Galen: De nominibus medicinalibus (On Medical Names)

Work

Galen, De nominibus medicinalibus (Περὶ τῶν ἰατρικῶν ὀνομάτων)
English: On Medical Names

Text information

Type: Translation (Arabic)
Translator: Ḥubayš ibn al-Ḥasan
Translated from: Syriac (Close)
Date: between 850 and 890

Source

Max Meyerhof, Josef Schacht. Galen über die medizinischen Namen. Abhandlungen der preussischen Akademie der Wissenschaften. Philosophisch-historische Klasse 3. Berlin (Verlag der Akademie der Wissenschaften) 1931, 1-21

Download

gal_denominibusmedicis-transl-ar1.xml [116.69 KB]

كتاب جالينوس في الأسماء الطبّيّة [وهي المقالة الأولى منه

قال حنين بن إسحاق في كتابه في فينكس كتب جالينوس: هذا الكتاب جعله جالينوس في خمس مقالات. وغرضه فيه أن يبيّن أمر الأسماء التي استعملها الأطبّاء على أيّ المعاني استعملوها. ونسخته باليونانيّة في كتبي إلّا أنّني لم أترجمه ولا غيري. ثمّ ترجمت منه إلى السريانيّ ثلاث مقالات. وترجم منه حبيش إلى العربيّ مقالة واحدة فهذا هو الموجود من هذا الكتاب.]

[بسم اللّه الرحمن الرحيم ربّ يسّر برحمتك]

المقالة الأولى من كتاب جالينوس في الأسماء الطبّيّة

قال إنّه ليس بعجب أن يكون كما أنّ لكلّ واحدة من الصناعات أدوات لها خاصّيّة لا يعرفها جلّ الناس كذلك لكلّ واحدة منها أيضاً أسماء وألقاب لا يفهمها إلّا من عالج تلك الصناعات فقط. مثال ذلك أنّه متى قيل بسيط مسطح لم يفهم ذلك أحد ممّن يسمعه خلا المهندس، ومتى قيل وسطى لم يفهم ذلك أحد سوى العالم بتأليف الألحان، ونجد هذه الأسماء عند الناس تشتبه بالألفاظ التي لا معنى لها كقول اليونانيّ: بليطورى وسقندابسس. وكذلك أيضاً متى قيل إنّ إنساناً ضربته حمرة أو به شطر الغبّ أو حمّى أجاميّة أو آكلة أو علّة يسمّيها اليونانيّون قدماطا لم يعرف ذلك إلّا الأطبّاء فقط. وليس يجوز لأحد أن يلوم من يضع أسماء وألقاباً محدّدة بعد استخراج العلم بأمور محدّدة طلباً منه للإيجاز وقرب المأخذ في العلم إذ كنّا معشر الناس ليس ننال من الأسماء والألقاب شيئاً من المنافع خلا أن ينبئ بعضنا بعضاً بالقول عن الأمور والمعاني التي يريد الإخبار عنها، ولولا أنّ هذا لنا لكنّا لا نفضل على الصمّ والخرس بشيء، من طريق أنّ استنباط الأمور أنفسها كما قد قال فلاطن أيضاً قد يمكن أن يكون خلواً من الأسماء والألقاب متى نظرنا في طبائعها فقط نظر تثبّت. والدليل على ذلك أنّ أصحاب الصناعات الذين يضعون للأشياء التي يستخرجون معرفتها أسماء وألقاباً إنّما يصيرون لا محالة إلى تسمية الأشياء وتلقيبها بعد أن يكونوا قبل التسمية والتلقيب قد وجدوا تلك الأشياء ووقفوا عليها، ويقصدون في ذلك إلى اشتراك من يقرب منهم ويحضرهم فيما وجدوه منها. فأمّا من كان منهم لا يحبّ أن يشركه أحد فيما استخرج ووجد لكن يريد أن يخفيه ويستره بخلاً منه وحسداً عليه فإنّ التماسه لوضع الأسماء والألقاب وحرصه عليها باطل. وإذا كان الأمر كذلك فالناس إنّما عنوا واهتمّوا بوضع الأسماء والألقاب بعد استخراجهم للأشياء، ودعاهم إلى ذلك ما أحبّوا من إشراك من يحضرهم ويقرب منهم في العلم بتلك الأشياء. وهذا باب، وآن كان على ما هو عليه من عظم القدر في الحثّ على محبّة الناس ونفعهم حتّى أنّه ليس يوجد شيء أخصّ منه بالإنسان ولا أولى به منه إذ كان الإنسان حيواناً ناطقاً مطبوعاً على إشراك غيره فيما يعلم، فإنّ القوم الذين يسيئون في استعماله قد يثربونه ويفسدونه على غيرهم. وذلك أنّه قد كان مطلقاً لهم أن يضعوا لكلّ واحد من الأشياء التي تستخرج أسماء وألقاباً محدّدة فيغفلون ذلك ويغشون أنفسهم أوّلاً بالتماسهم نقل أسماء وألقاب قد وضعت من دهر طويل ووضعها على كلّ ما أرادوا تسميته

بطريق الاستعارة من المشابهة. فيعرض من ذلك أن يكونوا مراراًً كثيرة يريدون الدلالة على شيء ما فيفهم عنهم السامع شيئاً آخر سواه، وهذا أمر ليس هو شيئاً أكبر من أنّهم يثربون ويفسدون على الناس منفعة الكلام، ثمّ لا يرضون بان يفعلوا هذا فقط دون أن يحملوا أنفسهم بالإقدام على أمر جليل الخطر فيعذلوا من يجري كلامه على سبيل الصواب مع أنّهم أيضاً لا يقدرون أن يميّزوا بين ما يجري من المراء والمحال في أمر الاسم وما يجري منه في أمر الشيء المسمّى بذلك الاسم. بل متى لم يستعمل الإنسان الأسماء والألقاب التي يستعملونها هم بأعيانها ظنّوا أنّه إنّما قال غير ما أرادوا وذهب إلى معنى آخر.

وأنا ممثّل لك ذلك أوّلاً بمثال لو أنّي بحثت عنه مفرداً لقد كان في البحث عنه منفعة: فتوهّم الآن إنساناً تنوب عليه الحمّى غبّاً وأقول إنّها حمّى خلوة من كلّ عرض وإنّما أخذته ستّاً وعشرين ساعة وتركته اثنتين وعشرين ساعة فدخل إليه من الأطبّاء رجلان فجعل أحدهما يبحث عن السبب الذي به تحدث هذه الحمّى وكيف الوجه في مداواتها على أجود ما يكون وجعل الآخر يطالب باسم هذه الحمّى أعني ما الذي ينبغي أن يسمّى هذا النوع من الحمّى وإذا عرض ذلك وقع للطبيب الذي يبحث عن الوجه في مداواة الحمّى ويدع البحث عن الاسم الذي ينبغي أن تسمّى به فلا يلتفت إليه شغل فهو لا يزال يستدعيه ويضطرّه إلى الجواب ويأمره أن يخبره باسم هذه الحمّى ما هو مع أنّه في أكثر الأمر علم اللّه لا يخرج مسئلته مخرج من يجري كلامه على الصواب كما فعلنا نحن في قولنا اسم هذه الحمّى ما هو بل يجعل مكان المسئلة عن اسم هذه لحمّى ما هو المسئلة عن هذه الحمّى ما هي. فإن هذا عصر قد نجد فيه أطبّاء كثيرة مذهبهم هذا المذهب أعني أنّهم لا يسألون عن السبب المحدث للحمّى ما هو ولا عن مداواتها كيف ينبغي أن تكون ويعتنون بالمسئلة عن اسم الحمّى هل هو غبّ أو شطر الغبّ كأنّ الوجه الذي به يتخلّص الإنسان من مكروه الحمّى إنّما هو من قبل العلم باسمها لا من قبل العلم بنفس المرض واستنباط ما يوافقه من الأشياء التي يداوى بها حتّى يصلح. وأمّا أنا فمن عادتي أن أجعل جوابي مراراً كثيرة لمن سأل عن هذا أنّ هذه الحمّى تسمّى زينن وربّما قلت إنّها تسمّى أبولونيوس أو غير ذلك من كلّ اسم يتّفق أن يجري على لساني. ثمّ أرجع بعد ذلك على الطبيب فأسأله إن كان يعلم ممّا يداوى به تلك الحمّى شيئاً ينتفع به فليعرفناه ويتحرّ في ذلك أن يخلص المريض ممّا وقع فيه، فأجده عند مسئلتي إيّاه عن ذلك أشدّ صمتاً من السمك لأنّه إنسان إنّما أخذ نفسه بالمبالغة في معرفة الأسماء فصار ماهراً فيها حاذقاً بها ولم يلتفت إلى نفس الأشياء بل توانى عنها.

وعلم اللّه أنّي قد لقيت من الأطبّاء خلقاً كثيراً جدّاً قد قصدوا من كتاب أغاثينس في شطر الغبّ وهو ثلاث مقالات إلى المقالة الأولى وحدها فقرؤوها وحفظوها حتّى صاروا يحفظونها غاية الحفظ كما يحفظون أسماءهم فأمّا المقالتان الأخريان اللتان يتلوانها فإنّهم لا يحفظونهما ولا قرؤوهما أيضاً فضلاً عن أن يكونوا يحفظونهما لكنّهم لمّا وجدوا أغاثينس قد بحث في المقالة الأولى من هذه الثلاث عن اسم الحمّى المعروفة بشطر الغبّ أعني أيّ الحمّيات ينبغي أن يسمّى بهذا الاسم اهتمّوا بهذه المقالة همّاً شديداً فصار كثير منهم يحفظها وتوانوا عن النظر في المقالتين الأخريين اللتين يبحث فيهما هذا الرجل عن الأسباب الفاعلة لهذه الحمّى ويصف كيف ينبغي أن تداوى.

وجميع ما قلته من هذه إنّما قلته لأفرّق به بين المشاحّة والمجادلة والمماكسة في الأسماء وبين الاستدلال على نفس الأمور التي يشار إليها بالأسماء. وذلك أنّه من البيّن لجميع الناس أنّ هذه الحمّى التي ذكرناها ههنا فقلنا إنّها تأخذ ستّاً

وعشرين ساعة وتترك اثنتين وعشرين ساعة غير الحمّى التي لا تفارق أصلاً لكنّها مع ذلك تنوب في أوّل يوم أعظم نوبتها وهي النوبة التي تعرض للمحموم فيها النافض مراراً كثيرة وتنوب في اليوم الآخر أصغر نوبتها. فأمّا الأمر في أنّ كلّ واحدة منهما ينبغي أن تسمّى شطر الغبّ أم إنّما ينبغي أن تسمّى بهذا الاسم تلك التي يكرّ فيها النافض كرّات فقط فهو أمر ليس البحث عنه بهيّن. ولا هو أيضاً من الأمور الاضطراريّة في تجويد مداواة الحمّيات إذ كان استخراج الأشياء التي تداوى بها هاتان الحمّيان إنّما يكون بأن يعلم المداوي لهما أنّ الواحدة منهما وهي التي قلنا إنّها تترك تتولّد عن المرّة الصفراء وحدها وأنّ الأخرى تتولّد عن المرّة الصفراء والبلغم معاً لا بأن يعلم كيف يستعمل الأسماء. وكان المخطئ في استعمال الأسماء لا يندى المريض من خطئه بشيء من المضرّة، والذي لا علم له بجوهر ما بين الحمّيين ليس يمكنه أن يستخرج شيئاً منهما ينتفع به في مداواتهما. لأنّهما إن كانتا كلتاهما إنّما تحدثان مع ورم حارّ يحدث في الأحشاء فقد يحتاج المداوي لهما لا محالة أن يعلم في أيّ الأحشاء يحدث الورم الحارّ، وإن كانت واحدة منهما تحدث مع ورم الأحشاء والأخرى تحدث بسبب عفونة الأخلاط فذلك أيضاً ممّا يحتاج إلى معرفته، وإن كانتا أيضاً كلتاهما تحدثان عن عفونه الأخلاط فقد ينبغي للمداوي أن يعلم أيّ الحالتين حال الأخلاط أعني هل عفونتها في البدن كلّه أم في العروق فقط وإن كانت في العروق فقط أفي جميعها أو في بعضها، وممّا يحتاج أيضاً إلى معرفته أن يعلم هل الأخلاط التي عفنت أخلاط مختلفة وإن كانت مختلفة فما الفرق بينها. فأن جعل مبدأه من هذه الأمور كان وجود المداواة أسهل عليه ممّا لو أنّه لم يبحث أصلاً عن شيء ممّا وصفنا. فإن لم يبحث المداوي بأن لا يجعل استخراجه للأشياء التي يداوي بها من القياس ولا من نفس طبائع الأمور واحب أن يكون استنباطه لها التجارب فالأمر ههنا أيضاً فيما أحسب بيّن أنّه ينبغي لمن أحبّ ذلك أن يميّز ويفصّل أوّلاً الأشياء التي عليها تقع التجربة وألّا يجعل ذلك التمييز والتفصيل بتأليف حروف الهجاء وبالأشياء المركّبة منها لكن باختلاف الأعراض وأصنافها المتباينة. وقد كان الاختلاف والتباين بين هاتين الحمّيين أنّ الواحدة منهما لم تكن تترك وأنّ النافض كان يكرّ فيها كرّات كثيرة وأن الأخرى كانت في اليوم الثاني تأخذ أخذاً آخر. وإذ كان الأمر على هذا فما المانع لصاحب التجارب من أن يتحفّظ في كلّ واحد من هذين النوعين المختلفين من أنواع الحمّيات مداواة تصلح له خاصّة من غير أن يسمّي إحدى الحمّيين غبّاً ويسمّي الأخرى شطر الغبّ أو يسمّيهما جميعاً شطر الغبّ أو يسمّي الواحدة شطر الغبّ ولا يسمّي الأخرى غبّاً مطلقاً لكن حمّى ممتدّة، فإنّ الاختلاف بين هؤلاء القوم فيما تقدّم ذكره إنّما هو في الاسم. وبينهم أيضاً اختلاف من قبل أنّ بعضهم يسمّي هاتين الحمّيين غبّاً يمتدّ وبعضهم يسمّيهما غبّاً ممتدّاً.

وعساه قد كان فيما قلناه إلى هذه الغاية أيضاً غناء وكفاية في الدلالة على أنّ المحال والمراء في الأسماء مباين للمحال والمراء في نفس الأمور، ولكن لمّا كان الخطأ الطويل المدّة لا يمكن أن يداوى ويصلح في وقت قصير المدّة فقد ينبغي لنا أن نرجع إلى ما كنّا فيه من القول فنعيده، فعسانا وإن كنّا لم نقدر على ردّ هؤلاء القوم عمّا هم عليه فيما تقدّم نقدر أن نردّهم في هذا الوقت ردّاً يجيدون به عن الأسماء ويميلون قبل المعاني التي تدلّ عليها الأسماء.

فأقول: إنّا كنّا قد قلنا قبيلاً أنّ ههنا حمّى ذات نافض وأردنا بقولنا ذات نافض الحمّى التي لا يكون النافض في ابتداء نوبتها فقط مع أخذها لكن يكون النافض فيما بعد أخذها أيضاً شبيه ما تبتدئ نوبة أخرى مع نافض مراراً

كثيرة على مثال الابتداء الاوّل. وبعض الناس يسمّي هذا الذي تقدّم للنافض من الكرّ مراراً كثيرة معاودة وبعضهم يسمّيه مراجعة وكيف شاء الإنسان أن يسمّيه بعد أن يحفظ ما يتصوّر في النفس من المعنى المقصود المدلول بهذه الأسماء فإنّما يخالف من سمّى به هو في الاسم فقط لا في المعنى. وكذلك أيضاً الحال في جميع ما بعد الابتداء إلى الانتهاء، فإنّه إن سمّى إنسان هذا الجزء تصاعداً أو تزيّداً أو زيادة فإنّما خالف في الاسم.

وعلى هذا المثال أيضاً لو أنّ إنساناً يسمّي بعض الحمّيات التي تفارق من تأخّذه حمّى مفارقة ويسمّي المدّة التي تكون فيما بين كلّ نوبتين من نوائبها وهو الوقت الذي يكون المريض فيه غير محموم ترك الحمّى ولم يرض بأن يقول إنّ انحطاط الحمّى يسمّى تركاً ولا أنّ شيئاً من الحمّيات الأخر التي ليست على هذا النحو يسمّى حمّى مفارقة لكان قد خالف جميع الأطبّاء الذين يسمّون الحمّى إذا كانت تخفّ وتسكن سكوناً ذا قدر يعتدّ به حمّى مفارقة وإن كانت ليس يؤول بها الأمر إلى أن ينقّى منها المحموم، على أنّ هذا الأمر مع ما هو عليه من الدناءة في قدره وسهولة الأمر في معرفته قد أثار للأطبّاء في بعض الأوقات خصومة وقتالاً شديداً جدّاً أعني الأطبّاء الذين يسمّون أنفسهم الطوّافين. وذلك أنّ واحداً منهم قال إنّ هذه الحمّى حمّى مفارقة ثمّ دخل من بعده آخر فقال إنّ هذا المريض ليس تفارقه الحمّى بل هي مطبقة عليه، فظنّ من سمع ذلك منهما من العوامّ أنّهما قد قالا قولين متضادّين وذلك لأنّ القوم لم يكن لهم معرفة بالمعنى الذي إليه يشار بكلّ واحد من هذين الاسمين فكانوا إنّما ينظرون فيما تلفظ به كلّ واحد من الرجلين فقط. فرجعوا عليهما وسألوهما أن يعيدا ما قالاه بعينه بقول أبين وأشدّ شرحاً من القول الأوّل، فأخرجهما ما كانا عليه من اللجاجة ومحبّة الغلبة إلى كثير لم يستنبطا منه شيئاً يعود نفعه. وذلك أنّ أحدهما كان يقول إنّ هذه الحمّى ليست من الحمّيات المفارقة لأنّها ليس تسكن سكوناً يؤول بالمريض إلى النقاء من الحمّى، والآخر كان يقول إنّ الحمّيات المطبقة إنّما هي تلك التي لا يتبيّن لها نقصان يدركه الحسّ بتّة وجعل يلقّب انحطاط الحمّى بهذا اللقب ولم يكن فيهما رشيد يفهم الأمر فيقول إنّ ترك الحمّى إنّما معناه كذا وكذا وإطباقها معناه كذا وكذا. هذا على أنّه إنّما يجاء بهذا الكلام في مدينة روميّة، وهذه مدينة لو أنّ رجلاً ابتاع بها جارية تسمّى ىىاىلوىى في المثل فسمّاها في ذلك اليوم بهذا الاسم ثمّ باعها من غد من رجل موسر فسمّاها ذلك الرجل ىىسا لما كان ذلك ممّا ينكر ولا كان أحد بمماحل في ذلك ولا يقول لمن سمّاها بالاسم الثاني ليس هذا اسمها فلا تكذبن على الجارية وما حاجتنا إلى ردّ القول بأنّ هذا جائز في العبيد والإماء وهم على ما هم عليه من الذلّة والدناءة إذ كنّا قد نجد كثيراً من الملوك المفردين برؤوسهم قد نقلوا أسماءهم فبعضهم سمّى نفسه بالاسم الأوّل وبالاسم الثاني الذي اختاره لنفسه وبعضهم اقتصر على الاسم الثاني وحده.

وهذا أمر لم يكن من ذينك الطبيبين ولا واحد يفهمه فكانا يتخاصمان ويقتتلان في الألفاظ مدّة طويلة جدّاً، وكان واحد منهما يزعم أنّ الحمّيات المطبقة إنّما هي تلك التي لا تزال قائمة على حال واحدة من غير أن تنحطّ انحطاطاً يدركه الحسّ، وكان الآخر يقول إنّ الحمّيات التي يكون حالها هذه الحال هي الحمّيات المطبقة وأمّا الحمّيات التي تنحطّ من غير أن ينقّى صاحبها منها فإنّما تسمّى حمّيات دائمة فقط. فلمّا كان أحدهما يقول إنّ الدائمة هي كذا والآخر يقول ليس هي كذا ولم يكن فيهما رشيد يقول إنّها تسمّى أو تلقّب كذا أو لا تسمّى أو تلقّب بكذا بل كان كلّ واحد منهما ثابتاً على قوله إنّها كذا أو إنّها ليست كذا لا ينتقل عنه إلى أن يقول إنّها تسمّى لم يجتمع ولم يحصل لهما من تلك المقاولة

شيء من الربح. ولو كانا لم يدخلا في قولهما إنّها كذا أو إنّها ليست كذا وجعلا مكان ذلك أنّها تسمّى كذا أو أنّها لا تسمّى كذا لكان سيسهل على الغبيّ الأمّيّ فضلاً عن غيره أن يميّز ما يقتتلان فيه ويصلح بينهما، بعد أن يكون ممّن يمكنه أن يفرّق بين القولين فيعلم من كان المسمّي لمثل هذه الحمّى حمّى مطبقة وما السبب الذي دعاه إلى أن سمّاها بهذا الاسم ومن كان المنكر لذلك الممانع من أن تسمّى بهذا الاسم ولِمَ قال إنّها لا تسمّى به.

وقد يعرض للأطبّاء مراراً كثيرة في مثل هذه المسائل أيضاً أن لا يمسكوا عن المراء والمحال حبّاً منهم للغلبة فيقول الواحد منهم في المثل إنّ أبقراط لم يسمّ ولا واحدة من الحمّيات قطّ حمّى مطبقة ويقول الآخر إنّ أرشيجانس قد يسمّي الحمّى الدائمة بهذا الاسم. ثمّ يضعون أنفسهم في موضع الحكّام فينظرون أيّ الرجلين أقرب إلى الصواب أبقراط أم أرشيجانس، فيخرجهم النظر في ذلك إلى الصباح الذي لا ينقطع. وكان الأجود أن لا يبحثوا عن اسم الحمّيات المطبقة هل ذكره أو لم يذكره إذ كان ليس من المنكر أن يكون الإنسان إذا أراد أن يخبر عن هذه الحمّيات جعل ذكره لها ودلالته عليها في أكثر كلامه بالصفة لا بالاسم، ولا من المنكر أن يكون الإنسان لا يذكر في كتابه اسم الحمّى المطبقة إلى أيّ شيء يصرفه بتّة لكن يذكر هذا الجنس من الحمّيات التي حالها هذه الحال فيقول إنّها حمّى يوم لا يكون لها مبدأ نوبة ثانية بعد مبدئها الأوّل حتّى تقلع عن صاحبها ولا يكون لها أيضاً تزيّد وصعود لكن تكون نوبتها وأخذها نوبة واحدة وأخذاً واحداً من أوّلها إلى آخرها. وذلك لأنّ النظر في مثل هذا والبحث عنه هو نظر وبحث يقع في نفس الأمور فأمّا بحث هؤلاء ونظرهم الذي يجري بينهم في كلّ يوم فإنّما هو بحث ونظر في أمر الأسماء.

ولعلّ ظانّاً يظنّ أنّه ينبغي بحسب هذا القول ألّا نسمّي شيئاً من الأشياء الداخلة في الطبّ باسم يدلّ عليه بل إنّما ينبغي أن نعبّر عنها كلّها ونشرح معانيها للمتعلّم بالقول والصفة. فأمّا أنا فأحسب أنّي قد بيّنت مراراً كثيرة أنّ العبارة عن الشيء بالصفة هي أيضاً اسم فأوضحت الطريق المسلوك في ذلك وبيّنت بالأشياء اللازمة له من الأمور الجزئيّة كلّ ما ينبغي أن يتحرّى فيه، إلّا أنّي لست أشير على الناس أن يستعملوا الأسماء على ما يستعملها هؤلاء ولا أنا أيضاً أستعملها كاستعمالهم لها. وذلك لأنّ الحدث من الأطبّاء يخطئون في استعمالهم للأسماء خطأين ليسا باليسيرين: أحدهما أنّهم يجعلون مبدأ تعليمهم منها وإنّما كان ينبغي أن يجعلوه من نفس الأمور التي لها أسماء، والثاني أنّهم لا يحفظون ما جرى عليه الأمر فيها عند من تقدّمهم من الأطبّاء ولا يصرفون كلّ واحد منها إلى المعنى الذي جرت به عادة القدماء بصرفه اليه. وأنا مبيّن لك كلّ واحد من هذين الخطأين على حدته وأجعل أوّل ما أذكره من ذلك أن أصف كيف ينبغي أن يجعل التعليم.

فأقول: إنّي أرى أنّه ينبغي في كلّ تعليم أن يبدأ الإنسان من أسماء ومعانٍ مألوفة قد اعتادها وأقرّ بها جميع الناس ثمّ يمرّ على سير وطريق صناعيّ حتّى يصل إلى الأسماء والمعاني التي لا يعرفها المتعلّمون. وإذا صار إلى هذه أيضاً شرحها بالقول أوّلاً شرحاً بيّناً ثمّ نظر: فإن كانت أشياء لها أسماء قد سمّاها بها من كان قبله أخبر بذلك ودلّ عليه، وإن كانت أشياء لم تضع لها الأوائل أسماء التمس هو أن يضع لها أسماء وسلك في وضعه لتلك الأسماء أيضاً المسلك والطريق الصناعيّ. وقد ذكرت أنا هذا المسلك والطريق الصناعيّ مراراً كثيرة في غير هذا الكتاب وسأذكره أيضاً ههنا إذا أمعنت في القول. فأمّا من جعل مبدأ هذا التعليم من أسماء وألقاب تخصّه ولم يلتفت إلى الأسماء والألقاب التي تعمّه وسائر الناس أو حفظ الأسماء والألقاب العامّيّة لكنّه فيما بعد المبدأ انتقل عنها إلى أسماء لا تعرف والتمس أن يعلّم الناس الصناعة

من تفسيره وشرحه لتلك الأسماء والألقاب التي لا تعرف ففعله ما يفعل من ذلك فعل قوم يخطئون خطأ عظيماً جدّاً. وقد بيّنت في كتاب البرهان مبلغ رداءة فعل من يجعل مبدأ كلامه من تعليم يريد به الناس كافّة من أسماء لا يعرفها بتّة المتعلّمون ولا هي ممّا يجتمع عليه ويقرّ به جميع الناس. وأمّا الحال فيمن جعل مبدأه من هذه الأشياء ثمّ ترك نفس الأمور وأخذ في تعليم الناس ما يريد أن يعلّمهم إيّاه بتفسير الأسماء وما تؤدّي إليه من مقدار الرداءة فمن ههنا خاصّة يمكن الإنسان تعرّفها.

أقول إنّ الأسماء تضطرّ من أقبل قبلها ومال إليها إلى التذلّل والتعبّد لها وتمنعه من أن يطلب لنسفه طريقاً غيرها يصل به إلى استخراج الأشياء ويؤكّد في نفسه الصناعة بأنّ مقدار عدد الأمور في نفسه بحسب مقدار عدد الأسماء. وجميع الناس يعلم أنّ هذا باب يقطع عن استخراج الأمور الناقصة من الصناعات وأنّه لا يؤدّي إلى استفادة شيء من الطرق الصناعيّة ولا إلى العلم بشيء من الآلات التي بها تنجز الأمور ولا إلى النظر فيما يقع فيه بين الناس اختلاف.

وأنا ممثّل لك في ذلك ههنا أيضاً بمثال أعود فيه إلى ذكر الحمّيات فأقول: إنّه لو أنّ إنساناً أثبت في كتابه ستّة عشر اسماً من أسماء الحمّيات ثمّ وقع ذلك الكتاب في يد رجل يعلّم الناس صناعة الطبّ فجعل ذلك الرجل يشرح ويفسّر للناس بلسانه الحمّيات التي عليها يدلّ كلّ واحد من تلك الأسماء أترانا كنّا نقدر من هذا الوجه وحده أن نعلم علماً يقيناً لا شكّ فيه هل ترك الواضع لذلك الكتاب شيئاً من الحمّيات أم هل أتى على جميعها أم إنّما كنّا نتعلّم من ذلك الرجل بهذا الطريق من التعليم تلك الحمّيات التي ذكرها صاحب الكتاب، وكنّا لا نعلم هل أتى على جميع الحمّيات حتّى لم يخلّف منها واحدة؟ بل كنّا متى نظرنا في كتاب آخر فوجدنا فيه أسماء الحمّيات متشابهة لم يتبيّن لنا بذلك أيّ الأمرين هو الحقّ أعني هل أراد بتلك الأسماء حمّيات أخر أو إنّما دلّ على تلك الحمّيات بأعيانها بأسماء أخر. وذلك أنّ الأمر في هذا على ما وصفنا.

فقد علم أنّ الاقتصار على تعديد الأسماء إن كان تحبّس صاحبه إلى القناعة بالأسماء من حيث لا يشعر فهو ضارّ للمتمسّك به من وجهين: وذاك أنّه ربّما كان مراراً كثيرة الاسم الواحد يصرف من طريق المشابهة إلى أشياء كثيرة وربّما كان الشيء الواحد يسمّى بأسماء شتّى إذ كان من الأشياء الكثيرة الأسماء. وهذان أمران الأوّل منهما ينقص من عدد الأشياء المشار إليها بالأسماء والثاني يزيد في عددها. وأمّا المبتدأ من نفس الأمور المدلول عليها بالأسماء فقد ثبت أنّ صاحبه يحصّل به عددها كلّها بطريق صناعيّ ثمّ يكون الأمر بعد ذلك مطلقاً لمن شاء أن يخترع لها أسماء يدلّ بها الناس بعضهم بعضاً في كلّ وقت يريدون على أنّ الحمّى التي تأخذ المريض أيّ حمّى هي من غير أن يدخل بسبب ذلك نقصان في عدد الأمور أنفسها أو يتخلّف شيء منها، بل في ذلك راحة من المحال وحبّ الغلبة. فإن كنت أيّها الفاعل لذلك ليس تريد أن تضطرّ به إنساناً إلى موافقتك على الأسماء لكن تريد أن تكون أنت المعلّم لطلّاب هذا العلم فمطلق لك أن تسمّي كلّ واحد من الأشياء باسم له خاصّة. ولكن الأنفع لمن يتعلّم منك أن تكون تتحرّى إشراكه في الصواب فتقصد أوّلاً الأسماء التي قد اعتادها الناس وعرفوها وتنظر: فإن وجدتها مساوية لتلك الأشياء في العدد لم تتعدّها إلى غيرها ولم تطلب زيادة عليها، وإن وجدتها أقلّ عدداً فحينئذ تخترع ما تحتاج إليه من الأسماء على طريق الاستعارة بالتشبيه وتسلك في ذلك مسلك الصواب وتتخيّر من الأسماء أشهرها عند الناس.

فإنّا نحن قد سلكنا هذا المسلك في تعليمنا الناس من أصناف الحمّيات وأصناف النبض وأصناف الأمراض وأصناف الأعراض وغير ذلك من جميع أمور الطبّ. وذلك أنّا استخرجنا أوّلاً عدد أصناف كلّ واحد من هذه الأمور

بطريق صناعيّ ثمّ بيّنّا بعد ذلك أنّ تلك الأصناف ليست أكثر ممّا استنبطنا ولا أقلّ ثمّ سمّينا كلّ صنف منها باسم وتحرّينا في الاسم أن يكون ممّا الناس أكثر اعتياداً له وهو عندهم أبين. ومتى أعوزتنا الأسماء الجامعة للأمرين اخترنا الأسماء التي كانت القدماء أكثر اعتياداً لها ومتى لم نقدر على هذه أيضاً استعملنا جميع الأسماء التي استعملها من كان قبلنا ممّن نقل الأسماء على طريق الاستعارة أو على طريق الاشتقاق أو على طريق إزالة الاشتقاق فصرنا بذلك إلى ما أردنا ولم نضطرّ إلى اختراع اسم إلّا في الندر. فهذا هو المذهب الصواب في استعمال الأسماء فإن غيّره أحد فسمّى الأشياء بأسماء مستعارة على طريق التشبيه أو اخترع من نفسه أسماء فسمّى بها أموراً لم تزل لها أسماء وضعها من كان قبله أو اختار وآثر الأسماء التي استعملها من قرب عهده على الأسماء القديمة أو آثر الأسماء التي كان القدماء يستعملونها على الأسماء التي جميع الناس لها أكثر اعتياداً فإنّه يفسد ويثرب رتبة الأسماء.

مثال ذلك أنّه أن أرغم إنسان على استنباط أصناف الحمّيات فلا بدّ له ضرورة من أن يبتدئ من المعنى الذي يدلّ عليه اسم الحمّى ويتناول ذلك بما قد جرت به عادة الناس كلّهم عامّة. فإنّ اسم الحمّى ليس هو اسماً لا يدلّ على شيء كما لا يدلّ قول اليونانيّ بليطوري وسقندابسس ولا هو أيضاً اسم يدلّ دلالة غير بيّنة كقول اليونانيّ سفاقيلوس وهو فساد جوهر العضو بل هو اسم دالّ على شيء ودلالته ظاهرة لجميع الناس. فإنّك لن تجد أحداً يسمّي الحرارة المنتشرة على غير المجرى الطبيعيّ باسم غير الحمّى وتجد أنّ ذوي الغباء من الناس وعوامّهم يبعثون إلى الأطبّاء فيدعونهم لمعالجتهم وهم يشكون علّة ربّما كانوا مراراً كثيرة لا يقدرون على تسميتها باسمها وربّما كانوا يعرفون اسمها فيقولون إنّهم محمومون أو إنّ بهم قرحة أو ورماً في الغدد، وإن رأوا إنساناً يسمّي ورم الغدد قرحة أو يسمّي الكسر حمّى أو يغيّر اسم شيء من أمثال هذه الأمراض ضحكوا منه كما يضحك من المجنون. وإذا كانوا كذلك فهم إذن يعلمون أيّ الأشياء هم عارفون بأسمائها وأيّها لا معرفة لهم بأسمائها. وذلك أنّك إن سألتهم عن قول اليونانيّ سفاقيلوس وهو فساد جوهر العضو ما معناه أقرّوا بأنّهم لا يعلمون. وإن سألتهم عن الحمّى وجدتهم يعلمون أنّ هذا اسم واقع على الحرارة الخارجة عن الطبيعة وأنّهم لا يحملون ولا يصبرون لأحد ممّن يصرف هذا الاسم على شيء آخر.

وكما أنّ قولنا إنسان هو اسم يعرفه جميع الناس ويعلمون إلى ماذا يصرف ولكن ليس عندهم فيه شيء على تحديد وتمييز مثل ما عند أصحاب علم المنطق كذلك الحال في قولنا حمّى: نجد الناس يعرفون هذا الاسم ويعجزون عن تحديده وتلخيص معناه. وأنا ملتمس تلخيص هذا الباب لمن تتوق نفسه لي معرفة الحقّ.

فأقول: إنّ الأثينيّين قد يسمعون لا محالة ما يلفظ به الناس من مقاطع حروف الهجاء ولكنّهم لا يعلمون هل ذلك الملفوظ به من تلك المقاطع نغمة مفردة أم صوت مركّب وإنّ هم تخيّلوا في بعض الأوقات من المقاطع التي هي أكثر ما تكون بمنزلة قول اليونانيّ سطرابطيس أنّه مقطع من مقاطع النفس في الألفاظ مركّباً أطول كثيراً من النغمة التي يوجبها في اللفظ كتابة الألف، لأنّهم لا يقدرون على تقطيعه حروفاً وإفراد كلّ حرف منه على حدته ولا يعلمون كم مبلغ الحروف التي هو منها مؤلّف وأيّ حروف هي ولا يمكنهم تحديد ذلك أصلاً. وكذلك الحال في الإنسان أنّ جميع الناس يعلمون أنّه حيوان وأنّه حيوان ناطق، ولكنّهم أن تعنّتهم متعنّت فاحتجّ عليهم بالأطفال ليس هم ناطقون فهم إذن غير الناس التماساً للتريّب عليهم ولإزالتهم عمّا قد تصوّر في أنفسهم من المعرفة بالإنسان ارتابوا بذلك وفسد عليهم ما قد كانوا عرفوه. وذلك لأنّه ليس عندهم من العلم بالأمر شيء على تحديد.

وإن أنت أيضاً سألتهم عن الحرارة الخارجة عن الطبيعة كيف معرفتهم بها أيزعمون أنّ هذه الحرارة تكون حمّى عند ما تنتشر في البدن كلّه أو عند ما تكون محصورة في القلب فقط لم تجد عندهم في ذلك جواباً ملخّصاً. ولهذا قد ينبغي في مثل هذه الحال لمن هو معلّم بالحقيقة جيّد نفاع أن لا يقتصر بهم على إلقائهم في الحيرة والشكّ دون أن يرشدهم بعد ذلك إلى الأمر المحدّد المفصّل من غير أن ينقص عليهم ويبطل عندهم ما قد كان مصوّراً قديماً في أنفسهم من معنى ذلك الشيء الذي سألهم عنه ولا يقطعه عليهم ويسلخه من أنفسهم جملة بل يصلحه لهم ويمحصه ويذيعه عندهم. وهذا قول أريد به أصحاب الحقّ ليمتثلوه في استعمال الأسماء على ما ينبغي. فأمّا متى ابتلي الإنسان بالوقوع مع رجل من السوفسطائيّين بفسد الحقّ ويستره ويزيل ما يجتمع عليه الناس كافّة بالتعارف عن جهته فقد ينبغي له أن ينقم منه ويطرحه ويوقعه في شبيه ما لم يزل من عادته أن يطرح الناس فيه ويضرّهم به.

فإنّي أنا مراراً كثيرة أدع الجواب الحقّ وأجيب من أناظره منهم بكلّ شيء خلا ما يقرب من معنى ذلك الذي يسئل عنه. من ذلك أنّ رجلاً من أصحاب أراسسطراطس سألني ما الحمّى، فأجبته كثرة من الماء الحارّ الشبيه بالأحمر. فجعل هو يقهقه ويومئ بنظره نحو من يقرب منه ثمّ خدف إلى الوسط وصاح بصوت ليس باليسير «ومن من الناس سمّى هذا الذي قلت حمّى؟» فلمّا فعل ذلك رجعت أنا عليه بالمسئلة فقلت «أخبرني عن الصواب عندك في الجواب عن هذا المعنى: هو أن يكون جميع اليونانيّين يشهدون به أم أن يشهد به أكثرهم أم أن يشهد به بعضهم وإن كانوا قليلاً في العدد جدّاً؟» فأمسك عن ذلك وترك القهقهة عند ما ورد عليه من السؤال المنظوم. وذلك لأنّه لو قال إنّ الصواب في ذلك أن يكون قد شهد به جميع اليونانيّين أو الأكثر منهم أو أهل الثقة منهم لعلم علماً بيّناً أنّ الأمر يؤول به إلى أنّ الحمّى حرارة خارجة عن الطبيعة وهذا شيء لم يكن يهواه ولا يريده؛ ولو قال أيضاً إنّه يكفي في صحّة الأمر في المعنى الذي يدلّ عليه اسم الحمّى بأن يشهد على ذلك قوم يسير لكان ممّا أحسب سيظنّ بأنّ الأمر يضطرّه بأن يخبر بهؤلاء القوم اليسير من هم، وكان لا يجد أحداً ينسب إليه ذلك إلّا أراسسطراطس فقط. ولو كان ممّن قد نظر في علم البرهان وراض نفسه في الكلام الذي به يكون البرهان لكان على حال سيعلم أنّه ليس لأحد من الناس — منذ ابتدأ كلامه — ما يقرّ به جميع الناس خلا الأشياء المعقولة المتصوّرة في أوهام الناس عامّة من قولهم حمّى إنّما هو حرارة خارجة عن الطبيعة. وهذا هو الذي يعنيه كلّ واحد منهم إذا قال حمّى وهو الذي يفهم عنه إذا سمع قوله حمّى.

وإذا كان الأمر في معنى الحمّى على ما وصفت فقد ينبغي للطبيب أن يجعل هذا مبدأ كلامه فيها، وإذا هو أخذ هذا المبدأ ثمّ فصّله وميّزه أن احتاج منه إلى تفصيل وتمييز يصلح له قضيّة على استقصاء نظره بعد ذلك في السبب الذي من قبله يعرض أن يشتعل في البدن مثل هذه الحرارة ولا يلجأ في البحث عن ذلك إلى استشهاد طبيب ولا غيره من عوامّ الناس. إلّا أنّ السوفسطائيّين يفعلون اليوم خلاف هذا كلّه فيعتمدون في إقامة البرهان على الشهادات كما يفعل عوامّ الناس في مجالس الحكم ممّن يثبت حقّاً بشهادة الشهود، وأمّا المعاني التي تدلّ عليها الأسماء فإنّ السوفسطائيّين لا يتناولونها بإقامة البرهان ولا بشهادة الشهود. والسبب في ذلك فيما أحسب أنّهم لا يحبّون هذه ولا يقدرون على تلك. على أنّهم لو شاءوا لكان الأمر في ذلك سهلاً عليهم جدّاً بأن ينظروا: فما كان من الأسماء مشهوراً يعرفه جميع الناس تعرّفوه من الناس وتعلّموه منهم وما كان منها لا يعرفه الناس في هذا الوقت وكان قد جرى في كلام قوم من القدماء تعرّفوه من المواضع التي استعمله القدماء فيها. ولكنّهم قوم لا يحبّون هذين الوجهين وليس لهم وجه ثالث سواهما يصلون به

إلى استخراج معاني الأسماء. وقد يمكن من أراد الراحة من هؤلاء بسرعة أن يتلقّاهم بأن يقول: أمّا أنا فإنّي أعني بقولي حمّى الحرارة الخارجة عن الطبيعة إذا افرطت في القلب، وأمّا أنت أيّها السوفسطائيّ فإن أحببت أن تسمّي هذه الحرارة باسم غير هذا فمطلق لك.

ولكن لا نفني الزمان ولا نمسخه بالنظر في هذا بل نعود إلى حديثنا فيما يتلو هذا، وهو أن ننظر ما الأسباب التي منها تتولّد الحرارات الخارجة عن الطبيعة وكيف ينبغي لنا أن نداويها. مع أنّ هؤلاء السوفسطائيّين ليس يصبرون لمن سألهم في هذا وطلب إليهم فيه ولا يحتملونه كلّهم، بل متى وقعت عليهم الحجّة أو مضّهم الجواب فلم يقدروا على محيص أقبلوا على الشتيمة والمراء. ولا تقلّ أنّ الواحد فالواحد منهم على هذا وأنّ المنافقين كلّهم من سوفسطائيّي الأطبّاء يفهمون. فإنّي أعلم أنّي إن قصصت عليك ما عرض لي مراراً كثيرة شتّى ظنّ بي من لا علم له بما جرت به عادة الأطبّاء في هذا الدهر وفساد نيّتهم كثيراً أنّي أقول قولاً لا يقبل منّي ولا أصدق فيه. وهو أنّ رجلاً من أشراف أهل روميّة حمّ فوقع بين الأطبّاء مناظرة في حمّاه ما الذي ينبغي أن تسمّى. بل لم يقولوا ما الذي ينبغي أن نسمّيها أو نلقّبها أو ندعوها، فإنّهم لو قالوا ذلك لكانوا ينبّهون لو كان فيهم حسّ على أنّ بحثهم ونظرهم إنّما هو في الاسم واللقب لا في تفسير الشيء الذي يقع عليه الاسم. ولكنّهم بأجمعهم السائل منهم والمسؤول حذقوا أدلّة التسمية وجعل بعضهم يسأل أيّ حمّى هذه وجميعهم يجيب بأنّها شطر الغبّ. فإنّ هذا الاسم اليوم أعني شطر الغبّ قد كثر في مدينة روميّة حتّى صار الأطبّاء يسمّون به جميع الحمّيات خلا حمّى الغبّ وحمّى الربع فإنّهم يخرجونهما عن هذا الاسم. فلمّا قصدني أنا قوم معهم فضل عناية بالأمر بالمسئلة عن ذلك وهم قوم قد عرفوني وخبروا ما عندي وعلموا أنّي إنّما أعتني بنفس الصناعة وأضرب عن الأسماء وما يجري فيها من تعنّت السوفسطائيّين فلا التفتّ إليها ولا أعني بها كما يفعل غيري من سائر الأطبّاء جعلت أجيب كلّ واحد منهم بما ينبغي أن يجاب به. فلمّا سألني واحد من الجماعة ممّن كان حاضراً لجواباتي يسمع ما أقول: فما اسم هذه الحمّى أجبته هو أيضاً بأن قلت: أمّا اسم الحمّى فينبغي أن تسأل عنه هؤلاء وأشرت إليهم وأريته إيّاهم وقلت له: إنّ هؤلاء هم أحذق بالبحث عن مثل هذا، ولكن ههنا ما هو أنفع من هذا وهو أن تسألني عن هذه الحال التي هذا المريض عليها ما الذي يكون منها وإلى ماذا تؤول به، فقال لي في جواب ذلك: لعمري أنّي إلى هذا أحوج وإنّما دعاني إلى أن سألتك عن الاسم ما قد جرت به العادة الغالبة. ولم يكن في أولئك الأطبّاء أحد قضى فيما سيعرض للمريض بآخر نفضته وذلك لأنّهم كانوا يقولون إنّ هذا من فعل المتكهّنين لا من فعل الأطبّاء. فأقبلت أنا على ذلك الرجل فوصفت له أسماء الحمّيات وذكرت له من كلام أبقراط أشياء كثيرة تعلّم الناس كيف يصلون إلى سابق العلم بما سيحدث من أمور المرضى ومدحت في كلامي قوماً من الأطبّاء غير أبقراط قد نظروا في أمر الحمّيات وتكلّموا فيها بكلام شافٍ. وجعلت أسأل كلّ واحد ممّن بالحضرة من الأطبّاء وأطلب إليه أن يقضي ويحكم في أمر ذلك المريض بما يصحّ عنده من أمره. وذلك أنّ المريض كان في حدّ يظنّ به من يراه أنّه مشرف على العطب، فكانوا جميعاً عن الجواب في ذلك أبعد عن أن يسمع له صوت من الحجارة. وجعلوا يقولون إنّما ينبغي لنا أوّلاً أن نتّفق على هذه الحمّى هل هي بالحقيقة شطر الغبّ حرصاً منهم على أن يخرجوا الكلام إلى الهذيان الذي لا منفعة فيه. ولكنّا نحن

لم نؤاتهم إلى ذلك فقلت للمخاطب لي دع هؤلاء يبحثون عن هذا الذي يريدون البحث فيه واسمع منّي أنا ما أقوله في أمر هذا المريض، أقول إنّه بعد يوم واحد يعرق عرقاً كثيراً وتقلع عنه الحمّى أقلاعاً لا معاودة له.

ومن شأن الأطبّاء في سائر المدن الأخر أن يستحيوا على حال ممّن هو أعلم منهم ولا يباهتوه، وأمّا في مدينة روميّة فالأطبّاء من القحة وقلّة الحياء أمر عجيب، من ذلك أنّهم لا يدعوني أنا أن أنعم عند المريض الذي اجتمع معهم عنده نعمة واحدة فضلاً عن أن أقول شيئاً بل يبادروني إلى الكلام ويسدّون فمي حتّى كأنّهم يحيطونه بكلامهم الذي هو هذيان لا معنى له. فتجدهم مراراً كثيرة يقولون إنّ المريض على خطر عظيم وفي شدّة شديدة. ولكنّا نحن لسنا متكهّنين ولا بأصحاب زجر ولا ممّن يحكم بأحكام النجوم وإنّما تعلّمنا أن نداوي المريض لا أن نتكهّن على ما سيكون من أمره، فإن جاءنا إنسان قد تقدّم فنظر في هذا الباب سمعنا منه ما يقول. ومراراً تجدهم لا يقتصرون على هذا من القول لكن يستعملون المكابرة ويتضاحكون بقلّة حيائهم ممّن يقول إنّ عنده من ذلك علماً، وفي أوقات أخر ينكرون أنّ أحداً من الأطبّاء ذكر في كتاب شيئاً من سابق العلم بما سيكون من أمر المريض. وإذ كانت هذه حالهم فما الذي يمكن الإنسان أن يفعل إذا ابتلى بجماعة منهم وهم على هذا من النذالة والضعة، وهو رجل قد نشأ في الحياء وتعوده؟ أيقول إنّه ينبغي له أن يلتمس عند جميع المرضى أن يتبيّن من من الأطبّاء ذكر هذا الباب في كتبه وأنّه ليس يمكن الطبيب أن يداوي مداواة جيّدة دون أن يتقدّم فيعلم بسابق العلم ما سيحدث من أمر المريض، أم يقول إنّه ينبغي أن يمسك ويتغافل عن هذا كلّه ويقتصر على أن يذكر ما سيكون في آخر الأمر ويمضي في سبيله من غير أن يحتجّ عن نفسه بشيء في أنّ قوله ما يقول ليس هو من طريق التلمّس بل من قبل علامات ودلائل يجدها في بدن المريض فيستدلّ بها على ما سيكون بطريق سابق العلم؟

أمّا أنا فأقول إنّ هذين أمران أيّهما فعله الإنسان لم تحمد عاقبته، وإن أخذت في تحديد سوء العواقب المحدودة في هذه الأبواب طال بذلك كلامي. وإذ كان الأمر كذلك فالأنفع فيما أحسب أن أقول في ذلك قولاً ينقطع به الشكّ والحيرة، وهو أنّ من كان يريد أن يكون ذا يسار وجدّة أو ذا مقدرة وعزّة في مدينته فينبغي له أن يؤثر تعاطي تلك الأمور كلّها. فأمّا من كان محبّاً للحقّ مؤثراً له وكان قد أقنعه قول فلاطن حيث يقول «إنّ الحقّ مقدّم عند اللّه على جميع الخيرات ومقدّم عند الناس أيضاً على جميعها» فينبغي له أن يقرأ سائر كتبي ويقرأ كتابي هذا خاصّة الذي قصدت فيه لأبيّن أنّ العناية بأمر الأسماء والألقاب والحرص عليها … ليسا هما شيئاً واحداً بعينه وإنّما لم يمكن أن نعبّر على معاني الأشياء ونشرحها بالقول دون أن نضع لها أسماء وألقاباً تعرف بها. ومن أراد أن يجري أمره هذا المجرى فينبغي له أوّلاً أن يعوّد نفسه متى تكلّم أن يستثني في قوله إنّ هذا يسمّى أو يلقّب أو يدعى كذا وكذا. وبعد هذا ينبغي — إن كان لا علم له بما جرت به عادة القدماء في ذلك أو كان عالماً به إلّا أنّه هو يريد أن يستعمل الأسماء والألقاب على غير ما استعملها القدماء — أن يستثني في قوله إنّ هذا يسمّى أو يلقّب بكذا وكذا، ولا يفعل كما قد جرت عادة أهل هذا العصر بأن يقولوا إنّ هذه الحمّى هي شطر غبّ.

فإنّ أبقراط وهو أوّل من ذكر هذا الاسم في كتاب فيمن عرفناه من أصحاب الكتب إنّما قال «وأمّا الحمّى التي تسمّى شطر الغبّ فقد تعرض معها أمراض حادّة ». فبقراط لم يقل إنّها شطر الغبّ إنّما قال إنّها تسمّى شطر الغبّ، على أنّه لو نسب الاسم إلى نفسه لكان أولى بأن يصدق أو يقبل قوله من جميع هؤلاء السوفسطائيّين الذين في هذا الدهر.

وذلك أيضاً لو أنّه أراد أن يقول قولاً مطلقاً من غير أن يستثني فيه شيئاً وأراد أن يأمر أمراً بأن تسمّى هذه الحمّى بهذا الاسم لكان جائزاً له. ولكنّه لم يفعل ولا واحدة من هذه الخصال وإنّما فعل فيما أحسب لينبّهنا به ويعلّمنا أنّ الأسماء والألقاب ينبغي لنا أن نعمل في أمرها على أنّه قد يمكن فيها أن تنقل وتبدل. فأمّا هؤلاء السوفسطائيّين البابيّة فلم يبق لهم إلّا واحدة: وهي أن يتوهّموا أنّ الأسماء والألقاب موصولة بالأشياء المسمّاة والملقّبة وصل التحام. فهم بهذا السبب يقولون في هذه الحمّى إنّها شطر الغبّ، ويقولون في عضلتين من العضل إنّهما عضلتا الصدغين أو عضلتا الماضغين، ويقولون في المرفق إنّه هو المشار إليه، ويقولون في عضل المتن إنّه هذا المشار إليه ويقولون في ذوي المرفق الشبيه بمرفق ابن عرس إنّهم هؤلاء المشار إليهم. وقد كان الأنفع لهم والأعود عليهم أن يذكروا أنفسهم في كلّ واحدة من هذه الأمور كيف فعل فيه أبقراط فيمتثلوا ذلك.

فإنّ أبقراط قال مرّة 〈في كتاب …〉 «فأمّا الحمّى التي يقال لها شطر الغبّ» وقال مرّة في كتاب الخلع «العضل الذي يدعى عضل الصدغين وعضل الماضغين» ومرّة أخرى أيضاً قال في كتاب آخر وهو كتاب الكسر «وذلك العظم وهذا العظم الذي يسمّى المرفق وهو الذي يتّكأ عليه هما عظم واحد بعينه» وعلى هذا السبيل قال أيضاً أقوالاً أخر: منها قوله في كتاب الخلع «تلك التي يقال لها المتنان» ومنها قوله في المقالة السادسة من كتاب إبيديميا «الجراحات التي تسمّى عفونة» ومنها قوله في كتاب الخلع «وأولئك أيضاً الذين يسمّون ذوي المرفق الشبيه بمرفق ابن عرس المولودين كذلك» ومنها قوله في كتاب الكسر «أو غير ذلك من عظام الموضع الذي يقال له مشط الرجل وهو الأخمص» ومنها قوله في كتاب إبيديميا «الأمراض التي تسمّى الأمراض الإلاهيّة» ومنها قوله في كتاب الأمراض الحادّة «…» 〈ومنها قوله〉 في كتاب الهواء والموضع والماء « … » ومنها قوله في كتاب الأمراض الحادّة « … » 〈ومنها قوله في〉 الكتب التي وضعها في الآراء المعروفة المنسوبة إلى أهل قوس « … » ومنها قوله في كتاب ماء الشعير «وأمّا الشراب المسمّى سكنجبين» ومنها قوله في كتاب إبيديميا «وأمّا الشراب المتّخذ من الشعيرة التي تسمّى العنبة» ومنها قوله 〈في المقالة الثانية من كتاب إبيديميا〉 «أسفل من الشاخصة التي يقال لها السنّ» ومنها قوله في المقالة الثالثة من كتاب إبيديميا «الأمراض المزمنة التي تسمّى». وهذا باب إن أخذت في ذكر جميع ما يجري منه في كلام أبقراط أفنيت وقتي فيه. ولكن أرى أن أكتفي فيما قصدت له ههنا بواحدة وهي أن أذكر ما قاله أبقراط في الكتاب المعروف بكتاب تدبير الأمراض الحادّة وهو الكتاب الذي يجعل بعض الناس ترجمته كتاب ماء الشعير، فإنّه قال في ذلك الكتاب قولاً هذه حكايته: «وأحمد الأطبّاء عندي هو الذي يكون في الأمراض الحادّة التي تفتك بالأكثر من الناس بينه وبين سائر الأطبّاء شيء يباينهم به في الميل إلى ما هو أجود، والأمراض الحادّة هي بمنزلة هذه التي سمّاها القدماء ذات الجنب وذات الرئة والسرسام والحمّى المحرقة وغير ذلك من سائر الأمراض القريبة من هذه وهي التي جميع الحمّيات الحادّة معها وبسببها حمّيات مطبقة». فهذا قول أبقراط وأنت تجده لم يجعل مخرجه مثل مخرج قول هؤلاء

الأطبّاء البابيّة فيقول: «والأمراض الحادةّ هي التي تكون الحمّيات الحادّة معها وبسببها حمّيات مطبقة وهي ذات الجنب وذات الرئة والسرسام والحمّى المحرقة»، بل استثنى في قوله إنّها بمنزلة هذه التي سمّاها القدماء كأنّه أراد بذلك أنّه مطلق لنا لا محالة ألّا نسمّيها نحن كذلك بل نسمّيها إذا أردنا بغير هذه الأسماء. وممّا يدلّ على ذلك أنّه لمّا أخذ في ذمّ القوم الذين يعتنون بأمر الأسماء ويتفقّدون منها أكثر ممّا ينبغي أن يتفقّدوه قال: «وعساها ليست بيسيرة العدد متى جعل إنسان تعرّفه لأمراض المريض بأن يكون الواحد منها مخالفاً للآخر في شيء ما وظنّ أنّ المرض ليس هو مرضاً واحداً بعينه متى لم يكن اسمه اسماً واحداً بعينه». فأبقراط في قوله هذا قد صرّح بأنّ من ظنّ أنّ الأمراض متى اختلفت أسماؤها فهي أيضاً أمراض مختلفة ضرورة فهو عنده جاهل. وأمّا أهل هذا العصر فإنّهم لا يخطرون هذا ومثله ببالهم فضلاً عن أن يروه صواباً بل متى وجدوا إنساناً سمّى الحمّى التي يسمّونها هم شطر الغبّ باسم غير هذا تهيّئوا بمنزلة العقرب إذا شالت حمّتها ليضربوه كأنّه من المحال أن أسمّي أنا في المثل حمّى من الحمّيات حمّى غبّ ويسمّي إنسان آخر هذه الحمّى بعينها شطر الغبّ. وأنت تجد أن الحمّى التي تمثّلت بها فيما تقدّم من قولي فقلت إنّها تنوب ستّاً وعشرين ساعة وتترك باقي اليومين وهو اثنتان وعشرون ساعة يسمّيها أغاثينس شطر الغبّ وقوم آخرون يسمّونها حمّى غبّ. وليس نتخوّف من قبل الاسم شيئاً من الأشياء الضارّة التي يصير بها المريض إلى خطر أو يشرف على العطب بل إنّما يتخوّف ذلك من الحمّى إذا كانت حمّى حالها حال الحمّيات الرديئة وكانت إنّما تفارق المحموم مقداراً من الزمان لا راحة له فيه ويؤمن منها ذلك إذا كانت على خلاف هذا. فليسمّ الآن أغاثينس هذه الحمّى التي تمثّلت بها شطر الغبّ وأريد أنا ألّا أسمّيها شطر غبّ لكن أسمّيها غبّاً.

فان كان مع مخالفتي له في الاسم قد يقع أيضاً بيننا اختلاف في المداواة فلعمري أنّ اختلافنا اختلاف وقع في نفس الأمور الخاصّة بالصناعة. وإن كان لا مانع لنا — وإن استعمل كلّ واحد منّا اسماً غير الاسم الذي استعمله الآخر — من أن نداوي جميعاً مداواة محمودة فقد افتضح جميع هؤلاء فضيحة بيّنة لأنّهم إنّما يعتنون بمهنة ليست من المهن الضروريّة ولا من المهن النافعة. ولكنّهم يقولون في جواب هذا: «إنّ مهنتنا وإن كانت ليست من المهن الضروريّة ولا من المهن النافعة فإنّ الإنسان إذا كان يتكلّم كلاماً رديئاً …» على أنّهم لا يعلمون أيضاً ما معنى أن يتكلّم الإنسان كلاماً صواباً ولا كلاماً خطأ إذ لا علم لهم بالفرق بين الكلام وبين التسمية ما هو. وأصعب ما في أمر هؤلاء القوم أنّهم لا يعلمون ما الذي إليه قد عدل الناس فضلاً عمّا سوى ذلك، وأكاد أن أقول إنّهم أبعد عن المعرفة ممّن يبحث في وقت من الأوقات عن صواب الأسماء ومن هو العالم بفضيلة الكلام منهم عن المعرفة بما يهربون منه ويكرهونه.

من ذلك أنّ في الحمّى التي تترك اثنتين وعشرين ساعة هم على استخراج المعرفة بالوقت الذي ينبغي أن يغذى فيه المحموم أقدر منهم على معرفة الصواب في الأسماء وإنّهم أيضاً لم يكونوا عالمين بذلك. فإنّهم عند ما يقتصّ ذلك عليهم أحد من الناس يفهمونه عنه أسرع ممّا يفهمون عنه إذا هو قصّ عليهم أمر الألقاب والأسماء وميّز ذلك وحدّده واستقصى النظر فيه. وأنت تقدر أن تعلم بأنّي إنّما قلت في هذا الحقّ إذا أنت سمعت منّي كلّ واحد من القولين. وأنا مقدّم أوّلاً القول الذي منه يتعلّم الإنسان في أيّ وقت ينبغي له أن يغذو المحموم ثمّ أتبع ذلك بالقول الذي يصف كيف تميّز وتحدّد الألقاب والأسماء، فإنّ الابتداء بما هو أعون وأنفع في الصناعة وهو معرفة الوقت الذي ينبغي أن يغذى فيه المحموم أولى.

ونقول إنّك إنّما تقدر على استخراج معرفة الوقت الذي فيه ينبغي أن يغذى المحموم في جميع الحمّيات التي تترك صاحبها حتّى يكون في بعض الأوقات غير محموم بأن تقصد النظر في هذين الأمرين: أحدهما أن تجعل إنالتك إيّاه الغذاء في الوقت الذي هو فيه غير محموم، والآخر أن تتحرّى بأن يكون ذلك الوقت أبعد من وقت مبدأ النوبة التي تتوقّعها من نوائب الحمّى. فمتى لم يجتمع لك هذان كما يجتمعان في هذه الحمّى التي ذكرناها ههنا وقلنا إنّها تنوب ستّاً وعشرين ساعة وتترك اثتنين وعشرين ساعة فينبغي لك أن تغذو المريض في أوّل ما تبتدئ الحمّى في المفارقة، فإنّك إذا فعلت ذلك كنت قد عرفته قبل مبدأ وقت النوبة المقبلة بمدّة طويلة وكان إنالتك إيّاه الغذاء وهو غير محموم. وأمّا متى كان وقت تركها وفتورها وقتاً قليل المدّة حتّى لا يكون بين انقضاء النوبة الأولى ومبدأ النوبة الثانية إلّا مقدار أربع أو خمس ساعات فإنّ ذينك الغرضين يقاوم كلّ واحد منهما صاحبه. ولا بدّ لك حينئذ من أحد أمرين: إمّا أن تبطئ سكون الحمّى فتكون قد غذوت المريض في وقت ليس بالبعيد عن وقت مبدأ النوبة التي تتوقّعها، وإمّا أن تتقدّم في إنالته الغذاء قبل هذا الوقت بمدّة طويلة فتكون قد غذوته وهو بعد محموم. وينبغي لك عند مثل هذه المقاومة أن تحذر وتتوقّى أضرّ الأمرين وتختار وتؤثر أقلّهما مضرّة فتغذو المريض وهو محموم وليس يخفى عليك أنّ ذلك إنّما ينبغي أن يكون في وقت انحطاط الحمّى. فإذا كان وقت ترك الحمّى وفتورها إنّما هو مقدار أربع ساعات فقط فالأجود أن تغذوه قبل انقضاء الدور بأربع أو خمس ساعات أخر كيما تكون معدته عند مبدأ النوبة الأخرى قد خلت من الطعام، فإنّ المحموم إذا لحقه دور الحمّى وفي معدته طعام أضرّ ذلك به غاية الإضرار. فهذا ما أردته من ذكر وقت الغذاء في الحمّى وقد فرغت منه.

وأمّا ما أردته من ذكر المعنى الذي يدلّ عليه اسم هذه الحمّى فأحسبني أحتاج فيه إلى مقالة أطول من المقالة التي وضعها أغاثينس متى أخذت نفسي أن لا أقصّر في شيء منه. فإنّه ليس من الإنصاف أن أتخطّى ما أحال في قوله إيّاه ولا من الصواب أن نعجب من ذكر ما قد غلط وأخطأ فيه بلا ردّ عليه ولا نقض له. وإذ كان الأمر في هذا على ما وصفت فما حاجتي إلى تطويل هذا الكتاب وأنا أقدر أن أرشد من أحبّ أن يعلم كيف فسّر أغاثينس هذا الاسم وكيف شرحه إلى كتاب أغاثينس في شطر الغبّ أن يتعلّم ذلك من المقالة الأولى منه وأرشد من أحبّ أن يعلم ما قلناه نحن في ذلك إلى كتابنا في الحمّيات لينظر فيه ويتعرّف ذلك منه؟

ألا ترى الآن أنّني لمّا أردت الدلالة على وقت غذاء المحموم دللت عليه في أسرع الأوقات ولمّا أردت أن أذكر المعنى الذي يدلّ عليه اسم هذه الحمّى وجدته يحتاج منّي إلى مقالة تامّة؟ فالأمر إذاً على ما وصفت من أنّ الإنسان يقدر أن يعلّم هؤلاء ما ينتفع به أسرع وأوحى من أن يشرح لهم كلّ واحد من الأسماء على النحو الذي يأمرون به في شرح الأسماء والألقاب مذهباً ونحواً واحداً. بل بعضهم يطالب في ذلك أن يكون الشرح مأخوذاً من نفس دلالة الألفاظ وبعضهم يأمرون بكون ذلك مأخوذاً ممّا جرت به عادة أهل هذا العصر وبعضهم يريد أن يكون ذلك غير مأخوذ من شيء أصلاً.

أمّا دلالة الألفاظ فبمنزلة ما جعل بروديقوس الذي قصد إلى الشيء الذي يسمّيه الخلق كلّهم مرّة فسمّاه هو بلغماً، وإنّما فعل ذلك لأنّ اسم البلغم باليونانيّة إذا نظر في اشتقاقه وجد مشتقّاً من الالتهاب والاحتراق، وإنّ هذا الخلط أعني المرار إنّما يتولّد على هذا السبيل.

وأمّا من عادة القدماء فبمنزلة جميع من يريد أن يكون اسم الورم الحارّ باليونانيّة وهو فلغموني لا يصرف إلّا على الالتهاب فقط واسم الأمّ من الأعضاء لا يصرف إلّا على الأغشية فقط.

وأمّا من عادة البابيّة من أهل هذا العصر فبمنزلة القوم الذين لا يطلقون البتّة أن يسمّى الالتهاب باليونانيّة فلغموني ويريدون أن يكون هذا الاسم لا ينصرف على شيء أصلاً خلا الورم الحارّ.

وأمّا شرح الأسماء من غير استناد إلى شيء البتّة فهو فيما أحسب من الأمور التي لا يصدق بها ولا يقبل أن يكون إنسان بلغ به الصمم والخبال أن يقنع بأنّ معاني الأسماء والألقاب لا تستخرج من دلالة الألفاظ ولا من عادة القدماء ولا من عادة أهل هذا الدهر ولا من وجه آخر أصلاً. ثمّ إذا هو سئل عن اسم من الأسماء إلى ماذا ينصرف حكم في ذلك بحكم وأخبر بالمعنى الذي عليه يدلّ ذلك الاسم. ولقد كنت أتمنّى أن أقدر على مثال أو مثالين أتمثّل بهما في مثل هذا الجنون، وأمّا الآن فليس يمكن أن تحصى مثالات ذلك كثيرة. وذلك أنّ كثيراً من الأطبّاء لا يرضون أن يقولوا إنّ الناس يعرفون ما عليه يدلّ قول القائل دم ولا ما يدلّ عليه قول الناس قرحة أو قولهم حمّى أو غير ذلك من الأشياء التي لا نهاية لعددها وإن أحبّوا قلت من الأشياء كلّها.

وإذا ما قالوا إنّه ليس يمكن أحداً من عوامّ الناس أن يعلم ما هو الدم فالأمر فيهم بيّن أنّهم يقولون أيضاً إنّ العوامّ لا يعلمون ما معنى أن يحمّ الإنسان أو يرمد أو أن يشتكي منه موضع من بدنه أو أن يجد مغصاً، وذلك أنّه إن كان كلّ من لا يعرف جوهر كلّ واحد من الأشياء فهو لا يعرف أيضاً ما الذي يدلّ عليه كلّ واحد من الأسماء فالأمر فيه معلوم أنّه ليس هو جاهلاً بهذه فقط بل هو مع ذلك جاهل بجميع الأشياء. وهؤلاء قوم إذا قالوا هذا القول لم يفهموا معرفة طبيعة الدم وجوهره أو جوهر الورم الحارّ المسمّى باليونانيّة فلغموني أو جوهر الرمد فقط بل قد تفوتهم أيضاً معرفة جوهر الحنطة وجوهر الشعير وجوهر الحمّص وجوهر الباقلّاء وجوهر الزيت وجوهر الشراب وإنّهم مع هذا أيضاً ليس يعرفون جوهر شيء من النبات ولا جوهر شيء من الحيوان على الحقيقة كما لا يعرفون جوهر أنفسهم. فعلى هذا القياس ليس ينبغي لهولاء القوم أن يكلفوا الناس تسمية أنفسهم بأسماء يعرفون بها ما داموا لا معرفة لهم بجوهر الإنسان.

وهذا قول أوّل ما سمعته وأنا في ذلك الوقت حدث السنّ قد جرى في مناظرة كانت بين ساطورس وبين فالبس فعجبت منه وبقيت علم اللّه مهموماً. وذلك أنّ ساطورس كان يقول إنّ أكثر الناس لا يعلمون ما هو الدم فلمّا سأله فالبس «فهل تقول إنّ الناس لا يعلمون أيضاً أنّه يجري من الحيوان المذبوح دم ولا من الحيوان الذي ينحر في الأضاحيّ وغير ذلك من الأمور الأخر الشبيهة بهذه؟» جعل يخاصم ويدفع ذلك بنجدة وصرامة ويقول إنّهم لا يعلمون ذلك. وأكثر تعجّبي من هؤلاء الذين حالهم هذه الحال أنّهم قوم معهم غاية المحبّة لاستماع كلّ ما يقال ولم يسمعوا مع هذا أنّ أصحاب الطبائع من الفلاسفة لمّا بحثوا عن طبيعة كلّ واحد من الأشياء الموجودة نسبه بعضهم إلى عناصر غير منقسمة وقال إنّ الأشياء مركّبة من هذه العناصر، وبعضهم نسب ذلك إلى عناصر لا أجزاء لها، وبعضهم إلى عناصر غير متواصلة، وبعضهم إلى عناصر متشابهة الأجزاء، وبعضهم إلى النار والهواء والماء والهواء والأرض، وإنّ كلّ واحد من هؤلاء الذي ظنّ به الناس أنّه قد استخرج من العلم بأمر الطبيعة أكثر ممّا يعرفه العوامّ أقرّ جميعهم بأنّ العلم بذلك التركيب إنّما هو على غاية الحقيقة عند اللّه تبارك وتعالى. وذلك لأنّه ليس العلم بأن أجزاء الماء وأجزاء النار أغلب في تركيب الدم في المثل وأنّ أجزاء الأرض أغلب في تركيب العظم بحقيقة الأمر إن لم يستقرّ عند العالم به كم جزء فيه من النار وكم جزء فيه من الماء وكم من الأرض وكم من الهواء. مثال ذلك أن يحصل على التحقيق بأنّ في الدم من النار أربعة أجزاء ومن الأرض ثلاثة ومن الهواء أربعة ومن الماء ستّة وأنّ طبيعته مركّبة من هذه الأجزاء بهذه المقادير؛ فإنّ هذا هو العلم الحقيقيّ بطبيعة الشيء. وكذلك

الأمر عند هؤلاء أيضاً ولكنّهم من البعد عن إدراك ذلك وتيقّن معرفته على مقدار لا يمكن أن تحيط به الصفة. وإذ كان الأمر على هذا فقد بان أنّ آل ساطورس لا يعرفون طبيعة الدم التي هي طبيعته بالحقيقة فضلاً عن طبيعة ما سواه إذ كانوا ينكرون أن يكون أكثر الفلاسفة علماً وأجلّهم يقدر أن يقف على معرفة ذلك بالحقيقة ويزعمون أيضاً أنّهم ليس يطلبون معرفة هذه الطبيعة التي يعرفها الفلاسفة ولا علم لهم بها. وذلك أنّ ساطورس الذي لا يرضى أن يكون الناس يعرفون الدم ليس يبحث عن عناصر هذا العالم ولا عنده معرفتها فيلزمه من ذلك أنّه إن كان لا يطلق لجميع الناس أن يشيروا إلى هذه الطبيعة ولا إلى طبيعة الدم باسم تعرف به فهو أوّل ممنوع من ذلك بما جشم به نفسه.

ولكنّه يقول أنا أعلّم بالحقيقة أنّ الدم يغذو البدن وأمّا جلّ الناس فليس منهم واحد يعلم ذلك. ومتى قال هذا القول فقد جعل للإنسان سبيلاً إلى التدمّر والغيظ عليه. ولو كان ممّن لا يغضب أصلاً إذ كان إنّما هو إنسان يثلب أصحابه ويعنّفهم بالجهل بأشياء هو غير عالم بها ويظنّ بأنّ المعرفة بالقحل مثلاً هي العلم بالحال في تغيير القحل لبدن الإنسان إذا ورد عليه كيف يكون. وذلك لأنّ المعرفة بالقحل هي معرفة تكون من إدراكه بالحسّ، والعلم بأفعاله غير المعرفة به، وإنّما يكون ذلك بطول التجارب وتعقّد الأمارات والدلائل المناسبة. وأنا أحسب أنّ الجواهر أقدم عند الناس وأنّ ما من شأنها أن تفعله مؤخّر عندهم في الزمان. فالقيصوم إذا في المثل ينبغي أن يعرف أوّلاً ثمّ من بعد ذلك ينبغي أن يبحث عن أفعاله، وعلى هذا المثال يجري الأمر في الأفسنتين والخريق والقنطريون والمشكطرا مشيع والسليخة وكلّ واحد من الأشياء الموجودة. فالدم إذا ينبغي لهم أن يعرفوه أوّلاً ثمّ يعلموا بعد ذلك أنّه يغذو البدن كما قد قال ذلك قوم من الأطبّاء، لكن الإنسان لا يجد مساغاً إلى الردّ عليهم ولا إلى البرهان أنّه يغذو البدن بتّة. وذلك لأنّه ينبغي أن يقع أوّلاً الاجتماع على الشيء الذي فيه الكلام أيّ الأشياء الموجودة هو ثمّ من بعد ذلك ينظر في قوّته وفعله ما هو. فإنّك إن كنت أنت تصرف هذا الاسم إلى شيء ما وأنا أصرفه إلى شيء آخر لم يمكن أن نتّفق أنا وأنت في وقت من الأوقات.

فأقول إنّك في المثل تعني بقولك دم الخلط الأحمر الذي في البدن وإنّ إنساناً آخر من سائر الناس يعني بقوله دم الخلط الأبيض من أخلاط البدن، أقول إنّه متى جرى الأمر على هذا فلا بدّ ضرورة من أن تبقى المنازعة بينكما واقعة إلى ما لا انقضاء له ولا غاية ما دمتما تتحكّمان في معنيين مختلفيين. وإذ كان الأمر على هذا فالواجب إذا أن يقدّم أوّلاً الشرح عن الذي يريده كلّ واحد من الخصمين بقوله دم ما هو ثمّ يصيران إلى البحث عن فعله من بعد ذلك. فأمّا أن يترك الإنسان موافقة المناظر له على الشيء الذي فيه المناظرة والاجتماع معه عليه فأخذه في تحديد لقب ذلك الشيء واسمه الذي يعرف به من الوجوه التي شأنه الضحك فيها. وأنا أقول إنّ هذا إنّما يصير إلى البحث عن الأمور أنفسها مصير إنسان يتراجع إلى خلفه تراجعاً يحيد به عن الاستقامة وإنّه إنّما يحتاج في ذلك إلى رجل من أصحاب القوموذيا يصلح لمثل هذا أن يهزأ بمثل هؤلاء السوفسطائيّين لا إلى رجل من أهل الوقار والفهم. وأمّا أنا فأكتفي في الردّ على هؤلاء بأن يكون ما يتناقضون به يبلغ بهم إلى حدّ التراجع الحائد عن الاستقامة المأخوذ من القوموذيا، وذلك لأنّي لست أرى أنّ فيما أقوله لهم منفعة بتّة إذ كانوا أقواماً حالهم هذه الحال في الخروج عن الأمور التي قد اجتمع الناس عليها كافّة. فأنا بهذا السبب أدع مناظرتهم وأرجع إلى ما كنت فيه فعساه أن ينتفع بذلك أحد منهم إذا فهم ولو هذه

الواحدة: أعني أنّ المعاني التي يقصد إليها بالأسماء قد اختلف الناس فيها بعضهم جعل الاستدلال عليها من دلالة الألفاظ أنفسها وبعضهم جعله من استعمال القدماء الأسماء أو من استعمال أهل دهره وأنّه ليس يمكن يخطر بالبال ولا يقع في الوهم فضلاً عمّا سوى ذلك شرح آخر يعبّر به عن معاني الأسماء، كما فعل أولئك الذين يزعمون أنّ اسم الدم ليس ينبغي أن يصرف إلى الخلط الأحمر الخلو من الأخلاط التي في البدن بل إنّما ينبغي أن يصرف إلى الخلط الذي يغذو بدن الحيوان فقط.

فيجب بحسب رأيهم أن يكون للسرطان البحريّ والحيوان المعروف بكثير الأرجل دم وكذلك لجميع ذوات الجبن حتّى النمل أيضاً والدود وبالجملة لا يكون في العالم حيوان لا دم له. ولكنّا نجد أرسطوطاليس قد قال في كتابه الذي اقتصّ فيه أمر الحيوان مراراً كثيرة لا نهاية لها أنّ من الحيوان ما له دم ومنه ما لا دم له. فليس يخلو هؤلاء القوم من واحد من اثنين إمّا أن يكونوا لم يفهموا هذا عندما سمعوه منه وإمّا أن يكونوا فهموه واستخفّوا به من طريق أنّه عندهم كاذب مع أنّه ينبغي لنا أن نعلم إذا نحن سمّينا الخلط الغاذي للبدن دماً من أين نقول إنّ هذا الاسم أخذ أمن دلالة اللفظ نفسه كما فعل فروديقوس في صرفه اسم البلغم باليونانيّة على المرّة أم من العادة الجارية بين الناس في هذا الوقت أم من عادة القدماء.

وقد كان تبيّن أنّه ليس ههنا وجه آخر تؤخذ منه الأسماء، فلم يبق إذاً إلّا أن تنقل الأسماء عن مواضعها إلى أيّ شيء شئنا، وإن ساغ لنا هذا فلنسمّ الشجر الذي يثمر العنب دلباً ونسمّ الشجر الذي ثمرته التين زيتوناً ونسمّ الحيوانات ذات القرون شقائق النعمان ونسمّ ما يتّخذ للانتقام من الأعداء حلى ونسمّ الطست الذي يغسل فيها الرجل خمراً. يا هذا أليس جميع ما هذا سبيله من نقل الأسماء عن معانيها يؤدّي إلى الدمار ويفسد على الناس متقلّبهم فيما يتصرّفون فيه ويورث فساد الكلام ويفني عمر الإنسان في الخسارة متى تشاغل بالتفوّه بمثل هذا أو باستماعه ممّن يتفوّه به كما قد عرض لنا نحن في هذا الوقت من هؤلاء السوفسطائيّين الأرجاس عندما يضطرّوننا إلى أن نسمع منهم هذا القول؟ وهم قوم لم يعانوا شيئاً من محاسن صناعة الطبّ بل إنّما شأنهم التقنّع فقط. وليس منهم واحد يعلم كيف يتعرّف الأمراض ولا كيف يتقدّم فيعلم ما سيكون منها ولا كيف يداوونها مداواة صواب ولا علماً يقيناً ولا علماً يقارب اليقين، وإنّما يقتصرون على أن يعلموا أنّ للنمل دماً. وإذ قد اقتصرنا على هذا وهو أنّ شجرة التين والدلب والزيتون والسرو وجميع أنواع الشجر ومع الشجر أيضاً ما دونه من النبات الذي يلحق بالشجر ومن الخضر الذي دون هذا وفي جملة القول إنّ جميع أنواع النبات كلّه له دم وكذلك أيضاً الحجارة التي في فروفونتيس إذ كان الدم إنّما هو جسم جعل مهيّئاً لغذاء الأجسام التي يجري أمرها على التدبير الجاري في الطبع وكان كلّ واحد من هذه الأنواع التي ذكرناها قد جعل له في طبيعته خلط معدّ يغتذي به فالشجر في جميع المواضع على هذا وأمّا في فروفونتيس فالحجارة أيضاً كذلك لأنّ الحجارة في هذا الموضع تنمو نماء ليس بدون نماء النبات ومتى كان الشيء ينمو فهو لا محالة يغتذي فما أرى أنّ هؤلاء السوفسطائيّين العجيب أمرهم مجمعون عليه مقرّون به.

وهذا قول قد قلته وأنا لم أنفّع الطبّ بقولي إيّاه شيئاً من المنافع ولا نفّعت به الناس في متقلّبهم وما يتصرّفون فيه من معاشهم، وكذلك هم أيضاً لا ينفّعون الطبّ ولا ينفّعون الناس بتعليمهم إيّانا كلاماً لهم خاصّة لا يعرفه أهل

واحدة من اللغات اليونانيّة الأربع ولا أهل اللغة الخامسة المعروفة بالعامّة. ولكن القوم المغربين من المعرفة بالأمور لمّا تاقت أنفسهم إلى القول قالوا أقوالاً بلغ من هذيانهم فيها أنّني مراراً كثيرة إذا رأيت الواحد فالواحد منهم تذكرّت الشاعر صاحب القوموذيا وعجبت من قوله حيث يقول في رجل ما أراد أن يهجوه إنّه لمن أقوى الناس على الهمز ومن أبعد الناس من القدرة على النطق. فمن أيّ الفريقين ينبغي أن يتعجّب الناس أكثر: من القوم الذين يقبلون من هؤلاء ويذعنون لهم أو من هؤلاء الذين يفرغون أنفسهم لاستخراج مثل هذه الأشياء أم التعجّب لازم للإنسان منهما جميعاً على مثال واحد؟ ونتعجّب ممّن يقبل ذلك ويذعن له لسرعة قبوله إيّاه وإذعانه له ونتعجّب ممّن يستخرج هذه الأشياء الحسنة الجميلة وهم السوفسطائيّون لبراعة حكمتهم.

فلنضرب الآن عنهم أيضاً ونذكر أنفسنا أنّه متى ذكر الإنسان اسماً من الأسماء فالناس يختلفون في استخراج معناه من دلالة نفس تلك اللفظة، وبعضهم يزعم أنّه إنّما يقف على ذلك من العادة الجارية إمّا في عصره وإمّا في عصر القدماء، وبعضهم يزعم أنّ ذلك لا يستنبط من هذه الوجوه ولا من شيء آخر بل يحكم على معنى الاسم حكماً مطلقاً. فنحن الآن نبيّن ما قلناه من هذا بياناً نيّراً بأن نتمثّل في ذلك باسم من الأسماء ثمّ نقطع هذه المقالة. وليكن هذا الاسم اسم الحمّى فإنّه اسم قد جرت به عادة الناس في كلامهم وهو عند العوامّ معروف.

فأقول: إنّا نستدلّ على معنى هذا الاسم في لغة اليونانيّين من دلالة نفس اللفظ أنّه اسم مشتقّ من اسم النار، والمعنى الذي يدلّ عليه اسم النار هو أنّها حرارة كثيرة محترقة.

وأمّا من استعمال الناس لهذا الاسم فإنّا استدلّ على معناه من أنّه إنّما يقول الإنسان إنّه محموم عندما يكون يحترق بالحرارة. وهذا هو المعنى الأوّل الذي قلناه.

وأمّا من استعمال القدماء لهذا الاسم فإنّا نستدلّ على معناه بأن ننظر من الذي ذكره من القدماء وهذا باب فيه طول ولكن الضرورة تدعو إلى استعمتاله بسبب السوفسطائيّين. فإن قلتَ «ومن أيّ القدماء ينبغي للإنسان أن يقتدي؟» قلتُ لك: من واحد من كثير من القدماء الذين لم يعانوا صناعة الطبّ ولا الفلسفة ولا غيرهما ممّا يجري مجراهما وإنّما يحفظون من معاني الأسماء المعاني الساذجة المطلقة فقط التي كان يعرفها جميع الناس في ذلك الوقت. وإن شئت جعلت أوّل من أذكره أنّه منهم أرسطوفانس الشاعر من أصحاب القوموذيا فإنّ هذا رجل ما كان ليتعاطى أن تجري الأسماء التي يستعملها في كلامه وهو يقف في ملعب يجتمع فيه من الناس ذلك المقدار الكثير على غير المجرى الذي يعلم أنّ جميعهم سيفهمه. فأقول إنّ أرسطوفانس هذا لمّا وقف في بعض الأوقات على رأس الملأ وهو الذي يريد أن يعاني شعره سأل جماعة من أهل أثينية أن يتجاوزوا له عن تقصير أن ظنّوه في قوله ولم يستحسنوه بسببه، فإنّه زعم أنّه منذ أربعة أشهر متعذّب ببحوحة دائمة وعلّة يقال لها إيبيالوس وحمّى. ثمّ قال بعد ذلك في العلّة التي يقال لها إيبيالوس إنّها كانت ببرودة يجدها وإنّه كانت تأخذه بعقبها حمّى وإنّ الحمّى ليست بمشبهة البرودة في شيء بل هي في طبيعتها على غاية المضادّة لها. وذلك زعم لأنّ البرودة كان يحتاج منها إلى التدثّر بالوبر من حيث شاء أن يحمى له والحمّى كانت تأخذه بحرارة ونار تشتعل فتدعوه إلى شرب الماء. وأنا ناسخ لك قوله لتسمعه منه فيكون الأمر فيما حكيت لك عنه أبين عندك.

[قال حنين بن إسحاق إنّ جالينوس من بعد ما قال هذا القول أتبعه بنسخ كلام أرسطوفانس، إلّا أنّ النسخة اليونانيّة التي منها ترجمت هذا الكتاب إلى السريانيّ كان فيها الخطأ والسقط مقدار لم يكن يمكنني معه أن أخلّص

معانيها لولا أنّني قد ألفت وتعوّدت فهم كلام جالينوس باليونانيّة وعرفت جلّ معانيه من كتبه الأخرى. فأمّا كلام أرسطوفانس فإنّني لم آلفه ولم أتعوّده فلهذا السبب لم يسهل عليّ تخليصه وتركته. ودعاني إلى تركه أيضاً سبب آخر وهو أنّني لمّا قرأته لم أجد فيه معنى فضل على ما وجدت جالينوس قد حصّله في معانيه، ورأيت أن لا أشغل نفسي به وأتخطّاه إلى ما هو أنفع منه. ثمّ إنّ جالينوس من بعد ما نسخ كلام أرسطوفانس عاد إلى ما كان فيه فقال:]

أتقول يا هذا إنّ أهل أثينية قد كانوا يفهمون هذا الكلام عن أرسطوفانس أم تزعم أنّ كلامه كان عندهم شبيهاً بما لو أنّه قال إنّني منذ أربعة أشهر أجد علّة يقال لها سقندابسس وهي رسول العلّة التي يقال لها بليطورى ويكون أراد بقوله سقندابسس البرد المتقدّم للحمّى وأراد بقوله بليطورى نفس الحمّى؟ ولكنّك تعلم أنّ قوله إيبيالوس هو اسم النافض السابق للحمّى وقوله حمّى إنّما هو اسم يقع على الحرارة الناريّة. فإنّك إن سمعت ما قاله هذا الرجل بعد القول الذي نسخته لك صحّ عندك وقنعت غاية القنوع بأنّ قوله إيبيالوس أيضاً إنّما يدلّ على علّة باردة وقوله حمّى يدلّ على علّة حارّة.

[قال حنين لم أقدر أيضاً على تخليص هذا الكلام الذي نسخه ههنا للسبب الذي ذكرته آنفاً. قال جالينوس:]

وأرسطوفانس على ما بيّنت لك من قوله قد دلّ على نفسه وعلى أهل أثينية أنّهم كانوا يستعملون اسم الحمّى على ما وصفت في كلامهم. وقد يمكنني أن أبيّن لك أنّ جميع أصحاب القوموذيا يستعملون اسم الحمّى في كلامهم على هذا المثال بشهادات أستدلّ بها من أقوالهم كثيرة لو أردت أن تملأ منها كتباً تكون أضخم من كتب مينودتس وكتب منيماخس، ولكنّي أعلم أنّي إذا فعلت ذلك وأثبتها كلّها قال الناس في أنّه قد سها وأنسى نفسه.

فلنضرب الآن عن أصحاب القوموذيا وعن عوامّ الناس أيضاً — فإنّ هؤلاء السوفسطائيّين الأرجاس يفتخرون باستخفافهم بالعوامّ — ونأخذ في النظر فيما قاله القوم الذين قد بحثوا عن صواب الأسماء واستقامتها. ونبتدئ بقول فلاطن فإنّه أقدم القوم كلّهم وهو مع هذا رجل أجداده من أبناء أهل أثينية لا من الهاربة إليها فليس لهم أن يتغلّبوا عليه بمثل ما يتغلّبون على أرسطوطاليس وثاوفرسطس وقلانثس وخروسبس وزينن. فلننظر الآن على أيّ معنى ينصرف اسم الحمّى عند فلاطن وليس نحتاج إلى مسئلة آخر عنه بل نقيس قوله إذا نسخناه على ما نريد:

«اخبرني متى ظنّ رجل من العوامّ أنّه قد حمّ وأنّ الذي وجده سيصير به إلى الحرارة وظنّ مثل ذلك إنسان آخر وكان الطبيب يظنّ خلاف ما ظنّاه بحسب ظنّ أيّ الفريقين نصف ما نريد أن يكون في آخر الأمر، أم قد تقع الصفة بحسب رأي الفريقين كليهما فيكون ذلك الإنسان عند الطبيب ليس بحارّ ولا محموم وعند نفسه حارّ محموم؟». فهذا قول فلاطن في كتابه المسمّى بطاطيطس. وأمّا في كتابه المسمّى طيماوس فقال «والبدن الذي يكون أعظم الأسباب في مرضه غلبة النار عليه يحدث به احتراق دائم وحمّيات».

وإن أحببت يا هذا أن أجيئك بشهادات على تحقيق هذا أيضاً من كلام أرسطوطاليس وكلام ثاوفرسطس فإنّهما قد ذكرا هذا الذي ذكره فلاطن مراراً يسيرة مراراً كثيرة جدّاً أمكنني ذلك. ومن بعد فلاطن وأرسطوطاليس قد يمكنني أن أنقل في ذلك شهادات من كلام قلانثس وكلام خروسبس وكلام زينن فإنّ هؤلاء كلامهم كلّهم كأنّهم ينطقون من فم واحد، يقولون إنّ الحمّيات إنّما تكون عندما يغلب على البدن ويفرط فيه العنصر الناريّ، وإذا كانت

الحمّى عظيمة لم يحتشموا من أن يسمّوها على المثال ناراً كما يسمّيها بقراط ناراً، فإنّه مراراً كثيرة يقول مكان: «أخذته الحمّى»: «أخذته النار»، وإذا هو ذكر الحمّى اليسيرة الليّنة قال إنّ إنساناً «سخن» أو «وجد فتره منصباً». وكذلك ديوقلس أيضاً يقول إنّ الغالب على البدن في الحمّيات النار، وأنفادقلس وفيلسطيون يقولان مثل ذلك كما قال أرسطوفانس في الكلام الذي حكيناه عنه قبيل. فأمّا أبقراط فإنّه ليس يسمّي الحمّى ناراً فقط بل قد يستجيز أن يسمّيها أيضاً لهيباً ويسمّي حرارتها شعلة نار حيث يقول في الجزء الذي ليس بصحيح من كتاب الأمراض الحادّة «وذلك أنّها تتزيّد فيبرد القدمان عندما تشبّ وتشتعل من الصدر ويصعد لهيبها إلى الرأس».

وإن احتجت منّي إلى شهادة أستدلّ بها من كلام أصحاب الريطوريقى لتعلم أنّ أولئك أيضاً إنّما كانوا يريدون بقولهم حمّى الحرارة الناريّة الخارجة عن الطبع فاسمع قول أنطيفون حيث يقول «فهذه أشياء قد أخبرتك أنّ المرّة كانت تفعلها لأنّها كانت في اليدين والرجلين، وأمّا التي كانت تتأدّى إلى اللحم فإنّما كانت إذا كان مقدارها كثيراً أحدثت حمّيات دائمة، لأنّ اللحم إذا صارت إليه حدث به منها فساد في نفس جوهره وتورّم فالحرارة الخارجة عن الطبع تكون من هذا الموضع فأمّا دوامها وإطباقها فيكون من قبل المرّة إذا كانت كثيرة في اللحم لم تنصب وتخفّ سريعاً بل كانت تبقى بأن تصبر عند الحرارة الخارجة عن الطبع». فأنت تجد أنطيفون في كلامه هذا لم يقتصر على أن يسمّي الحرارة الخارجة عن الطبع بالاسم الذي يسمّيها به جميع اليونانيّين من أهل اللغة المعروفة بأطيقيّ وهي ثرمى فقال إنّ في جميع المحمومين حرارة تسمّى بهذا الاسم دون أن أخبرك كيف تكون هذه الحرارة فنسب السبب في كونها إلى المرار. وكذلك قال أيضاً في هذه المقالة الثانية بعينها من مقالاته في الحقّ قولاً نسب فيه السبب في كون الحمّى إلى المرار فقال: «وأمّا كلّ شيء منها يتأدّى إلى اللحم فإنّه يولّد حمّيات شديدة طويلة المدّة». ثمّ إنّه من بعد هذا إذا أمعن في القول قليلاً يلقّب الحرارة التي تكون على غير المجرى الطبيعيّ في النقرس بغير اللقب الذي يلقّبها به جميع أصحابه فيسمّيها فلغموني وحمّى وهذان اسمان يدلّان في هذا الموضع على اللهيب. وقد نستدلّّ على أنّ القدماء كانوا يسمّون كلّ شيء شبيه بالالتهاب فلغموني من شرح كلامهم، فإنّ المفسّرين لكلامهم ليسوا بقليلي العدد. وأمّا أنّهم كانوا يسمّون ذلك أيضاً حمّى فأنت تستدلّ على ذلك من هذا القول الذي أنسخه لك من قول أنطيفون: «فالعروق إذا وردها أكثر ممّا تحتمل انفتحت وبسبب هذا يحدث بها فلغموني، فإذا حدث بها فلغموني وصارت توجع صاحبها وإذا استحكم ذلك سمّيت هذه العلّة نقرساً». فجميع الناس قاطبة حكيمهم وغبيّهم وأهل المنطق منهم وأهل الريطوريقى استعملوا هذا الاسم على هذا السبيل. وإذا كان الأمر كذلك فاقتصاصي ما يعرفه من أمره جميع الناس فضل.

وإنّما ينبغي لي في هذا الوقت أن آخذ في ذكر القوم الذين ليس الاستدلال عندهم على معنى اسم الحمّى من دلالة نفس اللفظ، على نحو ما ظنّ من يزعم أنّ اسم الحمّى باليونانيّة إنّما هو مشتقّ لا من اسم النار ولا من استعمال واحد من عوامّ الناس ولا من استعمال أهل مدينة من المدن له ولا من استعمال رجل من أهل الريطوريقى أو من أصحاب القوموذيا أو من أصحاب الكتب في السير والأخبار أو بالجملة من استعمال إنسان من الناس له ثمّ يتقدّمون بالجرأة منهم وبالتقحّّم على أن يقولوا إنّ الحرارة الناريّة التي تحدث في بدن الإنسان ليست حمّى بل إنّما الحمّى تغيّر حركة نبض العروق إذا كان ذلك بسبب ورم. فإنّ هذا قول من شاء أن يعارضه بأقوال كثيرة مساوية له أمكنه ذلك، منها أنّ

الحمّى هي تغيّر حركة نبض العروق بسبب العصب، وعلى هذا المثال يمكن الإنسان التكلّم عليها بكلّ واحد من سائر الأسباب الأخر من غير أن يقدر على برهان يضيفه إلى كلامه. وممّا يعادل ذلك القول أيضاً هذه الأقوال أنّ الحمّى تغيّر اللون الطبيعيّ بسبب رداءة الأخلاط والحمّى هي تغيّر اللون الطبيعيّ بسبب العفونة والحمّى هي تغيّر اللون الطبيعيّ بسبب الورم المسمّى فلغموني وهو الورم الحارّ وكذلك بسبب الورم المسمّى سقيروس وهو الورم الصلب وبسبب سفاقيلس وهو فساد العضو وبسبب أوديما وهو الورم الرخو وبسبب آفة تكون في الأحشاء. فإنّ الإنسان يقدر متى حدث في اللون الطبيعيّ تغيّر أو في نبض العروق بسبب واحد من هذه الأشياء أن يسمّيه حمّى ويكون في فعله ذلك شبيهاً بأراسسطراطس يسنّ سنناً ويبتدع أسماء بديعة لا يأتي على شيء منها بيان ولوجسمس لا من نفس دلالة اللفظ ولا من استعمال الناس.

أمّا أنا فأعلم أنّ الصبيان إذا حمّوا أحسّوا بالحمّى فدع من قد جاوز حدّ الصبا، فتراهم ساعة يحمّون يرمون بأنفسهم ويقولون إنّهم محمومون. ولم يزل الناس أيضاً على قديم الدهر قبل أن يكون أراسسطراطس إذا اصابتهم حرارة ناريّة قالوا إنّهم محمومون وكذلك جميع من كان بعده. فإنّك لا تجد أراسسطراطس أقنع أحداً بقوله هذا ألّا النفر اليسير الذين هم أهل القنوع بمثل هذا. ومع هذا فقد يجب إن كانت الحمّى إنّما هي خاصّيّة من خاصّيّات حركة النبض أن لا يكون أحد منّا نحن فضلاً عن غيرنا يعلم متى ابتدأته الحمّى ولا يعلم بتّة أنّه محموم. ولكنّا نجد الناس كلّهم يعلمون أن كانوا محمومين ما داموا في وقت حمّاهم يحترقون ناراً ونجدهم لا يحتاجون في ذلك الوقت إلى مسئلة الطبيب هل هم محمومون بل إنّما يسئلون عن حمّاهم هل هي حمّى خبيثة رديئة عسرة البرء أو هي عظيمة شديدة إلّا أنّ برءها لا يعسر. فأمّا إذا هم وجدوا التباساً وتغيّروا عن الحال الطبيعيّة ورأوا ذلك يسيراً فحينئذ يشكّون حقّاً ويحتاجون إلى مسئلة الطبيب عن أمورهم هل بهم حمّى بالحقيقة أو لا. وهم لعمري فيما يفعلونه من ذلك على غاية الصواب، إذ كان التغيّر اليسير جدّاً والزوال عن الحال الطبيعيّة إلى الحال الخارجة عن الطبيعة في أوّله هو أمر لا يقف عليه إلّا الطبيب الحاذق، وكان تزيّد الزوال وخروجه عن المقدار الكبير جدّاً في كلّ واحد من الأشياء الطبيعيّة قد يقف عليه ويعرفه عوامّ الناس فضلاً عن غيرهم.

فالناس كلّهم يسمّون الحرارة الناريّة حمّى، وأمّا أراسسطراطس فيصرف هذا الاسم إلى واحدة من حركات نبض العروق الخارجة عن الطبيعة من غير أن يكون يقدر أن يأتي في ذلك بدليل من دلالة نفس اللفظ كما فعل بروديقوس أو من استعمال واحد من الناس لهذا الاسم. ثمّ إنّه مع هذا يقصد إلى الشيء الذي لا يسمّيه واحد منّا حمّى فيسمّيه حمّى، ويترك الشيء الذي يسمّيه جميع الناس حمّى بلا اسم. فإنّ هذا هو العجب أن يكون لا يرضى بأن ينقل الاسم عن الشيء الذي يعرفه جميع الناس إلى شيء لا يعرفه أحد من الناس حتّى يدع الشيء الذي يعرفه جميع الناس عامّة بلا اسم بتّة. وهو في فعله هذا شبيه بإنسان قدم في المثل من بلاد الهند أو من بلاد النوبة بحيوان غريب فجعل يأمر الناس بأن يسمّوا ذلك الحيوان فرساً ويذمّ من سمّى الحيوان الصهال فرساً. وأنت تعلم أنّ من فعل ذلك فلقائل أن يقول له في البدعة التي ابتدعها والقضيّة التي قضى بها: «نعم أيّها الحكيم نحن نقبل منك ونسمّي هذا الحيوان الذي جئتنا به فرساً على ما أمرت، ولكن أخبرنا أيضاً كيف يجب أن نسمّي هذا الذي لم نزل نسمّي فرساً فإنّه ليس يجوز أن ندع مثل هذا الحيوان ومقدار انتفاع الناس به المقدار الذي هو عليه بلا اسم. وقد كان مطلقاً لنا فيما سلف أن نقول يا غلام أيّتنا بالفرس وأمضّ بالفرس وأسرج الفرس، والآن قد حظرت علينا هذا الاسم فأخبرنا بأّ اسم نسمّي هذا الحيوان

مجرى كلامنا عليه». فبحسب هذا المثل قد ينبغي لنا نحن أيضاً أن نقول لأراسسطراطس: «لمّا كان الناس كلّهم إلى الوقت الذي جئت أنت يسمّون الحرارة الخارجة عن الطبع المنتشرة في البدن كلّه الناريّة الكثيرة المقدار حمّى وكنت أنت في هذا الوقت قد حظرت …» … ليس موقعه منّي موقع كلام يستحقّ أن نضحك منه الضحك المنسوب إلى ديموقريطس بل موقع كلام يستأهل أن نبكي عليه البكاء المنسوب إلى إيرقليطس.

ومن أجل ذلك أنا مقرّ ومعترف بأنّي معطّل لهؤلاء السوفسطائيّين الأرجاس الذين قد جعلوا الأغاليط والحجج على غير عدل متجراً لهم يكسبون به المديح من الناس. وما كان ينبغي لهم أن يطلبوا المديح من الناس من غير جهة العدل بل في جهة العدل والإنصاف ولا يلتمسون ذلك من أمور مفتعلة لكن من أمور فيها بعض النفع ويتحرّون أن يكون نفعاً لجميع الناس فإن لم يتهيّأ ذلك فجلّهم.

فإنّي إنّما وضعت جميع كتابي هذا بسبب هؤلاء السوفسطائيّين، وهو كتاب لو لم يكن في العالم قضيّة هذه القصّة لكان هراء لا ينتفع به ولغزاً كما أنّه ينبغي للإنسان أن يتّخذ السلاح ويجعله عدّة له بسبب الشرار من الناس ضرورة — ولو لم يكن في العالم ولا واحد من الناس إنسان سوء لكان اتّخاذه وإعداده باطلاً — كذلك كلامي في كتابي هذا إنّما هو بمنزلة السلاح والعدد لملاقاة السوفسطائيّين.

[تمّت المقالة الأولى من كتاب جالينوس في الأسماء الطبّيّة والحمد للّه وحده كثيراً دائماً أبداً وهو حسبي ونعم الوكيل وصلواته على أنبيائه أجمعين والحمد للّه ربّ العالمين]