Galen: De optimo medico cognoscendo (On Recognizing the Best Physician)
Work
,
(Fī miḥnat afḍal al-aṭibbāʾ)
English:
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator: Ḥunayn ibn Isḥāq
Translated from: Syriac
(Close)
Date:
between 825 and 873
Source
Albert Z. Iskandar. Galen on Examinations by which the Best Physicians Are Recognized. Corpus Medicorum Graecorum. Supplementum Orientale 4. Berlin (Akademie-Verlag) 1988, 40-136
Download
gal_deoptmedcogn-transl-ar1.xml [119.19 KB]
كتاب جالينوس في المحنة التي يُعرف بها أفاضل الأطبّاء إخراج حنين بن إسحق
١ قال جالينوس إنّ أكثر الناس إنّما يونون في إغفالهم أمر فضائل النفس ومصالحها من الجهل بها. فلو كانوا إنّما يونون أيضاً في توانيهم في أمر حفظ صحّة أبدانهم من جهل بها أو استقلال لقدرها، لكان عجبي منهم أقلّ. ولكنّي وجدتهم قد بلغ من تعظيمهم لها أنّ قوماً من الخطباء ألّفوا قصائد في شكر اللّه والدعاء. ففضّلوا النعمة في الصحّة على جميع النعم، وقدّموا طلبها على جميع ما يطلب، فلم يذمّهم الناس على ذلك، بل حمدوهم وقبلوا قصائدهم، وجعلوها ممّا يقرءونه في هيا كلهم: وتقرّأها من كان قبلنا في هيكل أسقلبيوس. فاشتدّ عجبي منهم، إذ كان هذا قدرها عندهم، ثمّ قد بلغ من توانيهم فيها وإغفالهم لها، أنّهم لا يطلبون علم الصناعة التي يستعيدونها بها، ولا يحسنون أن يميّزوا بين الأفضل من المتعاطين لها وبين الأخسّ. وقد كان المتعلّمون لهذه الصناعة في القديم، قبل أن يغلب على الناس ما قد غلب عليهم من إيثار الرفه، هم أفاضل الملوك وأولاد المتألّهين من أصلابهم والمنسوبين إليهم، لاستحقاقهم ذلك بالفضيلة البارعة فيهم. وكانوا
وأكثر أهل دهرنا يعتمدون في محنة الطبيب على غيرهم: ويحيدون عنها بأنفسهم، وذلك أنّهم يشعرون ويحسّون من أنفسهم بأنّه ليس عندهم علم ولا معرفة يمكنهم بها تمييز هذا وأشباهه. وهم في ذلك، إذ كانوا على ما هم عليه من الجهل، مصيبون.
فلمّا أحسّ بهذا الغباء منهم أهل الخبث من الناس، لم يحتاجوا إلى أن يأخذوا أنفسهم بتعلّم الطبّ والمهارة فيه والحذق به. وقصدوا لتصيّد الأغنياء بالوجه الذي رأوا كلّ واحد منهم سريع الانقياد له، وهذا هو الوجه الذي به يُصاد البهائم. فإن رأوا الأغلب على الموسر الذي يلتمسون ما قِبَله النساء، تأتّوا له بباب النساء. وإن رأوا الغالب عليه العبيد، تأتّوا له بباب العبيد. كما قد نجد كثيراً من الأغنياء قد خدعهم قوم من أصحاب الخدع والمخاريق ومن يدّعي التكهّن. وأكثر الأغنياء قد اعتادوا التملّق ممّن يغشاهم. وقصدهم في جميع ما يصغون إليه ويفعلونه قصد اللذّة. فيعرف ذلك منهم الخبيث من المتعاطين للطبّ فيستميلهم به رغبة منه فيما يلتمس أن يختدعه عن أخذ ماله. فإذا مرض ذلك الغنيّ فإنّ ذلك المتطبّب لما يعرف من ميل صاحبه إلى اللذّات، فليس يقصد به قصد أصلح التدبير له في اجتلاب الصحّة، لكنّه إنّما يدبّره بأوقع التدبير من نفسه وألذّه عنده. على أنّه لو أراد أصلح التدبير لما وقف عليه وقوفاً صحيحاً. وذلك أنّه لم يكن قصده قصد استعمال صناعة الطبّ على ما ينبغي. وإنّما يقصد بها اكتساب الأموال
والعزّ والمرتبة فقط. فليس يطلب أحوط الطرق للمريض، لكنّه إنّما يطلب أحوط الطرق لهوى نفسه. وذلك أنّه إذا سلك بمن هذه حاله هذا الطريق، إن سلم من مرضه كان قوله له أجزِل الثواب. وإن مات لم يكربه موته لأنّه يستريح ممّن يخاف أن يذمّه ويشكوه.
وبروميّة شيء خاصّ ليس يوجد في سائر المدن: أنّه لا يكاد أن يعرف جيران الميّت، فضلاً عن غيرهم، كيف مات، ولا على يديّ من أُوتى من الأطبّاء. والسبب في ذلك عظم المدينة وكثرة أهلها، وشدّة حرصهم على طلب المال والجاه وتشاغلهم بهما. ولم أضع كتابي هذا لمن هذه طريقته: إذ كان لا يتفرّغ لقراءة فضلاً عمّا سوى ذلك لاتّصال أشغاله. لكن إنّما وضعته لمن يرى أنّ أمر بدنه أفضل وأهمّ إليه من جميع ما يملكه. أو إن لم ير أنّه أفضل منه وأهمّ، رأى أنّه ليس بدونه بكثير.
٢ وأنا مفتتح قولي بقول قاله أبقراط، فإنّ هذا الرجل قد كان يعدّ فيما مضى في عداد الأفاضل من المتألّهين، وإن لم يكن له في زماننا ذاك القدر. وجملة القول الذي قاله إنّه ينبغي على المتطبّب أن يكون شأنه أن يتقدّم فيستدلّ على ما يكون من أمر المرضى قبل أن يكون. وأمّا نسق لفظه فهو هذا: «إنّ الطبيب إذا تقدّم فعلم وسبق فأخبر المرضى بالشيء الحاضر ممّا بهم، وما مضى وما يستأنف، وعبّر عن المريض بكلّ ما قصّر عن صفته، وثق منه بخبرة وبصيرة في أمر المرضى،
ودعا ذلك منه المرضى إلى سكون أنفسهم وإلى الاستسلام في يديه. وكان علاجه لهم على أفضل الوجوه، إذ كان يتقدّم فيعلم من العلل الحاضرة ما سيكون من أمرهم.»
وليس يشكّ أحد في أنّ الذي يعلم أمور المرضى على ما ينبغي فهو أولى الناس بأن يثق به المرضى، ليس لمعرفته بأمورهم فقط، لكن لأنّه مع ذلك أيضاً حريّ بأن يستعدّ للشيء المزمع بأن يحدث بهم قبل وقت حدوثه بزمان طويل. وكما أنّ الحاذق بتدبير السفن في البحر عندنا ليس الذي يجهد نفسه في تدبير السفينة إذا عرض للبحر اضطراب، وذلك أنّه لا يؤمن عليه أن يغلبه شدّة قوّة الريح وحركة البحر. لكنّ الحاذق عندنا هو القادر على أن يعلم كون تلك الحركة قبل وقت حدوثها بمدّة طويلة بالمخايل الدالّة عليها. فإن وجد مرسى قريباً، بادر فأرسى فيه. وإن منعه من ذلك عظم اللجّة، احتال بكلّ حيلة لإحراز سفينته وحياطتها من الآفات وهو في مهلة، قبل أن يقع الهول والاضطراب. كذلك أفضل الأطبّاء من علم بما سيحدث بالمريض، فاستعدّ له قبل ذلك بمدّة طويلة وتأهّب وهيّأ ما يحتاج إليه لشيء شيء ممّا يحدث.
وإنّي لأعرف كثيراً من المتطّببين لا يحضرهم ما يحتاجون إليه من الأدوية وسائر الآلة عند العارض الذي يحدث للمريض بغتة. فقد يعرض للمريض كثيراً سقوط القّوة بغتة، إمّا من رعاف يعرف له أو نزف دم من غير المنخرين. وربّما عرض له ذلك من اختلاف مفرط أو من عرق أو من قيء أو من صعوبة الألم. وكثير من المرضى يعرض لهم بغتة، من غير أن يكون أحد ممّن حضره
من الأطبّاء قد تقدّم فأنذر بشيء من ذلك سبات مفرط كان، أو تشنّج في العصب، أو اختلاط في الذهن. وربّما فاجأت الحمّى المريض، وهو يتناول الغذاء، من غير نافض ولا يكون أحد ممّن بحضرته من الأطبّاء قد تقدّم فأنذر بذلك. وإذا كان ذلك، فكيف ينبغي أن يكون هرب الأطّباء ودخولهم في الأرض إذا كانوا حضوراً للمريض ولم يعلموا بما سيحدث به من ذلك العارض! وكانوا إذا لم يستعدّوا ويتقدّموا فيما يحتاجون إليه، فقد عرّضوا المريض للتلف. وذلك أنّه قد يعرض للمريض أيضاً نقصان النفس بغتة وسقوطها، وأن يصفرّ لونه، وتبطل حركة عروقه، ويبرد بدنه برداً شديداً ولا يوجد عند الأطبّاء شيء من معرفة ذلك، فيعتدّوا بجميع ما يحتاج إليه.
وليس ينبغي أن يقتصر من المتطبّب على أن يعدّ جميع ما يحتاج إليه من الأدوية والأغذية والأشربة وسائر الآلة لما يحدث على المريض، لكنّه قد يجب عليه إذا علم أنّ حادثاً سيحدث، أن يلتمس دفع السبب الذي منه يحدث ذلك الحادث، حتّى يمنعه من أن يحدث البتّة به، إن كان ذلك ممكناً. وإن كان ذلك غير ممكن، اجتهد فيما يكسر من عادية ذلك الحادث وينقص من شدّته. وأمّا قولي إنّه ينبغي أن يستعدّ ويتأهّب الطبيب لما يحدث بالمريض، هو بعد أن يتقدّم فيعلم شيئاً شيئاً ممّا يحدث به.
٣ وقد وجدتهم لا يصلون إلى معرفة الحاضر من الأمراض. وكثيراً ما رأيت المريض قد
سقطت قوّته وعرض له عارض غير ذلك شبيه به، والمتطبّبون لا يعلمون من أيّ سبب عرض له ذلك العارض. وقد قال أيضاً في هذا أبقراط قولاً أنا واصفه لك، وهو هذا: «وما وجدت الأطبّاء أيضاً يخبرون من أمر المرضى كيف ينبغي لهم أن يتعرّفوا ما يعرض لهم من سقوط النفس. هل هو لضعف القوّة، أو من هيجان الوجع وشدّته وحدّة المرض وما يحدث من سائر الأعراض من قبل طبيعة البدن وحاله وأصناف ذلك.» وأكثر المتطبّبين، مع تقصيره عن هذا، قد يهزأ بالقائل لهذا الكلام، ولا يحمد من يطلب سبب كلّ شيء ممّا يعرض للمريض، لكنّه يروم أن يهزأ به ويثلبه، ويطعن عليه بأنّه يتكلّف فضلاً لا يحتاج إليه وإنّما طلبه له عبث. وإذا استدُعي منهم فهم الكلام في ذلك قالوا «لسنا سوفسطائيّة ولا أصحاب حجاج، لكنّا ممّن قد يكتفي بعلاج الطبّ على طريق التجارب.» فإذا فُضحوا في علاج المرضى، وجدت بعضهم عند الفضيحة يستعمل القحة والمكابرة لمن يناظره. ووجدت بعضهم يسكت في ذلك الوقت ثمّ يرصد الفاضح له بالحيل والمكر، ويدبّر عليه حتّى يوقعه في بليّة كما دبّر على قوينطس أهل زمانه من المتطبّبين حتّى نُفي. وقد ينبغي أن نصف الطريق الذي به يفتضحون في علاج المرضى. فإنّ هذا هو الغرض الذي قصدنا له في كتابنا هذا.
فأقول إنّه ربّما حضر بعض هؤلاء المتطبّبين المستخفّين بأبقراط وسائر القدماء مريضاً فظنّ
به أنّ قوّته ضعيفة. فرام تقويته بأن يملأ بطنه من البيض والخبز المنقع في الشراب وما أشبه ذلك. ثمّ حضر متطبّب غيره فقال إنّ المريض لا يحتاج إلى شيء من ذلك، ولا إلى المقدار اليسير الذي كان من عادته أن يتناوله. وأمر المريض أن يمسك عن الطعام البتّة. فإذا انتهى إلى ما أمر به انتعشت قوّته وتراجع. وعلم من حضره علماً بيّناً أنّ المريض لو بقي على تدبيره الأوّل لكان سيختنق. وكان في ذلك فضيحة الذي أشار بالأغذية ودلالة على فضل الذي أمر بالحمية.
ومن قدر على أن يفعل الذي فعلناه مراراً كثيرة فيمن تغيّرت قوّته حتّى كاد هؤلاء المتطبّبون أن يخنقوه بالأطعمة في غير وقتها وبلغ من فضيحتهم وكشف عوارهم الغاية القصوى؟ فإنّا قد حضرنا مرضى مراراً كثيرة هذه حالهم، ولم نقتصر على أن منعناهم من الطعام حتّى أنّا استفرغناهم. فلمّا أن فعلنا ذلك، رجعت إليهم القوّة واشتدّت أنفسهم. والاستفراغ الذي يحتاج إليه يختلف بحسب اختلاف حالات المرضى، لأنّ سقوط القوّة والنفس ليس يعرض من سبب واحد، لكنّه يعرض، كما وصف أبقراط، من أسباب كثيرة. وقد شفينا مراراً كثيرة بعض من عرض له هذا بالقيء وحده، ومراراً كثيرة بالإسهال، وكثيراً ما داويناه بدلك اليدين والرجلين. وكثيراً ما فعلنا ذلك بعرق عرّقناه المريض، أو بمنعنا إيّاه من الطعام. وربّما استعملنا من هذه الأنواع التي وصفنا نوعين معاً إذا رأينا ذلك أصلح.
وإنّي لأعرف عدّة من المرضى داويتهم من هذا العارض بمنع من الطعام مدّة طويلة مع
شرب دواء. وأعرف آخرين ممّن كان لهم الغشي، فضلاً عن نقصان القوّة، داويتهم بالمنع من الطعام البتّة، وبدلك كثير لليدين والرجلين، وكثيراً ما أمرت مع ذلك بدلك الفقار كلّ. فلمّا أن فعلت ذلك رجعت قوّتهم إليهم وبرءوا برءاً تامّاً. وكثيراً ما فعلت خلاف هذا. فرأيت قوماً قد اعتزموا على الاقتصار فمنعتهم من ذلك وأعلمتهم أنّهم إن اقتصروا وقعوا من الغشي فيما يكرهونه. فجميع من عصاني منهم عرض له من الغشي ما أنذرته به. وأعلمت قوماً أنّهم إن عولجوا بالحقنة عرض لهم هذا العارض الذي وصفت بعينه. ومنعت قوماً من أن يستعملوا أضمدة تحلّل وترخي، ومن استعمال الدهن الحارّ وأنذرتهم بأنّهم إن فعلوا ذلك أحدث لقوّتهم سقوطاً. فلم يعصني أحد منهم فانتفع بما أشرت به عليه من ذلك. وما أحصي كم من مريض أنذرته بأنّ شربه ماء العسل يورثه ضعفاً وسقوط قوّة، فتبيّن له ذلك. وكم من مريض أعلمته بأنّ شربه ماء العسل يزيد في قوّته، فوجد ذلك على ما وصفت له. فعند هذه الأشياء كلّها وأشباهها من أعمال الصناعة يفتضح المتعاطي للطبّ وهو لا يحسنه، ويتبيّن فضيلة المحسن فيه.
وكثير من المتطبّبين لا يوجد عندهم إذا سئلوا عن شيء من هذه الأشياء وأشباهها جواب،
فضلاً عن أن يبيّنوا بالفعال حذقاً بالصناعة التي يتعاطونها لأنّهم لم يتعلّموا هذا العلم ولا ارتاضوا فيه. وقد يكون أن يتعلّم المتعلّم هذا العلم، ثمّ يتكاسل ويتهاون بالارتياض فيه والاستعمال له، فيقصّر عمّا يبلغه من قد ارتاض فيه. فأمّا من لم يتعلّمه البتّة فليس يمكن أن يرتاض فيه. فإنّ من لم يتعلّم في المثل ما قال أبقراط من أنّ «أوجاع العين يسكّنها شرب الشراب الصرف أو الحمّام أو التكميد أو الفصد أو الدواء المسهل»، فكيف يمكنه أن يرتاض عند نفس العمل في إصابة الوقت الذي يحتاج فيه إلى كلّ واحد من هذه الأشياء؟ فأمّا من قد علم هذا من أبقراط، فهو خليق بأن يجد الوقت الذي يصلح فيه كلّ واحد منها.
وما رأيت أحدا قطّ، لا من معلّمي ولا من غيرهم من سائر أهل دهرنا، أمر قطّ من به وجع العين بشرب شراب كثير، ولا أدخله إلى الحمّام. لكنّي لمّا علمت ذلك من أبقراط أقدمت فاستعملته، وأنا إلى هذه الغاية استعمله ولم أخطئ فيه من دهري مرّة واحدة.
ولا أعلم أحداً ممّن بالحضرة إلّا وقد علم كيف داوينا الرجل الذي كان يضرّه كلّ شياف يكتحل به حتّى برأ. وكانت في عينه قرحة عظيمة مؤلمة. وكان مع ذلك الغشاء العنبيّ قد نتأ. فتأنّيت لذلك النتوء حتّى سكن وللقرحة حتّى اندملت من غير أن أستعمل شيئاً من الشيافات. واقتصرت على أنّي كنت أهيّئ له في كلّ يوم ثلاثة ألوان من المياه: أحدها ماء قد طبخ فيه حلبة، والآخر
ماء قد طبخ فيه ورد، والثالث ماء قد خلطت به زعفراناً مسحوقاً غير مطبوخ. وقد رآني جميع الأطبّاء الذين بالحضرة وأنا أستعمل هذه المياه، فلم يقدر أحد منهم أن يمتثل استعمالي إيّاها. وذلك أنّهم لا يعرفون الطريق والمقدار الذي يحتاج أن يقدّر في كلّ يوم من كلّ واحد من هذه المياه، على حسب ما تحتاج إليه العلّة. وذلك أنّ تقدير ما كان لتلك المياه: عند شدّة الوجع وغلبته بنوع، وعند نفور النتوء بنوع، وعند كثرة الوسخ في القرحة أو الزيادة في عمقها أو بقائها بنوع. ولم أستعمل شيئاً سوى هذه الثلاثة المياه. وبلغت ما أردت من سكون نتوء الغشاء العنبيّ الذي كان نتأ وتسكين الوجع وتنقية القرحة في وقت ما كان الوسخ كثيراً فيها، وإنبات اللحم في الوقت الذي كانت فيه عميقة وإدمالها في وقت ما امتلأت. ولست أخلو في يوم من الأيّام من أن أبيّن من مبلغ الحذق بهذه الصناعة ما هذا مقداره في العظم أو شبيهاً به. وأكثر من يرى هذا من الأطبّاء لا يعلم أين هو مكتوب، فضلاً عمّا سوى ذلك. وبعضهم إذا رأى ذلك لقّبني البديع الفعل وبعضهم البديع القول.
٤ مثل قوم حضرتهم من كبار أطبّاء روميّة في أوّل دخلة دخلتها عند فتى محموم وهم يتناظرون في قصده ويختصمون في ذلك. فلمّا أن طال كلامهم قلت لهم: «إنّ خصومتكم فضل. والطبيعة عن قريب ستفجّر عرقاً ويستفرغ من المنخرين الدم الفاضل في بدن هذا الفتى.» فلم يلبثوا أن
رأوا ذلك عياناً. فبهتوا في ذلك الوقت ولزموا الصمت. وأكسبني ذلك من قلوبهم بغضة، ولقّبوني البديع القول.
وحضرت مرّة أخرى مريضاً وقد ظهرت فيه علامات بيّنة جدّاً تدلّ على الرعاف. فلم أكتف بأن أنذرت بالرعاف حتّى قلت لهم إنّه يكون من الجانب الأيمن. فثلبني من حضر ذلك من الأطبّاء، وقالوا: «حسبك! ليس بنا حاجة إلى أن تتنبّأ لنا أكثر من هذا.» فقلت لهم: «بلى وأزيدكم مع ذلك وأنذركم أنّكم عن قريب سيكثر اضطرابكم ويشتدّ وجلكم من الرعاف الحادث، لأنّه سيعسر احتباسه. وذلك أنّي لست أرى طبيعته تقوى على ضبط المقدار الذي يحتاج إليه من الاستفراغ والوقوف عنده.» فكان الأمر على ما وصفته. ولم يقدروا الأطبّاء على حبس ذلك الدم، لأنّهم لم يعلموا من أين ابتدأت حركته. وقطعته أنا بأهون السعي. فسمّاني أولائك الأطبّاء البديع الفعل.
فمن هذا وشبهه ليس يعسر على الناس، وإن لم يعرفوا شيئاً من الطبّ، أن يفرّقوا بين الطبيب الحاذق، وبين من قد انتشر له الذكر عن غير خبر. ومن شأن الحاذق أن ينذر بأشياء كثيرة من أشباه هذه الأشياء. والمموّهون لا يعرفون في أيّ كتاب كتبت تلك الأشياء، فضلاً عمّا سوى ذلك. ويغذون المريض وهو إلى الاستفراغ أحوج، ويستفرغون الدم ممّن إذا استفرغ سقطت قوّته ووقع في الغشي، وهو إلى ترك الدم أحوج. ولا أدري أيّ هذين الفعلين أقبح. وقد وصف
ذلك بالقبح أبقراط قبلي حين قال: «إنّ من أردأ الأشياء أن يكون ضعف المريض لشدّة من الوجع وحدّة من المرض فيؤمر بفضل تناول من شراب أو حسو أو طعام والآمر بذلك يتوهّم أنّ ضعف المريض إنّما هو من خوائه. ومن أقبح الأشياء أن يكون ضعف المريض من خوى فلا يعلم ذلك الطبيب ويضيّق على المريض في الغذاء.» وليس يسلم الطبيب من هذا القبح إلّا بالوجه الذي وصفه أبقراط من تقدمة المعرفة بالأشياء الحاضرة والأشياء الحادثة بعد. وهذا الذي وصفنا من أمر المتعاطين للطبّ على غير حذق به قبيح. وأقبح منه كثيراً ما نراه منهم دائماً: أنّ المريض يختلط ويثب من فراشه عن غير فهم وتشتدّ حمّاه وربّما عرض له نَفَس شديد بغتة مع ما وصفنا، أو نقصت نفسه وذبلت أو عرض له وجع شديد ونافض، أو غير ذلك ممّا أشبهه. واشتدّ اضطراب أهل المريض لتوقّعهم له الموت، والطبيب فيما بينهم حائر عديم الحيلة. ثمّ لا يلبث المريض أن يعرض له رعاف على طريق البحران، أو عرق أو تستطلق بطنه أو يعرض له قيء. وإن كانت امرأة انبعث طمثها، أو عرض غير ذلك ممّا أشبهه ولم يتقدّم من حضر من الأطبّاء فيعلم ذلك قبل حدوثه وينذر به.
ولا أعلم شيئاً أقبح من هذا برجل يتضمّن للناس صناعة يشفي بها المرضى، وهو يجهل حركات الطبيعة وتهوله الأعراض التي هي عند العوامّ هائلة، بمنزلة من ليس عنده من الطبّ علم. ولا يقدر على أن يميّز بين ما يكون على طريق الواجب وبين ما يكون على خلاف ذلك.
وليس كذلك قال أبقراط، لكنّه قال: «لا تثقّن بخفّة من المرض الذي لم يأت على الطريق الواجب؛ ولا يهولّنك أمر صعب أتى على غير طريق الواجب.» وقد أعلمنا في كثير من كتبه ما الشيء الكائن على طريق الواجب. وذلك أنّ لكلّ واحد من الأمراض طبيعة خاصّة: فبعضها طبيعة سليمة، وبعضها طبيعة قتّالة؛ وبعضها طبيعة حادّة، وبعضها طبيعة مزمنة. ولكلّ واحد من الأمراض أيضاً مقدار من العظم وحال من السلامة والخبث. فإذا عرف الطبيب هذه الأشياء لم يخف عليه ما يكون بطريق ما يوجبه المرض، وما يكون من سبب آخر غيره. ولم يهله عرض يعرض كما يهول الجاهل بالطبّ، إذا كان ذلك العارض إنّما يدلّ على بحران، لا على موت؛ ولم يثق براحة جرى أمرها على غير الطريق الواجب. وجميع هذه الأشياء متّصلة بصواب العلاج.
وذلك أنّ الذي يعرف طبيعة المرض ومقدار عظمه منذ أوّله، يبدأ فيقيسها إلى قوّة المريض. فيستدلّ من ذلك في أيّ دور من أدوار الأيّام الأربعة يكون بحرانه، ثمّ يعلم كيف يكون البحران: أسليم يكون أو قتّال. ثمّ إنّه أيضاً يقدّر الغذاء من أوّل المرض، على حسب ما يشاكل طبيعة المرض، وقرب بحرانه وبعده. فإذا علم أنّ المرض ينتهي منتهاه ويأتي بحرانه في الأربعة الأيّام الأول، دبّر المريض بغاية التدبير اللطيف. وإذا علم أنّ منتهاه وبحرانه يتأخّر إلى اليوم السابع، دبّره أيضاً بتدبير لطيف، لكنّ لطافته أقلّ لطافة من الأوّل. وإذا علم أنّ منتهى المرض وبحرانه يجاوز السابع، كان ما ينقص من تلطيف الغذاء أكثر. وإذا علم أنّ المرض سيطول أكثر من ذلك وبزمن، دبّر المريض أوّلاً بتدبير فيه بعض الغلظ. فإذا دنا منتهاه دبّره بتدبير ألطف، وإذا حضر المنتهى دبّره بغاية التدبير اللطيف.
٥ فإذا أردت أن تمتحن من أمر الطبيب أوّلاً هل يعلم أمر الطبّ أم لا يعلم، فابدأ أوّلاً اسئله عن هذه الأشياء التي وصفت: «أين قالها أبقراط، وكيف قالها، وما البراهين التي يثبتها بها؟» فإنّك تجد كثيراً ممّن هو في دهرنا هذا مشهور بالطبّ، مقبول القول فيه، لا يعلم في أيّ الكتب ذكر أبقراط هذه الأشياء ولا يقف على القياس الذي أدّاه إليها. وإذا وجدت هذا فقد ميّزت بينهم وبين أخسّاء الأطبّاء فضلاً عن أئمّتهم وأفاضلهم. وإن وجدت أحداً منهم إذا سألته عن شيء من هذه الأشياء والأمور يخبرك به ويوقفك عليه من الكتب فسله: «هل وافق أرسسطراطس أبقراط فيما أمر به من تدبير المرضى أو خالفه في شيء، أو في أشياء، أو في جميع الأشياء؟ أو أمر بضدّ ما أمر به؟» وكذلك فسله عمّا قال سائر المشهورين من الأطبّاء وهم ديوقلس وفلسطونيقس وفولوطيمس وفركساغورس وديوخس وإيروفلس وأسقلبيادس. فإنّه إن كان سلك في التعليم المسلك الذي ينبغي قدر أن يصف لك رأي كلّ واحد من هؤلاء. فإن كان بالحقيقة كاملاً، فإنه يصف لك مع ما يصف من أقاويل القدماء، أقاويل من أتى بعدهم من الأطبّاء، وما خالفوهم ووافقوهم فيه. ثمّ يخبرك بما يحكم به فيما اختلفوا فيه، ويبيّن لك صواب من أصاب منهم، ويكشف خطأ من أخطأ. إلّا أنّ هذا الطريق ممّا يحتاج أن يكون الممتحن للطبيب به قد ارتاض في علم البرهان. وذلك أنّه لا يقدر أن يفهم البرهان إلّا من تقدّم فتعلّمه وعرفه: كما أنّه لا يقدر أن يحسب إلّا من قد تعلّم الحساب. ولو كان الأغنياء وذوو المقدرة والجاه يميّزون بين البرهان الصحيح وبين القول المموّه لكانوا قادرين على أن يمتحنوا كلّ واحد من الأطبّاء بالمناظرة من غير أن يحتاجوا إلى اختياره في علاج المرضى. ولكن إذا كانوا إلى جميع الأشياء أسرع منهم
إلى الارتياض في هذا، فلا أقلّ من أن يبحثوا عنهم ويمتحنوهم في علاج المرضى ويعرفوا مقدار كلّ واحد منهم، وكم نقصانه عن الطبيب الكامل. وذلك أنّ الطبيب الكامل يتقدّم فيعرف منذ أوّل المرض، طبيعة المرض، ووقت منتهاه، وبحرانه متى يكون. والذي ليس كذلك، فعلى حسب ما يتبيّن من خطئه في كلّ واحد من هذه الأشياء يكون نقصانه عن الكامل.
فتثبّت في هذا الموضع خاصّة وتفهّم عنّي ما أضف لك، إن أردت أن تعلم بالحقيقة كيف يمتحن الطبيب الفاضل. اعلم أنّ تقدمة المعرفة بمنتهى كلّ واحد من الأمراض وبحرانه ليس هو أمراً ثابتاً قائماً، كما يظنّ أكثر المتكهّنين الذين يظنّون ويقولون: إن هذا المريض أحسن التدبير أو أساء التدبير، فلا بدّ أن يبرأ في ساعة كذا من يوم كذا؛ وهذا المريض، كيف كانت حاله، فلا بدّ أن يموت في ساعة كذا من يوم كذا. وهذا الطريق من تقديم القول ينبغي أن يؤخذ به المتكهّنون. وأمّا تقدّم قول الأطبّاء فليس هذا طريق امتحانه. وذلك أنّه قد يمكن أن يكون الطبيب قد تقدّم وقضى بأنّ المريض يبرأ في اليوم السابع في المثل، ويكون المتولّي لعلاجه طبيب غيره، فيتطاول به المرض إلى الحادي عشر. وذلك أنّ ما يفعل بالمريض على غير ما ينبغي بعد قضيّة الطبيب يؤخّر انقضاء مرضه. وذلك يعرض على وجوه كثيرة. فربّما هيّج ما يكون من ذلك المرض في غير الوقت الذي ينبغي، فيحرّك البحران في غير وقته ولم يجر أمره على ما ينبغي. وربّما كانت الطبيعة مختاجة إلى أن تعان على دفع الشيء المؤذي، ولم تجد من يعينها على ذلك، فتأخّر البحران عن وقته؛ وربّما لم تكن الطبيعة متهيّئة لحركة سريعة للبرء، ولكنّها تعمل في غلبة المرض قليلاً قليلاً؛ أو يعمل المرض في غلبتها قليلاً قليلاً، فيعرض عند ذلك ممّا يفعل بالمريض على غير ما ينبغي أن يتأخّر البرء، أو يتقدّم الموت. وذلك أنّ تقدمة المعرفة التي تكون منّا بأمر بحران الأمراض، متى تكون ليست على جهة التماس معرفتها، تكون على حسب
اتّفاق ما يتّفق وما يعرض من خارج. †لكن متى تكون على قدر حركة الطبيعة لما يظهر لنا منها†. ولذلك قالت القدماء: «إنّ الطبيب خادم الطبيعة.»
وليس ينبغي أن يكون صاحب تقدمة المعرفة غير المتولّي للعلاج، أعني علاج المريض، إذا أردت أن تمتحن قضيّته على طريق العدل والإنصاف. ولذلك تسمعني متى قضيت قضيّة فقلت في المثل: «إنّ هذا المرض لا يجاوز الحادي عشر يوماً»، ثمّ استثنيت فقلت: «وإنّما ينبغي أن يمتحن قولي وتعرف صحّته إن كنت أنا المتولّي لعلاج المريض وتدبيره.» وذلك أنّه قد يمكن أن يتولّى غيري علاجه فيخطئ عليه خطأ كثيراً، فيطول مرضه إلى العشرين يوماً. وذلك أنّ تقدمة المعرفة موصولة بالعلاج، والعلاج موصول بتقدمة المعرفة، وليس ينبغي لأحد أن يقطع أحد الأمرين عن الآخر ثمّ يمتحن به الطبيب.
وجميع العلامات التي ذكر أبقراط أنّها تدلّ على الأمراض التي يأتي بحرانها في الأربعة الأيّام الأول، أو في الأربعة الثانية أو في الثالثة أو فيما بعد ذلك، ليس شيء منها يغادر البحران الذي يدلّ عليه وقته، إذا جرى أمر المريض كلّه من أوّل أمره إلى أن ينتهي منتهاه على ما ينبغي. وقد وصف هذه المعاني أبقراط نفسه، فقال: «إنّه ليس ينبغي لك أن تقتصر على فعل ما ينبغي أن تفعل دون أن يجري المريض ومن يحضره، والأشياء التي من خارج، هذا المجرى.» [ومن قوله أيضاً، «وقد ينبغي لك أن لا تقتصر على توخّي فعل ما ينبغي دون أن يكون ما يفعله المريض كذلك ومن يحضره، والأشياء التي من خارج.»] فكأنّه قال إنّك إذا قصدت أيّها المتطبّب إلى أن
تختبر وتمتحن بالطريق العادل ما أصفه لك في كتابي هذا، فلا ينبغي لك أن تقتصر على أن تتحرّى فعل ما ينبغي أن تفعله، وتظنّ أنّك إذا فعلت ذلك فقد اكتفيت به، دون أن يفعل المريض كلّ ما تأمره به، وينهى عن فعل كلّ ما تنهاه عنه، ويفعل مثل ذلك من يخدمه، وتكون الأشياء التي من خارج غير محدثة حدثاً على المريض. فإنّه إن حدثت على المريض آفة من أحد هذه الوجوه، فليس ينبغي لك أن تتوقّع حدوث الأشياء التي أحكم بها.
ومثال ذلك أن ننزل أنّا قلنا في مريض إنّه يبرأ من مرضه ببحران يصيبه في اليوم السابع، واتّبعنا في ذلك طريق أبقراط، ثمّ إنّه عرض في اليوم السادس من مرضه حريق في الدار التي ينزلها، فدعاه ذلك إلى أن وثب عرياناً هارباً منها. ثمّ أصابه حين برز ريح ومطرد وبرد، فأقول إنّه إن كانت هذه حال المريض، فليس ينبغي أن يمتحن فيه ما تقدّم الطبيب فحكم به عليه. فإنّه قد يمكن أن ينال المريض ممّا عرض له من الضرر أن يموت، فضلاً عن أن لا يكون البحران في اليوم السابع. فأمّا متى لم يحدث حادث من خارج يدخل بسببه على المريض ضرر فيما بين وقت حكم الطبيب بما قد حكم، وبين الوقت الذي حدّه، ثمّ مات المريض أو لم يبرأ من علّته في اليوم السابع، أو برأ من غير بحران، فعند ذلك يلزم الطبيب الذي قد تقدّم فحكم بما حكم به من الخطأ في الوجه الذي لم يصحّ من الوجوه التي حكم بها.
فإنّه قد يظنّ في هذا الحكم وأشباهه أنّ الطبيب إنّما يحكم بشيء واحد. وليس هو بالحقيقة شيئاً واحداً إذا تبحّرته. لكنّه ربّما كان الشيء الذي يحكم به أشياء كثيرة مخرجها في
اللفظ مخرج شيء واحد. ومثال ذلك أنّ هذا الحكم الذي جعلناه مثالاً فيما تقدّم يشتمل على أشياء كثيرة: أوّلها، أنّ المريض يسلم من مرضه؛ والثاني، أنّ برأه يكون ببحران يصيبه دفعة، لا بأن ينتقص مرضه قليلاً قليلاً؛ والثالث، أنّ البحران الذي يصيبه بحران تامّ، فإنّه قد يكون من البحران ما يميل المريض إلى الصحّة ولا يبلغه إيّاها، فينقص من شدّة المرض نقصاناً كثيراً ولا يقلعه القلع التامّ؛ والرابع، أنّ البحران المحمود يكون من غير جهد وخطر، فإنّ من البحران ما يكون معه جهد وخطر شديد؛ والخامس، أنّ البحران يكون في اليوم السابع؛ والسادس، أنّ البحران يكون باستفراغ أو بخراج؛ والسابع، أنّه يكون بنوع كذا وكذا من الاستفراغ أو من الخراج.
وإنّما ينبغي أن يختبر كلّ واحد من هذه الأشياء ويمتحن، ما لم يحدث على المريض حادث، إمّا من شيء من الأشياء التي من خارج، وإمّا من طبيب جاهل يفعل بالمريض ما لا يحتاج إليه، وكذلك أيضاً إن أخطأ المريض على نفسه فأحدث لها بليّة. فليس يلزم من قبل ذلك حكمنا الخطأ. لكنّه إنّما ينبغي أن يختبر ما يحكم به، ويمتحن ويتعرّف صوابه من خطئه، إذا كانت جميع هذه الوجوه مستقيمة ولم يحدث من واحد منها حادث يضرّ.
ومن قبل هذا ترانا دون غيرنا لثقتنا ومعرفتنا بهذه الصناعة، ندعو المرضى إلينا على شريطة، فنضمن لهم البرء التامّ من مرضهم إذا كان سليماً، إن أطاعوا في جميع ما نأمرهم به. وترى غيرنا ممّن هو خسيس الحال في أعمال هذه الصناعة، عظيم الحال في منازل ذوي اليسار. من قبل أنّهم لا يقدرون على تضمّن شيء صحيح للمرضى، لا يلتمسون منهم الطاعة لهم والانقياد. لكنَّهم ينزلون أنفسهم من المرضى بمنزلة العبيد لهم، ويطيعونهم ويساعدونهم على شهواتهم. ولا
يقصدون بهم قصد ما هو أوفق وأنفع لهم، إذ كانوا يجهلونه ولا يعرفونه. ويبتغون بهم ألذّ الأشياء عندهم، عند كلّ واحدة من أحوالهم، ويبلغون من العبوديّة لهم إلى غايتها. وهم في ذلك عبيد سوء لا تنفع خدمتهم، بل تضرّ.
وقد يمكنك تعرّف صحّة ما ذكرت لك من أنّ «المصيب في تقدمة المعرفة ليس هو غير المصيب في العلاج.» ولكنّه يحتاج في صحّة ما يتقدّم بمعرفته كما قال أبقراط «ألّا يقتصر الطبيب على توخّي فعل ما ينبغي دون أن يكون ما يفعله المريض، ومن يحضره، والأشياء التي من خارج.» ويحتاج في وجود بعض ما ينتفع به من العلاج إلى أن يتقدّم فيعلم، كما قال أبقراط: «ميل الطبيعة إلى أيّ النواحي هو» ممّا قد ترانا نفعله دائماً. فإنّه ليس هذا موضع تفسير ما ذكره أبقراط وشرحه وتبيينه، فقد فعلت ذلك في غير هذا الكتاب. ولعلّ قائلاً يقول، كما قد يقول كثير من الأطبّاء، إنّ الأشياء التي يصفها أبقراط عجيبة، إلّا أنّه لا يمكن أن تفعل. فأنا لذلك ذاكر لهم قليلاً من كثير ممّا قد رأونا فعلناه، ليكون مثالاً يستدلّ به على انّه لا يمكن أحد أن يعالج المرضى علاجاً مستقيماً، دون أن يتقدّم فيعلم الأشياء الحاضرة والسالفة والمستأنفة، على ما قال الحكيم أبقراط. وعلى أنّه ليس شيء ممّا وصفه أبقراط إلّا وقد يمكن أن يصل إليه الطبيب الكامل. وليست بي حاجة إلى ذكر شيء ممّا قد تقادم عهده. وأنا أصف أمر مريض عالجته قريباً.
٦ وذلك أنّ رجلاً أتاني يسألني عيادة مريض قد بلغ به الضعف إلى أن قد دعا أهله وأخلّاءه، لما يرون من ضعفه، إلى أن يغذوه في الليل، فضلاً عن النهار، مرّتين. وكان به مع ذلك اختلاط
في ذهنه، وحمّى شديدة. فلمّا أن مسست عرقه، قضيت أنّ في أحشائه ورماً عظيماً. وكان قد بلغ من شأن ذلك الورم أنّه كان يظهر للجاهل بالطبّ بالنظر واللمس. فجعل من حضر منهم يعجب من أنّني عرفت من نبض العرق أنّ في الأحشاء ورماً. وإلى هذا بلغ الأمر في زماننا هذا من دروس محاسن هذه الصناعة. فلمّا نظرت في جميع أمور هذا المريض بشّرت أهله بسلامته وأعلمتهم أنّه لا بأس عليه. فسألوني عمّا ينبغي أن يفعل به، فأمرتهم أن يقطعوا عنه الغذاء، ويدعوه قاراً هادئاً، ولا يحرّكوا من أمره شيئاً إلى أن آمرهم بأمري. وإنّما أمرتهم بذلك لأنّي علمت علماً يقيناً أنّ مرض ذلك المريض قريب من منتهاه، وأنّ بحرانه قد حضر، وأنّه لم يبلغ من ضعف ذلك المريض ألّا يحتمل أن يقطع عنه الغذاء يوماً واحداً. فإنّه إذا تقدّم الطبيب فعرف هذه الأشياء دلّه ذلك على ما ينبغي أن يفعل. والفصل الذي قاله أبقراط: «إنّ المرض إذا بلغ منتهاه، فيجب أن يستعمل من التدبير ما هو في الغاية من اللطافة.»
فقد رأيت أنّا وجدنا بهذا المريض، حين فتّشت عن خبره، أنّ هذا المريض قد أطعم بالليل مرّتين، لما خافوا عليه من الضعف. وكان من رأيهم أن يطعموه بالنهار أكثر من مرّتين. فحسمته الغذاء، وأمرته ألّا يتناول الغذاء بتّة، فضلاً عن أن آذن في أن يطعم مراراً كثيرة. وخبّرنا أولياءه بأنّه يحتاج إلى استفراغ كثير، وإنّي لولا أنّي رأيت طبيعته مستعدّة لفعل ذلك في غد ذلك اليوم، لكنّا نحن سنفعل ذلك. فلّما أن كان هذا، اشتدّت الحمّى بالمريض منذ أوّل الليل
بأكثر ممّا كانت تشتدّ وزاد اختلاط عقله، فأرعب ذلك أهله. فأعلمتهم أنّه لا بأس عليه وأنّه سيعرق عند انحطاط تلك النوبة من حمّاه. ثمّ فارقتهم. فمضت بالمريض تلك الليلة ولم يعرق، وجعل اختلاط عقله يتزيّد حتّى بلغ من ذلك إلى الغاية القصوى. فأتاني رجل من أهله في السحر فأخبرني بما كان من أمر المريض. وسألني أن أنظر له فيما ينبغي أن يعالج به. وجعل يومئ إليّ أنّي قد أخطأت فيما تقدّمت بالحكم عليه من أمر محنتي لعرقه. وأنّي لم أصب في حسمي إيّاه الغذاء بالأمس. وذلك أنّه ذكر لي أمر تغذيته وشاورني فيه وفي صبّ بعض المياه على رأسه أو وضع بعض الأدهان عليه التي من عادتنا أن نستعملها في أصحاب الحمّى الحادثة مع ورم الدماغ: مثل الخلّ مع دهن الورد، ودهن الورد المبرّد، والماء الذي قد طبخ فيه أو نقع الدواء المسمّى سفندولين والدواء المسمّى أرفلس، وما أشبه ذلك. ومن هذا خاصّة قد تعلم علماً بيّناً أنّ العلاج الصواب مقرون بصحّة تقدمة المعرفة.
وذلك أنّي لمّا رأيت في ذلك المريض علامات بيّنة تدلّ على البحران، ورأيت طبيعته متشوّقة إلى استفراغ ما يؤذيها بالعرق، وليس يواتيها الأمر على حسب حركاتها، بحثت عن سبب تخلّفها، فوجدت البيت الذي كان فيه المريض شديد البرد. فأمرت أن يوقد له الحطب الموافق له حتّى يدفأ، فإذا سخن البيت سخونة كافية صُبّ على بطن المريض دهن حارّ إلى أن يبتدئ به العرق. فإذا بدأ العرق أمسك عن صبّ الدهن، وعُني بتعاهد مسح العرق. وأمّنتهم
من الخوف من العرق وأعلمتهم أنّه لا يمكن أن يأتي منه شيء كثير دفعة. وتقدّمت إليهم إذا كفّ العرق أن يغذى المريض. فلمّا فعلوا ذلك عرق المريض على المكان وأقلعت عنه الحمّى وخفّ عامّة الورم الذي كان في الجنبين مع العرق. وبقيت سنة بقيّة عالجتها حتّى برأ منها البرء التامّ في نحو ثلاثة أيّام أو أربعة.
ولو أنّ غيري من الأطباء ممّن ليس يعني بتقدمة المعرفة تولّى أمر هذا المريض، كان سيصبّ على رأسه خلّاً مع دهن ورد بارد، أو غيره ممّا أشبهه، فكان يقتله. لكنّ أبقراط لمّا أن قال: «إنّ ما ينبغي أن يستفرغ، فينبغي أن يستفرغ من الناحية التي يميل إليها بالموضع الذي ينبغي استفراغه منها»، قد علّمنا أنّه ينبغي لنا أن نداوي ميل الفضول إلى ناحية الجلد بالعرق.
وهذا وحده أمر مفرد يسير سهل أن يعلمه كلّ أحد. أعني «أن يجعل الاستفراغ على حسب ميل الكيموسات.» وإنمّا تعرّف ميلها في كلّ واحد من المرضى، إلى أيّ ناحية هو، فعسر جدّاً. ولذلك تجد ما كتب به أبقراط في تقدمة المعرفة، أضعاف ما كتبه في العلاج. وقد تقدّم في صدر كتابه في تقدمة المعرفة فقال: «إنّي أرى أنّه من أفضل الأمور أن يكون من شأن الطبيب تقدمة الرؤية.» وذلك أنّه إنّما أراد بقوله تقدمة الرؤية، تقدمة المعرفة. ثمّ ما أتى به بعد ذلك
حين قال: «وذلك أنّه إذا تقدّم فعلم وسبق فأخبر المرضى.» وإنّما سمّى تقدمة المعرفة بتقدمة الرؤية لأنّ صاحبها يتقدّم فيصوّر في ذهنه الأمور كلّها، ويراها قبل أن يتعرّفها بالحسّ.
٧ من ذلك أنّ الورم الذي يكون في البطن، أمّا كثير من المتطبّبين فإنّما يعرف كم مقداره، وأيّ أنواع الأورام هو، وفي أيّ الأعضاء أو الأحشاء هو، ويتعرّف ذلك بالحسّ والنظر. وأمّا الطبيب الحاذق بتقدمه المعرفة، الكامل في صناعته، فإنّه يرى ذلك بذهنه قبل أن يدركه بالحسّ. وليس من نبض العرق فقط يتعرّف الموضع الذي فيه الورم. ولكن قد يمكن أن يعرف ذلك من لون البدن كلّه، ومن اللسان خاصّة ومن البول والبراز. والاستدلال من هذه الأشياء أصحّ منه باللمس.
فقد رأيت أطبّاء مرّة يختصمون في علّة قد اختلفوا فيها — ما هي؟ وكان ورم عظيم في البطن كلّه، فقلت قبل أن أكشف بطن ذلك المريض وأجسّه إنّ علّته خراج في العضل الذي على بطنه، وإنّه ليس في شيء من أحشائه علّة. وقد كان الأطبّاء توهّموا أنّ في أحشائه دبيلة. فكانوا يغذونه بغذاء هو اللطافة في الغاية. فغذوته بغير ذلك الغذاء وأبرأته في أيّام قلائل. وقد كان الأطبّاء قبل ذلك أنهكوه بقلّة معرفته بعلّته. وربّما كان اللون كافياً في الدلالة على العلّة، وربّما دلّ عليها النبض، وربّما دلّ عليها البول والبراز، وكثيراً ما يدلّ عليها اللسان. وربّما احتجنا من هذه الدلالات إلى اثنتين أو إلى ثلاث أو إليها كلّها معاً. فليس ينبغي ممّن يجهل الطبّ أن يقترح على طبيب استدلالاً من علامة دون أخرى. ولكنّه يجب أن يطلق له أن يسدلّ ويحكم ممّا شاء ومن كم شاء من العلامات إن أراد ذلك من علامة واحدة، وإن أراد من علامتين،
أو أراد من ثلاث، أو من جميع العلامات. ثمّ يختبر ويمتحن ما يتقدّم فيحكم به ويعرف حقّه من باطله. وكذلك أيضاً لم يتقدّم الطبيب فيحكم بجميع الأشياء الجزئيّة، فلا ينبغي أن يذمّ على ذلك؛ ولا يحمد على الحكم بما ليس عنده منه حقيقة وبصيرة. ويقتصر على أن ينظر: هل تقدّم فعلم جميع ما يحتاج إليه في علاج المريض أم لا؟ وأريد أن أعدّد هذه الأشياء وأجمعها، حتّى إذا استعملها من يقصد لمحنة الأطبّاء كان فعله ذلك على طريق عدل وإنصاف.
فأقول إنّ على الطبيب أن يعرف ضرورة الأمراض التي لا تجاوز الرابع في أوّل يوم منها. ولست أحصي كم من محموم، وكم من مرّة رأيت من حُمّ نوبة واحدة، فأدخلته بعد انقضائها على المكان إلى الحمّام، بعض في اليوم الأوّل وبعض في اليوم الثاني. ولم أنتظر بهم الثلاثة الأيّام التي من عادة كثير من الأطبّاء أن ينتظروها بالمرضى، من أصحاب تاسلس وغيرهم. وهم بذلك متمسّكون، كأنّها سُنّة مُنزلة من عند اللّه.
وعلى الطبيب أيضاً أن يعرف المرض الذي يجاوز اليوم الرابع في أوّل يوم منه. ويعلم من أمره هذا الذي وصفت، أعني أنّه يجاوز الرابع. وإذا قلت اليوم الأوّل أو غيره، فافهم عنّي أنّي أريد النهار مع الليل.
فأمّا الأمراض التي من شأنها أن تجاوز السابع، فمن أنفع الأمور فيها أن يتقدّم الطبيب فيعلم هذا الأمر الذي يعمّها كلّها وهو أنّها تجاوز اليوم السابع، إمّا في اليوم الأوّل وإمّا في اليوم الثاني، لا محالة، إذا أراد أن يقدّر طريق الغذاء على ما أمر به أبقراط. ولا يستطيع الطبيب أن يعلم في اليوم الأوّل والثاني من المرض هل يكون إقلاعه في اليوم الرابع عشر، أو في اليوم الأربعين، أو في غيرها من الأيّام. ولا سبيل له إلى معرفة ذلك فيهما، وإنّما يعرف ذلك بعد أن
قالوا إنّهم إنّما يدعون طلب هذه الأشياء لأنّه لا سبيل إلى الوصول إلى علمها. ومتى بيّنّا أنّ الوصول إلى علمها يمكن بالقضايا التي نقضي بها على المرضى بحضرتهم وصحّة ما نقضي به فيهم، قالوا «إنّ ذلك لا ينتفع به»، وعوّضونا منه بتجويعهم المرضى ثلاثة أيّام. وليس هذا شيئاً إلّا الفرار مع موضع الفضيحة كلّما وقفوا عليها.
٨ والوقوف على حيلة المموّهين من الأطبّاء في نفسه سهل. وإنّما صعب لأنّه ليس يوجد من يميّز ويمتحن ويقف. وذلك أنّي لست أرى أحداً يقصد البتّة إلى أن يتعرّف الطبيب الفاضل، ولا يتفرّغ لذلك، ولا يدري كيف يمتحنه ويختبره. لكنّ جميعهم، كما قلت قبل، يعتمدون في اختبار الطبيب على غيرهم ولا يثقون بأنفسهم ولا يرون أنّهم يكملون لذلك. ولهذا قد نجد في كلّ مدينة كثيراً من أهلها قد اكتسبوا مالاً، ونالوا جاهاً وعزّاً، ونجدهم بأسرهم يجرون في معاشهم مجرى البهائم. وأنا أصوّب لهم تركهم التقدّم على اختبار الأطبّاء لمناظرتهم فيما ليس عندهم من العلم به، لجهلهم بالطريق في ذلك. ولست أعذرهم لأنّهم قصّروا عن اختبار علم الأطبّاء من قبل علمهم، لأنّه قد يمكنهم بأهون السعي اختبار ذلك، لولا أنّه قد غلب عليهم الكسل غاية الغلبة حتّى صار يمنعهم من أن يحضروا المرضى، وقد يكثرون عندهم. ولو فعلوا ذلك لرأونا مراراً كثيرة في يوم المرض الأوّل سنقضي أنّ هذا الابتداء ابتداء حمّى غبّ، وهذا ابتداء ربع. وكذلك في الحمّى النائبة في كلّ يوم، وفي الحمّى المركّبة من الغبّ والنائبة في كلّ يوم،
وسائر أصناف الأمراض. فلمّا أن قصّروا عن هذا أيضاً ولم يأخذوا أنفسهم بحضور المرضى ومساءلة الأطبّاء عن حالاتهم، أعياهم الأمر في امتحان الأطبّاء.
ومنهم من يكون إن سأل الأطبّاء عن شيء من أمر المرضى يريد أن يكون الجواب قد بلغ من قصره أن يكون أقلّ من المسألة. وإلى هذا بلغ بغضهم الكلام، وصحّ فيهم ما قال ثوقيديدس: «إنّ الذي يدفع الكلام والقياس ويزعم أنّه ليس يصحّ به الشيء، فلا يخلو من أن يكون إمّا عديم عقل، وإمّا أن يكون يقصد بذلك إلى اجتلاب رئاسة أو حظّ من المنفعة.» وما أحد عندي أحقّ بأن ينسب إلى عدم العقل والفهم ممّن ظنّ أنّ البحث عن طبائع الأمور يكون بشيء سوى الكلام والقياس.
وإنّي لأعرف رجلاً من أهل اليسار دعاه بغض الكلام والقياس إلى أن ضحك منّي واستهزأ بي في قضيّة قضيت بها على مريض مرّة. وذلك أنّي حضرت المريض في أوّل يوم حُمّ، فعلمت وقضيت بأنّ حمّاه غبّ. فلمّا كان في اليوم الثاني نابته الحمّى كما كانت في اليوم الأوّل. فظنّ ذلك الفتى أنّ تلك الحمّى ليس بغبّ، لكنّها الحمّى البلغميّة النائبة في كلّ يوم. وضحك من قضيّتي لأنّه لم يعلم أنّه قد يتركّب حمّيان وثلاث من الغبّ بعضها مع بعض، ومع غيرها. ولم أشعر باستجهاله إيّاي إلاّ بعد أيّام. ثمّ إنّ ذلك الفتى عاد ذلك المريض في اليوم الخامس من مرضه، وقد نابته الحمّى. فقال لي: «قد كان يبلغني عنك أنّك تعرف حمّى الربع فضلاً عن الغبّ والنائبة في
قضيت به على ما قضيت. وكنت ظننت أنّ من حضرني من الأطبّاء عند ذلك المريض سيعجبهم ما رأوا منّي ويحبّوني عليه ويلتمسون التعليم منّي. إذ لم يكمل لعلم الكلّ بأن يفرّقوا بين الحمّى النائبة في كلّ يوم وبين حمّيي غبّ، فرأيت منهم ضدّ ذلك. وذلك أنّهم لم يسألني واحد منهم عن شيء من هذا العلم، فضلاً عن أن يسألني عن أن أعلّمه إيّاه. ومقتوني فضلاً عن أن يحبّوني، لغلبة الحسد عليهم. فجعلوا يحتالون بكلّ حيلة أن يثلبوني ويمنعوني من حضور المرضى معهم. وإنمّا قلت جميع ما قلت من هذا لأدلّ على كلّ حمّى تحدث بالمحمومين.
فإن أراد مريد أن يمتحن ويختبر الأطبّاء، فلن يقدر إن قصد لذلك على أن يبلغه دون أن يكون قد تعلّم أصولاً من علم الطبّ، ووطّن نفسه على احتمال الكلام وإن طال. وليس أحد من المترفّهين يحتمل ذلك لغلبة الترفّه عليهم والملال. وأنّهم مشاغيل بلذّاتهم دائماً لا يستفيقون منها. وليس بليّة من كانت هذه حالة من أهل العبوديّة للذّة يسيرة. لأنّ بعضهم منكمش في طلب المال والجاه ونيل المرتبة الأولى من الرئاسة أو الثانية أو الثالثة أو غيرها من سائر المراتب. وإنّ كثيراً من هؤلاء عندي لفي موضع رحمة، إذ كانوا يفنون أعمارهم في خطب خارجة عن معنى الحكم والقضاء الذي يقومون به. منها ما يقدّمونه قبل الحكم، ومنها ما يتبعونه بها، وغير ذلك ممّا أشبهه. ولو كان من يتعاطى الأحكام والرئاسة يتأدّب بالأدب الحقيقي،
لكان قادراً أن يحذف جميع هذا الحشو فيشتغل في الأحكام فيقصر عليه طريقها ويفضل له من عمره ما يستعمله فيما هو أفضل من ذلك. وذلك أنّي أرى أنّ سلامة الرئيس من مرض يعرض له، خير له وأفضل من طلب القضاء والحكم بين من يخاصم نهاره كلّه في الأموال. والقصد لسلامته من ذلك يكون بأن يجتهد في وقت صحّته في اختبار وامتحان طبيب حاذق يعتمد عليه في وقت مرضه ويرجو لنفسه السلامة على يديه.
٩ وامتحان ذلك كما قلت مراراً كثيرة يكون على ضربين. أحدهما أن يمتحن قضاياه في المرضى، فيوجد لا يخطئ فيها. على أن يكون الطبيب الذي قضى هو المتولّي لعلاج المريض كلّه؛ والآخر أن يمتحن علمه قبل حضور المرضى والعمل، فيوجد عنده العلم بجميع ما قيل في الطبّ، ويوجد قد اختار من تلك الأقاويل أفضلها. إلّا أنّ المتولّي لهذا الامتحان ينبغي أن يكون عالماً بطريق البرهان. ولست أعرف أحداً من الأغنياء في دهرنا هذا حاذقاً بطريق البرهان ماهراً به. وذلك أنّه وإن تعلّمه، فإنّه لا يصبر على أن يروّض نفسه فيه حتّى يمهره. ونجد أيضاً أكثر الأطبّاء على هذا، وليس نجد خمسة من أهل دهرنا هذا من الأطبّاء يقدرون أن يقولوا ما أقول في نفسي، ممّا لا يقدر أحد أن يدفعه. وهو أنّي منذ صباي تعلّمت طريق البرهان. ثمّ أنّي لمّا ابتدأت بتعلّم الطبّ، رفضت اللذّات واستخففت بما يتنافس فيه من عرض الدنيا ورفضته، حتّى وضعت عن نفسي مؤونة البكور إلى أبواب الناس للركوب معهم من منازلهم، وانتظارهم على
أبواب الملوك للانصراف معهم إلى منازلهم ومنادمتهم. ولم أفن دهري وأشقي نفسي في هذا التطواف على الناس، الذي يسمّونه تسليماً. لكنّي أشغلت نفسي دهري كلّه بأعمال الطبّ والرويّة والفكر فيه وسهرت عامّة ليلي في تقليب الكنوز التي خلّفها لنا القدماء. فمن قدر أن يقول إنّه فعل مثل هذا الذي فعلت، ثمّ كانت معه طبيعة ذكاء وفهم سريع يمكن معها قبول هذا العلم العظيم، فواجب أن يوثق به قبل أن يجرّب قضاياه وفعله في المرضى. ويقضى عليه بأنّه أفضل ممّن ليس معه ما وصفنا ولا فعل ما عدّدنا.
وبهذا الطريق صار رجل من رؤساء الكمريّين عند رجوعي إلى مدينتنا من البلدان التي كنت نزعت إليها. على أنّه لم يكن تمّ لي في ذلك الزمان ثلاثون سنة، إلى أن ولّاني علاج جميع المجروحين من المبارزين في الحرب. وكان قد تولّى أمرهم قبل ذلك رجلان من المشاريخ أو ثلاثة. فلّما أن سئل ذلك الرجل عن طريق المحنة التي امتحنني بها حتّى وثق بي فولّاني أمرهم، قال: «إنّي رأيت الأيّام التي أفناها هذا الرجل في التعليم أكثر من الأيّام التي أفناها غيره من مشايخ الأطبّاء في تعلّم هذا العلم. وذلك أنّي رأيت أولائك يفنون أيّامهم فيما لا ينتفع به. ولم أر هذا الرجل يفني يوماً واحداً ولا ليلة واحدة من عمره في الباطل. ولا يخلو في يوم من الأيّام ولا في
وقت من الأوقات من الارتياض فيما ينتفع به. وقد رأيناه أيضاً فعل أفعالاً قريباً هي أصحّ في الدلالة على حذقه بهذه الصناعة من كثرة سني هؤلاء المشايخ.»
وقد كنت حضرت مجلساً عامّاً من المجالس التي يجتمع فيها الناس لاختبار علم الأطبّاء. فأريت من حضر أشياء كثيرة من أمر التشريح. وأخذت حيواناً من القرود فشققت بطنه حتّى خرجت أمعاؤه. ودعوت من حضر من الأطبّاء إلى ردّها وخياطة البطن على ما ينبغي، فلم يقدم أحد منهم على ذلك. وعالجناه نحن فظهر منّا فيه حذق ودربة وسرعة كفّ. وفجّرنا أيضاً عروقاً كثيرة كباراً بالتعمّد ليجري منها الدم بسرعة. ودعونا مشايخ من الأطبّاء إلى علاجها، فلم نجد عندهم شيئاً. وعالجناها فتبيّن لمن كان له عقل ممّن حضر، أنّ الذي ينبغي أن يولّي أمر المجروحين من كان معه من الحذق ما معي. فلمّا ولّاني ذلك الرجل أمرهم، وهو أوّل من ولّاني هذا الأمر، اغتبط بذلك. وذلك أنّه لم يمت من جميع من ولّاني أمره من المجروحين إلّا رجلان فقط. وقد كان مات ممّن ولّاه طبيباً كان قبلي ستة عشر نفساً. ثمّ ولّاني بعده أمرهم رجل آخر من رؤساء الكمريّين، فكان بتوليته إيّاي أسعد. وذلك أنّه لم يمت أحد ممّن ولّانيه، على أنّه قد كانت بهم جراحات كثيرة جدّاً عظيمة.
وإنّما قلت هذا لأدلّ كيف يقدر الممتحن أن يمتحن ويميّز بين الطبيب الماهر وبين غيره قبل أن يجرّب قوله وعمله في المرضى. ولا يكون امتحانه له كما يمتحن الناس اليوم الأطبّاء ويقدّمون منهم من ركب معهم في مواكبهم واشتغل بخدمتهم الشغل الذي لا يمكن معه الفراغ لأعمال
الطبّ. بل يكون تقديمه واختياره لمن كان على خلاف ذلك، وكان شغله في دهره كلّه أعمال الطبّ لا غيرها.
وإنّي لأعرف رجلاً من أهل العقل والفهم قدّمني واختارني من فعل واحد رآني فعلته، وهو تشريح حيوان بيّنت به بأيّ الآلات يكون الصوت، وبأيّ الحركة منها. وكان عرض لذلك الرجل قبل ذلك الوقت بشهرين أن سقط من موضع عالٍ فتكسّرت من بدنه أعضاء كثيرة وبطل عامّة صوته، حتّى صار كلامه بمنزلة السُرار. وعولجت أعضاؤه فصلحت وبرأت بعد أيّام كثيرة وبقي صوته لا يرجع. فلمّا أن رأى منّي ذلك الرجل ما رأى، وثق بي وقلّدني أمر نفسه. فأبرأته في أيّام قلائل، لأنّي عرفت الموضع الذي كانت الآفة فيه فقصدت له.
وإنّي لأعرف رجلاً آخر سقط من دابّته فتهشّم. ثمّ عولج فبرأ من جميع ما كان ناله، خلا إصبعين من أصابع كفّه، وهما الخنصر والبنصر، بقيتا خدرتين زماناً طويلاً. وكان لا يحسّ بهما كبير حسّ ولا يملك حركتهما على ما ينبغي. وكان من ذلك أيضاً شيء في الوسطى. فجعل الأطبّاء يضعون على أصابعه تلك أدوية مختلفة، وكلّما لم ينجح دواء انتقلوا منه إلى غيره. فلّما أتاني سألته عن الموضع الذي قرع الأرض من بدنه فلمّا قال إنّ الموضع الذي قرع الأرض من بدنه هو ما بين كتفيه، وكنت قد علمت من التشريح أنّ مخرج العصبة التي تأتي هاتين الإصبعين من أوّل خرزة فيما بين الكتفين، علمت أنّ أصل البليّة هو من الموضع الذي تنبت منه تلك العصبة من النخاع. فوضعت على ذلك الموضع بعض الأدوية التي كانت توضع على الأصابع. وأمرت فقلع عن الأصابع تلك الأدوية التي كانت توضع عليها. وعلمت أنّ وضعها هناك باطل. فلم يلبث ذلك
الرجل إلّا يسيراً حتّى برأ. وبقي كلّ من رأى ذلك منّي يتعجّب من أنّ ما بين الكتفين يعالج فتبرأ الأصابع.
وأتاني رجل آخر أصابته آفة في صوته وشهوته للطعام معاً. فأبرأته بأدوية وضعتها على رقبته. وكان العارض لذلك الرجل ما أصف لك. وكان به خنازير عظيمة في رقبته في كلا الجانبين. فعالجه بعض المعالجين بقطع تلك الخنازير، وأورثه بسوء احتياطه برداً في العصبتين المجاورتين للعرقين النابضين الشاخصين في الرقبة. وهاتان العصبتان تنبثّان في أعضاء كثيرة وتأتي منها شعبة عظيمة إلى فم المعدة. ومن تلك الشعبة تنال المعدة كلّها الحسّ. إلّا أنّ أكثر ما في المعدة حسّاً فمها، لكثرة ما ينبثّ من تلك العصبة فيها. وشعبة يسيرة من كلّ واحدة من هاتين العصبتين تحرّك واحدة من آلات الصوت. ولذلك ذهب صوت ذلك الرجل وشهوته. فلمّا علمت ذلك وضعت على رقبته دواء مسخّناً، فبرأ في ثلاثة أيّام. وما أحد رأى هذا الفعل منّي ثمّ صبر لأن يسمع منّي الرأى الذي أدّاني إلى علاجه بما عالجته. فعلم بذلك خلق كثير. فما أحد منهم علم بذلك منّي، إلّا عجب وعلم أنّ بالأطبّاء إلى التشريح أعظم الحاجة.
وبهذا قد تعلم أنّه ليس يعسر عليك أن تختبر أعمال هذه الصناعة، إن أنت قصدت لذلك. فإن أنت استنكفت عن أن تمتحن الأطبّاء لأنّك مكثر أو لأنّك بطل فإنّ أولّ ما تناله العقوبة على ذلك أنت. وذلك أنّه ليس كما أنّ الأمر في امتحان الأطبّاء وتعلّم الطبّ أو ترك ذلك إليك، كذلك الأمر إليك في الحاجة إلى الطبّ. لأنّ قلّة معرفتك بالطبّ هي أكثر ما يوقعك في الأمراض
المتوالية. وما أحد كان أولى بأن يتعلّم صناعة يكتسب بها الصحّة، من الأبطال والأغنياء. ولا أعلم أنّ الإثم في هذا إلّا مثل الإثم في الأمور التي يرتكبونها من معاصي اللّه أو أكثر منه. وذلك أنّ اللّه، عزّ وجلّ، أمر بأن يعرف الإنسان نفسه. وهم لا يعرفون شيئاً من أمر النفس ولا من أمر البدن. وكأنّ تركيبهم من أشياء سواهما. ويجهلون أمر تركيبهم كما يجهله البهائم. ويعرفون عدد قراهم وعدد من فيها من العبيد والأكرة على الصحّة والحقيقة، ولا يعرفون عدد أعضاء أبدانهم. وحالهم في الجهل بأمر البدن، كحالهم في الجهل بأمر النفس. وكان الأجود لهم كثيراً أن يجهلوا عدد من يملكون من الطبّاخين وغيرهم، ويعلموا عدد من فيهم من العصب الذي به يكون الصوت، والذي به يكون النفس، وسائر كلّ واحد من الأفعال. وقد كان ينبغي لهم، وإن كسلوا عن تعلّم الطبّ، إلّا يغفلوا عن امتحان الطبيب لكن يفرّغوا أنفسهم لهذا، ولو يسيراً من عمرهم.
ويعيرونا أسماعهم حتّى يتعلّموا أوّلاً هذا الذي نحن في صفته، وهو كيف يمتحن الطبيب الحاذق. ثمّ يأخذون أنفسهم بمحنته. فإنّهم لو فعلوا ذلك لما وقعوا فيما يقعون فيه باختيارهم الأخسّ على الأفضل من الموضع الذي كان ينبغي لهم أن يرفضوه، فضلاً عن أن يختاروه ويقدّموه. وذلك أنّهم إنّما يختارون ويقدّمون من الأطبّاء من طالت صحبته لهم، وكثرت أسفاره معهم، ولزم أبوابهم نهاره كلّه سنين كثيرة متوالية. وما هكذا يختارون ويقدّمون الشعراء. لكنّهم لو دخل مدينتهم شاعر لم يعرفوه قبل ذلك ساعة قطّ، فرأوا شعره أجود، لقدّموه على غيره ممّن عرفوه. وليس حقّ من طالت صحبته وخدمته لالتماس الغنى، إلّا أن تحسن إليه وتعينه.
يقرأ فيها شيئاً. وأذكر أنّي سمعت قولاً من رجل وقد خطب فلم يحسن الخبطة، وهو يعتذر بأنّه اشتغل قبل ذلك بأربعة أيّام. ثمّ يكون من لم يتعلّم الطبّ على الطريق المستقيم ولا ارتاض وتدرّب فيه، ولا كان له فيه حظّ قطّ، له قدر دون سائر الناس، كلّما كثر شغله عنه كان فيه أكبر.
ولا تراني أقول هذا وأنا أقصد به إلى توبيخ المترفين وذلك لأنّي لا أطمع في قبولهم لذلك. فلست أروم تقييدهم ولا اجترارهم إلى استماع قولي. ولا أطمع لهم في أن يتعلّموا وأن يحذقوا طريق البرهان، ولا أن يمتحنوا الأطبّاء في أحكامهم على المرضى وأفعالهم على ما أصف. وأنا راجع إلى الكلام في المسألة التي قصدت إليها منذ أوّل كلامي.
فأقول إنّ من أراد أن يميّز بين الطبيب الأفضل والأخسّ فينبغي أن ينظر أوّلاً من أمر ذلك الذي يريد أن يمتحنه في أيّ شيء أفنى أكثر عمره؟ أفي قراءة الكتب ومداواة المرضى؟ أم في لزوم أبواب الأغنياء والتطواف عليهم والأسفار معهم؟ فإن وجده يفعل جميع هذه الأشياء، فليست به حاجة إلى أن يمتحنه، لأنّه لا يجد عنده شيئاً أكثر ممّا عند الشعوذيّ والبوّاب والنديم. فإن رأيته مثابراً على النظر في كتب أبقراط وديوقلس وفركساغورس وسائر القدماء، فليحسن ظنّك به، واجعله في عداد من تمتحنه.
ويكون أوّل ما تمتحنه به أن تنظر هل عنده معرفة ودربة ثاقبة بأمر التشريح؟ ثمّ من بعد ذلك بأن تنظر هل يعلم ما فعل كلّ واحد من الأعضاء ومنافعه؟ ثمّ انظر هل عنده طريق علم قياسيّ من أمر الأغذية وسائر التدبير والأدوية؟ وقد ينبغي أيضاً أن يظهر لك منه فهم كتب القدماء من
الأطبّاء وأنّه قد عنى بحفظها. فإن هو لم يعن بحفظها ولم يظهر لك منه دربة وحذق بجميع ما وصفت، فليس بك حاجة إلى أن تمتحن قوله وفعله في المرضى. فإن ظهرت لك منه قوّة صالحة في هذه الأشياء التي وصفت، فعند ذلك ينبغي أن تمتحن قوله وفعله في المرضى. وقد وصفت قبل كيف يمتحن ما عند الطبيب في تغذية المرضى وتدبيرهم. ووصفت أيضاً أشياء كثيرة ممّا يمتحن بها ما عنده في علاجهم بالأدوية، وأنا واصف لك ذلك أيضاً في هذا الموضع.
١٠ فأقول إنّك إن رأيت طبيباً يبرئ بالأدوية الأدواء التي يبرئها المعالجون بالحديد بالقطع، فعدّ ذلك منه على أنّ له علماً ورويّة ودربة وحذقاً. والذي يعالجه المعالجون بالحديد هو الخراجات، والدبيلات، واللوزتين، والخنازير، واللهاة الغليظة، والسلع، والغدد، والمواضع التي تعفن من البدن، والعظام التي تتعرّى من اللحم وتنسلّخ فلا ينبت عليها اللحم.
فمتى رأيت طبيباً يبرئ جميع هذه الأدواء بالأدوية، ولا يحتاج إلى القطع إلّا أن تدعوه إلى ذلك ضرورة شديدة، فاحمد منه معرفته بالأدوية. واحمد أيضاً من رأيته يبرئ بالأدوية وحدها من أدواء العين ما يعالجه غيره بالقطع: مثل الظفرة، والجرب، والسبل، والبرد، والماء، والغرب والنواصير، والشعر، وزيادة لحم المأقين ونقصانه. واحمد أيضاً من رأيته قد حلّل من العين مدّة محتقنة فيها بسرعة، أو ردّ الطبقة التي يقال لها العنبيّة، بعد أن نتأت نتوءاً كبيراً شديداً، إلى موضعها حتّى لطئت، أو ظهر منه غير ذلك ممّا هو شبيه به في علاج العين بغير حديد. واحمد أيضاً في معرفة الأدوية من رأيته يبرئ بها داء الفيل، ورأيته يفتّت بالأدوية الحجارة التي تتولّد
في المثانة أو في الكلى أو يمنع من تولّد الحجارة في المفاصل أو يحلّلها إذا تولّدت. واحمد أيضاً من رأيته يقدر على أن يبرئ الورم الصلب الجاسئ في المفاصل كان أو في الأحشاء أو في العضل. واحمد أيضاً في معرفة الأدوية من رأيته يبرئ الانعقال الذي يكون في شيء من المفاصل، أيّ مفصل كان. وهذه الأدواء ليس يتضمّن المعالجون بالحديد برءها ولا هي ممّا علاجها سهل يسير. وكذلك حال القروح المنسوبة إلى السرطان أو الآكلة أو القروح التي يسقيها عرق قد اتّسع، والناصور إذا انتهى إلى العظم أو تقادم وتولّد فيه لحم صلب. فإنّه ليس شيء من هذه الأدواء بسهل العلاج. لكنّهم يحتاجون في علاجها إلى الحديد والنار. فمن ادّعى عندك علماً بأمر الأدوية، فيجب عليه أن ينهي بها هذه الأدواء. وأن يمنع العروق التي قد اتّسعت من أن يزداد اتّساعها.
ويجب عليه أيضاً أن يبرئ بالأدوية مع التدبير: النقرس، ووجع النسا، ووجع المفاصل — ما دام لم يتولّد فيها حجارة — والصرع، والفالج، والاسترخاء، والجنون العارض من السوداء والصفراء المحترقة، والصداع الدائم المشتمل على الرأس كلّه، والشقيقة، والسدر، والمدّة المحتبسة فيما بين الصدر والرئة، والربو، ونفث الدم، وزلق الأمعاء، والقرحة التي تكون في الأمعاء أو في غير الأمعاء من الجوف، والدبيلات، والأورام التي تكون في الأحشاء، والتي تكون في الثديين. فإنّ الطبيب الحاذق يقدر أن يبرئ هذه الأدواء كلّها بالأدوية مع التدبير.
١١ وإن كان بالحقيقة كاملاً فلا يدع علاج من يقذف من رئته الدم. لكنّه يعالجه بعد أن يتقدّم فينذر، ويخبر من لا خبرة له بالطبّ أنّه يضرب يده إلى علاج مرض صعب عسر البرء، وقد قضى عليه أكثر القدماء من الأطبّاء أنّه لا يبرأ. كما قد تقدّمت فأنذرت بذلك في كثير من أصحاب هذه العلل مراراً كثيرة، ثمّ عالجتهم فأبرأت كثيراً منهم: ممّن كان بعضهم أصابته هذه العلّة من سقطة سقطها من العلو، أو ضربة ضربها في صراع، أو في مجاهدة رياضة، أو عرض له من سعال شديد فتق في عرق. وبعضهم عرض له ذلك من قبل نزلة انحدرت من الرأس فعرض بسببها في الرئة. تآكل؛ إلّا أنّ هذا العلاج أنا أوّل من استخرجه، وكذلك أيضاً الأدوية التي تبرئ النزلة وهي مع ذلك لا تمنع من نفث ما في الصدر والرئة. وذلك أنّ الأدوية التي تغلّظ النزلة الرقيقة
والأدوية التي تنقّي الرئة والصدر من المدّة التي فيما بين الرئة والصدر، ومن الكيموسات الفاعلة لربو أو من الورم العارض في الرئة يضادّ ويقاوم بعضها بعضا.
وقد حضرت مرّة، مع قوم من الأطبّاء، مريضاً قد اجتمعت عليه نزلة مع ضيق في نفسه. فتركت أولائك الأطبّاء يسقونه الأدوية التي ظنّوا أنّه ينتفع بها. فسقوه أوّلاً بعض الأدوية التي تنفع من السعال والنزلة. وهذه الأدوية تشرب عند طلب المريض للنوم، وذلك أنّها تجلب طرفاً من السبات حتّى أنّها تنفع من به أرق وسهر. فنام ليلته تلك بأسرها نوماً ثقيلاً. وسكن عنه السعال وانقطعت عنه النزلة. إلّا أنّه جعل يشكو ثقلاً يجده في آلة النفس. وأصابه ضيق شديد في صدره ونفسه. فرأى الأطبّاء عند ذلك أنّه لا بدّ من أن يسقوه شيئاً ممّا يعين على نفث ما في رئته. فلمّا تناول ذلك قذف رطوبات كثيرة غليظة لزحة. ثمّ إنّ السعال عاوده في الليلة القابلة، وسهر وجعل يحسّ بشيء رقيق ينحدر من رأسه إلى حلقة وقصبة رئته. فاضطرّوا في الليلة القابلة إلى أن يسقوه ذلك الدواء المنوّم، فسكن عنه أيضاً عند ذلك النزلة والسعال والسهر. إلّا أنّ نفسه ازداد ضيقاً، وساءت حاله في الليلة القابلة سوءاً لم يجد الأطبّاء معه بدّاً من أن يسقوه بعض الأدوية الملطّفة المقطعة لما في الرئة. فلمّا أن شرب ذلك نقيت رئته. إلّا أنّه عرض له من السعال، ومن كثرة النزلة، ومن الأرق بسببهما، ما لم يقو على احتماله. فلمّا أن علمت أنّ الأطبّاء قد تحيّروا ولم يبق عندهم حيلة، سقيته بالعشيّ دواء لم يهج به سعال ولا نزلة. وجلب له نوماً صالحاً وسهل عليه قذف ما في رئته أيضاً. وسلكت بذلك المريض هذا الطريق، فأبرأته من العلّتين معاً في أيّام قلائل، على أنّهما علّتان متضادّتان فيما يظهر. ويتبيّن من هذا لمن يدبّره أنّ من قال من الأطبّاء «إنّه لا يمكن أن يبرأ بدواء واحد مرضان متضادّان» لم يصب. وأنا أوّل من استخرج استعمال هذه الأدوية، واستعمال الأدوية التي يعالج بها القرحة العارضة في الرئة
من قبل نزلة تنحدر إليها من الرأس، وغير ذلك من أدوية كثيرة، سأبيّن طريق استعمالها في كتاب «تركيب الأدوية.»
ولكن لا ينبغي لك، إن كنت أنا قدرت على هذا، أن تطالب غيري من الأطبّاء ممّن تقصد إلى أن تمتحنه بمثل هذه الأفعال. لكن قد ينبغي لك أن تقتصر على أن تجد عندهم الحذق بما عرفه من كان قبلي من أمر الأدوية. وذلك أنّه قد يمكن أن يكون الطبيب ناقصاً عن حال الكمال، لكنّه ليس بالساقط كالكثير من المشهورين في زماننا هذا. وليس من قبل إنّي أبرأت كثيراً لا أحصي عددهم بالإسهال فقط من الداء الذي يقال له داء الثعلب، ومن البهق، والبرص، والقوابي المزمنة، والجرب، والتقشير، والقروح التي تنسب إلى السرطان، من غير أن أضع على موضع العلّة دواء البتّة، فقد ينبغي أن يطالب غيري من الأطبّاء بمثل ذلك من الأفعال. فإنّك تجدهم مقصّرين، لا عن كثير من هذه الأفعال العظيمة، لكن عمّا هو دونها بكثير. وإنّي لأعرف قوماً مشهورين من الأطبّاء يسقون الدواء المسهل، فإذا لم يسهل بقوا حائرين لا يدرون ما يصنعون. فإذا دعينا لذلك، أمرنا بعضهم أن يستحمّوا في الحمّام، وقصدنا بعضهم، وأمرنا بعضهم بالقيء، وبعضهم بتناول شيء من الفاكهة القابضة. فحين يفعل ذلك بهم تستطلق بطونهم. وقد وصفنا في كتبنا العلامات التي يستدلّ بها ويعلم ما الذي ينتفع به ويحتاج إليه كلّ واحد من هؤلاء. ولا أحصي كم من عليل به يرقان أبرأته بالإسهال فقط، وكذلك ممّن به جذام، أو ممّن به ألم قد تقادم وأزمن. وغير ذلك من الأمراض المزمنة قد أبرأت منها كثيراً بالإسهال فقط.
١٢ وإن لم تجد أشباه هذه الأشياء عند من تمتحنه فينبغي أن تعذره. فإن رأيت من يدّعى الطبّ لا يقدر 〈أن〉 يبرئ من به يرقان بلا حمّى بالإسهال مرّة واحدة فلا ينبغي أن تعذره. وكذلك لا ينبغي أن تعذر من لا يقدر أن يبرئ من عضّه كلب كَلِب أو أفعى أو غيرها من الدوابّ التي تنهش، بالأدوية دون قطع الموضع الذي قد نهش وكيّه وما ذكر من هذه الأشياء.
وقد رأيت كثيراً من الأطبّاء لا يقدرون على فتح أفواه العروق التي كانت تنفتح من أسفل فيجري منها الدم، فاحتبست في وقت حاجة الدم إلى أن يجري. ولا يقدر على أن يذوب لحماً يحتاج إلى تذويبه. وقد رأيت قوماً من الأطبّاء لا يحسنون أن يعالجوا اللحم الزائد الذي ينبت في أصل الظفر وليس القصد في علاجه إلّا إلى غرض واحد: وهو وجود أدوية تذوب ذلك اللحم الذي يزيد، من غير لذع. وإنّي لأعرف من الأطبّاء من يعالج العصب إذا جرح، بضدّ ما يحتاج إليه
من العلاج، فيعرض من ذلك التشنّج لصاحب الجراحة فضلاً عن الرخاوة في ذلك العضو. ويخطئون ضروباً أخر كثيرة من الخطأ، تدلّ على جهلهم دلالة بيّنة.
وأمّا الطبيب الحاذق فإنّه يخلص من جميع هذه المثالب، وبياناً فيُحسن في هذه الأشياء التي وصفنا. وعنده مع ذلك طريق لوجود جميع ما يحتاج إليه فيما يعالج به المرضى. حتّى أنّه وإن اتّفق أن يكون في قرية ليس معه فيها شيء ممّا كان يستعمله من الأدوية في مدينته، يقدر أن يجد هناك ما يحتاج إليه لعلاج كلّ مرض من زهر النبات، وثماره، وأصوله، ولحائه، ولبنه، وورقه، وعصارته من الحشائش والشجر وما بين ذلك. فقد رأيتموني وأنا أفعل ذلك مراراً كثيرة. وبهذا الطريق بعينه يقدر المستعمل الدواء الواحد المفرد كالمرداسنج والإسفيداج أن يلزق به الجراحات ويدمل به ما يحتاج منها إلى الإدمال. ويشفي به القروح العظيمة الغور والنواصير. ويسكّن به عادية القروح الخبيثة الساعية، ويبرئ به القروح التي معها أورام أو صلابة. وكذلك قد يجب على الطبيب الكامل أن يحسن هذا ويحكمه. وقد ينبغي إذا اقترحت على طبيب أن يبرئ [ذلك] بدواء واحد مفرد يسمّيه لك، عللاً مختلفة ليتبيّن لك حذقه، أن يكون ذلك الدواء ليس في الغاية من الحرارة ولا من البرودة، لكن يكون — إن أمكن — متوسّطاً. فإن كان إلى الحرّ أو إلى البرد أميل، فلا ينبغي أن يكون قد بعد عن المتوسّط كثيراً. فقد رأيتمونا مراراً كثيرة هيّأنا من المرداسنج أدوية أبرأنا بها جميع هذه الأدواء التي وصفنا قبل، وغيرها من القوابي، والسعفة،
كثيرة مختلفة، كما قد يفعل بالنورة. وذلك أنّا قد نخلطها مع كلّ واحد ممّا وصفنا، وربّما غسلناها وربّما لم نغسلها، فيكون فعلها على حسب ما نخلطها به وعلى حالها في الغسل وغيره.
١٣ إلّا أنّ الأمر على ما قد وصفت لك مراراً كثيرة في كتابي هذا من أنّه ليس أحد من أهل اليسار يقصد قصد محنة الأطبّاء على الحقيقة الصحيحة وكيف يمتحنونهم. وليس يهمّهم هذا الأمر حتّى يحضروا المرضى فيروا ما يعالجهم به الأطبّاء. وكثيراً ما يموت مرضى كثير من أمراض ضعيفة بسوء تدبير الأطبّاء. وإنّ أهل اليسار لو حضروا أولائك المرضى، لما قدروا أن يعرفوا ما مقدار ذلك المرض في ضعفه وقوّته. وقد كان يجب عليهم ولو لم يعرفوا شيئاً من أمر المرضى، أن يعرفوا مقدار قوّة المرض، خاصّة على المعلول، كيلا يذمّوا طبيباً غلبه مرض قويّ ولا يحمدوا طبيباً أبرأ مرضاً ضعيفاً. وما عندهم من العناية بهذا ما يدعوهم إلى أن يعيرونا مسامعهم، ولو قليلاً، حتّى نعلمهم الدلائل التي يعرف بها مقدار المرض في القوّة والضعف، وحاله في الخبث والسلامة. ومنهم من هو مشغول دهره بجمع الأموال وطلب مراتب السلطان. ومنهم من هو مشغول باللذّات. ومن تعاطى منهم قراءة الكتب، وهم القليل، فإنّهم يفنون أعمارهم ويشغلون أنفسهم من ذلك فيما لا ينتفع به من أحاديث من مضى وأيّام الناس ممّا أكثره باطل، ومن تعرّف الألفاظ، كيف كانت تستعمل قديماً. ويغفلون العلوم التي هي أنفع العلوم وأحسنها وأجلّها،
وهي علوم الطبّ والفلسفة. ولو صرفوا عنايتهم إلى هذه العلوم، لما نفق عندهم الجهّل من الأطبّاء، ولا احتجت إلى أكثر في صفة الطريق الذي يمتحن به الأطبّاء.
وأنا تارك ذكر الأغنياء ومن قد أفسده أهل الملق، كما قلت قبل، ومقبل على من يعنيه الحقّ وإليه يقصد، فأذكر له من هذه الأعمال التي وصفت في هذا الكتاب أنّه ينبغي أن يمتحن الطبيب بها.
فأقول أنّه لا يجب أن أبرأ طبيب أمراضاً كثيرة أن يحمد نفسه؛ ولا يحمد متى لم يكن منها شيء خبيث. ولا ينبغي متى رأيته أيضاً قد أبرأ مريضين أو ثلاثة — من أمراض قويّة خبيثة — البرء التامّ، أن ينتظر بالقضيّة عليه بالحذق أن يجرّب مرّة أخرى. ولا بدّ لمن أراد أن يمتحن الأطبّاء بهذه الطريق من أن يكون قد شدا من أوائل علوم الطبّ شيئاً. فإن لم يكن شدا من ذلك شيئاً، كان من طبعه جودة الذهن والفطنة.
فقد رأيت مراراً كثيرة أنّي فعلت فعلاً واحداً، فعجب منّي قوم ممّن رأوه؛ ورآه آخرون فلم يحرّكهم ولا حفلوا به. وأنا ذاكر قليلاً من كثير من ذلك ليكون مثالاً يستدلّ به على ما سواه. وهو أنّ امرأة رأت في الشهر الرابع من حملها أوّلاً دماً، ثمّ صديداً رقيقاً منتناً. ثمّ بعد أن تمادى الزمان بها أسقطت. ثمّ من بعد ذلك جعل يخرج من المشيمة في كلّ يوم شيء، وذلك
أنّ المشيمة عفنت داخلاً. فلمّا أن انقطع بقايا المشيمة، ظنّ القوابل وجميع من حضر من الأطبّاء غيري أنّ تلك المرأة قد نقيت النقاء التامّ. فلمّا أن جسست عرقها تبيّن لي من نبضه أنّ في الرحم شيئاً باقياً ينبغي أن يخرج. وأعلمت المرأة وزوجها ومن حضر بذلك، وأنّه يحتاج إلى إخراج ذلك الشيء الذي قد بقي في الرحم. فلمّا أن كان في اليوم السادس عشر من اليوم الذي أسقطت فيه، سقط منها طفل قد عفن.
فلمّا نظر بعض من حضر وعرف هذه القضيّة منّي، بلغ من تعجّبهم أنّهم لم يحتاجوا منّي إلى قضيّة ثانية في الاستدلال على حذقي بمعرفة النبض. فأمّا زوج تلك المرأة، فلأنّه كان بهيميّاً لم يعجب من ذلك البتّة. وحضرني عند مرضى كثير وقد قضيت باليوم الذي يكون به البحران وما الطريق الذي يكون به، فما حمد شيئاً من ذلك. فهؤلاء البهائم ولو بلغ من يسارهم أكثر ممّا بلغه كاميدس وقروسس، ولو عظم شأنهم حتّى يستولوا على المدن والأمم بأسرها، أو يحظوا من السلطان بغير ذلك ممّا هو أكثر منه، لن يقدروا على امتحان الأطبّاء. وأمّا من كانت معه طبيعة ذكاء وفطنة وكان له تفقّد للأمور، فإن قصد لمحنة الأطبّاء لم يعيه ذلك. وذلك أنّه يتفكّر أوّلاً فيعلم أنّ بعض الأمراض قويّة وبعضها ضعيفة، وبعضها سليمة وبعضها خبيثة. ويسأل كلّ واحد من الأطبّاء على حدته عن الدلالات التي يستدلّ بها على قوّة الأمراض وضعفها، وسلامتها وخبثها. فيجد بعضهم لا يقدر أن يصف تلك العلامات بالكلام، فضلاً عن أن يعرفها في كلّ واحد
من المرضى. ثمّ إنّه بعد ذلك يروم أن يمتحن أولائك الأطبّاء بالفعال، فينظر إن كان معهم حذق بسرعة تعرّف ما أحسنوا وصفه بالكلام. ويضع عن نفسه مؤونة امتحان من لم يقدر على وصف تلك العلامات بالكلام. وقد يكتفي أكثرهم بما وصفت من هذه الأشياء فيما قصدت إليه.
وإنّي أقدر أن آتي بعلامات أخر كثيرة يستدلّ بها على حذق الطبيب. إلّا أنّي كرهت التطويل فرأيت أن أقطع كتابي هذا في هذا الموضع، بعد أن أضيف محنة أصحاب البطّ والعلاج بالحديد إلى ما وصفت. ولست أحتاج في ذلك إلى كلام كثير، لمشاركة هذا الطريق للطريق الأوّل الذي وصفته.
١٤ فأقول إنّه ينبغي أيضاً في هذا الباب أن يعرف من أراد أن يمتحن أصحاب العلاج بالحديد من الأطبّاء مقادير الأمراض التي يعالجها أولائك الأطبّاء في قوّتها وضعفها، وحالاتها في السلامة والخبث. من ذلك أنّه ليس ينبغي لك أن تلتفت في القيلة إلى عظمها ولا يغلطك كبرها فيوهمك أنّها مرض قويّ عظيم. لكن ينبغي لك أن تبحث ما طبيعة المرض، وكيف يعرف حاله من عظمه الذي هو بالحقيقة عظيم لا بما يظهر. ويعلم أنّ القيلة التي قد نزل فيها الغشاء الذي على المعدة والأمعاء الذي يقال له الثرب هي مرض قويّ عظيم، وإن كان حجمها ليس بالعظيم؛ والقيلة التي
فيها ماء مرض يسير، وإن رأيتها عظيمة. وكذلك ينبغي أن يتعرّف حال القيلة التي قد نزل إليها شيء من المعى، إمّا وحده وإمّا مع الثرب.
فإذا أردت أن تمتحن المعالج بالحديد المحنة الصحيحة، فكذلك الحال في سائر الأمراض مثل الحجر الذي في المثانة، والعروق المتّسعة، وأفواه العروق المنفتحة، والنواصير، واللوزتين، والخنازير، وغلظ اللهاة، والماء الذي في العين، والظفرة، والشعر الزائد، والسلع، وسائر ما أشبه ذلك. فإنّك متى عرفت مقدار كلّ واحد من هذه الأمراض في قوّته وضعفه وحاله في سلامته وخبثه، لم يعسر عليك أن تمتحن وتميّز بين الحاذق غير الحاذق. وذلك أنّك إذا رأيت الطبيب قد أبرأ أمراضاً كثيرة قويّة، علمت أنّه معالج حاذق؛ وإذا رأيته إنّما يبرئ أمراضاً يسيرة أو ضعيفة، علمت أنّه ليس بحاذق.
وينبغي أن يكون ما قلت قبل حاضراً لذكرك في هذا الباب أيضاً من أنّه «لا ينبغي أن يخطئ المريض على نفسه في وجه من الوجوه، ولا يخطئ عليه من يخدمه، ولا يعرض شيء من خارج يفسد على الطبيب علاجه.»
تمّ كتاب جالينوس في المحنة التي 〈بها〉 يعرف الإنسان أفضل الأطبّاء، إخراج حنين بن إسحق.