصّ باسم الدائمة، ويجري أمرها على أدوار كثيرة جزئيّة. وأصناف الحمّى المطبقة كلّها ثلاثة. وذلك أنّ منها ما يبقى على حال واحدة منذ أوّلها إلی انقضائها، ومنها ما يتزيّد قليلاً قليلاً، ومنها ما ينتقص قليلاً قليلاً.

فأمّا الحمّيات الدائمة، فأوّل أصنافها صنفان. وذلك أنّ منها ما ينوب في اليوم الثالث دائماً فقط، ومنها ما تكون له نوبة أخرى في اليوم المتوسّط بين كلّ نوبتين. وليس لهذه الحمّيات الأخيرة اسم خاصّ. وأمّا الحمّيات التي تنوب

دائماً في اليوم الثالث فقط، فإنّي إنّما أسمّيها الشبيهة بالغبّ، ولست أمنع من شاء أن يسمّيها بأيّ اسم شاء، ما دام الاختلاف بين الأمرين في أنفسهما قائماً محفوظاً.

فإنّ طبيعة الحمّى التي تنوب غبّاً وتقلع غير طبيعة الحمّى التي تنوب غبّاً ولا تقلع، لكنّها تنحطّ وتبقى منها بقيّة. وطبيعة الحمّى أيضاً التي تكون فيها نوبة أخرى في اليوم المتوسّط بين كلّ نوبتين غير طبيعة الحمّى الأولى والثانية، ولست أسمّي واحدة من هذه شطر الغبّ، ولا المخالطة للغبّ، لكنّي لست أمنع من شاء أن يسمّيها بذلك الاسم بعد أن يلزم نفسه لي خلّة واحدة، وهي ألّا يدع صنفاً من أصناف الحمّى، لكن يصفها كلّها منذ أوّلها إلی آخرها كصفتي لها في كلامي هذا.

فإنّي أقول إنّ الحمّيات التي تكون لها نوبة أخرى في اليوم المتوسّط بين كلّ نوبتين منها ما يجري أمره على شكل الحمّى المعروفة بالنائبة في كلّ يوم، فتكون كلّ نوبتين متواليتين متشابهتين غير مختلفتين، ومنها ما تكون النوبتان المتواليتان منها غير متشابهتين وتكون النوبة الثالثة مثل الأولى سواء، والرابعة مثل الثانية سواء، فيجري أمرها على شكل حمّيي غبّ. وهذه الحمّى تكون خاصّة من المرّة الصفراء. وأمّا الحمّى التي تنوب في كلّ يوم على مثال واحد،

فإنّما تكون من خلط هو إلی البلغم أميل.

ومن الحمّيات الدائمة جنس آخر ثالث قليلاً ما يكون، وهو، إذا كانت نوبة الحمّى يجري أمرها مجرى دور الربع من غير أن تكون تقلع. وكما أنّ الحمّى التي تنوب في الثالث ربّما كانت اثنتين مركّبتين، كذلك هذه الحمّى ربّما كانت اثنتين، وليست اثنتين فقط، لكنّها ربّما كانت ثلاثاً. وذكر هذه التراكيب من الحمّى في كتاب أدوار الحمّيات أخصّ وأولى.

وأمّا جميع أصناف الحمّيات البسيطة المفردة التي تتولّد من الأخلاط، فعددها هذا العدد الذي وصفنا. وقد تكون من تركيبها أصناف أخر أنا ذاكرها فيما يستأنف، بعد أن أضيف إلی ما وصفت من أمر هذه الحمّيات المفردة ما بقي عليّ منه، وهو أنّ الحمّى، إذا كانت مفردة بالحقيقة، فنوعها نوع واحد محدود أنا واصفه الآن، وإذا كانت الحمّى يشوب نوعها نوع آخر، فبحسب ما يشوبها من ذلك يكون بعدها عن المفردة.

٣ فالحمّى التي تكون من المرّة الصفراء، إذا تحرّكت وجرت في الأعضاء الحسّاسة، يكون ابتداؤها مع نافض، ويكون فيها التهاب واحتراق، ويكون انقضاؤها بخروج مرار من البدن إمّا بقيء، وإمّا ببراز، وإمّا بعرق، وإمّا بشيئين من هذه، وإمّا بجميعها. ومقدار طول نوبة هذه الحمّى أطول ما يكون هو اثنتا عشرة ساعة مستوية، ونسمّي هذه الحمّى غبّاً خالصة، وتكون، إذا كان مزاج الذي تعرض له مزاجاً يغلب عليه معه المرار، وكان الوقت الحاضر من أوقات السنة حارّاً يابساً، وحال الهواء في ذلك الوقت والتدبير كذلك. وقد وصفت سائر الأشياء التي تعين على تولّد هذه الحمّى قبيل.

ونوبة هذه الحمّى في أكثر الأمر تكون أقلّ مدّة من هذا الحدّ الذي حدّدته قبيل، وفي ذلك من التفاضل من طريق الأكثر والأقلّ اختلاف كثير جدّاً. وذلك يكون إمّا من قبل كمّيّة المرار وكيفيّته، وإمّا من قبل قوّة المريض، وإمّا من قبل الحال التي هي لبدنه في ذلك الوقت. وذلك أنّ المرار، إذا كان أكثر، ولّد نوبة أطول من النوبة التي يولّدها، إذا كان أقلّ، وإذا كان المرار رقيقاً، كانت النوبة التي يولّدها أقصر من النوبة التي يولّدها، إذا كان ثخيناً.

وكذلك أيضاً، فإنّ القوّة، متى كانت أقوى، كانت نوبة الحمّى أقصر، ومتى كانت أضعف، كانت نوبة الحمّى أطول. وحال البدن أيضاً، متى كانت حال تخلخل وسخافة، كانت النوبة أقصر، ومتى كانت حال تكاثف واستحصاف، كانت النوبة أطول.

وفي وقت الفترة من هذه الحمّى لا تتبيّن أصلاً في نبض العروق العلامة التي تدلّ منه على العفونة في النهار أو في الليل الذي يتلو النوبة. ثمّ إنّ تلك العلامة تبتدئ قليلاً قليلاً فتظهر ظهوراً خفيّاً في أوائل النهار أو الليل الذي يتلو ذلك. ثمّ تظهر ظهوراً أكثر عند آخر ذلك النهار أو الليل. ثمّ تظهر ظهوراً أكثر من ذلك في النهار أو الليل الذي بعد هذا، أعني النهار أو الليل الذي يتقدّم النهار أو الليل الذي تكون فيه نوبة الحمّى. ثمّ إنّ تلك العلامة في ذلك النهار أو الليل تظهر ظهوراً أكثر وخاصّة في ابتداء نوبة الحمّى. ثم تتزيّد ظهوراً مع تزيّد النوبة إلی أن تبلغ منتهاها. ثمّ إنّ تلك العلامة في وقت منتهى النوبة تكون أقلّ ظهوراً ممّا كانت في وقت تزيّد النوبة. ثمّ تصير أقلّ ظهوراً كثيراً في وقت انحطاط النوبة. وإن أحببت أن تسمّي هذه الحمّى غبّاً خالصة، كنت قد سمّيتها باسم قد سمّاها به القدماء، وإن لم تحبّ ذلك، فائذن لي في تسميتها بذلك الاسم، ليكون كلامي فيها بيّناً.

٤ ومن حمّيات الأخلاط حمّى أخرى خالصة مفردة تكون من بلغم عفن تدفعه الطبيعة فتجريه في أعضاء حسّاسة. وابتداء هذه الحمّى يكون مع برد في الأطراف وشيء هو بالاقشعرار أشبه منه بالنافض. ويعسر استيلاء الحرارة بعد البرد، فتطول مدّة تزيّد نوبة الحمّى إلی أن تبلغ منتهاها. وذلك لأنّ الخلط الذي تتولّد منه هذه الحمّى، هو في مزاجه بارد رطب وفي قوامه لزج. فهو من قبل ذلك بطيء الاشتعال بطيء الحركة ويمتنع من النفوذ في مواضع كثيرة من المجاري، فيضغط أحياناً ويثقل القوّة ويجعل النبض مختلفاً، وتكون النبضات الضعيفة الصغار فيه أكثر، وذلك يكون في ابتداء النوبة وفي أوّل تزيّدها.

وقد يكون في حمّى المرار في ابتداء نوائبها كلّ واحد من هذه الأعراض التي وصفت في النبض، إلّا أنّ الاختلاف وسائر الأعراض في تلك الحمّى تسكن سريعاً، وفي أكثر الأمر لا يكاد يكون في ابتداء تلك الحمّى اختلاف في النبض. والحرارة أيضاً في تلك الحمّى لا تلبث بعد سكون النافض أن تشتعل، وهي نقيّة مثل النار الخالصة النقيّة التي لا يشوبها شيء من الكدرة والدخانيّة.

وأمّا حرارة الحمّى البلغميّة، فتكاد أن تكون تشبّهها بنار دخانيّة مشتعلة

في حطب رطب. ولذلك يكون الاستفراغ في تلك الحمّى يسيراً، ومقدار طول النوبة أطول، ووقت الفترة ليس بالنقيّ مثل النقاء في الحمّى الأولى، لكنّه تبقى فيه دائماً العلامة الدالّة على العفونة في حرارة البدن وفي نبض العروق. وتلك العلامة الدالّة على العفونة تكون في هذه الحمّى في ابتداء نوائبها وتزيّدها على أبين ما تكون. إلّا أنّه، وإن كان الأمر كذلك، فإنّه على حال متى كانت هذه الحمّى أيضاً خالصة، فإنّ الأمر عند الكثير من الناس يكون في وقت فترتها أنّ البدن نقيّ منها. ونحن أيضاً نقول ذلك فيها مراراً كثيرة في المواضع التي لا يحتاج فيها إلی استيفاء حقّ الكلام واسقصائه.

وهذه الحمّى تعرض للأبدان التي يغلب عليها في طبائعها البلغم، وفي أوقات السنة والبلدان وحالات الهواء والمهن والتدبير وجميع الحالات الأخر التي تعين على غلبة البلغم. ونوبتها تكون في كلّ يوم، على أنّها أقلّ حرارة من الحمّى التي تنوب في الثالث التي تكون من المرار.

ويشبه أن يكون ذلك من قبل أنّ تلك الحمّى، لمّا كان الخلط المولّد لها سريع الاشتعال وكان يسهل استفراغ ما يصير منه إلی حال الغليان في كلّ نوبة لرقّته، حتّى ينقّى البدن منه كلّه، صارت تلك الحمّى تقلع، حتّى ينقّى منها

البدن نقاء أكثر، فلا يبقى بعد النوبة فيه من بقايا الحرارة العفونيّة إلّا الشيء اليسير.

والحمّى التي تكون من البلغم لا يستفرغ فيها البدن، حتّى ينقّى النقاء التامّ في وقت انحطاط نوائبها، ولا تكون البقايا التي تبقى في البدن من الشيء الذي قد عملت فيه الحرارة العفونيّة يسيرة. ولذلك يكون البدن في وقت فترة هذه الحمّى أردأ حالاً كثيراً، ويكون ابتداء النوبة الثانية أسرع حدوثاً.

٥ وأمّا الجنس الثالث من الحمّيات المفارقة، وهو الربع الخالضة، فلأنّه يكون من الخلط السوداويّ، إذا كان مفرداً لا يشوبه شيء، وكان مزاج ذلك الخلط يابساً بارداً، فإنّ اشتعاله يكون قليلاً قليلاً على نحو ما يبطئ الحجر أو الخزف أو العظم أو غير ذلك من الأجسام الباردة اليابسة في قبول الحرارة. فإذا اشتعلت منه حمّى، لم تبق تلك الحمّى في البدن بقايا دخانيّة من بعد النوبة ولا شيئاً هو على شرف احتراق.

ولذلك يكون الاستفراغ من هذا الخلط، إذا تولّدت منه الحمّى، أكثر ممّا يكون من الخلط البلغميّ، إذا تولّدت منه الحمّى. وترى البدن في وقت فترة الحمّى السوداويّة كالنقيّ النقاء الصحيح من قبل أنّ جميع ما يشتعل في هذه الحمّى من الخلط السوداويّ يستفرغ ويتحلّل. ولذلك أيضاً صار النافض الذي يعرض لأصحاب هذه الحمّى خاصّة شبيهاً بما يعرض لمن أصابه برد شديد من برد الهواء، لا بمنزلة ما يعرض لمن يبلغ منه حرّ الشمس، أو لمن تكون به قرحة، فيوضع عليها بعض الأدوية الحارّة اللذّاعة. ويجب ضرورة أن تتقدّم هذه الحمّى الأشياء التي تجمع في البدن المرّة السوداء من المهن والتدبير وحال الهواء

ووقت السنة والبلدان، وأن تكون طبيعة المريض وسنّه ممّا يميل إلی السوداء.

ونوبة هذه الحمّى في مقدار طول لبثها شبيهة بنوبة حمّى الغبّ، وربّما كانت أطول منها، وهي بعد ربع خالصة، وذلك من قبل أنّ تولّدها من خلط هو أبرد. والسبب في هذه الحمّى وفي غيرها من جميع الحمّيات الذي من قبله يختلف مقدار طول النوائب، كما قلت قبيل في الغبّ الخالصة، هو اختلاف الأمر في مقدار الخلط المولّد للحمّى وفي كيفيّته، وفي قوّة المريض وضعفه وفي حال بدنه. فإنّ الحال في ذلك وفي غيره من جميع الأمور في هذه الحمّى تكون على قياس ما يكون عليه في الحمّى المتولّدة من المرار المرّ.

من ذلك أنّ الخلط السوداويّ، إن لم يعفن ولم يتحرّك حركة شديدة فيجري ويمرّ بأعضاء حسّاسة، لم يحدث دور ربع خالصة. ونظير ما يعرض من الصفراء من اليرقان ما يعرض من السوداء من رداءة اللون الشبيهة بلونها في البدن كلّه عند العلّة المتقادمة التي تكون في الطحال. ونظير ما يعرض من المرّة الصفراء من الورم الحارّ المعروف بالحمرة ومن القروح المعروفة بالنملة ما يعرض من السوداء من الورم المعروف بالسرطان ومن القرحة المعروفة بالآكلة.

وليس تحدث الحمّى ضرورة في هذه العلل ولا في علّة الوسواس السوداويّ دون أن يعفن الخلط السوداويّ. وذلك أنّ الطبيعة تلتمس دائماً باستعمال ما

لها من القوى أن تشبّه بالأشياء التي تغتذي كلّ ما يمكن أن يصير إلی حال الصلاح، وتقذف ما كان على خلاف ذلك. فإن لم تقدر في وقت من الأوقات على دفع الشيء الرديء وقذفه، إمّا لغلظ الفضل، وإمّا لكثرته، وإمّا للزوجته، وإمّا لضرب من ضروب الضيق يكون في المجاري، وإمّا لضعف منها هي، فإنّه يجب ضرورة أن يطول لبث ذلك الفضل الرديء في البدن فيفسد.

وذلك أنّه ليس شيء من سائر الرطوبات يمكن أن يبقى في البدن على الحال التي كان عليها أوّلاً، فضلاً عن هذه الرطوبة التي قد بلغ من رداءتها ألّا تقبل إصلاح الطبيعة لها، لكن كلّ رطوبة تبقى في البدن، فلا بدّ لها من أن تصير إلی إحدى حالين، إمّا أن تنضج، فتتشبّه بأعضاء البدن الثابتة وتصير زيادة فيها، وإمّا أن تفسد وتعفن.

ولذلك صار أصحاب اليرقان وأصحاب الوسواس السوداويّ، إذا بقيت تلك الأخلاط التي هي من جنس المرّتين في أبدانهم مدّة أطول، وهي كثيرة غالبة، حدثت عليهم منها حمّيات. وربّما كان الجالب للحمّى العلّة التي تكون في الكبد أو في الطحال، إذا كان السبب الفاعل لتلك الأعراض ورماً أو سدداً. وعلى هذا القياس أيضاً ليس، متى كثر الخلط البلغميّ وغلب في

البدن، حدثت منه حمّى، دون أن يعفن.

وقد رأيناه حدث عن ذلك الخلط شيء قد كان القدماء يظنّون أنّه لا يمكن أن يكون. وذلك الشيء هو النافض الذي يكون من غير حمّى، وقد رأينا ذلك كان في بعض الناس مرّة واحدة، ثمّ انقضى، وفي بعضهم كان نائباً على دور أيّاماً كثيرة، أو كان دائماً متّصلاً منذ أوّل الأمر إلی آخره، وكان إمّا أن يكون من القلّة والضعف بحال لا يشعر معها صاحبه أنّه به ما دام ساكناً ولا يحسّه حتّى يتحرّك، وإمّا أن يكون من الشدّة والقوّة بحال يتأذّى به معها صاحبه وإن لم يتحرّك.

إلّا أنّ هذا الخلط أيضاً، إذا عفن على طول المدّة، لم يكن النافض وحده يحدث فقط، لكن تحدث معه الحمّى. والحمّى التي تحدث من هذه الأسباب تكون حمّى طويلة مزمنة جدّاً عسرة الانقضاء في شكل الحمّى المعروفة بالنائبة في كلّ يوم.

٦ ومن هذا الجنس أيضاً الحمّى التي تخصّ باسم إيبيالس، وهي أن تكون بالإنسان في حال واحدة حمّى ونافض ويحسّ بهما جميعاً في وقت واحد في كلّ عضو من أعضاء بدنه. وأرخيجانس يرى أنّ هذا الاسم، أعني اسم إيبيالس، ليس يسمّى به شيء أصلاً في حال من الأحوال سوى هذه الحمّى. وقد نجد قوماً من أهل أطيقى، وهم أنبل اليونانيّين، يسمّون بهذا الاسم أيضاً النافض الذي يتقدّم الحمّى. والأمر عندي أنّ هذا الخلط هو الذي يسمّيه بركساغورس الزجاجيّ.

فأمّا من كان بعده من الأطبّاء الحدث، ومنهم فيلبوس، فيسمّونه نيّاً خاماً تسمية مطلقة من غير أن يضيفوا إلی ذلك اسماً يفرّقون به بينه وبين غيره تفرقة صحيحة. وهذا الخلط أيضاً من جنس البلغم، وهو شديد البرد واللزوجة. فإنّ كلّ خلط تجتمع فيه الرطوبة والبرد، فإنّ اسم البلغم واقع عليه عند من يتبع في استعمال الأسماء بقراط وما جرت عليه عادة جميع القدماء

من الأطبّاء وسائر اليونانيّين.

فأمّا بروديقس في كتابه في طبيعة الإنسان، فيجاوز السنّة في هذا الاسم أيضاً، وكان الذي دعاه إلی ذلك اشتقاق عجيب اشتقّ به هذا الاسم. وليس هذا موضع تمثيل الكلام إلی أشباه هذه الأشياء، إذ كنّا قد أفردنا لها كتاباً غير هذا. فأنا راجع إلی ما قصدت إليه.

فأقول إنّ كلّ خلط بارد رطب يكون في البدن، فنحن نسمّيه بلغماً، فإن شئت أنت أن تسمّيه سقندبسوس، فشأنك. فهذا مبلغ قلّة مبالاتي بالأسماء. ولكن اعلم أنّ لهذا الخلط أصنافاً كثيرة. فصنف منه بارد جدّاً، حتّى يحدث أوجاعاً في غاية الشدّة، إذا حدثت منه سدّة في موضع حارّ. وكثيراً ما ترى أوجاعاً كثيرة من أوجاع القولنج بعد استعمال حقنة حادّة تستفرغ هذا الخلط تسكن على المكان. وهذا الخلط شبيه في منظره بالزجاج المذاب. ومن البلغم صنف آخر كثيراً ما يتنخّعه ويقذفه بعض الناس معه حلاوة محسوسة. وبيّن أنّه لا يمكن أن يكون هذا الصنف خالص البرد عند من هو ذاكر لما بيّنت في

كتابي في قوى الأدوية المفردة. ومن البلغم صنف ثالث يحسّه من يقذفه حامضاً، وهو أقلّ برداً من الزجاجيّ وأشدّ برداً من الحلو. ومنه صنف آخر مالح، وذلك يكون إمّا من قبل عفونة، وإمّا من قبل أنّه تشوبه رطوبة مائيّة مالحة. ومن أصابته حمّى من هذا الصنف من البلغم، لم يصبه معها نافض، لكنّه يقشعرّ فقط في أوّل نوبة الحمّى.

فأمّا الصنف الحامض من البلغم والصنف الزجاجيّ، إن تحرّكا وجريا، فمرّا بأعضاء حسّاسة، فإنّهما يحدثان النافض الذي لا تكون معه حمّى، وإن شابهما شيء يسير من العفونة، كانت منهما الحمّى التي يحسّ صاحبها فيها النافض والصالب معاً في جميع أعضائه التي قلت إنّ اليونانيّين يسمّونها إيبيالس. فإن نالهما من العفونة أكثر من ذلك، تقدّم النافض، ثمّ تبعته الحمّى، فانهزم البرد من كثرة الحرارة، حتّى لا يظهر منه شيء أصلاً في وقت تزيّد النوائب وفي وقت منتهاها.

ولعلّ الصنف الزجاجيّ من البلغم أيضاً معه شيء من الطعم الحامض، فيكون جميع أصناف البلغم ثلاثة، الحامض والحلو والمالح. وليس يكاد يكون من البلغم الحلو، إذا عفن، نافض قبل الحمّى. وليس ببعيد، إن يتوهّم متوهّم

أنّ هذه الحمّيات ليست حمّيات مفردة ولا تكون من سبب مفرد، إذ كان ما قد استولت عليه العفونة من البلغم، هو المولّد للحمّى، والباقي منه الذي لم يعفن بعد، هو الذي يكون منه النافض، وليس حال هذا حال الذي قد عفن.

فإن كان النافض إنّما يكون من هذا الذي لم يعفن بعد والحمّى إنّما تكون ممّا قد عفن، فإنّ السبب شيئان، لا شيء واحد. وفي هذه الحمّى قد يمكن أن يقال إنّ الحمّى تكون من جنس من السبب غير الجنس الذي يكون منه النافض، والنافض شيء غير الحمّى. فأمّا في حمّى الغبّ، فالمرّة الصفراء هي المحدثة للنافض وللحمّى. إلّا أنّ البحث عن هذه الأشياء وأشباهها بطريق أصحاب الكلام أشبه، وأمّا نحن، فينبغي أن نرجع إلی الغرض الذي قصدنا إليه.

٧ فنقول إنّه، متى خالط البلغم العفن الذي منه قلنا إنّه تكون الحمّى النائبة في كلّ يوم الخلط الذي من جنس المرّة المرّة المحدث للحمّى النائبة غبّاً، فإنّ السبب والمرض يكون كلّ واحد منهما مركّباً مضاعفاً. وذلك أنّ أحد الخلطين يحدث نوبة في كلّ يوم، والخلط الآخر يحدث نوبة تكون غبّاً، فتكون في أحد اليومين نوبتان، وفي اليوم الآخر نوبة واحدة، إلّا أن يكون وقتا النوبتين متقاربين متضامّين. فإنّهما، متى اقترنا وتضامّا، فإنّه تكون منهما نوبة واحدة مركّبة مختلطة لا تحفظ طبيعة الحمّى النائبة غبّاً خالصة ولا طبيعة الحمّى النائبة في كلّ يوم خالصة.

ولمّا كانت كلّ واحدة من هتين الحمّيين صنفين، صارت التراكيب التي تكون منها أربعة، واحد منها التركيب الذي تخالط فيه حمّى الغبّ الحمّى المعروفة بالنائبة في كلّ يوم، والثاني التركيب الذي تخالط فيه حمّى الغبّ الحمّى الدائمة التي تنوب في كلّ يوم، والثالث التركيب الذي تخالط فيه الحمّى المعروفة بالنائبة في كلّ يوم الحمّى الدائمة التي تنوب غبّاً، والرابع

التركيب الذي تخالط فيها لحمّى الدائمُة التي تنوب في كلّ يوم الحمّى الدائمة التي تنوب غبّاً.

ولكلّ واحد من هذه التراكيب الأربعة صنفان، أحدهما أن تجتمع النوبتان في وقت واحد معاً، والآخر أن تبتدئ كلّ واحدة من النوبتين في وقت مباين للوقت الذي تبتدئ فيه الأخرى. وما كان منها كذلك، فتعرّفه سهل، إلّا أنّه قد يذهب كثيراً على من لم تكن معه رياضة ودربة في هذا الباب أمر مفارقة الحمّى المفارقة، من قبل أنّ بدن المريض ليس ينقّى أصلاً من الحمّى. لكنّه ينبغي أن تنظر إلی طبيعة النوبة، كما وصفت في المقالة الثانية من كتابي في البحران بشرح أكثر من هذا، ومنه يكون تعرّفك لها، لا من قياس الأدوار.

فأنزل أنّك رأيت نوبة من الحمّى قد حدثت في أوّل ساعة من النهار مع نافض يظنّ معه صاحبه أنّ لحمه ينخس بالإبر، ثمّ تظهر فيها سائر أعلام حمّى الغبّ كلّها إلی وقت منتهاها، ثمّ تأخذ في الانحطاط مع قيء مرار وعرق محمود، ويكون ذلك في الساعة التاسعة. ونستدلّ من حركة النوبة كلّها على أنّ إقلاع الحمّى يكون عن صاحبها ذاك نحو الساعة الحادية عشرة من النهار، وأعني بإقلاع الحمّى في هذا الموضع الإقلاع الذي من عادتنا أن نقول إنّه يكون في الأدوار.

فبينا نحن نتوقّع ذلك، إذا، العرق قد انقطع دفعة، إمّا مع تكاثف من الجلد واستحصاف فقط، وإمّا مع قشعريرة أيضاً، ثمّ منذ ذلك تكون إمارات ابتداء النوبة وإمارات تزيّدها وإمارات منتهاها إمارات حمّى بلغميّة دائمة. فإنّه إذا كان الأمر كذلك، علمنا أنّ السبب ليس هو شيئاً واحداً، لكنّه شيئان، وطبيعة الحمّى ليست طبيعة واحدة، لكنّها طبيعتان، إحداهما مفارقة والأخرى دائمة، وإن كان ليس يوجد للحمّى فترة أصلاً. وتوقّعنا في اليوم الثاني أن تبتدئ تلك النوبة في الساعة التاسعة. فإن رأينا أنّ الأمر قد كان على ما قدّرنا، فإنّا نتوقّع لا محالة في اليوم الثالث تلك النوبة في ذلك الوقت، ونتوقّع أيضاً في ذلك اليوم أن تكون للغبّ نوبة نحو الساعة الأولى من النهار.

فإن رأينا النوبة التي كنّا توقّعنا أن تكون في اليوم الثاني في الساعة التاسعة والنوبة التي كنّا توقّعناها في اليوم الثالث في الساعة الأولى قد تقدّمت كلّ واحدة منهما أو تأخّرت عن وقتها، لم نتوقّع فيما يستأنف من الأيّام النوبة الأولى تكون في الساعة التاسعة، ولا النوبة الثانية في الساعة الأولى، لكن قبل الوقتين أو بعدهما بالمقدار الذي تقدّم فدلّ عليه قياس الدور الأوّل أنّ كلّ واحدة من النوبتين تتقدّم به أو تتأخّر عن وقتها الأوّل.

ونقدر أن نستدلّ أيّ الحمّيين تنقضي أوّلاً من نفس طبيعة الحمّى ومن مقدار طول نوبتها ومقدار عظم النوبة وحال الحمّى في السلامة والخبث وطريق حركتها وقياس أدوارها في تقدّمها أو تأخّرها ومن الدلائل التي تظهر بعد فتدلّ من المرض إمّا على أنّه لم ينضج وإمّا على أنّه قد نضج، وأعظم تلك الدلائل تظهر في البول. وقد وصفت الأمر في جميع هذه الأشياء الوصف الكافي في كتابي في البحران.

فإن لم تنب تلك الحمّى البلغميّة الدائمة في الساعة التاسعة، لكن في الساعة الخامسة أو في السادسة، كانت معرفة الحمّى المفارقة المتولّدة من المرار التي ابتدأت في اليوم الأوّل في الساعة الأولى أعسر عند الكثير من أطبّائنا هؤلاء الذين ليس يعنيهم شيء من هذا العلم الذي يعلم به، إذا حدثت حمّى، هل طبيعتها طبيعة واحدة أو طبيعتان وأيّة حمّى هي كلّ واحدة منهما.

وإذ كانوا لا يعرفون شيئاً من ذلك، فإنّهم لا يحسنون أن يعالجوا أصحابها منها على ما ينبغي، إذ كانوا لا يعرفون أيّ الحمّيات حمّياتهم، وليس ذلك فقط، لكنّهم أيضاً لا يعلمون هل ينبغي لهم أن يتوقّعوا نوائب الحمّى في

اليوم الثاني في كلي الوقتين اللذين كانت فيهما النوبتان في اليوم الأوّل أم لا. وإنّي لأعلم أنّهم قد توهّموا عليّ مراراً كثيرة أنّ استدلالي على وقت نوبة الحمّى إنّما هو بطريق التكهّن، لا بطريق تقدمة المعرفة الطبّيّة.

من ذلك أنّ في هذا الصنف من التركيب الذي كلامنا الآن فيه، وهو تركيب حمّى الغبّ مع الحمّى الدائمة النائبة في كلّ يوم، قد أعلم أنّي رأيت فتى حدثت عليه في أوّل يوم من مرضه نوبة حمّى غبّ خالصة في الساعة الأولى من النهار، ثمّ حدثت عليه في الساعة السادسة نوبة من الحمّى الدائمة التي تنوب في كلّ يوم التي يسمّيها الحدث من الأطبّاء قثيمارينوس. فإنّ من عادة هؤلاء الأطبّاء أن يسمّوا بهذا الاسم الحمّى التي تنوب في كلّ يوم ولا تقلع، حتّى ينقّى منها البدن.

وأمّا أنا، فإنّ من عادتي أن أسمّي هذه الحمّى أمفيمارينوس دائمة، أي نائبة في كلّ يوم دائمة، لأنّي لا أجد الاسم الذي يسمّي به الحدث من الأطبّاء هذه الحمّى في شيء من كلام اليونانيّين أصلاً. فأمّا الاسم الذي أسمّيها به، فأجدهم يسمّون به كلّ شيء يكون في كلّ يوم على حال واحدة. إلّا أنّه، كما قال أفلاطون، قد ينبغي أن يستخفّ بالأسماء من كان قصده النظر في

مثل هذه الأمور الكبيرة الجليلة القدر. فأنا أسمّي، ليكون كلامي كلاماً واضحاً بيّناً، الحمّى التي تنوب في كلّ يوم ثمّ تقلع النائبة في كلّ يوم، وأطلق لها هذه الصفة من غير أن أستثني فيها شيئاً أصلاً، وأسمّي الحمّى النائبة في كلّ يوم التي لا تقلع نائبة في كلّ يوم دائمة. وإن أراد مريد أن يزيد في صفة الأولى المفارقة، فشأنه وذاك.

وكذلك الحال في الحمّى التي تنوب في الثالث. فإنّي أسمّي أحد صنفيها إمّا غبّاً بقول مطلق وإمّا أن أستثني فأقول غبّاً مفارقة، وأسمّي الصنف الآخر منها غبّاً دائمة. وقد يمكن أن أسمّي الغبّ الدائمة النائبة في الثالث والنائبة غبّاً بقول مطلق من غير أن أستثني، كما قد سمّاها قوم. وليس ينبغي لنا أن نطيل الكلام في الأسماء، لكنّه ينبغي أن أرجع إلی ما كنت قصدت إليه.

فأقول إنّ الفتى الذي قلت إنّه حدث فيه تركيب حمّى الغبّ مع النائبة في كلّ يوم الدائمة، ابتدأت به الحمّى في اليوم الأوّل منذ غدوة مع نافض مشاكل لنافض حمّى الغبّ، وكانت جميع الدلائل الباقية الدالّة على حمّى الغبّ محفوظة فيه إلی أن دخلت الساعة السادسة. ثمّ حدث به بغتة قيء مرار كثير، واختلاف أيضاً كثير خرج فيه مرار، وعرق يسير. ثمّ إنّه، بعد أن كان هذا، تقبّض على المكان واقشعرّ، وابتدأت به نوبة أخرى، وكان في ابتدائها

نبضه صغيراً، ولبثت تلك النوبة إلی الساعة الحادية عشرة من ذلك النهار تتزيّد تزيّداً خفيّاً قليلاً قليلاً، وكانت أكثر الدلائل التي كانت تظهر فيها في ذلك الوقت دلائل ابتداء النوبة، وكان معها أيضاً نبذ من دلائل التزيّد. ثمّ، منذ ذلك إلی نحو الساعة الرابعة من الليل لبثت تتزيّد تزيّداً صحيحاً. ثمّ بقيت على مقدار واحد من العظم فيما يظهر للحسّ إلی الساعة السادسة من الليل. ثمّ منذ ذلك الوقت ابتدأت تنحطّ انحطاطاً بيّناً إلی الساعة الرابعة من نهار اليوم الثاني.

فإنّه في تلك الساعة ابتدأ ينقبض، وظهرت فيه دلائل ابتداء النوبة، وذلك أنّ أطرافه مالت إلی البرد، وصغر نبض عروقه، وجعلت تلك النوبة تتزيّد إلی العشاء قليلاً قليلاً من غير أن يحدث فيها اقشعرار ولا غيره من اختلاف الحال. ثمّ بلغت تلك النوبة منتهاها نحو الساعة الرابعة من الليل وابتدأت تنحطّ انحطاطاً محسوساً نحو الساعة السادسة. فتبيّن أنّه ينبغي أن يتوقّع ابتداء نوبة الحمّى النائبة في كلّ يوم في اليوم الثالث نحو الساعة الثانية. ولم يكن يتبيّن من أمر حمّى الغبّ التي كانت بذلك الفتى، هل تحفظ وقتها، فلا تغادره أم تغادره.

ثمّ ابتدأت في الساعة الثانية نوبة اقشعراريّة، وجعلت تلك النوبة تتزيّد بأسرع من تزيّد نوبتي الحمّى النائبة في كلّ يوم الدائمة اللتين كانتا في اليوم الأوّل وفي اليوم الثاني، ولم تزل تلك حالها إلی الساعة الخامسة. ثمّ إنّه حدث لها ابتداء آخر من بعد الساعة الخامسة، وكانت الأعراض التي عرضت له كلّها في ذلك الوقت شبيهة بالأعراض التي عرضت له في الساعة الثانية. ثمّ إنّه منذ ذلك الوقت جعلت حمّاه أيضاً تتزيّد تزيّداً أسرع إلی أن كانت الساعة الثامنة. ثمّ إنّ الاقشعرار عاوده في ذلك الوقت، ولم تلبث أن تزيّدت حمّاه تزيّداً سريعاً حتّى، إذا كانت الساعة الرابعة من الليل، بلغت تلك النوبة منتهاها. وكانت هذه النوبة نوبة الحمّى المعروفة بالمخالطة للغبّ الصحيحة الخالصة، لأنّ الحمّيين كلتيهما اللتين كانتا بذلك الغلام ابتدأتا في وقت واحد، لأنّ الحمّى التي كانت تنوب عليه في كلّ يوم كانت تتقدّم ساعتين، وحمّى الغبّ التي كانت به كانت تتأخّر ساعتين.

فكان من يقدر أن يتعرّف صور الحمّيات وطبائعها يتبيّن في ذلك الفتى تبييناً ظاهراً أعراض حمّى الغبّ وأعراض الحمّى النائبة في كلّ يوم الدائمة مختلطة. وذلك أنّه، لمّا كانت حمّى الغبّ تبتدئ بنافض، وتلك الحمّى النائبة في كلّ يوم تبتدئ بغير نافض، كانت الحمّى المختلطة المركّبة منهما تحدث

قشعريرة، والقشعريرة شيء أقلّ من النافض وأكثر من البرد، وفضله على البرد بقدر نقصانه عن النافض. فإن كان بعد القشعريرة من كلّ واحد من الطرفين بعداً سواء، كانت شيئاً متوسّطاً بينهما، أعني بين النافض وبين البرد، وذلك من عادته أن يحدث خاصّة، إذا اختلط الطرفان.

فقد يتبيّن من هذا أيضاً أنّ الذي سمّى هذه الحمّى مخالطة للغبّ، لم يسلك في تسميتها غير الطريق. وذلك أنّها، لمّا كانت مركّبة من الحمّى النائبة في كلّ يوم الدائمة ومن حمّى الغبّ، كانت كلّ واحدة من هتين الحمّيين جانباً وشطراً من جملتها. فكما أنّ اليونانيّين يسمّون البغل إيميّونس، وتفسير هذا الاسم شطر حمار أو المخالط للحمار، كذلك يسمّون هذه الحمّى إيميطريطاؤس، وتفسير هذا الاسم شطر الغبّ أو المخالطة للغبّ. فإنّ البغل يعين في كونه من أحد الجانبين الفرس ومن الجانب الآخر الحمار، فسمي من أحدهما فقط وترك ذكر الآخر.

وهذه الحمّى النصف منها غبّ، والنصف الآخر الحمّى النائبة في كلّ يوم الدائمة. وتولّد هذه الحمّى يكون على ضربين، إمّا باجتماع نوبتي الحمّيين في وقت واحد، كما قلت قبيل، من قبل أنّ إحدى النوبتين تتقدّم والنوبة الأخرى

تتأخّر، وإمّا بامتزاج الحمّيين كلتيهما الواحدة بالأخرى منذ أوّل الأمر. فأمّا التي تكون باجتماع النوبتين في وقت واحد، فإنّما لها نوبة واحدة من طبيعة الحمّى المخالطة للغبّ، وأمّا الأخرى، فجميع نوائبها منذ أوّل المرض إلی آخره نوائب الحمّى المخالطة للغبّ، وهي التي يسمّيها جميع الناس بالحقيقة المخالطة للغبّ وشطر الغبّ. وسأذكر هذا بعد قليل أيضاً، وخاصّة من أجل أغاثينس وأرخيجانس وأصحابهما.

فأمّا الفتى الذي كنّا في اقتصاص أمره، فإنّه، لمّا أصابته نوبة على تلك الصفة في اليوم الثالث، من قبل اجتماع الحمّيين اللتين كانتا به في وقت واحد، إذ كانت الحمّى التي كانت تنوب عليه في كلّ يوم تتقدّم ساعتين دائماً، والحمّى التي كانت تنوب عليه غبّاً كانت تتأخّر دائماً ساعتين، فإنّ النوبة في اليوم الرابع ابتدأت به مع طلوع الشمس، وكانت تلك النوبة حافظة لطبيعة الحمّى البلغميّة على حقّها وصدقها.

وقد كانت النوبة الخامسة على هذا القياس مزمعة بأن تبتدئ في الساعة العاشرة من الليل، إذ كانت تتقدّم دائماً ساعتين. فأمّا النوبة الثالثة من الحمّى التي كانت بذلك الفتى من المرار، إذا حسبت النوائب منذ أوّل المرض، فكانت

مزمعة بأن تبتدئ به في اليوم الخامس في الساعة الرابعة من النهار، حتّى تكون المدّة بين ابتداء الحمّيين ستّ ساعات، وكذلك كان أمرهما.

فابتدأت به نوبة في الساعة العاشرة من الليلة الرابعة على نحو طبيعة الحمّى البلغميّة، ولم تزل على ذلك إلی أن كانت الساعة الرابعة من النهار. ثمّ لحقتها حمّى المرار مع نافض يسير. ثمّ إنّ النوبة منذ ذلك صارت طبيعتها طبيعة مركّبة على نحو طبيعة حمّى المرار وطبيعة حمّى البلغم معاً.

فلمّا كانت الليلة التي تلت ذلك النهار نحو الساعة الثامنة من الليل، ابتدأت به الحمّى البلغميّة، وهي خالصة مفردة، وبقيت به سائر ليلته ونهاره كلّه من غد، وهو السادس. ثمّ إنّها جعلت تنحطّ وتنتقص إلی وقت انتصاف الليل. ثمّ إنّها منذ ذلك الوقت ابتدأت على ذلك المثال بعينه، وبقيت في النصف الباقي من الليل وفي النصف من النهار من غد، وهو السابع، إلی وقت انتصاف النهار. ثمّ إنّها أخذت في الانحطاط، إلّا أنّه ردفتها الغبّ، فابتدأت بنافض على مثال النافض الذي من شأن الغبّ الخالصة أن تبتدئ به. وكانت سائر الدلائل كلّها فيها على ذلك المثال خالصة صحيحة. ثمّ إنّه حدث فيها قيء مرار واختلاف مرار وبول حسن محمود ورشح يسير نحو العشاء بالقرب من المساء، فدلّت بهذه الدلائل دلالة بيّنة في غاية البيان لمن يحسن تعرّف

طبائع الحمّيات، أنّها قد تنقّصت وانحطّت وأنّها ستنقضي بعد دور واحد، وأقصاه دورين. وممّا صحّح ذلك أيضاً أنّه كان في انحطاط تلك النوبة من الراحة والخفّ أمر عجيب لم يكن تقدّم في شيء من أوقات انحطاط النوائب الأخر، ولم تزل تلك حاله إلی الساعة الرابعة من الليل.

فإنّه في ذلك الوقت ابتدأت به الحمّى البلغميّة التي كانت تنوب عليه في كلّ يوم وتتقدّم ساعتين، وبقيت عليه سائر ليلته ونهاره كلّه من غد. ثمّ إنّها ابتدأت أيضاً في الليلة الثامنة في الساعة الثانية من الليل، وبقيت عليه سائر تلك الليلة، وأخذت في الانحطاط من غد في نهار اليوم التاسع. وقد كان حقّ نوبة حمّى الغبّ أن تبتدئ به في ذلك اليوم في الساعة الثامنة، لأنّها كانت لا تزال تتأخّر ساعتين، إلّا أنّها في ذلك اليوم ابتدأت نحو الساعة التاسعة، فدلّت بهذا أيضاً على انحطاط تلك الحمّى وتنقّصها.

فلمّا كان مع مغيب الشمس، اتّصلت بها الحمّى البلغميّة، فابتدأت على تقدّمها كالعادة وبقيت عليه تلك الليلة والنهار من غد، ثمّ ابتدأت أيضاً في الساعة العاشرة من نهار ذلك اليوم، وهو العاشر، ثمّ ابتدأت أيضاً في اليوم الحادي عشر في الساعة الثامنة من النهار وبقيت بلغميّة صحيحة. ثمّ إنّه، لمّا كان في الساعة الأولى من الليل، ابتدأت به حمّى الغبّ مع قشعريرة، فتأخّرت أربع ساعات. فلمّا كان في الساعة السادسة من الليل، اختلف مراراً وندي

بدنه كلّه. ثمّ إنّ حمّاه في انحطاطها وتنقّصها صارت إلی حال قريبة من الإقلاع، فدلّ ذلك على أنّ الغبّ التي كانت به قد انقضت الانقضاء التامّ، وأنّ الحمّى البلغميّة التي كانت به بقيت به وحدها وقد تنقّصت أيضاً بعض التنقّص.

فلذلك، لمّا كان اليوم الثاني عشر، لم تتقدّم نوبتها ساعتين كما كانت أوّلاً تتقدّم، لكنّها ابتدأت في الساعة السابعة من النهار. ثمّ إنّها في اليوم الثالث عشر، لم تبتدئ في الساعة السادسة من النهار، لكنّها تأخّرت أيضاً عن ذلك الوقت، فابتدأت في الساعة السابعة، وتبيّن فيها الخفّ والانحطاط بياناً قويّاً. فلمّا كان اليوم الرابع عشر، كان الانحطاط أبين وأحسن كثيراً، وكان ابتداء النوبة في الساعة التاسعة، وظهرت في البول علامات قويّة للنضج تنذر بأنّ تلك الحمّى تنقضي في يوم البحران الذي بعد ذلك اليوم.

إلّا أنّ هذا ليس هو ممّا كلامنا فيه الآن، إلّا على سنن القول، وإنّما كلامنا الآن في أنّ هذا المريض الذي وصفنا قصّته قد دلّ دلالة كافية أنّه كثيراً ما تتركّب حمّيات مختلفة الأجناس، منها من المرار ومنها من البلغم، ومنها مفارقة ومنها دائمة بعضها مع بعض، من غير أن يشعر بذلك كثير من الأطبّاء.

٨ وإذ قد قلت في هذا ما كان ينبغي أن يقال فيه، فإنّي راجع إلی الأمر الذي كنت أخّرت ذكره قبيل. فأقول إنّ الحمّى المركّبة من حمّى الغبّ والحمّى النائبة في كلّ يوم الدائمة التي نسمّيها المخالطة للغبّ، ربّما كانت المرّة الصفراء أغلب فيها، فتكون من قبل ذلك أعراض الغبّ أقوى فيها. وربّما كانت الصفراء أقلّ فيها والبلغم أكثر، ولذلك تكون أعراض الحمّى النائبة في كلّ يوم الدائمة أصحّ فيها. وربّما لم يكن واحد من الخلطين فيها غالباً على الآخر، لكنّهما متساويان في القوّة، وإذا كانا كذلك، كانت الحمّى هي المخالطة للغبّ الخالصة الصحيحة، إذ كانت طبيعتها تكون الطبيعة التي دلّ عليها بقراط حين قال في المقالة الأولى من كتاب إبيذيميا:

وكانت الأعراض التي عرضت لأكثرهم حمّيات اقشعراريّة، دائمة، حادّة، لا تفارق أصلاً، إلّا أنّ طريق هيجانها مخالط للغبّ. فتكون في يوم أخفّ، ثمّ تكرّ في الآخر كرّات، وتتزيّد في مدّتها كلّها حدّة.

فإنّ بقراط إنّما عنى بالحمّيات الاقشعراريّة لا الحمّيات التي تكون معها

قشعريرة مطلقة. فإنّ ذلك موجود في حمّيات كثيرة سأصفها فيما بعد، لكنّه إنّما عنى بالاقشعراريّة الحمّيات التي يكون جلّ النوبة فيها اقشعرار في أحد اليومين، وهو اليوم الذي تنوب فيه الغبّ والنائبة في كلّ يوم الدائمة معاً. فإنّ اليوم الآخر إنّما تنوب فيه الحمّى النائبة في كلّ يوم فقط. وفي أكثر الأمر إنّما تكون الحمّى المركّبة منهما في اليوم الأوّل من المرض، وتكون في اليوم الثاني الحمّى البلغميّة الدائمة، إلّا أنّه ربّما عرض أن تبتدئ الحمّى البلغميّة في اليوم الأوّل، وتنوب الحمّيان جميعاً في اليوم الثاني.

والنوبة المشتركة بينهما، إذا كان الخلطان متساويين في القوّة، بالحال التي وصفتها قبيل من حال الحمّى المخالطة للغبّ، وإذا كانت الغبّ فيها أغلب، كانت الحمّى أشدّ اقشعراراً، حتىّ يكاد أن يكون فيها شيء من النافض في أوّل النوبة. وهذه الحمّى تكون أسخن وأشدّ تلهّباً واحتراقاً، وبلوغها إلی منتهاها يكون أسرع، ويكون فيها قيء مرار واختلاف مرار وعرق. وإذا كانت الحمى الأخرى التي هي البلغميّة أغلب، كان البرد في الأطراف أغلب، وكان الاقشعرار أقلّ، وكان التضاغط في نبض العروق أقوى وأطول مدّة، وكان تزيّد النوبة تزيّداً بطيئاً، ولم تبلغ منتهاها إلّا بعد مدّة طويلة. ولم يكن في الحمّى عطش ولا تلهّب ولا احتراق ولا قيء مرار ولا اختلاف مرار ولا رشح مرار.

وقد كان أرخيجانس أيضاً شارف فهم هذا التركيب من هتين الحمّيين، إلّا أنّه اختلط عليه هذا المعنى ولم يلخّصه، كما بيّنت في المقالة السابعة من المقالات الثماني التي كتبتها في كتابه في النبض. من ذلك أنّه يتوهّم أنّ في الحمّى المخالطة للغبّ ربّما كانت الغبّ أغلب، وربّما كانت الحمّى النائبة في كلّ يوم أغلب، ولم يخطر بباله تركيبهما الكائن على المساواة في القوّة الذي منه تكون الحمّى المخالطة للغبّ الخالصة، ولا دلّ عليه، لكنّه ألغى ذكره البتّة.

فإنّه، متى كانت الحمّيان متساويتين في العظم، أعني حمّى المرار المفارقة وحمّى البلغم الدائمة، كان ابتداء النوبة مع اقشعرار، لأنّ الاقشعرار هو شيء متوسّط بين النافض وبين البرد، وأحد هذين، وهو النافض، يكون مع حمّى الغبّ، والآخر، وهو برد الأطراف، يكون مع الحمّى البلغميّة الدائمة. وتزيّد النوبة بعد ابتدائها يكون بسبب الغبّ سريع الإسخان للبدن سريع الحركة إلی نحو منتهى النوبة، ويكون بسبب الحمّى البلغميّة، إذ كانت توجب أن يكون التزيّد بطيئاً، يمتنع وينبتر، وكأنّه يكون بين الأعراض حرب وجهاد.

فربّما سخن بدن المريض، وذلك يكون إذا أعملت فيه حرارة الغبّ عملاً أقوى، فرفعت الأخلاط نحو الجلد، وربّما حبست حركتها ومانعتها وجاذبتها فيها الحمّى البلغميّة، إذ كانت في طبيعتها ثقيلة عسرة الحركة باردة بطيئة

النفوذ. ففي هذه المحاربة والمجاهدة، إذا غلب الخلط البارد، كان التقبّض والاقشعرار وبرد الأطراف والجلد، حتى يظنّ أنّه قد ابتدأت نوبة أخرى، وإذا غلب الخلط الحارّ، سخن البدن سخونة شديدة دفعة، حتّى يظنّ أنّ الحمّى قد قاربت منتهاها. ثمّ لا يلبث أن يغلب الخلط البلغميّ، فيعود التقبّض والبرد والاقشعرار، ولا يزال ذلك يكون إلی أن تبلغ الحمّى منتهاها. والمنتهى أيضاً يكون قبل الوقت الذي يكون فيه منتهى الحمّى التي تكون من البلغم، وبعد الوقت الذي يكون فيه منتهى الحمّى التي تكون من المرّة الصفراء. وذلك لأنّ البلغم يمنع الصفراء من سرعة حركتها، والصفراء تحثّ البلغم وتزيله عن الإبطاء والثقل.

فهذه هي حال الحمّى المخالطة للغبّ الخالصة التي تكون من امتزاج حمّيين متساويتين في القوّة، إذ كانت تكون من امتزاج خلطين متساويين في القوّة. فأمّا التي ليس هي منها خالصة، فهي إمّا أن تكون الصفراء فيها أغلب، وإمّا البلغم.

٩ وأمّا التركيب الثاني من تراكيب هتين الحمّيين، فهو تركيب حمّى الغبّ مع الحمّى النائبة في كلّ يوم، ونوبة الحمّى تكون في هذا التركيب شبيهة بالنوبة التي وصفتها قبل، إلّا أنّها تخالفها في أنّ هذه تقلع، حتّى ينقّى منها البدن، وفي أنّها في اليوم الثاني تبتدئ باقشعرار أو بنافض، عندما تتفرّد الحمّى النائبة في كلّ يوم. فيجب ألّا تكون هذه الحمّى هي الحمّى المخالطة للغبّ، إذا كانت الحمّى المخالطة للغبّ من الحمّيات الدائمة. فإن عددت الحمّى المخالطة للغبّ في كلّ واحد من جنسي الحمّى، أعني المفارق والدائم، لم تكن هذه الحمّى وحدها تسمّى مخالطة للغبّ، لكن حمّيات أخر غيرها معها.

ومن هذا الطريق، فيما أحسب، يسمّي أغاثينس جميع حمّيات الغبّ المتطاولة مخالطة للغبّ. إلّا أنّه، إذ كان هذا البحث وما أشبهه إنّما هو بحث عن الاسم، لا عن المعنى، فإنّي لست أرى أن أقيم عليه وأتشاغل به. وذلك لأنّي قد أفردت للأسماء الطبّيّة على حدتها كتاباً، وبيّنت في ذلك الكتاب معما بيّنت ولخّصت تلخيصاً شافياً أيّ البحث والخصومة هو البحث والخصومة عن نفس المعاني، وأيّها عن الأسماء.

فلنقبل الآن على نفس المعنى الذي قصدنا إليه، وهي الحمّى التي يسمّيها

بقراط المخالطة للغبّ الاقشعراريّة الدائمة التي تكون، إذا خالطت حمّى الغبّ الحمّى النائبة في كلّ يوم الدائمة، ولا تكون، إذا خالطت المفارقة، لأنّ الحمّى التي تتركّب منهما يجب حينئذٍ أيضاً ضرورة أن تكون مفارقة. ولا يمكن أيضاً أن تكون الحمّى المخالطة للغبّ من حمّيين دائمتين، إحداهما من المرار والأخرى من البلغم، لأنّ هذا التركيب لا تكون منه حمّى اقشعراريّة، ولا تكون فيها الكرّات الكثيرة التي وصفنا.

وذلك أنّه، لمّا كانت كلّ حمّى دائمة، فمن حكمها نفسها، إذا كانت صحيحة خالصة، ألّا يكون فيها اقشعرار ولا نافض، وجب ألّا تكون أيضاً الحمّى المركّبة من دائمتين اقشعراريّة. فيجب ضرورة في أن يجتمع للحمّى الواحدة أن تكون اقشعراريّة وأن تكون مع ذلك دائمة، أن يكون تولّدها من تركيب حمّيين، إحداهما مفارقة والأخرى دائمة. ولذلك، إذا تركّبت الغبّ مع النائبة في كلّ يوم الدائمة، كان من تركيبهما الحمّى المخالطة للغبّ، ولا يمكن أن تتولّد هذه الحمّى، إذا كانت هتان الحمّيان كلتاهما دائمتين، ولا إذا

كانت كلتاهما مفارقتين.

فقد بقي تركيب واحد، وهو التركيب الحادث من الحمّى النائبة في كلّ يوم المفارقة ومن حمّى المرار الدائمة، وقد يمكن من هذا التركيب أيضاً أن تكون حمّى قد اجتمع فيها الأمران، أعني أن تكون دائمة وتكون اقشعراريّة. وهذا التركيب يكون الأمر فيه بعكس التركيب الأوّل، وذلك أنّ الدوام يكون فيه من حمّى المرار، والاقشعراريّة من الحمّى البلغميّة، والكرّات من تقاوم الخلطين، وخاصّة متى كانا متعادلين في القوّة. ومتى كان أحدهما أغلب من الآخر، فقد وصفنا كيف تكون الحال في الأعراض وفي التعرّف لهذه الحمّى، حيث وصفنا حال الصنف الأوّل للحمّى.

وجميع ما وصفنا من هذه التراكيب الأربعة التي تكون بين حمّى المرار وبين حمّى البلغم قد يخيّل إليّ أنّ ذكرها كان في كتاب أدوار الحمّيات أولى. إلّا أنّي اضطررت إلی ذكرها في كتابي هذا بسبب الحمّى المخالطة للغبّ، إذ كان أرخيجانس يرى أنّ تولّدها يكون من حمّى الغبّ والحمّى النائبة في كلّ يوم، ولا يشعر أنّه إنّما تجعل من هذا التركيب حمّى مفارقة لا دائمة. فأمّا

أغاثينس، فأقرّ على نفسه أنّه يرى أنّ الحمّى المخالطة للغبّ هي من جنس الغبّ، وليس بينها وبينها فرق إلّا في طول نوائبها فقط.

ولو كان هؤلاء ذكروا جميع أصناف الحمّيات واستقصوا صفتها وكان غلطهم إنّما هو في أسمائها فقط، لما كان في غلطهم علينا من الصعوبة شيء. لكنّهم، لمّا كانوا لم يذكروا جميع أصناف الحمّيات، لا المفردة ولا المركّبة، وزادوا أيضاً أصنافاً أخر فضلاً لا ينتفع بها بتّة، لا في تقدمة المعرفة ولا في العلاج، التمسنا نحن بقدر الطاقة البحث عن هذا الفنّ واستقصاءه عن آخره واستخرجنا الأصناف التي ينتفع بها فيما ذكرنا في مدّة طويلة جدّاً بالتجربة والقياس معاً.

فما كان من تلك الأصناف مفرداً بسيطاً، فهو من هذا الغرض الذي قصدنا إليه في كتابنا هذا، وما كان منها مركّباً من هذه الأصناف المفردة، فذكره في كتاب أدوار الحمّيات وتراكيبها أولى. ومن قرأ كتابي هذا وتدبّره بعناية، فإنّه لم يكن بالجاهل بالطريق في ذلك العلم. وذلك أنّه يقدر ممّا وصفناه من أمر الحمّى البلغميّة وحمّى المرار، إذا تركّبت إحداهما مع الأخرى وامتزجت بها، أن ينقل ما وصفناه من ذلك إلی الحمّى السوداويّة، فيستدلّ به

على تركيبها وامتزاجها مع كلّ واحدة من الحمّيين الأخريين، وأعني بالتركيب أن تكون الحمّيان تبتدئ نوائبهما في أوقات مختلفة، وأعني بالامتزاج أن تكون النوائب من الحمّيين تبتدئ في وقت واحد. ويقدر أيضاً أن يركّب ويمزج هذه الحمّيات الثلاث من تلقاء نفسه، إذا عرف هذا الطريق الذي سلكته وامتثلته.

فإنّ أصل جميع ذلك ومفتاحه وينبوعه هو تعرّف طبيعة كلّ واحدة من هذه الحمّيات المفردة على الاستقصاء. فما عددها بالكثير، لكنّها كلّها إنّما هي ثلاث، حمّى المرار وحمّى السوداء وحمّى البلغم. وكلّ واحدة من هذه الثلاث صنفان، لأنّها تكون مفارقة، وتكون دائمة، فتصير جميع الأصناف المفردة من الحمّيات التي تكون من عفونة الأخلاط ستّة. فإن وجدت في الحمّيات مع هذا الاختلاف اختلافاً آخر جزئيّاً، فإنّما حدوث ذلك الاختلاف من قبل مقدار الخلط الذي تتولّد منه الحمّى، ومن قبل كمّيّة عفونته وكيفيّتها، ومن قبل طريق حركته، ومن قبل العضو الذي يعفن فيه.

١٠ من ذلك أنّ من الحمّيات التي تنوب غبّاً وتفارق ما كانت مدّة نوبته قصيرة، وكان ابتداؤها بنافض، وكان انقضاؤها بعرق وقيء مرار أو مع ذلك باختلاف مرار، فإنّ هذه الحمّى تسمّى غبّاً خالصة. وما كان من هذه الحمّيات ينقص شيئاً من هذه الخلال التي وصفنا، فإنّه ليس يسمّى غبّاً خالصة، لكنّه يسمّى غبّاً بقول مطلق. وإن كان مع ذلك أيضاً وقت فترة الحمّى قصيراً، وبيّن أنّ ذلك إنّما يكون إذا طالت النوبة، فإنّ هذه الحمّى تسمّى غبّاً طويلة، وفي هذه الحمّى من الاختلاف في التفاضل بطريق الأكثر والأقلّ اختلاف كثير.

فيجوز أن يسمّى بعض أصنافها غبّاً طويلة بقول مطلق، وأولاها بأن يسمّى بهذا الاسم، فيما أحسب، هي الحمّى التي تلبث نوبتها أربعاً وعشرين ساعة، ثمّ تقلع، فينقّى البدن في الأربع والعشرين ساعة الباقية نقيّاً من الحمّى، وأن يسمّى بعض أصنافها غبّاً زائدة الطول، وأولاها بأن يسمّى بهذا الاسم الحمّى التي تكون نوبتها نحواً من ثلاثين ساعة، وأن يسمّى بعضها أزيد طولاً، وأولاها بذلك الحمّى التي تطول نوبتها نحواً من ستّ وثلاثين ساعة، ويسمّى بعضها أزيد ما يكون منها طولاً، وأولاها بذلك الحمّى التي تطول نوبتها نحواً من أربعين ساعة أو أكثر من ذلك.

وليس يمكن أن نحدّ كلّ واحدة من هذه الحمّيات بحدّ صحيح قائم بسبب مسئلة العويص الذي يدخل من باب الزيادة والنقصان قليلاً قليلاً. وليس يجب أيضاً ضرورة أن نطلب في استعمال الأسماء هذا الاستقصاء، إذ كان قد يمكننا دونه أن ندلّ من نخاطبه بالاستقصاء والحقيقة على أمر كلّ واحد من المرضى ونعالجه بالعلاج الصواب ونتقدّم فنعلم ما سيكون من حاله.

فأنزل أنّ مريضاً من المرضى تلبث حمّاه عليه خمس عشرة ساعة وتقلع عنه ثلاثاً وثلاثين ساعة، ويعرض له ذلك على هذا القياس في كلّ نوبة من نوائب حمّاه. أقول إنّ من البيّن أنّك تقدر أن تعرف الوقت الذي ينبغي أن تنيله فيه الغذاء من معرفتك بمدّة نوبة الحمّى ومدّة فترتها، وتصل أيضاً إلی كلّ ما يمكن الوصول إليه ممّا يحتاج إليه في تقدمة المعرفة والعلاج وصولاً كافياً من غير أن يحتاج إلی أن تبحث هل ينبغي أن تسمّي تلك الحمّى غبّاً بقول مطلق أم ينبغي أن تضيف إلی ذلك اسماً يحدّ به الاحتلاف بينها وبين غيرها. وإن أردت أيضاً أن تدلّ غيرك على تلك الحمّى التي بذلك الإنسان كيف الحال فيها، فدلالتك إيّاه على ذلك بأن تصف له مقدار طول نوبة الحمّى ومقدار وقت فترتها أبلغ من دلالتك إيّاه على ذلك بأن تطلب له اسماً يدلّه على ذلك دلالة بيّنة محدودة. فهذا هو أفضل ما يكون من الاقتصاص والتعليم وأبلغه.

ثمّ من بعده الطريق الذي وصفته قبيل، حين سمّيت بعض الحمّيات غبّاً خالصة، وسمّيت بعضها غبّاً بقول مطلق، وبعضها غبّاً أطول قليلاً، وبعضها غبّاً زائدة الطول، وبعضها أزيد طولاً، وبعضها أزيد ما يكون منها طولاً.

وأغمض الطرق وأردؤها الطريق الأوّل الذي وصفته، وهو الطريق الذي يختصم فيه الحدث من الأطبّاء ويشاغب بعضهم بعضاً من غير أن يعلموا أنّ خصومتهم إنّما هي في الأسماء. وليس تعجّبي من سائر الأطبّاء كتعجّبي من أغاثينس. فقد يكثر تعجّبي من هذا، إذ كان يصف بعض الحمّيات النائبة في كلّ يوم بأنّها طويلة، وكذلك بعض حمّيات الربع، ولم يحفظ ذلك القياس في حمّى الغبّ، لكنّه سمّى ما امتدّت نوبته وطالت منها حمّى مخالطة للغبّ.

وحسبي الآن من الكلام في الأسماء، فإنّي قد شارفت أن أكون أنا أيضاً قد أفنيت في ذكرها من الزمان أكثر ممّا يستحقّ. فينبغي الآن أن نرجع إلی النظر في الأمور التي بقيت عليّ.

١١ ومن أجلّ ما بقي عليّ أن أنظر فيه هو أن أنظر هل يكون من الدم، إذا عفن، صنف من الحمّى، كما تكون أصناف منها من المرّتين والبلغم. فإنّي قد قلت إنّ الدم، إذا سخن فقط من غير أن يعفن، فإنّه تكون منه الحمّى المعروفة بحمّى يوم. وقد ينبغي أن نبحث الآن عن الصنف من الحمّى الذي يكون من عفونته، فإنّه لا بدّ من أن يكون الدم أيضاً قد تناله العفونة. ولعلّنا أن نعلم أيّ صنف من الحمّى يكون من الدم إذا عفن، إذا علمنا أوّلاً كيف يعفن الدم.

فأقول إنّ أرسطوطاليس قد أحسن عندي في قوله أنّ العفونة تكون من الحرارة الغريبة، ويعني بالغريبة الحرارة التي هي من خارج، لا غريزيّة ولا خاصّة بكلّ واحد من الأجسام. فإنّ الحرارة الغريزيّة من شأنها أن تنضج، فأمّا الحرارة الغريبة، فمن شأنها أن تفسد، وذلك هو أن تعفّن.

والحرارة التي تعرض للدم من خارج قد تعرض عند نكاية حرّ الشمس في الأبدان وعند حالات الهواء الوبائيّة، وبالجملة في جميع الحمّيات من أيّ سبب كان حدوثها. وإذا اجتمع أيضاً في عضو من أعضاء البدن من الدم مقدار أكثر، حتّى يكون مقداره فوق ما تحتمله قوّة ذلك العضو، فسد، وخاصّة متى

حدثت منه سدد بسبب غلظه فيما في ذلك العضو من العروق الدقاق أو اغتصّ ولحج فيها بسبب كثرته كالذي يعرض في الأورام التي تكون في اللحم الرخو الذي في الحالب وغيره، وبالجملة في جميع الأورام الحارّة.

فإنّ الدم في تلك الحالات يفسد لسببين، أحدهما أنّه لا يكون له متنفّس، والآخر أنّ الطبيعة لا تضبطه وتستولي عليه. وقد نرى عياناً أنّ الشيء، إذا لم يكن له متنفّس، عفن في جميع الأشياء التي خارج، أعني الثمار والبزور وغيرها، حتّى الثياب. وممّا يؤكّد الأمر عندنا تأكيداً كافياً في هذا الأمر الذي أنا في صفته، ما نرى من الحال في ذات الجنب.

فإنّ بعض من تصيبه تلك العلّة يقذف شيئاً شبيهاً بالرغوة زبديّاً، وبعضهم يقذف شيئاً أصفر، وبعضهم يقذف شيئاً أحمر، وذلك إنّما هو صديد من الخلط الغالب في الورم لا يضبطه موضع الورم، لكنّه يرشح ويخرج منه لرقّته. وربّما رأيت ذلك الصديد أسود، وليس يرى ذلك منذ أوّل الأمر، لكن بعد تطاول من المدّة وبعد أن يقذف قبله في أكثر الأمر شيء أصفر، والشيء الأصفر يدلّ على غلبة المرار الأصفر، والشيء الزبديّ يدلّ على غلبة

البلغم، والشيء الأحمر يدلّ على غلبة الدم.

فيشبه أن يكون قد تعفّن الدم أيضاً في المواضع التي تحدث فيها الأورام الحارّة، وأن تكون الحمّى المتولّدة منه أسكن وأقلّ عادية من الحمّيات التي تكون من سائر الأخلاط، إلّا أنّ قياس نوائبها يكون قياس أدوار الغبّ خاصّة. فإنّا كذلك نرى الأمر يكون في أصحاب ذات الجنب أيضاً، إذا كان الشيء الذي ينفثونه أحمر. فإن أفرط عليه الاحتراق، فإنّ أرقّ ما فيه وأكثره ينقلب لا محالة إلی المرّة الصفراء، وأغلظ ما فيه ينقلب إلی السوداء، كما قد نرى الأمر يكون في القروح التي تعرف بالجمر أيضاً. فإنّ في تلك القروح أيضاً يحدث للدم انقلاب من حال غليان شديد يعرض له إلی أن يصير سوداويّاً. وينبغي أن تفهم عنّي من قولي سوداويّاً في هذا الموضع أنّ ذلك الخلط لم يصر بعد مرّة سوداء خالصة صحيحة، لكنّه شيء بين الحدّين.

فالحمّيات تكون على حسب طبائع الأخلاط التي ينقلب عليها الدم، وليس بينها من الفرق، إلّا أنّ تلك خبيثة وهذه ليست بالخبيثة. فإنّ الحمّيات التي تكون من الدم بعد انقلابه إلی تلك الأخلاط أهدأ وأقلّ عادية في جميع حالاتها، وخاصّة في هدوء حرارتها وطيبها. فإنّ حرارة تلك الحمّيات، وإن

كانت خاصّة توجد كثيرة جدّاً في ملمسة اليد، إلّا أنّها لا محالة هادئة طيّبة مثل الحرارة التي توجد في البدن بعد الحمّام. وذلك أنّ كثرة حرارة الحمّى إنّما تكون دائماً بحسب كثرة ما يتحلّل من البدن. فأمّا عاديتها وكراهتها عند اليد التي تلقاها من خارج، فإنّما تكون بحسب ما مع الخلط من الحدّة والحرافة.

وليكن هذا عندك من أعظم دليل يستدلّ به على الخلط المولّد للحمّى، أعني الحال في كيفيّة الحرارة. فإنّ الحرارة، متى كانت أميل إلی البخاريّة وأقلّ عادية وأذىً للّمس، فهي من الدم. ومتى كانت مؤذية لذّاعة قارصة للّمس، فإنّما تكون من المرّتين، ومتى وجدت الحرارة في أوّل ما تلمس البدن إلی البخاريّة أقرب، وليست معها حدّة، وإذا طال لبث كفّك عليه، أحسست منها بتلذيع يتزيّد قليلاً قليلاً، وفيها خاصّة مع ذلك اختلاف حتّى يخيّل إليك أنّها كأنّها تنفذ بالمصفى أو بالمنخل، فاعلم أنّ تلك الحمّى إنّما حدثت عن بلغم قد عفن.

١٢ ولمّا نظرت وبحثت عن السبب الذي من قبله صارت الحرارة التي تلقى الكفّ من الحمّيات التي تكون من سائر الأخلاط مستوية، والحرارة التي تلقاها من الحمّيات التي تكون من البلغم تلقاها بهذا الاختلاف الذي وصفنا، رأيت أنّ أولى الأسباب بأن يكون السبب في ذلك ما عليه هذا الخلط من اللزوجة والغلظ وعسر الانحلال. فإنّ الذي يتحلّل من هذا الخلط ومن سائر الأخلاط هو ما يرقّ ويلطف منه دائماً، وبطيئاً ما يرقّ ويلطف ما كان أغلظ. فإن كان مع ذلك بارداً في طبعه، كان أحرى كثيراً بأن لا يلطف سريعاً.

فيجب ألّا يلطف كلّه ولا على الاستواء، لكنّه إنّما يتحلّل ويتبخّر ما قد استولت عليه منه العفونة فقط. والذي يعرض في هذا شبيه بما نراه يعرض برّاً في الرطوبات اللزجة الغليظة، إذا طبخت. وذلك أنّه تقوم عليها نفّاخات، وإذا تفطّرت تلك النفّاخات، ارتفعت منها ريح، وارتفعت مع تلك الريح رطوبة قد لطفت. فأمّا الرطوبات الرقيقة، فليس تتولّد عليها، إذا طبخت، نفّخات، والبخار الذي يرتفع منها يرتفع على حال واحدة من جميع أجزائها متّصلاً غير متشتّت.

١٣ وإذ قد قلنا في هذا ما كان ينبغي أن يقال فيه، فقد ينبغي أن ننظر في السبب في الحمّيات التي تعرف بالمطبقة التي يسمّيها بعض اليونانييّن سونوخس. فقد يخيّل إليك من أمرها العجب أنّك ربّما رأيت فيها قلد الحمّى يتّصل إلی اليوم الرابع أو إلی الخامس، وربّما رأيته يتّصل إلی اليوم السابع، وهو قلد واحد منذ أوّل الحمّى إلی آخرها. على أنّك، إن استقصيت النظر في الأمر، وجدت أنّ حدوث النوائب في بعض الحمّيات على الأدوار أعجب من هذا.

فإنّ المثال الذي وصفناه فيما تقدّم من الزبل الذي تعفّن منه شيء بعد شيء لا يكاد يمكن أن يكون في بدن الحيّ، لأنّ الأخلاط التي تعفن لا تلبث أن تختلط بالأخلاط التي لم تعفن، إذ كانت الأخلاط تجري من كلّ موضع من البدن إلی كلّ موضع منه. فإذ كان الأمر كذلك، فليس يمكن أن تكون العفونة في عضو من الأعضاء دون غيره في وقت من الأوقات دون غيره، إلّا أن يكون ورم في عضو من الأعضاء قد ربط الخلط الذي قد عفن وحصره فيه.

فإذ كان الكلام قد آل إلی ضدّ ما كان نحا نحوه، وتبيّن أنّ وجود السبب في الحمّيات التي تنوب على أدوار أصعب من وجود السبب في الحمّيات المطبقة، فقد ينبغي أن نروم أن نخبر عن الحال فيهما جميعاً من غير أن نطوّل في هذا الباب أيضاً أو نعاند من أخطأ فيه، لكنّا نقتصر على صفة الحقّ فقط، كما فعلنا في جميع ما تقدّم. فإنّ الناظر في ذلك يتطرّق منه إلی وجود ما قد أخطأ فيه غيرنا.

وينبغي أن نبتدئ من أشياء تتبيّن عياناً غاية البيان، وهي أصناف من الرمد منها ما ينوب في كلّ يوم ومنها ما ينوب غبّاً، وأوجاع من أوجاع الأذنين ومن أوجاع الرأس تعرض فيه كلّه أو في النصف منه، وهي التي تسمّى الشقيقة. وقد نرى في بعض الناس أوجاع النقرس وأوجاع المفاصل تنوب على دور.

فكما أنّا قد نرى في جميع هذه الأوجاع العروق التي في الأعضاء التي تنوب عليها تلك النوائب تنتفخ وتنتفخ والورم يتزيّد والأوجاع تشتدّ، ونرى في بعض الأوقات بعض ذلك الفضل الذي يجري إلی العضو يفيض فيخرج منه، كذلك قد ينبغي أن نتوهّم أنّه يعرض في الأعضاء الباطنة التي لا تظهر

للحسّ على هذا القياس، حتّى يكون الورم في ذات الجنب وفي ذات الرئة يعظم وينتفخ في أوقات ابتداء النوائب ويتحلّل ويضمر في أوقات انحطاطها.

ولعلّنا أن نعلم كيف يكون ذلك، إن نحن تذكّرنا ما بيّنّاه في غير هذا الكتاب من أمر حدوث الورم وسائر العلل التي تكون من انصباب الفضل إلی بعض الأعضاء. فإنّا إن أضفنا إلی ما وصفناه من ذلك ما يخصّ هذا القول الذي نحن فيه، كان ذلك كافياً في هذا الكلام الذي نحن فيه.

١٤ فأقول إنّ الفضل الذي يتحلّب إلی العينين قد يوافقنا جميع الناس على أنّه إنّما ينحدر من الرأس. إلّا أنّهم ليس يقدرون أن يخبرونا بالسبب الذي من أجله صار ذلك الفضل ينحدر إلی العينين كثيراً على دور محدود، وذلك أنّهم لم ينظروا نظر المؤثر للحكمة في القوى الطبيعيّة التي كتبنا فيها ثلاث مقالات بيّنّا فيها أنّ جميع القوى الطبيعيّة أربع بها يكون تدبير أمر النبات والحيوان.

وإحدى تلك القوى القوّة التي تجتذب الشيء المشاكل، والثانية القوّة الماسكة لذلك، والثالثة القوّة المغيّرة له، والرابعة القوّة الدافعة للشيء الغريب المخالف. والشيء الغريب المخالف في جميع الأشياء ضربان، أحدهما مخالف في كمّيّته والآخر في كيفيّته. وذلك يجتمع بسبب ما يكون في الأعضاء من قوّة القوى وضعفها. وذلك أنّ القوى، إذا كانت متساوية متعادلة، وكانت المجاري التي تخرج فيها الفضول بالحال الطبيعيّة، كانت الأعضاء صحيحة.

وإذا أتى عضواً من الأعضاء شيء أكثر من المقدار الذي يمكن أن يستحيل فيه، فلا بدّ من أن يكون ذلك الفضل الذي يبقى فيه يندفع من القوّة الدافعة التي فيه. فإن ضعفت تلك القوّة، فلا بدّ من أن يبقى ذلك الفضل في ذلك الموضع. فإن كان كثيراً، أثقله ومدّده، وإن كان حادّاً، لذّعه وقرصه،

وكذلك أيضاً إن كان حارّاً، أسخنه، وإن كان بارداً، برّده. وذلك يظهر ظهوراً بيّناً فيما يكون في المعدة.

وذلك أنّه كثيراً ما يتناول بعض الناس الطعام فيكثر منه، فربّما اضطرّ بعضهم إلی أن يقيئه لغثيان يعرض له، وربّما عرض لبعضهم الاختلاف. فالذي يعرض هناك من قذف الشيء الفضل حتّى يبرز ويخرج بأعظم المجاري وأوسعها، هو بعينه الذي يعرض في سائر أعضاء بدن الحيّ من نقلة الفضل ومسيله في المجاري الضيّقة، لا إلی خارج البدن، لكن من عضو إلی عضو، بأن تدفعه الأعضاء التي هي أقوى، وتقبله الأعضاء التي هي أضعف. ثمّ يندفع أيضاً من تلك الأعضاء إلی أعضاء أخر، ثمّ من تلك إلی أعضاء أخر، إلی أن ينتهي إلی أضعف الأعضاء كلّها. وليس يمكن أن يعود فيرجع من تلك الأعضاء إلی ما هو أقوى منها، ولذلك صار عند اجتماع الفضل والامتلاء والخلط الرديء في البدن إنّما يصاب من الأعضاء أضعفها، فتحدث في بعضها الأورام الدميّة، وفي بعضها أورام الصفراء التي تعرف بالحمرة، وفي بعضها القروح الساعية التي تكون منها العلّة المعروفة بالنملة، وبعضها تحدث فيه علّة من غير ذلك من العلل، وبعضها تحدث فيه الحال المعروفة بتحلّب الفضل إلی العضو، وقد وصفنا أمر تلك الحال في كتاب أفردناه لها.

فليس بعجب أن يكون الدماغ أو الرأس كلّه، إذا اجتمع فيه فضل من الفضول، يدفعه إلی عضو من الأعضاء التي هي أضعف منه، إمّا إلی العين وإمّا إلی الأذن وإمّا إلی الصدغ وإمّا إلی الشفة وإمّا إلی الخدّ وإمّا إلی الأسنان وإمّا إلی الحنك وإمّا إلی اللثّة وإمّا إلی اللهاة والنغانغ واللحم الرخو الذي هناك، وإذا لم يكن شيء من تلك الأعضاء ضعيفاً، أن يدفعه إلی الصدر أو إلی الرئة أو إلی الحلق أو إلی المريء أو إلی المعدة.

فكما أنّ الرأس كثيراً قد يكون سبباً للمرض لكلّ واحد من هذه الأعضاء التي ذكرتها، كذلك قد يولّد الورم الذي يكون في الكبد أو في الطحال أو يزيد فيه واحد من الأعضاء المجاورة لهما أو من الأعضاء البعيدة منهما، واحداً كان ذلك العضو أو شتّى، ويجعل نوائب ذلك المرض جارية على دور.

وليس بعجب أن يعرض لتلك الأعضاء شبيه بما يعرض في خروج الفضول من البطن. فكما أنّ إنساناً لو رأى ما يخرج من تلك الفضول في كلّ يوم، ثمّ لم يعرف السبب في خروجه، كان سيعجب من لزومه للطريقة الواحدة التي هو لازم لها. كذلك من لم يعلم السبب الاضطراريّ في تولّد الفضول المتولّدة في الرأس ولا في خروجها، ولم يعلم أيضاً لِمَ صار بعض تلك

الفضول يجري إلی خارج وبعضها يجري إلی عضو آخر، تحيّر وعجب من انتظام ما يجري منها على قياس واحد. وكذلك من لم يعلم أيّ الأعضاء هي الدافعة للفضل على الكبد، ولا السبب في اندفاعه، عجب من استواء قياس الحمّيات التي تكون من الكبد. فأمّا من علم أنّ الفضل المندفع على الكبد هو الفاعل للحدوث الأوّل من الورم فيها، وهو السبب في هيجان علّتها على النوائب فيما بعد، زال عنه التعجّب.

١٥ والسبب فيما يجري من تلك الفضول ضربان، أحدهما هو الذي فرغت الآن من صفته، وهو أن تندفع الفضول من أعضاء إلی أعضاء أضعف منها، والآخر أن تنجذب تلك الفضول، وقد ينبغي أن نصف الآن ذلك.

فنجعل مفتاح كلامنا في هذا الباب أيضاً ما يظهر عياناً لجميع الناس، وهو أنّك إن عمدت إلی عضو من الأعضاء وطليت عليه شيئاً من الدواء الذي يسمّيه اليونانيّون ثفسيا ويسمّيه العرب الينتون، رأيت ذلك العضو بعد مدّة من الزمان قد تزيّدت حرارته وانتفخ انتفاخاً ليس باليسير. وكذلك تكون الحال، متى سخّنت عضواً من الأعضاء بالنار، أو دلكته دلكاً شديداً، أو سخّنت زفتاً أو راتينجاً تسخيناً معتدلاً وطليته على العضو وتركته قليلاً، حتّى يجمد عليه، ثمّ اجتذبته فاقتلعته دفعة، أو طليت على عضو من الأعضاء أيّ عضو كان شيئاً من الأدوية المسخّنة. فإنّك قد ترى ذلك العضو في جميع هذه الحالات ينتفخ، وذلك أنّ من شأن الحرارة إمّا أن تجتذب إليها رطوبة، وإمّا أن تقبلها. فإنّه ليس يضطرّنا الأمر في كلامنا هذا إلی تحديد هذا وتلخيصه، إذ كنّا قد نصل إلی ما يحتاج إليه في الأمر الذي قصدنا إليه من

غير أن يحتاج إلی البحث عن هذا وشبيهه ممّا قد يبحث عنه المؤثر للحكمة.

وذلك أنّا قد نرى دائماً الأعضاء التي تسخّن سخونة أشدّ يجري إليها شيء من الرطوبة، وما يجري إليها من ذلك في الأبدان التي فيها فضول وامتلاء كثير، وفي الأبدان النقيّة التي ليست فيها فضول يسير. وقد تجري الرطوبة أيضاً خاصّة إلی الأعضاء التي يعرض فيها الوجع.

من ذلك أنّه كثيراً ما ينال الإنسان في طرف إصبع من الأصابع نخسة من إبرة أدقّ ما تكون من الإبر، فيعرض له من ذلك على المكان وجع، ثمّ لا يلبث أن يسخّن ويرم وينتفخ انتفاخاً شديداً جميع ما حول ذلك الموضع. وربّما عرض لبعض الناس من ذلك ورم في الإبط لقبول الأجسام السخيفة الشبيهة بالإسفنج المعروفة باللحم الرخو الذي في الإبط ممّا يجري إلی ذلك الموضع الذي حدث فيه الوجع. وربّما رأيت ذلك يكون في وسط من العضد، وذلك يكون فيمن له في ذلك الموضع من ذلك اللحم الرخو شيء له قدر.

وأبين ما ترى ما نحن في صفته من هذا فيمن حدثت به قرحة صغيرة ليس معها ورم ولا وجع بالقرب من الظفر. فإنّ تلك القرحة، إن توانى صاحبها عنها ولم يعن باندمالها، نبت فيها لحم، فضغط الظفر ذلك اللحم، فحدث فيه أوّلاً وجع، ثمّ حدث من ذلك ورم في الإصبع كلّها، وربّما حدث من ذلك في

المعصم أو في القدم ورم عظيم جدّاً.

فهذا ممّا يدلّك على أنّ الوجع أيضاً قد يجلب إلی الأعضاء التي يحدث فيها رطوبة فضل. وليس يضطرّنا الأمر أيضاً إلی ذكر السبب في هذا في كلامنا هذا، وذلك أنّا قد ذكرناه في كتاب آخر هو أولى به من هذا، وليس نحتاج إلی ذلك السبب في كلامنا هذا.

فقد نرى عياناً أنّ السبب فيما يجري إلی الأعضاء من الفضل ممّا أصله في نفس تلك الأعضاء التي يجري إليها ذلك الفضل شيئان، أحدهما من قبل الحرارة التي تتولّد فيها، والآخر من قبل الوجع الحادث فيها. فأمّا السبب في أن يكون ما يجري إلی تلك الأعضاء أكثر أو أقلّ أو أصلح أو أردأ، فليس هو من قبل تلك الأعضاء التي يجري إليها الفضل فقط، لكن السبب في أن يكون ما يجري إليها أصلح أو أردأ إنّما هو من قبل تلك الأعضاء التي ينبعث منها ذلك الفضل، والسبب في أن يكون ذلك الشيء الذي ينبعث أقلّ أو أكثر، هو من قبلهما جميعاً، أعني من الدافع والقابل.

وذلك أنّ الحرارة والوجع كلّما كانا أشدّ وأقوى، كان ما يجتذبانه من الفضل أكثر، وكلّما كانا أضعف، كان ذلك الفضل أقلّ. وكذلك أيضاً متى

كان البدن نقيّاً من الفضول، كان ما ينبعث منه إلی الأعضاء التي تجتذبه قليلاً، ومتى كان البدن كثير الفضول ممتلئاً، كان ما ينبعث منه إلی تلك الأعضاء أزيد بحسب مقدار خروجه عن الحال الطبيعيّة. وهذه الأصناف تكون من غير ضعف يكون في الأعضاء التي يجري إليها الفضل.

وقد يكون من ذلك صنف آخر من قبل ضعف تلك الأعضاء التي تقبل الفضل وكثرة الفضول في الأعضاء التي تدفعه عليها. فإنّ جميع الأورام التي تحدث في الأعضاء من غير أن يكون نالها ما يجرحها أو يوهنها، فإنّها إنّما تكون من فضول تندفع من أعضاء هي أزيد قوّة إلی أعضاء هي أنقص قوّة، وجميع هذه الأورام تولّد الحمّيات، إذا وصلت حرارتها إلی القلب، إمّا لعظمها وإمّا لقربها منه.

والفضول التي تتحيّر في جميع الأعضاء التي تحدث فيها الأورام تعفن للأسباب التي ذكرناها فيما تقدّم، إلّا أنّ العفونة ليست تحدث فيها كلّها على مثال واحد من قبل أنّ بعضها من جنس البلغم، وبعضها من جنس السوداء وبعضها من جنس الصفراء. وإذا عفنت تلك الفضول، تولّدت منها حرارة

خارجة من الطبع في ذلك العضو الذي حدث فيه الورم، فتسخّن تلك الحرارة بسخونة ذلك العضو أوّلاً ما يتّصل به، ثمّ ما يتّصل بذلك، ثمّ تسخّن بسخونة تلك الأعضاء أعضاء أخر بسبب المجاورة، ثمّ تتأدّى الحرارة من تلك الأعضاء إلی أعضاء أخر، وربّما لم يزل ذلك يكون إلی أن تبلغ الحرارة إلی القلب.

وقد وصفت حال الأعضاء التي تحدث فيها الأورام في مقالة وصفت فيها أمر المزاج الرديء المختلف وفي مقالة وصفت فيها أمر الأورام. وأنا واصف الآن أنّه قد يجب ضرورة أن يعفن الدم الذي يحويه العضو كثيراً لعفونة ما يجري إليه من الفضول.

١٦ فأقول إنّ الفضل الذي اندفع من عضو من الأعضاء إلی عضو غيره ربّما كان من الكثرة والرداءة بحال يضرّ بها بالعضو القابل له، وربّما كان بحال من القلّة وقلّة العادية لا يضرّ معها بذلك العضو القابل له. فإن بلغ من إضراره بالقوّة أن يصيرها إلی حال الضعف وإلی أن يثقلها حتّى لا تضبط ما كانت تضبطه قبل ذلك، فإنّه يجب ضرورة أن يعفن حينئذٍ الدم أيضاً الذي في ذلك العضو لسببين، أحدهما أنّ الرطوبة التي لا تضبطها ولا تستولي عليها الحرارة الطبيعيّة التي في العضو لم يبق لها من الحال إلّا الانتقال إلی العفونة، والآخر أنّ ذلك الدم يعفن بعفونة تلك الفضول. فإن لم يبلغ من إضرار ذلك الفضل بالقوّة أن تخور وتنحلّ بعملها أصلاً، صار الدم عند ذلك في حال يكون فيها على الطرف من الرداءة والعفونة، وذلك أنّه يعفن بعض العفونة بمجاورة تلك الفضول التي تعفن له، ويبقى على شيء من حاله الطبيعيّة بسبب القوّة التي تصلحه.

وأيّ الحالين كانت حاله، فإنّ الحرارة المتولّدة من عفونته تلك الأولى هي لا محالة أميل إلی الحدّة والتلذيع من الحرارة الطبيعيّة، ولا تزال تلك الحرارة تتزيّد بحسب ما يمكن في طبيعة تلك الفضول من البقاء. فإنّ قياس تلك

الفضول إلی الحرارة التي تتولّد عنها قياس الحطب إلی النار. فإنّ النار إنّما تتولّد من الحطب باستحالته إليها، وليس يبقى الحطب على تلك الاستحالة مدّة لا نهاية لها، شالته حدّاً تنتهي عنده، وهو فناء اللدونة التي فيه. فإنّه لا يزال الحطب يمكن فيه الاحتراق ما دام فيه شيء من لدونته الغريزيّة. فإذا نفدت تلك اللدونة، زال عنه الاحتراق وبقيت منه بقيّة تسمّى رماداً.

وكذلك أيضاً حرارة الأخلاط التي تعفن لا تزال باقية إلی أن تبلغ غاية الاحتراق. وقد يجب أن تكون البقيّة الأرضيّة التي تبقى من الأخلاط، إذا احترقت، يسيرة، لا كثيرة كالبقيّة التي تبقى من الحطب، إذا احترق، وذلك من قبل غلبة الطبيعة الرطبة على جوهرها، لا الطبيعة اليابسة. وكذلك إن عمدت إلی شيء من هذه الرطوبات التي برّاً فطبخته، مثل الزيت أو الخمر، كان الذي يبقى منه من الشيء الأرضيّ يسيراً جدّاً، وباقيه كلّه يرقّ ويلطف ويتحلّل، فيصير في طبيعة البخار والهواء فينفد.

والأخلاط أيضاً التي يحدث فيها الغليان بسبب العفونة ترقّ وتلطف من الحرارة التي تتولّد فيها، فيتحلّل جوهرها كلّه ويتبدّد في الهواء في أوقات

منتهى نوائب الحمّى وأوقات انحطاطها، ولا يبقى منها إلّا إمّا الشيء اليسير جدّاً، وإمّا أن لا يبقى منها شيء أصلاً. أمّا الأخلاط التي هي إلی الغلظ أميل، فيبقى منها شيء يسير، وأمّا الأخلاط الرقيقة المائيّة، فلا يبقى منها شيء أصلاً.

فإن لم يكن حدث للقوّة التي في العضو الذي حدث فيه الورم ضعف، ولم ينبعث إليه ثانية فضل، فإنّ مرضه قد انقضى، وليس يعرض لصاحبه الحمّى ثانية، لا في اليوم الثاني ولا في الثالث ولا في الرابع. فإن انبعث إليه فضل بالسبب الذي كان انبعث إليه به أوّلاً، أو لم ينبعث إليه فضل، إلّا أنّه بقي فيه ضعف من القوّة، فلا بدّ من أن يحمّ صاحبه ثانية.

فأنزل أوّلاً أنّ قوّة العضو قويّة، إلّا أنّه يجتمع في المدّة من الزمان الذي بعد انقضاء الحمّى الأولى في الأعضاء التي كانت دفعت عليه الفضل شيء شبيه في كيفيّته وفي مقداره بما كان اندفع عليه أوّلاً. وإنّما يكون كذلك فيمن تبقى فيه حال تلك الأعضاء التي يندفع منها الفضل على مثال واحد، وتبقى كمّيّة الغذاء الذي ينجذب إلی العضو وكيفيّته على حال واحدة. فإنّه قد يجب ضرورة، فيما أحسب، أن يكون الشيء الذي مقداره مساوٍ لمقدار غيره

وحاله مثل حاله، إذا استحال من قوّة واحدة بعينها، يتولّد منه من الفضول ما هو مساوٍ في مقداره وشبيه في حاله بما يتولّد من ذلك.

ويجب أيضاً ضرورة أن تكون مدّة الزمان التي تجتمع فيها فضول هذا مساوية لمدّة الزمان التي تجتمع فيها فضول ذلك. وذلك أنّ الأعضاء التي تغتذي ما دامت حالها حالاً واحدة وغذاؤها غذاء واحداً، فإنّ ما يجتمع فيها من الفضل يكون متساوياً في كمّيّته وعلى مثال واحد في كيفيّتة وفي مدّة واحدة من الزمان. وتكون أيضاً حركتها لدفع تلك الفضول على الأعضاء التي هي أضعف منها على دور واحد بعينه، إذ كانت القوّة الدافعة إنّما تبتدئ فتهيج لأن تفعل فعلها، إذا ثقلت عليها الفضول لكثرتها أو آذتها بكيفيّتها.

وقد بيّنت أمر جميع هذه الأشياء في كتابي في القوى الطبيعيّة، وقد ينبغي أن يرتاض في ذلك الكتاب من أراد أن يعلم ما أنا في صفته ببرهان، إذ كان قد يستفيد من هذا العلم فوائد عظيمة المنفعة في علم الطريق بحيلة البرء. وأنا تارك الآن سائر كلّ ما أنا واصفه في ذلك الكتاب مقتصر على ذكر شيء واحد أمره بيّن سهل جدّاً، وقد فعلناه مراراً كثيرة في رمد كان يهيج وينوب على أدوار. فإنّ من سمعه كان حثّه له على تعلّم هذا العلم الذي نحن

فيه ليس باليسير.

وهو أنّا لا نزال نداوي هذا الرمد بخلاف ما يداويه به القوم الذين يصفون أنفسهم بعلاج العين. وذلك أنّ أولائك إنّما يكدّون العين دائماً بما يعالجونها به. وأمّا نحن، فربّما داوينا أصحاب ذلك الرمد بالحمّام، وربّما داويناهم بالإسهال، وربّما داويناهم بأن نسقيهم الشراب الصرف، كما قال بقراط، وربّما داويناهم بالفصد، وربّما داويناهم بهما جميعاً، أو بالحقنة مع الفصد، فربّما برئوا، حين يستعمل ذلك فيهم، وربّما احتاجوا معه إلی عناية وتعاهد للرأس. فجميع من عولج بهذا العلاج، إمّا لم تحدث عليه نوبة من رمده أصلاً، وإمّا أن حدثت له نوبة كان ذلك مرّة واحدة فقط، وكان ما ينوب عليه منها أنقص كثيراً ممّا كان أوّلاً.

وليس هذا موضع ذكر الشرائط والدلائل التي يحتاج إليها في العلاج، لكنّا إنّما نقصد في كلامنا هذا إلی أن نبيّن أنّه قد يمكن في بعض الحالات أن يكون الرأس لم تحدث فيه آفة أصلاً، إلّا أنّه يغتذي بدم رديء كثير الفضول، فتجتمع فيه بسبب ذلك فضول أكثر وأردأ ممّا كانت تتولّد فيه أوّلاً، حتّى لا تكفيها المجاري والمنافس الطبيعيّة، لكن تضطَر الطبيعة إلی أن تدفع الفضل على شيء من الأعضاء التي هي أضعف منه، أو تكون الأخلاط على الحال

الطبيعيّة وتكون قد حدثت بالرأس آفة، أو اجتمع الأمران، فاجتمعت بسبب ذلك الفضول واندفعت على بعض الأعضاء.

وذلك أنّه ما دام الدم الذي يجري إلی الرأس بحال واحدة وحال الرأس بحال واحدة، فإنّ الفضول لا تزال تجتمع في مدّة واحدة من الزمان، وهي بحال واحدة وبمقدار واحد، وتكون نوائب أورام العين بحال واحدة. وعلى هذا المثال بعينه أيضاً، متى حدثت لبعض الأعضاء التي في الرأس دون الرأس كلّه، إمّا الدماغ وإمّا الأغشية التي تحيط به، حال ما، حتّى يجتمع فيه من ذلك الغذاء الذي يغتذي به فضل له مقدار من المقادير وحال من الحالات، ويكون اجتماعه في مدّة من مدد الزمان، ثمّ يدفع ذلك الفضل عند أوّل تأذّيه به ما له قدر من التأذّي. فإنّه قد يعرض عند ذلك أيضاً أن تحدث علّة تنوب على دور، إمّا في العين، وإمّا في الأذن، وإمّا في غيرهما ممّا يشبههما من الأعضاء التي يندفع إليها الفضل بسبب أنّها أضعف من الأعضاء التي تدفعه عليها.

فإذ كنّا قد نرى عياناً العلل التي تحدث في العينين والأذنين والقدمين وفي أعضاء كثيرة غيرها ممّا أشبهها تهيج منها نوائب على أدوار، كما بيّنّا، فأيّ شيء بعجب من أن يكون في ذات الجنب وفي ذات الرئة وفي سائر الأعضاء التي لا يدرك ورمها بالنظر ما يجري من الفضل إليها بحال واحدة، وما يتولّد

عنه من الحمّى على مثال واحد، ولم يحدث للعضو الذي فيه الورم من الآفة شيء خاصّ كان بسببه تولّد ما وصفنا، سوى أنّه في ذلك الوقت أضعف من الأعضاء التي تدفع عليه الفضل؟

وليس بعجب أيضاً، إذا كان الأمر على هذا، أن تكون الفضول ليست تجتمع كلّها في مقدار واحد من مدّة الزمان. وذلك أنّه، لمّا كان الدم الذي يجيء إلی العضو الذي يغتذي به ليس يكون على حال واحدة دائماً، ولا العضو الذي يغتذي يكون أيضاً على حال واحدة دائماً، كانت مدّة الوقت الكافية لأن يجتمع فيها من الفضل المقدار الذي تتأذّى به طبيعة العضو أوّل تأذّيها، وتضطرّ أن تدفع عنها ذلك الشيء الذي يؤذيها لمنافرته لها، مختلفة في الأبدان المختلفة.

ولا ينبغي أن تعجب أيضاً، إذ كان الأمر على هذا، من أنّ مقدار طول النوائب ليس بمتساوٍ. وذلك أنّه، لمّا كانت الفضول ليست نوعاً واحداً، ولا مقدارها مقداراً واحداً، وجب ألّا يكون اشتعالها وتحلّلها على مثال واحد في جميع الأبدان. وذلك أنّ الفضول التي هي أكثر ومعها لزوجة وغلظ وهي إلی البرد أميل، فإنّها تحدث نوائب أطول، والفضول التي هي أقلّ وأسخن وأرقّ تحدث نوائب أقصر، وممّا يعين على ذلك معونة ليست باليسيرة، هيئة البدن

كلّه في ذلك الوقت ومقدار القوّة فيه.

وذلك أنّ البدن الذي هو أسخف يجعل النوائب من تلقائه أقصر، والبدن الذي هو أكثف يجعلها أطول، والقوّة، إذا كانت أقوى، جعلت النوائب أقصر، وإذا كانت أضعف، جعلت النوائب أطول. وذلك أنّ القوّة القويّة تدفع عنها الشيء المنافر لها بأسهل وأسرع ممّا تدفعه الضعيفة. وإذا كان البدن سخيفاً متخلخلاً لم يحتبس فيه الفضل، فيجب ضرورة فيمن تلك حاله أن يستفرغ الفضل سريعاً، وإن كانت سائر الحالات متساوية. وعلى هذا القياس بعينه قد يجب ضرورة فيمن بدنه على ضدّ هذه الحال، أن يكون استفراغ الفضول منه أبطأ، إذا كانت القوّة تدفع الفضول بضعف، وكان ضيق المجاري يحبس الشيء الذي يجري فيها.

وإذا اجتمعت جميع الأسباب معاً، كانت النوبة على أطول ما تكون، أو على أقصر ما تكون، أمّا على أطول ما تكون، فلغلظ الفضل وكثرته وضعف القوّة وضيق المجاري، وأمّا على أقصر ما تكون، فلرقّة الفضل وقلّته وشدّة القوّة وسعة المجاري.

١٧ وليس يعسر أيضاً على هذا القياس أن تعلم السبب الذي من أجله صارت بعض نوائب الحمّيات تقلع وبعضها لا تقلع. وذلك أنّه، متى كانت مدّة النوبة الأولى من القصر بحال تنقضي معها قبل أن تبتدئ النوبة الثانية، صار ذلك الوقت كلّه الذي بين انقضاء النوبة الأولى وبين ابتداء النوبة الثانية وقت إقلاع ونقاء من الحمّى. ومتى سبقت النوبة الثانية، فحدثت قبل أن تنقضي النوبة الأولى الانقضاء الصحيح، لم يبق بينهما وقت أصلاً ينقّى فيه البدن من الحمّى.

وقولي ما قلت من هذا كان على أنّ القوّة التي في العضو القابل للفضول باقية على حالها، أعني أن تكون محتملة بعد للدم الذي يحويه ذلك العضو الذي هي فيه مستقلّة بذلك على ما لم تزل. فإن حدث لتلك القوّة في حال من الأحوال ضعف، فكان ذلك سبباً لأن يكون الدم الذي في ذلك العضو يعفن فضلاً عن تلك الفضول ويولّد حمّى، كان ذلك أصلاً آخر لحدوث نوائب تجري على أدوار. فإن بقي أيضاً ذلك الأصل الذي ذكرته أوّلاً، كانا صنفين من الحمّى مركّباً أحدهما مع الآخر. فإن انقضى ذلك الأصل الذي ذكرته أوّلاً، وبقيت حال العضو الذي قبل الفضل الذي جرى إليه، فافهم عنّي

ما قلته لك في العضو الذي يبعث عليه ذلك الفضل في هذا العضو الذي قبله.

فإنّ هذا العضو أيضاً قد يتولّد فيه الفضل على ضربين مثل ما يتولّد في الباعث له، أحدهما أنّ الدم الذي فيه دم رديء، والآخر أنّ قوّته ضعيفة. وكذلك أيضاً، متى حدث بسبب من الأسباب لقوّة عضو من الأعضاء في حال من الأحوال من الضعف ما يكون معه الدم الذي يحويه ذلك العضو إنّما هو ثقل على القوّة التي فيه، لا غذاء له، فإنّ ذلك الدم يفسد. فإن كان حارّاً، فإنّه يعفن سريعاً، وإن كان بارداً مائلاً إلی البلغم، فإنّه، وإن لم تكن تلك الحال تحدث له على المكان، فإنّها بعينها تحدث له على طول المدّة. وإذا لم يقدر أيضاً عضو من الأعضاء أيّ عضو كان في حال من الأحوال أن يدفع ما يتولّد فيه من الفضول على غيره، حدث فيه من أصل تولّد الحمّى مثل ذلك الأصل الذي يحدثه في عضو غيره العضو الباعث له.

والسبب الأوّل في ألّا يقدر العضو أن يدفع فضوله على غيره، هو من قوّة الباعث والقابل، ولذلك سبب آخر من سدد المجاري التي من شأنها أن تكون من الأخلاط التي معها لزوجة أو غلظ أو كثرة. فليس إذاً بعجب أن يكون عضو من الأعضاء، من غير أن يبعث عليه غيره شيئاً من الفضول، كما يبعث

الرأس على العين، يصير من الحال بسبب فضوله التي تبقى فيه إلی حال العضو الذي يقبل فضول غيره. وذلك أنّ الفضول، إذا سدّت المجاري الطبيعيّة، فلا بدّ على طول المدّة من أن تعفن وتصير سبباً لكثرة الفضول في ذلك العضو لمنعها إيّاه من أن تستفرغ وتتحلّل، كما كانت تستفرغ وتتحلّل قبل ذلك. فيعفن أيضاً مثل عفونة ذلك الفضل الأوّل الفضل الذي يجتمع بآخره، فتتولّد من جميعها الحرارة الحمّائيّة التي تحدث في ذلك العضو.

وقد بيّنت فيما تقدّم أنّه حيث تولّدت أو تزيّدت حرارة، قد يجري إلی ذلك العضو الدم الذي في سائر الأعضاء. فيجب ضرورة في الوقت الذي جرى فيه أن تبرد الأعضاء التي جرى منها لنقصان الدم فيها، ويثقل ويتمدّد العضو العليل الذي جرى إليه ذلك الدم، ويستحيل ويتغيّر ذلك الدم الذي جرى لسببين، أحدهما أنّه يخالط الفضول التي قد أخذت فيها العفونة، والآخر أنّه يغتصّ ويلحج فيبقى، وليس له متنفّس.

ثمّ يكون عمل الحرارة فيه مثل عملها في حطب رطب قد ألقى منه شيء كثير دفعة على نار يسيرة، وتلك المدّة كلّها يقال لها ابتداء نوبة الحمّى. فإذا استولت الحرارة على تلك المادّة، فإنّ ذلك الوقت يقال له وقت تزيّد النوبة. ولا

تزال تلك الحرارة التي في ذلك العضو تتزيّد وتكثر، حتّى لا يقف لهيبها وإحراقها عند ذلك الموضع الذي هو بمنزلة المستوقد للعفونة، لكنّه يسعى على اتّصال، فيسري في البدن كلّه. فإذا بلغت تلك الأخلاط التي التهبت فيها الحرارة غاية لهيبها وغليانها، فإنّ ذلك الوقت يسمّى وقت منتهى النوبة، وترى بدن العليل كلّه في ذلك الوقت قد حمي، وانتشرت الحرارة فيه كلّه بالسواء.

ثمّ إنّه بعد ذلك، إن اتّفق أن تكون تلك الأخلاط رقيقة، وأن تكون القوّة قويّة، وأن يكون البدن سخيفاً متخلخلاً، استفرغ جلّ ما التهب وغلى من تلك الأخلاط بأن يتحلّل فيصير عرقاً. فإن كانت تلك الأخلاط غليظة، أو كانت القوّة الدافعة ضعيفة، أو كانت المجاري ضيّقة، لم يجر من البدن شيء محسوس، لكنّه إنّما يجري منه ما يرقّ ويلطف، حتّى يصير في طبيعة البخار. وهذا الوقت يقال له وقت تنقّص نوبة الحمّى وانحطاطها، وهو وقت تحلّل تلك الأخلاط التي التهبت وغلت.

ومتى كانت تلك الحال باقية في ذلك العضو، فلا بدّ من أن يتولّد فيه فضل آخر، إذ كانت قوّته لا تستولي على ما يجتذبه بعد من الغذاء عن آخره استيلاء صحيحاً. وذلك أنّ الفضل أيضاً، كما قلت فيما تقدّم، لا تلبث أن

تبتدئ فيه العفونة بسبب ما بقي في ذلك العضو من بقايا الفضول العفنة، وبسبب رداءته في نفسه. فإذا سخن ذلك العضو سخونة قويّة، جرى إليه أيضاً الدم من سائر الأعضاء على مثل ما وصفت قبيل، فكان أيضاً على ذلك المثال لنوبة الحمّى ابتداء وتزيّد ومنتهى وانحطاط. ولا يزال ذلك يحدث على دور، ما دامت الحال التي في العضو الأوّل المولّد للفضول باقية.

١٨ وتلك الحال ضربان، أحدهما ضعف العضو الذي بسببه تتولّد الفضول، والآخر الحال التي تجتمع ممّا يتولّد فيه في وقت بعد وقت. فإنّه لا ينبغي أن تتوهّم أنّ هذه الأواني الخارجة، إذا طبِخ فيها طعام من الأطعمة فتدخّن، بقيت فيها منه حال من تلك الحال، وليست تبقى في الأعضاء من الأخلاط التي تعفن فيها حال أصلاً. وأحرى ألّا يمكن أن تنقضي تلك الحال، إذا كانت في البدن كلّه أخلاط رديئة أو كثيرة، ولا سيّما إن اجتمع مع ذلك ضيق من جميع المجاري التي تنفذ فيها فضول ذلك العضو.

وكذلك أيضاً، فإنّ البرء يلحق ذلك العضو، إذا نقّيت وتفتّحت تلك المجاري، حتّى يجري منه ما فيه بسهولة، واشتدّت القوّة وقويت، وصلحت تلك الحال التي في العضو، ولم تكن في البدن كلّه كثرة من الأخلاط ولا رداءة. فأمّا ما دامت هذه الخلال باقية، فإنّه يجب أن يبقى دور تلك النوائب.

وكذلك قد نرى الأمر يعرض للنساء. فإنّ أسباب الطمث ما دامت في النساء باقية على مقدار واحد وحال واحدة، فإنّ دور الطمث يبقى بحال واحدة. وقد شرحت أمر جميع هذه الأشياء أبلغ الشرح في قول وصفت فيه

حال الأعضاء التي يجري إليها الفضل، وليس ينبغي لي الآن أن أطيل القول في تصحيح ما قد تقدّم بيانه وتأكيده ولا أدع ذكر جمل ما ينتفع به في هذا الكلام الذي أنا فيه.

ومن أنفع الأشياء فيه أن تعلم أنّ بعض الأعضاء قد يدفع على غيره فضوله، كما يدفع الرأس على العينين، وأنّ بعض الأعضاء قد يكون أصل تولّد الحمّى فيها من قبل الفضول المتولّدة فيها، وأنّه يعمّ هذه كلّها عفونة الفضول، ويخصّ واحداً واحداً منها شيء شيء غير العفونة. فيخصّ بعضها السدد والاغتصاص الحادثان في العروق، إمّا بسبب لزوجة الأخلاط، وإمّا بسبب غلظها، وإمّا بسبب كثرتها، ويخصّ بعضها ضيق المجاري، إمّا المحسوسة، وإمّا غير المحسوسة، ويخصّ بعضها أنّ جميع المواضع الخالية التي في جرم ذلك العضو قد امتلأت، ومع ذلك أيضاً قد يخصّ بعضها الصنف الآخر من الامتلاء الذي هو كثرة الأخلاط بقياس القوّة، كما بيّنت في القول الذي وصفت فيه أمر الامتلاء. ولست أعلم أنّه بقي علىّ ذكر شيء من أسباب تولّد الحمّيات التي تنوب على دور من الأدوار.

فأمّا الحمّيات التي لا تلزم نظاماً واحداً، فمنها ما يصير إلی تلك الحال بسبب انقلاب الخلط الذي عفن، ومنها ما يصير إلی تلك الحال بسبب سوء التدبير. وأسرع الأخلاط إلی أن ينقلب، إذا عفن، الدم. فقد بيّنت قبل أنّ شيئاً منه يصير مرّة صفراء، وشيئاً منه يصير مرّة سوداء. فبحسب ما يكون من استحالة الأخلاط في بدن المريض وتغيّرها تكون أدوار النوائب. فليس إذاً بعجب أن يتغيّر نظام الأدوار عند هذه الاستحالات. وقد يتغيّر أيضاً ذلك النظام مثل ذلك التغيّر، إذا كان الشيء الذي قد ابتدأت فيه العفونة في عضو من الأعضاء غير الشيء الذي يجري إليه من سائر الأعضاء، إمّا لأنّه في تلك الأعضاء فقط بتلك الحال، وإمّا لأنّه الغالب في البدن كلّه.

وكذلك أيضاً ما يخطئه المرضى على أنفسهم في تدبيرهم قد يفسد نظام الأدوار. فكما أنّ التدبير الرديء، إذا استعمله الأصحّاء، كان سبباً للأمراض، كذلك، فيما أحسب، أو أكثر قد تعرض للمرضى من الخطاء الذي يخطئونه على أنفسهم في التدبير نوائب من الحمّى. وليس في حال مرضهم فقط، لكن في حال إفاقتهم أيضاً قد تسرع إليهم الآفة من كلّ خطاء يخطئونه على

أنفسهم.

وعند كلّ آفة ذات قدر تنالهم قد يضطرّ الأمر إمّا إلی تقدّم الأدوار، وإمّا إلی تولّد نوائب من غير جنس النوائب الأول، فيفسد بتلك النوائب نظام الأدوار. وربّما كانت الأدوار أدوارا مركّبة، فلم يعرف ذلك الأطبّاء، فظنّوا أنّ نوائب حمّياتهم غير لازمة لنظام، إلّا أنّ هذا الاختلاف ليس هو اختلافاً بالحقيقة، لكنّه إنّما يظنّ ظنّاً فقط. فأمّا الاختلاف الذي هو بالحقيقة اختلاف، فإنّما يكون إمّا من قبل انقلاب الأخلاط المولّدة للحمّيات، وإمّا من قبل خطاء يعرض في التدبير.

وأمّا الجنس الذي بقي من هذه الحمّيات، وهو جنس الحمّيات المعروفة بالمطبقة التي يسمّيها اليونانيّون سونوخس، التي مدّة زمانها كلّه قلد واحد إمّا متساوي القوّة دائماً، وإمّا ألّا يزال يتنقّص، وإمّا ألّا يزال يتزيّد إلی وقت البحران، فإنّما يكون من السبب الذي وصف بركساغورس أنّه السبب في جميع الحمّيات، إذ ظنّ أنّ سببها إنّما هو عفونة تعرض للأخلاط في العرق الذي ينبت من أعلى الكبد المعروف بالأجوف، ويسمّيه اليونانيّون قولي.

وهذا القول يكون أتمّ وأصحّ، إذا قيل على هذا المثال، وهو أنّ ما كان من الأمراض يهيج وينوب على أدوار، فإنّما يتولّد عن حالات في الأعضاء، إمّا لأنّها تدفع الفضول، وإمّا لأنّها تقبلها، وإمّا لأنّها تولّدها، وإمّا لأنّها تجذبها على المثال الذي وصفناه قبيل.

وأمّا ما كان من الأمراض ليس له أدوار، فليس فيه في عضو خاصّ من أعضاء البدن علّة، لكن الأخلاط التي في العروق كلّها الضوارب منها وغير الضوارب، وخاصّة ما كان من تلك الأخلاط في أعظم العروق وأسخنها، تلتهب وتغلي، إمّا بسبب عفونة تحدث لها، وإمّا بسبب غير ذلك مثل ما يعرض في الحمّى التي تعرف بحمّى يوم، فتتولّد منها حمّى واحدة مطبقة متّصلة منذ أوّلها إلی آخرها لا تفتر ولا تزال باقية تحرق البدن، إلی أن تفنى تلك الأخلاط التي تولّدت عنها أو تنضج أو يحدث لها الأمران جميعاً.

تمّت المقالة الثانية من كتاب جالينوس في أصناف الحمّيات، وبتمامها تمّ جميع الكتاب.