Galen: De inaequali intemperie (On Uneven Distemper)
Work
Galen, De inaequali intemperie
(Περὶ ἀνωμάλου δυσκρασίας)
English: On Uneven Distemper
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator: Ḥunayn ibn Isḥāq
Translated from: Syriac
(Close)
Date:
between 856 and 873
Source
A =
Istanbul, Süleymaniye, Ayasofya 3593 (3),
49r-52v
N =
Madrid, Biblioteca Nacional, 5011 (3),
127v-137r
P =
Paris, Bibliothèque Nationale, arabe 2847 (3),
106r-114v
بسم اللّه الرحمن الرحيم
مقالة في سوء المزاج المختلف لجالينوس نقل أبي زيد حنين بن إسحق
(١) قال جالينوس: إنّ سوء المزاج المختلف ربّما كان في البدن كلّه من الحيوان كالذي يعرض له من ذلك في النوع من الاستسقاء المعروف باللحميّ وفي الحمّی التي يجد صاحبها فيها الحرّ والبرد في حال واحدة ويسمّيها اليونانيّون إيببيالس وفي جلّ الحمّيات الأخر خلا الحمّى المعروفة بالثابتة المسمّاة باليونانيّة بأقطيقوس. وقد يكون سوء المزاج المختلف في عضو واحد من الأعضاء أيّ عضو كان عندما يعرض فيه الترهّل وهو الورم البلغميّ أو يحدث فيه الورم الدمويّ الحارّ وهو المعروف بفلغموني أو يصير في حدّ ما قد أخذ في طريق الفساد والموت وهو الورم الذي يعرفه اليونانيّون بغنغرانا ويحدث فيه الورم الآخر المعروف بالحمرة والورم الآخر المعروف بالسرطان والجذام أيضاً من هذا الجنس وكذلك الآكلة والنملة إلّا أنّ هذه العلل كلّها لا تخلو من أن يكون معها فضل ينصبّ إلی العضو الذي تحدث فيه. وقد يكون من سوء المزاج المختلف صنف آخر من غير أن ينصبّ إلی الأعضاء فضل لكن تتغيّر كيفيّاتها فقط عندما يغلب عليها الحرّ أو البرد من الشمس أو عند رياضة تتجاوز المقدار الذي ينبغي أو عند خفض ودعة يجاوزان مقدار القصد أو غير ذلك ممّا أشبهه.
وقد يحدث سوء المزاج المختلف في أبداننا أيضاً من الأشياء التي تلقاها من خارج بأن تسخن من تلك الأشياء أو تبرد أو تجفّ أو ترطب. وهذه الأصناف من سوء المزاج بسيطة مفردة كما قد بيّنت في كتابي في المزاج. ومنه أيضاً أربعة أصناف أخر مركّبة تكون إذا سخن البدن ورطب معاً أو سخن وجفّ معاً أو برد ورطب معاً أو برد وجفّ معاً. ومن البيّن أنّ هذه الأصناف من سوء المزاج إنّما تخالف أصناف سوء المزاج المستوي لأنّها ليست في جميع أجزاء البدن الذي يفسد مزاجه موجودة. فغرضي في هذا الكتاب أن أخبر كيف يكون تولّد جميع أصناف سوء المزاج لمختلف.
وكيما يكون قولي في ذلك واضحاً فقد ينبغي أن أذكرك بحال الأعضاء كلّها وأبتدئ بذكر أكبرها الذي يعرفها من ليس عنده معرفة بالطبّ. فإنّ اليدين والرجلين والبطن والصدر والرأس ليس ممّا يذهب أمرها علی أحد.
(٢) فلنعمد إلی واحد منها فنقسمه إلی أقرب الأجزاء التي هو مركّب منها حتّی نقسم الرجل في المثل إلی الفخذ والساق والقدم ونقسم اليد إلی العضد والساعد والكفّ ونقسم أيضاً الكفّ إلی الأعضاء التي تخصّها وهي الرسغ والمشط والأصابع ونقسم الأصابع أيضاً إلی الأجزاء التي تخصّها وهي مؤلّفة منها وهي العظام والغضاريف والرباطات والعصب والعروق الضوارب وغير الضوارب والأغشية واللحم والوترات والأظفار والجلد والشحم. فأمّا هذه الأعضاء التي ذكرناها بأخرة فليس يمكن قسمتها إلی نوع آخر بعدها لاكنّها أعضاء متشابهة الأجزاء أوّليّة خلا العروق الضوارب وغير الضوارب. فإنّ هذين مركّبان من
الليف والأغشية كما قلت في كتابي في علاج التشريح.
وقد وصفت أيضاً في ذلك الكتاب أنّ بين الأعضاء الأول المتشابهة الأجزاء فرجاً كثيرة وأكثر منها وأعظم فيما بين الأعضاء المركّبة الآليّة. وربّما وجدنا مثل تلك الفرج في الواحد من الأعضاء المتشابهة الأجزاء كما قد نجد ذلك في العظم وفي الجلد إلّا أنّ ما كان من الأعضاء ليّناً فإنّ بعض أجزائه ينطبق علی بعض فتخفی عن الحسّ الفرج التي فيما بينها. وأمّا ما كان من الأعضاء صلباً يابساً فإنّك قد تدرك ما فيه من الفرج والخلل بالحسّ كما قد تجد في المشاش من العظام. وفي خلل ذلك المشاش من العظام رطوبة بالطبع غليظة بيضاء أعدّت للعظام لتغتذي بها. وأمّا المسامّ التي في الجلد فقد بيّنت في كتابي في المزاج كيف تحدث. فهذا ما كان يحتاج إلی الإذكار به ضرورة ليضح به ما أنا واصفه فيما بعد.
وينبغي الآن أن نقصد قصد سوء المزاج المختلف فنصف ما طبيعته وعلی كم ضرب يحدث. وقد قلنا فيما تقدّم إنّه ليس يكون في أجزاء الجرم الذي يعرض فيه سوء المزاج المختلف مزاج واحد إلّا أنّ هذا أمر عامّ مشترك لكلّ سوء مزاج مختلف. وأمّا أصنافه فتابعة لطبائع الأجرام التي يحدث فيها فإنّ حدوث سوء المزاج المختلف في اللحم المجرّد غير حدوثه في العضلة كما هي وكلّ واحد منهما يكون علی غير الجهة التي يكون عليها الآخر.
(٣) من ذلك أنّه إذا انصبّ إلی عضلة فضل حارّ فإنّ ما فيها من العروق التي هي أعظم عروقها الضوارب منها وغير الضوارب يمتلئ أوّلاً ويتمدّد ثمّ من بعد تلك العروق التي هي أصغر ولا يزال كذلك يسري حتّی يبلغ إلی أصغر العروق. فإذا غاض ذلك الفضل في تلك العروق فلم يضبطه بدر منه شيء من أفواه تلك العروق ورشح منه شيء فخرج من نفس أبدان العروق. فإذا كان ذلك امتلأت الفرج التي فيما بين الأعضاء الأول من ذلك الفضل حتّی يعرض لها أن تسخن وتبتلّ من جميع جهاتها من تلك الرطوبة المحيطة بها. وأعني بالأعضاء الأول في هذا الموضع العصب والرباطات والأغشية واللحم وقبل هذه نفس العروق الضوارب وغير الضوارب التي قد يعرض فيها أوّلاً الوجع خاصّة علی أنحاء شتّی. وذلك أنّ الفضل من داخلها يسخنها ويمدّدها ويصدعها والفضل من خارجها يسخنها ويزحمها ويضغطها ويثقّلها.
وأمّا سائر الأعضاء فبعصها إنّما تؤلمه السخونة فقط وبعضها إنّما يؤلمه الضغط فقط وبعضها يؤلمه الأمران جميعاً. ويقال لهذه العلّة عند اليونانيّين «فلغموني» وهي الورم الحارّ وهو سوء مزاج مختلف يعرض في العضلة. وذلك أنّ الدم الذي فيها يكون قد سخن وحدث له شبيه بالغليان ثمّ تسخن بسخونته أوّلاً خاصّة أبدان العروق الضوارب وغير الضوارب ثمّ جميع ما هو خارج عنها ممّا يفيض عليه حتّی يستفرغه.
ولا بدّ من أن يؤول الأمر في ذلك إلی إحدی خلّتين إمّا أن يغلب الفضل الذي ينصبّ إلی العضلة فيفسد الأجسام التي يغلب عليها وإمّا أن يغلب ذلك الفضل فتعود العضلة إلی حالها الطبيعيّة. فأنزل أوّلاً أنّ الفضل غلب إذ كان الابتداء إنّما هو أحمد وأولی: أقول إنّ البرء يكون عند ذلك علی أحد ضربين إمّا بأن يتحلّل جميع تلك الرطوبة التي انصبّت إلی العضلة وإمّا بأن ينضج. وأحمد البرئين ما كان بالتحلّل فأمّا النضج فيلحقه أمران ضرورة أحدهما تولّد المدّة والآخر الجمع. والجمع ربّما كان إلی أعظم الفرج القريبة من الموضع وأقلّها خطراً وهذا أحمد ما يكون من الجمع وربّما كان إلی أعظم الفرج القريبة لكن تلك الفرجة لا تكون بقليلة الخطر أو يكون في فرجة قليلة الخطر لكنّها
لا تكون أعظم الفرج ولا قريبة.
فإن كان ذلك في نواحي المعدة فأحمد الجمع ما كان في الفضاء الذي في داخلها وإليه في أكثر الأمر تنفجر المدّة. وأمّا ما ينفجر إلی ما دون الصفاق فرديء.
وإذا كان ذلك في نواحي الدماغ فالجمع في التجويفين المقدّمين منه محمود والجمع تحت أمّي الدماغ وفي التجويف الذي في مؤخّر الدماغ مذموم رديء.
وأمّا في الخراجات التي تكون في نواحي الأضلاع فانفجارها يكون إلی فضاء الصدر والخراجات التي تكون في عضلها فانفجارها يكون نحو الجلد.
وأمّا الخراجات الحادثة في الأحشاء فانفجارها يكون إمّا إلی العروق التي فيها الضوارب منها وغير الضوارب وإمّا نحو الغشاء الذي يحيط بها وهو لها بمنزلة الجلد.
فإن غلب الفضل الأعضاء فبيّن أنّه ينبغي من غلبة سوء المزاج المختلف عليها أن يبطل فعلها ويفسد علی طول المدّة.
وأوّل سكون الألم عنها يكون إذا تشبّهت بالشيء الذي يحيلها ويغيّرها. وذلك أنّ الأعضاء ليس إنّما يعرض لها الألم لا عندما يكون مزاجها قد استحال وفرغ لكن في حال الاستحالة كما قد وصف من أمرها العجيب أبقراط حين قال: «إنّ الأوجاع إنّما تكون في الأعضاء في حال تغيّرها وفسادها وخروجها عن طبائعها». وإنّما يتغيّر كلّ واحد من الأعضاء عن طبيعته ويفسد إمّا بأن يسخن وإمّا بأن يبرد وإمّا بأن يجفّ وإمّا بأن يرطب وإمّا بأن يتفرّق اتّصاله. فأمّا في سوء المزاج المختلف فمن قبل أنّ العضو يسخن أو يبرد خاصّة وذلك أنّ هاتين الكيفيّتين أقوی الكيفيّات فعلاً وقد يكون ذلك من قبل أنّ العضو يجفّ أو يرطب. فأمّا في الجوع والعطش فيعرض الألم لفقد الجوهر اليابس في حال الجوع ولفقد الجوهر الرطب في حال العطش. وأمّا عند تأثير ما يؤثّر في العضو ما ينخسه أو يأكله أو يمدّده أو يضغطه أو يفسخه فحدوث الألم يكون بسبب تفرّق الاتّصال.
(٤) ومتی كانت حرارة الدم الذي في العضو الوارم حرارة هادئة وكان الدم الذي يحويه البدن كلّه معتدل المزاج لم يكد يعرض له أن يسخن بسخونة العضو العليل ومتی كانت الحرارة من الدم الذي في العضو الوارم حرارة قويّة أسخن البدن بقوّة غليانه أو إن كان الدم الذي يحويه البدن كلّه قد غلب عليه المرار فإنّه لا يلبث أن يسخن كلّه سخونة مفرطة. وأحری أن يكون ذلك متی اجتمع الأمران حتّی يكون الدم الذي في العضو الوارم قويّ الحرارة والدم الذي في البدن قد غلب عليه المرار. وأوّل ما يسخن من الدم حتّی تفرط عليه السخونة الدم الذي في العروق الضوارب من قبل أنّه في طبيعته أسخن وأقرب إلی طبيعة الروح ثمّ من بعده الدم الذي في العروق غير الضوارب. فإن كان العضو الوارم مجاوراً لبعض الأحشاء الغزيرة الدم كانت الحرارة منه تلجأ إلی الدم الذي يحويه البدن كلّه أسرع.
وبالجملة فإنّ أوّل ما يسخن من قبل كلّ شيء ما كان سريعاً إلی الاستحالة أو كان في طبيعته حارّاً. وكذلك أوّل ما يبرد من قبل الشيء الذي يبرّد إنّما هو ما كان سريعاً إلی الاستحالة أو كان في طبيعته بارداً. وأسرع ما في البدن إلی الاستحالة الروح من قبل أنّها ألطفها وأرقّها. وأسخن ما في البدن المرّة الصفراء وأبرد ما في البدن البلغم وأمّا سائر الأخلاط فالدم منها حارّ بعد المرّة الصفراء والمرّة السوداء
باردة بعد البلغم. والمرّة الصفراء تستحيل بسهولة وسرعة من كلّ ما يعمل فيها فأمّا السوداء فبكدّ وشدّة ما تستحيل. وبالجملة كلّ ما كان لطيفاً رقيقاً فهو سريع الاستحالة وكلّ ما كان ثخيناً غليظاً فبطيء الاستحالة.
فيجب من ذلك أن تكون الاستحالة الحادثة من الأورام مختلفة كثيرة الاختلاف لاختلاف حال الأجسام. أمّا أوّل الأمر فإنّ الخلط الذي يحدث عنه الورم إمّا أن يكون أزيد حرارة وإمّا أن يكون أنقص حرارة. ثمّ من بعد ذلك فإنّ عفونته إنّما تكون بحسب طبيعته وبحسب فضل لحوجه أو قلّة لحوجه فإنّ ما لا تنفّس له تكون العفونة إليه أسرع وذلك موجود في جميع الأشياء الخارجة. فإذا اتّفق مع ذلك أن يكون مزاجها حارّاً رطباً كان ذلك أعون علی سرعة العفونة إليها. وإن كان العضو الذي يحدث فيه الورم أيضاً إمّا أن يكون بالقرب من الأحشاء الغزيرة الدم وإمّا بالبعد منها فإنّ الدم كلّه إنّما يغلب عليه الصفراء أو السوداء أو البلغم أو الريح. وجميع هذه الأحوال يختلف بالقلّة والكثرة فيجب ضرورة أن تكون الاستحالة مختلفة كثيرة الاختلاف إذا قيس الواحد إلی غيره وإذا قيس بنفسه.
(٥) وهذه كلّها تكون أسباباً لسوء المزاج المختلف وذلك أنّ أغلب ما تكون الحرارة علی الدم الذي في العضو الوارم ثمّ بعده علی الدم الذي في الأحشاء وخاصّة علی الدم الذي في القلب ومن هذا خاصّة ما في تجويفه الأيسر. فإنّك إن عمدت إلی هذا التجويف من القلب والحيوان بعد حيّ ولم تعرض له بعد حمّی فأدخلت فيه إصبعك كما وصفت في كتابي في علاج التشريح أحسست منه بأقوی ما يكون من الحرارة. فليس بالبعيد متی كان البدن كلّه قد سخن سخونة خارجة عن الطبع أن يبلغ ذلك التجويف خاصّة من القلب غاية الحرارة. وممّا يعين علی ذلك أنّ فيه من الدم أرقّه وأقربه من طبيعة الروح ويتحرّك أيضاً حركة دائمة. إلّا أنّه يوجد في أمثال هذه من الحمّيات الدم كلّه قد استحوذت عليه السخونة وقبل تلك الحرارة الخارجة عن المجری الطبيعيّ المتولّدة عن عفونة الأخلاط قبولاً مستحكماً.
فأمّا أبدان العروق الضوارب وغيرها من الأجسام التي تجاورها وتحيط بها فليس يوجد قد تغيّر مزاجه وفرغ تغيّراً تامّاً مستحكماً لكنّها تكون بعد هو ذا يستحيل ويتغيّر إلی السخونة. وإن دام ذلك بها مدّة طويلة صارت إلی حدّ يكون فيه قد غلبت واستحالت أصلاً حتّی لا يكون عند ذلك في حدّ ما هو ذا يسخن فيه لكن يكون في حدّ ما قد سخن وفرغ سخونة خارجة عن الأمر الطبيعيّ وحدّ الاستحالة في كلّ واحد من الأعضاء هو ضرر فعله. فأمّا الغرض كلّه الذي منذ أوّل الأمر إلی أن ينتهي إلی هذا الحدّ فإنّما هو طريق الخروج إلی الحال الخارجة عن الأمر الطبيعيّ ممزوج مشترك متوسّط فيما بين الضدّين أعني بين الحال التي هي بالحقيقة طبيعيّة وبين الحال التي هي خارجة عن الطبيعة أصلاً.
ففي هذه المدّة كلّها من الزمان يكون بالجسم الذي يسخن من الوجع بمقدار ما يناله من الاستحالة. فإذا سخن جميع الأعضاء الأصليّة من البدن السخونة التامّة المستحكمة قيل لتلك الحمّی «أقطيقوس» وهي الثابتة وذلك أنّ قوامها عند ذلك ليس يكون بالرطوبات والروح فقط لكنّه يكون مع ذلك في الأجسام التي لها ثبات وليس مع هذه الحمّی ألم ولا وجع ويظنّ بصاحبها أنّه لا حمّی به أصلاً. وذلك أنّ صاحبها لا يحسّ بحرارتها لأنّ أعضاءه كلّها تكون قد سخنت سخونة مستوية علی حال واحدة.
وقد اتّفق علی هذا أصحاب النظر في أمر الطبائع عند نظرهم في أمر الحواسّ من أنّ الحسّ ليس يكون بغير استحالة ولا يكون الألم والوجع
فيما قد استحال وفرغ ولذلك صارت كلّ حمّی من هذا الجنس الذي ذكرناه قبيل المسمّى أقطيقوس ليس معها ألم ولا وجع ولا يحسّ بها صاحبها أصلاً. وذلك أنّه ليست حال الأعضاء منه حال ما يكون بعضها يفعل وبعضها ينفعل إذ كانت كلّها قد صارت بحال واحدة وصار مزاجها مزاجاً واحداً متّفقاً.
(٦) وإن كان أيضاً بعضها أزيد سخونة وبعضها أزيد برداً فإنّه ليس يبلغ من فضل سخونة ما هو منها أسخن علی ما هو منها أبرد أن يؤذي ما يجاوره بسخونته ولو كان الأمر كذلك لقد كانت الأعضاء سيؤذي بعضها بعضاً وهي بالحال الطبيعيّة. فإنّ الأعضاء في تلك الحال أيضاً مختلفة في مزاجها وذلك أنّ اللحم عضو حارّ والعظم عضو بارد إلّا أنّ اختلاف هذه وغيرها ممّا أشبهها ليس معه وجع ولا ألم من قبل قلّة التفاضل بينها في الحرّ والبرد. من ذلك أنّ الهواء المحيط بالأبدان ليس يؤذيها دون أن يستحيل حتّی يفرط عليه الحرّ والبرد. فأمّا أصناف اختلافه فيما بين إفراط الحرّ وإفراط البرد علی كثرتها وبيان التفاضل بينها فإنّ الأبدان تحسّها بلا أذىً بها.
فتكاد النفس علی هذا القياس أن تكن تسكن إلی القول الذي قيل كما قال أبقراط في بعض كتبه «إنّ جميع الأمراض إنّما هي قروح». وذلك أنّ القرحة إنّما هي تفرّق الاتّصال والحرارة المفرطة والبرد المفرط يكاد أن يفرّقا الاتّصال أمّا الحرارة الشديدة المفرطة فمن قبل أنّها تفرّق وتقطع اتّصال الجوهر الذي تغلب عليه وأمّا البرد المفرط فمن قبل أنّه يجمع ويعصر الجوهر الذي يغلب عليه إلی داخل حتّی يندر منه شيء فيخرج ويضغط ما يبقی منه فيفسخه. وإن جعل جاعل هذا هو الحدّ في إفراط الحرّ والبرد فخليق أن يكون غير بعيد من أن يتوهّم عليه أنّه قد أصاب.
إلّا أنّه إن كان هذا هو الحدّ في الإفراط وإن كان الحدّ في ذلك غيره فالأمر علی حال بيّن أنّ كلّ إفراط إنّما يفهم علی طريق الإضافة إلی الشيء. وذلك أنّه ليس الذي ينال كلّ بدن من الأشياء التي هي بحال واحدة من الحرّ والبرد شيء واحد ولذلك صار بعض الحيوان يوافق ما فيه من الأخلاط بعضه بعضاً وبعضه ليست تلك الأخلاط بموافقة من البعض منه للبعض لكنّها مع ذلك مفسدة قاتلة مثل الإنسان والأفعی فإنّ لعاب كلّ واحد منهما للآخر قاتل. ومن هذا الطريق صار الإنسان إذا بزق علی العقرب وهو على الريق قتلها وأمّا الإنسان فليس يقتل إنساناً مثله إذا عضّه ولا الأفعی تقتل الأفعی ولا الثعبان الثعبان وذلك أنّ المثل موافق محبوب والضدّ عدوّ مؤذٍ. وممّا يدلّ علی ذلك أنّ جميع ما ينمي ويغتذي إنّما ينمي ويغتذي بمثله وشبهه وكلّ ما يعطب وينقض فإنّما يعطب وينقض من ضدّه ولذلك حفظ الصحّة إنّما يكون بالأشياء المشاكلة المشابهة للأبدان الصحيحة والبرء والشفاء من الأمراض إنّما يكون بالأشياء المضادّة لها. إلّا أنّ الكلام في هذا غير ما نحن فيه.
فأمّا تلك الحمّی الثابتة التي تشبّثت بالجوهر الثابت من جواهر الحيوان فإنّ صاحبها لا يحسّها. وأمّا سائر الحمّيات فليس منها شيء ليس يحسّه صاحبه إلّا أنّ بعضها ما يحسّه صاحبه ويتأذّی
به أكثر وبعضها ما يحسّه أقلّ. ومن الحمّيات حمّيات يكون معها نافض وهذا العارض أيضاً أعني النافض مثل كثير من غيره من الأعراض إنّما يكون عن سوء مزاج مختلف. وليس يمكن أن أصف كيف يتولّد هذا العارض في هذا القول الذي أنا فيه دون أن أبيّن القوی الطبيعيّة كم هي وأيّ القوی هي وما الذي من شأن كلّ واحدة منها أن تفعل لكنّي سأصف أمر جميع الأعراض في كتابي في العلل والأعراض.
(٧) وأنا راجع إلی أصناف سوء المزاج المختلف. فقد قلت فيما تقدّم كيف تتولّد الحمّی عن الورم الحارّ المسمّی فلغموني وأنّ كلّ ورم من هذا الجنس وكلّ حمّی خلا الحمّی التي تعرف بالثابتة فهي من الأمراض التي يكون فيها المزاج مختلفاً. وقد تكون حمّيات من عفونة الأخلاط فقط من غير ورم وذلك أنّه ليس الذي يعفن إنّما هو ما قد لحج وعدم التنفّس فقط لكن أسرع ما تكون العفونة إلی هذا وأقوی ما يكون عليه. وقد تعفن أشياء أخر كثيرة ممّا هي متهيّئة لأن تعفن وسنصف الأمر في تهيّؤما هو متهيّئ للعفونة في كتاب غير هذا.
وقد يكون سوء المزاج المختلف علی جهة أخری في البدن كلّه. وربّما كان ذلك عند احتقان بخار حارّ فيه وربّما كان بتزيّد الحرارة بسبب رياضة أكثر من المقدار الذي ينبغي وربّما كان من قبل أنّ الدم سخن وغلی غلياناً مفرطاً بسبب غضب أو سخن سخونة مفرطة بسبب لبث في سمش حارّة. ومن البيّن عندي أنّ جميع هذه الحمّيات الحادثة عن الأورام بحسب قوّة السبب الفاعل في الأبدان وبحسب حال كلّ واحد من الأبدان قد تكون الحمّی في بعض الأبدان أقوی وفي بعضها أضعف وبعضها لا يحمّ أصلاً. ومن البيّن أيضاً أنّ سوء المزاج ربّما حدث في الروح فقط وربّما يجاوزها إلی الأخلاط أيضاً. وممّا ليس بدون ذلك في البيان أيضاً أنّ جميع الحمّيات إذا تطاولت قد تلحقها الحمّی الثابتة.
فكأنّه قد تبيّن من هذا القول أنّ سوء المزاج المختلف ربّما حدث عن رطوبة حارّة أو باردة تسيل إلی عضو من الأعضاء كما وصفت من أمر الأعضاء التي يحدث فيها الورم وربّما لم يكن الأمر كذلك لكنّه يكون عند تغيّر مزاج البدن في كيفيّته. وإنّ بعض الأسباب التي تغيّره يهيّج من نفس البدن وبعضها يأتيه من خارج إمّا عند حدوث الحمّی من العفونة وحدها وإمّا عن بعض الأورام فمن نفس البدن وأمّا عند حدوث الحمّی عن سخونة الشمس أو عن إفراط الرياضة فمن خارج. وسأصف ذلك بأكثر من هذا القول في كتابنا في أسباب الأعراض. وكما قد تحدث الحمّی عن حرّ الشمس إذا استحال مزاج البدن كذلك قد تعرض لبعض الناس من برد الهواء كثيراً أن يغلب عليهم البرد غلبة قويّة في البدن كلّه حتّی يموت بعضهم. والأمر في هؤلاء أيضاً كلّهم بيّن أنّهم يعرض لهم الألم والوجع.
(٨) وقد يعرض الألم والوجع أيضاً لمن غلب عليه البرد غلبة قويّة من قرّ شديد ثمّ رام أن يسخن بدنه إسخاناً سريعاً بالاصطلاء وكثير ممّن أصابه ذلك لمّا أدنی بدنه من النار بغتة أحسّ بوجع شديد جدّاً في أصول الأظفار. فمن يقدر وهو يری
عياناً في هذه الحال أنّ السبب في الألم والوجع إنّما هو سوء المزاج المختلف أن يدفع ذلك في الأوجاع التي تعرض من داخل أو يتعجّب كيف يعرض الوجع كثيراً للناس من غير ورم إمّا في المعی الذي يسمّی قولن وإمّا في الأنثيين وإمّا في غيرهما من سائر الأعضاء؟ وذلك أنّه ليس شيء من هذا بعجب ولا كيف تعرض الحمّی والنافض لبعض الناس في حال واحدة من قبل أنّه إذا كثر في البدن الخلط البارد البلغميّ الذي يشبّهه فركساغورس بالزجاج والخلط الحارّ الذي من جنس الصفراء حتّی يغلبا معاً علی البدن ويتحرّكا فيه وخاصّة في الأعضاء الحسّاسة فليس بعجب أن يحسّ من تلك حاله بالأمرين جميعاً. فإنّك إن عمدت إلی إنسان فأقمته في شمس حارّة ثمّ رششت عليه ماء بارداً فليس من المحال أن يحسّ معاً بحرارة الشمس وبرد الماء إلّا أنّ هاذين جميعاً في صاحب هذه الحال إنّما يناله من خارج ويناله أيضاً كلّ واحد منهما في أجزاء من بدنه عظيمة.
فأمّا في الحمّی التي يسمّيها اليونانيّون «إيفياليس» فالذي يناله من الحرّ والبرد إنّما يناله من داخل ويناله أيضاً كلّ واحد منهما في أجزاء بدنه الصغار حتّی يكون الأوّل من بدنه أجزاء عظيمة ينالها البرد إلی جانب كلّ واحد منهما جزء عظيم يناله الحرّ ويكون الثاني من بدنه جزء صغير يناله البرد أوّلاً وإلی جانبه جزء آخر صغير يناله الحرّ ولذلك صار هذا الثاني يظنّ أنّه يحسّ في بدنه كلّه بالأمرين جميعاً. وذلك أنّه لمّا كان كلّ واحد من المبرّد والمسخن مبثوثاً في أجزاء صغار جزء بعد جزء ولا يكون بعدها في الصغر غاية لم يمكن أن يوجد جزء من هذه الأجزاء الصغار حسّاً فيه واحد من الحرّ والبرد دون الآخر. وبعض من يحمّ فقد يعرض له في أوّل أخذ الحمّی له في كلّ نوبة من نوائبها أن يحسّ معها بالبرد المفرط والحرّ المفرط لكنّه ليس يحسّ كلّ واحد منهما في الموضع الذي يحسّ فيه الآخر لكن الذي يصيبه ذلك يقدر أن يفرّق تفرقة بيّنة بين ما يسخن من أعضائه وبين ما يبرد منها. وذلك أنّه يحسّ بالحرّ من داخل في نفس أحشائه ويحسّ بالبرد في جميع ما في ظاهر بدنه من الأعضاء.
ومن الحمّی حمّی يسمّيها اليونانيّون «ليفورياس» لا تزال دائمة علی هذه الحال وكذلك أيضاً جنس من الحمّيات المحرقة قتّال والنافض مع الحمّی المطبقة مع ضعف القوّة في غاية الدلالة علی غاية الموت ما الذي يعرض في هذه الحمّيات في الأجزاء الكبار هو الذي يعرض في الحمّی التي يسمّيها اليونانيّون إفيالس في الأجزاء الصغار. فإنّ سوء المزاج في هذه الحمّيات أيضاً مختلف في جميع الجهات الأخر الثانية وهو أيضاً مختلف فيمن يصيبه النافض من غير أن تلحقه حمّی وقليل ما يعرض هذا العارض إلّا أنّه علی حال قد يعرض لبعض النساء وبعض الرجال إلّا أنّه يجب لا محالة أن يكون قد تقدّمه تدبير خفض أو يكون صاحبه قد أدمن مدّة طويلة الإكثار من الطعام والشراب المولّد خلطاً بارداً نيّاً بلغميّاً بمنزلة الخلط الذي يشبّهه فركساغورس بالزجاج. ويشبه أن يكون هذا العارض لم يكن يعرض في المتقدّم أصلاً لأنّه لم يكن أحد من الناس يتدبّر بهذا التدبير من الخفض والإكثار من الطعام ولذلك نجد القدماء من الأطبّاء يحكمون بأنّه لا بدّ من أن يلحق النافض في الأبدان التي بعينها فيها حمّی.
إلّا أنّا نحن قد رأينا كثيراً ورأی غيرنا من الحدث من الأطبّاء بأنّه يحكمون لأبدان يلحق النافض حدثت ثمّ لم تلحقها حمّی. فأمّا الحمّی التي يسمّيها اليونانيّون إيفياليس
فهي مركّبة من هذا السوء المزاج الذي يحدث عنه النافض الذي لا تلحقهه حمّی ومن سوء المزاج الذي يكون في الحمّی. ومتی قلت «إيفياليس» فإنّما أعني بهذا الاسم الحمّی التي يعرض فيها الأمران جميعاً دائماً فأمّا الحمّی التي تتقدّمها النافض ثمّ يلحقها الصالب كالذي يعرض في الغبّ والربع فلست أسمّيها إيفياليس. فقد بان أنّ الحمّی التي تسمّی إيبيالوس مركّبة من ضربين من سوء المزاج مختلفين وكذلك الحال في سائر الحمّيات خلا الحمّيات الثابتة.
(٩) وكذلك أيضاً الأمراض التي تخصّ واحداً من الأعضاء مع ورم فكلّها يكون عن سوء مزاج مختلف بمنزلة الورم الحارّ المعروف بفلغموني والمعروف بالسرطان والورم الذي يعرف بالنملة والبثر التي تعرف بالجمر الصيفيّ والورم المعروف بالتربّل والمعروف بالآكلة والذي يسمّيه اليونانيّون غنغرانا وهو العارض مع سلوك العضو طريق الموت. فإنّه يعمّ جميع هذه الأمراض أنّها تحدث عن رطوبة تنصبّ إلی الأعضاء وتختلف بأنّها تحدث عن خلط بلغميّ وبعضها يحدث عن جنس المرار الأصفر وبعضها يحدث عن خلط سوداويّ وبعضها يحدث عن الدم والذي يحدث منها عن الدم فبعضها يحدث عن دم حارّ رقيق يغلي وبعضها يحدث عن دم بارد غليظ وبعضها يحدث عن دم حاله حال أخری. فإنّي سأستقصي تلخيص أصناف هذه العلل في كتاب غير هذا.
وأمّا في هذا الكتاب فأكتفي بأن أقتصر علی أن أقول كيف كانت الحال في الرطوبة التي تنصبّ إلی العضو وإحداثها ما يحدث من كلّ واحد من العلل التي ذكرنا أنّها تكون علی قياس ما وصفنا فيما تقدّم من حدوث الورم المسمّی فلغموني عن الخلط الحارّ الدمويّ وأنّ كلّ واحد من الأعضاء المتشابهة الأجزاء البسيطة الأولى إذا غلبت تلك الرطوبة عليه آل أمره إلی سوء مزاج مختلف. وذلك أنّه بيّن ظاهر إمّا أن يسخن وإمّا أن يبرد وإمّا أن يجفّ وإمّا أن يرطب بحسب ما عليه حال تلك الرطوبة التي تجاوره وباطنه لم يصر بعد إلی مثل تلك الحال بعينها. فإن استحال كلّه عن آخره ظاهره وباطنه فصار كلّه بحال واحدة سكن عنه علی المكان الوجع أصلاً إلّا أنّ علّته عند ذلك تكون أغلظ وأعسر. ومن تقدّم فعلم ما وصفت من هذا فهو عندي كافٍ له حتّی يفهم به كتابي في الأدوية المفردة ثمّ بعده كتابي في حيلة البرء.
تمّ كتاب جالينوس في سوء المزاج المختلف والحمد للّه وصلّی اللّه علی محمّد خاتم أنبيائه وسلّم.