Galen: De elementis ex Hippocrate (On the Elements According to Hippocrates)

Work

Galen, De elementis ex Hippocrate (Περὶ στοιχείων καθ' Ἱπποκράτην)
English: On the Elements According to Hippocrates

Text information

Type: Translation (Arabic)
Translator: Ḥunayn ibn Isḥāq
Translated from: Syriac (Close)
Date: between 825 and 873

Source

Muḥammad Salīm Sālim. Kitāb Ǧālīnūs fī l-usṭuqussāt ʿalā raʾy Abuqrāṭ. Muntaḫabāt al-Iskandarānīyīn 5. Cairo (al-Hayʾah al-miṣrīyah al-ʿāmmah li-l-kitāb) 1986, 9-140

Download

gal_deelem-transl-ar1.xml [171.51 KB]

بسم اللّه الرحمن الرحيم

كتاب جالينوس في الأسطقسّات على رأي أبقراط

(١) قال: إنّه لمّا كان الأسطقسّ أقلّ جزء ممّا هو له أسطقسّ وكان الجزء الذي هو أقلّ الأجزاء فيما يظهر للحسّ ليس هو الجزء الذي هو أقلّ الأجزاء بالحقيقة

لأنّ كثيراً من الأجزاء لصغرها تخفى عن الحسّ فقد بان لنا أنّ مسبار الأسطقسّات التي هي بالطبع والحقيقة لكلّ واحد من الأجسام ليس هو الحسّ.

ومن ذلك أنّك إن آثرت أن تأخذ زنجاراً وتوتيا ومرتكاً وزاجاً

فتسحقها جميعاً سحقاً ناعماً حتّى تصير كالغبار ثمّ تروم اختبارها بحسّك ظننت أنّها كلّها شيء واحد.

وإن أنت لم تقتصر على هذه الأربعة حتّى تخلط معها ما هو أكثر بكثير على هذا المثال الذي وصفت خيّل إليك أنّ هذه أيضاً شيء واحد على أنّها ليست بشيء واحد.

ولذلك لمّا قصد أبقراط البحث عن أستقصّات طبيعة الإنسان استهان بالأسطقسّات التي هي أبسط الأسطقسّات وأقدمها عند الحسّ وبحث عن الأسطقسّات التي هي بالحقيقة والطبع أوّليّة بسيطة.

وذلك أنّ منفعة المعرفة بهذه ليست بدون منفعة المعرفة بالأسطقسّات التي هي في الحسّ أوّليّة بسيطة كما سأبيّن في كتاب غير هذا.

وقد يجوز أن نوافق من قال إنّ هذه المحسوسة هي أسطقسّات في ظاهر الأمر فأمّا من قال إنّها بالحقيقة أسطقسّات فليس يجوز أن نوافقه. وذلك

أنّ الأسطقسّ بالحقيقة ليس هو الجزء الذي يخيّل إليك في ظاهر أمره أنّه بسيط مفرد أوّل لكنّه الجزء الذي هو في الطبع كذلك.

وذلك أتا إن قلنا إنّ الأسطقسّ في الطبع إنّما هو الجزء الذي يظهر لكلّ واحد أنّه أقلّ الأجزاء وأبسطها كانت الأسطقسّات فيما يظهر للعقبان وللرجل المشهور بحدّة البصر المسمّى لنخوس ولغيرهما من الذي هو في غاية حدّة البصر من الناس أو من الحيوان الذي لا نطق له غير الأسطقسّات فيما يظهر لكلّ واحد منّا. فليس ينبغي إذاً أن نقصد لطلب هذه لكن ينبغي أن يكون قصدنا الأستقصّات التي هي في الطبع أوّليّة مفردة لا يمكن فيها أن تتجزّأ إلى غيرها متى أردنا أن نظفر من طبيعة الإنسان أو من غيره من سائر الموجودات بمعرفة حقيقيّة ثابتة.

(٢) فقد ينبغي أن ننظر كيف السبيل إلى استخراج ذلك ووجوده.

فأمّا أنا فلست أرى أنّ إلى ذلك سبيلاً إلّا السبيل التي سلكها بقراط.

وهو أنّه ينبغي أن يكون أوّل ما نبتدئ به أن ننظر هل الشيء الذي منه قوام الأشياء أستقسّ واحد في صورته أو الأستقصّات كثيرة مختلفة غير متشابهة.

ثمّ ننظر بعد ذلك إن وجدنا الأستقصّات كثيرة مختلفة كم هي وأيّ الأشياء هي وكيف أحوالها في أنفسها وفي اشتراكها بعضها مع بعض. وقد بيّن بقراط أنّه ليس قوام بدن الإنسان وسائر الأجسام من أسطقسّ واحد أولى بهذا القول الذي أنا مقتصّه.

فإنّى قد رأيت أنّ الأجود أن أقتصّ قوله بلفظه ثمّ أفسّره وأشرحه. وهذا قوله بلفظه:

«وأمّا أنا فأقول إنّه لو كان الإنسان شيئاً واحداً لما كان يألم أصلاً. وذلك أنّه لو كان شيئاً واحداً لما كان بالذي يوجد شيء يؤلمه».

وأنا أقول إنّ أبقراط في هذا القول قد قصد لملاك الأمر في البرهان على أنّه لا يمكن أن يكون الأسقطسّ في صورته وقوّته واحداً فوصفه بأبلغ قول وأحسنه وأوجزه.

وإنّما قصد قصد إبطال ما يدعى من أمر الأسطقسّ الواحد في الصورة والقوّة وترك ذكر ما ادّعى في الأسطقسّ الذي هو واحد في العدد.

لأنّ القول بأنّ الموجود كلّه واحد في العدد قول في غاية الشناعة والقبح ولا يقول به إلّا من لا يعني بشيء ممّا يظهر حسّاً وذلك من أمره بيّن واضح.

وأمّا القول بأنّ جميع الأشياء الموجودة شيء واحد في الصورة والقوّة فقد يجد القائل السبيل إلى القول به كما قال بذلك أفيقورس وديمقراطيس فيما أدعياه من الأجزاء التي لا تتجزّأ.

ومن أشياع هذين وأهل طبقتهما أيضاً القوم الذين ادّعوا أنّ الأستقصّات هي أجرام في غاية القلّة لا يكون أقلّ منها أو أجزاء لا تتّصل أو أجرام لا أجزاء لها.

فقصد أبقراط قصد جميع هؤلاء فنقض أقاويلهم بقول عامّ مشترك بيّن به أنّه ليس قوام الأشياء من أسطقسّ هو شيء واحد في صورته وقوّته.

وألغى ذكر من ادّعى أنّ الموجود كلّه واحد في العدد أيضاً فلم يذكرهم ذكراً أصلاً لأنّه رأى أنّهم في حدّ المجانين الذين هم في غاية الجنون.

فلننظر في القياس الذي استعمله في بيان ما قصد له من ذلك ومناقضته لمن ادّعى أنّ قوام الأشياء من أسطقسّ واحد في الطبع هل جرى على طريق الصواب شاءوا أن يسمّوا ذلك الأسطقسّ جرماً لا يتجزّأ أو جرماً لا يتّصل أو جرماً لا يكون أقلّ منه أو جرماً لا أجزاء له.

وذلك أنّا إن نقضنا الأمر العامّ المشترك بين أهل هذه الفرق كلّها لم نحتجّ إلى القصد إلى الاختلاف بينهم.

والأمر العامّ المشترك بين جميعهم أنّهم وصفوا أنّ قوام الأشياء كلّها من أسطقسّ واحد أولى معرىً من الكيفيّات لا بياض له بالطبع ولا سواد ولا لون أصلاً ولا حلاوة ولا مرارة ولا حرارة ولا برودة ولا شيء أصلاً من غير ذلك من الكيفيّات.

فقد قال ديمقراطيس إنّ بالاصطلاح يقال اللون وبالاصطلاح يقال الحلو وبالاصطلاح يقال المرّ وأمّا الشيء بالحقيقة فإنّما هو الجرم الذي لا يتجزّأ والخلاء.

وهو يظنّ أنّ جميع الكيفيّات المحسوسة إنّما تكون من اجتماع الأجزاء التي لا يتجزّأ عند من يحسّها وليس شيء من الأشياء هو في طبعه أبيض ولا أسود ولا أحمر ولا أصفر ولا مرّ ولا حلو.

فإنّ هذا معناه في قوله «بالاصطلاح» كأنهّ قال: فيما يخيّل إلينا وعند حسّ الذي يحسّها لا في نفس طبائع الأمور وهو الأمر الذي سمّاه الشيء بالحقيقة حتّى تكون جملة معناه في قوله هذا المعنى الذي أنا واصفه.

وهو أنّه قد يظنّ الناس بشيء من الأشياء أنّه أبيض وبشيء أنّه أسود وبشيء أنّه مرّ وبشيء أنّه حلو وسائر ما أشبه ذلك والشيء بالحقيقة إنّما هو الواحد وعدمه.

فإنّ هذا أيضاً ممّا قد قاله ديمقراطيس فسمّى الأجرام التي لا تتجزّأ شيئاً واحداً لأنّها كلّها عنده في صورة واحدة. وسمّى الخلاء عدم الواحد لأنّه ولا واحد من الموجود.

والأجرام التي لا تتجزّأ كلّها عنده أجسام صغار عديمة الكيفيّات والخلاء عنده مكان ما تتحرّك فيه تلك الأجسام كلّها إلى أسفل الدهر كلّه. فإمّا أن يشبك بعضها ببعض بضرب من الاشتباك وإمّا أن يصدم بعضها بعضها فينبو بعضها عن بعض فيفارق بعضها بعضاً أو يجامع بعضها بعضاً أيضاً عند تلك الملاقيات. وبهذا تحدث أبداننا وسائر الأجسام كلّها وما فيها من الآثار ومن الحواسّ.

ويدعون أنّ تلك الأجسام الأول غير محتملة للتأثير.

فبعضهم قال إنّها من الصلابة بحال لا يمكن معها أن تنكسر كالذى ادّعى آل فيقورس.

وبعضهم قال إنّها من الصغر بحال لا يمكن معها أن تتجزّأ كالذي ادّعى آل ديودورس ولوقيبس.

وقالوا إنّه لا يمكن فيها أيضاً أن تستحيل بضرب من هذه الاستحالات التي يعرقها ويقرّ بها جميع الناس لوجود إيّاها بالمشاهدة والحواسّ حتّى لا يسخن

شيء منها ولا يبرد وكذلك أيضاً لا يجفّ ولا يرطب. وأحرى — إذ كانت كذلك — ألّا تبيض ولا تسودّ ولا تتغيّر أصلاً ضرباً من التغيّر في شيء من الكيفيّات.

فقد أحسن أبقراط في قوله لما قصد لإبطال قولهم إنّ الإنسان لو كانت هذه طبيعته لما كان يألم في حال من الأحوال لأنّ الشيء الذي من شأنه أن يألم فقد ينبغي أن تكون فيه هاتان الخلّتان لا محالة موجودتين أعنى أن يكون مستحيلاً وأن يكون حسّاساً.

وذلك أنّه إن كان لا يقبل في حال من الأحوال استحالة أصلاً بقي على حاله التي لم يزل عليها منذ أوّل أمره وليس يبقى على حاله ما يألم.

وإن كان يستحيل أيضاً كالحجارة والخشب حتّى يسخن ويبرد ويتجزّأ ثمّ لم تكن فيه غريزة حسّ لم يحسّ بالحال التي تحدث له كما لا تحسّ الحجارة.

وقد عدمت الأستقصّات التي يدّعيها أولئك الأمرين جميعاً. وذلك أنّه ليس شيء من الأجرام التي لا تتجزّأ يمكن فيه أن يستحيل ولا أن يحسّ.

فلو كنّا من أجرام لا تتجزّأ أو من طبيعة أخرى مفردة شبيهة بتلك الأجرام لما كنّا بالذي يألم وقد نألم.

فقد بان إذن من ذلك أنّا لسنا من جوهر واحد بسيط مفرد.

فهذه هي جملة قوله.

والأمر فيه بيّن عند جميع من تقدّم فارتاض في علم المنطق أنّه يوجب ما قلنا.

لكنّه لمّا كان من يدّعي هذه الأستقصّات وأمثالها لم يروضوا أفكارهم وهم مع ذلك من المحك واللجاجة بحال يظنّون معها أنّ انتقالهم إلى الأمر الأجود أعظم البلاء وأردؤه.

فقد ينبغي أن نصف لهم هذا القول العامّ بمثالات جزئيّة فأقول:

إنّ إنساناً لو أخذ إبرة دقيقة أدقّ ما يكون وثقب بها الجلد من حيوان ما لكان ذلك الحيوان لا محالة — لمّا ثقب جلده — سيتألم.

وليس تخلو تلك الإبرة من أن تكون لقيت واحداً من الأجرام التي لا تتجزّأ أو جزءين أو أكثر من ذلك.

فلننزل أوّلاً أنّها لقيت جرماً واحداً من تلك الأجرام التي لا تتجزّأ وقد كان كلّ واحد من تلك الأجرام التي لا تتجزّأ بحال لا يمكن معها أن تثقب ولا تحسّ. فيجب من ذلك أن لا تؤثّر فيه الإبرة شيئاً ولا لو أثّرت فيه كان يحسّ ذلك الأثر فإنّ الألم إنّما يكون من اجتماع هاتين الخلّتين أعنى أن يقبل القابل من المؤثّر أثراً وأن يحسّ الأثر فيه.

وليس يمكن في الأجرام التي لا تتجزّأ واحدة من الخلّتين. فليس يألم الحيوان إذا لقيت الإبرة منه جرماً واحداً من الأجرام التي لا تتجزأ.

فلننزل إذن أنّ الإبرة لم تلق جرماً واحداً من الأجرام التي لا تتجزّأ لكنّها لقيت جرمين.

وما قلته قبل في الواحد فقد يمكن الآن أن أقوله في الأثنين.

وذلك أنّه إن كان ولا واحد من الجرمين يمكن أن تثقبه الإبرة ولا لو أمكن أن تثقبه فثقبته كان في طبيعته أن يحسّ الثقب فإنّهما يوجدان عديمين للحسّ والوجع.

وذلك أنّه كما لا ينفع في حدوث الحسّ لقاء الإبرة لعظمين أو لغضروفين أو لشعرتين أو لغير ذلك من الأعضاء التي لا حسّ لها لأنّ الشعرتين من عدم الحسّ على مثل ما عليه منه الشعرة الواحدة.

كذلك لا ينفع في حدوث الحسّ لقاؤها لجرمين من الأجرام التي لا تتجزّأ إذ كان ولا واحد من الجرمين حسّاساً.

وإن لقيت الإبرة ثلاثة من الأجرام التي لا تتجزّأ أو أربعة كان الحكم فيها كالحكم في الحجارة والحصى والشعر.

فليس ينتفع بكثرتها لا في حدوث الحسّ ولا في حدوث الألم.

وذلك أنّه ليس شيء ممّا تركيبه من أجزاء لا تقبل التأثير ولا من أجزاء عديمة الحسّ يصير حسّاساً ولا قابلاً للأثر.

ولو كان المركّب بجملة يحسّ ويقبل التأثير وليس شيء من أجزائه التي هو مركّب منها يقبل التأثير ولا يحسّ لكان هذا سيكون عجباً.

والسبيل إلى وجود ما يطلب من هذا وشبهه يكون من وجهين أحدهما التجربة والآخر القياس.

وليس يوجد ولا بواحد من الوجهين في حال من الأحوال شيء حسّاس قابل للتأثير مركّب من أشياء لا حسّ فيها ولا قبول للتأثير.

لأنّك لو آثرت أن تجمع حجارة كثيرة من الصنام أو غيره ممّا هو في غاية البعد من القبول للتأثير ثمّ تروم ثقب ما جمعت منها لم يتثقّب في حال من الأحوال الشيء المركّب منها ولم تحسّ.

فإن جئنا إلى التجربة رأينا أنّه لم يوجد قطّ في هذا الدهر كلّه إلى هذه الغاية شيء هذه حاله.

وقد قلت قبيل إنّ في القياس أيضاً لا يصحّ هذا وإن قبل عقل من العقول أنّه ليس شيء من أقلّ قليل من أجزاء اللحم الذي يناله الوجع عندما ينثقّب يألم ولا ينثقّب فإنّ ذلك لعجب.

وأنا أقول إنّه لو كانت في جميع الأجرام التي لا تتجزّأ غريزة حسن لكنّها لا تحتمل أن تنثقّب ولا تقبل التأثير أصلاً وكان حدوث اللحم منها إنّما هو من اشتباكها ببعضها ببعض لما كان ينتفع بذلك من حالها في حدوث الألم عند إدخال الإبرة في اللحم.

وذلك أنّه كما أنّك إذا جمعت إصبعين من أصابعك فشبكت الواحدة منهما بالأخرى ثمّ رمت أن تفرق بينهما لم يحدث لك وجع من تفرّقهما على أنّ معهما من الحسّ ما معهما.

كذلك إن فرقت الإبرة وباعدت بين جرمين غير متجزّئين ثمّ لم يجرح ولا واحد منهما. فواجب أن لا يحدث للحيوان عن تلك التفرقة بين ذينك الجرمين ألم أصلاً.

وإلّا فليرونا جسمين من الأجسام الحسّاسة أيّ جسمين شاءوا قد جمعا وشبك أحدهما بالآخر ثمّ فرق ما بينهما فحدث عن التفرقة بينهما وجع وليس يقدرون أن يرونا ذلك في العيان.

وإذا نظرنا بطريق القياس وجدنا أنّ ذلك من أحوال المحال كلّه.

فإذا كنّا وإن أنزلنا أنّ للأجرام التي لا تتجزّأ حسّاً وجب أن يكون تفرّقهما من غير ألم كان نظرنا في ذلك بالقياس أو كان بالتجربة فكم بالحريّ لا يمكن فيها أن تقبل الألم إذا كانت مع ذلك لا تحسّ.

وذلك لأنّ حدوث الألم كما قلت قبل لا بدّ فيه من اجتماع هذين الأمرين أعنى الاستحالة والحسّ وليس مع الأجرام التي لا تتجزّأ ولا واحد من هذين الأمرين. فواجب متى أنزلنا الأمر على أنّ فيها أحد أمرين أن تبقى بعد على حالها من الامتناع من قبول الألم.

وذلك أنّك إن أنزلت أنّها لا تقبل التأثير لكنّها تحسّ لم ينلها الألم لأنّها لا تقبل التأثير.

وإن أنزلت أنّها تقبل التأثير لكنّها لا تحسّ لم ينلها أيضاً الألم لأنّها لا تحسّ لأنّ الشيء الذي يناله الألم يحتاج في حدوث الألم به أن يقبل التأثير وأن يحسّ بذلك التأثير.

فقد وجب أنّه لا يمكن أن يكون تركيب الشيء الحسّاس لا من أستقسّات لا تقبل التأثير ولا حسّ فيها ولا من أستقصّات لا تقبل التأثير لكنّها تحسّ.

فإنّ المركّب ممّا هذه حاله أيضاً لا يمكن أن يناله الألم في حال من الأحوال من قبل أنّه لا يقبل التأثير لكنّه يجوز أن يكون حسّاساً بالقوة. فأمّا بالفعل فليس يمكن في حال من الأحوال أن يحسّ مثل ما ترى في حال بدن الإنسان.

وذلك أنّه حسّاس بالقوة إلّا أنّه وإن كان كذلك فليس يحسّ دون أن يؤثّر فيه مؤثّر.

فقد وجب أن ينتقض بهذا القول ظنّ من ظنّ أنّ تركيب الأجسام من أجزاء متشابهة لا تتجزّأ انتقاضاً بيّناً.

وذلك أنّه وإن ادّعى مدّعٍ منهم في بعض الأسطقسّات التي يدعونها أنّ معها حسّاً وجميعها لا تقبل التأثير فكيف يحسّ الحسّاس وهو ممتنع من قبول التأثير في جميع الأحوال؟

فقد بقي أنّه ينبغي أن يكون تركيب الجسم الحسّاس إمّا من أسطقسّات تحسّ وتقبل التأثير وإمّا من أسطقسّات تقبل التأثير إلّا أنّها لا حسّ فيها.

وسننظر فيما بعد في أيّ هذين المعنيين الحقّ.

فأمّا حدوث الجسم الذي يألم ويحسّ عن أستقصّات لا حسّ فيها ولا تقبل التأثير أو عن أستقصّات تحسّ لكنّها لا تقبل التأثير فقد بيّناً أنه غير ممكن.

فأمّا القولان اللذان تقدّما فيعمّهما أنّ حدوث الجسم الذي يحسّ ليس هو عن أستقصّات لا تقبل التأثير.

فيجب من ذلك أن لا يكون تركيب الأجسام من أسطقسّ واحد في الصورة إذ كان لا يجوز أن يكون تركيب الجسم الحسّاس ممّا لا يقبل التأثير.

والبرهان على أنّ الشيء الواحد لا يقبل التأثير قريب وجيز.

وذلك أنّه لو كان الأسطقسّ واحداً لما كان يوجد شيء ينتقل إليه ذلك الأسطقسّ ولا شيء يؤثّر في ذلك الأسطقسّ. وذلك أنّه إن انتقل فإنّما ينتقل إلى غيره وإن قبل الأثر فإنّما يقبله من شيء غيره فكيف يمكن مع هذا أن يبقى واحدا؟

فقد بان أنّ أبقراط قد أحسن في القياس | الذي استعمله فأوجب عنه أنّه إن كان شيء من الأشياء الموجودة يناله الألم فليس تركيب الأشياء من أسطقسّ واحد.

فقال:

وذلك أنّه لو كان شيئاً واحداً لما كان بالذي يوجد شيء يؤلمه.

فقد وجب من هذا أنّ الأستقصّات أكثر من واحد.

(٣) ولم يتبيّن بعد كم عددها.

فلنبحث عن هذا فيما بعد.

على أنّه خليق أن يكون الأجود أن نقدّم أوّلاً القول في المعنيين اللذين ذكرتهما قبل فقلت إنّه يعمّهما أنّ كلّ جسم يمكن أن يناله الوجع فتركيبه عن أستقصّات قابلة للتأثير والاستحالة.

وذلك أنّه يوجد في هذا الباب بطريق القسمة جميع الأقاويل التي يمكن أن يقال إنّها أربعة:

أوّلاً أنّ تركيب الأجسام من أسطقسّات لا تحسّ ولا تقبل التأثير.

والثاني أنّ تركيبها عن أستقصّات حسّاسة غير قابلة للتأثير.

ويعمّ هذين القولين أنّ تركيب الأجسام عن أستقصّات لا تقبل التأثير.

فلمّا بيّننا (؟) أنّ ذلك غير ممكن أن يكون صددنا الناظر عن القول بذينك القولين جميعا.

وبقي قولان:

أحدهما أنّ تركيب الجسم الذي يحسّ عن أستقصّات حسّاسة تقبل التأثير.

والثاني أنّ تركيبه عن أستقصّات لا تحسّ لكنّها تقبل التأثير.

وقد يعمّ هذين القولين أنّ تركيب الجسم الذي يحسّ عن أستقصّات تقبل التأثير.

فلننظر هل أحد هذين القولين محال أم القولان جميعاً ممكنان إلّا أنّ أحدهما ليس هو ممكن فقط لكنّه مع ذلك حقّ يقين.

وذلك هو ما بقي علينا أن نبحث عنه.

فأقول:

إنّك إن نظرت نظراً شافياً بذهنك وجدت القولين جميعاً ممكنين وذلك

أنّك إن آثرت أن تمتحن أجزاء الجسم الحسّاس أنفسها بالتجربة وبالقياس وجدتها كلّها حسّاسة قابلة للأثر كما قلنا قبيل في أمر اللحم.

وإن نظرت في الأسطقسّات الأول التي منها تركيبه وجدتها قد يمكن أن تكون تلك غير حسّاسة إلّا أنّ لها أن تعمل ويؤثّر بعضها في بعض ويقبل التأثير بعضها من بعض على أنحاء كثيرة مختلفة حتّى يحدث عنها بكثرة تلك الاستحالات — الحادث منها شيء بعد شيء — جسم حسّاس.

وذلك أنّ كلّ مركّب من أشياء شتّى فلا يخلو من أن تكون تلك الأشياء باقية على حالها التي لم تزل عليها دائما. وإذا كان ذلك لم يحدث عنه صورة محدودة لم تكن في تلك الأشياء التي منها كان التركيب أو تكون تلك الأشياء التي منها كان التركيب تستحيل وتتغيّر بأنواع شتّى من الاستحالة والتغيّر. وإذا كان ذلك فقد يمكن أن يحدث للمركّب شيء آخر لم يكن في الأسطقسّات الأول التي منها كان تركيبه مخالفاَ في الجنس لكلّ ما كان فيها.

وخليق أن يكون قد يحتاج في هذا القول كيما يصحّ ويستبين إلى مثال يتبيّن به.

فأقول:

إنّ تركيب البيت يكون من اللبن والحجارة والخشب والقراميد وليس يحدث فيه شيء آخر لم يكن في الأشياء التي كان عنها تركيبه مخالفاً في الجنس لجميع ما كان فيها.

ومن ذلك أنّ كلّ واحد من تلك الأجزاء التي عنها كان تركيب البيت قد كانت معه صلابة وثقل وشكل ولون ومقدار وهذه الأشياء بأعيانها هي الموجودة في المؤلّف عنها. وذلك أنّ كلّ واحد من الصلابة واللون والثقل موجود بعينه في جملة ذلك البيت كالذي كان في الأجزاء التي تركّب

منها. وذلك أنّه لم تكن تلك صلبة فصار البيت المؤلّف منها ليّناً ولا كانت تلك ثقيلة فصار هذا خفيقاً ولا كانت تلك حمراء فصار هذا أسود. فأمّا الشكل والمقدار فكلّ واحد منها موجود في البيت من قبل أنّه قد كان موجوداً في الأجزاء التي ركّب منها لكنّها ليس هو بعينه في جملة المركّب كالذي كان في كلّ واحد من الأجزاء التي عنها ركّب لا المقدار ولا الشكل لكنّه ليس قصدنا هذا في النظر أن ننظر هل البيت أكبر من اللبن أو هل البيت مستطيل واللبن مربّع لكنّه إنّما قصدنا في النظر أن ننظر هل إنّما صار للبيت المقدار والشكل من قبل أنّهما قد كانا للأجزاء التي ركّب منها البيت. وإلّا فمن لا يعلم أن الخطّ المستقيم القاطع للمربّع من الزاوية إلى الزاوية يقسمه إلى مثلّثين وأنّ من تأليف ذينك المثلّثين يصير مربّعاً واحداً لكنّ كلّ واحد من المثلّث والمربّع إنّما هو شكل ونصفا الدائرة أيضاً إذا ألّفا حدثت عنهما جملة الدائرة.

فيجب من هذا أن تقرّ بأنّه قد يحدث عن الشكل غيره في هذا التركيب لكنّ الشيء الحادث ليس هو مخالفاً في الجنس للشيء الذي حدث عنه. وذلك أنّ الشكل إنّما يحدث عنه شكل ويحدث عن المقادير الصغار مقادير كبار وليس يحدث عن الأشكال مقادير ولا عن المقادير أشكال.

فيجب من هذا متى كانت الأصول التي عنها يكون التركيب لا تتغيّر في كيفيّاتها ألّا يمكن أن يحدث عنها شيء مخالف في الجنس لما كان في تلك الأصول لكنّ ذلك يمكن متى كانت تلك الأصول تتغيّر.

وذلك أنّه قد يمكن بالتغايير الحادثة شيء بعد شيء أن يصير الشيء الذي قد كان أسود أبيض والشيء الذي قد كان أبيض أسود والشيء الذي قد كان غير حسّاس يصير حسّاساً.

فمن قال إنّه قد يحدث عن النار والماء والهواء والأرض إذا امتزجت بكلّيّتها واستحالت جسم من الأجسام المركّبة عنها حسّاس فلم يقل إلّا ممكناً.

وأمّا من قال إنّ ذلك يحدث عنها وهي باقية على حالها بأن خالط بعضها بعضاً فقط كمخالطة الحنطة للشعير والحمص للباقلّى في صبّة واحدة فدعواه محال.

ولا فرق بين أن يقال إنّ النار والماء والهواء والأرض متى ائتلفت واجتمعت حدث عنها جسم حسّاس وبين أن يقال كما قال القوم الذين ذكروا قبل هؤلاء في الأجرام التي لا تتجزّأ.

وذلك أنّه ليس يمكن أن تكون الأستقصّات التي هي باقية على حالها لا تقبل التأثير إذا اجتمعت عدّة كثيرة منها لا حسّ فيها حدث عنها جسم واحد حسّاس.

وذلك لأنّا قد بيّنّا أنّه ليس يمكن أن يلحق الأشياء إذا ركّبت عن تركيبها شيء يخالف في الجنس أصلاً لما كان فيها قبل أن تتركّب.

والحسّ شيء مخالف في الجنس أصلاً للشكل والثقل والصلابة التي كانت موجودة في الأجرام التي لا تتجزّأ.

وكذلك أيضاً الحسّ فإنّه مخالف في الجنس لتلك الأشياء الأخر التي كانت موجودة في النار والأرض والهواء والماء.

وذلك أنّ جنس الحسّ غير جنس الألوان وغير جنس الطعوم وغير جنس الروائح وبالجملة غير جنس جميع ما في الأجسام.

فقد وجب أنّه لا يمكن أن يحدث الجسم الحسّاس لا من أجرام لا تتجزّأ ولا من النار والأرض والماء والهواء بعد أن تكون باقية على حالها لم تتغيّر عن طبائعها التي كانت عليها.

فقد وجب ضرورة أن يكون حدوث الشيء الذي من شأنه أن يحسّ إمّا من أستقصّات أول حسّاسة وإمّا عن أستقصّات — وإن كانت غير حسّاسة — إلّا أنّ من شأنها أن تتغيّر وأن تستحيل.

فهذا ممّا يتبيّن لك به أنّ الأستقصّات لا محالة أكثر من واحد وأنّها قابلة للتأثير.

وليس يتبيّن به بعد هل حدوث الجسم الحسّاس يكون عن أستقصّات أول حسّاسة كلّها أو غير حسّاسة.

وذلك أنّه يجوز أن يكون الأمران جميعاً ممكنين.

إلّا أنّه يدلّك على أنّ بعض الأسطقسّات غير حسّاس ما ترى من أنّ بعض الأجسام المركّبة أيضاً غير حسّاس.

وإذ قد بيّنّا هذا بياناً كافياً لمن قد ارتاض في فهم سياقة البرهان فالأجود أن أردف ذلك بوصف شيء قد بيّنته مراراً كثيرة في مواضع كثيرة من كتب أبقراط وهو أنّه يذكر شيئاً واحداً من أشياء شتّى متّفقة في الجنس ويلغي ذكر الباقية اتّكالاً منه على أنّا نضيف إلى ذلك القول سائر ما قوّته قوّة ذلك الشيء الذي ذكره.

وأنا أرى أنّه قد فعل ذلك في هذا الموضع.

وذلك أنّه قد بيّن أنّ هذا القول الذي تقدّم محال من شيء واحد من الأشياء التي تظهر في العيان.

فنبهنا بذلك على تبيين ذلك القول على أنحاء شتّى لسائر الأشياء التي قوّتها قوّة ذلك الشيء والذي بين هو به. وذلك أنّ حدوث الألم بنا واحد ممّا يظهر في العيان وقد بيّن أنّ ذلك لا يمكن أن يكون دون قبول الأثر. ولزم من هذا أيضاً أنّ

الأستقصّات لا محالة أكثر من واحد. وذلك أنّ الواحد لا يمكن أن يقبل الأثر لأنّه ليس له شيء يؤثّر فيه.

فكما بيّن هو ما بيّن من الأجسام التى ينالها الألم كذلك نقدر أن نتبيّن ذلك من الأجسام التي تلتذّ.

وكما يتبيّن من ذلك كذلك يتبيّن من الأجسام التي تحسّ كما فعلت أنا في كتابي هذا في مواضع كثيرة متعمّداً.

ويجب إذ كان ليس في الأستقصّات التي لا تقبل التأثير لا لذّة ولا مرجع ولا حسّ أصلاً ألّا يكون فيها أيضاً حفظ ولا ذكر ولا تخيّل.

وذلك أنّ الحسّ لهذه كلّها كالأصل والينبوع فإن لم يكن من هذه كلّها شيء موجود في تلك الأستقصّات فليس يوجد فيها شيء أصلاً ممّا سوى ذلك من الأفعال النفسانيّة.

فيجب من ذلك أن لا يوجد فيها أيضاً النفس.

وإنّ في وجازة كلام القدماء لموضع تعجّب.

وذلك أنّ أبقراط أشار إلى هذه المعاني كلّها ودلّ عليها بأقلّ ما يكون من الكلام. وبيّن بياناً قويّاً أنّ أصل الأشياء ليس هو شيئاً واحداً.

وإذ قد وصفنا هذا فلننظر كيف نردف القول الذي تقدّم ذكره بالقول الذي يتلوه.

وهذا قوله بلفظه:

«وأمّا أنا فأقول إنّه لو كان الإنسان شيئاً واحداً لما كان يألم أصلاً وذلك أنّه لو كان شيئاً واحداً لما كان له شيء يؤلمه».

ولو أنزلنا أنّه كان يألم لوجب ضرورة أن يكون ما يشفيه شيئاً واحداً.

واستعماله أيضاً ما استعمله من القول في الشفاء إنّما أجراه على ذلك النحو من الشكل القياسيّ الذي أجرى عليه قوله في الوجع.

وذلك أنّه أخذ أوّلاً وثانياً والثاني لازم للأوّل ثمّ عاد فأخذ ضدّ الثاني فأنتج من بين ذلك ضدّ الأوّل على هذا المثال:

«لو كان الإنسان شيئاً واحداً لما كان يألم وقد نجده يألم فليس هو إذاً بشيء واحد».

وعلى هذا المثال بعينه أجرى قوله في الشفاء كأنّه قال:

«لو كان الإنسان وهو شيء واحد يألم لكان طريق شفائه طريقاً واحداً وليس طريق شفائه طريقاً واحداً فليس الإنسان وهو شيء واحد يألم».

وقد ينبغي لنا أن نفعل في هذا القول كما فعلنا في القول المتقدّم فتبيّن أنّ الثاني لازم للقبول وأنّه قد أحسن في أخذ ضدّ الثاني فنجعل ذلك شرحاً وتبييناً لهذا القول.

وقد بيّنّا فيما تقدّم قبل هذا القول من الأقاويل أنّه لو كان الإنسان شيئاً واحداً لما كان يألم.

ومن أبلغ ما يتبيّن لك به أنّه لو أنزلنا أنّه كان يألم لكان ينبغي أن يكون طريق شفائه طريقاً واحداً أن نتفكّر في أنّ الشيء الذي يألم وألمه ليس من شيء سواه فقد بقي أن يكون ألمه من طبيعته التي تخصّه.

وإذا كانت طبيعة كلّ واحد من الأشياء التي تخصّه طبيعة واحدة فواجب أن يكون ألمه ألماً واحداً أو يلزمه لا محالة أن تكون عودته إلى حاله الطبيعيّة عودة واحدة. وعودته إلى حاله الطبيعيّة هي شفاؤه فيجب من ذلك أن يكون شفاء الشيء الذي يألم من تلقاء نفسه شفاء واحداً والشيء الذي يشفيه شيئاً واحداً.

وليست بي حاجة إلى أن أقول إنّ جميع هذه المقدّمات التي وضعت في هذا القول باطل لكنّها تلزم المقدّمة التي وضعت أوّلاً.

وقد سلم أبقراط تلك المقدّمة على أنّها من أمحل المحال كلّه فبيّن منها أيضاً ومن تلك المقدّمة الباطلة التي سلمها صحّة الشيء الذي قصد لتبيينه منذ أوّل قوله ليس بدون تبيين الأوّل على طريق الاستظهار في البيان.

فإنّ قول القائل إنّه لو كان الأسطقسّ واحداً لما كنّا نألم قول حقيقيّ.

فأمّا وضع الواضع أنّا نألم وإن كان الأسطقسّ واحداً فليس بحقّ.

لكنّه على حال قد سلم هذا لقائله فيتبيّن ممّا يلحقه أنّه وإن سلم هذا له فإنّه ينتقض به أصله.

وذلك أنّه يلزم منه أن يكون المرض واحداً وأن يكون طريق الشفاء واحداً وأن يكون الشيء الذي يكون به الشفاء شيئاً واحداً وليس الشيء الذي يكون به الشفاء شيئاً واحداً.

فالأصل إذاً الذي أصل وهو أنّ الأسطقسّ واحد باطل.

وممّا يظهر عياناً أنّ الشيء الذي يكون به الشفاء ليس هو شيئاً واحداً أنّك تجد بعض الناس يكون شفاؤه بالسخونة وتجد آخر يكون شفاؤه بالبرودة وتجد آخر يكون شفاؤه بالترطيب وتجد كثيراً من الناس يكون شفاؤهم بالتجفيف. وأنت وإن وجدت بعض الناس يكون شفاؤه بالأشياء القابضة أو بالأشياء المرّة فليس تجد جميع الناس يكون شفاؤهم بذلك لكنّك قد تجد من يكون شفاؤه بالأشياء المالحة أو بالأشياء الحلوة وتجد بعض الناس يكون شفاؤه بما يعقل البطن وتجد آخر يكون شفاؤه بما يطلقه وتجد واحداً يكون شفاؤه بما يكثّف وآخر يكون شفاؤه بما يسخف.

وفي جملة القول ليس يمكن أن يوجد طريق من الشفاء يكون إلّا وقد يوجد ضدّه يكون أيضاً.

فقد بان صوابه في قوله:

«إنّ الشيء الذي يكون به الشفاء ليس هو شيئاً واحداً».

وقد ينتج ممّا بين هذه المقدّمة وبين المقدّمة الأخرى التي وضعها على طريق التسليم أنّ الأسطقس ليس هو واحداً حتّى يصير القول كلّه مؤلّفاً على هذا المثال:

«إن كان الإنسان وهو شيء واحد يألم فإنّ طريق شفائه تصير طريقاً واحدة وليس طريق شفائه بطريق واحدة فليس إذاً الإنسان وهو شيء واحد يألم».

فليست بنا بعد هذا حاجة إلى البحث عمّا قاله بقراط في أوّل كتابه ولا إلى أن نتأوّله بخلاف ما تأوّلناه في هذا الموضع إذ قد علمنا مقالة الرجل كلّها ووقفنا عليها وقوفاً بيّناً.

لكن إذا وجدناه يقول هذا القول:

«أمّا من قد اعتاد أن يسمع من الكلام في طبيعة الإنسان شيئاً خارجاً ممّا يليق من الكلام فيها بالطبّ فليس يوافقه سماع هذا الكلام وذلك أنّي لا أقول إنّ الإنسان في جملته من هواء ولا من نار ولا من ماء ولا من أرض ولا من

شيء غير ذلك أصلاً ممّا ليس يظهر مفرداً في الإنسان».

فإذ قال هذا القول ولا ينبغي أن تحذف من الكلام قوله: «مفرداً» كما فعل قوم كثير من أتباع بقراط لكن ينبغي أن تقرّ أنّ قوله «مفرداً» على حاله حتّى يفهم قوله عنه كأنّه قال:

«وذلك أنّي لا أقول إنّ الإنسان في جملته من هواء ولا من نار ولا من ماء ولا من أرض ولا من شيء غير ذلك أصلاً ممّا ليس يظهر وحده مفرداً في الإنسان».

وممّا يدلّك على أنّ قوله الأوّل كلّه إنّما هو في أنّه ليس الأسطقسّ واحداً ما تقدّم من قولنا.

وممّا يدلّنا على ذلك أيضاً ما قاله بقراط في صدر كتابه بعد هذا القول الذي وضعته قبيل.

وهذا هو قوله بلفظه:

«وذلك أنّهم يزعمون أنّ الموجود شيء واحد وذلك هو الواحد وهو الكلّ إلّا أنّه يخالف بعضهم بعضاً في الأسماء فبعضهم يقول إنّ ذلك الشيء الذي هو الواحد والكلّ هو الهواء وبعضهم يزعم أنّه النار وبعضهم يزعم أنّه الماء وبعضهم يزعم أنّه الأرض».

ثمّ قال بعد هذا:

«فأمّا الأطبّاء فزعم بعضهم أنّ الإنسان من دم وزعم بعضهم أنّه من مرار وزعم بعضهم أنّه من بلغم».

ثمّ إنّه بعد ذلك لمّا أن أخذ في مناقضتهم كتب أوّلاً ذلك القول الذي تقدّمت فشرحته وفيه إبطال لقول من ادّعى الباطل في طبيعة الإنسان من أصحاب النظر في الطبائع ومن الأطبّاء.

فلمّا ناقضهم بذلك القول مناقضة مشتركة قصد لمناقضة الأطبّاء منهم خاصّة بهذا القول:

«وأنا أسئل الذي يزعم أنّ الإنسان إنّما هو من دم فقط وأنّه ليس هو شيئاً غير ذلك أن يرينيه بحال لا تختلف فيها صورته ولا يشوبه فيها جميع أنحاء التغيّر أو يريني وقتاً من أوقات السنة أو من أوقات أسنان الإنسان يظهر

عندنا فيه الدم وحده مفرداً. فقد يجب أن يكون وقت من الأوقات يوجد فيه الشيء الذي هو منه وحده مفرداً.

وهذا قولي أيضاً لمن زعم أنّ الإنسان من بلغم ومن زعم أنّه من مرار».

فلمّا فرغ من هذا القول أتبع ذلك بأن قال: «أمّا أوّل الأمر فقد يجب ضرورة أن يكون حدوث الكون لا من شيء واحد.

وكيف يمكن وهو واحد أن يولّد شيئاً آخر إن لم يخالطه شيء».

ثمّ قال بعد:

«فكيف يمكن أن يتولّد من الواحد شيء واحد ونحن لا نجد الشيء يتولّد ممّا هو أكثر من واحد إن لم يتّفق لتلك الأشياء أن يكون مزاجها بعضها عند بعض مزاجاً جيّداً».

ثمّ قال أيضاً بعد:

«فيجب ضرورة إن كانت طبيعة الإنسان على هذه من الحال وطبيعة كلّ شيء من الأشياء غيره أن لا يكون الإنسان شيئاً واحداً».

ثمّ قال أيضاً بعد:

«فيجب ضرورة إذ كانت بهذه الحال كلّها من المخالفة بعضها لبعض في صورها وقواها ألّا تكون شيئاً واحداً إذ كان الماء والنار ليس هما واحداً».

فهو في هذه الأقاويل كلّها وفي الأقاويل أيضاً التي بعدها لم يقصد لشيء غير مناقضة من زعم أنّ الإنسان من أسطقسّ واحد فبيّن بياناً شافياً أنّ معناه كان قيما افتتح به قوله المعنى الذي شرحناه وهو أنّه ليس الإنسان من هواء وحده مفرداً ولا من ماء وحده ولا من غير ذلك ممّا ليس يظهر وحده مفرداً في البدن.

وقد قال أبقراط أيضاً ممّا دلّ به على صحّة هذا المعنى هذا القول:

«فأمّا الذين زعموا أنّ الإنسان من شيء واحد فأحسبهم إنّما قالوا ذلك على هذا المعنى».

فإنّه في هذا القول أيضاً إنّما يصف ما الذي دعا قوماً إلى أن قالوا إنّ الإنسان شيء واحد.

ولمّا قصد أيضاً لمناقضتهم قال هذا القول:

«هذا على أنّا لا نجد أحداً ممّن أفرط عليه الاستفراغ بالقيء أو بالإسهال مات وإنّما خرج منه المرار وحده».

ثمّ أجرى قوله على هذا المثال في سائر الأخلاط ليبيّن أنّه ليس واحد منها أصلاً لطبيعة الإنسان في الجملة يعني الأسطقسّ الذي كان عنه حدوثه لكنّ الأخلاط الأربعة فلم يقصد في هذا لقول ليبيّن شيئاً غير ما تضمنه منذ أوّل قوله وهو أنّه ليس الإنسان شيئاً واحداً وأنّ هذا القول أعنى قول من ادّعى من الفلاسفة الناظرين في الطبائع ومن الأطبّاء أنّ الأشياء كلّها أو الإنسان حدث عن أسطقسّ واحد لقول خارج عن المعقول أرعن.

(٤) وإنّ أولى الأمر عندي بالتعجّب كيف يلقى الناس من ادّعى هذه الدعوى ببعض القبول وكانوا عندهم في حدّ من يعني بقوله أو من يعجز عن دفعه.

إلّا أنّ بقراط على حال قد قصد لمناقضة أصحاب هذا القول. ولم يفعل ذلك وهو يرى أنّه يأتي أمراً عظيم العناء لكنّه إنّما فعل ذلك لمّا انتشر لأصحاب هذه الأقاويل من الذكر في الناس مع خمولهم وذلك أنّ هؤلاء الذين ادّعوا أنّ أصل الأشياء هو شيء واحد لم يستعملوا الأقاويل في تثبيت حجّتهم ولا ما يقنع به على طريق التمويه أو يتعذّر نقضه فضلاً عمّا سوى ذلك لكنّ شناعة حجّتهم بيّنة واضحة لا يعسر على أحد الوقوف عليها.

وذلك أنّ من زعم أنّ الماء هو أصل الأشياء إنّما ادّعى أنّه أسطقسّ الأشياء وأصلها من قبل أنّه إذا سخف ورقّ صار ناراً وإذا اجتمع وتلزّز صار أرضاً وإذا سخف وتخلخل صار هواء فإن سخف وتخلخل أكثر من ذلك صار ناراً.

ومن زعم أيضاً أنّ الهواء أصل الأشياء إنّما ادّعى أنّه أستقصّ الأشياء وأصلها من قبل أنّه إذا كثف وتلزّز صار ماء فإن صار إلى ماء أزيد من ذلك من الكثافة والتلزّز صار أرضاً.

ومن زعم أنّ الأرض هي أصل الأشياء إنّما ادّعى أنّها أسطقسّ الأشياء وأصلها من قبل أنّها إذا تخلخلت ورقّت قليلاً صارت ماء وإذا سخفت وتخلخلت أكثر من ذلك صارت هواء وإذا أفرط ذلك عليها انتقلت إلى النار.

ومن زعم أيضاً أنّ النار هي أصل الأشياء فإنّما ادّعى أنّها أسطقسّ الأشياء وأصلها من استعماله هذا القياس بعينه أعنى من أنّ النار إذا اجتمعت وتلززّت صارت هواء وإذا قوي ذلك عليها وتزيّد التلزّز فيها صارت ماء وإذا أفرط عليها التلزّز والكثافة صارت أرضاً.

وشناعة هذه الأقاويل بيّنة واضحة.

وذلك أنّ جميع هؤلاء القوم إنّما وصفوا أمر الاستحالة الأسطقسّات بعضها إلى بعض ثمّ لم يشعروا أنّ ذلك هو ما بيّنوا بل ظنّ كلّ واحد منهم أنّه إنّما بيّن أمر الشيء الذي سمّاه كلّ واحد منهم أسطقسّاً.

وليس القول في استحالة الهواء والنار والماء والأرض بعضها إلى بعض هو القول في الأستقصّات.

وذلك أنّه ليس إنّما صار كلّ واحد من هذه أسطقسّاً من قبل أنّها تستحيل بعضها إلى بعض لكنّ كلّ واحد منها إنّما صار أستطقسّاً من قبل أنّه أوّل مفرد ليس وراءه غاية.

وقد تكلّم أفلاطون في استحالتها بعضها إلى بعض في كتابه المسمّى

طيماووس عندما قصد ليبيّن أنّ لها كلّها عنصراً واحداً مشتركاً به قوامها.

إلّا أنّ أفلاطون لمّا كان يدري كيف يبيّن لم يستعمل القول في استحالة الأجسام الأول بعضها إلى بعض إلّا حيث كان ينبغي أن يستعمله.

فأمّا ثالس وأناكسمانس وأنبادقليس وأنقسمندرس وأرقليطس

فادّعى كلّ واحد منهم أنّ واحداً من هذه الأشياء أيّها شاء كلّ واحد منهم هو أصطقسّ الأشياء وأصلها.

ثمّ راموا تبيين ما ادّعوا من ذلك من استحالتها بعضها إلى بعض.

والأمر عندي في جميع هؤلاء القوم أنّهم راموا ذلك العنصر المشترك الذي به قوام جميع الأستقصّات إلّا أنّ رؤيتهم له كانت رؤية خفيّة كأنّها منام. فلمّا رأوا أنّ ذلك العنصر واحد ظنّوا أنّ الأسطقسّ أيضاً واحد وكان الواجب عليهم إن كان ولا بدّ أن يقولوا إنّ العنصر العامّ المشترك لجميع الأجسام الأول واحد.

فإنّ كلّ واحد من الهواء والماء والنار والأرض هو أسطقسّ فتركوا ذلك وتجاوزوه وقصدوا قصد الواحد من تلك الأربعة أيّ واحد كان فقالوا إنّه هو أسطقسّ.

واستعملوا كلّهم في تبيين ما ادّعوا معنى واحداً مشتركاً ولم يدع كلّهم أسطقسّاً واحداً بعينه.

وقد ذمّ ذلك منهم وتنقضهم فيه بقراط فقال في أوّل كتابه هذا القول:

«وكلّهم يستعمل معنى واحداً بعينه لكنّهم ليس يدّعون دعوى واحدة».

ثمّ أردف ذلك بأن قال هذا القول:

«لكنّهم يجعلون حجّتهم في معناهم حجّة واحدة إلّا أنّهم ليس يدّعون دعوى واحدة».

وقد وصفنا قبل ما تلك الحجّة وهي أنّ المدّعي أنّ الأرض هي الأسطقسّ إنّما يقيس فينتج أنّ الأرض هي الأسطقسّ من أنّها إذا تخلخلت صارت ماء وإذا انحلّت أكثر من ذلك وسخفت صارت هواء ثمّ إذا أفرطت عليها السخاقة صارت نارا.

وكذلك يحتجّ عن زعم أنّ الهواء هو أسطقسّ الأشياء ومن زعم النار هي أسطقسّ الأشياء ومن ادّعى أنّ الماء هو أسطقسّ الأشياء كما بيّنت قبل.

فقد بان أنّ جميعهم يحتجّ بحجّة واحدة على ضروب من الدعوى مختلفة.

ومن أوّل خطائهم أنّهم ليس ينتجون من قياسهم ما يجب عنه.

وذلك أنّ النتيجة التي تجب عن القياس الذي جاءوا به إنّما كانت أن يقولوا إنّه قد يجب عن ذلك أنّ العنصر المشترك لجميع الأجسام الأول والجوهر العامّ الذي به قوامها هو واحد.

والثاني من خطائهم أنّهم لم يعلموا هذا أيضا أنّ جميعهم يروم أن يأتي ببرهان واحد على أربعة أنواع مختلفة من الدعوى.

وقد ذمّ بقراط منهم هذين الضربين من الخطأ ذمّاً بيّناً فقال في أوّل هذا القول:

«ويأتي كلّ واحد منهم على قوله بشواهد ودلائل ليست بشيء».

فدلّ بهذا القول دلالة بيّنة على أنّهم إنّما يأتون بهذيان ليس يبيّن منه شيء ويستعملون الخطأ من القياس مكان القياس الصواب.

وقال في خطائهم الثاني هذا القول:

«ويستعملون معنى واحداً بعينه من غير أن يدّعوا دعوى واحدة فسيدلّ ذلك منهم على أنّهم لا يعلمون ما يأتون».

فدلّ بهذا القول أيضاً على أنّهم يدّعون أقاويل مختلفة متضادّة ثمّ يرومون أن يأتوا عليها ببرهان واحد بعينه من غير أن يشعروا. ولذلك قال:

«إنّ الذي يتهيّأ له منهم أن ينبسط لسانه عند العوامّ بأكثر ما ينبسط لسان غيره هو الذي يظنّ أنّه الغالب في الحجّة».

وأحسن في تسمية الرعاع من الناس ممّن لم يعرف قطّ ما البرهان «عوامّاً».

ولذلك قد أتى بعد هذا القول بقول آخر فأصاب فيه حين قال:

«والأمر عندي في هؤلاء القوم أنّهم ينقضون قول أنفسهم بألفاظهم بسبب

جهلهم ويصوبون قول مالسيس. وذلك أنّ ميلسيس قد قال في الكلّ قولاً شنيعاً وهو أنّه شيء واحد لا يتغيّر ولا له نهاية».

إلّا أنّ القول الذي يأتي به من يدّعي أنّ الواحد والكلّ هو الهواء والماء والنار أو الأرض في الاحتجاج ليثبت أقاويلهم قد يوهم أنّ الصواب إنّما

هو في قول ميلسيس.

وذلك أنّه متى وقعت الحيرة بين قولين هما من الشناعة على مثل ما عليه هذان القولان فإنّه يكاد قول ميلسيس أن يكون أقرب إلى العقل.

وذلك أنّ الشيء الذي ادّعاه في أصل قوله منذ أوّل الأمر ليس يعود فينقضه فيما يأتي به من بعد كما يفعل هؤلاء.

وذلك أنّ هؤلاء ادّعوا أنّ أسطقسّ الأشياء وأصلها واحد ثمّ عادوا بعد ذلك فكرّروا أنّ له استحالة فجعلوا الأشياء الموجودة أربعة.

والأجود كان أن يدّعوا أنّ ذلك الواحد لا يستحيل ولا يتغيّر إن كان بالحقيقة واحداً وذلك أنّه إن كان يستحيل ويتغيّر لم يكن واحداً.

فبالواجب قال بقراط: «إنّ جميع هؤلاء الذين يزعمون أنّ الماء هو أسطقسّ الأشياء وأصلها أو هو الهواء والماء والنار والأرض قد يصوبون قول مالسيس على أنّ قوله شنيع جدّاً مخالف لجميع ما يظهر في المشاهدة والعيان حتّى لا يحتاج إلى مناقضة.

(٥) وقد بالغ أرسطوطاليس في صفة شناعته في المقالة الأولى من كتاب سمع الكيان وكان أرسطوطاليس أيضاً قد استعمل في كلامه ذلك المذهب الذي سلكه بقراط.

أمّا النظر هل الموجود شيء واحد غير متحرّك فليس من النظر في الطبائع بشيء.

ثمّ بيّن ذلك فأتى عليه ببرهان ثمّ أوجب من قبل ذلك أنّه لا يحتاج في قول مليسيس وقول بارمانيدس إلى مناقضة إذ كان يظهر من أمر كلّ واحد منهما عياناً أنّه شنيع لكنّا نجده لمّا أمعن في كتابه قد ناقضهم.

وقد سلك أبقراط أيضاً هذا المسلك وذلك أنّه بيّن أنّ من زعم أنّ أسطقسّ الأشياء وأصلها واحد يبطل صناعة الطبّ أصلاً وأنّه لا يوافقه سماع هذا القول. ثمّ إنّه بعد ذلك قصد لنقض قوله والأمر في أنّ من ادّعى أنّ الموجود شيء واحد يبطل أصول العلم بالطبائع كما ذكر أرسطوطاليس وأصول الطبّ كما ذكر بقراط بيّن واضح.

وذلك أنّ العلم بالطبائع إنّما هو العلم بالأجسام التي هي في الكون والفساد وبالجملة في التغيير. فإن كان الموجود شيئاً واحداً فقد بطلت تلك.

وكذلك أيضاً يبطل الطبّ.

أمّا أوّلاً فمن قبل أنّ الطبّ إنّما هو كالخادم للكون والفساد فإن لم نسلّم أنّ الكون والفساد موجودان يبطل ببطلانهما الطبّ.

ثمّ من بعد ذلك أيضاً فإنّ أنحاء العلاج والشفاء تلك الكثيرة المختلفة فقد يبطلها من زعم أنّ الموجود واحد. وذلك أنّه إن كان الموجود شيئاً واحداً فإنّ أبداننا إمّا أن لا تصاب أصلاً بشيء من الأسقام وإمّا إن نالها شيء من الأمراض فليس ينالها إلّا ضرب واحد منها. فيجب من ذلك أن يكون شفاؤها بشيء واحد. فإن كان ذلك حقّاً فقد هدر الطبّ عن آخره. وذلك أنّه إن كان الشفاء إنّما يكون بأشياء كثيرة فقد يحتاج إلى الطبيب ليستخرج ما الذي يوافق في كلّ واحد من الأمراض حتّى يكون به الشفاء. فإن كان الشيء الذي يكون به الشفاء في الصورة واحداً والسبب المحدث للمرض واحداً فليس يخاف الخطأ أصلاً.

فقد بان أنّ أبقراط قد أحسن في قوله منذ أول افتتاح كتابه حين قال:

«إنّ من اعتاد أن يسمع من القول في طبيعة الإنسان ما هو خارج عمّا يصلح في صناعة الطبّ فليس يوافقه سماع هذا القول».

ثمّ أتبع ذلك بأن قال:

«وذلك أنّي لست أزعم أنّ الإنسان في جملته هواء أعنى أنّه ليس هو بكلّيّته من الهواء ولا هو من الماء وحده».

فإنّ القائل بهذا القول يحكم بما هو خارج من صناعة الطبّ فيبطل أصولها.

وذلك أنّه قد يحتاج الأطبّاء إلى أن يسلّم لهم أنّ أصناف الأمراض كثيرة وأصناف العلاج الذي يكون به الشفاء أيضاً كثيرة. وليس هم إلى أن يسلّم لهم شيء أحوج منهم إلى أن يسلّم لهم هذا فمن لم يسلّم لهم هذا فقد أبطل أصول الطبّ فقوله إذاً خارج عن صناعة الطبّ.

وذلك أنّ المناقض لم يبطل أصول صناعة من الصناعات أيّ صناعة كانت فليس هو صاحب تلك الصناعة التي يروم إبطالها وإبطال أصولها لكنّه غيره.

وقد يصحّ لك ذلك من قول أرسطوطاليس حين قال: «فكما أنّه ليس للمهندس قول يعاند به من يبطل أصول الهندسة لكنّ القول في ذلك إمّا من صناعة أخرى وإمّا من صناعة مشتركة لجميع الصناعات.

كذلك ليس لصاحب النظر في الطبائع أيضاً قول يعانده به من يبطل أصول ذلك العلم». وذلك أنّ من أبطل ما يظهر عياناً فقد ينبغي إمّا لجميع الناس عامّة أن يقصدوا إليه بالذمّ إذ كان يبطل ما هم فيه من تصرّفهم وإمّا أن ينصبوا له صناعة تنصر الأصول سوى سائر الصناعات الجزئيّة كلّها أو يسلك في كلّ واحدة من الصناعات الجزئيّة طريقها على أصولها بعد أن نسلّم لأصحابها.

فقد نجد أرسطوطاليس وأبقراط يذهبان في قولهما مذهباً واحداً.

فأمّا المفسّرون لقول أبقراط فتجدهم لم يفهموا عنه قوله.

وذلك أنّ أبقراط لم يقل إنّ قوله ليس يوافق من قد اعتاد أن يسمع في طبيعة الإنسان ما هو خارج عمّا يوافق الطبّ وهو من يستجهل من قال إنّ النار والماء والهواء والأرض ليس هي الأسطقسّات.

لكنّا نجده منذ أوّل قوله إلى آخره إنّما يذمّ من ادّعى أنّ الواحد منها أيّ واحد كان هو الأسطقسّ.

وإلّا فهذا من أبعد الأشياء من المعقول أن يقال إنّه لمّا كان ليس يظهر في البدن واحد من الأربعة خالصاً وجب ضرورة أن يدفع أنّها كلّها أسطقسّات البدن.

وما ذلك إلّا بمنزلة قول من دفع أن يكون المرهم المعروف بالأخلاط الأربعة مركّباً من شمع وراتينج وزفت وشحم من قبل أنّه ليس ترى فيه واحداً من هذه الأخلاط الأربعة مفرداً على حدته خالصاً.

وما حاجتي إلى ذكر ما قد خالط بعضه بعضاً بالكلّيّة على هذا المثال.

وأنا أجد الأدوية اليابسة المؤلّفة من التوتيا والإثمد والنحاس المحرق بعد أن تسحق سحقاً ناعماً لا يبقى فيها من الأدوية المفردة شيء منفرد خالص على حدته. ولا تقدر أن تأخذ منها جزءا ولو أقلّ القليل فتجد فيه واحداً من هذه الأربعة الأخلاط أيّها كان مفرداً خالصاً لا يشوبه غيره.

فيجب من ذلك في أبدان الحيوان أيضاً ألّا يكون متى لم تجد واحداً من الأسطقسّات الأربعة مفرداً خالصاً على حدته تدفع أن يكون قوامه من امتزاجها.

ولا يجب من هذا أن نسلّم أنّ العالم مؤلّف من الأسطقسّات الأربعة وندفع تولّد الحيوان منها كأنّ الحيوان شيء ورد العالم من خارج ولم يكن تولّده فيه.

ولا تطالبني بأن أوجدك أيضاً في بدن الحيوان أرضاً خالصة لا يشوبها شيء وأنت لا تقدر أن توجدني في العالم أرضاً هذه حالها لأن أيّ جزء تناولته منها فإنّك تجد فيه لا محالة شيئاً من الحرارة ومن البرودة ومن جوهر الهواء.

على أنّ الأرض الحرّة التي لا يخالطها ولا يشوبها شيء هي التي نتوهّمها أسطقسّاً في غاية التلزّز والثقل واليبس والبرد.

لكنّ كما تقدر أن تريني في العالم الحجر جسماً أرضيّاً كذلك أقدر أن أريك في أبدان الحيوان جنس العظام والغضاريف والشعر.

ومن هذا الجنس

الخزف في الحيوان الذي له خزف وذلك أنّ الخزف من ذلك الحيوان قد بلغ من حاله في اليبس والتلزّز أن صار في حدّ الأرض الخالصة.

فإن أنت طالبتني أن أوجدك في بدن الحيوان أرضاً أوجدتك فيه مثل الأرض التي نجدها في العالم. فأمّا الأرض الخالصة المفردة التي لا يخالطها ولا يشوبها شيء فليس نجدها ولا في العالم أيضاً بسهولة. وكذلك لا نجد ماء خالصاً نقيّاً لا يخالطه ولا يشوبه شيء من غيره ولا ناراً ولا هواء. وذلك أنّها قد يشوبها شيء من غير جنسها أو يخالط بعضها بعضاً ونجد في بعضها من بعض شيئاً إمّا أكثر وإمّا أقلّ إلّا أنّه على حال قد يظهر مع اختلاطها صورة الشيء الغالب في كلّ واحد منها. فلا تطالبني إذاً ولا في أبدان الحيوان بشيء لا يخالطه ولا يشوبه شيء لكن اكتف منّي إذا أوجدتك شيئاً يابساً بارداً ملزّزاً أن يذكرك بالأرض أيضاً وإذا أوجدتك شيئاً سخيفاً سيّالاً رطباً أن يخطر بباك منه الماء وتذكرك الحرارة الكثيرة التي في أبدان الحيوان بالنار وطبيعة الروح التي لا يمكن أن يكون قوام الحيوان إلّا بها فلتذكرك بالهواء خاصّة وتذكرك معه أيضاً طبيعة النار. ولا تطلب منّي وجود الأرض خالصة على حدتها في بدن الحيوان ولا شيء من سائر الأسطقسّات صرفاً وإلّا فأوجدني أنت أوّلاً في المرهم المعروف بالأربعة الأدوية الشمع مفرداً.

ومن العجيب عندي إن كنت ليس تتوهّم أنّ الحنطة والشعير والتين والبلوط وكلّ واحد من سائر الحبوب والثمار ليس حدوثه عن الأرض والماء وأنت ترى عياناً تولّده يكون منهما. أفتحسب أنّه ليس يشوب تولّدها شيء من جوهر الهواء والنار؟

وأنت تجد الأرض إذا عجنتها بالماء لم يحدث عنهما شيء سوى الطين وكلّ واحد من الثمار والحبوب ليس بطين وإنّما خالف الطين لأنّه يشوبه شيء من النار والهواء ممازجين لجملة جوهره.

وأخلق بك أن تسلّم في التين والبلوط أنّهما من أستقصّات العالم وتسلّم ذلك قبلهما في جملة النبات إذ كنت ترى البزر من كلّ واحد من أصناف النبات يقع في الأرض وهو يسير صغير حتّى لا يكون ولا جزءاً من عشرة آلاف جزء من جملة النبات الذي هو من بزره وترى سائر جوهره كلّه إنّما يتولّد من أسطقسّات العالم.

وتشك في أمر الحيوان ليس غذاؤه من النبات وذلك أنّك ترى الغنم الضأن تأكل الحشيش وترى الخنازير تأكل مع الحشيش البلوط وترى الماعز يأكل مع ذلك الغصن من أغصان الشجر. ومن ذلك يتولّد فيها الدم وتغتذي به أبدانها ويتولّد منها أولادها وتنمي. فما تظنّ؟ أترى أنّ الغنم والخنازير حدثت عن أستقصّات العالم والناس الذين يأكلون الغنم والخنازير

كان أوّل حدوثهم ونموّهم وغذائهم بعد ذلك من شيء غير أستقصّات العالم؟

وكلّ هذا خارج عن القياس شنيع قبيح يدلّ من قائله على جهل كثير. وذلك أنّ الحبوب والثمار كلّها إنّما حدثت عن أستقصّات العالم ومن هذه يكون تولّد الحيوان وغذاؤه ونموّه.

وينبغى أن تتقدّم بالثقة فتحكم أنّ النار والأرض والماء والهواء أسطقسّات مشتركة لجميع الأجسام.

وذلك أنّك ليس تجد في العالم أجساماً هي أقدم ولا أبسط منها. فأمّا سائر الأجسام من النبات والحيوان فإنّما تركيبها من تلك.

وما اقتصر بقراط على أن حكم في كتابه في طبيعة الإنسان لمّا أمعن فيه بأنّ هذه الأجسام هي أسطقسّات جميع الأجسام التي في العالم حتّى حدّد أوّلاً للناس كيفيّاتها التي من شأنها أن يفعل بعضها في بعض ويقبل الأثر بعضها من بعض.

(٦) إلّا أنّ كثيراً من الناس لمّا لم يفهموا معاني أسماء مشتركة جرت في قوله ارتبكوا واضطربوا.

كالذي أصاب أثيناوس من أهل أطاليا. فإنّه ادّعى أنّ أسطقسّات بدن الإنسان الحارّ والبارد واليابس والرطب.

ثمّ قال مع ذلك إنّ الأسطقسّات ظاهرة في العيان حتّى لا تحتاج إلى أن يؤتي عليها ببرهان أصلاً. وربّما سمّاها كيفيّات وقوى وربّما سلّم أنّها أجسام ويخاف أن يقرّ بأنّها الماء والهواء والنار والأرض.

هذا على أنّه لم يبلغ أحد من الأطباء الحدث في الشرح لجميع الكلام في الطبّ ما بلغه أثيناوس.

إلّا قد نجده على حال قد أخطأ في هذا وفي أشياء كثيرة غيره.

وكذلك سائر جميع الأطبّاء الحدث.

فما أعلم أنّ أحداً منهم استقصى علم الطبّ القديم ولا شرح وتمّ تلك السبيل التي أفادناها القدماء ورسموها لنا.

لكن إن كان الحقّ أولى فقد ألغوا ذكر أشياء كثيرة ممّا قيل فيها بالصواب فأبطلوها.

ومن ذلك أنّ أثيناوس قال «إن الأسطقسّات ظاهرة في العيان لا تحتاج إلى برهان.

فياليت شعري هذا الظهور في العيان الذي يشهد به لها أمن طريق ما هي أستقصّات يشهد به لها أم من طريق الجواهر التي لزمها أن كانت أستقصّات؟

فإنّه إن كان إنّما يشهد بذلك لها من طريق ما هي جوهر فما باله لم يزعم أنّ أسباب الصحّة وأسباب الأمراض ظاهرة لجميع الناس لا تحتاج لظهورها في العيان لا إلى شرح ولا إلى برهان.

وذلك أنّ جميع الناس يعرفون الخبز والعدس وكشك الشعير واللحم وماء العسل إلّا أنّهم لا يعلمون لمن ومتى من شأن كلّ واحد من هذه أن ينفع أو يضرّ ومن هذا الطريق كان لكلّ واحد منها أن يكون سبباً للصحّة أو المرض. فقد بان أنّهم يعرفون الخبز واللحم والكشك ولا يعرفون سبب الصحّة منها من سبب المرض.

وكذلك في الأدوية أيضاً فإنّ الخريق وقثاء الحمار والسقمونيا والأفتيمون وأصل السوسن والخاريقون ليس من أحد إلّا وهو يقدر أن يراها عياناً ويشمها ويلمسها ويذوقها. فأمّا منافعها ومضارّها فليس يعرفها عوامّ الناس.

فقد بان أنّهم لا يعرفون سبب الصحّة منها من سبب المرض.

وكذلك أيضاً الأرض والهواء والماء والنار ليس من أحد إلّا وهو يعرفها معرفة شافية بحواسّه كلّها إلّا أنّ عوامّ الناس لا يعلمون هل هي أسطقسّات أم لا. ولم يعجز عن معرفة ذلك عوامّ الناس فقط لكن قد عجز عن معرفتها كثير من الفلاسفة.

وأخلق بأصحاب أثيناوس أن يقولوا إنّهم هم أيضاً لا يحكمون في هذه بشيء وذلك أنّها مجاوزة لحدّ الطبّ لكنّهم يكتفون بالحارّ والبارد واليابس والرطب التي قد يقدرون أن يوجدونا إيّاها في أبدان الحيوان عياناً ويمكنهم أن يحعلوها أستقصّات للأبدان وللطبّ كلّه.

وما بي حاجة الآن إلى أن أصف ما عليه قولهم من الشناعة والبعد من القياس في تصييرهم الحارّ والبارد واليابس والرطب أستقصّات للطبّ كما صيّروها أسطقسّات أبدان الحيوان إذ كان هذا القول قد شهر بالشناعة عند كثير من الناس وألزموا صاحبهم القديم به الذمّ والهزاء الشديد وصيّروه في حدّ من لا يوثق به.

ومن أعظم جناية عليه ممّن قال إنّه لا يحتاج إلى أن يأتي بالبرهان على الأسطقسّات لظهورها في العيان وأوجب مع ذلك أن يصيّرها أسطقسّات للطبّ ولأبدان الحيوان.

وما أراني إلّا سأبيّن أنّه لم يدع أثيناوس إلى أن خاف وتوقّى أن يقول: «النار والماء والهواء والأرض» وقال: «الحارّ والبارد والرطب واليابس» شيء سوى أن لم يشعر بما في هذه الأسماء من المعاني المشتركة.

وما قصدي في ذلك أن أبيّن أنّ أثيناوس أخطأ لكن قصدي في ذلك أن أحوط غيره من أن يخطيء مثل خطائه وأبيّن بنفس الأشياء الموجودة أنّه لا يمكن أن يثبت قول من الأقاويل أصلاً إلّا بعلم المنطق.

ومن ذلك أنّي أروم الاقتصاص لك عن شيء عرض لي.

وأقسم بالّله أنّي أتوخّى أن أحكيه لك كما كان.

وذلك أنّي قصدت رجلاً من المعلّمين لمقالة أثيناوس لأتعلّمها عنه.

فلمّا بدأ يعلّمنيها سألته أن يلخّص لي على الاستقصاء معاني الأسماء المشتركة في قوله.

فقلت: «إنّي لا أعلم على أيّ المعاني الموجودة يستعمل أثيناوس اسم الحارّ والبارد والرطب واليابس.

وذلك أنّه كما يقال: ‹أبيض› فمرّة يراد به اللون والكيفيّة حتّى يقال إنّ بعض الألوان أبيض وبعضها أسود وبعضها أحمر وبعضها أصفر ومرّة يراد به الجسم القابل للون فيقال: ‹إنّ الثلج واللبن أبيضان وإنّ الغراب والحبشيّ أسودان›.

كذلك فإنّي أسمع الناس يقولون ‹حارّا› فمرّة يريدون به الجسم نفسه مثل النار في المثل ومرّة يريدون به الكيفيّة التي فيه فقط.

فلست أدري إذا قلتم ‹حارّاً› أيّ شيء تريدون به؟ أتريدون به الكيفيّة وحدها أو تريدون به الجسم القابل لها؟»

فعند مسئلتي إيّاه عن هذا أسرع جدّاً فبادرني بالجواب فأقرّ أنّه ليس يعني بقوله «حارّاً» الكيفيّة وحدها لكنّه يعني الجسم كلّه بأسره.

ثمّ إنّي سألته بعد هذا فقلت له: «هل تعني بقولك ‹أسطقسّ حارّ› ذلك الجسم الذي هو في غاية الحرارة أو قد تسمّي ما ليس هو في غاية الحرارة أسطقسّاً حارّاً؟»

وكذلك سألته في البارد واليابس والرطب.

فلمّا أوردت عليه هذه المسئلة اضطرب وجعل يتلكّأ في الجواب فلا يسرع فيه كما أسرع أوّلاً.

ثمّ قال لي:

«وما أدركك في هذا الذي تسأل عنه؟»

فقلت له:

«إنّي إنّما سألتك عن هذا لأنّ بين أن تضع عدداً من الأسطقسّات لا نهاية له وبين أن تضع لها عدداً متناهياً فرقاً عظيماً.

وإن نحن جعلنا ما هو من الحرارة أو من البرودة ليس في غايتها أستقسّاً وجب من ذلك أن يكون عدد الأستقصّات لا نهاية له.

وإن نحن جعلنا ما هو من الحرارة أو من البرودة في الغاية هو الأسطقسّ لم يكن عددها غير متناهٍ لأنّه إنّما يصير في كلّ واحد من الأجناس أسطقسّ واحد حتّى يصير عدد الأسطقسّات كلّها أربعة».

فأجابني قائلاً: «فإذا كان هذا الأمر كذلك فافهم منّي أنّها متناهية وأنّها أربعة».

فقلت له:

«فقد بان إذاً أنّها من الكيفيّات في غايتها مفردة بسيطة أوّليّة».

فقال لي:

«وما حاجتك إلى التغلغل في البحث إلى هذا أيضاً؟»

فقلت له:

«حتّى أستقصي فهم ما تقول».

فقال:

«هكذا أقول وهكذا فافهم عنّي».

فقلت له:

«فكيف تأمرني؟ .. أن أفهم عنك أنّ الأسطقسّ هو الشيء الذي هو في غاية الحرّ أو في غاية البرد؟»

فلمّا قلت له هذا القول غضب غضباً شديداً واضطرب ثمّ قال لي:

«إنّي أسمّي الجسم الذي قد غلب عليه الحرّ حارّاً والجسم الذي قد غلب عليه البرد بارداً وكذلك أقول في اليابس وفي الرطب إنّ كلّ واحد منهما هو الجسم الذي قد غلب عليه اليبس أو الرطوبة».

فقلت له:

«فما يمنعك مانع من أيّ تسمّي هذه الأجسام بهذه الأسماء فقد يسمّى الخبز حارّاً والعدس والكشك والحمّام لكنّي لا أحسبك تقول إنّ كل

واحد من هذه أسطقسّ لكن أحسبك إنّما تعني بالأسطقسّ الحارّ ذلك الجسم الذي هو في غاية الحرارة فقط وكذلك تعني بالأسطقسّ البارد الجسم الذي هو من البرودة في غايتها وعلى هذا القياس يسمّى اليابس والرطب. وذلك أنّ الأسطقسّ ينبغي أن يكون مفرداً بسيطاً لا يخالطه ولا يشوبه شيء ولا ينبغي أن يكون مركّباً ولا مختلطاً».

فقال:

«فهكذا فافهم فإنّي لست أقول إنّ الكشك والعدس أستقصّات».

فقلت له:

«إن توهّمت أنّ الجسم الذي هو في غاية الحرارة هو الأسطقسّ الحارّ لم يقع وهمي على شيء سوى النار».

فقال:

«فافهم عنّي أنّه النار».

فقلت له:

«فكهذا تريد أن أفهم أنّ الأسطقسّ الرطب إنّما هو الماء».

فأقرّ بذلك ولكن بعد كدّ شديد.

فقلت له:

«فقد جئنا من الرأس إلى النار والهواء والماء والأرض التي كنّا هربنا منها في أوّل الأمر».

فقال لي:

«فأنت الذي صيّرت كلامنا إلى هذه الحال من الاضطراب».

ثمّ أقبل مع قوله ذلك على سائر تلاميذه فقال لهم: «إنّ هذا تربّى بين أصحاب المنطق فامتلأ من نفاقهم فجاء يبطل كلّ صحيح ويعوّج كلّ مستوٍ ويثوّر كلّ صافٍ ويغالطنا كيما يتحجّج عندنا بما عنده من العدّة والقوّة في المنطق.

ومن ذلك أنّه جاء يؤدّي بنا إلى أن نتوهّم أنّ اسم الحارّ اسم مشترك يدلّ على معانٍ شتّى أحدها كيفيّة كما نقول ‹أبيض› والثاني الجسم الذي قد قبل الغاية من تلك الكيفيّة والثالث الجسم الذي تلك الكيفيّة غالبة عليه كالحمّام».

قال:

«فأمّا نحن فلم نتعلّم نقض المغالطات فهو إذاً أولى بنقضها إذ كان هو الذي عقدها».

وكان هذا وقد أتت عليّ من السنّ تسع عشرة سنة.

فأنا منذ ذلك أستعمل في أكثر الأمر السكوت كيما لا يظنّ بي أنّ شأني اللجاجة والمراء وأتفكّر فيما بيني وبين نفسي فأبحث عن القول في الأسطقسّات وعن سائر الأقاويل.

وأعجب كيف لم يشعر أثيناوس بتناقض قوله فيما ادّعى من أنّ الأسطقسّات إنّما هي الحارّ والبارد والرطب واليابس. وأبى أن يزعم أنّها النار والأرض والماء والهواء لكن قال:

«إنّي إنّما أقصد قصد الأسطقسّات القريبة التي تخصّ الحيوان وليس أقصد قصد الأستقصّات البعيدة التي تعمّ جميع الأجسام».

ويعنون بالقريبة التي هي كأنّها خاصّة للشيء الذي تنسب إليه وليست هي بشيء غيره أصلاً من جميع الأشياء.

وأمّا أنا فقد بيّنت منذ أوّل قولي أنّ الفرق بين ما يظهر عياناً أنّه أسطقسّ وبين ما هو بالحقيقة أسطقسّ عظيم جدّاً.

وأخلق بي أن أتكلّم في ذلك الآن أيضاً كلاماً أبلغ من الأوّل فأقول:

إنّه إن كان الأسطقسّ إنّما هو جزء لا يكون أقلّ منه ولا أبسط منه وجب أن يكون عند الحسّ أسطقسّات بدن الإنسان العظم والغضروف والرباط والظفر والشعر والشحم واللحم والعصب والمخّ والليف والأغشية وبالجملة جميع الأعضاء المتشابهة الأجزاء.

أفترى أثيناوس جعل هذه في شيء من أقاويله هي الأسطقسّات؟

ما نجده حقّاً جعلها كذلك بل وجدناه قد كتب في بعض كتبه أنّ كلّ واحد من الأعضاء المتشابهة الأجزاء إنّما كان حدوثه من الأستقصّات الأول ومن الأعضاء المتشابهة الأجزاء كان تركيب سائر أعضاء بدن الحيوان.

فإن سأله سائل عن الأستقصّات الأول التي حدث عنها اللحم في المثل أو الشحم فبيّن أنّ جوابه في ذلك هو أن يقول إنّها الحارّ والبارد واليابس والرطب.

وكذلك أيضاً يزعم أنّ أسطقسّات العظم والغضروف والشعر هي الحارّ والبارد والرطب واليابس.

وإذا قال ذلك فقد وجب لك عليه أن تسئله ما الذي يعني بالحارّ والبارد واليابس والرطب؟ وذلك أنّ كلّ واحد من هذه قد يقال بالغالب وقد يقال على الانفراد.

فأمّا بالغالب فيقال إنّ اللحم رطب ويقال إنّ الغضروف يابس ويقال إنّ اللحم حارّ ويقال إنّ الغضروف بارد وكذلك يقال في العظم إنّه بارد يابس ويقال في الشحم إنّه بارد رطب وكلّ واحد من سائر الأعضاء المتشابهة الأجزاء يوصف بحال من الأحوال بحسب غلبة الأستقصّات المفردة البسيطة عليه.

فإن قال قائل إنّ الجسم الذي يقال إنّه حارّ أو بارد أو رطب أو يابس بالغالب فيه هو الأسطقسّ وجب من قوله أن تكون أستقصّات بدن الإنسان العظم والغضروف والعصب وما أشبه ذلك من سائر الأعضاء.

وليس يزعم أثيناوس أنّ هذه هي أسطقسّات بدن الإنسان لكنّه يزعم أنّ تلك الأشياء التي عنها ركّبت هي الأستقصّات بالحقيقة.

فقد بان من ذلك أنّه قد تجاوز الحسّ وتراقى بالرؤية والفكر إلى الأشياء الأول التي هي بالحقيقة مفردة بسيطة التي لا يمكن أن يقال فيها إنّها بالغالب صارت بالحال التي توصف بها.

لأنّه إن قيل فيها أيضاً إنّها كذلك بالغالب وجب أن تكون تلك أيضاً مركّبة.

وكنّا قد أخطأنا ما أردناه من وجهين:

أحدهما أنّا فارقنا الأشياء المحسوسة في طلب شيء أبسط منها.

والثانى أنّا لم نجد ولا في الأشياء الخفيّة ذلك الشيء المفرد البسيط.

فأمّا عند التماسنا كان للأشياء الظاهرة عياناً فقد كنّا على حال نجد فيها شيئاً متّفقاً عليه بأنّه بسيط مفرد.

وإن كنّا لا نجد غير ذلك فإنّه ليس أحد من الناس يأبي أنّ الغضروف والشحم والغشاء وسائر الأعضاء المتشابهة الأجزاء كلّها أجزاء أول من بدن الإنسان هي أبسط أجزائه.

فالذي يدع هذه لأنّها عند الطبيعة مركّبة وإن كانت تظهر في الحواسّ بسيطة ثمّ لا يأتي بعد بشيء مفرد بسيطاً فما عذره عند من ينسبه في ذلك إلى دعوى الفضول والباطل؟

وإن كنت أيضاً تعنى بالحارّ والبارد والرطب واليابس ما هو كذلك بالغالب فقد نجد أستقصّات موجودة عياناً معروفة وهي العصب والغشاء والغضروف والرباط واللحم وكلّ واحد من سائر الأعضاء التي ذكرناها.

وإن كنت تطلب الشيء الذي هو عند الطبيعة بسيط مفرد فقد ينبغي أن يكون ذلك خالصاً صرفاً لا يشوبه شيء وتكون الكيفيّة فيه على غايتها.

فقد جئت من الرأس إلى النار والهواء والماء والأرض لأنّك لا تجد الكيفيّات على غايتها لا يشوبها ولا يخالطها شيء إلّا في هذه فقط.

وذلك أنّا نجد في النار غاية الحرّ وغاية اليبس ونجد في الأرض غاية البرد وغاية اليبس ونجد الكيفيّات الأخر في كلّ واحد من الاثنين الباقيين بحسب طبيعته التي تخصّه.

فإن لم تشأ أن تقول إنّ هذه الأربعة هي الأستقصّات لكنّ اثنين منها أو ثلاثة فلعلّك ستجد في ذلك بعض الحجّة.

فأمّا بأن تقرّ أنّ الأسطقسّ الرطب هو في غاية الرطوبة ثمّ تتوهّم مع ذلك أنّك تعني به شيئاً غير الماء فذاك منك غاية الجهل إلّا أن تزعم أنّ الكيفيّات أنفسها هي الأستقصّات لا الأجسام القابلة لها فإنك إن قلت ذلك صار الأسطقسّ الرطب ليس هو الماء لكنّ الرطوبة وصار الأسطقسّ الحارّ ليس هو النار لكنّ الحرارة التي هي في الغاية.

فإن قلت ذلك فقد لزمك أمران:

أمّا الأوّل فإنّك قد تجاوزت النار والهواء والماء والأرض وتراقيت بالقول إلى ما هو أعلى منها وقد كان غرضك أن تقصر دونها ولا تبلغ إليها لأنّها بزعمك بعيدة عن الطبّ.

وأمّا الثاني فإنّه ينكشف بذلك من جهلك أنّك لا تعلم ما الفرق بين الأسطقسّ وبين المبدأ.

وقد اتّفق جميع الفلاسفة الذين أثيناوس حريص على اتّباعهم على أنّ الحرارة التي هي في الغاية أبسط من النار وأنّ تلك الحرارة إذا صارت في العنصر تولّدت منها النار.

وكذلك اتّفقوا أيضاً على أنّ مبدأ كون النار يكون من العنصر الذي لا كيفيّة له المشترك لجميع الأسطقسّات وعن الحرارة التي هي في الغاية الحادثة في ذلك العنصر وأنّ العنصر موجود الدهر كلّه لا يقبل كوناً ولا فساداً والذى يحدث فيه ويبطل عنه إنّما هو الكيفيّة وأنّ الأسطقسّ ينبغي أن يكون من جنس ما هو له أسطقسّ.

وهذا هو الفرق بين المبدأ وبين الأسطقسّ:

أنّ المبدأ ليس يجب ضرورة أن يكون مساوياً في الجنس للشيء الذي هو له مبدأ.

أمّا الأسطقسّات فهي لا محالة موافقة في الجنس لما هي له أسطقسّات.

فالكيفيّة البسيطة المفردة أسطقسّ للكيفيّة المركّبة والجسم البسيط المفرد أسطقسّ للجسم الذي ليس ببسيط ولا مفرد.

وإن كان الحارّ والبارد والرطب واليابس يقال كلّ واحد منهما على ثلثة أوجه:

إمّا على أنّه كيفيّة وإمّا على أنّه جسم مفرد لا يخالطه ولا يشوبه شيء وإمّا على أنّه جسم مختلط.

ووجدنا أنّ الأسطقسّ ليس هو الكيفيّة ولا الجسم المختلط الممزوج فقد بقي أن يكون الأسطقسّ إنّما هو الجسم الذي هو مفرد غير ممتزج ولا مختلط لكنّه في كيفيّاته بسيط.

فقد رجعنا من الرأس إلى النار والماء والأرض والهواء إذ كنّا إنّما نجد أوّلاً الحرارة التي هي في الغاية والبرودة واليبوسة والرطوبة فيها.

وأمّا خوف من خاف أن يقرّ بأنّ هذه هي الأستقصّات من قبل أنّا ليس نخرج من البدن شيئاً منها ولا نورد على البدن شيئاً منها فغاية الجهل.

وذلك أنّا إذا أوردنا على البدن ما كان حدوثه عن الأستقصّات فقد أوردنا عليه لا محالة الأسطقسّات أنفسها.

فإن قالوا: «إنّكم في تلك الحال ليس توردونها على البدن خالصة ولا مفردة» قلنا لهم: «فبئس ما قلتم إنّكم ليس تخرجون من البدن شيئاً منها ولا توردون على البدن منها شيئاً وذلك أنّه لم يكن ينبغي لكم أن تطلقوا قولكم هذا الإطلاق لكنّه إنّما كان ينبغي لكم أن تقولوا إنّكم ليس توردون على البدن شيئاً من الأستقصّات مفرداً ولا غير مختلط ولا على حدته.

على أنّ هذا أيضاً شيء لا يحصل لهم منه شيء ولا ينتج لهم شيئاً وذلك

أنّه لا يجب أن يكون النظر في الأسطقسّات شيئاً لا ينتفع به من قبل أنّه ليس نورد على أبداننا شيئاً منها مفرداً على حدته ولا يخالطه غيره.

ولا يجب أن يكون من قال إنّ النار والهواء والماء والأرض هي الأسطقسّات قد أساء في قوله وأخطأ من قبل أنّا إنّما نستعمل ما حدوثه منها فأمّا كلّ واحد منها مفرداً على حدته فليس ينتفع به.

على أنّا قد استعملنا كثيراً أستقصّات العالم وهي في حال تكاد أن تكون فيها خالصة مفردة.

أمّا الماء فشربنا له كلّ يوم واستحمامنا به وسائر استعمالنا إيّاه وأمّا الهواء فبإحاطته بأبداننا من جميع النواحي واجتذابنا له باستنشاق. وقد نحتاج كثيراً إلى النار إذا نالنا البرد.

فلست أدرى ما الذي يريدون أن ينتجوا من قولهم إنّا ليس نخرج من أبداننا ولا نورد عليها لا ناراً ولا ماء ولا هواء ولا أرضاً.

وأمّا أنا فأقول إنّ الذي يناله القرّ فيصطلي بالنار قد يورد على بدنه ناراً وأنّ الذي يشرب الماء قد يورد الماء على بدنه وكذلك أقول إنّ الذي يتنفّس إنّه يورد على بدنه هواء وأقول أيضاً في الحيوان الذي يأكل الرمل أو التراب أو الحجارة أو الحمأة والعظام إنّ كلّ واحد منها يورد على بدنه

أرضاً وروداً بيّناً.

فإن كان إنّما يزعمون أنّا ليس نورد على أبداننا شيئاً من الأسطقسّات من قبل أنّ الذي يصطلي بالنار ليس يمعن في الاصطلاء بها حتّى يحترق والشارب الماء ليس يمعن في شربه حتّى ينفطر فهم أحقّ بأن نعجب من حكمتهم إذ كان فهمهم قد قصر عن أن يعلموا أنّه إن باد من بدن الحيوان أصل واحد من الأسطقسّات أيّها كان وجب أن يهلك ذلك الحيوان مع عدمه لذلك الأسطقسّ وأنّه يبيد من البدن إذا احترق الأسطقسّ البارد وإن برد غاية البرد باد منه الأسطقسّ الحارّ وكذلك إن جففت البدن غاية الجفاف أبدت منه الأسطقسّ الرطب وإن بلغت منه غاية الترطيب أبدت منه الأسطقسّ اليابس.

فالأمر إذاً على ضدّ ما قال أولئك.

وذلك أنّه قد ينقص من بدن الحيوان ويزيد فيه دائماً شيء من الأستقصّات إلّا أنّ ذلك يكون بمقدار قصد ممّن لا يقصد إلى فساد بدن الحيوان. وذلك أنّ استعمال الأسطقسّات إذا كان مفرطاً خارجاً عن القصد أهلك الحيوان.

(٧) وأنا ملتمس أن أكشف لك ملاك الأمر في هذا القول وما ذهب عليهم خاصّة عن آخره وهو أنّ جميع الأجسام التي تقبل الكون والفساد مضمّنة بنوعين من التغيّر. وذلك أنّ جوهرها يستحيل ويتحلّل أيضاً فيجري منه شييء واستخالة جوهرها يكون بأن تبرد أو تسخن أو تجفّ أو ترطب فإنّ هذه الكيفيّات فقط دون سائر الكيفيّات تغيّر الجوهر بكلّيّته كما سأبيّن بعد قليل.

وتحلّل ما يتحلّل ويجري من جوهرها يكون بما يخرج منه خروجاً محسوساً أو ما يتحلّل منه بالتحليل المعروف بالخفيّ.

فيجب من ذلك أن يكون الجسم الذي يحتاج أن يبقى محفوظاً على حاله يحتاج إلى نوعين من الإصلاح:

أحدهما يقمع ما يفرط عليه من الكيفيّات والآخر يخلف مكان ما يستفرغ منه.

والشيء الذي يقمع الإفراط من الكيفيّات إنّما هو الكيفيّة المضادّة لتلك الكيفيّة الغالبة.

وأمّا الشيء الذي يخلف مكان ما نقصت فليس هو كيفيّة لكنّه يحتاج أن يكون أشبه شيء بالجوهر الذي سبق فاستفرغ. وذلك أنّه يريد أن يخلف مكانه ويقوم مقامه ويصير للحيوان بدلاً منه وذلك هو أن يغتذي الحيوان بما يكون من جوهر شبيه بالجوهر الذي سبق فاستفرغ منه.

ولذلك فيما أحسب يسمّى ذلك الجوهر غذاء.

فأمّا متى قصدنا لأن نحيل البدن في الكيفيّة فقط فلسنا نسمّي تلك الأشياء التي نفعل بها ذلك أغذية لكنّا نسمّيها أدوية.

ولمّا كنّا لا نجد كيفيّة أصلاً من غير جوهر اضطررنا إلى أن يكون تناولنا لها مع الجواهر حتّى نوردها على الأبدان التي تحتاج إليها.

فمتى احتجنا إلى كيفيّة هي في الغاية تناولنا الأسطقسّ نفسه أعني النار أو الماء أو الأرض أو الهواء.

ومتى احتجنا إلى مقدار قصد من الكيفيّة تناولنا شيئاً مختلطاً مركّباً من الأسطقسّات.

فمتى احتجنا إلى أن نسخن اخترنا من الأدوية ما فيه حصّة من النار أكثر من الحصّة التي تقابلها من البرد.

ومتى احتجنا إلى أن نبرّد استعملنا ضدّ ذلك.

وربّما قصدنا أن نفعل الأمرين جميعاً أعنى أن نحيل البدن وأن نغذوه فاخترنا جوهراً واحداً يبلغ لنا مبلغ الطعام ومبلغ الدواء.

فليس يجب إذاً أن يطالبونا بأن نوجدهم حيواناً يتناول الأسطقسّ مفرداً خالصاً معتزلاً عن سائر الأسطقسّات على حدته إمّا الأرض وإمّا الماء وإمّا النار وإمّا الهواء وذلك أنّ الحيوان كلّه ليس يحتاج أن يتناول هذه لا على أنّها غذاء ولا على أنّها دواء.

وذلك أنّ الغذاء قد كان شيئاً شبيها بالمغتذي به.

والشبيه بالجسم المركّب الممتزج الذي فيه الأسطقسّات كلّها إنّما هو جسم آخر مثله مركّب من تلك الأسطقسّات كلّها.

وليس يحتاج أيضاً إلى الأسطقسّ دائماً على أنّه دواء لكنّه إنّما يحتاج إليه في ذلك الوقت الذي يحتاج فيه البدن إلى الكيفيّة التي هي في الغاية فقط.

فقد قلت هذا وأنا أقصد به لمعاندة من لم يفهم كلام بقراط بطريق الصواب..

ويتبيّن منه مع ذلك أنّا نحتاج إلى الأسطقسّات دائماً وربّما كانت حاجتنا إليها على أنّها مفردة بسيطة وربّما كانت حاجتنا إليها على أن تكون غالبة على الشيء الذي نتناوله أو على أن يكون لا محالة تركيب ذلك الجسم الذي نريد منه أن يقوم لنا مقام الغذاء أو مقام الدواء عنها.

(٨) وقد تبيّن لك أنّ بقراط يسمّي الأسطقسّات كثيراً بأسماء تشتقّ لها من كيفيّاتها في كتابه في طبيعة الإنسان. فيقول «حارّ» وليس يريد به الكيفيّة مفردة وحدها ولا الجسم الذي بغلبتها عليه يسمّى باسمها لكنّ الجسم الذي تلك الكيفيّة فيه على غايتها.

ويقول «بارد» وهو يريد به الجسم الذي فيه كيفيّة البرد على غايتها.

ويقول «يابس» وهو يريد به الجسم الذي فيه كيفيّة اليبس على غايتها.

ويقول «رطب» وهو يريد به الجسم الذي فيه كيفيّة الرطوبة على غايتها من نفس أقاويله.

وذلك أنّه إذا قال:

«ويجب ضرورة أن يعود كل واحد منها إلى طبيعته إذا مات الإنسان وانحلّ بدنه اليابس إلى اليابس والرطب إلى الرطب والبارد إلى البارد والحارّ إلى الحارّ».

فليس يعني بالحارّ والبارد واليابس والرطب الكيفيّات وحدها مفردة لكنّه إنّما يعني الجواهر التي فيها تلك الكيفيّات. وذلك أنّ تلك هي التي يقال فيها إنّها ترجع إذا مات الإنسان وإنّها تخالط أستقصّات الكلّ.

وأمّا الكيفيّات فإنّما يقال فيها إنّها تفسد إذا مات الإنسان ولا يقال فيها إنّها تعود إلى طبائعها.

وقد أتبع بقراط القول الذي تقدّم بقول آخر فقال:

«وكذلك طبيعة الحيوان وسائر الأجسام كلّها تحدث كلّها وتفنى على مثال واحد. وذلك أنّ طبيعتها تحدث من جميع هذه التي ذكرنا وتفنى برجوعها إلى هذه التي ذكرنا وذلك أنّ كلّ شيء حدث عن شيء فإلى ذلك

الشيء يعود».

فقد بيّن عن نفسه في هذا القول أيضاً بياناً شافياً أنّه ليس يعني بالحارّ والبارد والرطب واليابس الكيفيّات لكنّه إنّما يعني بها الأستقصّات وذلك أنّ كون الاجسام كلّها إنّما هو عن تلك وفسادها كلّها يؤول الى تلك.

وقد أحبّ لك أن تقبل بفهمك وعقلك وتتدبّر به هذا أيضاً الذي قد ذهب على كثير من الأطبّاء ممّن ظنّ ببقراط أنّه يهرب من أن يحكم بأنّ تلك هي أسطقسّات جميع الأجسام التي في الكون والفساد.

وذلك أنّك تجده قد استعمل في هذا القول الذي حكيته لك عنه قبيل الاسم الذي يدلّ به على العموم وهو قوله «كلّها» أربع مرّات واستعمل ذلك الاسم أيضاً قبل ذلك في القول الذي قال فيه:

«فقد يجب ضرورة إذا كانت طبيعة الإنسان كذلك وسائر الأشياء كلّها ألّا يكون الإنسان شيئاً واحداً».

وكذلك نجده يستعمل هذا الاسم فيما أتى به بعد من الأقاويل.

لكنّ هذا قد ذهب على كثير ممّن ينسب نفسه إلى مقالة بقراط.

ويغلطون أيضاً قبل هذا فيظنّون أنّه إذا قال «حارّا» أو «بارداً» أو «رطباً» أو «يابساً» إنّما يعني به شيئاً آخر سوى الأسطقسّات المشتركة لجميع الأجسام التي في الكون والفساد.

وقد بيّنت لك فيما أحسب بياناً شافياً بالأقاويل التي حكيتها لك عنه أنّه ليس يريد أن يجعل الكيفيّات أسطقسّات لتلك الأجسام.

وأبيّن لك ذلك أيضاً بقول آخر أحكيه لك عنه وهو هذا القول:

«وإن لم يكن أيضاً الحارّ عند البارد واليابس عند الرطب معتدلة بعضها بقياس بعض مساوياً بعضها لبعض لكن كان الواحد منها يفضل على الآخر فضلاً كثيراً فيكون الواحد أقوى والآخر أضعف لم يحدث الكون».

وذلك أنّه ليس يرى أنّ كون الحيوان عن الكيفيّات وحدها إذ كانت الكيفيّات لا يمكن أن تكون موجودة دون الأجسام لكنّه إنّما يريد أنّ حدوث الحيوان من تلك الأجسام التي فيها تلك الكيفيّات على غايتها لأنّ تلك هي الأسطقسّات المشتركة لجميع الأجسام التي في الكون والفساد.

فأمّا الشيء الذي يسمّي «حاراً» أو «بارداً» أو «رطباً» أو «يابساً» لغلبة تلك فهو خاصّ لكلّ واحد من الأجسام.

وأنا جاعل كلامي أوّلاً في الإنسان فأقول:

إنّ تركيب بدن الإنسان من الأسطقسّات الأولى المفردة عند الحسّ هو عن الأعضاء التي تعرف بالمتشابهة الأجزاء وهي الليف والأغشية واللحم والشحم والعظام والغضاريف والرباطات والعصب والمخّ وسائر جميع الأعضاء التي أجزاء كلّ واحد منها في صورة واحدة.

وحدوث هذه أيضاً كان من أسطقسّات أخر قريبة منها وهي الدم والبلغم والمرّتان الصفراء والسوداء.

وحدوث هذه كلّها وتولّدها هو ممّا يؤكل ويشرب.

وحدوث ما يؤكل ويشرب أيضاً إنّما هو من الهواء والنار والماء والأرض.

فأمّا هذه فليس هي عن أجسام أخر لكنّها عن العنصر والكيفيّات.

ولذلك قلنا إنّ النار والماء والهواء والأرض ليس لها أسطقسّات كانت عنها لكن لها مبادئ وأصول وإنّ هذه أعنى النار والهواء

والماء والأرض أسطقسّات لسائر جميع الأجسام وذلك أنّها أقلّ الأجزاء وأبسطها وأقدمها من سائر جميع الأجسام.

وليس يشكّ أحد له عقل أنّ حدوث كل عشب وكل نبات ونماءه إنّما هو عن الهواء والماء والنار والأرض ولا يخالفنا أيضاً أحد في أنّ هذه هي أغذية جميع الحيوان ولا أنّ تولّد الأخلاط التي توجد في الأبدان وهي صحيحة باقية على طبائعها إنّما تكون عنها.

وقد نحتاج إلى البحث عن تلك الأخلاط أيّ الأخلاط هي وكم هي وقد قدرنا لذلك قولاً ثانياً.

فأمّا الآن فإنّا نروم أن نضيف إلى هذا القول الأوّل ما يقوم له مقام الرأس للبدن فنقول:

(٩) إنّ كلّ واحد من الأعضاء المتشابهة الأجزاء حدث وتكون عن تلك إذا اجتمعت وتركّبت بعضها إلى بعض التئمت منها الآلة الأولى البسيطة التي جعلتها الطبيعة لفعل واحد.

وإذا اجتمعت أيضاً وتركّبت عدّة من تلك الآلات بعضها لبعض تولّدت عنها آلة أخرى أعظم من الأولى.

وإذا تركّبت أيضاً تلك الآلات بعضها إلى بعض التأم من ذلك قوام البدن كلّه.

وسنتكلّم في ذلك في كتابنا في التشريح.

وقد وصفت أيضاً كيف كان رأي بقراط في جميع ما يظهر في التشريح في كتاب أفردته لذلك.

وأمّا الآن فإنّما قصدي أن أصف أمر الأسطقسّات التي هي أعلى من تلك حتّى تخفى عن الحسّ وهي التي تكلّم فيها بقراط في كتابه في طبيعة الإنسان فقال:

«إنّ أسطقسّات أبداننا الخاصّة القريبة هي الأخلاط الأربعة وإنّ الأسطقسّات المشتركة لجميع الأجسام هي الحارّ والبارد والرطب واليابس».

فإنّه يسمّي الأسطقسّات من كيفيّاتها التي من قبلها صارت الأسطقسّات أسطقسّات.

وذلك أنّ الحرارة التي هي في الغاية إذا صارت في العنصر كان ذلك الجسم أسطقسّاً وكذلك الحال أيضاً في البرودة والرطوبة واليبس إذا صار كلّ واحد منها في العنصر.

وذلك أنّه ليس يحكم على الجسم بأنّه أسطقسّ من قبل أنّه أحمر أو أبيض أو أسود أو من قبل أنّه خفيف أو ثقيل أو من قبل أنّه ملزّز أو سخيف ولا من قبل أنّه يضغط أو يقطع أو يهشم وبالجملة ليس يقال إنّه أسطقسّ من قبل أنّ فيه كيفيّة أخرى سوى الكيفيّات الأربع التي وصفناها.

فإنّ هذه الكيفيّات الأربع وحدها إذا كانت تحيل الجوهر المشترك لجميع الأسطقسّات صارت أسباب استحالة الأسطقسّات بعضها إلى بعض وأسباب قوله النبات والحيوان.

واستحالة الأستقصّات بعضها إلى بعض أمر بيّن في العيان حتّى أن آل ثاليس قد أقرّوا به على أنّه مناقض لأصولهم كما بيّنت.

والذي نتج عن إقرارهم بذلك أنّ الأسطقسّات كلّها جوهر واحد مشترك هو لها عنصر.

وقد بيّن ذلك أيضاً بقراط بقول وجيز قد حكيته عنه وهو أوّل قول حكيته عنه وهو القول الذي قال فيه:

«إنّ الإنسان لو كان شيئاً واحداً لما كان يألم».

فإنّ هذا القول مع إيجازه قد قلت إنّه يخبرنا بالأمرين جميعاً أعني أنّ الأسطقسّات أكثر من واحد وأنّ من شأنها الاستحالة.

وأنا عائد في هذا حتّى أضيف إلى هذه القول الأوّل ما نحتاج إليه فيه كيما يتمّ به فأقول:

إنّ الجوهر إذا كان من شأته أن يستحيل فقد ينبغي أن ننظر الآن أيّ كيفيّة من الكيفيّات التي من شأنها أن تفعل ذلك.

فإنّ بقراط من قبل أنّه كان يستعمل الإيجاز على عادة القدماء من بعد أن قال:

«إنّ الإنسان لو كان شيئاً واحداً لما كان في حال من الأحوال يألم».

أتبع ذلك باستعمال الحارّ والبارد واليابس والرطب في جميع الاستحالات بعد أن أخذ من العيان أنّ الأجسام التي يلقى بعضها بعضاً من

شأنها أن يستحيل بعضها إلى بعض بإسخان بعضها لبعض أو بتبريدها أو بتجفيفها أو ترطيبها.

وعلّم أنّ ممّا تقدّم فبيّن من أمر استحالة الجوهر في جملة أنّه قد بطل أن يكون ما يظهر من استحالة الأجسام إنّما هي اجتماع وتفرّق كما ظنّ آل أفيقورس وذيمقراطيس وكما ادّعى على جهة أخرى أنكساغورس وإمبادقلس.

أمّا أنكساغورس فدعواه الأجسام المتشايهة الأجزاء.

وأمّا إمبادقلس فظنّه أنّ الأسطقسّات الأربعة غير قابلة للتغيير.

وأمّا نحن فإنّا نبسط القول ونشرحه فبحسب ما نزيد في بيانه يكون تقريبنا له من القبول والتصديق حتّى يصير على هذا المثال:

إن كنّا قد نألم فليس جوهرنا واحداً في الصورة ولا غير قابل للتأثير. وقد نجدنا نألم فيجب من ذلك أن يكون جوهرنا ليس بواحد في الصورة ولا غير قابل للتأثير.

وإن كان جوهرنا قابلاً للتأثير فإنّما يقبله بأن يسخن ويبرد ويجفّ ويرطب.

وذلك أنّه ليس شيء من سائر الكيفيّات الأخر يقدر أن يغيّر الجسم الذي يلقاه بكلّيّته. وذلك أنّ الثقيل إذا لقي الخفيف لم يصر الثقيل خفيفاً ولا الخفيف

ثقيلاً ولا إن لقي الخشن الأملس أو الملزّز السخيف أو الغليظ اللطيف. فإنّه ليس شيء من هذه يمكنه أن يحيل الجسم الذي يلقاه في كلّيّته وجملته.

وقد بقي اللين والصلب واللزج والهش.

واللين من هذه أيضاً واللزج إنّما هو من طبيعة الرطب والصلب والهش إنّما هما من طبيعة اليابس.

ولم يبق من الكيفيّات الملموسة شيء غير هذه.

وممّا هو بيّن عند جميع الناس أنّ استحالات العنصر ليس تلحق الكيفيّات المرئيّة أو الكيفيّات المسموعة أو الكيفيّات المطعومة أو الكيفيّات المشمومة.

وذلك أنّها وإن كانت من جنس الكيفيّات الملموسة فإنّها تخالف تلك الكيفيّات التي تخصّ باسم الملموسة في شيئين:

أحدهما أنّها ليس توجد في جميع أجناس الحيوان.

والآخر أنّها ليس تغيّر الجوهر الذي تكون فيه بكلّيّته وجملته.

فإن كانت هذه الكيفيّات تخصّ الحيوان الذي توجد فيه وكانت الكيفيّات التي تحيل الجوهر بكلّيّته وجملته وتغيّره أوّليّة قديمة في الطبع مشتركة لجميع الأشياء محدثة للأسطقسّات فقد بان أنّ الحرّ والبرد والرطوبة واليبس هي المقوّمة لجوهر كلّ واحد من الأجسام.

فقد بان أن أبقراط قد أصاب في قوله:

«إنّ طبيعة الإنسان وسائر جميع الأجسام إنّما كان قوامها بالحارّ والبارد والرطب واليابس».

فإنّ هذه يفعل بعضها في بعض فعلاً بيّناً كما قد اتّفق على ذلك جميع الناس. وفعلها بعضها في بعض فعلاً ليس يكون باجتماعها وتفرّقها لكنّه إنّما يكون بقبولها للتأثير استحالتها في جملة جواهرها.

وإنّي لأعجب من أثيناوس كيف لم يقل هذا الذي قلناه الآن ولا ما أضاف إليه أرسطوطاليس أو خروسبس لكنّه إنّما قال:

«ينبغي أن تقبل الأسطقسّات على أنّها ظاهرة للعيان من غير برهان».

هذا على أنّه في مناقضته لأسقلبيادس قد ذكر هذه الأشياء بعض الذكر

ولم يفقها كلّها ولا أتى بها على طريق الحجّة القاطعة ولا استعمل في مناقضته له النظام المنطقيّ وطريقه إلّا أنّه على حال قد يذكر بعض هذه فيقسمها ويأتي بها على غير نظام.

فهذا مستحقّ للذمّ إذ كان قد أسلم العلم الذي أفدناه بقراط في الطبائع المهلكة.

وأمّا أنا فقد آن لي أن أقطع هذا القول.

فإنّ سائر الأشياء التي تناقض أقاويل القوم الذين يرمون أنّ الجوهر لا يقبل التأثير ويخلطون فيه الخلط بعضها قد وصفه أرسطوطاليس وثاوفرسطس وبعضها سنصفه نحن إذا قصدنا لمناقضة كلّ واحدة من الفرق. وصفه تلك إنّما هي من النقل وأمّا ما وصفنا الآن فهو كافٍ في البرهان الصحيح.

وذلك أنّه ليس لأحد أن يعاندنا فيقول:

«إنّه لا يجب أن تقولوا إنّ الجوهر لا يستحيل في جملته وكلّيّته لأنّ من قال ذلك أبطل الوجع واللذّة والحسّ والذكر والفكر وجملة أفعال النفس.

ولا لأحد أن يدّعي أنّ كيفيّة أخرى سوى هذه الكيفيّات الأربع من شأنها أن تحيل الجوهر بكلّيّته.

فإن كان الأمر كذلك فقد بان أنّ أبقراط هو أقدم من استخرج علم الأستقصّات التي كانت عنها طبيعة الأشياء وأوّل من أتى بالبرهان الكافي عليها.

وهو وإن كان لم يعنون كتابه «في الأسطقسّات» كما فعل أسقلبيادس الطبيب فليس يلزم من ذلك حجّة وذلك أنّ جميع كتب القدماء إنّما عنوانها «في الطبيعة» وكذلك نجد كتب مالسيس وكتب برمانيدس وكتب إنبادوقليس وكتب ألقماون وغيرجس وبروديقوس وكتب

غيرهم من سائر جميع القدماء.

فأمّا أرسطوطاليس فجعل قوله في الأسطقسّات في كتابه في السماء والعالم وفي كتابه في الكون والفساد.

فأمّا خروسبس فجعل كلامه في الأسطقسّات في كتابه في الجوهر.

ولم يعنون واحد من هذين كتابه في الأسطقسّات. وليس ينبغي أن نقصد لطلب اسم الكتاب لكن إنّما ينبغي أن يكون قصدنا البحث عن معنى الكلام فيه.

فإنّ إنساناً لو عنون هذا الكتاب الذي نحن فيه «في الطبيعة» أو «في الكون والفساد» أو «في الجوهر» لما كان بين ذلك فرق.

لكنّه لمّا كان من عادة أهل دهرنا كلّهم إلّا الشاذّ أن يعنونوا مثل

هذا الكتاب «في الأسطقسّات» ويسمّونه دائماً بهذا الاسم رأينا أنّ الأجود أن نعنون كتابنا هذا «في الأسطقسّات على رأي بقراط».

وأحسبني قد فرغت من جميع قولي الأوّل.

وذلك أنّه إن كان قد فاتني شيء ممّا قال بقراط فلم أشرحه فكلّ واحد من الناس قادر على أن يفهمه بسهولة بعد أن يستعين على فهمه بما قد وصفت مثل قوله:

«إنّ الكون لا ينبغي أن يكون من شيء واحد».

وقوله:

«إنّ الحارّ عند البارد واليابس عند الرطب إن لم يكن على اعتدال بقياس بعضها عند بعض وعلى استواء لكن كان الواحد منها يفضل على الآخر كثيراً وكان الواحد منها أقوى والآخر أضعف لم يحدث عنها الكون».

فإنّه يصف في هذا القول أمر اعتدالها واستوائها في القوّة.

وسنشرح ذلك من أمرها في كتابنا في المزاج وفيما بعده من كتبنا.

فأمّا كيف تمتزج الأشياء التي تمتزج في جملتها هل يكون ذلك بعمل كيفيّاتها

فقط بعضها في بعض كما رأى أرسطوطاليس أو بتفرّد جواهرها الجسمانيّة بعضها في بعض ومداخلة بعضها لبعض فليس ذلك ممّا لا بدّ للأطبّاء من علمه ولذلك لم يحكم بقراط في ذلك بشيء لكنّه اكتفى بأن قال:

«إنّ الأسطقسّات يمازج بعضها بعضاً بكلّيّتها».

إذ كان هذا هو القول الذي يحتاج إليه في علم المزاج الذي من رأيي بعد هذا أن أكتب فيه كتاباً وفي علم أمر الأدوية وسأصف أيضاً في كتاب حيلة البرء المدرك في علم ذلك بقول أبلغ.

فأمّا الآن فقد يكتفي في هذا القول الذي نحن فيه بأن أقول:

إنّه ليس يلزم من قال بأنّ الكيفيّات فقط يمازج بعضها بعضاً شيء من الشناعات التي ذكر أسقلبيادس في كتابه «في الأسطقسّات» أنّها تلزم من زعم أنّ الجواهر يمازج بعضها بعضاً بكلّيّتها.

فقد ينبغي إذاً أن نختار هذه المقالة ولو لم نخترها لشيء إلّا لأنّها حريزة من لزوم الشناعات حتّى نقول إنّ الشراب في المثل إذا خالط الماء وتقسم كلّ واحد من الماء والشراب إلى أجزاء في غاية الصغر لزم تلك الأجزاء أن يفعل بعضها في بعض وينفعل بعضها من بعض وتكون إنالتها كيفيّاتها بعضها لبعض أسهل كلّما تقسّمت إلى أجزاء صغار. ولذلك قد يروم من يريد خلط الأشياء بعضها ببعض أن يحرّكها ويضربها بغاية ما يمكنه وهو يلتمس بذلك تقسيمها إلى أصغر ما يقدر عليه من الأجزاء.

وقد يوافق هذا القول ويشهد على صحّته أيضاً أنّ الأجسام التي قد خالط بعضها بعضاً مخالطة أكثر ودام ذلك بها فإنّ اتّحاد كيفيّاتها بعضها ببعض يكون أكثر. وذلك أنّ تلك الأجزاء الصغار من الأشياء التي تختلط قد تحتاج إلى مدّة من الزمان حتّى يفعل بعضها في بعض وينفعل بعضها من بعض على الكمال حتّى يصير الكلّ شيئاً واحداً متشابها في جميع جهاته.

ولذلك صار بعض الأجسام التي تخلط قد يمكن في وقت ما تختلط أن يميّز بعضها من بعض فإن لبثت مدّة حتّى تتّحد كلّها فتصير شيئاً واحداً لم يمكن أن تميّز ويعزل بعضها من بعض.

وسنصف أمر المزاج الذي يكون بكلّيّة الأشياء التي تمتزج في كتاب الأدوية.

[القول الثاني]

(١) وقد آن لي أن آخذ في القول الثاني فأقول:

إنّ أبقراط لمّا بيّن أنّ الحارّ والبارد والرطب واليابس أسطقسّات مشتركة لجميع الأشياء انتقل إلى جنس آخر من الأسطقسّات ليست أستقصّات أول ولا مشتركة لكنّها تخصّ ما له من الحيوان دم.

وذلك أنّ الدم والبلغم والمرّتين الصفراء والسوداء هي أستقصّات لكون جميع ما له من الحيوان دم وليست أستقصّات تخصّ الإنسان دون غيره.

فأمّا الأستقصّات التي تخصّ الإنسان فهي أعضاؤه المفردة المتشابهة الأجزاء.

وقد يشركه في تلك الأجزاء بعض الحيوان الذي له دم كالفرس والثور والكلب وسائر أشباه ذلك من الحيوان فإنّ لجميع هذا الحيوان:

العروق الضوارب وغير الضوارب والعصب والرباطات والأغشية واللحم إلّا أنّها ليست مثل أعضاء الإنسان في جميع أحوالها. وبعض أعضاء تلك مخالفة في الجنس لأعضاء الإنسان كالحوافر والقرون والصياصي والمنافير والفلوس والقشور.

فكما أنّ الحارّ والبارد واليابس والرطب أسطقسّات مشتركة للجميع كذلك يخصّ كلّ واحد من الحيوان الأعضاء التي هي منه أوّليّة في الجنس وسنصفها في كتاب علاج التشريح.

وبين هذه وبين تلك أمّا هنا فالأخلاط الأربعة وأمّا في كلّ واحد من سائر الحيوان فما هو لكونه العنصر الأقرب. فإنّ من عادتهم أن يلقّبوا بهذا اللقب العنصر الذي يكون منه الشيء بديا (؟) من غير أن يحتاج أن تحدث له استحالة قبل تلك التي يحدث ذلك الشيء بها.

(٢) وممّا هو بيّن عند جميع الناس أنّ جميع أعضاء ما له دم من الحيوان إنّما حدوثه عن الدم الجاري إلى الرحم من الأمّ.

وإذ كان قد يشوب ذلك الدم البلغم والمرّتان فبالواجب اختلفوا في القول في هذا.

فقال بعضهم إنّ كوننا إنّما هو من الدم فقط.

وقال بعضهم إنّه من الأخلاط الأربعة.

وليس يمكن أن يؤتى بالبرهان القاطع على حقيقة الأمر في هذا كما أتى به في الأسطقسّات الأول.

وذلك أنّ كلّ واحد من القولين قد يقنع بعض القنوع.

لكنّي ملتمس أن أبيّن ما الذي دعا أبقراط إلى أن توهّم أن أصحّ القولين أن يقال إنّ الأخلاط الأربعة هي العنصر الذي عنه كون الإنسان.

ومفتتح كلامي بأن أقول إنّ اللحم والعصب كلّ منهما متشابه الأجزاء لكنّ اللحم دمويّ ليّن حارّ والعصب على ضدّ ذلك وذلك أنّه عديم الدم صلب بارد. وليس اللحم في غاية اللين والحرارة ولا العصب في غاية الصلابة والبرد لكنّ الدم أسخن وألين من اللحم والعظم أصلب وأبرد من العصب وكذلك كلّ واحد من سائر الأعضاء المتشابهة الأجزاء مخالف لغيره حتّى نجد ذا أبرد من ذا وهذا أسخن من هذا وهذا ألين من هذا وهذا أصلب من هذا.

فقد يجب أن تنظر هل حدثت كلّها عن جوهر واحد بعينه أو الأولى إذا كان مبنى الطبيعة على الحكمة أن يكون في أوّل الأمر عندما تولّد وتصوّر الطفل من الدم الذي يأتي الرحم من الأمّ إنّما يجتذب منه أغلظ ما فيه لتحدث عنه الأجسام التي هي أصلب ويجتذب منه أرقّ ما فيه لتحدث منه الأعضاء التي هي ألين وكذلك يجتذب ما هو منه أسخن لتحدث منه الأعضاء التي هي أسخن ويجتذب منه ما هو أبرد لتحدث منه الأعضاء التي هي أبرد.

وأمّا أنا فإنّي أرى أنّ هذا الطريق أشبه كثيراً وأولى بالمجرى الطبيعيّ وأنّ به كان منذ أوّل الأمر تولّد الطفل وأنّ غذاء كلّ واحد من أعضائه ونشوءه فيما بعد ذلك من الزمان كلّه إنّما هو من العنصر الذي يشاكله.

ونحن وإن كنّا نرى الدم شيئاً واحداً كما نرى اللبن أيضاً بهذه الحال فإنّ القياس قد يدلّنا أنّه ليس شيئاً واحداً كما أنّ اللبن أيضاً ليس بشيء واحد.

وذلك أنّ في اللبن شيئاً مائيّاً رقيقاً في غاية الرقّة وفيه شيء غليظ جبنيّ في غاية الغلظ وما دام هذان الجزءان ممتزجين كلّ واحد منهما بالآخر فإنّهما يصيران اللبن متوسّطاً بين الماء وبين الجبن.

فإذا تميّزا دلّ كلّ واحد منهما على طبيعته التي هي له خاصّة وعلى طبيعة جملة اللبن أنّه لم يكن شيئاً واحداً بالحقيقة لكنّه كان مركّباً من أجزاء مختلفة متضادّة.

فكما أنّ في اللبن جزءاً هو ماء وجزءاً هو جبن كذلك في الدم شيء منه كأنّه صديد نظير للمائيّة في اللبن وفيه شيء كأنّه عكر وثفل نظير الجبن. وقد نرى عياناً في الدم خيوطاً تجرى معه وإذا عزلت عن الدم تلك الخيوط لم تجبن. والدم الذي قد عزلت منه تلك الخيوط مختلف في لونه وقوامه وذلك أنّ بعضه يرى أحمر قانياً صادق اللون وبعضه يرى أميل عن هذا إلى الحمرة الناصعة وبعضه أميل منه إلى السواد. وربّما رأينا عياناً قد طفا عليه شيء أبيض وربّما رأينا الدم كلّه كمداً وربما رأيناه قريباً من السوداء كالفرفير المشبّع اللون.

فقد بان من ذلك أنّ الدم ليس هو واحداً بالحقيقة وذلك أنّه لو كان واحداً بالحقيقة لكان على مثال واحد في جميع الأحوال من جميع الحيوان ومن جميع الناس لكنّه ربّما غلب عليه الشيء الغليظ الأسود حتّى يميل لون البدن

كلّه إلى السواد وتسودّ آثار القروح وتتّسع العروق التي في الساقين مع لون يضرب إلى الكمودة وربّما غلب عليه الشيء الأحمر الناصع حتّى يتعرّف ذلك في الشعر وفي لون البدن كلّه وفي القيء وفي البراز وربّما غلب عليه الشيء الأحمر القاني أو الشيء الأبيض حتّى يتعرّف هذان أيضاً في ألوان البدن كلّه وفي الشعر وفي القيء وفي البراز.

وإذا فصدت العرق أيضاً للأصحّاء رأيت بعضهم يجري منه دم أحمر ناصع ورأيت بعضهم يجري منه دم أحمر قانٍ ورأيت بعضهم يجري منه دم يميل إلى السواد ورأيت بعضهم يجري منه دم يضرب إلى البياض.

ومتى سقيت أيضاً الدواء المسهل استفرغ من البدن الخلط الذي من شأنه اجتذابه إلّا أنّ ذلك ليس يستوي في كلّ طبيعة من طبائع الأبدان لا في حال الصحّة ولا في حال المرض.

وأنا مبتدئ أوّلاً يذكر الأبدان السقيمة فأقول:

إنّك إن سقيت صاحب اليرقان دواء يسهل المرّة الصفراء التي قد تسمّى الحمراء استخرجت من بدنه مراراً كثيراً.

وإن سقيت هذا الدواء بعينه صاحب الاستسقاء المعروف بالبلغم الأبيض وهو الاستسقاء اللحميّ قلّ ما يستفرغ منه من المرار جدّاً.

فإن سقيتهما دواء آخر من شأنه أن يستفرغ البلغم كان ما يستفرغ من

صاحب اليرقان من البلغم يسيراً جدّاً وناله منه ضرر عظيم واستخرج من صاحب الاستسقاء الذي ذكرته قبيل من البلغم مقداراً كبيراً جدّاً ولم ينله منه ضرر.

وقد سقينا مراراً كثيرة أصحاب الجذام أدوية تسهل السوداء فاستفرغتهم استفراغاً كثيراً جدّاً بغاية السهولة وانتفعوا بها منفعة عظيمة.

(٣) وأمّا أسقلبيادس الذي يروم إبطال جميع محاسن الطبّ بقوله فإنّه يريد — لمكان أجرامه وفرجه تلك العجيبة التي ادّعاها — أن يقنعنا أنّ كلّ واحد من الأدوية ليس يجتذب الخلط المشاكل له لكنّه إنّما يغيّر ويحيل ويفسد وينقل إلى طبيعته جميع ما يصادفه.

ويزعم في الانتفاع الذي يتبع الإسهال أنّه ليس يكون بنقاء البدن ممّا كان يؤذيه لكن بالسبب العامّ من كلّ استفراغ.

فهذا مبلغ قحة أسقلبيادس وجرأته على المخالفة للعيان في دعواه.

وأمّا ما يظهر للعيان كالذي قد علمه بقراط وسائر جميع الأطبّاء بعد أن اختبروه بالتجربة فهو على ما وصفناه قبيل.

وذلك أنّك إن رمت أن تسقي من الغالب عليه المرار دواء يسهل البغلم فلست أشكّ أنّ تجربتك لذلك ستجني عليك غرماً ثقيلاً.

وإن كانت الأدوية المسهلة إنّما تنفع باستفراغاتها فقط فما بالنا لا نقصد العروق لجميع الناس بأيّ حال كانت أبدانهم من القضف أو من السمن

أو كان بهم يرقان أو كان بهم الوسواس السوداويّ.

لكنّا قد نجد أنّا قد سقينا قوماً كثيراً ممّن هو شديد الهزال وبه علّة من هذه الفعل التي ذكرت الدواء المسهل فانتفع باستفراغ ذلك الخلط الذي كان سبب علّته منفعة ليست باليسيرة.

ولو تقدّم عليهم متقدّم فأخرج من أبدانهم دماً لكان قد قتلهم على المكان.

إلّا أنّ الذي يضطرّ أسقلبيادس إلى أن يقول هذا القول ما ادّعى من تلك الأجرام والفرج والأسطقسّات التي لا تتّصل. فإنّه يلزم القائل بذلك ألّا يقول بأنّ كيفيّة من الكيفيّات توجد غريبة مخالفة لطبيعة أبداننا حتّى لا يزعم أنّ كيفيّة الفضول التي تستفرغ في كلّ يوم من الأبدان من البطن غريبة مخالفة لها لكنّه إنّما يحدث لها الضرر عند احتباس الطبيعة من طريق الكثرة والامتلاء فإنّ دواء ذلك إنّما هو الإقلال من الطعام أو الإمساك عنه أصلاً. فقد تقدّم أسقلبيادس على كثير من أشباه هذه الأقاويل المضادّة لما يظهر عياناً حتّى إذا سمعها من لا يعرف ما يظهر في العيان اضطرّته إلى أن يتحيّر.

وإذا سمعها من يعرف ما يظهر في العيان صيّرته إلى المتعجّب من قحة هذا الرجل ويبلغ به من استعظام ذلك منه ما يبهر عقله.

لكنّا سنقول في معاندة ما تقدّم عليه أسقلبيادس قولاً أبلغ من هذا في غير هذا الكتاب.

وأمّا الآن فإنّي راجع في صفة ما يظهر عياناً متّبعاً في ذلك أقاويل بقراط. وما ظنّ بقراط أنّه يبلغ من جهل أحد من الأطبّاء أو من قحته ما بلغه أسقلبيادس.

فليس يخلو أسقلبيادس من أن يكون قد جهل هذه الأمور على ما هي عليه من القلّة والصغر من أمور الطبّ أو يكون قد علمها وجحد معرفتها فيكون في غاية القحة.

ولذلك صار كلامنا يطول بسبب مناقضتنا لمن استعمل القحة. وقصر كلام بقراط وصار وجيزاً إذ كان إنّما وصف ما يظهره عياناً فقط من غير أن احتاج

إلى شيء من التثبّت والنصرة له من قبل أنّه لم يتوهّم أنّ أحداً من الناس يجهل أشباه هذه من الأمور ولا يجحدها إذا عرفها.

(٤) فاقتصر في مناقضته لدعوى من ادّعى أنّ الإنسان من دم فقط أو غيره من شيء واحد على أن يطالب من ادّعى ذلك أن يوجده أنّ الإنسان لا تختلف صورته ولا تتغيّر أحواله وتصرّفه لكن يوجده إيّاه إمّا في وقت واحد من أوقات السنة وإمّا في وقت واحد من أوقات السنة إنّما فيه الدم وحده فقط.

فقال:

«فإنّه يجب أن يوجد وقت من الأوقات لا يظهر فيه شيء إلّا ذلك الشيء

الذي هو منه وحده فقط».

وأمّا في تثبيته أنّ في البدن مرّتين يخالطان الدم في جميع الأوقات إحداهما صفراء والأخرى سوداء وأنّ معهما خلطاً ثالثاً وهو البلغم وذلك جارٍ في الطبع في جميع الأسنان وفي جميع أوقات السنة فاقتصر على أن اقتصّ ما يظهر من ذلك عياناً فقال:

«إنّك إذا سقيت إنساناً دواء يخرج البلغم وجدته يخرج منه بالقيء والإسهال والبلغم.

وإن سقيته دواء يخرج المرار وجدته يخرج منه المرار.

وإن جرحت موضعاً من بدنه حتّى يحدث فيه جرح سال منه دم.

وتجد ذلك كلّه يكون دائماً في كلّ حال نهاراً كان أو ليلاً وصيفاً كان أو شتاء».

واقتصر في تثبيته أنّ هذه هي طبيعة الإنسان أعني أنّ من هذه حدثت جميع أعضائه ومنها يغتذي على أن قال:

«أمّا أوّل الأمر فقد يظهر من أمر الإنسان أنّ فيه جميع هذه موجودة ما دام حيّاً ثمّ من بعد فحدوثه كان عن إنسان فيه هذه كلّها. وغذاؤه كان من إنسان فيه هذه كلّها التي ذكرتها وبيّنتها».

ومن عريت عنه قحة أسقلبيادس فانّ هذا يبلغ له ما يحتاج إليه من البرهان على هذا الباب الذي نحن فيه.

وذلك أنّه إن كان كلّ واحد من الأدوية المسهلة يجتذب خلطاً ما من الأخلاط وليس تجد وقتاً من الأوقات تسقي فيه شيئاً من هذه الأدوية أيّها كان فينعدم مع إسقائك إيّاه الاستفراغ للخلط المشاكل كلّه.

فقد بان من ذلك أنّه ليس يوجد وقت من الأوقات يخلو فيه بدن الإنسان من الأخلاط الأربعة.

وكونه أيضاً إنّما حدث من دم الأمّ وليس ذلك الدم بالنقيّ لكنّه يخالطه البلغم والمرّتان.

فقد تبيّن أنّ كلّ إنسان في كلّ وقت من الأوقات لا بدّ من أن توجد هذه في بدنه.

فإذا كان حدوث الإنسان عن هذه ونشوؤه وغذاؤه إنّما يكون منها فهذه هي طبيعته.

وهذه هي جملة قوله.

وأمّا الأقاويل الجزئيّة التي أتى بها في ذلك الكتاب فبعضها وصف فيها التغيير الحادث في الأسنان وأوقات السنة وبعضها يثبت بها تثبيتاً قويّاً أنّ كلّ واحد من الأدوية المسهلة والمقيّئة يجتذب الخلط الذي يشاكله وأنّ الإنسان يحتاج إلى تلك الأخلاط كلّها.

من ذلك أنّ ما وصف ممّا يحدث عند إفراط الإسهال أو القيء قد يدلّ على أنّ كلّ واحد من الأدوية يجتذب الخلط الذي يشاكله.

فقد قال بقراط:

«إنّ من شرب دواء يخرج المرار كان ما يسهله أو يقيّئه أوّلاً المرار ثمّ من بعده البغلم ثمّ يتقيّأ من بعد ذلك المرار الأسود ثمّ إنّه بأخرة يتقيّأ الدم النقيّ».

قال:

«وكذلك يصيب من الأدوية التي تستفرغ البلغم فإنّ أوّل ما يتقيّأه من شربها البلغم ثمّ من بعده المرّة الصفراء ثمّ من بعدها المرّة السوداء ثمّ بأخرة الدم النقيّ وعند ذلك يموت».

فهذا قوله فيمن أفرط عليه الإسهال.

فقد بان أنّه يستعمل فيه القياس الذي يثبت له أنّ كلّ واحد من الأدوية المسهلة أو المقيّئة يجتذب الخلط المشاكل له.

وذلك أنّ الإنسان إذا ضعف بغلبة الدواء حتّى يقرب من الموت انقطع عند ذلك استفراغ ذلك الخلط الذي كان يستفرغ أوّلاً وأعقبه استفراغ غيره.

وقد كان ينبغي على حسب قول أسقلبيادس أن يكون أحد أمرين:

إمّا أن لا يستفرغ أصلاً شيء من الأخلاط وإمّا أن يستفرغ دائماً ذلك الخلط الذي استفرغ أوّلاً.

وذلك أنّه لا يخلو أن يكون الدواء الذي شرب قد ضعف وبطل فعله أو هو باقٍ على حاله.

فإن كان قد ضعف وبطل فعله فلا ينبغي أن يستفرغ خلطاً من الأخلاط أصلاً.

وإن كان فعله الذي من شأنه أن يفعله قائماً فإنّما ينبغي أن يستفرغ ذلك الخلط وحده الذي كان يستفرغ أوّلاً.

وذلك أنّه ليس يمكن أن يكون عندما كان البدن قويّاً قد كان الدواء يقوى عليه حتّى يذوّبه ويحيل ما فيه إلى طبيعته ثمّ إنّه الآن عندما صار إلى حال الضعف لا يقدر أن يعمل فيه بل قد نراه يعمل فيه. وذلك أنّه في تلك الحال أيضاً قد يستفرغ ليس بدون استفراغه الذي كان قبل ذلك.

وتجد

البدن في تلك الحال يتحلّل ويفسد فما بالنا لا نجد الخلط الذي يستفرغ منه في تلك الحال مثل الخلط الذي كان يستفرغ منه أوّلاً.

ما يمكن أن يكون هذا بوجه من الوجوه إلّا بأنّ ذلك الخلط الأوّل كلّه إلّا ما لا يبال به منه قد استفرغ من البدن.

فيجب من ذلك أن لا يمكن أن يعيش بعد ذلك ذاك الإنسان إذ كان قد بطل منه واحد من أسطقسّاته أصلاً.

لكن قد يجب أن يتحلّل ويفسد ويجري منه بعد انقطاع استفراغ الخلط الأوّل وفنائه ما كان من سائر الأخلاط أسرعها إلى الاستفراغ.

ولذلك إن كان الدواء ممّا يخرج المرار الأسود أو كان ممّا يخرج البلغم فإنّه عندما يفرط الإسهال أو القيء حتّى ينفد ذلك الخلط فينقطع خروجه إنّما يتبعه المرار الأصفر من قبل أنّه أسبق الأخلاط وأرقّها.

فإن كان الدواء ممّا يخرج المرّة الصفراء فأفرط الإسهال أو القيء حتّى تنفد تبع انقطاع استفراغها استفراغ البلغم ثمّ بعد ذلك استفراغ السوداء لأنّ هذا الخلط أثقل الأخلاط وهو مع ذلك غليظ بطيء الحركة ويتبع

بعدها كلّها بأخرة الدم من قبل أنّه أقربها من ملاءمة الطبيعة.

(٥) ولذلك قد ينبغي أن نجيز قول من قال إنّ الحيوان إنّما يتولّد ويتغذي من الدم وحده.

إذ كان قولهم قولاً مشبهاً غير بعيد من الحقّ.

فأمّا بقراط فيتجاوزهم في دقّة النظر في المجرى الطبيعيّ فقال:

«إنّ الكون والنشوء والغذاء يكون في أبداننا من الأخلاط الأربعة».

ودعاه إلى أن قال ذلك شيئان:

أحدهما ما رآه كما قلت قبل من شدّة الاختلاف في صورة أبدان الأصحّاء الذي لم يكن أن يكون مثله يوجد فيها لو كان الخلط الأصليّ إنّما هو واحد.

والثاني ما رآه من شدّة اختلاف طبائع الأعضاء الذي لا يشبه معه أن يكون كونها في أوّل الأمر حدث من جوهر واحد ولا أن تكون كلّها تغتذي بنوع واحد من الغذاء.

وقد أشار بقراط إلى جميع هذه المعاني التي وصفتها في قولي هذا بقول قصير وجيز في غاية الإيجاز فقال: «فكما أنّ ما يغرس وما يزرع إذا صار في الأرض جذب كلّ واحد منه ما هو له طبيعيّ ممّا يجده في الأرض وقد يوجد في الأرض شيء حامض وشيء حلو وشيء مرّ وشيء مالح وغير ذلك من كلّ نوع كذلك الحال في بدن الحيوان وأوّل ما يجتذب إليه وأكثره الشيء الذي هو أولى الأشياء أن يكون له طبيعيّاً ثمّ إنه بعد ذلك يجتذب سائر الأشياء وكذلك تفعل الأدوية

في البدن».

فقد وصف لنا أبقراط في هذا القول أمر قبول الغذاء وأمر الاستفراغ الذي يكون بالأدوية على الاستقصاء.

وسأشرحه لا محالة شرحاً بالغاً في كتابي في القوى الطبيعيّة.

وأنت قادر الآن على أن تقف على جملته وتعلمها.

وذلك أنّ في كلّ واحد من الأشياء الموجودة قوّة طبيعيّة تجتذب الأشياء الموافقة له كما في حجر المغنطيس القوّة التي يجذب بها الحديد.

وبهذه القوّة يلتئم أمر الغذاء وأمر الاستفراغ بأدوية الإسهال والقيء وذلك أنّ تلك القوّة تجتذب الشيء الموافق ما دام ممكناً كثيراً. وربّما اجتذبت معه الشيء الذي ليس هو كذلك كما قد يحدث ذلك فيما يظهر من عمل أدوية الإسهال والقيء. وذلك أنّها إذا استفرغت جلّ المرار أو البلغم حتّى تأتي عليه — وأعنى بجلّهما ما تحويه منهما العروق — اجتذبت من نفس الأعضاء الأصليّة ما فيها من الرطوبة المشاكلة لها بالقسر والعنف والكدّ الشديد فتحلّل البدن وكأنّها تروم أن تصير إلى الأستقصّات التي كان عنها فتفسده فبشدّة ذلك الجذب يتبعه واحد من سائر الأخلاط وهو الذي يتلو في طبيعته

ذلك الخلط الذي يجتذب قسراً.