Galen: In Hippocratis Epidemiarum librum I (On Hippocrates' Epidemics I)
Work
,
(Ἱπποκράτους ἐπιδημιῶν αʹ καὶ Γαληνοῦ εἰς αὐτο ὑπομνήματα)
English:
Text information
Type: Translation (Arabic)
Translator: Ḥunayn ibn Isḥāq
Translated from: Syriac
(Close)
Date:
between 850 and 873
Source
Uwe Vagelpohl. Galeni In Hippocratis Epidemiarum librum I commentariorum I-III versio Arabica. Corpus Medicorum Graecorum. Supplementum Orientale 5/1. Berlin (Walter de Gruyter) 2014, 68-498
شرح جالينوس للمقالة الأولى من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة الأولى
[بسم اللّه الرحمن الرحيم. صلّى اللّه على جميع الأنبياء وخاتم الرسل وسلّم تسليماً.] المقالة الأولى من تفسير جالينوس للمقالة الأولى من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا ترجمة حنين بن إسحق.
قال جالينوس: إنّ أبقراط إنّما رسم هذا الكتاب «بإفيذيميا» لأنّ جُلّ كلامه فيه واقتصاصه في الأمراض التي يقال لها «إفيذيميا»، وتأويل ذلك «الوافدة»، وهو المرض الواحد الذي يعرض لجماعة كثيرة في وقت واحد.
والفرق بين هذه الأمراض وبين الأمراض البلديّة أنّ هذه الأمراض، وإن كانت إنّما تعرض في بلد من البلدان، إلّا أنّها إنّما هي أمراض تحدث لهم من سبب عارض. وأمّا الأمراض البلديّة فهي أمراض تصيب أهل بلد واحد دائماً، حتّى تكون كالمحالفة لأهل البلد الذي تعرض فيه. وقد وصف أبقراط في كتاب الماء والهواء والمواضع أيّ الأمراض تصيب أهل بلد بلد من البلدان بحسب حالات بلدهم، فتلك الأمراض هي التي تسمّى البلديّة.
فأمّا في هذا الكتاب فإنّ أبقراط يصف، كما قلت، الأمراض التي تحدث في وقت واحد على أهل مدينة بأسرهم أو أهل بلد بأسره. ويعمّ هاذين الجنسين من المرض أنّهما عامّيّان شاملان لجماعة كثيرة، أعني أنّ المرض الواحد منها يصيب جماعة كثيرة من الناس.
وأمّا سائر الأمراض كلّها التي، وإن عرضت لجماعة كثيرة، لم يعمّ الواحد منها الكثير، لكن يخصّ كلّ واحد منها واحداً واحداً من تلك الجماعة، فإنّما تعرف بالأمراض «المختلفة». وهذه الأمراض، كما أنّ حدوثها لواحد واحد من الناس خاصّ، كذلك سببها خاصّ في كلّ واحد منهم. فأمّا الأمراض «العامّيّة» فالحال فيها على خلاف ذلك وكما أنّ حدوثها عامّ كذلك سببها سبب عامّيّ.
وأجناس الأسباب كلّها التي ترد على الأبدان فتُحدث فيها الأمراض ثلاثة: واحد منها ما يتناول من طعام أو شراب ومن غيرهما، والثاني ما يفعل من الحركات وغيرها، والثالث ما يلقى البدن من خارج من هواء أو من غيره. والأمراض العامّيّة قد تحدث من جميع هذه الأسباب، إلّا أنّ أكثر حدوثها إنّما يكون من حال الهواء المحيط بالأبدان، وذلك أنّ حدوث المرض العامّ على أهل مدينة معاً أو على أهل بلد من طعام عامّ ليس ممّا يتّفق كثيراً، وكذلك أيضاً لا يكاد أن يكون المرض العامّ من شراب عامّ أو من تعب مفرط عامّ.
فأمّا الهواء المحيط بأبداننا إذا أفرط فيه الحرّ أو البرد أو اليبس أو الرطوبة فإنّه يكدّر ويفسد اعتدال مزاج الأبدان الذي هو محمود الصحّة. والأسباب الأخر ليس تستولي على جميع الناس ولا هي ممّا تدوم ملاقاته للبدن ليلاً ونهاراً. فأمّا الهواء فإنّه وحده دون سائر تلك يحيط بجميع الأبدان دائماً وليس يقفك من اجتذابه بالاستنشاق، فليس يمكن إذا تغيّر مزاجه أن تخلو الأبدان من أن تتغيّر بتغييره.
ولذلك يكثر في الربيع، كما وصف أبقراط، الدم إذ كان الدم أعدل الأخلاط مزاجاً وكان مزاج الربيع كذلك. ويكثر في الشتاء البلغم إذ كان البلغم أبرد الأخلاط وكان الشتاء أبرد أوقات السنة. وتكثر في الصيف المرّة الصفراء إذ كانت المرّة الصفراء أسخن الأخلاط وكان الصيف أسخن أوقات السنة. وتكثر في
الخريف المرّة السوداء لبقايا ما يبقى فيه ممّا يحترق في الصيف من الخلطين الحارّين من أخلاط البدن، أعني الدم والمرّة الصفراء. وعلى هذا القياس تكون الأمراض أيضاً التي تحدث في كلّ وقت من هذه الأوقات أمراضاً تخصّه دون سائر الأوقات مشاكلةً للخلط الغالب فيه.
ولو كانت أوقات السنة إنّما تولّد هذه الأخلاط التي ذكرنا بسبب أسمائها، لَما كانت، إذا حالت وتغيّرت عن مزاجها الخاصّ، تولّد غير تلك الأخلاط. ولمّا كان كلّ واحد منها إنّما كان يزيد فيه كلّ واحد من الأخلاط التي ذكرت بسبب مزاجه الخاصّ، لا بسبب اسمه، وجب ضرورة متى تغيّر مزاج الهواء المحيط بنا أن تتحوّل باستحالته الأخلاط.
وقد قال أبقراط في كتاب الفصول: «إنّه متى حدث في وقت من أوقات السنة في اليوم الواحد حرّ مرّة وبرد مرّة أخرى، فينبغي أن تتوقّع أمراضاً خريفيّة». وذلك يجب من قبل أنّه كما أنّ كلّ واحد من أوقات السنة، إذا بقي على مزاجه المخصوص به، إنّما يُحدث من الأمراض ما يشاكل طبيعته، كذلك إذا حال حتّى يخرج من طبيعته إنّما يُحدث من الأمراض ما يشاكل الحال الحادثة له. فإن قلتَ: «مال بأنّ جميع الأبدان لا يكون مرضها مرضاً واحداً بعينه في كلّ واحد من أوقات السنة؟» قلت: «إنّ السبب في ذلك أنّ الأبدان تختلف اختلافاً ليس باليسير في طبائعها الأُوَل وفي أسنانها وفيما يتصرّف فيه ويتدبّر به أصحابها».
فلهذه الأسباب كلّها صار بعض الأبدان تسرع إليه الاستحالة من مزاج الوقت الحاضر، وبعضها يثبت ويقاوم ذلك المزاج مدّة طويلة، وبعضها لا يناله منه ضرر بتّة، وبعضها يعرض له المرض من الخطاء في التدبير قبل أن يناله الضرر من مزاج ذلك الوقت. فكما كانت الأبدان، إذا نالها الضرر من الهواء، إنّما يصيبها من
الأمراض ما يشاكل مزاجه، كذلك إذا عرض لها المرض من التدبير يكون المرض الذي يعرض لها مشاكلاً للخطاء فيه.
فالذي يعلم هذه الأشياء يقدر أن يتقدّم فيعلم أيّ الأمراض سيحدث في كلّ واحد من الأوقات بحسب مزاجه. وليس هذا فقط، لكنّه يقدر أن يمنع من أن يحدث على الأبدان بأن يتلطّف لأن يجعل تدبيرها مضادّاً للمزاج الذي أفرط على الهواء المحيط بها. وذلك واجب من قبل أنّه إن كانت صحّة الأعضاء الأولى التي في البدن إنّما هي اعتدال مزاجها، فإنّه يفسد من قبل فساد مزاج الهواء ويبقى على حالها متى كان التدبير مضادّاً للمزاج المفرط الغالب على الهواء.
فقد تبيّن من هذا أنّ قوينطس قد أساء في تفسيره لهذا الكتاب ولفصول من كتاب الفصول لأبقراط افتتحها بأن قال: «وأمّا في أوقات السنة فإنّه إن كان الشتاء يابساً شماليّاً وكان الربيع مطيراً جنوبيّاً، فيجب ضرورة أن تحدث في الصيف حمّيات حادّة ورمد واختلاف دم». وذلك أنّ قوينطس ادّعى أنّ هذه الأشياء إنّما عُرِفت بالتجربة فقط من غير أن يكون وجد قياساً في سبب يوجبها. وأوّل خطائه أنّه لم يعلم أنّ أبقراط قد وصف أسباب تلك الأشياء التي ذكرها في كتاب الفصول وفي كتابه في الماء والهواء والمواضع، والثاني أنّه تجاوز وترك أنفع ما يتعلّم في هذا الباب.
وذلك أنّ للتفسير فضيلتين: إحداهما أن يحفظ معنى الرجل الذي يفسّر كلامه ولا يزول عنه، فالأخرى أن يعلّم من يقرأ تفسيره ما ينتفع به. وقد أفسد
قوينطس هاتين الفضيلتين جميعاً بتركه إيجاب حدوث الأمراض التي ذكر أبقراط أنّها تكثر في كلّ وقت واحد من أوقات السنة على حال الهواء المحيط بالأبدان فيه. وأبقراط يريد أنّ حدوث تلك الأمراض واجب عن مزاج الوقت الذي تحدث فيه. ونحن لا نقدر أن نتقدّم فنعلم أنّ تلك الأمراض ستحدث ولا أن نمنع من حدوثها ولا أن نبرئها إذا حدثت دون أن نعلم الحال الحادثة في البدن من فساد مزاج الهواء. فبهذا الطريق قد نصل نحن أن نستخرج ونعرف قوى جميع حالات الهواء التي لم يذكرها أبقراط معما ذكر.
فمن أراد أن يعظّم انتفاعه في الطبّ من قراءة هذا الكتاب، فينبغي أن يقرأ قبله [في] كتاب أبقراط في طبيعة الإنسان وكتابه في الماء والهواء والمواضع وما ذكره في كتاب الفصول من أمر أوقات السنة وقوى حالات الهواء الحارّة والباردة والرطوبة واليابسة، ويضطرّ أيضاً أن يقرأ مع ما ذكرنا كتابه في تقدمة المعرفة، لأنّ جميع ما يذكر في هذا الكتاب إنّما هو مبنيّ على ما بيّنه في هذه الكتب التي ذكرتها.
أمّا أوّل الأمر فإنّ صحّة الأعضاء الأول التي في البدن إنّما هي اعتدال مزاج الحارّ والبارد واليابس والرطب. وأمّا الثاني فإنّ الربيع أعدل أوقات السنة مزاجاً إذا كان باقياً على مزاجه الخاصّ ولذلك يكثر فيه الدم. والصيف أزيد حرّاً ويبساً من المقدار المعتدل، والشتاء أزيد رطوبةً وبرداً. والخريف مختلف المزاج والغالب عليه اليبس والبرد. ويكثر في كلّ واحد من هذه الأوقات واحد من الأخلاط، كما قلت قبيل.
وقد نعلم من هذا معما ذكرت من تلك الكتب شيئاً ثالثاً ورابعاً: أمّا من كتاب طبيعة الإنسان فإنّ السبب في المرض الواحد الذي يحدث لجماعة كثيرة في وقت
واحد وفي بلد واحد على خلاف ما اعتاد أهل ذلك البلد إنّما هو الهواء، وأمّا من كتاب تقدمة المعرفة فنعلم ما قوّة كلّ واحد من العلامات التي تكون منها تقدمة المعرفة في كيفيّة ما تدلّ عليه من خير أو شرّ وفي مقداره في الخير إن كان خيراً وفي الشرّ إن كان شرّاً.
وأنا أسألك أيّها القارئ لهذا الكتاب أن تكون حافظاً بجميع ما ذكرت حتّى يكون حاضراً لوهمك كيما يسهل عليك فهم ما نصف. وأُحبّ منك أن تكون قد أعلمتَ نفسك خاصّةً في قراءة كتاب الماء والهواء والمواضع حتّى تعلم أنّي لم أتخرّص القياس في الأسباب الموجبة لحدوث الأمراض عن حالات الهواء، وأنّي إنّما أتبعت ما وصفه أبقراط في ذلك.
ولست أرى مع هذا أن أدع وضع كلام أبقراط بلفظه متى احتجت إليه في كلّ موضع أحتاج إليه فيه. ومن ذلك أنّي في هذا الموضع، قبل أن أبتدئ بتفسير كلام أبقراط، قد رأيت أن أضع كلاماً قاله أبقراط في كتابه في طبيعة الإنسان. أريد به أن أبيّن وأصحّح أنّ أبقراط هو الذي قسم أجناس الأمراض القسمة التي وضعتها، وأنّ الهواء هو السبب في المرض الواحد الذي يحدث لجماعة كثيرة في بلد واحد على خلاف ما اعتادوا.
وهذا هو قول أبقراط في ذلك بلفظه: «فأمّا الأمراض فمنها ما يكون من التدبير ومنها ما يكون من الهواء الذي باستدخاله نعيش. وينبغي أن نتعرّف كلّ واحد من هذين الجنسين من الأمراض بما أصف، وهو أنّه متى اعترى مرض واحد عدّة كثيرة في وقت واحد، فينبغي أن نوجب السبب في ذلك لأعمّ الأشياء وأولاها بأن يكون
جميع الناس يستعمله، وذلك هو الهواء الذي نستنشقه. فإنّه من البيّن أنّ تدبير كلّ واحد من الناس ليس هو السبب في المرض إذا كان قد اشتمل على الكلّ، شابّهم وشيخهم، وإناثهم وذكورهم، وشارب الخمر منهم وشارب الماء، والمغتذي بسويق الشعير منهم والمغتذي بالخبز، ومن تعبه يسير منهم ومن تعبه كثير، فليس إذاً التدبير هو السبب في المرض إذ كان تدبير الناس مختلفاً متصرّفاً على جميع أنحائه، ثمّ كان المرض الذي يحدث واحداً بعينه. فأمّا متى كانت الأمراض التي تحدث في وقت واحد مختلفة، فبيّن أنّ التدبير الذي يستعمله كلّ واحد من الناس الذين يمرضون هو السبب في مرضه».
ففي هذا الكلام قد أوجب أبقراط أنّ السبب في جميع الأمراض التي تحدث لجماعة كثيرة معاً في بلد واحد على خلاف ما اعتادوا إنّما هو مزاج الهواء المحيط بهم. فأمّا في المقالة الثانية من هذا الكتاب، حيث قال إنّ أهل الموضع الذي يقال له «أينس»، لمّا أكلوا الحبوب في جوع أصابهم حدث بهم ضعف في الرجلين، ولمّا أكلوا الكرسنّة أصابهم وجع في الركبتين، فلم يجعل السبب في المرض الذي وصف مزاج الهواء، لكنّه جعله التدبير. وقد يمكن أن يُحدث شرب الماء الرديء في وقت من الأوقات مرضاً عامّيّاً، وقد بلغنا أنّه حدث ذلك لأهل عساكر.
وكذلك أيضاً قد يعرض ذلك لسبب طبيعة الموضع الذي ينزله أهل عسكر فيطول مقامهم فيه، إذا كان في ذلك الموضع أو قريب منه إمّا آجام ونقائع وإمّا
وهدات يخرج منها بخار رديء قتّال. وهذه الأسباب إنّما تُحدث الأمراض بسبب ما يؤثّر في الهواء ويفسده، فهي على هذا القياس محصورة في القول الذي تقدّم. وأمّا الأمراض من هذا الجنس الذي يحدث من الأطعمة والأشربة فقليل ما يعرض وتعرّفها يكون بأسهل الوجوه، فهذا ما وصفه أبقراط في كتاب طبيعة الإنسان.
وقد ذكر في كتابه في الماء والهواء والمواضع في مواضع كثيرة منه أشياء تدلّك على أنّ قسمته للأمراض القسمة التي وصفت. ولولا كراهتي للتطويل لوصفت كلامه في موضع موضع من ذلك الكتاب. وليس ينبغي أن نذهب عليك من كلامه أنّه إنّما يعني بالأمراض البلديّة الأمراض التي تكثر في بلد من البلدان في جميع الأوقات فيعمّ كلّ واحد جماعة كثيرة مثل الموتان. فإنّ الموتان أيضاً من الأمراض العامّيّة، كما دلّ على ذلك أبقراط في كتابه في تدبير الأمراض الحادّة بقول قاله فيه دلّ فيه على أنّ الموتان إنّما هو صنف من أصناف المرض العامّ الذي يحدث لجماعة كثيرة في بلد واحد على خلاف ما اعتاد أهل ذلك البلد، وهو — إذا كان ذلك المرض — خبيث جدّاً مهلك.
فإنّ هذا الصنف من الأمراض الذي يعرض لكثير في بلد واحد في وقت واحد على خلاف ما اعتاد أهل ذلك البلد إنّما هو نوع من المرض العامّ. وإنّ المرض الذي يوضع في القسمة بإزاء المرض العامّ هو المرض الخاصّ الذي يعرض لكلّ واحد من الناس منه خلاف ما يعرض لغيره، وهو الذي سمّيناه المرض «المختلف». فهذه الأمراض على هذا قسمها وسمّاها. وأمّا الموتان فجميع الناس
يعلمون أنّه مرض قتّال وبهذا الاسم يسمّونه ويلجؤون كثيراً في شفائهم منه إلى اللّه.
وقد يسمّى المرض الذي يشتمل على جماعة كثيرة في وقت واحد في بلد واحد على خلاف ما اعتاد أهله، كما قلت قبيل، «إبيذيمي» بسبعة أحرف ويسمّى أيضاً «إبيذيمين» بثمانية أحرف.
فينبغي أن تكون ذاكراً لِما وصفنا من هذا عندما نذكر فيما بعد وتعلم أنّ الأمراض منها أمراض تعمّ كثيراً من الناس ومنها أمراض تخصّ واحداً من الناس، وأنّ الأمراض العامّيّة منها ما يخصّ أهل بلد واحد — ويقال لها «بلديّة» — ومنها ما لا يخصّ أهل بلد واحد، وأنّ أصعب هذه الأمراض أمراض الموتان، وأنّ علّة أمراض الموتان إنّما هي حال تحدث للهواء، مثل سائر الأمراض التي يقال لها «إفيذيميا». ولذلك وصف أبقراط في هذا الكتاب حالات من حالات الهواء حدث عنها موتان مثل الحال التي ذكرها في المقالة الثالثة من هذا الكتاب، لأنّ المرض العارض في الموتان هو جنس الأمراض العامّيّة لأهل بلد واحد في وقت واحد على خلاف عادتهم.
فهذا ما كان ينبغي أن نقدّمه قبل تفسيري لشيء شيء ممّا قاله أبقراط.
وأنا مقبل على تفسير كلام أبقراط بعد أن أقدّم ذكر شيء قد كتبته في كثير من كتبي، وهو أنّي حثثت من يريد تعلّم الطبّ أن يرتاض في الأشياء الخاصّيّة ممّا يحسّ فيتقدّم فيعلمها علماً. وقد قال أصحاب التجارب إنّ هذه الأشياء الجزئيّة هي أصل معرفة الأشياء الكلّيّة؛ وإنّ المعاني الصحيحة إنّما هي المعاني التي كان
قوامها بالتجربة. وإنّه وإن كان نظنّ أنّ كثيراً من المعاني استخرجت بالقياس، فإنّ حقيقتها إنّما تتعرّف بالتجربة وبها تصحّ وتثبت. وعلى هذا الطريق يكون تصديقنا لِما بيّنه إيفرخس في مقدار عظم الشمس والقمر وبُعدهما من الأرض، فأصحّ شهادة ما يحدث من الكسوف في وقت بعد وقت عليه.
فإذا كان قد تبيّن من البراهين الهندسيّة، يزداد تأكيداً وصحّة إذا شهدت عليه الأشياء الجزئيّة المحسوسة. فكم بالحريّ ما يستخرج في الطبّ بالقياس من الأمور العامّيّة، إذا هو جُرّب واختبر بعواقب الأمور الجزئيّة، تكون معرفته أصحّ وآكَد. ونحن مبيّنون أنّ ذلك يكون في هذا الكتاب على هذا المثال الذي وصفت.
(١آ) قال أبقراط: كان بثاسس في الخريف فيما بين الاستواء ونوء الثريّا أمطار كثيرة متواترة ليّنة مع جنوب.
قال جالينوس: إنّي سأبيّن فيما بعد أنّ طبيعة البلد ممّا قد ينتفع بمعرفته في معرفة الأمراض الحادثة لأهل ذلك البلد بأسره على خلاف ما اعتادوا. وأمّا الآن فإنّي أفسّر أوّلاً لفظ أبقراط في قوله «ما بين الاستواء ونوء الثريّا».
فأقول إنّ الاستواء يكون في السنة مرّتين وللثريّا أيضاً نوآن. وقد دلّ أبقراط بإلحاقه في قوله «في الخريف» أيّ الاستوائين عنى وأيّ النوئين، وذلك أنّ أحد الاستوائين يكون في الربيع وذلك الاستواء هو ابتداء الربيع في بلدنا، أيْ هذا الذي نسكنه، وأمّا آخر الربيع وانقضاؤه فهو طلوع الثريّا. فأمّا الاستواء الآخر فيكون في الخريف، وفيه يكون أيضاً غروب الثريّا.
وغروب الثريّا يكون في بلدنا من بعد الاستواء الخريفيّ بنحو من خمسين يوماً. وينبغي أن تعلم أنّ الاستوائين والمنقلبين يكون كلّ واحد منهما في وقت واحد في كلّ بلد. فأمّا طلوع الكواكب وغروبها فيختلفان في البلدان المختلفة حتّى يكونا في كلّ واحد من البلدان في غير الوقت الذي يكونان فيه في غيره، وليس يعمّ طلوع الكواكب وغروبها إلّا من كان تحت دائرة واحدة من الدوائر الموازية لمعدّل النهار.
ومن أعظم ما يحتاج إليه ضرورة في هذا الغرض الذي إيّاه قصدنا كلّه أن نعلم طلوع وغروب كلّ واحد من الكواكب أو من جماعة الكواكب في البلدان التي نريد علاج الطبّ فيها، وذلك لأنّ بها يكون تحديد أوقات السنة. ومن ذلك أنّ في البلدان التي تميّز عليها الدائرة الموازية لمعدّل النهار التي تمرّ على البلد الذي يقال له «اللسبنطس» أمّا أوّل الربيع فهو الاستواء الذي يكون فيه؛ وأمّا انقضاؤه فهو طلوع الثريّا، وذلك الوقت بعينه هو ابتداء الصيف؛ وأمّا انقضاء الصيف وابتداء الخريف فهو طلوع السماك الرامح، وطلوعه يكون قبل الاستواء الخريفيّ بنحو من اثني عشر يوماً؛ وأمّا انقضاء الخريف وأوّل الشتاء فهو غروب الثريّا.
وإنّي لأعلم أنّك تستعجب وتبحث عن السبب الذي دعاني إلى ترك ذكر طلوع الكوكب المشهور الذي يطلع في الصيف في كلامي هذا، وهو الكوكب الذي يُعرَف «بالشعرى العبور». وقد يسمّيه قوم «بالكلب» بطريق الاستعارة للاسم المشتمل على جملة الكواكب الذي هو واحد منها. فإنّ الكلب بالحقيقة إنّما هو جماعة تلك الكواكب التي في تلك الصورة، وأمّا الشعرى فهو واحد من تلك
الكواكب، موضوع على قلب الكلب. وطلوع هذا الكوكب هو ابتداء جزء من الصيف يُعرَف «بوقت الفاكهة».
ومن قسم السنة على سبعة أوقات يجعل هذا الجزء الأوّل من الصيف ما بين طلوع الثريّا وبين طلوع الشعرى العبور. ويجعل هذا الجزء الثاني من الصيف، وهو الوقت الذي قلت إنّه يُعرَف «بوقت الفاكهة»، ما بين ذلك الوقت وبين طلوع السماك الرامح. وهؤلاء القوم يقسمون الشتاء أيضاً إلى ثلاثة أقسام، فيجعلون القسم الأوسط منه ما يلي المنقلب الشتويّ، ويجعلون القسم الذي قبل هذا من الشتاء «وقت الزراعة»، ويجعلون الوقت الذي بعد الوقت الأوسط «وقت الغروس».
وقد نجد أيضاً في كتاب الأسابيع الذي قد يُنحله أبقراطُ السنة قد قُسمت بسبعة أقسام. فتُرك كلّ واحد من الخريف والربيع على حاله فلم يُقسَم، وقُسم الشتاء بثلاثة أقسام والصيف بقسمين. وقد ينتفع بهذه القسمة على ما سنبيّن فيما بعد.
وينتفع أيضاً بقسمة السنة إلى أوقات الأربعة، كما سنبيّن ذلك أيضاً، بل لا ينبغي أن نقول إنّا سنبيّن ذلك، لكن نقول إنّ أبقراط قد بيّن ذلك حيث أوجب أنّ غلبات الأخلاط وأنواع الأمراض وأصناف مزاج الهواء التي هي أصل غلبات الأخلاط وأصناف الأمراض أربعة أصناف. وذلك أنّه وإن قسم قاسم المدّة التي فيما بين طلوع الثريّا وبين طلوع السماك الرامح قسمين، فإنّه على حال قد تعمّ تلك المدّة كلّها أنّ الهواء فيها أجفّ وأسخن من المزاج المعتدل. وكذلك أيضاً قد يعمّ الشتاء كلّه أنّه أبرد وأرطب من المزاج المعتدل، وإن قُسم بثلاثة أقسام.
فأصناف اختلاف المزاج العظيمة العامّيّة تقسم أوقات السنة بأربعة، وأصناف اختلافه اليسيرة الخاصّيّة في كلّ واحد من تلك الأصناف العامّيّة في الكثرة والقلّة
تقسم الصيف بقسمين وتقسم الشتاء بثلاثة أقسام. والسبب في قسمة هذين الوقتين دون الوقتين الآخرين من أوقات السنة طول مدّة كلّ واحد منهما. وذلك لأنّ الزمان الذي بين طلوع الثريّا وبين طلوع السماك الرامح يكون أربعة أشهر والزمان الذي بين غروب الثريّا وبين الاستواء الربيعيّ يكون أكثر من أربعة أشهر، وأمّا زمان الربيع فليس يتمّ شهرين، فلذلك بالواجب ترك فلم يقسم. وكذلك أيضاً زمن الخريف، وذلك أنّ زمان الخريف، وإن كان أطول من زمان الربيع إذ كان شهرين، فإنّه على حال أنقص كثيراً من مدّة زمن الصيف والشتاء.
فاكتفِ منّي بقولي لك ما قلت من هذا مرّة واحدة واحْفَظْه عنّي أحْضِرْه ذهنك في جميع ما يتلوه من قولي، حتّى تقدر بسهولة أن تعرف هذه الأوقات من الشهور في كلّ بلد، إذ كانت الشهور عند أهل البلدان والأمم المختلفة مختلفة.
ولو كانت الشهور تجري في جميع البلدان على أمر واحد منتظم، لَما احتاج أبقراط أن يذكر «أنواء الثريّا» والسماك والشعرى «والاستوائين» والمنقلبين، لكن كان يكفيه أن يقول إنّ مزاج الهواء يصير في أوّل شهر كذا وكذا بحال كذا وكذا، كأنّه قال في المثل إنّ مزاج الهواء يصير في الشهر الذي يقال «ديس»، وهو تشرين الآخَر، بحال كذا وكذا. ولمّا كان استعمال أهل البلدان المختلفة لأسماء الشهور وحسابها مختلفاً، كان أبقراط، لو ذكر اسم هذا الشهر الذي سمّيته قبيل، أعني ديس، لَما كان يعرفه إلّا أهل ماقيدونيا فقط لأنّه اسم شهر من شهورهم، وكان يجهله أهل أثينية وسائر أهل البلدان الأخر.
وأبقراط يقصد أن ينفع بعلمه أهل كلّ بلد وكلّ أمّة. فكان الأجود على حسب غرضه أن يحدّ الأوقات بالاستواء والانقلاب، أمران يعمّان العالم كلّه. وأمّا
الشهور فتخصّ أهل بلد بلد وأمّة أمّة. فمن كان لا خبر له بعلم النجوم فليعلم قبل كلّ شيء أنّه قد خالف هوى أبقراط، إذ كان أبقراط يأمر من قصد للطبّ أن يتقدّم فيستعدّ له بتعلّم علم النجوم للحاجة إليه فيما ذكرنا.
وهذا، وإن كان هكذا، فإنّي أرى على كلّ حال أنّ القصد لنفع من تلك حاله أشبه بطريق الرحمة، فذلك يدعوني أن أروم أن أرسم لهم رسماً في أمر الأوقات حتّى أبلغ ما يمكن في نفعهم حتّى، إذا تدبّروه وفهموه ونصبوه نصب أعينهم، نالوا ثمرة جميع ما قال أبقراط في هذا الباب الذي نحن فيه.
فأقول إنّ السنة تنقسم إلى أربعة أقسام بالاستوائين والمنقلبين. فإذا أنت سألتَ رجلاً من المنجّمين عن هذه الأقسام الأربعة في أيّ الشهور من شهور أهل بلدك وفي كم من كلّ واحد منها تقع، قدرتَ أن تفهم عنه ما يصف لك من سائر الأنواء التي تكون بطلوع وغروب كلّ واحد من الكواكب أو من جماعاتها.
وأنا أضرب لك في ذلك مثلاً لتفهّمه به: أقول إنّك إذا تقدّمتَ فعلمتَ أنّ الاستواء الخريفيّ يكون في أوّل يوم من الشهر الذي يسمّيه أهل ماقيدونيا «ديس»، ثمّ علمتَ أنّ المنقلب الشتويّ يكون بعدها بثلاثة أشهر، علمتَ أنّه يقع في أوّل يوم من الشهر الذي يسمّيه أهل ماقيدونيا «باريطيس»، وهو شُباط، فإنّ على هذا كان أهل ماقيدونيا وضعوا أصل حسابهم. وإذا علمتَ أنّ الاستواء الربيعيّ يكون بعد هذا بثلاثة أشهر، علمتَ أنّه يقع في أوّل يوم من الشهر الذي يقال له «أرطيميسيس» من شهور أهل ماقيدونيا، وهو أيّار. وكذلك إذا علمتَ أنّ المنقلب الصيفيّ يكون بعد هذا بثلاثة أشهر، علمتَ أنّه يقع في أوّل يوم من الشهر الذي
يقال له «لواس»، وهو آب، من شهور أهل ماقيدونيا. فإنّ أهل ماقيدونيا كانوا بنوا حسابهم على أن يقع الاستواءان والمنقلبان في أوائل هذه الشهور التي قد ذكرنا من شهورهم.
فمن تقدّم فعلم هذا ثمّ خبر مع ذلك أنّ السماك الرامح يطلع قبل الاستواء الخريفيّ باثني عشر يوماً في المثل، وأنّ الثريّا تغرب من بعد ذلك نحو من خمسين يوماً، علم في أيّ شهر من شهور أيّ بلد وفي كم يوم منه يقع نوء كلّ واحد من هذين النجمين، ويرصد ويتفقّد، إن أراد أن يتبع أبقراط ويفهم عنه ما قال، تغيّر مزاج الهواء كيف يكون في وقت وقت من هذه الأوقات.
وبيّن أنّه لا ينبغي لك أن تحسب الشهور على القمر، كما تحسب في هذا الزمان في كثير من مدن اليونانيّين وكانت تحسب فيما مضى في جميع مدنهم، لكنّ على الشمس، كما تحسب عند كثير من الأمم، وخاصّةً عند الروم.
فإنّ السنة عند الروم تقسم على اثني عشر شهراً. وواحد منها يحسب عندهم ثمانية وعشرين يوماً، وهو الشهر الثاني في حسابهم من بعد المنقلب الشتويّ. فأمّا الشهر الأوّل من بعد المنقلب الشتويّ، وهو عندهم أوّل شهر من شهور السنة، فهو في حسابهم أحد وثلاثون يوماً؛ يريد بالأوّل كانون الثاني، وهو ينواريس. والشهر الثاني فيحسبونه ثمانية وعشرين يوماً، وكذلك أيضاً الشهر الثالث بعد المنقلب الشتويّ يحسبونه أحداً وثلاثين يوماً، وهو آذار. وأمّا الشهر الرابع فيحسبونه ثلاثين يوماً، وهو نيسان؛ وأمّا الخامس فمثل الأوّل والثالث أحد وثلاثون يوماً؛ وأمّا السادس فمثل الرابع؛ وأمّا الشهران اللذان بعد السادس فمثل الأوّل؛ ثمّ الشهر الذي بعدهما يحسبونه ثلاثين يوماً؛ ثمّ الذي بعده أحداً وثلاثين يوماً، وهو الشهر العاشر من شهور السنة كلّها؛ ثمّ الشهر الحادي عشر ثلاثين يوماً؛ والشهر الأخير
أحداً وثلاثين يوماً، وهو كانون الأوّل. فإذا جمعتَ أيّام كلّ واحد من هذه الشهور، كانت ثلاثمائة وخمسة وستّين يوماً 〈…〉 على هذا الحساب.
قال أبقراط: كان بثاسس في الخريف.
(١ب) قال جالينوس: أمّا على قول قوينطس فليس تؤخذ من البلد الذي حدثت فيه أمراض عامّيّة غريبة دلالة على تقدمة المعرفة بحدوثها، ولا يمكن بتّة أن يوصل إلى تقدّم العلم بما يحدث منها. وإنّما يمكن أن يعلم أنّه قد حدثت أمراض عندما فسد مزاج أوقات السنة الطبيعيّ. فالعجب أن أطلق ذلك قوينطس، وقد نجده ربّما قال إنّ أصناف فساد مزاج الأوقات لم تُعرَف بطريق القياس، لكنّه إنّما عُرف بالتجربة فقط، ونجد أصحاب التجارب يسمّون أصناف تركيب مزاج الأوقات الرديء باسم «اجتماع الأعراض» التي يستدلّون بها على ما ينبغي أن يعالجوا، وهو المقارنة.
ونجدهم لمّا فسّروا فصول أبقراط قالوا إنّه إنّما عرف أنّ كلّ صنف من تلك الأصناف من مزاج أوقات السنة يُحدث الأصناف التي ذكرها أبقراط من الأمراض بالتجربة، مثل أن يكون «متى كان الشتاء عديماً للمطر شماليّاً وكان الربيع مطيراً جنوبيّاً، حدث في الصيف حمّيات حادّة ورمد واختلاف دم»؛ وأيضاً «متى كان الشتاء جنوبيّاً مطيراً وكان الربيع قليل المطر شماليّاً، فإنّ النساء اللاتي يتّفق ولادهنّ نحو الربيع يُسقطن من أدنى سبب»؛ وسائر ما وصفه بعد هذا.
ولم يذكر أبقراط في ذلك الكتاب من أصناف اختلاف مزاج الأوقات إلّا أربعة أصناف فقط، على أنّها كثيرة جدّاً. وقد كان ينبغي لقوينطس أن يتفكّر في ذلك فيبحث ويطلب أوّلاً هل جميع تلك الأصناف أربعة فقط أو أكثر من ذلك، أعني أصناف تغيير الأوقات عن مزاجها الطبيعيّ؛ ثمّ، إذا وجدها أكثر من أربعة، أن يطلب كم عددها كلّها؛ ثمّ يفحص وينظر لِمَ اقتصر أبقراط على ذكر أربعة منها؛ ثمّ يطلب بعد جميع ذلك طريقاً يسلكه فيعلم به قوى جميع أصناف تغيير الأوقات، لأنّه لا يمكننا أن نصل إلى أن نتقدّم فنعلم ما سيحدث من الأمراض العامّيّة الغريبة دون أن نسلك هذا الطريق.
ولا يصل أيضاً إلى أن يحفظ الأبدان ويمنعها بالعلاج من تمكّن تلك الأمراض إلّا مَن سلك ذلك الطريق فنظر في مقاومة السبب المولّد للأمراض أو تلطّف أن يكون ما ينال الأبدان منها أقلّ ما يمكن. ولا أحسب من نظر أقلّ نظر، فضلاً على من قد تبع في الأدب، يجهل أنّ من رام هذا الطريق وفقهه هو أبلغ في مداواة تلك الأمراض ممّن لم يتفقّه في ذلك.
وقد يظهر لك ظهوراً بيّناً أنّ أبقراط قد كان يعلم أنّ أصناف اختلاف مزاج الأوقات أكثر من الأصناف الأربعة التي ذكرها في كتاب الفصول من أشياء ذكرها في هذا الكتاب الذي نحن في تفسيره. فإنّه وصف في هذه المقالة الأولى حالاً من حالات الهواء فختم قوله فيها بأن قال: «إنّ جملة تلك الحال كانت أنّ الجنوب كانت فيها أغلب مع قلّة مطر»، فهذه هي أوّل حال من حالات الهواء
التي ذكرها في هذه المقالة. ووصف فيها حالاً ثانية قال فيها: «إنّ السنة كلّها كانت مطيرة باردة شماليّة».
ووصف حالاً ثالثة مختلفة كان أوّلها قبل طلوع السماك الرامح بقليل. وكانت في ذلك الوقت باردة رطبة، ثمّ إنّها بعد حالت منذ وقت الاستواء الخريفيّ فصارت جنوبيّة مع رطوبة يسيرة ودامت على ذلك إلى وقت غروب الثريّا، ثمّ إنّها تغيّرت فصارت باردة يابسة مع رياح شماليّة شديدة ودامت على تلك الشاكلة، ثمّ بقيت على بردها ويبسها إلى وقت طلوع الشعرى العبور، ثمّ حدث فيها حرّ شديد دفعة ودام إلى وقت طلوع السماك الرامح، ثمّ حدثت في ذلك الوقت أمطار جنوبيّة إلى وقت الاستواء. فهذه الحال كانت مختلفة، كما قلت، إلّا أنّ الأغلب كان فيها البرد واليبس.
وقد وصف أبقراط في المقالة الثالثة من هذا الكتاب حالاً أخرى من أحوال الهواء، وأجمل ذكرها فقال: «إنّها كانت سنة جنوبيّة مطيرة ودام فيها الركود». ووصف أيضاً في المقالة الثانية في أوّلها حالاً أخرى من حالات الهواء فقال: «إنّ الجمر الذي عرض ببلاد قرانون في الصيف كان أنّه جاء مطر جود في الحرّ الصيف كلّه، وكان أكثره مع الجنوب». فنعلم من هذا أنّ تلك الحال أيضاً كانت حارّة مفرطة الحرارة رطبة، وكانت كذلك في وقت واحد من أوقات السنة، أعني في الصيف، كما كانت تلك الحال التي وصفها في المقالة الثالثة في السنة كلّها.
وقد نجده قد وصف في هذا الكتاب أصنافاً أخر من أصناف حالات الهواء أيّ الأوقات لم يذكرها في كتاب الفصول. فيدلّ ذلك على أنّه لم يدع ذكر ما لم يذكره في كتاب الفصول لأنّه جهله؛ ولكنّه إنّما قصد لذكر تلك الأصناف الأربعة دون غيرها في كتاب الفصول، لأنّها تعرض أكثر ممّا تعرض سائر الأصناف الأخر، وفيها كفاية لمن أراد أن يجعلها مثالاً مع ما وصفه أبقراط من الأسباب في حدوث الأمراض عن تلك الحالات في كتاب الماء والهواء والمواضع. ولو كان أبقراط أيضاً ترك ذكر الأسباب التي بها يكون توليد تلك الأمراض، لقد كنّا نحن نستخرجها ونعرفها ممّا وصفه في كتاب الفصول، وذلك أنّ ما وصفه هناك كافٍ للمستعمل للقياس في أن يبلغه إلى وجود ما يطلبه من هذا الباب.
فقد ينبغي لك أن تعلم أمراً قد بيّنته مراراً كثيرة في كثير من كتبي بياناً كافياً، وأنا واصف منه في هذا الموضع أيضاً ما لا بدّ منه في هذا الغرض الذي قصدنا إليه: فإنّه ليس يمكن أن تُعرَف الأصناف الجزئيّة من تراكيب أشياء بأعيانها، لا في صناعة الطبّ ولا في غيرها، بالتجربة لكثرتها، لكنّ السبيل إلى معرفة جميعها سبيل واحدة، وهو طريق معرفة أصولها، كمعرفة الأحرف في صناعة الكتاب. فينبغي أن ننظر أنّ الأصول هي أصول علم حالات الهواء، ومِحمَل الشيء الذي نبني عليه نظرنا في طبيعة الأمر الذي إليه نقصد، كما تعلّمنا في كتاب البرهان.
وأنا راجع في القول في هذا ومبتدئه منذ أوّله ومقتصّه عن آخره على الولاء حتّى لا أدع منها شيئاً.
فأقول إنّ أوقات السنة تخالف بعضها بعضاً بالرطوبة واليبس والحرّ والبرد، لأنّ الشتاء أقوى سائر أوقات السنة رطوبة وبرداً والصيف أقواها حرّاً ويبساً؛ والربيع متوسّط
بالحقيقة فيما بين الحالتين، وذلك أنّه ليس يغلب فيه واحد من الضدّين الآخرين، لا الرطوبة ولا اليبس ولا البرد ولا الحرّ، ولا بالعكس حتّى يكون اليبس أغلب من الرطوبة أو الحرّ من البرد، لكنّه كأنّه قد اجتمعت فيه من الأضداد أجزاء متساوية وجميع أجزائه متشابهة. وذلك أنّ النهار كلّه كأنّه على حال واحدة وكذلك الليل، إذ كان ليس يحدث فيه في النهار والليل كثير تفاضل كالتفاضل الذي نراه يكون في الخريف، لأنّ الأسحار في الخريف باردة وفي انتصاف النهار حرّ شديد وفي وقت المساء يعود البرد. فبالواجب نقول إنّ الخريف مختلف المزاج بخلاف حال الربيع، إذ كان الربيع مستوي المزاج، إلّا أنّ الأغلب على حال في الخريف اليبس على الرطوبة والبرد على الحرّ.
فهذا هو مزاج كلّ واحد من أوقات السنة على الأمر الأكثر. وتغيّر الشتاء حتّى يصير صيفاً والصيف حتّى يصير شتاء يكون منه شيء قليل حتّى لا يحسّ في الزمان كلّه، ويكون منه شيء مقادير أعظم حتّى يحسّ عند انقلاب كلّ وقت إلى الوقت المجاوز له، إلّا أنّ تلك المقادير، وإن كانت ذوات قدر، فإنّها لا تنسب إلى المعظم والمفاجأة.
والأ〈…〉اط† من ذلك أنّ السماك الرامح يكاد أن يكون طلوعه في أكثر الحالات مع رياح باردة فيحدث عند ذلك مطر، فمنذ ذلك يبتدئ الخريف وينقضي الصيف. ثمّ إنّ البرد لا يزال فيما بعد ذلك من الزمان يتزيّد قليلاً قليلاً من غير أن يحسّ تزيّده حتّى وقت غروب الثريّا، فإذا كان ذلك الوقت، حدث من التغيّر ما يحسّ. ثمّ منذ ذلك الوقت أيضاً لا يزال الهواء يزداد رطوبة وبرداً إلى وسط الشتاء، وذلك يكون قليلاً قليلاً من غير أن يحسّ، ثمّ ينتقص برده ورطوبته على هذا
المثال إلى وقت الاستواء الربيعيّ. وربّما كان تزيّد التغيّر جارياً على مثال واحد إلى وقت طلوع الثريّا. وفي أكثر الأمر قد يحدث نحو وقت الاستواء تغيّر محسوس، إلّا أنّه معتدل. ثمّ من بعد طلوع الثريّا لا يزال الحرّ واليبس يتزيّدان إلى وقت طلوع الشعرى العبور، إلّا أنّ ذلك يكون قليلاً قليلاً وبمقدار قاصد إذا كانت السنة سنة صحيحة. ويحدث، إذا كانت السنة صحيحة، نحو طلوع الشعرى العبور هبوب جنائب يسيرة، ثمّ من بعدها مطر. فيكون ذلك داعياً إلى هبوب الرياح التي تسمّى «الحوليّة»، ولا يزال ذلك كذلك إلى وقت طلوع السماك الرامح.
وقد علمنا بالتجربة والقياس أنّه، إذا جرى أمر أوقات السنة هذا المجرى وكان تغيّرها بعضها إلى بعض على هذا المثال، لم يحدث موتان ولا أمراض شاملة غريبة، ولم يحدث من الأمراض إلّا الأمراض التي يسمّيها «المختلفة» التي تحدث بسبب الخطاء في التدبير.
وقد يغلب في كلّ واحد من أوقات السنة خاصّة واحد من الأخلاط، كما وصف أبقراط بأنّه يغلب في الشتاء البلغم وفي الربيع الدم وفي الصيف المرّة المُرّة وفي الخريف المرّة الحامضة. وليس الأمراض التي تعرض كثيراً للذين يسيؤون التدبير أمراضاً بأعيانها في جميع أوقات السنة، لكنّ الأمر، كما وصف أبقراط، من أنّه «يعرض في الربيع الوسواس السوداويّ والجنون والصرع وانبعاث الدم» وسائر ما وصف بعد ذلك، ويعرض في الصيف أمراض أخر قد وصفها وفي الخريف أخر وفي الشتاء غيرها.
وحدوث هذه الأمراض يكون من الخطاء في التدبير، وتختلف أصنافها بحسب الوقت الذي تحدث فيه من أوقات السنة وبحسب سنّ الذي تعرض له وطبيعته. وذلك أنّه لمّا كان مزاج الأبدان وغلبة الأخلاط فيها تختلف بحسب
طبائعها وأسنانها، صارت أصناف الأمراض التي تعرض لها تختلف بحسب ذلك.
وقد وصف أبقراط اختلاف الأمراض التي تعرض بحسب اختلاف الأسنان فقال: «فأمّا في الأسنان فتعرض هذه الأمراض، أمّا الأطفال الصغار حين يولدون فيعرض لهم القلاع والقيء» وسائر ما عدّد بعد ذلك ممّا يعرض للأطفال. ثمّ وصف ما يعرض لأصحاب سنّ سنّ من جميع الأسنان حتّى أتى عليها عن آخرها.
ووصف أيضاً أمر الطبائع فقال: «إنّ من الطبائع ما تكون حاله في الصيف أجود وفي الشتاء أردأ، ومنها ما تكون حاله في الشتاء أجود وفي الصيف أردأ». فيصير بدن المريض بمنزلة الشيء المفعول فيه، ويصير الهواء المحيط به بمنزلة السبب الفاعل فيه، ويصير من اجتماعها المزاج الحادث للبدن الذي بسببه تحدث الأمراض المشتملة الغريبة.
فإن نحن نظرنا ما الذي يمكن أن يفعل حرّ الهواء في أبدان الناس وما الذي يمكن أن يفعل فيها برده ويبسه ورطوبته ونظرنا في نفس الشيء المفعول فيه كيف حاله، لم يعسر علينا أن نستخرج ونتقدّم فنعلم أنّ الأمراض ستحدث من الأمراض العامّيّة الغريبة ومثلها من الأمراض التي هي من غير هذا الجنس ممّا عافية سليمة. وقد وصف أبقراط ذلك فقال: «إذا كانت أوقات السنة لازمة لنظامها وكان في كلّ وقت منها ما ينبغي أن يكون فيه، كان ما يحدث فيها من الأمراض حسن الثبات
والنظام حسن البحران. وإذا كانت أوقات السنة غير لازمة لنظامها، كان ما يحدث فيها من الأمراض غير منتظم سمج البحران».
فإن أحببتَ أن تعلم ما قوى هذه الكيفيّات التي ذكرنا، أعني الرطوبة واليبس والحرّ والبرد، فاستمع ما قاله أبقراط في كتاب الفصول وهو هذا: «إنّ من حالات الهواء في السنة بالجملة قلّة المطر أصحّ من كثرة المطر وأقلّ موتاً. فأمّا الأمراض التي تحدث عند كثرة المطر في أكثر الحالات فهي حمّيات طويلة واستطلاق البطن وعفن وسكات وذبحة. فأمّا الأمراض التي تحدث عند قلّة المطر فهي سلّ ورمد ووجع المفاصل وتقطير البول واختلاف الدم». هذا قوله في حالات الهواء في الرطوبة واليبس التي تدوم زماناً طويلاً.
وكما وصف في هذا الكلام الذي تقدّم حال اختلاف الهواء في الرطوبة واليبس، كذلك وصف حال اختلافه في الحرّ والبرد في الكلام الذي وصف فيه حالات الهواء في وقت هبوب الشمال والجنوب. وذلك أنّ في هذه البلدان التي نسكنها نحن، معشر اليونانيّين، الشمال باردة والجنوب حارّة، إلّا أنّه قد يكون في الندرة أن تكون الجنوب في أوّل الربيع أو في غيره من الأوقات باردة مدّة يسيرة. وإذا كانت كذلك، أيضاً لم تكن في تلك الحال أبرد من الشمال.
فاسمع ما قال أبقراط في هذا أيضاً في كتاب الفصول وهو هذا: «الجنوب تُحدث ثقلاً في السمع وغشاوة في البصر وثقلاً في الرأس وكسلاً واسترخاء، فعند
قوّة هذه الريح وغلبتها تعرض للمرضى هذه الأعراض. فأمّا الشمال فتُحدث السعال وأوجاع الحلوق والبطون اليابسة وعسر البول والاقشعرار ووجعاً في الأضلاع والصدر، فعند [قوّة] غلبة هذه الريح وقوّتها فينبغي أن تتوقّع في الأمراض حدوث هذه الأعراض». فهذا قوله في الرياح الشماليّة والجنوبيّة القويّة الدائمة مدّة طويلة. فقد أشار إلى هذا المعنى بقوله «فعند قوّة هذه الريح وغلبتها»، لأنّه لا يجوز أن يكون قال هذا ويريد الريح التي إنّما هبّت منذ مدّة يسيرة ولا الريح التي، وإن كانت قد هبّت منذ أيّام كثيرة، فإنّها ضعيفة.
فأمّا الرياح التي تهبّ في يوم يوم، الشماليّة منها والجنوبيّة، فاسمع ما قال أبقراط فيها في كتاب الفصول. قال: «وأمّا حالات الهواء في يوم يوم فما كان منها شماليّاً فإنّه يجمّع الأبدان ويشدّها ويقوّيها ويجوّد حركتها ويحسّن ألوانها ويصفّي السمع منها ويجفّف البطن ويُحدث في الأعين لذعاً، فإن كان في نواحي الصدر وجع متقدّم هيّجه وزاد فيه. وما كان منها جنوبيّاً فإنّه يحلّ الأبدان ويرخيها ويرطبها ويُحدث ثقلاً في الرأس 〈وثقلاً في السمع〉 وسدراً وعسر حركة في العينين وفي البدن كلّه ويلين البطن».
وقد وصف في كتاب الفصول مع هذا أشياء أخر في طبائع أوقات السنة وانقلابها دفعة بعضها إلى بعض، وسنذكر كلّ واحد من تلك الفصول عند وقت الحاجة إليه. فأمّا في هذا الموضع فيكفي أن نبيّن هذا فقط، أعني أنّ أبقراط قد وصف القوى الأصليّة التي لحالات الهواء، وهي التي ينبغي أن نبني الأمر عليها في كلّ حال تحدث للهواء وكيف كانت، ونسلك في ذلك طريقاً منتظماً على
ترتيب، فسنستخرج ونعلم أيّ الأمراض ستحدث وكيف ينبغي أن نمنع من حدوثها أو نداويها إذا كانت قد حدثت. فإنّ هذا هو أعظم ثمرة ما قصدنا إليه من العلم في هذا الكتاب.
واحد الأصول التي يُبنَى عليها هذا الطريق هو البلد، إذا كان البلد أيضاً قد يدلّ على شيء من أمر تولّد الأمراض، كما قد تدلّ طبيعة كلّ واحد من الناس وسنّه وعمله وتدبيره.
وقد بيّن أبقراط بياناً شافياً في كتابه في الهواء والماء والمواضع أيّ الأمراض التي تكثر في كلّ واحد من البلدان. فأنت تقدر، متى كانت حال الهواء في المثل حال رطوبة وبرودة وكان مزمعاً أن تحدث بحسب طبيعته الأمراض التي بيّنها أبقراط، أن تضيف إلى ما استدللتَ عليه بتلك الحال ما يدلّ عليه البلد، وكذلك أيضاً ما تدلّ عليه السنّ وما تدلّ عليه طبيعة البدن وعمل صاحبه وتدبيره كلّه. وذلك أنّ الأبدان التي هي رطبة باردة بطبيعتها وبالأسباب التي من خارج تسرع إليها الأمراض التي تحدث من حال الهواء الباردة الرطبة، والأبدان التي هي على ضدّ ذلك فقبولها لتلك الأمراض أعسر. فمتى كان البلد رطباً بارداً بطبيعته المخصوص بها، ثمّ حدثت للهواء فيه حال باردة رطبة، كان تولّد الأمراض المشاكلة لتلك الحال الحادثة للهواء أسهل وأسرع، لأنّ البلد يُعين على حدوثها.
وكذلك إن حدثت للهواء في وقت من الأوقات حال مفرطة في الحرّ والرطوبة، مثل الحال التي وصفها أبقراط في أوّل المقالة الثانية من هذا الكتاب حيث قال: «إنّه جاء مطر جود في الحرّ الصيف كلّه وكان أكثره مع جنوب». فإنّه قد يُعين
البلد في تولّد أمراض العفونة متى كان خاصّة خارجاً عن الاعتدال في الأمرين جميعاً، أعني متى كان أسخن وأرطب.
وقد يصير أيضاً على ذلك متى كان أحد هذين الأمرين غالباً في مزاجه مفرطاً مثل البلد المسمّى قرانون، إذ كان موضعه موضعاً متسفّلاً جنوبيّاً. ولذلك لمّا حدثت للهواء حال عامّيّة أفرط عليه فيها الحرّ والرطوبة، اعترى أهل ذلك البلد خاصّة مرض يكون من العفونة، وهو الجمر، إذ كانت مدينة قرانون مع سائر رداءة أحوالها الغالب عليها الركود والرهو لانخفاض موضعها ولاستتارها عن الرياح الشماليّة. فهذه حال قرانون.
فأمّا ثاسس فعلى خلافها، وذلك أنّها معرّض للرياح الشماليّة الباردة، لأنّها محاذية لبلاد ثراقي. فلمّا كانت جملة حال الهواء أنّ الجنوب كانت أغلب عليه مع قلّة مطر، لم تكن أبدان أهل ذلك البلد بحسب طبيعة بلدهم السريعة إلى قبول الأمراض المشاكلة لتلك الحال الحادثة للهواء. فإنّه لو كان البلد جنوبيّاً منخفضاً، لقد كانت تلك الحال من الهواء ستكون من أبلغ حال في توليد الموتان في ذلك البلد.
(٢) قال أبقراط: أمطار كثيرة متواترة ليّنة.
قال جالينوس: إنّ «الأمطار» تكون «كثيرة» على ثلاثة أوجه: إمّا بأن يكون المطر نفسه غزيراً جوداً؛ وإمّا بأن يكون مدّة طويلة، وإن كان ما يكون منه في كلّ يوم رذاذاً؛ وإمّا بأن يجتمع الأمران جميعاً فيه. وأنا أوجدك لكلّ واحد من هذه الثلاثة الضروب مثالاً من قول أبقراط في هذا الكتاب.
فأمّا الضرب الأوّل فمثاله ما قال في صفة حال الهواء التي افتتحها بأن قال: «كان بثاسس قبل طلوع السماك الرامح بقليل وبعد طلوعه أمطار كثيرة». فإنّ قوله «عظيمة» إنّما أراد أن يدلّ له على غزارتها وكثرة مجيؤها دفعة.
وأمّا الضرب الثاني فمثاله ما قاله في هذا الموضع حين قال: «أمطار كثيرة متواترة ليّنة». وذلك أنّه إنّما اجتمعت لهذه الكثرة لدوامها مدّة طويلة، لا بأنّه جاء منها في وقت واحد شيء غزير جود.
وأمّا الضرب الثالث فمثاله ما قاله في المقالة الثانية من هذا الكتاب، وهو قوله «جاء مطر جود في الحرّ الصيف كلّه»؛ يجعله بقوله فيه إنّه كان «جوداً» مشاركاً للضرب الأوّل من الضروب التي ذكرنا، وبقوله فيه إنّه كان «الصيف كلّه» مشاركاً للضرب الثاني.
وسنذكر أمر كلّ واحدة من تينك الحالتين في موضعهما. وأمّا في هذه الحال التي كلامنا فيها في هذا الموضع، وهي التي كانت فيما بين الاستواء الخريفيّ وأوّل الشتاء، فكانت فيه أمطار في مدّتها كلّها «متواترة ليّنة»، وهذه الحال من حال الأمطار هي ضدّ الحال التي يوصف فيها بأنّه «جود غزير».
(٣) قال أبقراط: وكان الشتاء جنوبيّاً.
قال جالينوس: قد دلّ أبقراط دلالة بيّنة على أنّ انقضاء الخريف عنده أيضاً هو وقت غروب الثريّا، الذي سمّاه هو «نوء الثريّا»، بإتباعه ما تقدّم من قوله «فيما
بين الاستواء ونوء الثريّا» أن قال: «وكان الشتاء جنوبيّاً». وذلك أنّ قوله هذا يدلّ على أنّه ليس فيما بين الوقتين مدّة بيّنة تحتاج إلى أن يوصف شيء من أمرها خاصّة، لكنّ الشتاء يكون مع غروب الثريّا.
(٤) قال أبقراط: وكانت الرياح الشماليّة فيه قليلة.
قال جالينوس: إنّ أبقراط قال: «إنّ الرياح الشماليّة» كانت في ذلك الشتاء «قليلة». ولو كان ذلك الشتاء جرى أمره على طبيعة الشتاء، لكانت الرياح الشماليّة ستكون فيه عظيمة. وكان يكون عظمها وكثرتها على ضربين، أعني في قوّتها وفي دوامها، وسببه أن تكون قلّتها كانت في ذلك الشتاء على الضربين جميعاً، أعني في عظم الرياح أنفسها وقوّتها وفي مدّة زمان هبوبها، أعني أنّها هبّت فيه أيّاماً يسيرة ولم يكن في وقت ما هبّت بالغزير، وقد يعلم أنّ الشمال تهبّ في الشتاء وهي عظيمة قوّةً وتدوم مدّة طويلة.
(٥) قال أبقراط: وكان يابساً عديماً للمطر.
قال جالينوس: إنّ أبقراط إنّما يعني بقوله في ذلك الشتاء «إنّه كان يابساً عديماً للمطر» أنّه كان أجفّ وأقلّ مطراً من المقدار الذي يستحقّه الشتاء. وقد خالف في ذلك ما جرت عليه العادة في الكلام بعض الخلاف، لأنّ العادة جرت متى قلنا في وقت من الأوقات «إنّه كان يابساً عديماً للمطر» أن يفهم عنّا من قولنا ذلك أنّه كان في غالب اليبس حتّى لم يكن فيه مطر بتّة، إلّا أنّه ممّا لا يمكن ولا يصدّق به أن يبلغ من يبس الشتاء ألّا يكون فيه مطر بتّة. فإنّ الربيع فضلاً عن
الشتاء لا تكون حال الهواء فيه هذه الحال، وقد قال أبقراط في ذلك الشتاء إنّه كان شبيهاً بالربيع.
(٦) قال أبقراط: وكان الشتاء كلّه بمنزلة ما يكون الربيع.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يقول إنّ ذلك الشتاء كان أجفّ من الشتاء الذي هو على طبيعته، إلّا أنّه لم يكن شبه الصيف. فقد يدلّك هذا على صحّة ما قلنا قبل من أنّه لم يعن بقوله «إنّه كان يابساً عديماً للمطر» حقيقة ما يفهم من هذا اللفظ. فينبغي أن نقول إنّ قوله ذلك ليس هو مطلقاً لكنّ بالإضافة، كما قد نقول «نملة كبيرة» «وجبل صغير»، من قبل أنّ ذلك الشتاء إنّما «كان يابساً عديماً للمطر» بقياس الشتاء المألوف، لا أنّه كان يابساً مطلقاً عديماً للمطر، كما ليس نقول «نملة كبيرة» 〈مطلقاً، لكنّ〉 بقياس النملة المألوفة. فالنملة الكبيرة، إذا قيست إلى الجبل الصغير، كانت أصغر منه، والشتاء اليابس، إذا قيس إلى الصيف، كان أرطب منه، وكذلك الربيع الباقي على طبيعته. فلمّا قاس ذلك الشتاء إلى حال الشتاء الطبيعيّ، قال «إنّه كلّه كان بمنزلة ما يكون الربيع».
(٧) قال أبقراط: وكان الربيع جنوبيّاً وكانت فيه أمطار قليلة.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يقول بعد قليل في الأمراض التي سبقت فتولّدت في الربيع إنّها كانت من حال الهواء المتقدّمة، إذ كانت عادةً شماليّة. فيشبه على حسب قوله ذلك أن يكون قوله هذا «إنّ الربيع كان جنوبيّاً» لم يرد به أنّه لم يكن
فيه شمال بتّة، وإنّما أراد به أنّ الرياح الشماليّة كانت في أوّله قليلة جدّاً، وبلغ من قلّتها أن تكون حال الهواء في ذلك كلّه أولى بأن تنسب إلى أنّها كانت «جنوبيّة».
(٨) قال أبقراط: وكانت في أكثر أوقات الصيف غيوم من غير مطر، وكان هبوب الرياح الحوليّة فيه قليلاً متفرّقاً.
قال جالينوس: إن جمع جامع كلّ ما وصفه أبقراط من حال ذلك الصيف، حكم بأنّه أيضاً كان جنوبيّاً يابساً.
(٩) قال أبقراط: فإنّما كانت حال الهواء في تلك السنة كلّها جنوبيّة مع عدم المطر.
قال جالينوس: إنّ أبقراط ليس يعني بقوله «مع عدم المطر» أنّه لم يكن في تلك السنة مطر بتّة في جميع أوقاتها وإنّما يعني بعدمه قلّته ونزارته، وذلك أنّ ما كان منه في تلك السنة كان نزراً قليلاً، لأنّه لم يكن منه شيء له قدر، إلّا ما كان في كلّ الأيّام التي بين الاستواء الخريفيّ وبين غروب الثريّا. فأمّا سائر أوقات تلك السنة كلّها فكان اليبس وعدم المطر غالبين عليه قويّي الغلبة.
فإن كان الأمر على ما لا يزال أبقراط يقول دائماً، إنّ أبدان الحيوان تتغيّر بتغيّر الهواء المحيط بها، فإنّها عند كثرة الأمطار تصير أرطب، وعند انقطاع الأمطار تصير أجفّ، وعند غلبة الحرّ في الهواء يحدث في الرأس امتلاء، وعند غلبة البرد فيه فإنّ الرأس يخفّ وتألم نواحي الصدر والرئة.
فأمّا عند الحال التي وصفها أبقراط، وهي التي قصدنا للنظر فيها، فمن قبل أنّها كانت في طبيعتها متوسّطة بين حال صفاء الهواء ونقائه وبين حال كثرة
الأمطار وغزارتها، تشبهها الأبدان بتلك الحال فصار مزاجها مزاجاً متوسّطاً. وسامِحْني في أن أسمّي تلك الحال من حالات البدن حالاً غيوميّة، وذلك أنّه لمّا كانت حال الهواء تلك الحال، وكان قد وضع أنّ الأبدان تتغيّر بتغيّر الهواء وتتشبّه به، فلن يضرّ — إذ كان إنّما قصدي شرح ما أنا في وصفه — أن أسمّي تلك الحال الحادثة في الأبدان حالاً كالغيوميّة. كما أنّ الشتاء، إذا بقي على مزاجه الطبيعيّ، وجب ضرورة أن يتولّد منه في البدن الخلط الرطب البارد، أعني البلغم؛ وإذا كان الصيف باقياً على طبيعته تولّد فيه في البدن الخلط اليابس الحارّ، أعني المرّة الصفراء؛ كذلك إذا كانت حال الهواء حالاً غيوميّة، غلب من الأخلاط في الطبائع والأسنان البلغميّة البلغم الذي هو في حال يستحقّ أن ينسب فيها إلى أنّه ضبابيّ غيوميّ، وفي الطبائع والأسنان التي يغلب عليها المرار المرّ 〈المرار〉 الذي يستحقّ أن ينسب إلى أنّه ضبابيّ غيوميّ. وذلك أنّه قد يتحلّل من أبداننا دائماً شيء بخاريّ، إلّا أنّ ما يتحلّل منه متى كانت حال الهواء حال يبس أكثر ما يكون ومتى كانت حاله حال رطوبة أقلّ ما يكون. فإذا اجتمع ذلك من داخل، جعل الروح الغريزيّ الذي فينا بمنزلة الضبابيّ، وذلك أنّ حال البخار عند الروح الذي في أبدان الحيوان بمنزلة حال الضباب عند الهواء المحيط بها، فيجوز للناظر في هذا أن يجسر أيضاً فيقول إنّ الروح الذي في أبداننا يصير في تلك الحالات كالضبابيّ.
والضباب إذا اتّفق له في وقت واحد أمران، أحدهما أن يرتفع والآخر أن يجتمع ويتلزّز، فإنّه يصير غيماً أبيض، وذلك أنّ الهواء، متى لم تكن فيه رطوبة
وكان نقيّاً صافياً في غاية الصفاء، لم يمكن أن يكون فيه غيم، ولا يمكن أن يتولّد فيه الغيم إلّا مع رطوبة. وإذا تولّد الغيم فيه، فإنّما يكون صفاؤه وسواده بحسب سخافته أو تكاثفه، وذلك أنّه إذا كان سخيفاً، نفذ فيه إلينا ضوء الشمس، ومن قبل ذلك يرى الغيم صافياً نيّراً، لأنّ نور الشمس يُضيء فيه كما يُضيء في الأجسام التي لها مستشفّ. وإذا تلزّز الغيم وتكاثف، لم ينفذ ضوء الشمس، وبالواجب يرى أسود في تلك الحال، كما قد يرى الهواء بالليل إذا فارقه ضوء الشمس. وقد يرى الضباب رؤية بيّنة ربّما انحدر إلى الأرض، فيقال له عند ذلك «الطلّ»، وربّما ارتفع إلى العلوّ فيصير عياناً غيماً، إمّا أبيض وإمّا أسود؛ أمّا الأبيض منه فإذا قبل، كما قلنا، في بدنه كلّه نور الشمس، وأمّا الأسود فإذا لم يقبل منه شيابته، وأمّا الألوان التي فيما بين هذين اللونين فإنّما تصير للغيوم بحسب مقدار ما يخالطها من الضوء.
ولعلّك تظنّ أنّ هذا القول الذي قلته يتناقض، وهو ما قلت إنّ الرطوبة يرتفع بأسرها إلى العلوّ ويتلزّز، وذلك أنّ ارتفاعها من قبل الحرارة وتلزّزها من قبل البرد، وليس يمكن أن يكون شيء واحد بعينه في حال واحدة حارّاً وبارداً؛ إلّا أنّك إن توهّمتَ أنّ البخار نفسه الذي يرتفع هو حارّ ولذلك يسمو ويعلو، والهواء الذي يقبله بارد، لم يعتصّ ويغمض عليك كيف يمكن أن يرتفع ويتلزّز في حال واحدة، وذلك أنّ ارتفاعه هو له من تلقاء نفسه واجتماعه وتلزّزه يكون من الهواء الذي يقبله. وكلّما كانت حال الهواء أبرد، كان جمعه وتلزّزه وتكثيفه لذلك الضباب الذي يعلو أكثر، فإذا لم يكن في الهواء حرّ بيّن ولا برد بيّن، وجب ضرورة أن يبقى فيه ذلك الضباب الذي ارتفع على الحال الذي كانت عليها منذ أوّل الأمر، فيصير منه الغيم. وإذا كان نور الشمس غالباً على ذلك الغيم قاهراً له، كان أبيض صحيح
البياض، ومتى لم يستول عليه نور الشمس الاستيلاء الكامل، كان فيما بين البياض والسواد.
فلا تعجب من أنّ أبدان الحيوان تكون في وقت من الأوقات حالها شبيهة بهذه الحال التي تكون للهواء، لكن صدّق أبقراط في قوله حيث قال: «إنّ الجنوب تُحدث ثقلاً في السمع وضباباً وثقلاً في الرأس وكسلاً واسترخاء». فإنّه إنّما وصف في هذا القول الأعراض التي تعرض للبدن من حال الهواء عند هبوب الجنوب، وكما أنّ قوله «تُحدث ثقلاً في الرأس وثقلاً في السمع وكسلاً واسترخاء» إنّما عنى به الأعراض التي تعرض في أبداننا من الجنوب، كذلك ينبغي أن نفهم من قوله «إنّه يُحدث ضباباً» أنّه أراد أن يدلّ به على الضباب المتولّد في أبداننا بسبب الجنوب، لا على الضباب المتولّد في الهواء المحيط بنا.
(١٠) قال أبقراط: كان أوّلاً في الربيع عن حال الهواء التي تقدّمت، لأنّها كانت مضادّة شماليّة، أن حدث لعدد قليل من الناس حمّيات محرقة، ومن أصابه ذلك كان ما أصابه منه سليماً. وقلّما أصابهم فيها الرعاف، وما كانوا يموتون منها.
قال جالينوس: قد يدلّ على أنّ تلك الحال الشماليّة التي تقدّمت فكانت في الربيع لم تدم مدّة طويلة لكنّها كانت يسيرة المدّة قول أبقراط في مزاج الربيع كلّه إنّه كان «جنوبيّاً»، لأنّه ما كان ليقول ذلك لو كانت هبّت فيه الشمال أيّاماً كثيرة. إلّا أنّه وإن كانت إنّما هبّت فيه الشمال أيّاماً يسيرة، فقد عرض عن تلك الحال من الهواء أمراض «محرقة»، وإن كان ذلك إنّما «عرض لعدد يسير من الناس»،
فكان ما عرض فيه «سليماً» جدّاً سريع البرء، ولم يكن فيه من أمارات الهلاك شيء بتّة.
وقال أيضاً «إنّه لم يعرض الرعاف إلّا لقليل ممّن مرض تلك الأمراض». فالرعاف من خواصّ «الحمّى المحرقة» إذا كانت شديدة قويّة، وكذلك الاختلاط والموتان والموت. ولم تعرض هذه الأعراض أيضاً لأصحاب تلك الأمراض في ذلك الوقت، لكنّ ما عرض في ذلك الوقت من الحمّيات المحرقة كان أخفّ ما يكون منها وأضعفه، وذلك لأنّ الحمّى المحرقة القويّة الشديدة التي هي بمنزلة الخالصة إنّما يكون تولّدها من المرّة الصفراء، والمرّة الصفراء إنّما كانت في ذلك الوقت تغلب في تلك الأبدان فقط التي الغالب عليها في طبيعتها المرّة الصفراء. وما كان منها في تلك الأبدان إنّما كان شيئاً تولّد في الصيفة المتقدّمة، ولم يكن ما تولّد منها في تلك الصيفة لا كثيراً ولا صرفاً.
وكانت أيضاً حال الهواء التي حدثت بعد الصيف التي تقدّمنا فوصفناها فزادت ذلك المرار ليناً ورطوبة حتّى صار بمنزلة الضبابيّ. فبالواجب كان حدوث تلك الحمّى «بعدد قليل من الناس»، وهم من كان المرار عليه غالباً جدّاً، وما عرض منها لأولائك أيضاً لم يكن بالخالص ولا بالشديد القويّ، لكنّه كان سليماً سريع الانقضاء لذلك السبب الذي وصفنا، وهو أنّه كان الصيف الذي قبل الخريف الذي ابتدأ أبقراط بصفته باقياً على طبيعته.
وذلك أنّ أبقراط، إذا أخذ في صفة حال من أحوال الهواء، فإنّه يجعل ابتداء صفته لها منذ أوّل وقت خروج الهواء عن حاله الطبيعيّة. ويجب ضرورة أن يكون
في الصيف الباقي على طبيعته قد زاد المرار في الأبدان التي يغلب عليها غلبة قويّة، ثمّ إنّ الحال التي كانت بعد في الشتاء كلّه إلى وقت الربيع لم تزد في ذلك الخلط، لأنّها لم تكن قويّة الحرارة ولا يابسة مثل الصيف، ولا أطفأت حرارته وأخمدتها من قبل أنّ تلك الحال لم تكن قويّة البرد بمنزلة حال الشتاء الخارج عن طبيعته، ولا حالته أيضاً من قبل أنّها لم تكن يابسة صادقة اليبس فقد بقي أن يكون محفوظاً على حاله، إلّا أنّه زاد فيه أنّه صار فيه بخار اجتمع وتراكم بسبب تلك الرطوبة †…† والحرارة التي كانت للهواء. فلمّا كان «في أوّل الربيع»، هبّت الشمال دفعة فدفع بردها الأخلاط إلى عمق البدن 〈…〉
والمرار المُرّ ليس يولّد الحمّى المحرقة في أيّ عضو من أعضاء البدن اجتمع، لكنّه إنّما يولّدها متى كان اجتماعه في المعدة، وخاصّة في فمها، وفي موضع الباطن المقعَّر من الكبد. 〈…〉
أخصّ خواصّ الحمّى المحرقة الخالصة الصحيحة أن يكون بحرانها بالرعاف، 〈…〉 وذلك أنّه يجب ضرورة أن تتولّد في الدم من الغليان رياح وتتراقى إلى فوق، ويتراقى الدم معها، فيفتح العروق ويصدعها بسبب كثرة الرياح التي تتولّد فيه، كما قد يعرض في خوابئ من غليان العصير. 〈…〉
(١١) (أبقراط:) وحدث لكثير من الناس أورام عند الآذان، منها في جانب واحد ومنها في الجانبين. وكان أكثر من حدث له ذلك ليست به حمّى ويذهب ويجيء، ومنهم من كان يسخن سخونة يسيرة. وسكنت تلك الأورام في جميعهم
من غير مكروه، ولم تتقيّح في واحد منهم كما تتقيّح إذا كانت من علل أخرى. وكانت تلك الأورام أوراماً رخوة عظيمة منفوشة، ولم يكن معها التهاب ولا وجع، وتحلّلت عن جميعهم.
(جالينوس:) 〈…〉 الجوهر الضبابيّ إذا كثر مع البلغم تولّد عنه الأورام الرخوة البيضاء، وإذا كثر مع المرّة الصفراء تولّد منه نوع من الحمرة، وإذا كثر مع الدم تولّد عنه نوع من الفلغموني.
وما كان من الأورام أحد أسباب الجوهر الضبابيّ فهو ينحلّ بسرعة بتحلّل هذا الجوهر. وبخلاف ذلك الأورام التي تكون بسبب خلط غليظ لزج تبقى زماناً طويلاً من قبل أنّها عسرة التحلّل بطيئة التبدّد 〈…〉
علامة الأورام التي فيها جوهر ضبابيّ أنّها رخوة ليّنة مواتية للأصابع إذا غمز عليها †ىعه† 〈…〉
الوجع يحدث عن الأورام لأمرين: أحدهما تمدّد الأجسام والآخر سوء المزاج المفرط. فالتمدّد يكون من الأخلاط الغليظة اللزجة التي قد يبست في المواضع السقيمة حتّى يفسد تخلّصها منها. وأمّا سوء المزاج المفرط فيكون من أنّ تلك الأخلاط حارّة جدّاً أو باردة جدّاً 〈…〉
(١٢) (أبقراط:) وكانت تلك الأورام إنّما تحدث بالغلمان والفتيان المتناهي الشباب، ومن أولائك أيضاً لمن قد كان يكثر استعمال الصراع والرياضة. وأمّا النساء فقلّ ما كانت تعرض لهنّ.
〈…〉
(١٣) (أبقراط:) وعرض لكثير من الناس سعال، فكانوا يسعلون ولا يقذفون شيئاً، وعرض لهم في أصواتهم بحوحة بعد مدّة ليست بالكثيرة.
(جالينوس:) السعال اليابس، وهو الذي لا ينفث به شيء البتّة، يكون لأربعة أسباب: أن تكون قصبة الرئة وحواليها خشنة من غير أن يكون في الرئة فضل رطوبة البتّة؛ 〈…〉 من قبل سوء مزاج آلات التنفّس؛ 〈…〉 من قبل رطوبة لزجة غليظة راسخة في مجاري الرئة رسوخاً يعسر معه انقلاعها؛ 〈…〉 من قبل رطوبة رقيقة بمنزلة الماء تنحدر من الرأس في الحنجرة وقصبة الرئة فتشتقّ إلى الرئة من قبل أن تدفعها وتقذفها الريح التي تخرج من السعال 〈…〉
(١٤) (أبقراط:) وحدث لبعضهم من بعد زمان التهاب مع وجع في إحدى الأنثيين ولبعضهم فيهما جميعاً.
(جالينوس:) قد ينحدر من الرأس فضل إلى الرئة وينحدر من الرئة إلى الأنثيين بسبب المشاركة الطبيعيّة التي بين آلات الصدر وبين أعضاء التوليد. 〈…〉
(١٥) (أبقراط:) وبعضهم أصابته حمّى وبعضهم لم تصبه حمّى.
〈…〉
(١٦) (أبقراط:) وغلظ أمر هذه الأعراض على أكثر من عرضت له.
(جالينوس:) 〈…〉 حال الهواء الجنوبيّة، إذا دامت وطالت مدّتها، أحدثت عفونة، ولا سيّما إذا كانت معها رطوبة. 〈…〉
(١٧) (أبقراط:) وأمّا سائر الأمراض التي تحتاج في علاجها إلى الطبّ فكانوا منها في عافية.
〈…〉
(١٨) (أبقراط:) فلمّا كان في أوّل الصيف، ابتدأ قوم كثير ممّن كانوا منذ زمان طويل قد شارفوا السلّ فوقعوا فيه ولزموا الفراش، وصحّ عند ذلك الأمر في كثير ممّن كان أمره ملتبساً مشكوكاً فيه.
〈…〉
(١٩) (أبقراط:) ومنهم من كان أوّل من ابتدأ السلّ به في ذلك الوقت، وهو من كانت طبيعته مائلة إلى السلّ.
(جالينوس:) 〈…〉 الأبدان «المائلة إلى السلّ» هي الأبدان المستعدّة لقرحة الرئة، 〈…〉 وهي ضربان: أحدهما الذي الصدر منها ضيّق قليل السُمك حتّى بدا الكتفان منها ناشزين بارزين إلى خلف بمنزلة الجناحين، 〈…〉 والآخر ما كان الرأس منها سريع الامتلاء وتنحدر منه نزلات رقيقة إلى آلات التنفّس؛ 〈…〉 وإذا اجتمع في بدن واحد الأمران، وقع في السلّ سريعاً. 〈…〉 فإنّ هذه النزلات، إذا دام انحدارها إلى الرئة، أحدثت على طول الزمان قرحة الرئة. 〈…〉 وقد يحدث السلّ أيضاً عن انصداع عرق في الرئة. 〈…〉
الأبدان المستعدّة لقبول علّة من العلل هي أسرع وقوعاً فيها من الأبدان التي ليست مستعدّة لقبولها.
وقد نجد في هذا الكتاب كلاماً كثيراً قد نُقل عن موضعه وجرى نظامه على خلاف ما ينبغي بسبب خطاء الناسخ الأوّل †ىٯاىا† نسخ من تلك النسخة على الخطاء في جميع ما نسخ منها. فيشبه أن يكون قد عرض هذا في هذا الكلام أيضاً على هذا المثال، وصحّ عند ذلك الأمر: «في كثير ممّن كان أمره ملتبساً مشكوكاً فيه، وهو من كانت طبيعته مائلة إلى السلّ». ثمّ يتلو هذا قوله «ومنهم من كان ابتدأ السلّ به في ذلك الوقت»، ثمّ من بعد هذا قوله:
(٢٠) قال أبقراط: ومات قوم كثير، وأكثرهم من أصحاب هذه العلّة.
قال جالينوس: يعني «بأصحاب هذه العلّة» أصحاب السلّ، فإنّه قد يجب أن يفهم عنه هذا، إذ كان كلامه كلّه جرى على ما وصفت. وكلامه أيضاً فيما بعد فيما يتلو هذا الكلام في أمور تعمّ وتشتمل على جميع أصحاب السلّ، وتعلم ذلك إن أنت تدبّرتَ ما يجيء من بعد هذا من كلامه. وأنا مبتدئ بأوّل كلام جاء به يتلو هذا الكلام الذي تقدّم.
(٢١) قال أبقراط: وكان موت من مات منهم بأسرع ممّا من عادة هذا المرض أن يقتل.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يقول إنّ موت أصحاب السلّ في تلك الحال «كان بأسرع ممّا من عادته» أن يكون. ثمّ أتبع ذلك بكلام وصف فيه السبب في ذلك فقال: «وكانت الأعراض التي عرضت لأكثرهم حمّيات قشعريريّة دائمة حادّة». وهذا الذي وصف أنّه كان حينئذ مع السلّ ليس هو ما جرت به العادة أن يكون معه، وكان السبب في اجتماع الأمرين، أعني السلّ وهذه الحمّى التي وصفت، حال الهواء التي كانت في ذلك الوقت عند الأبدان التي قدحت فيها.
وقد قلت قبيل إنّ الذي كان يصيبهم خاصّة النزلات من الرأس كانوا الذين مزاجهم أسخن، لأنّ أولائك هم الذين كانوا خاصّة يعرض لهم الامتلاء في الرأس في الحال الجنوبيّة. وعرض لأولائك عند تطاول مدّة تلك الحال الغيوميّة أن عفنت الأخلاط التي كانت في أبدانهم، ومن قبل ذلك كان خبث الحمّيات التي عرضت في ذلك الوقت.
فأمّا من كان مزاجه أقلّ حرارة فلم تكن تعرض به عفونة في الأخلاط ولا امتلاء في الرأس، ولم يعرض ذلك إلّا لعدد قليل منهم عند تطاول المدّة، وذلك أنّ ما ينال الطبائع التي هي متهيّئة مستعدّة لقبول علّة من العلل من السبب المحدث لها قد ينال سائر الطبائع التي ليست بمستعدّة في المدّة التي هي أطول. وما هو يعجب أن يكون إذا كانت حال الهواء قبل الصيف حالاً جنوبيّة، ثمّ كان الصيف بعد ليس بجنوبيّ فقط، لكنّ مع ذلك كان غيوميّاً، أحدث عفونة في الأخلاط لا في الأبدان التي هي أسخن فقط، لكنّ في الأبدان التي هي أبرد.
(٢٢) قال أبقراط: فإنّ الأمراض الأخر التي كانت مدّتها أطول العارضة كانت مع الحمّيات قد كان الناس يحتملونها بسهولة وما كانوا يموتون منها. وسنصفها فيما بعد.
قال جالينوس: يعني أنّ «الأمراض الأخر» سوى السلّ الذي كان كلامه فيه، على أنّها «كانت أطول وكانت مع حمّى»، فإنّها على حال قد «كان يحملها الناس بسهولة». وقد وصفنا السبب في ذلك قبيل، وهو أنّ خبث الأخلاط الحادث بسبب العفونة كان في أولائك أقلّ.
(٢٣) قال أبقراط: فكان السلّ وحده، دون سائر تلك الأمراض التي حدثت، أقواها على أن يقتل الكثير.
قال جالينوس: قد وصفت السبب في هذا قبيل، فقلت إنّه كان مزاج الأبدان التي نالها بسببه السلّ والحمّيات الخبيثة التي وصفها أبقراط بعد فقال:
(٢٤) قال أبقراط: وكانت الأعراض التي عرضت لأكثرهم: حمّيات ذوات اقشعرار دائمة حادّة لا تفارق أصلاً، إلّا أنّ طريق هيجانها مجانب للغبّ، فتكون في يوم أخفّ ثمّ تكرّ في آخر وتتزيّد في مدّتها كلّها حدّةً؛
قال جالينوس: يعني أنّ «الأعراض التي عرضت لأكثر» أصحاب السلّ الذي كان كلامه فيهم الأعراض التي عدّد. وجميع اليونانيّين يقولون «الأعراض» وهم يريدون بها الأحداث الخارجة من الطبيعة الحادثة على الأبدان. وأوّل تلك الأعراض هو ما قال من أنّ «الحمّيات كانت حمّيات ذوات اقشعرار». وإنّما أراد بقوله «ذوات اقشعرار» الاقشعرار إن كان يدوم مع الحمّى في أكثر مدّة نوبة العلّة، فإنّه لم يعن «بالاقشعرار» أن يكون مع الحمّى في أوّل نوبتها اقشعرار، لكنّه إنّما عنى، كما قلت، أن يكون الاقشعرار تطول مدّته مع الحمّى، حتّى يكون مع نوبة الحمّى في أكثر .
وذلك يكون على ضربين: أحدهما أنّه ربّما كان تزيّد الحمّى كرّات، والآخر أنّه ربّما كان تزيّدها مختلفاً فقط من غير أن يكون كرّات. والفرق بين هذين الضربين في كمّيّة مدّة الزمان، وذلك أنّه متى كان إنّما بين أوقات حركات الاقشعرار مدّة يسيرة جدّاً، قيل إنّ تزيّد الحمّى تزيّد مختلف «اقشعراريّ»، ومتى كانت تلك المدّة أطول، قيل إنّ تزيّد الحمّى يكون «كرّات». وذلك يكون خاصّة في مثل الحمّيات التي تسمّى «المجانبة للغبّ»، وهي المركّبة من الحمّى النائبة في كلّ يوم من غير أن تفارق والحمّى النائبة غبّاً التي تفارق. وأكثر ما تكون تلك
الكرّات مرّتين أو ثلاثاً وربّما كانت أربع مرّات. وقد بيّنت في كتابي في أصناف الحمّى أنّ هذه الحمّى تكون من خلط مختلف الأجزاء مختلط، بعضه حادّ من جنس المرار وبعضه بلغم قد عفن.
فقال إنّ الحمّى التي كانت بأصحاب السلّ كانت على هذه الصفة، وذلك، كما قلت قبيل، بسبب تلك الحال التي كانت حدثت للهواء. ويسمّي تلك الحمّيات «دائمة»، وهو يريد أنّها لم تكن تقلع الإقلاع التامّ. وقد أبان عن هذا المعنى بقوله «ألّا تفارق أصلاً»، لأنّ من عادته أن يسمّي الحمّى «مفارقة» متى كانت بعد انحطاطها تقلع حتّى ينقّى البدن منها، ويسمّيها «دائمة» متى كانت من بعد انحطاطها لا تقلع حتّى ينقّى البدن منها.
ويعني «بالحمّيات الحادّة الدائمة» الحمّيات التي جملة دورها على الأمر الأكثر ثمانٍ وأربعين ساعة، وهو مقدار دور حمّى الغبّ، إلّا أنّها لا تفارق حتّى تقلع؛ وتكون فيها في أحد اليومين، وهو اليوم الذي تكون فيه العلّة «أخفّ»، نوبة أخرى أضعف من النوبة الأخرى المستولية على الدور كلّه. وليس فيها تلك الكرّات التي تكون في تلك، إلّا أنّ البدن فيها بكدّ ما يسخن ويبطئ في حركاتها إلى أن تنتهي منتهاها مثل النوبة الأخرى القويّة. ومن خاصّة هذه الحمّى أيضاً أن تكون الأدوار التي تأتي بعد الدور الأوّل منها لا يشبه بعضه بعضاً والأوّل في الحدّة، لكنّها تتزيّد وتشدّ وتقوى إلى وقت منتهى المرض كلّه.
(٢٥) قال أبقراط: وعرقاً دائماً ليس في البدن كلّه؛ وبرداً في الأطراف شديداً حتّى كانت لا تسخن إلّا بكدّ.
قال جالينوس: قد أخبر أبقراط في كتابه في تقدمة المعرفة أنّ هذه الأعراض من أعراض الحمّيات الخبيثة.
(٢٦) قال أبقراط: وكانت بطونهم تستطلق فيخرج منهم شيء من جنس المرار يسير صرف رقيق لذّاع، وكان قيامهم متواتراً.
قال جالينوس: إنّ من عادة أبقراط، إذا قال في استفراغ خلط من الأخلاط أيّ خلط كان إنّه «صرف»، أن يعني أنّ ذلك الخلط وحده يستفرغ وهو خالص، وذلك أنّه إن كانت قد خالطته رطوبة مائيّة ثمّ استفرغ وهو بتلك الحال، لم يسمّ ذلك الخلط «صرفاً».
وقد وصف أبقراط من أمور الاستفراغ «الصرف» أنّه رديء خبيث في كتابه في تقدمة المعرفة. ووصف أيضاً من أمر الأخلاط «الرقيقة» في قوامها أنّها كلّها غير نضيجة وتحتاج إلى قوّة من الطبيعة حتّى تنضجها.
وبالواجب كان ذلك الاختلاف «لذّاعاً» إذا كان «من جنس المرار» وكان «صرفاً». ومن قبل أيضاً أنّه كان «لذّاعاً»، وجب أن يكون «كان القيام متواتراً»، فوجب من قبل هذا العارض أيضاً أن تكلّ وتضعف قوّة أولائك المرضى.
قال حنين: قد وصف جالينوس السبب في جميع أحوال ذلك الاختلاف خلا ما وصفه من القلّة. فإنّي لم أجده ذكره، وأرى تركه وصف القلّة إمّا أن يكون وهماً منه وإمّا أن يكون سقط من النسخة التي ترجمت منها أو من النسخة الأصليّة.
والسبب عندي في قلّته كان تواتر القيام، كأنّه قال: «إنّه كان يجيء قليلاً قليلاً». وذلك جائز أن يكون معنى قوله «قليلاً» في لغة اليونانيّين.
(٢٧) قال أبقراط: وكانت أبوالهم إمّا أبوالاً رقيقة غير متلوّنة قليلة، وإمّا أبوالاً فيها غلظ ورسوب يسير ولم تكن تسكن وتصفو على ما ينبغي، لكن كان الشيء الذي يرسب فيها نيّاً غير بالغ.
قال جالينوس: قد وصف أبقراط أيضاً في كتبه أنّ الأبوال «الرقيقة» والتي هي «غير متلوّنة» والتي هي «قليلة» رديئة، وكذلك أيضاً الأبوال «الثخينة» التي ليس فيها ثفل راسب بتّة، وإن كان فيها، فهو «يسير» جدّاً، وذلك إنّما يعرض فيها لأنّها لا «تسكن وتصفو على ما ينبغي». وذلك أيضاً إنّما يكون في الحمّيات التي تكون فيها الحرارة كثيرة ملتهبة وتصادف في البدن أخلاطاً نيّة غليظة فتُحدث لها شبيه بالغليان والتثوّر. فبالواجب صار الثفل الراسب إمّا أن لا يكون أصلاً في هذه الأبوال أو، إن كان فيها، كان «يسيراً» جدّاً، ويكون أيضاً، كما قال أبقراط، «نيّاً غير نضيج». وقد وصف أمر أثفال البول الرديئة في كتاب تقدمة المعرفة.
(٢٨) قال أبقراط: وكانوا ينفثون شيئاً يسيراً متواتراً نضيجاً قليلاً قليلاً، ولم يكونوا يقدرون على نفثه إلّا بكدّ. وأصعبهم كان علّة من كان ما ينفث لم يكن فيه للنضج أثر بتّة، لكنّه كان نفثاً يبقى نيّاً.
قال جالينوس: أمّا في السلّ الذي هو في غاية الخبث والموت من صاحبه قريب «فلا يكون فيما نفث للنضج أثر بتّة». وأمّا في السلّ الذي ليس بالخبيث الذي قد يمهل صاحبه مدّة طويلة فإنّ الفضل الذي في الرئة لهذا السبب بعينه ينضج ويقذف بسهولة، إلّا أنّ ذلك لم يكن في أصحاب السلّ الذي عرض في ذلك الوقت. وذلك أنّهم كانوا إمّا أن ينفثوا شيئاً لم ينضج بتّة، وإمّا شيئاً قد نضج، إلّا أنّه يسير وقذفه قليل قليل بكدّ شديد. وقد وصف أبقراط أمر هذا القذف في كتابه في تقدمة المعرفة.
(٢٩) قال أبقراط: وكانت حلوق أكثرهم منذ أوّل علّتهم إلى آخرها فيها وجع مع حمرة والتهاب. وكانت تتحلّب رطوبات يسيرة رقيقة حادّة، وكانوا يذوبون سريعاً.
قال جالينوس: إنّ أبقراط، لمّا تقدّم فوصف الأعراض التي كانت ظهرت في تلك الحال في أصحاب السلّ في حلوقهم، خبر السبب فيها بقوله «وكانت تتحلّب رطوبات رقيقة حادّة». وذلك أنّ «الوجع» الذي كان عرض لهم في حلوقهم إنّما كان من قبل خبث تلك «الرطوبات» التي كانت تتحلّب من الرأس فتلذّع الحلق. وكان مع الوجع في الحلوق «حمرة والتهاب» من قبل أنّ تلك الرطوبة المتحلّبة كانت رطوبة حارّة. فليس العجب إذاً أن تكون كانت أبدان أصحاب السلّ الذي عرض في تلك الحال أسرع ذوباناً من سائر أصحاب السلّ، يعني أنّها كانت تصير إلى الغاية القصوى من الهزال أسرع.
(٣٠) قال أبقراط: وكانوا لا يزالون يمتنعون من جميع الأطعمة.
قال جالينوس: من عادة اليونانيّين أن يقولوا «ممتنع من الطعام» وهم يريدون أنّه ليس معه شهوة، لكنّه كاره للطعام لا يقدر على تناوله. وبيّن أنّ هذا العارض، أعني ذهاب الشهوة، إنّما عرض لأصحاب السلّ من قبل أنّ تلك الرطوبة المتحلّبة إلى الحلق وإلى الرئة قد كان ينحدر منها شيء إلى المعدة.
(٣١) قال أبقراط: ولم يكن بهم عطش.
قال جالينوس: ما هذا العارض مشاكل لِما كانت تؤذيه تلك الرطوبة المتحلّبة، إذ كان قد قال إنّها قد كانت حادّة، وهذا عنى السبب في ذكر أبقراط لهذا العارض. وذلك أنّه أنكره ورأى أنّ أمره جرى على خلاف ما كان يجب، فقال «وما كان بهم عطش».
فإنّ هذا من علامات أعظم ما يكون من خبث العلّة أن تكون الحمّى حارّة محرقة أو يكون يتحلّب إلى المعدة فضل حارّ حادّ، ثمّ لا يكون عطش. ويدلّ هذا العارض على أنّ القوّة الحاسّة التي في هذا العضو قد بطلت وماتت، إذ كانت لا تحسّ بالعلّة التي في العضو الذي هو فيه.
(٣٢) قال أبقراط: وكان كثير منهم يهذي إذا قرب منه الموت.
قال جالينوس: ولا هذا العارض أيضاً من عادته أن يعرض لسائر أصحاب السلّ، لكنّه إنّما عرض في تلك الأمراض التي كانت في الحال التي نحن في صفتها من قبل خبث تلك الحمّيات التي كانت حدثت فيها.
(٣٣) قال أبقراط: وكان في الصيف والخريف حمّيات كثيرة دائمة، ولم تكن بالقويّة، إلّا أنّها كانت طويلة. ولم يعرض لهم أيضاً من سائر ما عرض لهم شيء مقلق.
قال جالينوس: قد قال أبقراط قبل «إنّ السلّ وحده دون سائر الأمراض كان في تلك الحال قتّالاً» وأخبرنا نحن بالعلّة في ذلك. فما وصفه في هذا الكلام الذي وصفناه وما يصفه في هذا الكلام الذي يتلوه حيث قال:
(٣٤) «وذلك أنّ أمر بطون أكثرهم كان خفيفاً جدّاً»
وسائر ما وصفه من أمر أبوالهم موافق مشاكل لِما تقدّم من قوله. وذلك أنّه كما أنّ الأعراض المتقدّمة التي عدّدها في صفته لأصحاب السلّ كانت رديئة خبيثة، كذلك جميع هذه الأعراض التي وصفها الآن خفيفة سليمة.
(٣٥) قال أبقراط: ولم يكن سعالهم بالشديد، ولا كان نفثهم لِما ينفثون بالشاقّ العسر، ولا كانوا بالممتنعين من الطعام، بل قد كان يمكن أن ينالوا منه الكثير.
قال جالينوس: إنّ أكثر من فسّر هذا الكتاب يقول إنّ أبقراط عاد في هذا الكلام إلى صفة أصحاب السلّ، وأنا أرى أنّ هذا الكلام أيضاً إنّما قاله في سائر الحمّيات التي كان وصفها. وكيف يمكن أن يكون كلامه هذا في أصحاب السلّ، وقد تقدّم فقال: «إنّهم كانوا لا يزالون يمتنعون من جميع الأطعمة»، ثمّ قال في هذا الكتاب: «إنّهم لم يكونوا بالممتنعين من الطعام، بل قد كان يمكن أن ينالوا منه الكثير»؟
وقد بقي علينا أن نخبر بالسبب الذي قال في هذا الكلام: «ولم يكن سعالهم بالشديد»، فإنّ هذا هو الذي أوهم أنّ هذا الكلام إنّما قاله في أصحاب السلّ. فأقول إنّ كلامه بعد إنّما هو في الحمّيات الأخرى سوى السلّ، وإنّ ذكره «السعال» إنّما هو لأنّه قد يعرض كثيراً في الحمّيات، إلّا أنّ السعال إنّما هو فيها على طريق الشيء العارض، وليس يجب لا محالة أن يكون من به حمّى وسعال فيه سلّ.
وما هو يعجب أن يكون قوم من أهل ثاسس ابتدأت بهم الحمّى بسبب تلك الحال التي قد تقدّمت صفتها، وعرض لهم منها في رؤوسهم امتلاء يحدث عنه سعال، والحمّى متّصلة دائمة مع تلك الحال، إلّا أنّ ذلك العارض، أعني السعال، لم يكن يؤذيهم أذىً شديداً ولا كانوا منه في مشقّة، وذلك لأنّه لم يكن بهم سلّ.
(٣٦) قال أبقراط: وكان جملةً مرض أصحاب السلّ لا على طريق السلّ.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام أيضاً، لمّا تلا الكلام الذي تقدّم، صحّ عند أكثر المفسّرين ما توهّموا أنّ الكلام المتقدّم إنّما قاله أبقراط في أصحاب السلّ. وقد بيّنت أنّ ذلك الكلام لا يمكن أن يكون قاله أبقراط في أصحاب السلّ بما احتججت به من أنّ أبقراط قال في أصحاب السلّ إنّهم كانوا ممتنعين من الطعام وقال في هؤلاء إنّهم لم يكونوا ممتنعين من الطعام.
وأمّا هذا الكلام الذي تلا الكلام الأوّل فيحتمل ضربين من التفسير: أحدهما أنّي أقول — بعد أن أعيد الكلام الذي تقدّم به، ثمّ أصِل به هذا الكلام الثاني بزيادة حرف أزيده فيما بينهما ليصحّ ويبين، حتّى يكون القول كلّه على هذا المثال: «ولم يكن سعالهم بالشديد، ولا كان نفثهم لِما كانوا ينفثون بالشاقّ
العسر، ولا كانوا بالممتنعين من الطعام، بل قد كان يمكن أن ينالوا منه الكثير، وذلك أنّه كان جملةً مرض أصحاب السلّ لا على طريق السلّ» — إنّه قد يمكن أن يكون قوله هذا وكلامه إنّما هو في أصحاب تلك الحمّيات الأخر سوى السلّ، إذ كان يعمّهم وأصحاب السلّ عرض واحد، وهو السعال، إلّا أنّ أولائك «ليس بهم السلّ».
ويشبه أن يكون إنّما أعاد ذكر أصحاب السلّ ليذكر الفرق بين هؤلاء المرضى الذين كلامه فيهم الآن وبين أصحاب السلّ الذي تقدّم ذكرهم. فإنّ الأعراض التي وصفها في هذا الكلام هي الأعراض التي وصفها فيما تقدّم. فهذا هو أحد القولين في إعادة ما هو أعاده في هذا الكلام من أمر أصحاب السلّ.
وأمّا القول الآخر فهو أمر قد تراه كثيراً يكون في كتب كثيرة، وذلك أنّا ربّما كتبنا في المعنى الواحد كلامين بعبارتين مختلفتين، فنجعل أحد الكلامين في بطن الكتاب والكلام الآخر في حاشية الكتاب كيما نختار أجودهما على مهل إذا أردنا تحرير الكتاب. فيشبه أن يكون أبقراط فعل هذا الفعل في هذا الموضع، ثمّ إنّ المحرّر الأوّل لهذا الكتاب نسخ الكلامين جميعاً في بطن الكتاب، ثمّ لم ننظر فيه بعد ونتدبّر ونوقف على خطائه فنصلح، وتداول الكثير نسخة الكتاب فبقي على خطائه.
(٢٧) قال أبقراط: وكان البحران يأتي من كان مرضه من هؤلاء أخفّ نحو العشرين، ويأتي أكثرهم نحو الأربعين، وكثير منهم كان يأتيه نحو الثمانين. ومنهم من كان لا يأتيه البحران لا في هذه المدّة، لكنّ مرضه كان بغتة على لبس وعلى غير بحران. وأكثر من كانت هذه حاله كانت حمّاه تلبث مدّة ليست بالطويلة بعد مفارقتها
إيّاه، ثمّ تعاوده أيضاً، ثمّ كان يأتيه البحران منذ وقت العودة في تلك الأدوار بأعيانها. وكثير منهم تطاول أمره حتّى بقي مرضه إلى الشتاء.
قال جالينوس: إن أنت تدبّرت ونظرت فيمن يشبه أن يكون قال أبقراط إنّ مرضه انقضى «وأتى بحرانه نحو العشرين»، يتبيّن لك أنّ ذلك إنّما قاله في المرضى الذين كان كلامه فيهم، كما قلت، أعني أصحاب الأمراض الأخر سوى السلّ. وجميع ما قيل بعد مشاكل موافق لهذا، وذلك أنّه قال إنّ بعض هؤلاء تطاول مرضه إلى «الثمانين»، وقوم آخرون «باغتتهم أمراضهم على لبس وعلى غير بحران، وعاودت أكثرهم حمّياتهم، ثمّ أتاهم البحران في تلك الأدوار بأعيانها» على أن يؤخذ حسابها منذ وقت العودة، «وكثير منهم تطاول مرضه إلى الشتاء».
وجميع هذه الأشياء موافقة لِما تقدّم فوصفه قبل موافقة بيّنة حيث قال: «وكان في الصيف والخريف حمّيات كثيرة دائمة، ولم تكن بالقويّة، إلّا أنّها كانت طويلة، فلم يعرض لهم أيضاً من سائر ما عرض لهم شيء مقلق». فإنّ هذه الأعراض التي وصف هي موافقة للأعراض التي وصفها في هذا الكلام الذي نحن في تفسيره.
فأمّا الأعراض التي ذكرها في صفة أصحاب السلّ فليس يوافق هذه الأعراض، وتقدر أن تعلم ذلك إن أنا أذكرتك بجزء يسير ممّا وصفهم به حيث قال: «وكان موت من مات منهم بأسرع ممّا من عادة هذا المرض أن يقتل». فهذا قوله في أصحاب السلّ، وحكم فيه أنّ موتهم كان أسرع. وأمّا الأمراض الأخر فقال فيها من بعد هذا القول: «فإنّ الأمراض الأخر التي كانت مدّتها أطول العارضة كانت مع
الحمّيات قد كان الناس يحتملونها بسهولة وما كانوا يموتون منها. وسنصفها فيما بعد».
فما قال من هذا موافق لِما قاله في هذا الكلام الذي نحن في تفسيره في الذين حمّوا في الخريف والشتاء. ويجب أيضاً ضرورة، من قبل أنّه تقدّم فقال «وسنصفها فيما بعد» وليس يقدر أحد أن يُرينا كلاماً قاله فيها لا سوى هذا الكلام الذي نحن في تفسيره، أن يكون كلامه هذا كلّه إنّما هو في صفة القوم الذين مرضوا أمراضاً أخر غير السلّ.
(٣٨) قال أبقراط: فأمّا الأمراض القتّالة إنّما عرضت من جميع من ذكر في هذه الحال من حالات الهواء لأصحاب السلّ فقط. فأمّا سائر جميع من مرض فيها فكان مرضه خفيفاً، ولم يعرض لأصحاب تلك الحمّيات موت.
قال جالينوس: هذه خاتمة كلامه في الحال الأولى من حالات الهواء، ولم يصف فيها شيئاً أكثر ممّا وصفه قبل، ولكنّه أجمل فيها ما تقدّم من قوله، ومن عادته أن يفعل ذلك كثيراً.
وتمّت المقالة الأولى من تفسير جالينوس للجزء الأوّل من المقالة الأولى من كتاب أبقراط المسمّى إبيذيميا، ترجمة أبي زيد حنين بن إسحق، وهي ستّة وثلاثون فصلاً.
شرح جالينوس للمقالة الأولى من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة الثانية
[بسم اللّه الرحمن الرحيم. عونك يا ربّ.] مبتدأ المقالة الثانية من تفسير جالينوس للجزء الثاني من المقالة الأولى من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا.
(١آ) قال أبقراط: كانت بثاسس حالات شتويّة، لا في الوقت لكنّ بغتة.
قال جالينوس: قد وصفت في المقالة التي قبل هذه حال تغيّر أوقات السنة بعضها إلى بعض وخبّرت بمزاج كلّ واحد منها الطبيعيّ وبالحدود التي يُحدّ بها أوّل كلّ واحد منها وآخره. فأنا الآن واصف ما أصف من تفسير ما يحتاج فيه إلى التفسير من قول أبقراط على أنّ القارئ لكلامي هذا ذاكر لِما تقدّم من قولي.
ولست أنحو في كلامي نحو فهم من لا حظّ له في الأدب بتّة فقط، لكنّي أنحو فهم من هو متوسّط الحال في الأدب، فإنّ هذا الطريق من الكلام طريق معتدل للجميع. فأمّا الطريقان الآخران فإنّ أحدهما، وهو الذي يصلح لمن ليس له في الأدب حظّ، فطريق يتأذّى به ذو الحظّ في الأدب لطوله؛ وأمّا الطريق الآخر الذي لذوي الحظّ في الأدب فيغمض على من حظّه في الأدب يسير. فأمّا من لا حظّ له في الأدب فليس ينبغي أن يقتصر على القراءة في الكتب، ويودّ من هذه حاله أن يكون، إذا سمع في المعنى الواحد متشافهةً، كلاماً مكرّراً مراراً كثيرة
بعبارات مختلفة يقدر حينئذ أن يفهم منه ما ينتفع به من غير غلط ولا زوال عن المعنى الذي يوصف.
(١ب) قال أبقراط: كانت بثاسس حالات شتويّة، لا في الوقت لكنّ بغتة، مع رياح شماليّة وجنوبيّة كثيرة رطبة ومبادرة في السيل.
قال جالينوس: إنّ الخريف يبتدئ في وقت طلوع السماك الرامح، وطلوعه يكون من قبل وقت الاستواء الخريفيّ. فقال أبقراط إنّه كانت في ذلك الوقت «حالات شتويّة» قويّة من قبل الوقت الذي ينبغي، وهذا هو معناه في قوله «لا في الوقت» وفي قوله «ومبادرة» في الانبعاث. وقوله «لا في الوقت» يدلّ على أنّ تلك الحالات الشتويّة كانت قبل الوقت فقط، وأمّا قوله «ومبادرة» في الانبعاث فيدلّ مع ذلك على أنّه كان معها أمطار غزيرة دفعةً.
(٢) قال أبقراط: وكان ذلك كذلك إلى وقت نوء الثريّا وبعده.
قال جالينوس: قد قلت قبل إنّ غروب الثريّا هو انقضاء الخريف، وإنّ فيما بين طلوع السماك الرامح وبين غروب الثريّا شهرين، وإنّه يحدث في الهواء من السماك الرامح نوء واحد ومن الثريّا نوآن: أحدهما في وقت غروبها عند انقضاء الخريف وابتداء الشتاء، والآخر في وقت طلوعها عند انقضاء الربيع وأوّل الصيف. وأمّا السماك الرامح فليس من عادة أبقراط أن يذكر إلّا طلوعه فقط، لأنّ في وقت طلوعه يكون ابتداء الخريف وانقضاء الصيف.
وقد وصفت فيما تقدّم أمر قسمة السنة كلّها إلى أربعة أوقات وأمر قسمتها إلى سبعة أوقات؛ وأنّ حدّي طرفي الصيف هما طلوع الثريّا وطلوع السماك الرامح؛
وحدّي طرفي الجزء الثاني من الصيف، إذا قسم الصيف بقسمين، هما طلوع الشعرى العبور وطلوع السماك الرامح؛ وأنّ هذا الجزء هو أحد السبعة الأوقات التي تنقسم إليها السنة بأسرها، لأنّ الصيف في تلك القسمة يقسم بقسمين والشتاء يقسم بثلاثة أقسام.
(٣) قال أبقراط: وكان الشتاء شماليّاً.
قال جالينوس: من بعد أن ذكر غروب الثريّا أتبع ذلك بذكر «الشتاء»، فبيّن بذلك بياناً واضحاً أنّ وقت غروب الثريّا هو حدّ انقضاء الخريف. فانظر ما الذي يقتصّ من حال ذلك الشتاء الذي كان في تلك السنة:
(٤آ) قال أبقراط: وكانت فيه أمطار كثيرة غزيرة قويّة وثلوج وأيّام صحو فيما بين ذلك كثيرة. وذلك كلّه، وإن كان قد كان، فإنّ البرد لم يكن بمبكّر. ثمّ من بعد المنقلب الشتويّ وفي الوقت الذي تبتدئ فيه الريح الغربيّة تهبّ كانت حالات شتويّة عظيمة متأخّرة ورياح شماليّة كثيرة وثلج وأمطار كثيرة متواترة وريح عاصف وغيوم في السماء. وامتدّ ذلك ودام ولم يسكن إلى وقت الاستواء. ثمّ كان الربيع بارداً شماليّاً مطيراً غيوميّاً. ثمّ كان الصيف ليس بالشديد الحرّ، وكان هبوب الرياح الحوليّة فيه متواترة. ثمّ تقدّمت فكانت نحو طلوع السماك الرامح أمطار كثيرة أيضاً مع رياح شماليّة.
قال جالينوس: إنّا قد نقول إنّ «الأمطار» كانت «كثيرة» في وقت من الأوقات لطول مدّة الزمان الذي كانت فيه، وإن لم يكن المطر كان غزيراً جوداً، فكثيراً ما نقول في المطر إنّه كان «كثيراً»، وإن كان إنّما كان في مدّة من الزمان يسيرة، إلّا
أنّه كان غزيراً جوداً؛ وقد يمكن أن يسمّى هذا المطر مطراً «قويّاً». فإذا جمع القائل الاسمين جميعاً بمتواليين فقال إنّه كانت «أمطار غزيرة وأمطار قويّة»، كما قال أبقراط في هذا الموضع، فهمنا عنه أنّه يريد «بالغزيرة» المطر الجود الذي يجيء دفعة في مدّة يسيرة جدّاً من الزمان، وفهمنا عنه أنّه يريد «بالقويّة» الأمطار التي ليست بالندرة جدّاً ولا مدّة الزمان التي تكون فيه باليسيرة.
وليس يمنعني مانع أن أشرح ما وصفت لك من هذا ليضح بكلام أوسع قليلاً من هذا، فأقول: «إنّ مطراً كثيراً جدّاً جاء دفعة» في ثلاث أو أربع ساعات، ثمّ سكن على المكان، فهذا هو المطر الذي يسمّيه «غزيراً جوداً». وأقول إنّ مطراً آخر ابتدأ قليلاً قليلاً، ثمّ تزيّد قليلاً قليلاً ولم تزل تلك حاله النهار كلّه والليل كلّه، ثمّ انتهى منتهاه، ثمّ نقصت كثرته قليلاً قليلاً في نهار اليوم الثاني كلّه حتّى سكن، فهذا المطر لسنا نسمّيه «غزيراً» ولا «جوداً»، لكنّا نسمّيه «مطراً قويّاً».
فكان في ذلك الشتاء الذي وصفه أبقراط في أوقات منه أمطار «غزيرة» وفي أوقات أخر أمطار «قويّة»، وكانت فيما بينهما فترات كثيرة يصفو فيها الهواء ويصحو. فإنّ ذلك موافق لِما قال أبقراط: «إنّه كانت أيّام صحو فيما بين ذلك كثيرة».
وقال إنّه كانت في الشتاء «ثلوج» ولم يخبر هل كانت تلك الثلوج كثيرة أم قليلة، لأنّها لم تكن تنسب لا إلى القلّة ولا إلى الكثرة، لأنّها كانت على نحو العادة كانت في تلك المدينة. ولذلك استثنى فقال: «إنّ البرد لم يكن بمبكّر».
وسائر ما وصفه أيضاً فيما بعد يدلّ على أنّ ذلك الشتاء كلّه كان بارداً رطباً. ومن طبيعة الشتاء أن يكون كذلك، إلّا أنّ رطوبته كانت في ذلك الوقت أزيد ممّا ينبغي. وقال أيضاً في «الربيع» إنّه «كان مطيراً شماليّاً» وكان مع ذلك «كثير
فلأنّه إنّما ابتدأ في الاقتصاص من الخريف، قد يدلّك ذلك أنّه لم يذمّ من الصيف شيئاً موافىً ذلك الخريف الأبدان، وهي بحسب ما أوجبته تلك الأوقات باقية على طبائعها. ولأنّه كان رطباً بارداً، لم يحدث فيه حدثاً رديئاً، لكنّه خليق بأن يكون قد نفع بعضها، وهي الأبدان التي في طبائعها أسخن وأجفّ. فإنّ من عادة هذه الأبدان أن يفرط عليها الحرّ واليبس في الصيف. كان الخريف لهذه الأبدان بمنزلة الدواء إذا كان مزاجه بارداً رطباً.
ولم يتولّد أيضاً في الشتاء شيء من الأمراض العامّيّة الحادثة يستحقّ أن يذكر، فهذا معنى قوله «أمّا في الشتاء فكانت أبدانهم في أكثر الحالات صحيحة». وذلك كان لأنّ الشتاء، وإن كان أرطب من مزاجه الطبيعيّ، فإنّه لم يكن بأبرد من مزاجه الطبيعيّ. ولذلك عند صفته مزاج الهواء قال: «فإنّ البرد لم يكن بالمبكّر».
فإن قلتَ: «فمتى كان يجب أن تبتدئ الأمراض من كثرة تغيّر الهواء؟»، قلنا: «إنّه إنّما كان يجب أن يكون ذلك في الوقت الذي قال فيه: ‹ثمّ كان الربيع بارداً شماليّاً مطيراً كثير الغيوم›»، وذلك أنّ الربيع ينبغي أن يكون معتدلاً، لا بارداً ولا شماليّاً ولا كثير الغيوم ولا مطيراً. وقد قلت في المقالة التي قبل هذه إنّ الربيع يبتدئ منذ وقت الاستواء الذي يكون بعد الشتاء. وقد بيّن ذلك أيضاً أبقراط بياناً واضحاً في هذه الصفة التي يقتصّها، وذلك أنّه لمّا قال: «إنّه كانت حالات شتويّة متأخّرة»، ثمّ قال: «وامتدّ ذلك ودام ولم يسكن إلى وقت الاستواء»، أتبع ذلك بأن قال: «ثمّ كان الربيع بارداً شماليّاً مطيراً غيوميّاً».
فلننظر الآن هل تلك الأمراض التي ذكر أنّها حدثت مشاكلة لحال الهواء التي وصفها، أعني مزاجه.
(٦) قال أبقراط: وأوّل ما ابتدأ بهم رمد معه سيلان ووجع ورطوبة وإبطاء في النضج. وكان يتولّد في أعين كثير منهم رمص يسير يعسر انقلاعه، وكان أكثر من يبرأ منه يعاوده، وتأخّر انقلاع ذلك الرمد إلى نحو الخريف.
قال جالينوس: قد قلت فيما تقدّم ثَمّ كان ابتداء حدوث تلك الأمراض العامّيّة الحادثة في الربيع، فأمّا السبب الذي له حدث «الرمد» دون سائر الأمراض فإنّك تعرفه إن تذكّرتَ مزاج الهواء كان في ذلك الربيع، وذلك أنّه قال: «إنّه كان بارداً شماليّاً مطيراً كثير الغيوم». ولو كانت الرياح الشماليّة فقط هي التي قرعت الأعين وأنكتْها، لكان «الرمد» سيعرض منها من غير سيلان. ولمّا كان مع تلك الرياح الشماليّة رطوبة كثيرة، وجب أن يكون مع ذلك «الرمد» «سيلان»، يعني «رطوبة»، لأنّ مزاج الهواء الذي أحدثه كان رطباً.
فأمّا «الوجع» فقد يحدث في الأعين في الحالتين جميعاً، أعني إن كان حدوث الرمد مع سيلان فإن كان من غير سيلان، من برد فقط. فإنّ البرد أيضاً وحده قد يكتفي في إحداث الوجع في العين. ويشبه أن يكون الوجع في تلك الحال كان زائداً لاجتماع البرد مع السيلان.
فأمّا «إبطاء نضوج» ذلك الرمد وطول لبثه فللرطوبة والبرد، وذلك أنّ الفضول التي تتحلّب وتنصبّ إلى الأعضاء إنّما تنضج إذا استولت عليها وقهرتها الحرارة الغريزيّة. واستيلاؤها عليها وقهرتها لها يكون أسهل إذا كانت الرطوبة يسيرة ولم تكن بالباردة جدّاً، ومتى كانت الرطوبة كثيرة باردة عسر نضجها. والحرارة الغريزيّة أيضاً
التي في البدن متى كانت قويّة، كان إنضاجها للفضول أسرع، ومتى كانت ضعيفة، لم تستول على تلك الرطوبات وتقهرها إلّا بكدّ وفي مدّة أطول.
ولذلك كان من يبرأ منهم من رمده «يعاوده» من الرأس، وذلك أنّ الأعين كانت تكون قد ضعفت من ذلك «الرمد»؛ فإذا لقيها الهواء وهو بالحال التي قد وصفها، أعني بارداً شماليّاً مطيراً غيوميّاً، وجب أن يُنكيها، ولا يزال يتولّد في الأعين التي «رمدها» بهذه الحال «رمص يسير يعسر انقلاعه». أمّا قلّت فلأنّ الرطوبة التي في تلك الأعين يعسر نضجها، وأمّا عسر انقلاعها فلتكاثف العين الحادث بسبب برد الهواء.
ويجب ضرورة أن يكون أهل ثاسس بقوا الربيع كلّه في تلك السنة، وليس تزاد أعينهم إلّا شرّاً، ثمّ إنّ الغلظ الصلب الذي حدث فيها نضج في الصيف وتحلّل قليلاً قليلاً، لأنّ الأمراض التي تتولّد في مدّة طويلة، وخاصّة من أسباب باردة رطبة، ليس يمكن أن تتحلّل سريعاً. فبالواجب قال إنّ سكون تلك الأعراض التي حدثت في الأعين إنّما كان «نحو الخريف».
(٧) قال أبقراط: فأمّا في الصيف والخريف فعرض لهم اختلاف الدم والزحير وزلق الأمعاء واختلاف أشياء من جنس المرار رقيقة كثيرة نيّة لذّاعة. ومنهم من كان يختلف شيئاً من جنس الماء، ومنهم من كان يجري منه مع وجع أشياء من جنس المرار ومن جنس الخراطة.
قال جالينوس: إنّه ليس هذه الأمراض والأعراض فقط حدثت لأهل ثاسس في ذلك الوقت، لكن حدثت معها أمراض أخر سنذكرها فيما بعد. فإنّ الأمراض التي عرضت لهم كانت مختلفة جدّاً من أجناس شتّى. وأنا واصف أوّلاً القول العامّ في الأمراض، وهو الذي ينتفع به في ألّا يمرض من وردت عليه مثل هذه الحال من الهواء، ثمّ أقبل على الأمراض الجزئيّة.
فإنّه ينبغي أن ننظر عند كلّ حال من حالات الهواء في سنّ كلّ واحد من الناس وطبيعته كيف حالهما عند تلك الحال من حالات الهواء. فإنّك تجد كلّ واحد من الأبدان إمّا سريع الاستحالة إلى تلك الحال من الهواء، وإمّا بطيء الاستحالة، وإمّا في حال متوسّطة عندها، فليكن بعد هذا تقديرك للرياضة والأغذية وسائر ما يتدبّر به الأصحّاء على المضادّة بحال الهواء.
وقد قلنا مراراً كثيرة إنّ البدن إنّما تسرع إليه الاستحالة وتبطئ من الأسباب التي من خارج من قبل مشابهته لها أو مضادّته إيّاها. وذلك أنّ الصحّة لا تكون إلّا باعتدال الكيفيّات الأربع، أعني الرطوبة والحرّ والبرد واليبس. وبعض الأبدان هي في طبعها وهي في سنّها خارجة عن الاعتدال في مزاجها، فهذه الأبدان تمرضها حالات الهواء الشبيهة بها وتنفعها المضادّة لها. وأمّا الأبدان المعتدلة فحالات الهواء المعتدلة تحفظ صحّتها، وأمّا حالاته الخارجة عن الاعتدال فتضرّها.
وكما أنّه ليس شيء من حالات الهواء الخارجة عن الاعتدال جيّد للأبدان المعتدلة، كذلك ليس يضرّها أيضاً مضرّة عظيمة، كما يضرّ الأبدان الخارجة عن الاعتدال. وذلك أنّ حال الهواء القويّة الرطوبة والبرد تضرّ الأبدان الخارجة عن الاعتدال إلى الرطوبة والبرد غاية المضرّة، وكذلك أيضاً حال الهواء اليابسة الباردة تضرّ الأبدان الباردة اليابسة مضرّة عظيمة قويّة، وكذلك أيضاً حال الهواء الرطبة الحارّة تضرّ أصحاب المزاج الرطب الحارّ. وعلى هذا القياس تضرّ أيضاً حال الهواء اليابس الحارّ أصحاب المزاج اليابس الحارّ الشبيه بها. وذلك أنّ الأبدان التي هي قريبة من أن يستولي عليها مرض من الأمراض بسبب سوء مزاجها المخصوصة به، إذا ورد عليها من سوء مزاج الهواء ما شابه ما هي عليه، تكشف ما كان من سوء حالها مستوراً، واستولى عليها ذلك المرض الذي كانت من الوقوع فيه قريبة.
فأمّا الأبدان التي مزاجها على ضدّ مزاج الهواء الوارد عليها فإنّها معما لا ينالها منه مضرّة تصير إلى حال أجود من الحال التي كانت عليها، لأنّ إفراط مزاج الهواء المضادّ لمزاجها يحفظ من إفراط مزاجها، لأنّ «الضدّ هو شفاء للضدّ»، من ذلك أنّ أصحاب المزاج الحارّ اليابس عند حال الهواء الباردة الرطبة لا ينالهم منها مضرّة بل منفعة، لأنّ تلك الحال من الهواء، إذا أجبرت تلك الأبدان إلى ضدّ ما هي عليه، صارت حالها حالاً متوسّطة في المزاج. وهذا هو السبب في أن ليس يمرض جميع الناس عند حالات الهواء الخارجة عن المزاج المعتدل.
فمن عرف هذا قدر أن يحفظ على الأبدان صحّتها بتدبيره إيّاها بالتدبير المضادّ لحال الهواء. وذلك أنّه متى كان الهواء بارداً رطباً، فهو يحتاج إلى أن يسخن الأبدان ويجفّفها، ولا سيّما متى كانت الأبدان إلى البرد والرطوبة أميل.
فتنفع تلك الأبدان في تلك الحال الرياضة التي هي أكثر وشرب الشراب الذي هو في مقداره يسير، إلّا أنّه في طبيعته من الخمور التي هي أسخن. وأمّا الماء فلن يوافقها أصلاً، وينفعها من الأطعمة ما يسخنها ويجفّفها.
ونقدر أن نعرف المقدار الذي يحتاج إليه من كلّ واحد من هذه الأشياء من مزاج البدن ومن مزاج الهواء إذا نحن نظرنا كم زال كلّ واحد منها عن الاعتدال: فإنّه قد ينبغي أن يكون مقدار تمييلنا للتدبير عن الاعتدال بحسب زوال كلّ واحد من البدن والهواء عن الاعتدال، مثل ذلك أنّه متى كان بدن من الأبدان زائلاً عن اعتدال المزاج زوالاً كثيراً جدّاً إلى الرطوبة والبرد، فإنّا نسخن ذلك البدن في مثل هذه الحال التي نحن في صفتها إسخاناً أكثر ونجفّفها تجفيفاً أكثر، ومتى كان البدن إنّما زال عن الاعتدال إلى البرد والرطوبة زوالاً يسيراً، فليس يجب أن نسخنه ونجفّفه غاية الإسخان والتجفيف.
وأحرى ألّا ينبغي أن يكون التدبير قويّ الحرّ واليبس متى كان البدن حارّاً يابساً، لأنّ ذلك البدن من طبيعته ما يُغنيه عن ذلك، لكنّه إنّما ينبغي أن ننظر كم زال الهواء عن الاعتدال الذي ينبغي أن يكون عليه: فإن كان زواله يسيراً، لم نُزِلْ تدبير البدن الحارّ اليابس عن الحال المتوسّطة أصلاً، وإن كان زواله أكثر، فيكفي أن نزيله زوالاً يسيراً.
فهذا ما نعلمه من علم أسباب تولّد كلّ واحد من الأمراض عند كلّ واحدة من حالات الهواء. فأمّا قوينطس فإذا كان يحجر معرفة أسباب الأمراض التي تحدث من قبل حالات الهواء بمنزلة ما يحجرها أصحاب التجارب، وإنّما يضيف أمرها إلى التجربة فقط، فإنّه قد عدم وجود ما يحتاج إليه في علاجه، على أنّه إنّما يحتاج إلى معرفة تولّد الأمراض العامّيّة الحادثة من الهواء لهذا الأمر الذي ذكرناه.
فلننظر الآن في هذه الحال من الهواء التي كلامنا فيها، ونرجع فيها منذ أوّل أمرها.
فنقول إنّ هذه الحال كانت، كما قد بيّن أبقراط، باردة رطبة، وكان أوّلها الخريف. ولذلك كانت حال أهل البلد التي حدثت عندهم، وهم أهل ثاسس، في ذلك الخريف وفي الشتاء الذي بعده حالاً صالحة. فلمّا جاء الربيع، وكان أيضاً مثل الوقتين اللذين قبله بارداً رطباً، كان أوّل ما اعتلّ من أعضاء أبدانهم الأعين، لأنّه لم يكن الهواء بارداً رطباً فقط، لكن كان قد تقدّم فيه هبوب رياح عواصف. فلقرع تلك الرياح الباردة الأعين وجب أن تعتلّ قبل سائر الأعضاء بحسب طبيعة السبب المؤثّر فيها، فبالواجب سالت إليها رطوبات باردة رطبة. ولأنّ تلك الحال من الهواء لم تكن بلغت من البرد والرطوبة غايتهما، لم يحدث شيء من سائر الأمراض التي من شأنها أن تكون إذا غلب على الهواء هذا المزاج غلبة قويّة، أعني السكتة والفالج والصرع والتشنّج والاختلاج والتمدّد وذات الرئة وذات الجنب.
ثمّ إنّه حدث بأخرة أمراض امتلاء مع فساد من قبل أنّ الأخلاط عفنت لطول لبثها في باطن البدن، وذلك أنّ الأسباب الباردة تكثّف الجلد فتمنع تحلّل الأخلاط منه، ورطوبة الهواء أيضاً لا تأخذ من البدن شيئاً بل تعطيه. فلمّا اجتمع الأمران التي نحن في صفتها، اجتمع في أبدان القوم الذين مرضوا فيها كثرة الأخلاط.
ولم تكن تلك الأخلاط التي كثرت بمتشابهة في جميعهم، وذلك أنّ بعض الأبدان كان فيها فضل من المرارة الصفراء، فلمّا إن لم يتحلّل، كثر فيها خلط الصفراء، وكان في بعضها فضل من البلغم أو من المرّة السوداء أو من الدم. فكان
المرض الذي كثر في كلّ واحد من تلك الأبدان شبيهاً بالخلط الذي كان منه فيه فضل فلم يستفرغ. ولمّا كان من شأن ما هذه حاله من الفضل أن يفسد في البدن ويعفن، وجب أن تعرض بالأبدان دون أبدان أمراض دون أمراض.
ومع هذا أيضاً فإنّ أعضاء البدن ليس حالها حالاً واحدة في جميع الناس، لأنّه قد يكون من الأبدان ما الكبد فيه أضعف، ومنها ما يكون الطحال فيه أضعف، ومنها ما المعدة والأمعاء، ومنها غير ذلك من الأعضاء. فإذا كانت الأعضاء التي هي أضعف تقبل دائماً الفضل المندفع من الأعضاء التي هي أقوى، وجب من قبل اختلاف طبائع المواضع أن تعرض لقوم دون قوم من أهل ثاسس أمراض دون أمراض. «فاختلاف الدم والزحير والاختلاف وزلق الأمعاء» إنّما حدثت عند سيلان الفضول إلى الأمعاء، وعسر البول عند تحلّبها إلى المثانة، والقيء عند اتّصالها إلى فم المعدة. مالت إلى باطن البدن لبرد الهواء.
فأمّا في الصيف والأبدان التي كان مزاجها أسخن وأعضاؤها الباطنة قويّة فبالواجب كان عرق. وكان ذلك العرق في بعضهم من غير حمّى، لأنّ الفضل فيهم لم يكن بعد حدثت فيه عفونة، وكان العرق في بعضهم مع حمّى. فلمّا تمادى بهم الزمان، حدثت حمّيات مختلفة، حتّى كان لكلّ واحد منهم صنف من الحمّى مخالفاً لها بالآخر، لأنّ الأخلاط التي عفنت فيهم كانت مختلفة. وذلك من قبل أنّ تلك الأخلاط لم يكن تولّدها عن الهواء وإنّما كان للهواء فيها جمعها، لأنّ حاله كانت حالاً باردة لا حارّة، فيسخن البدن بطبيعته. وذلك هو السبب في أنّه يتولّد دائماً بعد طلوع الشعرى العبور حمّيات محرقة. وأمّا في هذه
الحال فلم تكن تلك الحمّيات من قبل حال الهواء بطبيعتها، لكنّها كانت بتوسّط تكاثف الجلد.
فقد وصفت الآن جملة الأمراض التي حدثت في ذلك الوقت. وأنا مقبل على مرض مرض منها جزئيّ ومفسّر مع ذلك شيئاً إن رأيته في كلام أبقراط يغمض حتّى يحتاج إلى التفسير.
(٨) قال أبقراط: وعرض لهم تقطير البول لا على طريق علل الكلى، لكنّه عرض لهم علل مكان علل.
قال جالينوس: إنّه قد عرض كثيراً أن تستفرغ من المقعدة فضول رديئة، والمعدة والأمعاء صحيحة لا علّة فيها، لكنّه تنحدر إليهما فضول يكون بها نقاء البدن كلّه بدفع الطبيعة لها إلى تلك المواضع الدفع الذي ينفذ به ويبرز من البدن.
فإنّ الشيء الذي يندفع عند أبقراط يكون على ضربين: أحدهما يسكن ويكمن على طريق الخراجات، والآخر ينفذ ويبرز ويخرج من البدن، ويعمّ الضربين كليهما عنده اسم «الخروج». وكذلك أيضاً قد يكون نقاء البدن كلّه بالكلى والمثانة، وليس في هذه الآلات علّة تخصّها، وكذلك كان في هذه الحال من الهواء التي نحن في صفتها.
ولذلك قال أبقراط فيها بعد أن أمعن في قوله هذا القول: «إنّ أحمد ما كان ظهر من العلامات وأبلغها نفعاً والذي به كان دون غيره تخلّص كثير ممّن كان في جهد شديد أنّ العلّة كانت تؤول إلى تقطير البول وكان الخروج يكون هناك». فهذا
كان معناه في قوله في هذا الموضع «لا على طريق علل الكلى، لكنّه عرض لهم علل»، وذلك أنّه مكان الفضول التي كانت في البدن كلّه عرض لهم أن انصبّت إلى الكلى والمثانة، وكان منها من الاستفراغ شبيه بما يكون في علل الكلى.
(٩) قال أبقراط: وعرض لهم قيء بلغم ومرار وقذف الطعام، وهو غير نضيج.
قال جالينوس: إنّ فضل الأخلاط الذي مال إلى باطن البدن انصبّ منه شيء نحو الأمعاء فأحدث الاختلاف والزحير واختلاف الدم وزلق الأمعاء، واستفرغ منه شيء على طريق الكلى والمثانة فكان منه تقطير البول، وانصبّ منه شيء إلى المعدة وطفا في أعلاها فاستفرغ بالقيء. ومن كان الغالب على طبيعته البلغم فإنّ الذي عرض له كان «قيء بلغم»، ومن كان الغالب على طبيعته المرار فإنّ القيء الذي 〈عرض له〉 كان «قيء مرار».
فقد قلت إنّ الفضول اجتمعت في الأبدان بسبب تلك الحال التي حدثت للهواء، وكانت تلك الفضول تختلف في كيفيّاتها على حسب طبائع الأبدان. وما هو يعجب أن عرض لهم أن «قذفوا طعامهم، وهو غير نضيج»، إذ كان قد انصبّ إلى معدهم هذه الأخلاط من المرّة والبلغم.
(١٠) قال أبقراط: وعرض لهم عرق.
قال جالينوس: من كان بالطبع يتحلّل من بدنه من الجلد تحلّل كثير، ثمّ احتبس واحتقن بسبب تكاثف الجلد، فليس بمنكر أن يكون أصابه «عرق» في الوقت الذي قويت فيه الطبيعة على دفع الفضل إلى ناحية الجلد.
(١١) قال أبقراط: وجاء من جميعهم من كلّ موضع لثق كثير.
قال جالينوس: إنّ من عادة أبقراط أن يسمّي رطوبة الفضل «لثقاً». ولأنّ الرطوبات التي كانت اجتمعت في الأبدان على طول المدّة كانت تستفرغ من كلّ واحد من الأبدان بنوع غير النوع الذي يستفرغ به الآخر، وكانت ربّما استفرغت من البدن الواحد بأنواع مختلفة، بذلك قال: «إنّه جاء من جميعهم من كلّ موضع لثق كثير».
(١٢) قال أبقراط: وكانت هذه العلل تعرض لكثير منهم، وهم يذهبون ويجيؤون وليست بهم حمّى، وعرضت لكثير منهم حمّيات سنصفها فيما بعد.
قال جالينوس: إنّ الفضل الذي كان مجتمعاً في أبدان بعض أهل ذلك البلد من المرار وغيره من الفضول التي تسرع إليها العفونة سبق فصار من العفونة إلى حال تحدث معها حمّى. فأولائك التي كانت هذه حالهم حمّوا منذ أوّل الأمر، ومنهم قوم بقوا أوّلاً مدّة ما «يذهبون ويجيؤون»، ثمّ عرض لهم «الحمّيات» فأنحفتهم.
(١٣) قال أبقراط: وعرض لهم السلّ في الخريف وفي الشتاء.
قال جالينوس: إنّ كلام أبقراط هذا إنّما هو في الخريف الثاني والشتاء الثاني، لأنّه قد تقدّم فقال في الشتاء الأوّل هذا القول: «أمّا في الشتاء فكانت أبدانهم في أكثر الحالات صحيحة. فلمّا كان في أوّل الربيع، نالت كثيراً منهم أو أكثرهم أمراض»، ثمّ وصف الأمراض التي كانت في الربيع، ثمّ ذكر الصيف، ثمّ ذكر بعده الخريف الثاني الذي قال فيه في آخر صفته لحال الهواء في تلك السنة هذا القول:
«ثمّ تقدّمت فكانت نحو طلوع السماك الرامح أمطار كثيرة أيضاً مع رياح شماليّة».
وأمّا «السلّ» الذي ذكر أنّه عرض «في الخريف» فليس أمره بالبيّن ماذا أراد به أبقراط. وذلك أنّ من عادة أبقراط في بعض كلامه أن ينسب إلى السلّ جميع من يقضف بدنه ويهزل وينتقض، وينسب أيضاً إلى السلّ في بعض كلامه من يذوب بدنه كلّه بسبب قرحة في الرئة.
وخليق أن يكون في هذا الموضع أيضاً إنّما ينسب إلى السلّ من يقضف بدنه ويهزل على أيّ وجه كان، وذلك أنّه لم يتقدّم فيذكر شيئاً من الأمراض التي تعرض في الرئة، لأنّه لم يقل إنّه عرض نفث دم أو ورم في الرئة ولا نزلة انحدرت إليها. وكذلك ليس يشبه أن يكون عنى «بالسلّ» الذي عرض لمن مرض في تلك الحال السلّ الذي يكون من علّة الرئة. وليس ممّا لا يمكن أن يكون، كما انصبّ شيء من الخلط الرديء الذي كان في البدن كلّه إلى المعدة والكلى، كذلك انصبّ منها شيء إلى آلات التنفّس.
(١٤) قال أبقراط: وفي الشتاء حمّيات دائمة.
قال جالينوس: إنّ قوله «في الشتاء»، لمّا كان بين الكلام الذي تقدّم وبين هذا الكلام الأخير، قد ألزقه بعضهم بالكلام الأوّل وبعضهم لهذا الكلام الثاني. والأمر عندي أنّ هذا القول كلّه مستوٍ على هذا المثال: إنّه عرض لقوم في الخريف السلّ وعرض لقوم أيضاً ذلك «في الشتاء»، وعرضت أيضاً حمّيات دائمة في الخريف وفي الشتاء الثاني.
ولم يصف أبقراط حال الشتاء، لأنّ ذلك الشتاء كان حافظاً للمزاج المشاكل للشتاء. وقد دلّك أبقراط بهذا القول أنّه قد تكون أمراض في وقت من أوقات السنة من غير أن يكون ذلك الوقت تغيّر عن مزاجه الطبيعيّ، وإنّما عرضت فيه تلك الأمراض لآفات تقدّمت فتولّدت في الأبدان من الأوقات التي قبله.
(١٥) قال أبقراط: وعرض لعدد يسير منهم حمّيات محرقة.
قال جالينوس: لم تعرض الحمّيات الحادّة على طريق طبيعة تلك الحال من الهواء، وإنّما عرضت على طريق عرض من الأعراض قد وصفته قبل: وهو أنّ تحلّل البدن كلّه احتبس واحتقن، فكانت الفضول التي كانت عادتها أن تتولّد في كلّ واحد من الطبائع، إذا امتنعت من الاستفراغ، تُحدث أمراضاً متشاكلة. «فالحمّيات المحرقة» على هذا القياس إنّما حدثت للأبدان التي غلبت المرّة الصفراء في طبيعتها عليها جدّاً.
ولذلك قال فيهم فيما بعد هذا القول: «فأمّا الحمّيات المحرقة فلم تعرض إلّا لعدد يسير جدّاً من الناس، وكان أصحابها أقلّ جميع المرضى تأذّياً بها». ولو كانت حال الهواء المولّدة لها حالاً حارّة محرقة يابسة، لكانت تلك الحمّيات ستكون كثيرة وتعرض لعدد كثير من الناس ويكون معها تأذٍّ شديد.
(١٦) قال أبقراط: وحمّيات نهاريّة وليليّة ومجانبة للغبّ وغبّ خالصة وربع ومخلطة.
قال جالينوس: قد وصفنا فيما تقدّم السبب الذي من أجله حدث جميع أصناف الأمراض في هذه الحال من الهواء الذي نحن في صفتها. وأمّا قوله «خالصة» فقد وصفنا وصفاً يمكن معه أن يفهم مع «الغبّ» ومع «الربع».
(١٧) قال أبقراط: وأمّا الحمّيات المحرقة فلم تعرض إلّا لعدد يسير جدّاً من الناس، وكان أصحابها أقلّ جميع المرضى تأذّياً بها، وذلك أنّه لم يعرض لهم من الرعاف إلّا الشيء اليسير جدّاً ولعدد قليل منهم، ولم يعرض لهم أيضاً الهذيان، وكانت حالهم في سائر جميع أمورهم حال خفّ.
قال جالينوس: إنّ من خاصّة أبقراط في اقتصاصه ما يقتصّ أن يشير في كلامه على الطريق إلى معاني ينتفع بها، وذلك أنّ الأعراض المشاكلة للمرض، إذا لم يكن موجودة فيه في وقت من الأوقات، فهذه العبارة من عادة أبقراط أن يدلّ عليها، فيُعلم أنّ هذه حالها بقوله إنّها لم تكن. ومن ذلك أنّ «الحمّى المحرقة» الخالصة لكثرة الحرارة فيها ترتفع الأخلاط إلى الرأس، فيعرض من ذلك «الرعاف» «والهذيان». وأمّا في هذه الحال فلمّا كانت الحمّى المحرقة لم تكن خالصة، فبالواجب لم تكن فيها الأعراض التي هي خاصّة للحمّى المحرقة.
(١٨) ولذلك قال أبقراط: وكان أمر البحران في هؤلاء منتظماً جدّاً، وكان في أكثرهم في سبعة عشر يوماً مع أيّام الترك.
قال جالينوس: إنّ هذا أيضاً من خاصّة تلك الحمّى المحرقة التي حدثت في ذلك الوقت، وليس هو أمر عامّ لسائر الحمّيات المحرقة التي تسمّى «الخالصة». فإنّ تلك الحمّيات، كما أنّ حالها حال قوّة وشدّة ويعظم أذاها على أصحابها بما
يعرض لهم فيها من الأرق والقلق واختلاط الذهن، فإنّ البحران فيها من أجل هذه الحدّة أيضاً يأتي بسرعة.
وأمّا هذه الحمّى المحرقة التي عرضت في ذلك الوقت، كما أنّ حدّتها كانت يسيرة ولم يكن فيها شيء من الأعراض الشاقّة المؤذية، كذلك لم يكن البحران فيها يسرع ولا يتمّ، لكنّه كان يكون ناقصاً حتّى يعود المرض، ثمّ يكون تمام البحران بعد العودة. فقد دلّ بقوله «في سبعة عشر يوماً مع أيّام الترك» أنّ البحران كان يتقدّم فيكون ناقصاً، ثمّ يعود المرض ويكون البحران ثانية على التمام.
(١٩) قال أبقراط: ولا أعلم أنّ أحداً مات في الحمّى المحرقة في ذلك الوقت، ولا أنّه عرضت فيه أمراض السرسام.
قال جالينوس: أمّا السبب في أنّه «لم يمت في ذلك الوقت أحد في الحمّى المحرقة» فهو أنّها كانت ليّنة خفيفة ضعيفة. وقد وصفنا فيما تقدّم السبب في ذلك.
فأمّا السبب في أنّه «لم تعرض في ذلك الوقت أمراض السرسام» فهو أنّه 〈لم〉 يعرض لأهل ذلك البلد في ذلك الوقت أن سخنت رؤوسهم، لأنّ مزاج السنة كلّها كان بارداً. وقد بيّنّا أنّ السرسام إنّما يكون إذا سخنت المواضع التي في الدماغ.
(٢٠) قال أبقراط: فأمّا حمّيات الغبّ فكانت أكثر من الحمّيات المحرقة وأصعب منها. وكانت تدور دوراً منتظماً في جميعهم منذ أوّل أخذها أربعة أدوار. ويأتي فيها البحران تامّاً في اليوم السابع، ولم تعاود أحداً منهم الحمّى.
قال جالينوس: قد بيّنت في كتابي في أصناف الحمّيات وفي كتابي في البحران مع ما بيّنت من سائر أصناف الحمّى أنّ «الحمّى المحرقة» «وحمّى الغبّ» تكونان من غلبة المرّة الصفراء. فهذا أمر يعمّها، وتختلفان في المواضع التي يجتمع فيها الخلط الغالب. وذلك أنّ المرّة الصفراء في الحمّى المحرقة تكثر في العروق، وخاصّة العروق التي تلي الكبد والمعدة، وأمّا حمّى الغبّ فتكون إذا غلبت المرّة الصفراء في اللحم الذي في البدن كلّه.
فأقول إنّه لمّا احتبس واحتقن ما كان يتحلّل من الأبدان التي كان الغالب عليها في طبعها المرّة الصفراء ولم يستفرغ عند تلك الحال من الهواء ما كان يستفرغ من المرار الذي كان يجتمع في جنس اللحم، ولّد من حمّيات الغبّ ما كان أكثر من الحمّيات المحرقة التي عرضت في ذلك الوقت، لأنّ الحمّيات المحرقة لا يكاد أن يكون تولّدها من احتقان الفضول التي من جنس المرار، وإنّما يكون من الحرارة التي في الأوعية والأحشاء إذا احتدّت والتهبت. وذلك إنّما يكون في حال من الهواء قويّة الحرارة عند استعمال الرياضة بأزيد من المقدار القصد أو عند اهتمام شديد أو ترداد في الشمس مدّة طويلة أو استعمال أطعمة حارّة محرقة
كثيرة أو عند استعمال عدّة من هذه الخلال أو كلّها. ولم تكن حال الهواء في ذلك الوقت قويّة الحرارة. ولذلك لم تعرض الحمّيات المحرقة لعدد كثير من الناس، وإنّما عرضت لمن كان الغالب عليه المرار غلبة شديدة، وكان ما عرض منها أيضاً لأولائك ليّناً خفيفاً ضعيفاً جدّاً.
وعرض لتلك الأبدان بأعيانها من حمّيات الغبّ ما هو أكثر ممّا عرض لها من الحمّيات المحرقة، وذلك واجب لاحتباس ما كان من عادته أن يتحلّل من الفضول التي هي من جنس المرار. فبالواجب كانت هذه الحمّيات أشدّ «وأصعب» من الحمّيات المحرقة إذ كانت أخلص منها وكان بحرانها مشاكلاً لها.
(٢١) قال أبقراط: وأمّا حمّيات الربع فابتدأت في كثير من الناس وهي على نظام الربع. وحدث لعدد ليس باليسير من الناس خروج من حمّيات أخر وأمراض أخر إلى حمّيات الربع. وكان ما حدث منها على ما جرت عليه العادة من الطول وأزيد طولاً.
قال جالينوس: إنّ هذه الحمّيات أيضاً لم تكن من نفس طبيعة تلك الحال من الهواء، لكنّها إنّما كانت فيها العرض من قبل أنّ فضل المرّة السوداء لم يستفرغ فيها من الأبدان التي كانت المرّة السوداء عليها أغلب. ووجب أن يطول بغلبة المزاج البارد الرطب على الهواء لأنّه، إذا كان مزاج الهواء على هذه من الحال، بقيت جميع العلل مدّة طويلة في البدن لا تنضج ولا تتحلّل.
وينبغي أن تذكر في هذا الموضع أيضاً ما وصفناه لك قبل من عادة أبقراط في استعمال اسم «الخروج» عند قوله «خروج من حمّيات أخر وأمراض أخر إلى حمّيات الربع». فإنّك تجد اسم «الخروج» عنده ينتظم أحد ثلاثة معانٍ: إمّا قذف الطبيعة بشيء إلى موضع من البدن يستكنّ ويبقى فيه على طريق الخراجات؛ وإمّا دفعها الفضل في منفذ من منافذ البدن حتّى يستفرغ ويخرج؛ وإمّا النقلة من مرض إلى مرض. وهذا هو المعنى الذي سمّاه في هذه الموضع «خروجاً».
(٢٢) قال أبقراط: وأمّا الحمّيات النهاريّة والليليّة والمخلطة فعرض منها شيء كثير لكثير من الناس، ولبثت زماناً طويلاً بالذين عرضت لهم. وبعضهم يذهب ويجيء، وبعضهم قد لزم الفراش.
قال جالينوس: إنّه يعني «بالحمّيات الليليّة والنهاريّة» الحمّيات التي تنوب في كلّ يوم، إمّا بالليل وإمّا بالنهار. وهذه الحمّيات لمّا كان تولّدها لم يكن عن كثرة ما احتقن في البدن من الفضل فقط، لكنّ عن نفس مزاج الهواء أيضاً في ذلك الوقت، بالواجب «عرض منها شيء كثير لعدد كثير من الناس». وذلك لأنّ مزاج الهواء البارد الرطب يولّد أخلاطاً بلغميّة كما يولّدها الشتاء، وقد بيّنّا أنّ الحمّيات التي تنوب في كلّ يوم في النهار أو الليل إنّما تكون عن البلغم. وأمّا «الحمّيات المخلطة» فقد بيّنّا أنّها إنّما تتولّد عن أخلاط مختلفة مختلطة.
وما هو يعجب أن «لبثت» تلك الحمّى «مدّة طويلة من الزمان» إذا كان مزاج الهواء بارداً رطباً، ولذلك لم يدع الأخلاط أن تتحلّل ولا أن تنضج، على أنّ تلك الأخلاط أيضاً في طبيعتها طويلة الأمد عسرة النضج لبردها.
(٢٣) قال أبقراط: ولزمت أكثر هؤلاء الحمّى إلى وقت نوء الثريّا وحلول الشتاء.
قال جالينوس: إنّ من البيّن أنّه يعني «بنوء الثريّا» في هذا الموضع لا النوء الذي كان في السنة التي وصف حالها، لكنّ النوء الذي كان بعد تلك الأوقات كلّها التي وصف حالها في السنة الثانية، كما قد قلت أيضاً فيما تقدّم. فإنّه في آخر صفته لحال تلك السنة قال: «ثمّ تقدّمت فكانت نحو طلوع السماك الرامح أمطار كثيرة أيضاً مع رياح شماليّة»، ثمّ لم يذكر بعد هذا شيئاً من حال الأوقات التي كانت بعد، لأنّها عادت إلى حالها الطبيعيّة وكان مدّة الخريف التي بعد وقت طلوع السماك على المزاج المشاكل للخريف، وكذلك الشتاء الذي كان بعده كان على المزاج المشاكل للشتاء.
فبالواجب نضجت تلك البقايا التي كانت بقيت من حال الهواء المتقدّمة من بعد الخريف، ولم يحدث في الشتاء شيء من تلك الأمراض الغريبة العامّيّة لأهل ثاسس.
(٢٤) قال أبقراط: وعرض التشنّج لكثير من الناس، وخاصّة للصبيان. وعرض لبعضهم التشنّج أوّلاً، ثمّ حدثت بعده الحمّى، وحدث لبعضهم التشنّج بعد
حدوث الحمّى. وطالت مدّته في أكثرهم، إلّا أنّه كان سليماً لا مكروه فيه إلّا فيمن كانت جميع أحواله موجبة للهلاك.
قال جالينوس: إنّ «التشنّج» كان مرضاً مشاكلاً لتلك الحال من الهواء، إذ كانت باردة رطبة. وأبدان الصبيان أشدّ الأبدان تهيّؤاً لقبول التشنّج لضعف جنس العصب فيها. ولذلك تسرع إلى الصبيان هذه العلّة من أدنى سبب، وهي فيهم أقلّ خطراً.
وقال: «إنّ هذا التشنّج عرض لبعض أهل ثاسس أوّلاً، ثمّ عرضت لهم بعده الحمّى، وعرضت لبعضهم الحمّى أوّلاً، ثمّ حدث بعدها التشنّج». وذلك كان بحسب تهيّؤ الأبدان التي عرض لها الحمّى والتشنّج لقبول كلّ واحد منهما، وذلك أنّ كلّ واحد من الأبدان كان يحدث به أوّلاً من هذين العارضين الذي كان إلى قبوله أشدّ تهيّؤاً، ثمّ كان يلحقه الثاني.
وبالواجب طالت مدّة ذلك التشنّج من قبل أنّ الخريف الثاني أيضاً الذي وصفه في آخر صفته بحال الهواء في تلك السنة كان بارداً رطباً شماليّاً.
(٢٥آ) قال أبقراط: وعرضت أيضاً حمّيات كانت في الجملة دائمة لا تقلع بتّة، إلّا أنّها كانت تنوب في جميع من عرضت له على طريق شبيه بطريق الغبّ. فكانت كأنّها تخفّ في يوم وتنوب في الآخر، وكانت هذه الحمّيات أصعب الحمّيات التي عرضت في ذلك الوقت وأطولها وأعظمها مؤونةً ومشقّةً. وكانت تبتدئ بلين، ثمّ لا تزال تتزيّد دائماً وتهيّج في أيّام البحران وتزداد رداءةً، ثمّ كانت تخفّ قليلاً،
ثمّ لا تلبث أيضاً بعد الإمساك أن تهيّج بأصعب ممّا كانت، وأكثر ما كانت تتزيّد رداءةً في أيّام البحران. وأمّا النافض فكانت في جميعهم مخلطة غير منتظمة، إلّا أنّها كانت في هؤلاء خاصّة على أقلّ ما تكون.
قال جالينوس: كان أبقراط، لمّا قال في هذه الحمّيات التي ذكر أنّها حدثت في ذلك الوقت «إنّها كانت تنوب في جميع من عرضت له على طريق شبيه بطريق الغبّ»، أمسكه فلم يفسّر كيف كانت نوائبها، لكنّه استبقى من الحيرة في أمر عظيم عند طلبنا لأن نجد أيّ الحمّيات هي الحمّيات التي يسمّيها «شبيهة بالغبّ». فلمّا قال «طريق نوائبها»، لم يبق موضع طلب في المعنى، لكن بقي الطلب في الاسم الذي يدلّ على ذلك المعنى. ويتّصل بذلك أيضاً البحث عن حمّى الغبّ والمجانبة للغبّ وعن أصناف كلّ واحد منها، أعني الغبّ الخالصة والغبّ التي ليست بخالصة لكنّها أزيد قليلاً أو كثيراً أو على أكثر ما يكون، وكم حدّ مدّة كلّ واحد من هذه الأصناف، وأيّما من الحمّى المجانبة للغبّ هي العظيمة منها وأيّما هي المتوسّطة وأيّما هي الصغيرة. فقد كتب أغاثينس مقالة بأسرها، وهي المقالة الأولى من كتابه في الحمّيات، في الحمّى المجانبة للغبّ، فسّر فيها المعنى الذي يدلّ عليه هذا الاسم.
فإن أنا وصفت مع ذلك أيضاً ما كتبته الفرقة الثالثة في هذه الحمّى أو ما كتبه من بعد ذلك أرشجانس فيها في غير موضع من كثير من كتبه، ورمت مع ذلك تمييز صواب أقاويلهم من خطائها، ظننت أنّي سأحتاج إلى أن أضع في ذلك
ثلاث مقالات. وأمّا ما ينتفع به في أعمال الطبّ فقد وصفته في كتابي في البحران وفي كتابي في أصناف الحمّيات.
وأمّا في هذا الموضع فالذي يحتاج إليه أن أصل هذا النوع من الحمّى الذي وصفه بتلك الحال من الهواء التي وصفها. فأقول إنّه قال إنّ تلك الحمّى كانت «تنوب وتهيّج في يوم، ثمّ في اليوم الآخر كأنّها تخفّ». وليس ينبغي أن نتوهّم أنّ قوله لو قال «كانت تخفّ» وقوله إذ قال «كانت كأنّها تخفّ» يدلّ على معنى واحد، لأنّ قوله لو قال «تخفّ» لقد كان يمكن أن يفهم منه أنّها كانت تخفّ خفّاً ذا قدر، وأمّا قوله إذ قال «إنّها كانت كأنّها تخفّ» فإنّما يدلّ على أنّ خفّها كان يسيراً.
ولم يدلّنا على الشرح والتلخيص هل كانت الحمّى «تنوب» على أصحابها «في اليوم الثاني» نوبة ثانية أقلّ من النوبة التي في اليوم الأوّل أم كانت تلك النوبة الأولى بعينها تبقى «وتخفّ» في اليوم الثاني، إلّا أنّي أرى أنّ كلامه إلى أن يدلّ على أنّه إنّما كانت للحمّى نوبة واحدة تكون غبّاً «تخفّ» في اليوم الثاني أمثل.
وقال أيضاً إنّه كان بهؤلاء «نافض مخلطة»، وذلك يدلّ على أنّ تلك النافض لم تكن تحدث في كلّ نوبة، لكنّها كانت ربّما حدثت وربّما لم تحدث. وقال إنّ تلك النافض كانت في هؤلاء يسيرة، وكذلك أيضاً في العرق إنّه كان فيهم يسيراً، ثمّ قال أيضاً: «إنّ أطرافهم كانت تبرد برداً تعسر سخونتها معه». فدلّ جميع ذلك على أنّ تلك الحمّى إنّما كانت من أخلاط بلغميّة نيّة قد خالطتها مرّة صفراء.
وذلك أنّ الحمّى التي تكون من الصفراء محضاً يقال لها «الغبّ»، والحمّى التي تكون من صفراء قد خالطها من الخلط النيّ ما يعادلها يقال لها «الحمّى
المجانبة للغبّ الخالصة». وتولّد هذه الحمّى برومية كثيراً جدّاً، لأنّ جميع تدبير أهل تلك المدينة مشاكل جدّاً لتولّد تلك الحمّى منه.
وهذه الحمّى حمّى ذات اقشعرار، وتكون منها الحالات التي تسمّى «الكرّات». وتكون فيها سوى النوبة التي تكون في اليوم الأوّل نوبة أخرى في اليوم الثاني أقلّ من النوبة الأولى، فليس مثلها ذات اقشعرار لكنّ أقلّ، والكرّات فيها إمّا أن تكون أقلّ وإمّا أن لا تكون بتّة.
وأمّا الآن فإنّما كلامه في الحمّى التي «تنوب غبّاً»، لكنّها «تخفّ في اليوم الآخر». وهذه الحمّى كأنّها أقرب إلى طبيعة الغبّ المتطاولة وأبعد من طبيعة الحمّى المجانبة للغبّ، لأنّ هذا الفرق الذي وصفناه فيها فرق عظيم، أعني أنّه لا تكون فيها نوبة أخرى في اليوم الثاني وأنّه لا تعرض فيها الكرّات.
وأمّا النافض اليسيرة فهي قريبة من ذات الاقشعرار، على أنّه قد قال إنّ تلك النافض أيضاً لم تكن تعرض دائماً في ابتداء كلّ نوبة، لكنّها كانت «تخلط»، إلّا أن يكون إنّما أراد «بالنافض» التي كانت «تخلط» أنّها كانت تعرض في الحمّيات الأخر ولم تكن تعرض في «الحمّى الشبيهة بالغبّ». وبقوله «إنّها كانت النافض في هؤلاء خاصّة على أقلّ ما تكون» دلّ على قلّة النافض، ولم تسلب النوائب منها حتّى لا يكون منها معها شيء أصلاً.
وكيف كان هذا، فإنّ الذي لا يشكّ فيه أنّ هذه الحمّى بالواجب سُمّيت «شبيهة بالغبّ»، وذلك أنّها ليست الحمّى المجانبة للغبّ، لأنّه ليس يكون لها نوبة في اليوم الثاني ولا يكون لها في النوبة الواحدة كرّات، ولا هي أيضاً الحمّى الغبّ المتطاولة، إذ كانت ليست تقلع بتّة. وقد كان ينبغي أن ترسم هذه الحمّى
باسم قريب من الاسمين اللذين تقدّما، ولم يكن يبقى اسم تسمّى به إلّا «الشبيهة بالغبّ».
وأمّا ما وصفت من أنّ أكثر تزيّد رداءة تلك الحمّى إنّما كان يكون في أيّام البحران لَشيء كان خاصّاً لتلك الحمّى الشبيهة بالغبّ التي عرضت في ذلك الوقت، فليس يعمّ جميع ما كان من جنسها. وقد أعلمتك في كتابي في أيّام البحران أنّ ذلك إنّما يعرض في الأمراض الخبيثة.
(٢٥ب) قال أبقراط: ثمّ كانت تخفّ قليلاً، ثمّ لا تلبث أيضاً بعد الإمساك أن تهيّج بأصعب ممّا كانت.
قال جالينوس: من كان ذاكراً لِما قلت في كتابي في البحران وفي كتابي في أصناف الحمّيات فليس يحتاج منّي في هذا الموضع إلى ذكر غير ما ذكرته هناك، لأنّي قد بيّنت في تلك الكتب أمر جميع أشباه هذه الأعراض، مثل هذا العارض الذي وصفه في هذا الموضع حين قال: «إنّها كانت تخفّ قليلاً [قليلاً]، ثمّ تهيّج». وذلك أنّ هذه الحمّيات ليس تولّدها من خلط واحد، لكنّ من خلطين، وأسخن ذينك الخلطين يولّد الحمّى الحادّة السريعة، ثمّ تسكن بسرعة. وفي حال استيلاء تلك الحمّى على البدن يعرض للخلط الأبرد أن يفسد ويعفن، فتتولّد حمّى من الرأس بعد الإمساك الذي كان منها فيما بين الوقتين. يعني «بالإمساك» فترة الحمّى وسكونها وتنقّصها.
وهذه الحمّى تكون شرّاً من الحمّى الأولى، لأنّها تصادف القوّة وقد حارت وكلّت وضعفت. وبيّن أنّه وإن كان الشيء المؤذي متساوياً في مقداره، فإنّ أذاه القوّة إذا كانت أقوى أقلّ وإذا كانت أضعف أكثر.
(٢٦) قال أبقراط: وأمّا في الحمّيات الأخر فكانت النافض أشدّ، وكان العرق كثيراً.
قال جالينوس: يعني أنّه كان في الحمّيات الأخر «عرق كثير». وقد يمكن أن يكون عنى أنّه «كان العرق كثيراً» في الأمراض الأخر أيضاً سوى الحمّيات مثل التشنّج، وذلك أنّه قد كانت مجتمعة في الأبدان رطوبة كثيرة باردة بسبب مزاج الهواء، فكانت تلك الرطوبة من شدّة حركة التشنّج تنتفض، فيكون منها العرق. وقد قال أيضاً إنّه عرض لقوم نافض، فيجب أن يكون عرض لأولائك الذين عرضت لهم النافض من بعدها عرق.
(٢٧) قال أبقراط: وأمّا هؤلاء فكان عرقهم قليلاً جدّاً، ولم يكن العرق إذا كان يخفّف من عللهم شيئاً، لكنّه كان يفعل ضدّ ذلك، أعني أنّه كان يجلب ضرراً.
قال جالينوس: يعني أنّ في هذه الحمّيات التي كان في صفتها، الشبيهة بالغبّ، كان «العرق قليلاً جدّاً»، ولم ينتفع به إذا كان. والسبب في ذلك بيّن، وذلك أنّا قد بيّنّا أنّه متى كان المرض لم ينضج، فليس ينتفع فيه بالعرق، ولا هو فيه علامة محمودة، لأنّه إنّما يدلّ إمّا على كثرة الرطوبات وإمّا على ضعف القوّة.
(٢٨) قال أبقراط: وكان يعرض لهؤلاء برد شديد في الأطراف حتّى كانت لا تسخن إلّا بكدّ.
قال جالينوس: إنّ «الأطراف» تبرد في نوائب الحمّى البرد الذي يعسر سخونتها معه، إمّا من قبل ورم عظيم يكون في الأحشاء وإمّا من قبل كثرة أخلاط باردة، كما قد بيّنّا من أمر هاتين الحالتين في الكتب التي ذكرناها قبل.
(٢٩) قال أبقراط: ولم يكونوا يسهرون السهر الفادح، وخاصّة هؤلاء، ثمّ كان يعرض لهم أيضاً سبات.
قال جالينوس: يعني أنّه كان يعرض لهم «السهر» والأرق أكثر، إلّا أنّه لم يكن ما يعرض لهم من ذلك أمراً «فادحاً» مبرّحاً، يعني أنّه لم يكن الأرق يعرض في جميع الأوقات، ولا كان يعرض لهم منه شيء شديد مفرط.
وكان بعضهم «يعرض له» في بعض الأوقات «السبات»، ومعنى «السبات» أنّهم كانوا يفترون حتّى لا يقدروا أن يفعلوا ما يفعله المنتبهون، كما قد بيّنّا ذلك.
(٣٠) قال أبقراط: وكانت بطون جميعهم مستطلقة، إلّا أنّ حال هؤلاء في ذلك كانت أردأ كثيراً.
قال جالينوس: قد قلنا قبل إنّه كان ينصبّ من تلك الأخلاط التي في الأبدان في تلك الحال فضل إلى المعدة والأمعاء، ويجب إذا كان ذلك أن «يستطلق
البطن». ولمّا كان مرض أصحاب هذه الحمّى الشبيهة بالغبّ أخبث أمراض من مرض في ذلك الوقت، وجب ضرورة أن تكون حالهم في استطلاق البطن أيضاً أردأ.
(٣١) قال أبقراط: وكان البول في أكثر هؤلاء إمّا رقيقاً نيّاً غير ملوّن، ولا يظهر فيه من النضج الذي يكون به البحران إلّا شيء يسير بعد مدّة طويلة، وإمّا أن كان يكون فيه غلظ، إلّا أنّه كان يكون منثوراً لا يتميّز فيه شيء ولا يرسب أو، إن رسب فيه شيء، كان ذلك الشيء الذي يرسب يسيراً رديئاً نيّاً. وهذا البول هو أردأ جميع الأبوال.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يصحّح الآن الأقاويل الكلّيّة التي وصفها لك في كتابه في تقدمة المعرفة بمثالات من الأشياء الجزئيّة. وإذ كنت قد تقدّمت ففسّرت كتابه في تقدمة المعرفة، فلست أحتاج أن أذكر شيئاً في موافقة ما وصفه في هذا الكتاب لِما وصفه في ذلك الكتاب، إذ كانت ظاهرة بيّنة. فقد بيّنّا في ذلك الكتاب أنّ هذه الأبوال التي وصفها إنّما تكون إذا كانت في الأبدان أخلاط نيّة غير نضيجة.
(٣٢) قال أبقراط: وقد كان يلحق الحمّيات سعال، ولست أقدر أن أقول إنّه كان يكون من ذلك السعال الذي كان يعرض في ذلك الوقت لا مضرّة ولا منفعة.
قال جالينوس: إنّ «السعال الذي عرض في ذلك الوقت» لم يكن له أصل من فضل انصبّ إلى الرئة أو إلى شيء من آلات التنفّس، لكنّه إنّما كان من قبل مزاج
الهواء فقط، وذلك أنّه لمّا كان بارداً شماليّاً، وجب أن يضرّ بالحلق وما يليه. ولذلك لمّا كانت الآفة إنّما نالت هذه المواضع فقط، إنّما كان حدوث السعال على طريق الشيء العارض فلم يكن يحدث منه ضرر بتّة، لأنّه لم يكن في آلات التنفّس علّة. ولم تكن تحدث أيضاً منه منفعة، لأنّه لم يكن في تلك الآلات شيء من فضل الأخلاط فتكون المنفعة باستفراغه ونقاء تلك الآلات منه، وليس من شأن السعال أن ينفع إلّا على هذا الوجه.
(٣٣) قال أبقراط: ولم تزل هذه الأمراض تكون فتطول مدّتها وتستصعب، ويختلف نظامها جدّاً ويخلط، ولا يأتي فيها بحران على الأمر الأكثر. وكانت هذه حالها فيمن كانت حاله حال هلاك وفيمن لم تكن تلك حاله، وذلك أنّه كان، وإن سكن بعضها بعض السكون، فإنّه كان يعاود سريعاً. ومنهم قوم يسير كان يصيبهم بحران ممّن كان مرضه أقلّ تلك الأمراض، ثمّ كان المرض يعاود بعض أولائك أيضاً نحو الثمانين، حتّى امتدّ بأكثرهم المرض في الشتاء أيضاً. وكانت الأمراض في أكثرهم تقلع من غير بحران.
قال جالينوس: لسنا نشكّ في أنّ ذكر أبقراط في هذا الموضع إنّما هو للشتاء الثاني، لا للشتاء الأوّل الذي ذكره في صفته بحال الهواء في تلك السنة كلّها. فإنّ جميع هذه الأمراض التي وصفها الآن إنّما كان بلوغها منتهاها خاصّة في الخريف الثاني، ثمّ سكن بعضها في ابتداء الشتاء، وامتدّ بعضها إلى مدّة من الشتاء.
وأمّا قلّة لزوم تلك الأمراض للنظام وعوداتها فكان من قبل برودة الأخلاط المولّدة لها وكثرتها بالواجب، ولذلك قال: «إنّها عرضت على مثال واحد لمن تخلّص منها ولمن لم يتخلّص».
(٣٤) قال أبقراط: وكان ذلك يعرض على مثال واحد لمن يتخلّص منهم ولمن لا يتخلّص. وكان لازم لأكثرهم دائماً دليل هو من أعظم الدلائل وأردئها: أنّهم كانوا ممتنعين من جميع الأطعمة، وخاصّة لمن كانت حاله منهم في سائر أمره حال هلاك، إلّا أنّه لم يكن عطشهم بالشديد جدّاً في غير أوقاته في هذه الحمّيات.
قال جالينوس: قد قال أبقراط قولاً عامّيّاً في غير هذا الكتاب بأنّ «صحّة الذهن وحسن القبول للأطعمة من أحمد العلامات». وأمّا الآن فصحّح ذلك بمثال من الأشياء الجزئيّة. وأمّا قلّة عطش هؤلاء فإنّه كان من قبل كيفيّة الأخلاط التي كانت غالبة في أبدانهم بالواجب.
(٣٥) قال أبقراط: فلمّا دامت هذه الأشياء مدّة طويلة وأصابتهم أوجاع وشدائد كثيرة 〈و〉ذوّبت أبدانهم، أصابهم بعد ذلك من الخروج أنواع إمّا أعظم وأشدّ ممّا ينبغي حتّى لا يقدروا على احتمالها، وإمّا أقلّ ممّا ينبغي حتّى لا ينتفعوا بها، لكن تعاودهم أمراضهم بسرعة وتؤول سريعاً إلى ما هو أردأ.
قال جالينوس: إذا كانت في الأبدان أخلاط كثيرة غير نضيجة، ثمّ كان ما يُخرَج منها يسيراً، لم ينتفع بخروج ما يُخرَج، وإن كان ما يُخرَج منها كثيراً، لم تحمله القوّة.
وعنى «بالخروج» في هذا الموضع الخروج الذي يكون بالاستفراغ، وقد دلّ على ذلك دلالة بيّنة بالكلام الذي أتبع به هذا.
(٣٦) قال أبقراط: وكان الذي حدث بهؤلاء اختلاف دم وزحير وزلق الأمعاء وذرب، ومنهم من عرض له استسقاء مع هذه الأشياء ومن غير هذه الأشياء.
قال جالينوس: ذكر أبقراط في الكلام الذي قبل هذا بالجملة أنّه كان أنواع من الخروج، ففسّر تلك الأنواع شيئاً شيئاً وعدّدها في هذا الكلام.
وقد قلنا فيما تقدّم إنّ حدوث هذه الأمراض كان واجباً من قبل انصباب الفضول إلى المعدة والأمعاء: «واختلاف الدم» يكون إذا كان يخالط البراز دم على أيّ الوجوه كان ذلك؛ «والزحير» يكون إذا عرض للإنسان تمدّد وتزحّر شديد من قبل قروح تكون في المعاء المستقيم الذي يتّصل بالدبر؛ «وزلق المعاء» يكون إذا كان الطعام يخرج بسرعة من غير أن يتغيّر؛ فأمّا «الذرب» فيعني به خروج البراز دائماً من غير هذه العلل التي ذكرت وهو ليّن متواتر.
قال: «وبعضهم أصابهم استسقاء» من قبل انصباب تلك الأخلاط الباردة الرطبة التي كانت قد كثرت في الأبدان إلى المواضع التي بين الأمعاء وبين الغشاء الممدود عليها، وكان ذلك الاستسقاء في بعضهم مع الأعراض التي وصف وفي بعضهم خلو منها.
(٣٧) قال أبقراط: وما كان يصيبهم من ذلك فإنّه كان إمّا أن يشتدّ فيحلّ سريعاً، وإمّا أن كانت تؤول الحال فيه إلى ألّا ينتفع به أيضاً.
قال جالينوس: الأمراض التي تكون الأخلاط فيها عسرة النضج كثيرة لا ينتفع فيها بالاستفراغ، ولذلك قال إنّ الاستفراغ، إذا كان فيها كثيراً شديداً، حلّ القوّة بسرعة، وإذا كان ليس كذلك، لم ينفع شيئاً. والاستفراغ الكثير أيضاً لا ينتفع به دون أن يكون الشيء الذي يستفرغ قد نضج.
(٣٨) قال أبقراط: وكانت تخرج بهم خراجات إمّا صغار لا تشاكل عظم أمراضهم، وإمّا أن كانت تعود بسرعة فتغيّب؛
قال جالينوس: إنّ جملة هذه الأعراض التي عرضت لهم كانت أنّ الأخلاط لم تكن نضجت، فكانت الطبيعة، وإن استكرهت شيئاً منها فرامت قذفه وإخراجه، لم يكن ينتفع بذلك مَن فعلها، لكنّها إمّا أن كانت تغلبها تلك الأخلاط فتعود فتجري إلى باطن البدن، وإمّا أن كان يكون ما تقذفه فتستفرغه من
البدن أو تلقيه إلى عضو من الأعضاء، فيُحدث فيها خراجاً يسيراً قليلاً «لا يشاكل عظم ما كان بهم من الأمراض»، فكان لا ينتفع به لقلّة ما يستفرغ من تلك الأخلاط المؤذية.
(٣٩) قال أبقراط: أو كانت تحدث بهم أورام عند الآذان بطيئة لا ينفصل من أمرها شيء ولا يتحلّل ولا ينضج.
قال جالينوس: إنّ من عادة أبقراط إذا قال «ورم بطيء» أن يعني به الورم الذي ربّما عرض له على طول الزمن أن يتحلّل. وجميع هذه الأورام تكون من غلظ الأخلاط النيّة ولزوجتها.
(٤٠) قال أبقراط: وقليل منهم كانت تحدث بهم أورام في المفاصل وخاصّة في الورك على طريق البحران، ثمّ تفقد، ثمّ تعود بسرعة فتستولي بحالها الأولى.
قال جالينوس: كانت الأخلاط تندفع في بعضهم إلى المفاصل فحدث منها أورام، وأكثر ما كان ذلك يكون في الورك.
وقد علّمك أبقراط بالجملة في غير هذا الكتاب أنّ أكثر ما يكون البحران بالخراج في الأمراض المزمنة، وهذا الذي ذكره في هذا الموضع هو أمر جزئيّ يشهد على صحّة ذلك القول الكلّيّ: ولمّا كانت الأخلاط النيّة الباردة في هذه الأبدان كثيرة، كان انصبابها في أكثرها إلى أعظم المفاصل، إلّا أنّها لم تكن تتحلّل ولا تنضج لإبطاء نضوج تلك الأخلاط. وكانت، إن أوهمت في بعضهم
أنّها قد سكنت، عاودت بسرعة، فإنّ هذا هو كان معناه في قوله «تفقد، ثمّ تعود»، وذلك ينسق على الأورام. وكانت، إذا عاودت، عادت إلى حالها الأولى، فإنّ هذا هو كان معناه في قوله «تستولي بحالها الأولى».
(٤١) قال أبقراط: وكانوا يموتون من جميع تلك الأمراض، إلّا أنّ أكثر من كان يموت من هؤلاء الصبيان، خاصّة منهم المفطومون ومن فوقهم من أبناء ثماني سنين وعشر سنين ومن لم يبلغ الإنبات.
قال جالينوس: إن تذكّرتَ حال الهواء في تلك السنة كلّها، علمتَ أنّ الغالب كان فيها خاصّة الرطوبة، فإنّ الرطوبة كانت فيها أزيد من المقدار الطبيعيّ بكثير جدّاً، وأمّا اعتدال الحرّ والبرد فكان مائلاً قليلاً إلى البرد. فوجب من قبل غلبة تلك الرطوبة التي كانت إلى البرد أميل قليلاً أن يكون الصبيان أكثر من يموت. ولو كان البرد كان في تلك الحال أغلب من الرطوبة، لكان أكثر من مات فيها المشايخ، لأنّ أبدانهم باردة والفضول الرطبة فيها كثيرة.
وقد يثبت أنّ الأبدان الزائلة عن المزاج المعتدل إلى قبول الآفة من أسباب المشاكلة بمزاجها أسرع.
(٤٢) قال أبقراط: إلّا أنّ أحمد ما كان ظهر من العلامات وأبلغها نفعاً والذي كان به دون غيره تخلّص كثير ممّن كان في جهد شديد أنّ العلّة كانت تؤول إلى تقطير البول، وكان الخروج يكون هناك.
قال جالينوس: قد قال أبقراط فيما تقدّم إنّ الأعراض التي عرضت لهؤلاء «لم تكن أعراض علّة الكلى»، وإن كان قد كانت فيما بينها وبينها مشاركة، لكنّه «عرضت لهم أعراض مكان أعراض» غيرها.
وقلنا نحن إنّ تقطير البول إنّما عرض لهؤلاء من طريق تنقية الطباع للبدن كلّه ودفعه فضوله على طريق الكلى. وقد يكون تقطير البول من أسباب شتّى، إلّا أنّ أكثر ما يكون من قبل حدّة ما ينحدر من البول، وهذا كان السبب في ذلك التقطير الذي حدث. وقال في هذا الكلام أيضاً إنّ الخروج كان بطريق تقطير البول، على أنّ تلك الأخلاط التي اندفعت في تلك الجهة لم تستكنّ في موضع منها وتتّخم فيها، لكنّها نفذت واستفرغت من البدن كلّه. فدلّ ذلك على صحّة ما تقدّم من قولنا إنّه يعني بالخروج الأمرين جميعاً، أعني ما يندفع فيستكنّ في موضع من البدن، وهو الخروج، وما يندفع فينفذ ويستفرغ من البدن. وكما أنّ البدن كلّه قد ينقّى كثيراً بطريق ما يخرج من البطن، كذلك قد ينقّى أيضاً بطريق ما يخرج من الكلى والمثانة.
(٤٣) قال أبقراط: وكان يعرض حدوث تقطير البول لهؤلاء في هذه الأسنان خاصّة.
قال جالينوس: هذا الكلام ينسق على كلامه الأوّل الذي قال فيه: «وكانوا يموتون من جميع تلك الأمراض، إلّا أنّ أكثر من كان يموت من هؤلاء الصبيان، خاصّة منهم المفطومون ومن فوقهم من أبناء ثماني سنين وعشر سنين ولم يبلغ الإنبات». وقد فسّرت هذا الكلام في ما تقدّم.
(٤٤) قال أبقراط: إلّا أنّ أمر تقطير البول في هؤلاء أيضاً كان يطول، ويشتدّ أذاه.
قال جالينوس: إنّ البدن كلّه كان ينقّى بما كان يعرض من تقطير البول، إلّا أنّ تلك الأعضاء التي كانت تكون بطريق ما يستفرغ فيها من تلك الأخلاط الحادّة قد كان ينالها منه ضرر لا محالة. ولذلك كان «يشتدّ أذى» أصحاب ذلك التقطير بما عرض لهم منه للذع الذي كان يعرض في مرور البول بالأعضاء التي يمرّ بها. فلإلجاج القيام بالبول وتواتره كانت هذه الأعراض تلبث بمن عرضت له مدّة طويلة لكثرة الأخلاط التي كانت تستفرغ من البدن.
(٤٥) قال أبقراط: وكانت أبوال هؤلاء أبوالاً كثيرة غليظة مختلفة فيها حمرة، ويخالطها مِدّة مع وجع.
قال جالينوس: إنّ جميع هذه الأشياء إنّما كانت تحدث من طريق دفع البدن كلّه لتلك الأخلاط الرديئة التي كانت كثرت فيه، ولذلك سلم جميع من أصابه ما وصف من هذا. ولمّا كانت تلك الأخلاط مختلفة، كما قلنا قبل، وذلك أنّ الخلط الغالب كان في كلّ واحد من الأبدان غير الخلط الغالب في الآخر، وجب أن يكون في الأبوال أيضاً «اختلاف» فلا تكون أبوال جميعهم على مثال واحد، لكن كان يكون بول بعضهم على نحو من الأنحاء وبول بعضهم على نحو آخر.
(٤٦) قال أبقراط: إلّا أنّ جميع هؤلاء سلم، ولا أعلم أنّ أحداً منهم مات. في الأمراض ذوات الخطر
قال جالينوس: قد خبّرنا فيما تقدّم بالسبب الذي من أجله «سلم هؤلاء»، وهو أنّ أبدانهم نُقِّيَت بالبول. فأمّا قوله «في الأمراض ذوات الخطر» فقد وصله قوم بالكلام الذي يتلو هذا، وسنفسّره في تفسيرنا لذلك الكلام.
وفي هذا الموضع تنقضي صفة أبقراط للحال الثانية من حالات الهواء الثلاثة التي وصفنا في هذه المقالة الأولى. وأمّا ما بعد هذا فهو كلام جاء به بعد فراغه من صفة الحال الثانية من حالات الهواء وقبل صفته للثالثة، بعضه وصف فيه أموراً عامّيّة وبعضه أموراً خاصّيّة من أمور مرضى ذكرهم.
(٤٧) قال أبقراط: ينبغي أن تتفقّد جميع أنحاء النضج ومراتبه من الأشياء التي تبرز من كلّ موضع في أوقاتها وخروج شيء محمود يكون به البحران.
قال جالينوس: فأوصل قوم، كما قلت، آخر الكلام الذي تقدّم بهذا الكلام حتّى جعلوه أوّله، فصار الكلام كلّه على هذا المثال: «في الأمراض ذوات الخطر ينبغي أن تتفقّد جميع أنحاء النضج ومراتبه من الأشياء التي تبرز من كلّ موضع في أوقاتها وخروج شيء محمود يكون به البحران»، حتّى يكون معنى هذا القول على المثال: «إنّه ينبغي أن تتفقّد 〈في〉جميع الأمراض التي يجري أمرها على خطر أمور النضج». وقد يمكن أن يُقرأ هذا الكلام على المثال الأوّل الذي وصفناه، مفرداً ممّا وصل به من الكلام الأوّل، حتّى يكون القول قولاً مجرّداً في جميع الأمراض بالجملة، لأنّه ليس شيء من الأمراض يمكن أن يقضي دون أن يحدث فيه النضج.
ونضج المرض هو استحالة الأشياء التي هي خارجة عن الطبيعة إلى الحال الطبيعيّة، وليس الإنضاج شيئاً †… …† الشيء الذي أُنضج إلى طبيعة الشيء الذي يُنضجه. ومتى كان البدن على حاله الطبيعيّة وكان الشيء الذي ينضج مشاكلاً في طبيعته للشيء الذي يُنضجه، فاستحال وانقلب ذلك الجوهر الذي ينضج كلّه أو أكثره إلى طبيعة الشيء الذي يُنضجه، ولا يبقى منه من الفضل الذي لم يستحكم نضجه إلّا اليسير. ومتى كان الشيء الذي ينضج على حال خارجة من الطبيعة، أعني متى كان مخالفاً منافراً لطبيعة الشيء الذي يحيله ويقلبه، كان الشيء الذي يبقى من غير أن يستحكم نضجه كثيراً.
وكما أنّ الفضول تدلّ في الأبدان الباقية على طبائعها على النضج، كذلك تدلّ عليه في الأبدان السقيمة. وفضول الطعام الذي ينضج في المعدة تخرج من أسفل فتدلّ بحالها على نضج الطعام أو خلاف نضجه. وأمّا ما ينضج في الصدر والرئة ففضله ينفث بالسعال فيدلّ على مثال ذلك. وأمّا ما ينضج بالدماغ ففضله يخرج من المنخرين فيدلّ على مثال ذلك. وأمّا ما ينضج في العروق ففضله ينحدر مع البول فيدلّ على مثال ذلك.
وقد بيّنت أمر هذه الأشياء في كتابي في القوى الطبيعيّة وفي كتابي في البحران وفي مقالة لي مفردة في أوقات الأمراض. وقد وصفت في تلك الكتب أعلام جميع الأمراض التي تنضج. وهذا هو أمرك به أبقراط في هذا الكلام: أن
«تتفقّده» وتنظر فيه من أمر «نضج» الأمراض وتستدلّ عليه من الفضول التي تبرز من البدن.
وقد كتب قوم في أوّل هذا الكلام مكان «ينبغي أن تتفقّد» «ينبغي أن تتعمّد»، وأرادوا أن يكون هذا القول من أبقراط إنّما أراد أن يدلّ به على العمل والعلاج، لا على الاستدلال. وذلك أنّه إن كان إنّما قال إنّه «ينبغي أن تتفقّد»، فكان قوله إنّما هو قول حثّ على الاستدلال والتعرّف، وإن كان إنّما قال إنّه «ينبغي أن تتعمّد»، فإنّ قوله إنّما هو قول عمل وعلاج.
ومن البيّن أنّ الأشياء التي تعين على النضج هي جميع الأشياء التي تسخن إسخاناً معتدلاً. وبعض هذه الأشياء التي تسخن إسخاناً معتدلاً أطعمة، وبعضها أشربة، وبعضها أشياء تصبّ وتنطل على المواضع التي يحتاج فيها إلى النضج، وبعضها أضمدة، والدلك المعتدل أيضاً والاستحمام هما من هذا الجنس. وقد وصفت استعمال جميع هذه الأشياء الجزئيّة في كتاب حيلة البرء.
وليس ينبغي لك أن تقتصر على أن «تتفقّد أمر نضج» الأمراض أو تتعمّده، فإنّ القولين جميعاً حقّ، ولكن قد ينبغي لك مع ذلك أن تتفقّد وتتعمّد خروج ما ينبغي أن يخرج على طريق الاستفراغ، وهو أولى ما غرض عليه، أو على طريق دفع شيء من موضع أشرف إلى موضع أخسّ، وذلك هو الغرض الثاني، إذا لم يكن
إلى الأوّل الذي يكون على طريق الاستفراغ سبيل. وإن مالت الفضول نحو البطن، فينبغي أن تعين على نفوذها من هناك باستعمال الحقن التي من شأنها أن تجذبها إلى تلك الجهة وبجميع التدبير المعين على ذلك؛ وإن مالت الفضول نحو الكلى، أعنتَ على انحدارها بالأشياء المدرّة للبول؛ وإن مالت إلى بعض نواحي اليدين أو الرجلين، أعنتَ على ميلها إليه بإسخانك لذلك الموضع بالأدوية الحارّة الحادّة.
(٤٨) قال أبقراط: إنّ النضج يدلّ على سرعة البحران ووثاقة الصحّة.
قال جالينوس: قد قلت في تفسيري للكلام الذي قبل هذا إنّ بعضهم قال إنّه «ينبغي أن تتفقّد» أمر النضج وبعضهم قال «ينبغي أن تتعمّد». وكتب كلّ واحد من الفريقين أوّل ذلك الكلام على نحو معناه: فكتب بعضهم «ينبغي أن تتفقّد» وكتب بعضهم «ينبغي أن تتعمّد». وقلت إنّ الطبيب ينتفع في الارتياض في البابين جميعاً وليس يستغني بأحدهما عن الآخر. فعلى هذا القياس، وإن كان المكتوب إنّما هو «ينبغي أن تتفقّد»، فقد يتبعه لا محالة «ينبعي أن تتعمّد» أيضاً، وذلك أنّ أبقراط يرى أنّه ينبغي أن يكون الطبيب مقتدٍ بالطبيعة خادماً لها. إلّا أنّ أبقراط قد دلّ في هذا القول الثاني على أنّه إنّما ينبغي أن يكتب في القول الأوّل «ينبغي أن تتفقّد» بقوله «إنّ النضج يدلّ على سرعة بحران ووثاقة الصحّة»، وذلك أنّه، لو كان إنّما قصد لأن يشير على الطبيب أن يتعمّد النضج ويعين على حدوثه، لَما كان يقول «إنّ النضج يدلّ»، لكن كان يقول «إنّ النضج يُفعل».
وإنّما قصد أبقراط للمشورة بفعل هذا وشبهه في الكتب التي كان قصده فيها علاج الأمراض. وأمّا في هذا الكتاب فقصده كلّه قصد تعرّف الأمراض وتقدمة المعرفة فيها. وطريق العلاج يتبيّن بالجملة بيان ما يستدلّ عليه ويتعرّف، إلّا أنّه
ليس يصرّح به ولا يقصد وصفته. وقد تعلم أنّ طريق العلاج يتبيّن بتبيّن ما يعرف بأفعال الطبيعة في الأمراض ممّا أصف، وهو أنّ أبقراط، إذا كان يرى أنّه ينبغي أن نقتدي بما تفعله الطبيعة فتستحقّ فيه، وكان النضج من عمل الطبيعة، فبيّن أنّ «النضج يدلّ على سرعة البحران» وعلى «الثقة والصحّة». وأمّا نحن أيضاً، إذ كان قصدنا أن نعين على حدوث هذه الأشياء، فإنّما نعين على حدوث النضج.
(٤٩) قال أبقراط: وأمّا الأشياء النيّة التي لم تنضج التي تؤول إلى خروج رديء فتدلّ إمّا على أنّه لا يكون بحران، وإمّا على أوجاع، وإمّا على طول من المرض، وإمّا على موت، وإمّا على عودة من المرض.
قال جالينوس: كما أنّ النضج يكون إذا كانت الطبيعة هي القاهرة للأسباب المولّدة للمرض، كذلك إذا لم تكن الطبيعة هي القاهرة كانت الأشياء الحادثة أضداد الأشياء التي وصف أنّها تكون عند ظهور الطبيعة وغلبتها.
وقد ذكر في صفته للنضج [و]«سرعة البحران»، فضدّ ذلك ممّا وصفه به خلاف النضج «طول المرض»؛ وذكر في صفته للنضج «الوثاقة»، فضدّ ذلك ممّا وصف به خلاف النضج قوله «إنّه لا يكون بحران»، «وإنّه يكون موت»، «وإنّه يكون للمرض عودة»؛ وذكر في صفته للنضج «الصحّة»، فضدّها بالجملة جميع ما وصف به خلاف النضج، وخاصّة «الأوجاع»، لأنّ من خاصّة البدن الصحيح ألّا يكون به وجع، وسواءً قلت في هذا الموضع «وجع» أو «ألم» أو «أذىً».
وأمّا قوله «إنّه لا يكون بحران» فقد تعلم أنّه يقوله على وجهين: إمّا على ألّا يكون بحران بتّة، وإمّا على ألّا يكون بحران محمود، ولكنّ رديء مذموم، وعلى هذين المعنيين جميعاً يتبع عدم النضج «ألّا يكون بحران».
وقد ينبغي أن تعلم أيضاً أنّ نضج المرض إنّما يكون بالجملة بتغيّر الأخلاط عن الحال الخارجة عن الطبيعة إلى الحال الطبيعيّة لأعضاء البدن الأصليّة، لأنّ الطبيعيّة هي شيء مركّب في جرم تلك الأعضاء، إذ كانت الطبيعة إنّما هي قوّة تلك الأعضاء. ونضج الأخلاط إنّما يكون من تلك الأعضاء الأصليّة إذا كانت صحيحة. فأمّا متى كانت تلك الأعضاء سقيمة، فالمرض عند ذلك مرض متمكّن من نفس جوهر البدن، والخطر فيه غاية الخطر، وليس يمكن أن يبرأ دون أن تعود إلى تلك الأعضاء الأصليّة قوّتها المخصوصة بها وطبيعتها.
وأصل قوّتها وطبيعتها هي اعتدال الحارّ والبارد والرطب واليابس، لأنّ أصل تلك الأعضاء الأصليّة إنّما هو اعتدال هذه الأربعة. ولا فرق بين أن نقول إنّ صحّة الأعضاء المشابهة الأجزاء هي جودة مزاجها وبين أن نقول إنّها اعتدال الأسطقسّات التي منها كُوّنّا.
وقد وصفت في كتابي في طريق حيلة البرء كيف ينبغي أن نداوي أمراض الأعضاء الأصليّة. وليس يمكن أن نذكر كلّ شيء في كلّ موضع، ويكتفي في غرضنا هذا الذي قصدنا إليه أن نقتصر على صفة جمل ما يعرض ذكره من أبواب
العلاج لاختلاف البرء، [و]كما يكفي في الكتب التي ذكرنا فيها قصد العلاج لاختلاف البرء [و]الاقتصار على جمل ما تعرض الحاجة إلى ذكره من أبواب الاستدلال على الأمراض وتقدمة المعرفة فيها. وذلك أنّه ينبغي في كلّ كتاب أن يُستقصى شرح جميع ما يتّصل بالغرض الذي قصد إليه فيه على الاستيفاء والتمام، ويقتصر من صفة ما تعرض الحاجة إلى ذكره من غير ذلك على جملة.
(٥٠) قال أبقراط: وينبغي أن تنظر أيّ هذه الأشياء تكون من وجوه أخر.
قال جالينوس: إنّ هذا الكلام من أبقراط، إذا كان تذكرته بطريق تقدمة المعرفة الذي وصفه لك في الكتاب الذي أفرده لتقدمة المعرفة، فإنّ كلّ واحد من هذه الأشياء التي ذكر إنّما نتقدّم فنعرفه من الأبواب التي وصفها في ذلك الكتاب. وقد فسّرت ذلك الكتاب في ثلاث مقالات، وبيّنت في آخر تفسيري له أنّ هذا الكتاب، أعني كتاب إفيذيميا، يتلو كتاب تقدمة المعرفة.
ومن قبل أن أكتب لذلك الكتاب تفسيراً، فإنّي قد وصفت في كتابي في البحران أمر تقدمة المعرفة بالمرض الخبيث والمرض السليم، ومتى حدّ وقت البحران في كلّ واحد من الأمراض، وأيّ البحران هو البحران الجيّد المحمود، وأيّها الرديء المذموم، وأيّها الجديد، وأيّها الخطير، وأيّها الصحيح الثابت، وأيّها الذي لا صحّة ولا ثبات، وغير ذلك من سائر جميع ما يتّصل بهذا العلم.
(٥١) قال أبقراط: وينبغي أن تخبر بما تقدّم وتعلم ما هو حاضر وتنذر بما هو كائن.
قال جالينوس: قد قال أبقراط في أوّل كتابه في تقدمة المعرفة أيضاً: «إنّ الطبيب، إذا تقدّم فعلم وأخبر بالأشياء الحاضرة والأشياء المتقدّمة والأشياء التي ستكون، وثق به بمعرفة أمور المرضى»، فدلّ بذلك على أنّ تقدمة المعرفة تكون في هذه الأوقات الثلاثة. وقد وصفت كيف ينبغي أن تتأتّى لذلك في تفسيري لذلك الكتاب.
(٥٢) قال أبقراط: وينبغي أن تدرس هذه الأبواب.
قال جالينوس: قوله «تدرس هذه الأبواب» في هذا الموضع يريد به أن ترتاض في هذه الوجوه وتعاني حتّى تحكم. ويقول في مواضع أخر كثيرة «الدرس»، وهو يريد العناية والمزاولة.
(٥٣) قال أبقراط: وينبغي أن تلزم نفسك شيئين: أحدهما أن تنفع المريض، والآخر ألّا تضرّه.
قال جالينوس: قد كنت مرّة أرى أنّ هذا أمر يسير لم يبلغ من قدره أن يذكره أبقراط، وذلك أنّي كنت أظنّ أنّه ليس أحد من الناس يشكّ في أنّه ينبغي للطبيب أن يكون أعظم قصده «لنفع» المرضى، فإنّ من لم يبلغ إلى ذلك، فلا أقلّ من
«ألّا يضرّهم». وكان ذلك في أوّل ابتداء تعلّم الطبّ قبل أن أعالج منه شيئاً أو أحضر غيري يعالجه.
فلمّا حضرت ذلك فرأيت كثيراً من المشهورين بالطبّ قد يذمّون في موضع الذمّ بإضرارهم بكثير من المرضى بفعل شيء يفعلونه بهم، إمّا من فصد عرق، وإمّا من إدخال حمّام، وإمّا من إسقاء دواء، وإمّا من الإذن للمريض في شرب الخمر أو شرب الماء البارد، توهّمت بأن يكون أبقراط خليقاً أن يكون عرض له بعض هذا، ولم أشكّ أنّ ذلك لا محالة قد عرض لكثير ممّن كان في دهره.
فأخذت نفسي منذ أوّل ذلك بالعناية والاجتهاد، متى أردت أن أعالج المريض بضرب من ضروب العلاج القويّ، أن أتفكّر فيما بيني وبين نفسي أوّلاً في عاقبة ذلك العلاج. ولا أقتصر على أن أنظر كم مبلغ نفعي للمريض إن بلغت غرضي الذي قصدت إليه بذلك العلاج، دون أن أنظر مع ذلك كم مبلغ إضراري به إن أخطأت غرضي. فلم أفعل شيئاً قطّ في حال من الأحوال إلّا بعد أن يصحّ عندي أنّي، إن لم أبلغ غرضي، لم أضرّ المريض مضرّة يُعتدّ بها.
وأرى مذهب كثير من الأطبّاء في كثير ممّا يعالجون به لمرضى مذهب ألعاب بالنرد في التقاء الفصّين: فربّما عالجوا المريض بأصناف من العلاج، إن لم ينالوا بها الغرض الذي قصدوا إليه، جنوا بها على المريض جناية عظيمة جدّاً.
وقد أعلم علماً يقيناً أنّ المتعلّم بهذه الصناعة يظنّ، كما كنت ظننت، أنّ القول بأنّ الطبيب ينبغي أن يقصد لنفع المريض، وإن لم ينفعه، ألّا يضرّه، قول لم يبلغ من قدره أن يذكر أبقراط في كتابه. فأمّا من عالج الطبّ فأعلم علماً يقيناً أنّه
تبيّن له منفعة هذا القول. فإن كان مع ذلك ممّن قد عرض له أن استعمل العجلة على التقدّم في علاج قويّ عالج به مريضاً، فعرض لذلك المريض منه أن مات، فهو خاصّة يفهم مبلغ نفع موعظة أبقراط هذه.
(٥٤) قال أبقراط: قوام الصناعة بثلاثة أشياء: المرض والمريض والطبيب. والطبيب خادم الطبيعة، وينبغي للمريض أن يقاوم المرض مع الطبيب.
قال جالينوس: يعني أنّ الأشياء التي فيها وبها يكون علاج الطبّ حتّى يتمّ بها البرء ثلاثة أشياء، منها أوّلاً اثنان متضادّان متقاومان كالمحاربين، أعني الطبيب والمرض، وذلك أنّ قصد الطبيب بعفاء المرض، وشأن المرض ألّا يقهر ويغلب.
والثالث هو المريض، فإن قبل المريض من الطبيب وفعل ما يأمره به، كان عوناً له على محاربة المرض، فإن فارق الطبيب وفعل ما يعدوه إليه المرض، أضرّ بالطبيب من وجهين: أحدهما أنّه يدعه، وهو واحد، مفرد، وقد كان أوّلاً، وهو معه، اثنان؛ والآخر أنّه يجعل المعاند له، وقد كان واحداً مفرداً، بمعاونته له اثنان، ويجب أن يكون الاثنان أقوى من الواحد. وبيّن أنّ المريض يفعل ما يدعوه إليه المرض ويدع ما يأمره به الطبيب عندما يأمره الطبيب أن يمتنع من شرب الماء البارد، فيدعوه إلى شربه شدّة حرارة الحمّى. وكذلك أيضاً تكون الحال متى استعمل الحمّام وشرب الشراب أو غير ذلك ممّا أشبهه ممّا ينهاه عنه الطبيب، فإنّه
متى فعل ذلك، زاد في قوّته المرض، إذ كان إنّما يفعل ما يدعوه إليه المرض، وأوهن أمر الطبيب إذا كان يفعل ما لا يهواه.
وقد نجد في كثير من النسخ أنّ «الطبيب خادم الصناعة»، ونجد في بعضها أنّ «الطبيب خادم الطبيعة»، وليس بين النسختين فرق في جملة معنى هذا القول.
(٥٥) قال أبقراط: متى كانت في الرأس والرقبة أوجاع وثقل مع حمّى أو من غير حمّى،
قال جالينوس: إنّ هذا القول من أبقراط بمنزلة الجملة التي تقدّمت قبل التلخيص كان أبقراط يَعِدُ فيها أن يصف إلى ماذا تؤول الحال في «الأوجاع والثقل الذي يكون في الرأس والرقبة» ويلخّص أصنافها. فتدبّرْ قوله بعد هذا، فإنّك تجده يفعل فيه ما وصفت.
(٥٦) قال أبقراط: فإنّه يحدث أمّا لأصحاب الورم الحارّ في الدماغ تشنّج في العصب ويتقيّؤون مراراً شبيهاً بالزنجار، وكثير من هؤلاء يعاجله الموت.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يقول «إنّه يحدث لأصحاب البرسام»، إذا دام بهم، «الوجع والثقل في الرأس والرقبة والتشنّج ويتقيّؤون» أيضاً «مراراً شبيهاً بالزنجار». وقد بيّنّا أنّ جميع ما يُخرج في البراز وفي القيء بهذا اللون إنّما يكون من قبل احتراق المرّة الصفراء، ولذلك أتبع هذا القول بأن قال: «وكثير من هؤلاء يعاجلهم الموت»، يعني أنّهم، حين ينفثون هذا المرار، يموتون من قبل أنّ أصل علّة أصحاب ذلك البرسام إنّما هو ورم حدث في الدماغ والأغشية المحيطة به من الصفراء.
فليس يعجب أن يكون هذه الأعضاء، إذا أفرط عليها اليبس، يعرض بسبب ذلك التشنّج. ومن هؤلاء قوم، حين يصيبهم «التشنّج ويتقيّؤون المرار الشبيه بالزنجار»، يموتون على المكان، ومنهم من يعيش بعد ذلك يوماً أو يومين أو ثلاثة لفضل قوّة تكون فيه.
(٥٧) قال أبقراط: وأمّا في أصحاب الحمّى المحرقة وسائر الحمّيات فمتى كان في الرقبة وجع وفي الصدغين ثقل، ورأى المريض قدّام عينيه ظلمة وأحسّ فيما دون الشراسيف بتمدّد ليس معه وجع، فإنّه يصيبه رعاف.
قال جالينوس: قد قلت في تفسيري لكتاب تقدمة المعرفة في الرعاف الذي يحدث على هذا الوجه عند تفسيري للكلام الذي افتتحه أبقراط بأن قال: «وأمّا من أصابه في حمّى هذه حالها صداع، وعرضت له بدل السواد الذي يراه أمامها غشاوة أو رأى قدّام عينيه شعاعاً، وأصابه بدل وجع الفؤاد تمدّد فيما دون الشراسيف من الجانب الأيمن أو من الجانب الأيسر من غير وجع ولا ورم، يسرع له بدل القيء رعاف». فإن أنت قِستَ بين الكلامين، علمتَ علماً بيّناً أنّ كلامه في ذلك الكتاب في هذا المعنى أتمّ.
فلست أحتاج أن أزيد في هذا الموضع شيئاً سوى الحدث الذي أحدثه قافيطن وأصحابه في هذا الكلام، وذلك أنّهم كتبوا مكان «وأحسّ فيما دون الشراسيف بتمدّد ليس معه وجع» «وأحسّ فيما دون الشراسيف بتمدّد معه وجع». ولم يضيفوا في حرفهم حرف النفي، وهو «ليس»، من هذا الكلام، وإن كان يحتاج إليه في تأدية الحقّ من هذا المعنى. وكان أبقراط قد أثبته في كلامه في كتاب تقدمة المعرفة حين قال: «وأصابه بدل وجع القلب تمدّد فيما دون الشراسيف من الجانب الأيمن أو من الجانب الأيسر من غير وجع ولا ورم، فتتوقّعْ له بدل القيء الرعاف».
وذلك أنّ «التمدّد الحادث فيما دون الشراسيف من غير وجع» يدلّ على حركة الأخلاط إلى ناحية الرأس. فأمّا «التمدّد الذي يكون فيما دون الشراسيف مع وجع» فيكون من ورم في الحجاب، فإذا كان التمدّد دائماً يكون حدث فيما دون الشراسيف من قبل اجتذاب الحرارة التي في الرأس الدم إلى فوق ودفع الكبد له إلى تلك الجهة، فينبغي أن تتوقّع لصاحبها «الرعاف».
(٥٨) قال أبقراط: ومتى كان ثقل في الرأس كلّه ووجع في الفؤاد وكرب، فإنّه يصيب المريض قيء مرار وبلغم، وأكثر من يصيبه التشنّج في تلك الحال الصبيان.
قال جالينوس: إنّ هذا القول أيضاً قول قد وصفه أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة بهذا الكلام الذي أنا واصفه.
قال: «إنّ من شكا في حمّى ليست بقتّالة صداعاً ورأى قدّام عينيه سواداً، إن أصابه مع ذلك وجع في فؤاده، فإنّه سيصيبه قيء مرار؛ فإن أصابه مع ذلك نافض وبرد منه الموضع الأسفل ممّا دون الشراسيف، فإنّ القيء يصيبه أسرع؛ وإن تناول شيئاً من طعام أو شراب في ذلك الوقت، أسرع إليه القيء جدّاً. ومن ابتدأ به من أصحاب هذه العلّة الصداع في أوّل يوم من مرضه، فأكثر ما يصعب عليه في الرابع والخامس، ثمّ يقلع عنه في السابع. وأكثر أصحاب هذه العلّة يبتدئ بهم الصداع في اليوم الثالث، وأكثر ما يصعب عليهم في الخامس، ثمّ يقلع عنهم في اليوم التاسع أو اليوم الحادي عشر. وأمّا من ابتدأ به الصداع في الخامس وجرى سائر أمره على قياس ما تقدّم فصداعه يقلع عنه في الرابع عشر. وأكثر ما يعرض ذلك للرجال والنساء في الحمّى الغبّ. وأمّا من كان أحدث سنّاً منهم فقد يعرض له ذلك في الحمّى الغبّ، إلّا أنّ أكثر ما يعرض له ذلك في الحمّى التي هي أدوم وفي الخالصة من الغبّ».
هذا الكلام كلام قاله أبقراط في هذا الذي وصفه في هذا الموضع في كتاب تقدمة المعرفة. وقد فسّرناه في المقالة الثالثة من تفسيرنا لذلك الكتاب، فلست أحتاج أن أعيد شيئاً من هذا المعنى، إذ كنّا نجده قد استقصى صفة هذا
المعنى وأتى عليه عن آخره في ذلك الكتاب بأكثر ممّا استقصاه في هذا الكتاب. فإن وجدناه قد زاد في ذلك الكتاب شيئاً فضلاً على ما ذكره في هذا الكتاب، فإنّا سنفسّره فيما يأتي بعد من كلامه.
وينبغي أن نعلم هذا ونحفظه: على أنّ اسم «التفسير» بالحقيقة إنّما يقع على شرح الكلام الغامض المستغلق، لكنّا قد نسمّي أيضاً لِما جرت عليه عادة المفسّرين بالاستعارة من أتى بعلل في الكلام الواضح البيّن تفسّراً. وقد نفعل نحن أيضاً ذلك في هذا الكتاب بالاتّباع منّا للعادة التي جرت وكثرت، وذلك أنّا نضع كثيراً كلاماً واضحاً فيما لا يحتاج إلى شيء من التفسير، فنلتمس إذاً العلل في تلك الأشياء التي توصف في ذلك الكلام.
(٥٩) قال أبقراط: وأكثر من يصيب التشنّج في تلك الحال الصبيان.
قال جالينوس: إنّ التشنّج يسرع إلى الصبيان جدّاً لضعف عصبهم ولينه.
(٦٠) قال أبقراط: وأمّا النساء فيصيبهنّ ما وصفنا وأوجاع من الرحم.
قال جالينوس: إنّ جميع الأعراض التي وصف تعرض للنساء كما تعرض للذكور من قبل مشاركة المرأة للذكر في الطبيعة الإنسيّة، وإنّ لها جميع الأعضاء التي هي للذكر. ولمّا كان للمرأة عضو يخصّها، وهو الرحم، صارت لها تسعة أمراض تخصّها، وخاصّة ما يكون بمشاركة من المعدة للرحم في الألم.
(٦١) قال أبقراط: وأمّا الكهول ومن قد انخزلت حرارته فيعرض له استرخاء في بعض أعضائه أو جنون أو عمى.
قال جالينوس: إنّ كلامه كان فيمن يحدث الثقل في رأسه ويصيبه وجع الفؤاد والكرب الذين قال فيهم إنّهم يتقيّؤون مراراً وبلغماً، وخاصّة إن كانوا صبياناً. وإنّ التشنّج يصيب هؤلاء، إن كانوا صبياناً، أكثر ممّا يصيب المستكملين. وقال إنّه تعرض للنساء أيضاً هذه الأعراض وأوجاع من الرحم.
فقال الآن بعد هذا إنّ الأعراض التي تعرض «للكهول» في تلك الحال أكثر «استرخاء الأعضاء والجنون والعمى». وزاد في قوله «من قد انخزلت حرارته»، وهو يريد بذلك أن يخبر بالسبب الذي من أجله تعرض هذه الأعراض للكهول.
ويعني «بالاسترخاء» الذي يعرض في بعض الأعضاء بطلان الحسّ والحركة الذي يصير في بعض الأعضاء من بقايا الفالج. وأمّا «الجنون» فيعني به اختلاط العقل الذي يكون من غير حمّى. ومن شأن هذه الأعراض أن تعرض للكهول لضعف الطبيعة فيهم عن أن تدفع الفضل المجتمع في الرأس فتُخرجه بالقيء وبالرعاف الذي منه يحدث العمى أيضاً إذا انحدر إلى العينين.
صفة حال الهواء الثالثة:
(٦٢آ) قال أبقراط: كان بثاسس من قبل طلوع السماك الرامح بقليل ومن بعد طلوعه أمطار كثيرة عظيمة مع شمال. فلمّا كان نحو الاستواء وما بين الاستواء ونوء الثريّا، كانت أمطار قليلة جنوبيّة. وكان الشتاء شماليّاً عديماً للمطر، وكان فيه برد ورياح قويّة وثلوج. فلمّا كان نحو الاستواء، كان برد شديد جدّاً، ثمّ كان الربيع شماليّاً يابساً، وكانت فيه أمطار يسيرة وبرد. فلمّا كان نحو منقلب الشمس الصيفيّ، كانت أمطار قليلة وبرد قويّ إلى أن قرب وقت طلوع الشعرى العبور. فلمّا كان بعد طلوعه، كان منذ ذلك الوقت إلى طلوع السماك الرامح صيف صائف وحرّ شديد، ولم يكن يجيء الحرّ قليلاً قليلاً، لكن كان دفعة متّصلاً دائماً صعباً، ولم يكن في ذلك الوقت مطر، إلّا أنّ الرياح الحوليّة هبّت. فلمّا كان نحو طلوع السماك الرامح، كانت أمطار جنوبيّة إلى وقت الاستواء.
(٦٢ب) وكان في هذه الحال من الهواء من الأمراض ما أنا واصفه: فأمّا في الشتاء فابتدأ بكثير من الناس استرخاء، وكان كثير ممّن يعرض له ذلك يعاجله الموت، فإنّ هذه العلّة قد كانت في ذلك الوقت في سائر حالاتها بديعة. فأمّا سائر الأمراض فكان الأكثر منها في عافية.
قال جالينوس: إنّ هذه الحال التي يصفها من حالات الهواء حال باردة يابسة وفيها أيضاً مع ذلك اختلاف، فكانت في جميع أمرها تشبه الخريف. ولمّا كانت
شبيهة بالخريف، كانت الأمراض التي أحدثت فيها أشبه الأمراض بالأمراض التي تكثر في الخريف. وممّا يدلّك على أنّها كانت مختلفة ما أصف:
قال أبقراط إنّه كان نحو «طلوع السماك الرامح أمطار قويّة مع رياح شماليّة»، ثمّ كان الهواء في الخريف كلّه من بعد ذلك مكان ما كان شماليّاً «جنوبيّاً» ومكان ما كان مطيراً «قليل المطر»، ثمّ كان الشتاء بعد «شماليّاً» يابساً، ثمّ كان الربيع كلّه كذلك، ومن بعد هذا أيضاً قطعة من الصيف إلى «وقت طلوع الشعرى العبور».
فيتبيّن من هذا أنّ البرد واليبس كانا غالبين في هذه الحال غلبة قويّة، وقد تبيّن أيضاً أنّه كان في أوّل تلك السنة اختلاف إلى أن جاء الشتاء. ثمّ «من بعد طلوع الشعرى العبور» انتقل الهواء دفعة من حال شماليّة باردة إلى «حرّ» شديد «صعب»، وكانت من بعد ذلك «أمطار جنوبيّة». فقد تبيّن أنّ آخر تلك السنة أيضاً من طلوع الشعرى العبور كان مختلفاً اختلافاً شديداً.
ثمّ اقتصّ بعد الأمراض التي حدثت في تلك الحال وشرح أمرها كلّه شرحاً بيّناً واضحاً ليس فيه شيء من الغموض، إلّا الشيء الذي لا قال له من اللفظة بعد اللفظة؛ لكن لمّا كنّا قد قصدنا مع شرح اللفظة إلى الإخبار بالعلل فيما حدث من الأمراض، فقد نحتاج إلى أن نضيف إلى كلامه الأسباب فيما ذكر أنّه يحدث. فأمّا كلامه فإنّه يحكيه بإيجازه †وانتصا..† ويقتصر منه على الجمل التي يفهمها من كان ذاكراً لِما قيل في المقالة التي قبل هذه وما قيل فيما تقدّم من هذه المقالة إلى هذا الموضع.
فأقول إنّ «الاسترخاء» حدث في الشتاء في تلك الحال لمّا قدحت في الرأس «الرياح الباردة» التي كانت في ذلك الشتاء، ولا سيّما إذ كان الخريف كلّه قد
كان «جنوبيّاً»، فأسخن الرأس وسخّفه وملأه رطوبة. وإنّ الرأس، إذا كان على هذه الحال خاصّة، كان أحرى أن تقدح فيه الرياح الباردة الشماليّة، لأنّ الناس لم يتأذّوهم في ذلك الشتاء شيء من الأمراض سوى ذلك المرض. وذلك لأنّه كان «يابساً»، وقد قال أبقراط في كتاب الفصول إنّ الأوقات اليابسة القليلة المطر أصحّ من الأوقات الرطبة الكثيرة المطر، إلّا أنّه قد «مات» على حالته فيه قوم بسبب ما عرض لهم من ذلك «الاسترخاء». ولذلك قال أبقراط: «إنّ هذه العلّة [و]كانت في ذلك الوقت في سائر حالاتها بديعة»، يعني أنّه كانت لها حالات غريبة مخالفة للحالات التي يجري عليها أمر الاسترخاء.
فإنّ الاسترخاء الذي يتبعه الفالج في بعض الأعضاء قد يعدّم تلك الأعضاء حركتها وحسّها؛ وعلى هذا يجري أمره، إلّا أنّه لا يقتل صاحبه. فأمّا «الاسترخاء» الذي حدث في هذه الحال فكان قتّالاً، لأنّ الرأس كان يبرد فيها برداً شديداً.
(٦٣) قال أبقراط: فلمّا كان أوّل الربيع ابتدأت بالناس حمّيات محرقة ودامت منذ وقت الاستواء إلى الصيف. وأكثر من ابتدأت به هذه الحمّيات منذ الربيع والصيف سلم، ولم يمت منهم إلّا القليل.
قال جالينوس: ليس يعني أبقراط أنّ كلّ واحد ممّن «ابتدأت به هذه الحمّى المحرقة منذ أوّل الربيع» دامت به «إلى الصيف»، لكنّه إنّما يعني أنّ هذه الحمّيات لم تزل تحدث في هذه المدّة كلّها لواحد بعد واحد من أهل ثاسس.
وهذا الكلام الذي تقدّم ليس هو متّفق في جميع النسخ، إلّا أنّي أنا اخترت هذه النسخة التي وصفتها قبيل.
وأمّا في الكلام الذي بعد هذا فأشار إلى أنّ حدوث تلك «الحمّيات المحرقة» دام الصيف كلّه، وأنّ تلك الحمّيات كانت في هذه المدّة كلّها ليّنة غير قتّالة، فلمّا كان أوّل الخريف هلك كثير ممّن أصابته تلك الحمّيات. ومن البيّن أنّه قد كان يجب أن تلبث تلك الحمّيات مدّة طويلة، وما يحدث منها يكون سليماً، وذلك لأنّها كانت خفيفة ليّنة مثل التي كانت حدثت في الحال التي ذكرت قبل هذه من حالات الهواء. ولم تكن من الحمّيات المحرقة الخالصة، لأنّها لم تتولّد عن مزاج من الهواء حارّ خالص الحرارة واليبس، وإنّما تولّدت في الأبدان التي قد كان فيها فيما تقدّم فضل من المرار.
وأمّا حدوث الحمّيات المحرقة في ذلك الوقت فليس وجود السبب فيه بيّناً، وذلك لأنّ أبقراط لم يذكر منه الصيف المتقدّم، لكنّه إنّما جعل ابتداء اقتصاصه منذ أوّل الخريف. وأصعب من هذا أنّ الأولى أن يكون ذلك الصيف كان حافظاً لحاله الطبيعيّة، لأنّه لو كان تغيّر بوجه من الوجوه عن حاله، لكان أبقراط لا محالة قد وصف حاله.
وأشبه الأشياء أن يكون ذلك الصيف كان أسخن وأجفّ قليلاً من حقّ الصيف، إلّا أنّ مزيد حرّه ويبسه لم يكن زائلاً عن الحال الطبيعيّة كذلك، ولذلك لم ير أن يذكره كأنّه قد خرج عن طبيعته، إلّا أنّه لمّا كان قد يجب أن يتكثّر بذلك المرار في الصيف على حال، وإن كان الصيف باقياً على طبيعته، وكان قد تولّد من المرار في ذلك الصيف مقدار أكثر من المقدار الذي جرت العادة أن يتولّد
في الصيف دائماً. ثمّ جاء من بعد البرد، فحقن ذلك المرار في باطن البدن فلم يحلّل، وبقي في باطن البدن مدّة طويلة فعفن وولّد «الحمّيات المحرقة».
(٦٤) قال أبقراط: فلمّا جاء الخريف وكانت تلك الأمطار، صارت تلك الحمّيات المحرقة قتّالة، وهلك منها قوم كثير.
قال جالينوس: ينبغي أن نذكر ما قاله في آخر اقتصاصه لهذه الحال من الهواء، وهو قوله: «فلمّا كان نحو طلوع السماك الرامح، كانت أمطار جنوبيّة إلى وقت الاستواء». وقد كان تقدّم فوصف حال الوقت الذي بين طلوع الشعرى العبور إلى طلوع السماك الرامح فقال: «إنّه كان منذ طلوع الشعرى العبور إلى طلوع السماك الرامح صيف صائف وحرّ شديد، ولم يكن يجيء الحرّ قليلاً قليلاً، ولكنّه كان دفعة متّصلاً دائماً صعباً، ولم يكن في ذلك الوقت مطر». فهذا يدلّك أنّ تلك الحال كانت حالاً مولّدة للمرار. فلمّا أردفت تلك الحال أمطار جنوبيّة، كان حدوث «الحمّيات المحرقة» الكثيرة «القتّالة» واجباً، لأنّ من شأن الجنوب أن تحلّ الأبدان وتذيب الأخلاط، ومن شأنها أيضاً أن تعفن إذا كانت معها أمطار كثيرة.
(٦٥) قال أبقراط: وكانت الأعراض التي عرضت لأصحاب الحمّيات المحرقة ما أصف: أمّا بعضهم فكان يصيبه رعاف محمود كثير فكان يسلم به خاصّة، ولا
أعلم أحداً ممّن رعف على ما ينبغي في تلك الحال من الهواء مات. فإنّ فيلسقس وإفامينن وسلينس قطر من آنافهم في اليوم الرابع والخامس دم يسير فماتوا.
قال جالينوس: إنّ من خاصّة «الحمّيات المحرقة» على حال أن يكون بحرانها على الأمر الأكثر بالرعاف. وذكر أيضاً مع ذلك أنّ الذين «أصابهم الرعاف» من أصحاب تلك الحمّيات في ذلك الوقت كانوا أكثر.
وجملة ما وصف أيضاً بعد من جميع أمر ما عرض لكلّ واحد ممّن أصابته تلك الحمّى أنّ من أصابه منهم رعاف تامّ سلم، ومن كان رعافه ناقصاً فإنّه دون غيره إمّا أن عطب، وإمّا بكدّ ما سلم بعد مدّة طويلة بأنواع أخر من الاستفراغ الطبيعيّ، إمّا باختلاف وإمّا ببول.
(٦٦) قال أبقراط: وأكثر من مرض أصابته نحو البحران نافض، ولا سيّما من لم يصبه رعاف، وقد كان يصيب أيضاً أولائك نافض وعرق.
قال جالينوس: قد بيّنّا في الكلام الذي تكلّمنا به في النافض أنّها تكون من المرّة الصفراء إذا تحرّكت لتنفض فكان مرورها في الأعضاء المتشابهة الأجزاء. وبيّنت أيضاً أنّه ينبغي أن يتبع هذه الحركة «عرق»، وربّما تبعها أيضاً قيء مرار واختلاف مرار.
(٦٧) قال أبقراط: ومنهم من عرض له يرقان في اليوم السادس، إلّا أنّ هؤلاء إنّما أعانهم نفض أصابهم بطريق المثانة أو باختلاف البطن أو برعاف غزير، مثل ما أصاب إيراقليدس المريض الذي كان عند أرسطوقودس. فإنّ هذا المريض أصابه رعاف، ثمّ استطلق بطنه، ثمّ انتفض بطريق المثانة. وتمّ له البحران في العشرين، لا كما أصاب غلام فاناغورس، فإنّه لم يصب ذلك الغلام شيء من هذه الأشياء فمات.
قال جالينوس: إنّ الأبدان التي لم تطق الطبيعة أن تنفض عنه المرار فتُخرجه اجتمع فيها ذلك المرار نحو الجلد وحدث «اليرقان». وحدوث «اليرقان» قبل السابع رديء، كما قد قيل في كتاب الفصول. وإنّما فات ممّن أصابه اليرقان من أولائك المرضى من قدرت فيه الطبيعة على نفض ذلك الفضل وإخراجه بوجه آخر.
وذكر أبقراط ثلاثة أصناف من النفض، وهي «البول واختلاف البطن والرعاف»، وذكر أنّ بعض أولائك المرضى أصابته هذه الأصناف، مثل ما أصاب إيراقليدس، «وتمّ بحرانه في العشرين».
(٦٨) قال أبقراط: وكان الرعاف يصيب أكثرهم، لا سيّما الفتيان منهم والشباب المتناهي الشباب، ومات قوم كثير ممّن لم يصبهم الرعاف من هؤلاء. فأمّا
الكهول فأصابهم يرقان واستطلقت بطونهم وأصابهم اختلاف الدم، مثل بِييُن المريض الذي كان عند سالينس. وقد كان اختلاف الدم أيضاً بعض العلل الغريبة الشاملة التي حدثت في ذلك الصيف، وقوم أيضاً ممّن مرض وأصابهم رعاف آلت حالهم إلى اختلاف الدم وسلموا.
قال جالينوس: إنّ من البيّن أنّه يجب أن يصيب «الصبيان» «الرعاف»، ثمّ من بعدهم «الشباب المتناهي الشباب». فأمّا الذين جاوزوا هذا السنّ ودخلوا في حدّ «الكهول»، فلأنّ القوّة فيهم أضعف والحرارة الغريزيّة فيهم أقلّ، فإنّ اندفاع المرار كان فيهم يكون «باليرقان» أكثر. وقد كان يصيب بعضهم اختلاف ذريع «واختلاف دم»، وذلك فيمن كان يميل ذلك الفضل من المرار فيه إلى ناحية «البطن».
فمن هذه الأشياء التي ذكر وممّا ذكره قبل وممّا سيذكره بعد قد بيّن لك أنّه إنّما يكون «الرعاف» في الحمّيات المحرقة بسبب المرّة الصفراء التي تخالط الدم في هذه الحمّى فتحرقه وترفعه بارتفاعها مع حرارة قويّة إلى الرأس، فإذا فتحت العروق التي في المنخرين أحدثت «الرعاف».
(٦٩) قال أبقراط: وكان أكثر ما يبدو كثيراً هذا الخلط، فإنّ من لم يصبه في وقت البحران رعاف فإنّه أصابته أورام عند الأذنين، ثمّ غابت. فلمّا غابت، حدث ثقل عند الخاصرة اليسرى وطرف الورك. وحدث به بعد البحران وجع وبال بولاً رقيقاً،
ثمّ ابتدأ يرعف رعافاً يسيراً نحو الرابع والعشرين، فكان الخروج يكون بالرعاف. وبهذا الوجه سكنت علّة أنطيفون بن قريطوبولس، وأصابه بحران تامّ نحو الأربعين.
قال جالينوس: إنّ من البيّن سلامة هؤلاء لم تكن إلّا بعد خطر شديد وجهد جهيد، إذ كانت العافية إنّما أتتهم بكدّ بعد «الأربعين يوماً» منذ أوّل مرضهم «بالرعاف» الذي أصابهم.
(٧٠) قال أبقراط: ومرض من النساء عدد كثير، إلّا أنّ من مرض من النساء كان أقلّ ممّن مرض من الرجال، ومن مات منهنّ أيضاً كان أقلّ، وما يتلو ذلك.
قال جالينوس: إنّه يجب أن يكون كلّ ما ينال النساء في تلك الحال من المرض والخطر أقلّ إذا كان البحران إنّما يكون في تلك الحال بانبعاث الدم، وكان للمرأة طريق من الشفاء طبيعيّ باستفراغ الطمث.
فأمّا «عسر الولاد» فكان ينال النساء الحوامل لبرد مزاج الهواء في تلك الحال. ولهذا السبب بعينه كانت المرأة التي يصيبها مرض وهي حامل «تسقط» الطفل الذي في بطنها.
(٧١) قال أبقراط: وكان البول في أكثرهم حسن اللون، إلّا أنّه كان رقيقاً، والرسوب فيه يسير.
قال جالينوس: إنّ أبقراط وصف هذا البول «بالرقّة»، وهو يعني «بالبول الرقيق» البول المائيّ. ثمّ قال بعد قليل:
(٧٢) «وكان البول مائيّاً كثيراً رقيقاً من بعد البحران، وقد صار فيه رسوب كثير، وتمّت سائر وجوه البحران على ما ينبغي. وأذكر من رأيت هذا فيه».
ثمّ سمّى أسماء القوم الذين بالوا هذا البول، ثمّ أتبع ذلك بأن قال:
(٧٣) «ثمّ من بعد هذا أصاب هؤلاء كلّهم اختلاف الدم. وينبغي أن ينظر هل ذلك كان لأنّهم بالوا بولاً مائيّاً».
وإنّما قال أبقراط هذا لأنّه قد يمكن أن يكون «اختلاف الدم» إنّما حدث لأنّ المرار لم ينتفض مع البول وانصبّ إلى البطن وسحج الأمعاء فأحدث «اختلاف الدم». ويمكن أن يكون ذلك المرار من الكثرة ما، لو استفرغ كثير منه مع البول، لقد كان يجوز أن تبقى منه فضلة في البدن تنصبّ إلى الأمعاء فتسحجها وتحدث «اختلاف الدم».
(٧٤) قال أبقراط: فلمّا كان نحو وقت طلوع السماك الرامح، أصاب كثيراً من الناس البحران في اليوم الحادي عشر، فلم يعاود أحداً من هؤلاء مرضه المعاودة التي تكون على طريق الواجب. وأصابهم سبات في ذلك الوقت، وأكثر من أصابه ذلك السبات الصبيان. وكان من مات في ذلك الوقت أقلّ ممّن مات في جميع تلك الأوقات.
قال جالينوس: إنّ من البيّن أنّ ذكره «لطلوع السماك الرامح» 〈في〉 هذا الموضع إنّما يعني به طلوعه في السنة الثانية الذي وصفه في آخر اقتصاصه. وكان ذلك الوقت جنوبيّاً، وكانت فيه أمطار منذ طلوع ذلك الكوكب إلى الاستواء الخريفيّ.
فقال: «إنّ الناس» في هذه المدّة «كان يأتيهم البحران» مجيئاً حريزاً ومنقّىً، وذكر أنّه «كان يصيبهم» مع ذلك «سبات». وبيّن أنّ ذلك كان يكون من قبل أنّ حال الهواء في ذلك الوقت كانت حالاً جنوبيّة. ومن قبل تلك الحال أيضاً كان البحران يصحّ أكثر ممّا كان يصحّ في سائر تلك المدّة التي كان الغالب على الهواء فيها المزاج البارد الذي ذكر أنّ البحران كان فيه يبطئ ويتأخّر.
فأمّا المدّة التي بين طلوع الشعرى العبور وبين طلوع السماك الرامح التي كان مزاج الهواء فيها حارّاً يابساً فلم يذكرها على الأولى أن يكون «البحران كان يأتي فيها كثيراً من الناس» بسرعة أكثر، حتّى لا يجاوز عن السابع. وخليق أن يكون إنّما ترك ذكر هذا لأنّه كان مشاكلاً ملائماً لطبيعة ذلك الوقت، وإنّما وُصفت الأشياء الغريبة التي حدثت فقط.
(٧٥) قال أبقراط: فلمّا كان نحو الاستواء ومنذ ذلك إلى نوء الثريّا وفي نفس الشتاء، جعل يصيب الناس مع تلك الحمّيات المحرقة برسام كثيراً جدّاً، ومات من هؤلاء خلق كثير جدّاً.
قال جالينوس: إنّ الخلط المتولّد «للحمّيات المحرقة وللبرسام» خلط واحد، إلّا أنّ غلبته فيها ليس في موضع واحد. وذلك أنّ الخلط المولّد لهاتين العلّتين هو المرّة الصفراء، إلّا أنّ تلك المرّة، متى كانت في الفضل الذي في العروق مع الدم، ثمّ عرض لها بوجه من الوجوه أن تسخن سخونة ناريّة، حدثت من ذلك
«الحمّيات المحرقة»، وخاصّة متى كان غليان ذلك المرار في العروق التي فيما يلي المعدة والكبد والرئة.
ومتى صار ذلك المرار إلى أعضاء البدن الأصليّة وكان نفوذه ومروره فيها إلى ناحية من النواحي، أحدث النافض. ومتى تمكّن ذلك المرار في الدماغ والأغشية التي تحويه، حدث «البرسام» الذي يقال له «السرسام». وما لم يتمكّن ذلك المرار في الدماغ والأغشية التي تحويه وكان إنّما يجري جرياً في العروق التي هناك، فليس يُحدث «البرسام»، لكنّه يُحدث اختلاط العقل الذي يكون عند منتهى الحمّى.
فأقول إنّ المرار الذي كان أوّلاً في العروق التي هي أسفل، وكانت منه «الحمّى المحرقة»، ارتفع إلى الرأس في الحال الجنوبيّة التي كانت للهواء فيما بين طلوع السماك الرامح وبين الاستواء، فتمكّن في الدماغ والأغشية التي تحويه فأحدث «البرسام».
(٧٦) قال أبقراط: وقد كان أيضاً عرض من البرسام شيء في الصيف، إلّا أنّ ذلك عرض لعدد قليل.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يقول: «إنّ البرسام كان عرض في الصيف لعدد قليل من الناس»، وذلك لأنّ قطعة من ذلك الصيف، وهي منذ أوّله إلى أن طلعت الشعرى العبور، كانت باردة، وأمّا ما فيه منذ ذلك الوقت إلى طلوع السماك الرامح فكان حارّاً يابساً. فلم يكن يمكن بعد ذلك الوقت أن يكون قد اجتمع فيه في الرأس من الفضل ما يُحدث فيه البرسام، كما أمكن أن يكون ذلك في الوقت الذي بين طلوع السماك الرامح وبين الاستواء بسبب الجنوب التي هبّت فيه، لأنّ ذلك الوقت الذي بين طلوع الشعرى العبور وبين السماك الرامح لم يكن برطب، ولا
كانت هبّت فيه جنوب، ولا هو أيضاً وقت طويل المدّة. وقد قلنا إنّ البرسام إنّما يكون إذا اجتمع في الدماغ ونواحيه مرار كثير وتمكّن فيها.
(٧٧) قال أبقراط: فأمّا أصحاب الحمّيات المحرقة فكانت تعرض لكثير منهم منذ أوّلها أعراض تدلّ على الهلاك، وذلك أنّها منذ حين كانت تبتدئ بهم كان يعرض لهم مع الحمّى الحادّة والعطش نافض وسهر وغمّ وكرب وعرق يسير في الجبهة وما يلي اللبّة والتراقي، ولم يكن أحد منهم يعرق بدنه كلّه. وكانوا يهذون هذياناً كثيراً، ويصيبهم تفزّع وخبث نفس، وكانت أطرافهم تبرد، وخاصّة القدمان وأكثر منهما الكفّان وما يليهما. وكانت النوائب تكون في الأزواج، وكانت الأوجاع في أكثرهم أشدّ ما تكون في الرابع، وكان العرق في أكثر الأمر إلى البرودة، وكانت الأطراف لا تسخن، لكنّها كانت باردة ولونها إلى الخضرة والكمودة، ثمّ كانوا من بعد ذلك لا يعطشون. وكان بولهم بولاً قليلاً أسود، وكانت بطونهم تحتبس. ولم يكن يصيب أحداً منهم ممّن كانت تعرض له هذه الأعراض رعاف، لكنّه كان يقطر من آنافهم شيء يسير. ولا كان أحد من هؤلاء تقلع عنه الحمّى ثمّ تعاوده، لكنّهم كانوا يموتون في اليوم السادس مع عرق.
قال جالينوس: كما أنّ جميع ما في هذا الكتاب إنّما هو مثالات لجمل قد وصفها في كتب أخر ليختبر المختبر صحّة تلك الجمل الكلّيّة ويسبرها بهذه
المثالات في الأشياء المفردة الجزئيّة بالمعاينة والمشاهدة، كذلك الحال أيضاً فيما وصفه في هذا الموضع.
فإنّه قال إنّه عرض في تلك «الحمّيات المحرقة القتّالة» من الأعراض: أمّا «في أوّل الأمر فالنافض والأرق والسهر والغمّ والكرب والعرق اليسير في الجبهة والتراقي». فأمّا ما أصابهم من «الحمّى الحادّة والعطش» فأمر خاصّ لطبيعة هذه الأعراض تابع لخبثها ورداءتها. فأمّا الأعراض التي هي لخبثها ورداءتها خاصّة فمنها حدوث «النافض منذ أوّل الأمر»، وذلك أنّ النافض، وإن كان قد يكون معها كثيراً البحران في الحمّيات المحرقة، فإنّه لا ينبغي أن تعرض منذ أوّل أمرها، وكذلك الحال في جميع أعراض البحران: لا ينبغي أن يظهر شيء منها منذ أوّل المرض. وأمّا «الأرق والسهر والغمّ والكرب» فهي أعراض رديئة دائماً، لا في أوّل المرض فقط، وكذلك الحال أيضاً في «العرق» الذي وصفه. وأمّا الهذيان، وهو الكلام الذي يجري على غير الصحّة، فيعني به اختلاط العقل، فإنّما يكون إذا نالت الدماغ أو شيئاً ممّا يليه آفة، إلّا أنّ هذا العارض ليس بالمنكر في الحمّيات الحادّة. وأمّا «التفرّغ» فليس يعرض إلّا من مرار قويّ الحدّة محترق. فأمّا «خبث النفس» فمجانس للتفزّع.
فأمّا «برد الأطراف» فمن أردأ الأعراض في الحمّيات المحرقة وأدلّها على الهلاك. وذلك أنّه كما أنّ اختلاط العقل، إذ كان إنّما يكون من قبل شدّة سخونة الرأس بسبب حرارة الحمّى عرضاً خاصّاً للحمّيات الحادّة ملائماً لها، كذلك شدّة سخونة أطراف البدن، فإذا كانت الأطراف قد بردت برداً شديداً والأحشاء وما يليها
تحترق احتراقاً من شدّة الحرارة، دلّ ذلك على أنّ الحرارة قد اجتمعت دمها في الموضع الأوسط من البدن، وأنّ أطراف البدن قد قلّ الدم فيها وغلب عليها البرد، ومات الموت التامّ بترك الطبيعة لها وإخلالها بها.
«والنوائب» أيضاً، إذا «كانت في الأزواج» منذ أوّل الأمر، تدلّ أحياناً على أنّه يكون بحران خبيث جدّاً في اليوم السادس، وتدلّ أحياناً على أنّ المرض يطول. وإذا تحرّك المريض حركة قويّة «في اليوم الرابع» بنوبة خبيثة تكون فيه، «مات صاحبه في السادس»، كما أصاب هؤلاء المرضى الذين كلامنا فيهم. فإنّه قال: «إنّه في اليوم الرابع كانت تكون أوجاعهم أشدّ ما تكون»، ويعني «بالأوجاع» جميع الأعراض المؤلمة، وقال أيضاً إنّه كان يصيبهم كثيراً «عرق بارد»، فكان ذلك ينذر بأنّ «الموت» يكون «في السادس مع عرق». وأمّا «خضرة الأطراف وكمودتها» ودوام بردها حتّى «لا تسخن» فعلامة ذلك على موتها، ودليل خاصّ على أنّ القوّة لا يمكن أن يجاوز بقاءها «اليوم السادس».
وقد كان يظهر فيهم دليل آخر من دلائل الهلاك، وإن كان قد كان يستغني عنه بغيره، وهو أنّه كان يبطل عطشهم حتّى «لا يعطشوا» فيه على شدّة تلهّبهم في أوّل الأمر وكثرة عطشهم. وليس يخلو أمر من كان به أوّل مرضه تلهّب وعطش فصار بأخرة إلى ألّا يعطش من أحد شيئين: إمّا انقضاء مرضه، وإمّا بطلان قوّته وموتها حتّى لا تحسّ بالبلاء الذي قد حلّ بالمريض. ولم يكن مرض هؤلاء المرضى الذين كلامنا فيهم انقضى، إذ كانت موجودة فيهم «أعراض تدلّ على الهلاك». فيجب من ذلك أنّ بطلان عطشهم إنّما كان دليلاً على بطلان حسّهم.
وهذه الأعراض كلّها التي ذكرنا أعراض خبيثة تدلّ دلالة قويّة على الهلاك. ومع هذه الأعراض أيضاً تدلّ على مثل دلالتها البول الأسود القليل الذي كان، وإنّما كان سواده من قبل أنّ المرار كان قد احترق، والطبيعة قد صارت إلى حال الجمود والموت. وأمّا قلّته فكانت من قبل أنّ شدّة حرارة الحمّى كانت قد نشّفت رطوبة الدم كلّها وأفنتها، وأنّ آلات البول قد صارت إلى حال الموت، ولهذين الشيئين أيضاً «كانت بطونهم تحتبس».
وقال أيضاً: «إنّه كان يقطر من مناخرهم دم يسير». وذلك من علامات الهلاك في جميع الأمراض، وخاصّة في الحمّيات المحرقة. ومن البيّن أنّ هذه العلامات من أدلّ العلامات على الهلاك في الحمّيات المحرقة، إذ كان الرعاف الغزير من أخصّ الأعلام بهذه الحمّى وأدلّه فيها على السلامة.
(٧٨) قال أبقراط: وأمّا أصحاب البرسام فعرض لهم جميع الأعراض التي أنا ذاكرها بعد. وكان يجيء أكثرهم بحران في اليوم الحادي عشر، ومنهم من كان يأتيه البحران في اليوم العشرين.
قال جالينوس: يعني أنّ من كان أصابه «البرسام» من غير الحمّى المحرقة كان يعرض له ما ذكر، وإن كان يعرض له البرسام مع الحمّى المحرقة قد كان يموت في اليوم السادس لتصاعب البلاء عليه. وأمّا من كان يصيبه البرسام من غير الحمّى المحرقة فكان بحرانه في ما ذكر يكون «في الحادي عشر، وكان قوم» من أصحاب هذه الحال «يأتيهم البحران في اليوم العشرين»،
(٧٩) «إمّا لأنّه لم يكن البرسام يبتدئ لهم منذ أوّل أمرهم نحو اليوم الثالث أو الرابع، لكنّ مرضهم كان يكون في
المدّة الأولى من أيّامه خفيفاً ضعيفاً، ثمّ ينتقل إلى الحدّة نحو السابع»،
وإمّا لأنّ «البرسام كان يبتدئ بهم في اليوم الثالث أو الرابع» من مرضهم، إلّا أنّه كان ينكسر وينقطع في الوسط البحران بنافض تحدث في الأيّام الأُول، وتبقى بقيّة تدوم إلى العشرين؛ وإمّا لأنّه لم تكن مع البرسام الذي أصابهم حدّة شديدة. فقد رأينا كثيراً من البرسام ما هو على هذه الصفة.
(٨٠) قال أبقراط: فحدث من هذه الأمراض شيء كثير. وكان أكثر من يموت ممّن مرض الفتيان والشباب والمتناهي الشباب ممّن كان بدنه أزعر، ولونه أبيض، وشعره سبط أسود، وهو أكحل العينين، وتدبيره تدبير خفض وبطالة وكسل، وصوته رقيق خشن، وفي كلامه لثغة، وهو سريع الغضب. ومات من النساء عدد كثير من هذا الصنف.
قال جالينوس: كما قلت قبل إنّ أبقراط يكلّفنا المؤنة في شرح ما يصف، وإنّ الذي يبقى ممّا يحتاج إلى أن نتكلّف الإخبار بأسباب ما يصف، كذلك أقول في هذا الموضع إنّ معنى قوله أيضاً فيه ليس بالبيّن، وذلك أنّه ليس نعلم من كلامه هذا هل ينبغي أن نفهم عنه ما وصف في أصحاب البرسام فقط أو في أصحاب جميع الأمراض التي ذكرها.
وممّا تزيّد في الشبهة في هذا أنّ أوّل هذا القول يوجد مختلفاً في النسخ، فبعضهم يكتبه على هذا المثال: «وحدث من هذه الأمراض شيء كثير»، وأصحاب هذا النسخة يريدون أنّ قوله إنّما هو في أصحاب البرسام فقط الذين أردف القول فيهم بهذا الكلام. وبعضهم يكتبه على هذا المثال: «يحدث من هذه
الأمراض شيء كثير»، وأصحاب هذه النسخة إنّما يريدون أنّ هذا القول قيل في أصحاب جميع الأمراض التي ذكرت.
فإن فهمنا عنه أنّ قوله في جميع أصحاب تلك الأمراض، لم يكن هذا القول ممّا ينتفع به دون أن يلخّص ويحدّد في أيّ تلك الأمراض كان «الفتيان والشباب والمتناهون في الشباب» يهلكون، وفي أيّها كان يهلك «أصحاب الشعر السبط الأسود وكحل العيون»، وفي أيّها كان يهلك «من تدبيره تدبير خفض وبطالة وكسل»، وفي أيّها كان يعطف «أصحاب الأصوات الرقيقة الخشنة»، وفي أيّها «اللثغ»، وفي أيّها «من يسرع إليه الغضب»، وفي أيّها «النساء». فإنّه إن لم يلخّص جميع هذه الأشياء، لم ينتفع بهذا الكلام الذي قيل في تقدمة المعرفة ولا في مداواة الأمراض.
وإن فهمنا عنه أنّ قوله هذا ليس هو في جميع الأمراض، لكنّه إنّما هو في الأمراض التي كان في ذكرها فقط، وهي أمراض البرسام، فإنّه على حال قد يعسر علينا جدّاً وجود الأسباب التي من أجلها هلك عدد كثير ممّن ذكر. ومع هذا أيضاً فإنّ قوله «إنّه هلك عدد كثير» يحتمل معنيين: أحدهما أنّ كثيراً ممّن كان على الصفة التي وصف أصابهم البرسام، وكان ذلك البرسام الذي عرض في ذلك الوقت برساماً قتّالاً، فلذلك قيل «إنّه مات عدد كثير». والمعنى الآخر أنّ أكثر من أصابه البرسام هلك.
فيصير التماسنا للإخبار بالأسباب يحتمل الوجهين: أحدهما أن نبيّن أنّ جميع من وصفه مستعدّ متهيّئ لقبول البرسام في تلك الحال من الهواء، والآخر أن نبيّن أنّ الذين وصفهم خاصّة كانوا أولى أصحاب البرسام بأن يموتوا.
فهذا مبلغ كثرة الغموض وشدّته في هذا القول. وينبغي أن يتقدّم تكشّف ما غمض منه وجوه مزاج كلّ واحد من الأبدان التي وصفها، وذلك أنّه لا يمكن أن يتبيّن أنّ ما قيل في هذا القول يوافق لتلك الحال من الهواء دون هذا. وقد نجد أبقراط قد ذكر في قوله هذا من الأسنان أقواها حرّاً، وبهم «الفتيان والشباب والمنتاهون في الشباب»، وذكر من طبائع الأبدان ما يعسر تحلّله منها.
فقد بيّنّا في كتابنا في المزاج وفي كتب أخر غيره أنّ «البدن الأزعر» والذي «لونه إلى البياض وشعره سبط أسود» ومن كان «أكحل العين» ومن كان «تدبيره تدبير خفض وبطالة وكسل» أقلّ تحلّلاً من غيره، لأنّ مزاجه أبرد. ولهذا السبب بعينه كان النساء أيضاً على ما نالهنّ من الضرر من تلك الحال في القوى كان أقلّ ممّا نال الذكورة، كما قال فيما تقدّم، لاستفراغ أبدانهنّ ونقائها بالطمث، فإنّ من مات منهنّ على حال إنّما كان «من هذا الصنف» الذي وصفه.
وقد بقي أن نبحث عن أمر «أصحاب الصوت الرقيق والصوت الخشن» «وأصحاب اللثغة» «وأصحاب الغضب السريع». فأبتدئ بأوّل من ذكره، وهو «أصحاب الصوت الرقيق». وقد نجد هذا الموضع مختلفاً في النسخ: وفي بعضها مكتوب «إسخوفونس»، ومعناه الذي صوته متعذّر ممتنع، وفي بعضها مكتوب «إسخنوفونس»، ومعناه الذي صوته رقيق.
والذي صوته رقيق غير الذي صوته متعذّر ممتنع، كما لخّصنا في كتابنا في الصوت. ورقّة الصوت تكون، كما بيّنت، من قبل ضيق قصبة الرئة والحنجرة، وأمّا تعذّر الصوت وامتناعه فيكون من قبل رداءة طَبع طُبع على العضل المحرّك للحنجرة. فكلاهما، أعني صاحب الصوت الرقيق وصاحب الصوت المتعذّر والممتنع، إنّما يكونون بهذه الحالة من قبل ضعف الحرارة الغريزيّة في أصل الخلقة
الأولى: كما أنّ العضل المحرّك للحنجرة في صاحب الصوت المتعذّر طبع منذ أوّل الخلقة بحال رديئة، كذلك العضل المحرّك للسان في «صاحب اللثغة».
فأمّا خشونة الصوت فإنّما تكون من قبل خشونة آلات الصوت. وأعني بآلات الصوت المواضع التي ينبعث فيها هواء النفس فيكون منه الصوت، وتلك المواضع هي قصبة الرئة والحنجرة. وقصبة الرئة إنّما هي مجرى ومنفذ فقط، فأمّا الحنجرة فهي للهواء الذي ينفذ فيها بمنزلة المضراب. فقد بيّنّا أنّ الحنجرة هي آلة الصوت، كما أنّ اللسان آلة الكلام.
وقد يعين الحلق أيضاً معونة يسيرة على أن يكون الصوت لطيفاً من أصنافه، وذلك أنّه يُجعل إمّا مجرّداً وإمّا منشعباً بهذه الآلات. إذا كانت ملساء، جعلت الصوت، كما بيّنّا، أملس، وإذا كانت خشنة، جعلت الصوت خشناً. وخشونتها تكون، كما بيّنّا، من اليبس.
«فالفتيان والشباب والمتناهون في الشباب» تغلب عليهم في طبائعهم الحرارة. وأمّا سائر الحالات كلّها التي ذكرها من بعد ذكره الأسنان سوى الخشونة فمن علامات المزاج البارد، والخشونة دونها تكون، كما قلنا، من اليبس، واليبس وحده يجتمع مع المزاجين جميعاً، أعني البارد ومع الحارّ [البارد].
فأمّا الأبدان التي قد اجتمع فيها اليبس والبرد فتحلّلها يعسر، كما يعسر تحلّل الأبدان الأخر التي تقدّم ذكرها. فأمّا الأبدان التي قد اجتمع مع يبسها حرّ فليس يجب أن تكون تلك حالها، فينبغي أن نعزل هذه الأبدان من كلامنا. ونقول إنّ
هذا القول الذي نحن في تبيينه موافق لسائر الأبدان، أعني الأبدان التي يغلب عليها اليبس مع البرد.
والقول الذي كنّا في تبيينه هو أنّه يجب أن يكون «مات عدد كثير» من أصحاب الأسنان والطبائع التي وصفتها. وقد قلت إنّ تلك الأسنان أسنان حارّة تغلب فيها المرّة المُرّة، وإنّ تلك الطبائع طبائع يعسر تحلّلها. وإلى هذا الموضع قد وقفنا على ما وصف في أوّل كلامه، وبقي علينا أن نذكر «أصحاب الغضب السريع». وقد قال أبقراط إنّ أشدّ الناس مضادّة لصاحب الغضب القويّ صاحب «الغضب السريع»، وذلك أنّ غضب صاحب الغضب القويّ يوجد شجاع يستخفّ بخسيس الأمور، وصاحب «الغضب السريع» صغير النفس مُهين قريب من طبيعة المرأة. ولهذا السبب بعينه نجد المرأة «سريعة الغضب»، لأنّه ليس معها قوّة النفس وشهامتها ما مع الرجل، فيجب من هذا أن يكون «صاحب الغضب السريع» أيضاً أبرد مزاجاً وأعسر تحلّلاً.
وأمّا القول الذي قاله في آخر كلامه، وهو قوله «ومات من النساء عدد كثير من هذا الصنف»، فليس تبيّن من كلامه هل ينبغي أن يضاف إلى حدّ ما قال فقط أم إلى جميع ما تقدّم. وآخر ما قال هو «سريع الغضب»، ثمّ أتبع قوله هذا بأن قال «ومات من النساء عدد كثير من هذا الصنف»، إلّا أنّ القول قول صحيح حقّ على أيّ الوجهين فهمتَه، على أنّ أبقراط يضيفه إلى جميع ما وصف فيما تقدّم أم على أنّه يضيفه إلى آخر ما قال فقط. فإذا كان إذاً أضيف إلى جميع ما تقدّم فوجد قولاً صحيحاً حقّاً، فالأجود أن يفهم على هذا المعنى، لأنّ آخر ما ذكر محصور في الجميع وليس يقال على ذلك الآخر الجميع.
ولكن قد ينبغي أن يعلم أنّه إنّما يعني بقوله «إنّه مات من النساء عدد كثير من هذا الصنف» وليس يقيس كثرتهنّ بالرجال، لأنّه قد قال فيما تقدّم: «إنّه مرض من النساء عدد كثير، إلّا أنّ من مرض من النساء كان أقلّ عدداً ممّن مرض من الرجال، ومن مات منهنّ أيضاً كان أقلّ»، لكنّه إنّما قوله في هذا الموضع على هذا النحو: «إنّ أكثر من مات من النساء اللاتي أصابتهنّ الأمراض التي تقدّم ذكرها من كان منهنّ من الصنف التي تقدّمت صفته».
(٨١) قال أبقراط: ومن كان يتخلّص من مرضه في تلك الحال من الهواء كان تخلّصه يكون خاصّة بهذه الأربعة الأعلام: إمّا برعاف محمود يصيبه، وإمّا بأن يجيئه بطريق المثانة بول كثير فيه ثفل كثير حسن، وإمّا بأن يستطلق بطنه في الوقت الذي ينبغي فيخرج منه مرار، وإمّا بأن يصيبه اختلاف دم. وعرض لكثير منهم أن لم يكن بحرانه بواحد من هذه الأعلام التي ذكرنا، لكن بأن أصابته كلّها، بل كانت هذه حال أكثرهم. وكانت حالهم تخيّل أنّ أمرهم أغلظ وأشدّ أذىً ومكروهاً، إلّا أنّ جميع من عرض له ذلك تخلّص، وما يتلو ذلك.
قال جالينوس: إنّ هذا القول قول بيّن واضح، وكذلك القول الذي يتلوه الذي يصف فيه أمر النساء. وإنّما قوله هذا جملة وصف فيها أنّ بعض من تخلّص ممّن مرض في تلك الحال تخلّص «برعاف»، وبعضهم «ببول وباختلاف»، وبعضهم بأنّ الفضل الذي كان سبب مرضه اندفع إلى الأمعاء فأحدث «اختلاف دم».
(٨٢) قال أبقراط: من جرى من عينيه في حمّى حادّة محرقة دموع من غير إرادة فتوقّعْ أن يحدث له رعاف إن لم تكن سائر أماراته أمارات هلاك. فإنّه إذا كانت حال المريض حالاً رديئة، فليس يدلّ ذلك على رعاف، لكنّه يدلّ على موت.
قال جالينوس: إنّ هذا وآخر من أعلام «الرعاف» قد كان أغفل ذكره فيما تقدّم فذكره الآن. وهذا القول قول بيّن كافٍ لمن كان ذاكراً لِما تقدّم من قوله في هذا الباب في هذا الكتاب وفي كتاب تقدمة المعرفة. وقد وصفت أيضاً هذه الأشياء كلّها وأضفت إليها ما يحتاج إليه فيها من التحديد في تفسيري لكتاب تقدمة المعرفة وفي كتابي في البحران.
(٨٣) قال أبقراط: الأورام التي كانت تظهر عند الآذان في الحمّيات ومعها وجع كانت في بعض من تعرض له بعد إقلاع الحمّى بحدوث البحران لا تسكن ولا تمدّ. ثمّ كان يعرض لهم اختلاف مرار أو اختلاف دم أو بول فيه ثفل غليظ، فتنحلّ تلك الأورام.
قال جالينوس: إنّ هذا القول الذي قاله في هذا الموضع بالغ النفع، كيما لا نظنّ أنّ بقاء «الأورام التي تخرج عند الآذان» على حالها من غير أن تتقيّح أو «تمدّ» علامة رديئة دائماً. فقد قال في هذه الحال من الهواء التي كلامه فيها «〈إنّه〉 كانت الحمّى تسكن بحدوث بحران»، يعني بحدوث عرق أو غيره ممّا يكون به البحران في يوم من أيّام البحران. وكانت تلك «الأورام التي عند الآذان»
تبقى بعد انقضاء الحمّى، ثمّ كانت من بعد، إذا تمادى بها الزمان، «تسكن» باستفراغ الفضل الذي كان سبب حدوثها «بالبول» الذي وصفه «والبراز واختلاف دم».
(٨٤) قال أبقراط: فأمّا أمور البحرانات التي قد نستدلّ منها فهي إمّا متشابهة وإمّا غير متشابهة.
قال جالينوس: إنّي قد جمعت لكلّ ما قاله أبقراط في «البحران» وأيّام البحران في كتابين، أحدهما في البحران والآخر في أيّام البحران. وأنا واصف لك في هذا الموضع أيضاً ما كان جملة هذا القول:
قال: «إنّ أمور البحرانات» تأتي «بتشابه» وتتّفق في وجه «ولا تتشابه» وتختلف في وجه. ثمّ وصف أمر مرضى كثير كانت أمراضهم فارقتهم، ثمّ «عاودتهم» في أوقات مختلفة، ثمّ «أتاهم كلّهم البحران في يوم السابع عشر إذا حسبتَ جملة أيّام المرض كلّها» مع ما أغبّ. ثمّ وصف بعد ذلك أمر مرضى أخر أغبّتهم أمراضهم أيضاً أيّاماً، ثمّ «عاودتهم» في أوقات أيضاً مختلفة، ثمّ «أتاهم البحران في اليوم العشرين». وأوّل من ذكر «أخوين» وصف حالهما على طريق التمثّل.
(٨٥آ) قال أبقراط: مثال ذلك الأخوان اللذان ابتدأت بهما العلّة معاً في وقت واحد، وكان مأواهما عند الملعب وهما أخوا إبيجانس. فأتى أكبرهما البحران في اليوم السادس وأصغرهما في اليوم السابع. وعاودهما المرض جميعاً معاً في وقت واحد
بعد أن كان أغبّ خمسة أيّام، ثمّ إنّهما أصابهما كليهما البحران معاً في اليوم السابع عشر إذا حسبتَ جملة الأيّام.
قال جالينوس: أمّا الذي ينتفع به من القول في هذا الكلام فبيّن واضح، وأمّا ما لا ينتفع به فهو غير بيّن، فقد كان ينبغي ألّا يطلب ولا يبحث عنه، إلّا أنّ الذين يتجاوزون ما ينتفع ويصرفوا عنايتهم وحرصهم إلى ما لا ينتفع به يلقون لأنفسهم عملاً في البحث عن أنّ كيف قال أبقراط: «إنّ أكبر الأخوان أصابه بحران في السادس وأصغرهما في السابع، ثمّ عاودهما المرض كليهما معاً في وقت واحد»، ثمّ أتبع ذلك بأن قال: «بعد أن غبّ خمسة أيّام». وليس يمكن أن يكون «أغبّها جميعاً خمسة أيّام»، لكنّ أحدهما فقط، على أنّه لم يكن من الممتنع 〈أن〉 يفهموا هذا الذي يقولون في أحد الأخوين، وهو الثاني الذي وصف أنّه أصابه البحران الأوّل.
ويفهموا من أمر هذا أمر الآخر، وذلك أنّه إذ كان المرض «أغبّ هذا خمسة أيّام»، فبيّن أنّه أغبّ الآخر الذي أصابه بحران في السادس ستّة أيّام. ويمكن أن يكون وقع منذ أوّل الأمر خطاء في النسخة الأولى من الناسخ الأوّل، كما عرض في كلام كثير من كلام أبقراط ومن كلام قوم كثير غيره من القدماء. والخطاء الذي أقول إنّه يمكن أن يكون وقع في هذا الكلام على ما وصف: أقول إنّه يمكن أن يكون أبقراط كتب بعد أن «كان أغبّ أحدهما ستّة أيّام والآخر خمسة أيّام»، فغلط الناسخ فترك قوله «في أحدهما ستّة أيّام وفي الآخر» وكتب «خمسة أيّام». وأشبه الأمر أن يكون «أغبّ أكبر الأخوين ستّة أيّام والأصغر خمسة أيّام، وعاودهما المرض معاً» في اليوم الثاني عشر. وممّا يدلّ على ذلك أنّه قال بعد هذا: «وكان
البحران يصيب أكثر المرضى في اليوم السادس، ويغبّهم المرض ستّة أيّام، ثمّ كان يصيبهم البحران بعد عودة المرض بخمسة أيّام». فينبغي أن يكون هذا أنّ الأخوان بعض المثالات التي وصفها في البحران الذي كان يصيب أكثر أولائك المرضى.
ومن بعد اقتصاص أمر هذين «الأخوين» فقد وصف بحرانات كثيرة مختلفة، كلّها كانت في اليوم السابع عشر، ولم يصف منها شيئاً كان على المثال الذي وصفه في هذين «الأخوين». فإذاً أقول إنّه ينبغي بحسب هذا أن يفهم أنّ المرض «عاودهما جميعاً في اليوم الثاني عشر» بعد أن «أغبّ الأصغر منهما خمسة أيّام».
فيشبه أن يكون إنّما قال هذا القول ليزيد الأمر الذي يشارك هذان سائر أولائك المرضى وشابهاهم فيه، وذلك أنّ المرض عاودهما جميعاً وأتاهما البحران في السابع عشر، والأمر الخاصّ لهما الذي خالفا أولائك المرضى فيه هو أنّ المرض عاودهما في اليوم الثاني عشر. وقد كان الأجود، كما قلت، أن تدعو العناية والبحث عمّا لا ينتفع به. وقد كانوا يقدرون على أن يصرفوا عنايتهم وبحثهم إلى أشياء أخر كثيرة نافعة.
وإذ كنت قد وصفت ما وصفت من أمر البحران، فإنّي تارك ذكر ما وصف بعد هذا من أمر تلك البحرانات إلى جملة ما ذكر فيها أنّه كانت متشابهة في شيء وغير متشابهة في شيء، وذلك أنّ البحرانات الأولى كانت في أكثر الأمر تقتل المرضى في اليوم السادس أو تُخرجهم من المرض خروجاً ليس بالصحيح الموثوق به، حتّى يعاوده المرض بعد مفارقته، ثمّ كان البحران التامّ يكون في اليوم السابع عشر. ففي هذا كان التشابه بين تلك البحرانات وخلاف التشابه.
ثمّ ذكر بعد هذا بحرانات أخر كانت بعد عودة من الأمراض تأخّرت إلى يوم العشرين وتمّت في يوم العشرين.
(٨٥ب) قال أبقراط: وكان مأواهما في الملعب.
قال جالينوس: إنّه يوجد في النسخ القديمة «تطرن»، وهو «الملعب». وأمّا قافيطن وأصحابه فكتبوا مكان «تائطور» «تائطرن»، وتفسير هذا الاسم «المحصد». وما أحسنهم ألّا يعمّدوا ذلك حتّى يجدوا السبيل إلى أن يفسّروا هذا الاسم فيقولوا إنّه موضع اشتقّ له هذا الاسم من أسماء الحصاد.
وكيفما كتبت هذه الأشياء المشابهة، فلا فرق بينهما في هذا العلم، ولا ينتفع فيه به ولا يضرّ. ولا فرق أيضاً بين أن يكون كان ذانك «الأخوان» أخوا إبيجانس أو أخوا باريجانس أو ديوجانس أو ثاجانس. وإنّما يقبل على طلب هذه الفضول والحشو من لم يكن عنده شيء من نفس المعاني التي تحتاج إلى تفسيرها في نفس صناعة الطبّ.
(٨٦) قال أبقراط: وأمّا الذين ظهرت بهم أورام عند الآذان فأتاهم البحران في العشرين. وكانت تلك الأورام تخمد ولا تتقيّح في جميعهم، لكن كان الفضل يميل نحو المثانة. فأمّا قراطسطونقس الذي كان يسكن عند إيرقليس وجارية سقومنس القصّار فتقيّحت فيهما تلك الأورام وماتا.
قال جالينوس: قد كان ذكر فيما تقدّم شيئاً من أمر هذه الأورام قلت فيه بأنّه يستحقّ أن يحفظ لغرابته، ثمّ قد ذكر في هذا الموضع شيئاً أعجب منه وأغرب منه وأولى بأن يحفظ لأنّه أقلّ حدوثاً من الأوّل.
والأمر الأوّل كان أنّه تكون «الأورام التي تظهر عند الآذان لا تتقيّح» وتبرأ بضرب من ضروب الاستفراغ التي تكون من أسفل فقط، وهذا ممّا لا يكاد أن يكون. ثمّ زادنا في هذا القول مع ذلك فقال: «إنّ تلك الأورام تقيّحت في قراطسطونقس وجارية القصّار فماتا»، فكان هذا القول من أبقراط مناقضاً لقوله في موضع آخر «إنّ النضج يدلّ على سرعة البحران ووثاقة الصحّة».
وأقول إنّ قصّة قراطسطونقس هذا وجارية القصّار كانت أنّ الأخلاط التي كانت في العروق التي هي كانت سخنت بتلك الحمّيات في هذين لم تكن نضجت، ولولا ذلك، ما «ماتا». فأمّا «الأورام التي كانت ظهرت فيهما عند الآذان» فنضجت. وقد قلت إنّ هذا أمر قليل ما يكون ينبغي أن يحفظ، على أنّه قد يمكن أن يحدث نضج جزئيّ في بعض الأعضاء، والمرض كلّه لم ينضج.
وأمّا سائر ما قاله في هذا الموضع في «البحرانات» فقد فسّرناه في كتابنا في البحران وفي أيّام البحران تفسيراً تامّاً.
(٨٧) قال أبقراط: ودامت تلك الحمّيات المحرقة والبرسام في الشتاء نحو منقلب الشمس الشتويّ وإلى الاستواء، ومات قوم كثير. فأمّا البحرانات فانتقلت، فكان البحران يأتي في أكثر المرضى في اليوم الخامس منذ أوّل المرض، ثمّ يغبّهم المرض أربعة أيّام، ثمّ يعاودهم، ثمّ كان يأتيهم البحران في اليوم الخامس من المعاودة، وجملة عدد تلك الأيّام أربعة عشر يوماً. وأكثر ما كان يكون البحران على هذا المثال في الصبيان، وقد كان كذلك فيمن هو أكبر منهم.
قال جالينوس: إنّ «الشتاء» الذي ذكره في هذا الموضع إنّما يعني به شتاء السنة الثانية، لا شتاء السنة الأولى الذي وصف في صفة تلك الحال من الهواء.
وقد خبّرت فيما تقدّم بالسبب الذي من أجله أكثر «البرسام» تأخّر ولم يكن أوّلاً. وقال أيضاً إنّ أوقات «البحران انتقلت»، واقتصّ أمر اختلافها والبحرانات التي ذكرها قبل أنّها كانت تكون بعد «معاودة» من المرض. وقال: «إنّ البحرانات كانت تصيب الصبيان ومن هو أكبر سنّاً منهم في الرابع عشر»، وذلك أنّ الأخلاط التي هي الأسباب المولّدة للأمراض تتحلّل من أبدان هؤلاء وتنضج فيها أسرع الأوقات. وأمّا سائر الناس قد كان بحرانهم كان يتأخّر إلى العشرين، وليس إلى العشرين فقط، ولكنّ في بعضهم إلى الأربعين، أعني البحران الآخر الذي من بعد معاودة المرض.
وليس يعجب أن يكون كان بين أوقات تلك البحرانات هذا الاختلاف والتفاوت كلّه، إذ كانت تلك الأمراض مختلفة.
(٨٨) قال أبقراط: وكانت النافض في الربيع لا تصيب إلّا القليل جدّاً، ثمّ صارت في الصيف تصيب أكثر من أولائك، ثمّ صارت في الخريف تصيب عدداً أكثر، ثمّ صارت في الشتاء تصيب عدداً كثيراً جدّاً. وأمّا الرعاف فكان يتنقّص ويتقضّى.
قال جالينوس: إنّ «الربيع» الذي ذكره في هذا الموضع إنّما يعني به الربيع الذي وصفه في اقتصاصه تلك الحال من الهواء، لا ربيع السنة الثانية. فإنّ أبقراط لم يجاوز في اقتصاصه أمر الأعراض التي حدثت 〈في شتاء〉 السنة الثانية.
وأمّا السبب الذي من أجله كان الزمان كلّما تمادى يتزيّد دائماً عدد من تصيبه «النافض» فقد أشرت إليه فيما تقدّم القول الذي أذكرت فيه أنّي قد بيّنت أنّ النافض إنّما تكون بمرور المرّة الصفراء في أعضاء البدن الأصليّة، لا بأن يكون 〈في〉 العروق نحوها. فكانت تلك المرّة الصفراء في أوّل الأمر في العروق فكان يتولّد منها الحمّيات المحرقة، ثمّ خرجت من العروق بأخرة فصارت في الأعضاء اللحميّة، وبمرورها فيها إلى خارج كانت تحدث الاقشعرار. وأمّا «تنقّص الرعاف وتقضّيه» فواجب إذا كان المرار من بعد صار ليس تحويه العروق فقط، لكنّه تبدّد وانبثّ في البدن كلّه.
تمّت المقالة الثانية [بحمد اللّه وعونه].
شرح جالينوس للمقالة الأولى من كتاب أبقراط المسمّى إفيذيميا
المقالة الثالثة
المقالة الثالثة وهي آخر المقالات من المقالة الأولى من كتاب †… …†
(١) قال أبقراط: أمور المرضى التي نستدلّ بها إذا تعرّفناها هي هذه: أمر الطبيعة التي تعمّ الكلّ والطبيعة التي تخصّ كلّ واحد؛ وأمر المرض وأمر المريض؛ وأمر ما يعالج به ومن يعالجه، فإنّا قد نستدلّ من هذه الأشياء هل أمر المريض أسهل أو أصعب؛ وحال الأمور السمائيّة بالجملة وجزءً جزءً؛ وحال بلد بلد، وأمر العادة، وأمر التدبير، وأمر المهن، وأمر سنّ كلّ واحد من الناس، والكلام، والضروب، والسكوت، والخواطر، والنوم وخلافه، والمنامات أيّ المنامات هي ومتى تكون، والنتف، والحكّة، والدموع، والنوائب، والبراز، والبول، والبزاق، والقيء، وتعاقب الأمراض من أيّها تكون إلى أيّها، والخروج الذي يؤدّي إلى الهلاك أو إلى الإفراق، والعرق، والنافض، والبرد، والسعال، والعطاس، والفواق، وأصناف الهواء، والجشاء،
والرياح التي لا صوت لها والتي لها صوت، والرعاف، والدم الذي يجيء من المقعدة. فمن هذه الأمور ومن الأشياء التي نختبر بها ينبغي أن يكون النظر والبحث.
قال جالينوس: قد ظنّ قوم أنّ هذا الكلام كلام زِيد وأُلحق في هذا الكتاب، وعبارة هذا الكلام ومعناه شبيهة بعبارة الكلام الذي قاله في كتابه في الأخلاط ومعناه. وقد فسّرت ذلك الكتاب في ثلاث مقالات. وبيّن أنّ غرضه في هذا الكلام أن يصف أبواباً من علم تقدمة المعرفة ويخبّر بالأعراض الكلّيّة التي منها ينبغي أن توجد تقدمة المعرفة.
ويعني «بالطبيعة العامّيّة» طبيعة الناس كافّةً، ويعني «بالطبيعة الخاصّيّة» طبيعة كلّ واحد من الناس. وقد خبّرك أبقراط في كتابه في تقدمة المعرفة وفي كتابه في الكسر والخلع وفي كتابه في جراحات الرأس أنّه يأخذ دائماً الدلائل على الحاضر والمستأنف من الطبيعتين جميعاً، لأنّ «الاستدلال» من «الطبيعة الخاصّيّة» أوثق وأجود. وقد فسّرت أيضاً تلك الكتب.
وبعض ما وصفه من ذلك في تلك الكتب أنّه أمر أن يقايس العضو العليل دائماً إلى العضو الصحيح، فاستثنى في هذا القول فقال: «إنّه ليس ينبغي أن يكون القياس بين المفاصل من بدنين». وقال أيضاً في كتاب تقدمة المعرفة: «إنّه ينبغي أن يكون النظر في الأمراض الحادّة على هذا الوجه: تنظر أوّلاً إلى وجه المريض هل
هو شبيه بوجوه الأصحّاء وخاصّة هل هو شبيه بالحال التي كانت عليها. فإنّه إذا كان كذلك، كان على أفضل حالاته». وإذا نحن عرفنا الأمر الخاصّ من أمر كلّ واحد من المرضى من اللون والشكل والمقدار، لم نحتج إلى الأمر العامّ؛ لكن لمّا كنّا لا نقدر أن نتقدّم فنعرف جميع الناس ونعلم كيف كانت حالهم في صحّتهم، لكُنّا بغتة كثيراً إلى موضع لم نعرفه، فإذاً نجعل ابتداء استدلالنا على العلل الحاضرة وتقدمة المعرفة بالأشياء الحادثة من الأمور العامّيّة. من ذلك إذا رأينا الوجه بحال ليس «الأنف منه دقيقاً» ولا «العينان غائرتين» ولا «الصدغان لاطئين»، لم نحتج أن نسأل عن شيء من أمور المرض، فإن رأينا «الأنف دقيقاً والعينين غائرتين والصدغين لاطئين»، احتجنا حينئذ أن نسأل كيف كانت حال الوجه في الصحّة.
وكذلك قد نستدلّ من «المرض» على ما سيكون من أمره. فقد بيّنت لك بأتمّ ما يكون من القول وأثبته في كتابي في البحران وفي تفسيري لكتاب الفصول كيف يكون ذلك: وبيّنت أنّ حمّى الغبّ الخالصة قصيرة سريعة البحران، وأنّ حمّى الربع طويلة بطيئة البحران، وأنّهما جميعاً سليمتان؛ وأنّ البرسام الحارّ منه الذي يقال له «فرانيطس» والبارد الذي يقال له «ليثرغيس» حادّ سريع الانقضاء ذو خطر؛ وأنّ الورم الصلب الذي يحدث في الكبد ورم قتّال طويل. فإذا عرفتَ ذلك وما أشبهه من أمر الأمراض، قدرتَ أن تستدلّ به على ما سيكون من حالها، فتكون قد استفدتَ من ذلك تقدمة المعرفة.
وأمّا تقدمة المعرفة التي تكون من نفس «المريض» بما تؤول إليه حاله فيكون على ضربين، أحدهما يكون على هذا المثال: «إنّ الجواب الذي فيه بعض التقدّم من الحليم الدمث دليل رديء». وبخلاف ذلك أيضاً إن كان المريض صاحب تهوّر فهو، وإن تكلّم بكلام تخليط فضلاً عن أن يكون في جوابه تسرّع وإقدام، لم يدلّ ذلك على خطر بعد أن تكون به حمّى حارّة محرقة.
والضرب الآخر الذي يستدلّ به من نفس المريض على ما تؤول إليه حاله يكون على هذا المثال: إن فعل المريض جميع ما ينبغي أن يفعله وقبل من الطبيب كلّ ما يأمره به فلم ينتفع بشيء، فمرضه مرض صعب. وبخلاف ذلك أيضاً متى رأيتَ المريض لا يفعل شيئاً ممّا ينبغي، ثمّ رأيتَ مرضه باقياً على حاله، علمتَ أنّ مرضه مرض خفيف.
وكذلك تكون تقدمة المعرفة من الأشياء التي «يعالج بها المريض»، وذلك أنّها متى كانت رديئة على غير ما ينبغي فلم يتزيّد المرض زيادة، فالمرض سليم خفيف. ومتى كان جميع «ما يعالج به المريض» على ما ينبغي فلم ينتفع المريض بشيء منه بل ازداد شدّة وصعوبة، دلّ ذلك على أنّ المرض مرض صعب رديء.
وأمّا أنا فقد رأيتموني مراراً كثيرة وأنا مقتصر على تعرّف حال الأمراض في سلامتها وخطرها «بما يعالج به المرضى»، حتّى أتعرّف به مع ذلك كثيراً أنواع الأمراض وطبائعها، لكن قد شرحت هذا كلّه، كما قلت في غير هذا الكتاب، شرحاً تامّاً.
وأمّا قوله «إنّه يُستدلّ ممّن يعالج المريض هل أمر المريض أسهل أو أصعب» فينبغي أن نفهمه على هذا الوجه: إنّا قد نرى كثيراً أمراضاً قد تطاولت مدّتها من
حمّيات أو غيرها، فنجعل بعض ما نستدلّ به على أمرها وتزداد به خبرة وتبصرة بالحال الماضية فيها وما تؤول إليه فيها بعد أن نتعرّف من كان الطبيب المعالج لذلك المريض. فإنّه إن كان ممّن عنده فضل معرفة، فالرجاء لبرء ذلك المريض يسير. وذلك أنّه إذا كان جميع ما يعالج به قد جرى على الصواب ولم ينتفع المريض بشيء، قد دلّ ذلك على خبث ورداءة من المرض. وإن كان ذلك الطبيب خسيس المعرفة، رجونا أنّا إن عالجنا ذلك المريض بكلّ ما ينبغي أن يعالج به، سلم من مرضه.
وتكون تقدمة المعرفة أيضاً والاستدلال على ما تؤول إليه حال المريض من «حال الأمور السمائيّة»، يعني من طبيعة مزاج الهواء. وأمّا قوله «بالجملة وجزءً جزءً» فيتبيّن لك معناه إن تذكّرتَ ما وصفه في «حالات الهواء» الثلاثة التي تقدّم ذكرها التي وصف فيها أبقراط شيئاً شيئاً ممّا حدث في الهواء من الحرّ والبرد واليبس والرطوبة وهبوب الرياح وسكونها، ثمّ حكم في آخر اقتصاصه ما اقتصّ من حالها أيّ مزاج كان الغالب على الهواء في كلّ واحد من تلك الأحوال، مثل ما قال في آخر اقتصاصه للحال الأولى من الهواء: «إنّه لمّا كانت حال الهواء في تلك السنة كلّها جنوبيّة مع يبس وعدم المطر»، على أنّه لم يكن هبوب الجنوب دائماً متّصلاً في تلك السنة كلّها ولا اليبس وعدم المطر. وقال أيضاً في اقتصاصه للحال الثانية من الهواء: «فلمّا كانت السنة كلّها رطبة باردة شماليّة». وإنّما حكم عليها بذلك من المزاج الغالب كان على الهواء فيها، وذلك أنّه من المحال ألّا
يكون كان في تلك السنة كلّها يوم من الأيّام حارّ، ويوم من الأيّام يابس، ويوم من الأيّام جنوبيّ.
وكذلك أيضاً الحال في أصناف الأمراض التي ذكر أنّها حدثت في كلّ واحدة من تلك الحالات من شبه صنف من أصناف الأمراض، ولم يكن يمكن ألّا يخالط تلك الأمراض غيرها من أصناف أخر. وممّا يدلّ على ذلك أنّه، لمّا فرغ من اقتصاص تلك الحال الأولى من الهواء كلّها، قال بهذا اللفظ: «فالأمراض القاتلة إنّما عرضت من جميع من ذكر في هذه الحال من حالات الهواء لأصحاب السلّ فقط. فأمّا سائر جميع من مرض فيها فكان مرضه خفيفاً، ولم يعرض لأصحاب تلك الحمّيات موت».
فليس جميع الأمراض التي تحدث في كلّ واحدة من أحوال الهواء من صنف واحد، ولا تلك الحال أيضاً في جميع الأيّام من السنة تكون حالاً واحدة. وإنّما نقول في حال من الهواء إنّها باردة أو رطبة أو غير ذلك من أصناف المزاج بالغالب على الهواء من المزاج فيها. وذلك أنّ أبقراط وصف في كلّ واحدة من تلك الأحوال من الهواء أنّه كان في الربيع أمراض وفي الصيف غيرها وفي الخريف أيضاً غير ذلك وفي الشتاء غير الجميع، إلّا أنّ الغالب كان على حال في جملة السنة في هذه الحال هذا الصنف من الأمراض وفي حال أخرى صنف آخر. فهذا هو معنى أبقراط في قوله «حال الأمور السمائيّة بالجملة وجزءً جزءً».
وإنّما أضاف إلى قوله «الحال» قوله «الأمور السمائيّة»، لأنّ اسم «الحال»، إذا أطلق فلم يضف إليه شيء، قد يجوز أن يدلّ على طبيعة البلد وغيره من جميع
الأشياء. ممّا يدلّ على ذلك أنّه، لمّا قال «وحال الأمور السمائيّة بالجملة وجزءً جزءً»، أتبع ذلك بأن قال: «وحال بلد بلد».
وقد بيّنت مراراً كثيرة أنّ طبيعة «البلد» أيضاً تعين معونة قويّة على تقدمة المعرفة بالأمراض التي هي مزمعة أن تحدث. وأنا مقتصر بك في هذا الموضع على أن أرشدك إلى كتاب أبقراط في الهواء والمواضع والماء، فإنّه يخبرك 〈فيها〉 في أيّ الأمراض يكثر في «بلد بلد». فإنّ تولّد تلك الأمراض لأهل بلد بلد من تلك البلدان كالتحالف فيها، والخطر فيها أقلّ إذ كانت مشاكلة ملائمة لأهل ذلك البلد.
وقال أيضاً إنّه ينبغي أن تستعين على تقدمة المعرفة بأمر «العادة». وقد وصف لك في غير هذا الكتاب كيف تفعل هذا، من ذلك أنّه وصف في كتاب تقدمة المعرفة دلائل وأضاف إليها شروطاً وحدوداً من العادة، فقال في بعض المواضع: «إنّك إذا رأيتَ المريض مستلقياً على بطنه، ولم تكن ذلك عادته في صحّته، فدلّ بذلك على اختلاط في عقله أو على وجع في بطنه». وقال في بعض المواضع: «إنّك إذا رأيتَ كان المريض يصرف أسنانه في الحمّى، ولم تكن تلك عادة منذ صباه، فدلّ بذلك على اختلاط وعلى موت».
قال: وينبغي أن يستدلّ أيضاً على أمر المريض من «تدبير» المريض، يعني أنّه يمكن أن يستدلّ بالتدبير الذي تدبّر به ذلك الإنسان على أيّ الأخلاط فيه هو
الغالب في بدنه وكم مقدار كثرة ذلك الخلط فيه. وإذا علم ذلك، كانت حال البدن الحاضر†… …† وما تؤول إليه الحال أسرع وأقدم تعرفّاً †…†
قال: وينبغي أن تستعين على تقدمة المعرفة أيضاً «بالمهن»، «والمهن» عندهم جميع ما يفعله الناس بحاجة تدعوهم إليها ضرورة أو شهوة. أمّا ما تدعوهم إليه الحاجة أو الضرورة فمثل معالجة الناس من تدبير السفن، أو من فلاحة الأرض، أو من بناء البيوت، أو من النجارة وما أشبه ذلك. وأمّا ما تدعوهم إليه الشهوة فمثل الصيد والمناضلة واستعمال الحمّام للتلذّذ حتّى يستحمّوا مراراً كثيرة بالماء الحارّ أو البارد.
فقد تقدر من مهنة كلّ واحد من الناس أن تستدلّ على شيء من حاله في مرضه. وذلك أنّك متى رأيتَ إنساناً أكثر تصرّفه في الصحراء، وذلك في الصيف تحت السماء في الشمس، ويتعب تعباً كثيراً مع قلّة مزرية لوجبة يطعم، علمتَ أنّه يجب بحسب هذا أن يكون المرار المرّ أولى بأن يكون أغلب عليه من البلغم. ومتى رأيتَ إنساناً تدبيره على خلاف ذلك، أعني أن يكون أكثر دهره مستكنّاً في ظلّ ويستحمّ في كلّ يوم مرّتين، وهو مع ذلك ساكن لا يتحرّك ويتملّأ من الطعام، وتدوم هذه المهنة زماناً طويلاً، علمتَ أنّ البلغم أولى بأن يكون الغالب عليه. وعلى هذا القياس يجري أمر سائر التدبير.
وذكر بعد هذا «السنّ»، وقد ننتفع بالنظر فيها منفعة ليست باليسيرة في الاستدلال على الأمور الحاضرة وتقدمة المعرفة بالأشياء الكائنة فيما بعد. ونقدر أن
نعرف ذلك ممّا وصفه أبقراط في كتاب الفصول من أمر الأسنان، وقد فسّرت ذلك الكتاب في سبع مقالات.
وذكر بعد هذا «الكلام»، وقد يستدلّ بالكلام الذي يتكلّم به المريض على الحاضر من أمره والمستأنف من حاله. وهذا الاستدلال متّصل مشارك للاستدلال الذي يكون من الخلق الذي كان عليه ذلك الإنسان فيما تقدّم. وذلك أنّك إن رأيتَه يتكلّم على عادته التي لم تزل، لم تتوقّع له صعوبة من الحال في مرضه، وإن رأيتَ كلامه مخالفاً لخلقه كان فيما تقدّم، علمتَ أنّ تلك علامة رديئة، وذلك أنّه يدلّك أنّ المريض قد يشارف أن تحدث في ذهنه آفة.
ثمّ قال بعد هذا «والضروب»، وينبغي أن ننظر على ماذا يدلّ هذا الاسم. فإنّ من عادة القدماء أن يستعملوا هذا الاسم على معنيين: وربّما وصفوا به حال النفس التي تسمّى «الخلق»، «السجيّة»، وربّما سمّوا به «أصناف» الشيء الذي يكون كلامهم فيه. ومثال ذلك أنّه إن كان كلام المتكلّم في التدبير فقال «ضروب التدبير»، فهو يعني «بضروب» أصنافه. وكذلك إن كان كلامه في الحمّيات فقال: «إنّ ضروب الحمّيات كثيرة»، فإنّما يعني أنواعها وأصنافها وفصولها. فهو في هذا الموضع يعني «بالضروب» إمّا أخلاق النفس وإمّا أصناف الكلام، وذلك أنّه ذكر «الكلام» قبل ذكره للضروب، حتّى يكون كأنّه قال: «والكلام وأصنافه». لا فرق في هذا الموضع بين أن أقول «أصناف» أو «أنواع» أو «فصول»، إذ كانت هذه الأشياء كلّها تكون من تفسير الشيء الذي يتوهّم عامّاً جنسيّاً.
ثمّ ذكر بعد هذا «السكوت». وكما أنّ «الكلام» من المريض يدلّ على حاله، كذلك سكوته. فقد يدلّ على ذلك بعد أن يعلم هل السكوت من طبع ذلك المريض أو ليس هو من طبعه. وذلك أنّه إن كان الإنسان سكّيتاً، فالسكوت
له طبيعيّ، وإن كان كثير الكلام، فالسكوت له خارج من الطبيعة. فالسكوت يدلّ بمن كان كثير الكلام على كسل حدث له من طريق السبات دعاه إلى السكوت على خلاف طبيعته أو على ابتداء الوسواس السوداويّ. وأمّا السكّيت، إذا هو لم يستعمل الصمت فكثر كلامه أو زاد على المقدار الذي كان من عادته أن يتكلّم به، فذلك يدلّ على اختلاط في ذهنه.
وذكر بعد هذا «الخواطر»، وليس ذلك من الأمور المحسوسة الظاهرة، لكنّه أمر يتعرّف بدلائل. والدلائل التي تعرف بها هي ما يتكلّم به المريض وما يفعله: من ذلك أنّه أتاني رجل يوماً باكراً قد كان من عادته أن يمشاني لطلب العلاج، فشكا إليّ أنّه بات ليلة كلّها آرقاً ساهراً، يتفكّر وينظر ما الذي يعرض إن بُرى الملك الذي قد يزعم الشعراء أنّه يحمل السماء ويسمّونه «أطلس» عن كلال يصيبه في حملها. فحين سمعت هذا منه، علمت أنّه قد ابتدأ به الوسواس السوداويّ. وقد تدلّ أيضاً الأفعال التي يفعلها المريض على الخواطر التي تخطر بباله.
ثمّ قال بعد هذا أبقراط «والنوم وخلافه». ولست أحتاج أن أقول في هذا الموضع فيها شيئاً، إذ كنت قد تقدّمت فشرحت أمر النوم والأرق في تفسيري لكتاب الفصول ولكتاب تقدمة المعرفة.
ثمّ ذكر بعد ذلك «المنامات». وقد شرحت أيضاً أمر المنامات كلّها، وخاصّة ما كان منها يدلّ على علّة من علل البدن، كما وُصف من أمرها في كتاب تدبير الأصحّاء المنسوب إلى أبقراط. وذلك أنّه متى رأى الإنسان في منامه حريقاً، دلّ ذلك على غلبة المرّة الصفراء في بدنه، ومتى رأى أمطاراً، دلّ على غلبة الرطوبة الباردة في بدنه. وكذلك من رأى ثلجاً وجمداً وبرداً، دلّ ذلك على غلبة
البلغم البارد، وإذا رأى في منامه أنّه في موضع قذر منتن، دلّ ذلك على أنّ في بدنه خلطاً عفناً. وعلى هذا القياس يجري الأمر في سائر الحالات.
ولذلك أردف قوله «المنامات» بأن قال: «أيّ المنامات هي ومتى تكون». فدلّ بقوله «أيّ المنامات هي» على أصنافها، وذلك قد كان يفهم عنه ولو لم يلحقه. وأمّا قوله «ومتى تكون» فدلّ به على أنّه ينبغي أن يتفقّد الوقت الذي فيه تكون المنامات، أعني أنّه متى ما رأى المريض مناماً، فينبغي أن ينظر هل رؤيته كانت لذلك المنام في وقت أوّل نوبة حمّاه أو في منتهاها أو في وقت غيرهما. ومتى رأى أيضاً مناماً، فينبغي أن ينظر هل رآه صاحبه بقرب عهد منه بتناول الطعام، وبعد تناول أيّ طعام رآه، أو كانت رؤيته له من غير تناول طعام، فإنّ هذه الأشياء أيضاً ممّا قد نستدلّ بها: من ذلك أنّه متى رأى إنسان في منامه أنّه في الثلج، ثمّ كان ذلك في ابتداء حمّى معها نافض أو قشعريرة أو برد، فأكثر الأمر إنّما ينبغي أن يضاف في تلك الحال إلى الوقت، لا إلى حال البدن. فإن كان إنّما رأى ذلك المنام في وقت انحطاط في نوبة الحمّى، دلّ ذلك دلالة أصحّ وآكَد على برد الأخلاط الغالبة في البدن، وسيّما إن كان صاحب ذلك المنام لم يتناول شيئاً من الأطعمة البلغميّة. فإنّه متى كان مثل هذا الطعام في المعدة، فيمكن أن يخيّل لصاحبه في منامه ما وصفت وحال بدنه كلّه ليست على مثل تلك الحال.
ثمّ ذكر بعد هذا «النتف»، وقد فسّرت ذلك في تفسيري لكتاب أبقراط في الأخلاط مع أشياء أخر كثيرة ممّا قد ذكرناها في هذا الموضع. وقلت إنّه يجوز أن يكون عنى «بالنتف» العبث الذي نرى أصحاب اختلاط الذهن يعبثونه، كأنّهم ينزعون الزِئْبِر من الثياب والعيدان من الأرض والحيطان، ويجوز أن يكون عنى به عبث المريض بموضع من بدنه فيه علّة مؤلمة باطنة غائرة، حتّى كأنّه «ينتفه».
أيضاً يختلف بما كان منه أبعد من موضع العلّة وإلى عضو خسيس قليل الخطر، فهو أحمد، وما كان منه بالقرب من موضع العلّة أو في عضو شريف عظيم الخطر، فهو رديء.
ثمّ ذكر بعد «العرق والنافض» وأعراضاً أخر قد استقصينا صفة أمرها فيما تقدّم من تفسيرنا لكتبه. فقد وصفنا في تفسيرنا لكتاب الفصول وكتاب تقدمة المعرفة أمر «العرق والنافض والسعال والعطاس والفواق»، ووصفنا أيضاً في الكتب التي وصفنا أمر هذه الأشياء وسائر ما ينتفع به من جميع الأشياء في تعرّف الأحوال الحاضرة وتقدمة المعرفة بالأحوال المستأنفة.
ثمّ ذكر بعد هذا «البرد». وقد ينبغي أن ننظر هل يعني «بالبرد» برد البدن كلّه، أو برد الجلد وحده حتّى يكون باطن البدن يحترق جدّاً، أو برد الأطراف، أو الأجود أن يفهم عنه أنّه يعني هذا الأنحاء كلّها بحسب ما وصفنا من اختلاف المواضع وبحسب اختلاف الأوقات أيضاً. فإنّ ما يدلّ عليه البرد في أوّل نوبة الحمّى غير ما يدلّ عليه في وقت انحطاطها. ومتى بقي البرد أيضاً مع نوبة الحمّى منذ أوّلها إلى آخرها، فإنّه دليل غير محمود، وكذلك أيضاً متى كان ظاهر البدن بهذه الحال فكان باطنه يحترق جدّاً. وقد شرحت جميع هذه الأشياء في كتابي في البحران.
ثمّ قال بعد هذا «وأصناف الهواء». ويعني «بأصناف الهواء» أصناف التنفّس، لأنّه قد ذكر «الرياح» فيما بعد، وهي أيضاً من جنس «الهواء». وقد وصفت في تفسيري لكتاب تقدمة المعرفة وفي كتابي في رداءة التنفّس أصناف التنفّس واختلافه، ووصفت أيضاً أمر الرياح في تفسير كتاب تقدمة المعرفة.
وذكر «الجشاء». وما يخرج بالجشاء أيضاً من جنس «الهواء»، فهو من هذا الوجه مشارك لهواء التنفّس، والهواء الذي يخرج فيه من جنس «الرياح»، فهو من هذا الوجه أيضاً مشارك للرياح. فالجشاء أيضاً يدلّ على تولّد الرياح في أعلى البطن.
وما قاله أيضاً بعد هذا في آخر قوله بيّن، وذلك أنّ «الرعاف والدم الذي يجري من المقعدة» ربّما انتفع بهما وربّما ضرّا. وقد وصفنا الحال في ذلك.
(٢) قال أبقراط: الحمّيات منها دائمة، ومنها ما يأخذ بالنهار ويفتر بالليل أو يأخذ بالليل ويفتر بالنهار، ومنها مجانبة للغبّ، ومنها غبّ، ومنها ربع، ومنها خمس، ومنها سبع، ومنها تسع.
قال جالينوس: إنّا نجد القدماء يستعملون اسم «الحمّى الدائمة والتي تفتر» على وجهين: فربّما سمّوا «بالدائمة» كلّ حمّى لا تقلع حتّى ينقّى صاحبها منها، وربّما خصّوا بهذا الاسم الحمّى التي لا يكون فيها اختلاف محسوس إلى أن يأتي فيها البحران. وكذلك يخصّون مرّة باسم «الحمّى التي تفتر» الحمّى التي تقلع حتّى ينقّى صاحبها منها، ومرّة يسمّون بها هذا والتي لا تقلع عنه الحمّى حتّى ينقّى منها، لكنّها تختلف اختلافاً ذا قدر في نوائب جزئيّة تحدث لها بسبب ابتداء النوائب وتزيّدها وبلوغها منتهاها وانحطاطها.
وقد خصّ قوم من الأطبّاء ممّن أتى بعد الحمّى التي لا يكون فيها اختلاف ذو قدر باسم «الحمّى المطبقة»، وجعلوا اسم «الحمّى الدائمة» للحمّى التي لا
تقلع حتّى ينقّى منها البدن، ولها مع ذلك نوائب جزئيّة تختلف بها حالاتها. وهي الحمّى التي ربّما سمّاها القدماء «دائمة» 〈وربّما〉 سمّوها بالتي «تفتر»، وذلك أنّها بالحقيقة متوسّطة بين الحمّى المطبقة وبين الحمّى التي تقلع حتّى ينقّى منها البدن. فلذلك وجب، متى قيست إلى الحمّى المطبقة، أن يقال إنّها «تفتر»، ومتى قيست إلى الحمّى التي تقلع، قيل إنّها «دائمة».
ووصف أبقراط في هذا الكلام الذي تقدّم أصناف الحمّى. فقال إنّ منها «دائمة»، وأصناف «الحمّى الدائمة» على المعنيين جميعاً اللذين ينتظمها اسم «الدائمة» كثيرةً: ومنها «ما يفتر بالليل أو بالنهار»، فهذه الحمّى منها ما يفتر ولا يقلع، وقد سمّى من أتى بعد من الأطبّاء هذه الحمّى «بميطامارينوس»، ومنها ما يقلع حتّى ينقّى منها البدن، وقد سمّاها أولائك الأطبّاء «أمفيمارينوس».
وليس نجد هذا الاستقصاء والتدقيق في اسميه عند القدماء، لكنّا نجدهم، كما قلت، يقولون إنّ الحمّى «تفتر»، وهم يريدون أحد معنيين أو الإقلاع. وأمّا النقصان فالحمّى التي تنوب في كلّ يوم أو في كلّ ليلة يقولون إنّها «تفتر»، كان فتورها مع إقلاع أو كان إنّما تنقص فقط.
ثمّ عدّد بعد هذا أصنافاً أخر من الحمّيات فذكر «المجانبة للغبّ، والغبّ، والربع، والخمس، والسبع، والتسع». فأمّا «الغبّ والربع» فنراهما عياناً يقلعان حتّى ينقّى البدن منهما. وأمّا الحمّى «المجانبة للغبّ» فمنهم 〈من〉 يعدّها في الصنفين جميعاً، ومنهم من يعدّها في أحد الصنفين فقط، وهو صنف الحمّيات التي تقلع. وإن تفكّرتَ في أنّه كما أنّ الحمّى التي تنوب في كلّ يوم منها، كما
قلت، منها ما يقلع ومنها ما ينقص من غير أن يقلع، كذلك أيضاً الحمّى التي «تنوب في اليوم الثالث» هي صنفان، علمتَ علماً يقيناً أنّ هذا الاختلاف وهذه المطالبة ليست في نفس المعنى، لكنّ فيما يدلّ عليه الاسم، أعني قولنا «مجانبة للغبّ».
وأمّا الحمّيات التي «تنوب في اليوم الرابع» فقد يعلم أنّها تقلع حتّى ينقّى منها البدن في أكثر الأمر، ولا نكاد نرى أحداً ممّن تنوب حمّاه في الرابع لا تقلع عنه حمّاه. وليس الحال كذلك في الحمّيات التي «تنوب في الثالث»، لكنّك تراها كثيراً ما تقلع وكثيراً ما لا تقلع. والاختلاف والمطالبة في هذه، كما قلت، ليس هو في المعنى، لكنّه في الاسم وما يدلّ عليه، أعني أيّ هذه الحمّيات ينبغي أن تسمّى «غبّاً»، وأيّهما ينبغي أن تسمّى «مجانبة للغبّ»، وأيّهما ينبغي أن تسمّى «شبيهة بالغبّ».
وأمّا أمر الحمّى التي «تنوب في الخامس أو في السابع أو في التاسع» فليس الاختلاف والمطالبة فيها في الاسم وما يدلّ عليه الاسم، لكنّه في نفس المعنى. وذلك أنّ قوماً من الأطبّاء يقولون إنّهم لم يروا قطّ نُوَب حمّى جاوزت الرابع، وقوم يقولون إنّهم قد رأوا ذلك، كما قال أبقراط.
وقد تفقّدت منذ حداثتي إلى هذه الغاية فما رأيت بتّة حمّى «دارت في السابع» ولا في «التاسع»، لا رؤية بيّنة ولا خفيّة مشكوك فيها. وأمّا حمّى «دارت في الخامس» فقد رأيت، إلّا أنّها دورة خفيّة مشكوك فيها، لا رؤية صحيحة بيّنة مثل ما قد نرى دور الحمّى النائبة في كلّ يوم والنائبة غبّاً وربعاً. ولست أرى أنّه
يحتاج في هذا الباب إلى برهان قياسيّ، إذ كان إخباره يكون بالتجربة. وذلك أنّه إن رأى رؤية صحيحة حمّى قد دارت أدواراً كثيرة في «اليوم السابع» أو في «لتاسع»، فإنّه ليس يكتفي بأن تكون إنّما نابت مرّتين أو ثلاثاً فقط، فصحّ عند ذلك الإنسان أنّه قد يكون من الحمّى ما يدور هذه الأدوار. فإن لبث الإنسان منذ حداثته إلى شيخوخته، وهو يعود المرضى المحمومين ويتفقّد أدوار حمّياتهم حتّى يكون قد رآهم عدداً كثيراً جدّاً، فلم ير من «دارت عليه الحمّى في السابع» أو «في التاسع»، فقد صحّ له أيضاً أنّه ليس تكون حمّى تدور هذه الأدوار.
وأمّا أبقراط خاصّة فلمحتجّ أن يحتجّ عليه بحجّة قياسيّة، كما احتجّ ديقليس، وذلك أنّه «لا تقدر أن تقول من أيّ العناصر أو الأخلاط تكون الحمّى التي تدور في الخامس أو في السابع أو في التاسع». ونجده أيضاً مع ذلك لم يصف حال مريض كانت حمّاه تدور هذه الأدوار، على أنّه قد كان ينبغي، كما وصف لمعانٍ أخر كثيرة كلّيّة مثالات من الأشياء الجزئيّة، كذلك يكون قد فعل في هذه الحمّيات.
(٣) قال أبقراط: وأحدّ الأمراض وأعظمها وأصعبها وأقتلها الأمراض التي الحمّى فيها دائمة.
قال جالينوس: أمّا صفة هذه الأمور كلّها على الاستقصاء فقد أتيت عليها في كتابي في أصناف الحمّيات. وأمّا في هذا الكتاب فليس غرضي، كما قد قلت مراراً كثيرة، أن آتيَ بالبرهان على صحّة هذه الأشياء، ولا أن أستقصي صفة الأمور
الجزئيّة كلّها حتّى لا أدع منها شيئاً، لكنّ غرضي إنّما هو أن أشرح كلام أبقراط وأبيّنه ولا أدع مع ذلك، متى جرى ذكر باب من الأبواب، أن أصف جُمَله.
فالذي يقول أبقراط في هذا الموضع هو أنّ «أحدّ الأمراض وأعظمها وأصعبها» هي «الحمّيات الدائمة». ويعني «بأحدّ الأمراض» الأمراض التي يأتي فيها البحران في أقلّها مدّة من الزمان، ويعني «بأعظم الأمراض» أقواها وأشدّها، ويعني «بأصعب الأمراض» الأمراض التي هي أعظم الأمراض خطراً. ولمّا أراد أن يشرح هذا المعنى، أردف قوله «أصعبها» بأن قال «وأقتلها». وعلى أيّ المعنيين اللذين ينتظمها اسم «الحمّى الدائمة» فهمتَ قوله في هذا الموضع، وجدتَ قوله قولاً صحيحاً حقّاً، وذلك أنّ «أحدّ الأمراض وأصعبها» هي الحمّيات التي تشخّص باسم «المطبقة»، وسائر الحمّيات الدائمة التي يجري أمرها على نوائب جزئيّة لكلّ واحد منها ابتداء وتزيّد وانتهاء وانحطاط بيّن من غير أن تقلع حتّى ينقّى البدن منها.
والأجود أن يفهم قوله في هذا الموضع عامّاً لجميع الحمّيات الدائمة، لأنّ الحمّيات المطبقة محصورة في الحمّيات الدائمة، وليس كلّ حمّى دائمة محصورة في المطبقة. فإن أنت فهمتَ عنه من قوله هذا أنّه إنّما يعني الحمّيات المطبقة فقط، وجب أن تتوهّم أنّه قد أخرج سائر الحمّيات الدائمة من هذا الحكم، فتكون تلك ليست بعظم الخطر ولا قويّة ولا حادّة.
(٤) قال أبقراط: وأسلم الحمّيات كلّها وأسهلها الربع، وإن كانت أطولها، وذلك أنّها ليست في نفسها كذلك فقط، لكنّها قد تخلّص من أمراض أخر عظيمة.
قال جالينوس: قوله «إنّ الربع أسهل الحمّيات» يعني به أنّها أخفّها على البدن، حتّى يكون احتمالها عليه في الشتاء أسهل من احتمال سائر الحمّيات.
وذلك أنّ الحمّيات الدائمة، إذا كان ليس يكون فيها للبدن راحة حديثة من الأشياء المؤذية إلى أن يأتي البحران، لكنّها تؤلم البدن دائماً، وجب أن يقال إنّها ثقيلة على البدن، وإنّه لا يسهل عليه احتمالها، وإن يكون كذلك. وأمّا حمّى الربع، وخاصّة متى كانت ضعيفة ليّنة، فقد يبلغ من استقلال البدن لها أنّ صاحبها يخرج من منزله في اليومين اللذين بين كلّ نوبتين منها، وربّما عالج ما كان من عادته أن يعالجه.
وينبغي أن تعرف هذا من عادة القدماء في كلامهم في الحمّيات، وذلك أنّه متى كانت الحمّى إنّما هي تابعة لورم حدث في الكبد أو في الرئة أو في الطحال أو في الجنب أو غير ذلك من الأعضاء، فإنّما يسمّون ذلك المرض «ذات الجنب» أو «ذات الرئة» أو «ذات الطحال» أو «ذات الكبد»، ولا يسمّونه «حمّى» فقط. وإنّما يعنون «بالحمّى»، إذا قالوا في مرض إنّه محموم أو إنّ به حمّى، الحمّى التي تكون عن غير ورم.
فعلى هذا الطريق فافْهَمْ قوله في هذا الموضع في الحمّيات التي يصفها: وإلّا فقد رأينا مراراً كثيرة قوماً كثيراً أصابهم حمّى ربع بسبب طحال عظيم كان بهم، ثمّ أصابهم على طول الأيّام استسقاء فماتوا، فأمّا نفس حمّى الربع من تلقائها نفسها فسليمة لا خطر فيها، حتّى قد يكون بها «التخلّص من أمراض أخر عظيمة». فقد رأيت قوماً كان بهم صرع وأمراض أخر من أمراض الرأس، فبرئوا من تلك الأمراض بربع أصابتهم فطالت بهم.
وقد وصفت لك كيف يكون تولّد الربع في كتابي في أصناف الحمّيات وفي كتابي في البحران.
(٥) قال أبقراط: وأمّا الحمّى المجانبة للغبّ التي يقال لها «شطر الغبّ» فقد تكون منها أمراض حادّة، وهذه الحمّى أقتل سائر الحمّيات. وتكون منها أيضاً خاصّةً أمراض السلّ وغير ذلك من الأمراض الطويلة.
قال جالينوس: قد أعياني في قبول الأطبّاء في أن يعرفوا بين النظر والبحث عن نفس المعاني وبين النظر والبحث عن الأسماء وما تدلّ عليه. وإنّه يجب في العدل أن يُقدّروا، وذلك أنّه إذ كان أغاثينس قد جعل المقالة الأولى كلّها في كتابه في الحمّيات في الحمّى المجانبة للغبّ، وكان قصده فيه أن يبحث على ماذا يدلّ هذا الاسم، فكيف لا يجب أن يقدّر هؤلاء؟ وقد كان الأسهل أن يُفرد صفة ما يرى في مداولة المرضى على حدته ويُفرد البحث عن أسماء تلك الأشياء على حدته، كما أنا فاعل الآن.
فإنّي أقول إنّ الحمّيات التي تنوب في اليوم الثالث منها ما يقلع بتّة حتّى ينقّى البدن منها ومنها ما لا يقلع. ولكلّ واحد من هذين الصنفين أيضاً صنفان، وذلك أنّ ما كان من هذه الحمّيات يقلع فمنها ما تنقضي نوبته في اثني عشرة ساعة وفيما دون ذلك ومنها ما تمتدّ وتتطاول نوبتها أكثر من ذلك.
وما كان من هذه الحمّيات لا يقلع فمنها 〈ما〉 اقشعرار به، وهي أن تكون الحمّى تبتدئ منذ أوّل أخذها، ثمّ تتزيّد، فإذا ظننتَ أنّها قد تزيّدت تزيّداً صالحاً، عاودت ثانيةً باقشعرار وانقباض، ثمّ أخذت ثانيةً في التزييد، ثمّ انقبضت ثالثةً وعاود فيها الاقشعرار. وربّما عاودت هذه المعاودة مرّتين وربّما عاودت ثلاث مرّات. وأمّا في اليوم الثاني فتكون فيها نوبة أخرى أقلّ من النوبة الأولى من غير العودات التي
وصفنا. ثمّ يدور ذلك على توالٍ، فتكون في كلّ يومين نوبتان على مثل حال النوبتين اللتين وصفت.
ومن هذه الحمّيات أيضاً حمّيات أخر تنوب دائماً في اليوم الثالث من غير أن تبتدئ بالاقشعرار الذي وصفت ومن غير أن يعاود فيها ذلك الاقشعرار المعاودة التي ذكرت، ولا تكون فيها للحمّى إلّا نوبة واحدة تدور دائماً في اليوم الثالث، ولا تكون في اليوم الثاني للحمّى نوبة. وتزيّد نوائب هذه الحمّى منذ أوّلها إلى منتهاها تزيّد واحد متّصل مستوٍ.
فهذه أصناف الحمّيات التي تدور في اليوم الثالث. وإن تفقّدتَ المرضى، وجدتَها تكون كثيراً.
وقد بيّنت أنّ ما كان من هذه الحمّى فيه اقشعرار فيكون من مرار يخالطه بلغم، وما كان منها من غير اقشعرار فهو يكون من مرار، إلّا أنّه مرار تعسر حركته ويبطئ نضخه. وقد تجلب لها هذه الحمّى أيضاً أورام تكون في أعضاء شريفة لها خطر. وأمّا الحمّيات التي يكون ابتداؤها مع نافض وتقلع حتّى ينقّى البدن منها ويكون معها قيء مرار واختلاف مرار، فسببها المرّة الصفراء إذا تحرّكت وانتشرت في البدن كلّه.
فإذا كان الأمر في هذه الأشياء على ما وصفنا، فإنّ البحث عن سبب كلّ واحد من هذه الأشياء وعن علاجه أمر طبّيّ يحتاج إليه وينتفع به. وأمّا البحث عن الاسم الذي ينبغي أن يسمّى به كلّ واحد من هذه الأشياء على الصواب فليس هو من صناعة الطبّ، ولكنّه قد يضطرّ إليه من أراد تعليم غير هذه الأشياء أو قراءة كتب غيره فيها، وإنّا قد نرى أنّه ليس يحتاج في تعرّف حالات المرض الحاضرة
في أمراضهم وتقدمة المعرفة بما تؤول إليه وما يحتاج إليه في علاجها إلى استقصاء أمر الأسماء.
ولسنا نرى أيضاً الناس يمتحنون الأطبّاء بهذا، لكنّهم إنّما يمدحون الطبيب إذا رأوا المريض قد وجد راحة من فصد فصد الطبيب، أو رأوا قد أطعمه طعامه في وقته، فإنّ هذا أيضاً ممّا يقدر من ليس عنده علم بالطبّ أن يمتحنه ويختبره. فمتى يرى أنّه ليس على المكان حين يُطعم الطبيب المريض طعامه تبتدئ به الحمّى، لكنّ من بعد مدّة طويلة، ومتى أيضاً يُسقي الطبيب المريض ماء بارداً أو أدخله إلى الحمّام فأقلعت عنه الحمّى، فإنّ الناس يحمدونه ويعجبون به، وكذلك متى تقدّم فأخبر بشيء ممّا هو كائن.
فبهذه الأسباب يحمد الطبيب الحمد الصحيح. فأمّا من شأنه طريق السوفسطائيّة فإنّه يفني عمره وأعمار من يصغي إليه في الخصومة في الأسماء وما تدلّ عليه.
ولمّا كان غرضنا في هذا الكتاب ليس هو صفة المعاني التي تحتاج إليها في الطبّ، فقد قلنا ذلك في كتب أخر وبلغنا منه مقدار الكفاية، لكنّ غرضنا في هذا الكتاب إنّما هو البحث عن معنى أبقراط في هذا الكلام، فقد يمكن أن نأتي على ذلك بالاقتصار على هذا الوجه.
فأقول إنّه قد قال فيما تقدّم: «إنّه كانت الأعراض التي عرضت لأكثرهم: حمّيات اقشعراريّة دائمة حادّة لا تفارق أصلاً، إلّا أنّ طريق هيجانها مجانب للغبّ، فتكون في يوم أخفّ ثمّ تكرّ في الآخر»، ثمّ قال في هذا الكلام الذي
نحن في تفسيره: «فأمّا الحمّى المجانبة للغبّ فقد تكون منها أمراض حادّة، وهذه الحمّى أقتل سائر الحمّيات»، فالأمر بأنّ هذه الحمّى حمّى «قتّالة» قد حدّده أبقراط وصرح به. فأمّا الأمر في أنّ كلّ حمّى تقلع فليست بقتّالة فقد دلّ عليه في كتاب الفصول حين قال: «إنّ كلّ حمّى لا تفارق ثمّ تقوى دائماً في اليوم الثالث فهي حمّى ذات خطر، وعلى أيّ وجه فارقت، فهي تدلّ على أنّه لا خطر فيها».
فكيف يجوز لقائل أن يقول إنّ الحمّى المجانبة للغبّ هي من الحمّيات التي تقلع — وهو متبع في قوله ذلك أبقراط — وقد يعلم أنّ الذين يقولون إنّ من حمّ أربع وعشرون ساعة، ثمّ أقلعت عنه الحمّى أربع وعشرون ساعة — فحمّاه حمّى مجانبة للغبّ متوسّطة — يجعلون هذه الحمّى من الحمّيات التي تفارق؟ وكذلك أيضاً لمّا كانوا يجعلون الحمّى المجانبة للغبّ القصيرة والطويلة إنّما تخالف هذه المتوسّطة بعدد الساعات، ويشيرون إلى أنّهما جميعاً تقلعان، فهم بذلك يبعدون من رأي أبقراط، وذلك أنّهم يعدّون الحمّى المجانبة للغبّ في الحمّيات المفارقة. وإذا كانت كذلك، كانت لا خطر فيها، وأبقراط يقول إنّها قتّالة.
فالأجود أن يستخفّ بالأسماء، كما قلت، ويقصد للرياضة في تعرّف كلّ واحد من الحمّيات وتقدمة المعرفة بها وعلاجها. ولمّا كان التعليم الذي يكون بالأسماء أبين وأوجز، فإنّي أتقدّم فأصف بالقول أصناف الحمّيات التي تنوب في اليوم الثالث وأحدّدها على ما فعلت قبيل، وأسمّي كلّ واحدة منها باسم خاصّ، كما قد عادتي أن أفعل دائماً.
وإذ قد لخّصت أصناف الحمّيات التي تنوب في اليوم الثالث، فإنّي أتبع ذلك بأن أقول إنّ اسم الحمّى التي تنقضي نوبتها في اثني عشرة ساعة أو قبل ذلك «غبّاً خالصة»، فيكون كلامنا فيها وجيزاً. وأمّا الحمّى التي نوبتها أطول من نوبة هذه، إلّا أنّ وقت سكونها على حال وإقلاعها أطول من وقت أحدهما، فإنّي أسمّيها «حمّى غبّ بقول مطلق». وأمّا الحمّى التي نوبتها طويلة جدّاً ووقت مفارقتها يسير فإنّي أسمّيها «الحمّى الغبّ الطويلة». وأمّا الحمّى التي لا تقلع، وتكون فيها في اليوم الأوّل العودات الاقشعراريّة التي وصفنا وفي اليوم الثاني نوبة أخرى مستوية، فإنّي أسمّيها «الغبّ» «وشطر الغبّ». فأمّا الحمّى التي لا تقلع وتنوب غبّاً من غير أن تكون فيها هذه الأعراض التي وصفنا أنّها تكون في المجانبة للغبّ فإنّي أسمّيها «الشبيهة بالغبّ».
فقد لخّصت لك في هذا القول جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب، فميّزت بين ما يحتاج إليه وبين ما لا يحتاج. وبقي عليك أن تحفظ عنّي ويكون حاضراً لذكرك دائماً. فإنّك إن فعلتَ ذلك، انكشف لك عورات الحدث من الأطبّاء في كثرة تميّزهم وعنائهم في هذه الأسماء التي ذكرتها، وهم يرون في أنفسهم مع ذلك إنّما هو في المعاني لا في الأسماء.
وقد بيّنت أنّ أبقراط ليس يسمّي شيئاً من الحمّيات التي تقلع «مجانبة للغبّ». فأمّا الأمر في غير ذلك من حالها عنده فيحتاج فيه إلى نظر، أعني هل إنّما يسمّي «بالمجانبة للغبّ» تلك الحمّى خاصّة فقط التي من عادتي أن أسمّيها بهذا الاسم، وهي التي تكون فيها العودات الاقشعراريّة، أو هل يسمّي بهذا الاسم أيضاً الحمّى التي تساويها في سائر الحالات، ما خلا أنّه لا تكون فيها تلك
العودات الاقشعراريّة. وذلك أنّه قد قال إنّ هذه الحمّى من عادتها أن تعرض لأصحاب «السلّ» ولغيرهم ممّن «يطول مرضه»، فخليق أن يكون بحسب هذا، وإن كانت هذه الحمّى تكون من غير اقشعرار، قد يسمّيها «مجانبة للغبّ»، إذ كانت لها في اليوم الثاني نوبة.
إلّا أنّ الأمر على ما وصفت من أنّه إذا كان البحث والطلب في هذا إنّما هو للاسم لا للمعنى، فليس يضرّنا ألّا نعلم علماً يقيناً أيّ الحمّيات الحمّى التي يسمّيها خاصّة أبقراط الحمّى «المجانبة للغبّ»، لأنّه قد تمكّنّا أن نستفيد منه العلم بأمر الحمّيات ونسترعيه عن آخره، فيكون عندنا جميع ما يحتاج إليه في أعمال الطبّ، من غير أن يكون بنا إلى الأسماء حاجة التي يسمّي بها.
ويشبه أن يكون ممّا يليق بالتفسير أن يبحث عن السبب الذي من أجله زاد أبقراط في قوله «التي يقال لها ‹شطر الغبّ›» ولم يطلق القول فيقول: «وأمّا الحمّى المجانبة للغبّ التي هي شطر الغبّ فقد تكون منها أمراض حادّة». وأنا أرى أنّه يومئ بقوله هذا إلى أنّه ذامّ لهذا الاسم، لأنّه وضع على غير حقيقة. وذلك أنّ من عادتنا، معشر اليونانيّين، أن نقول في الشيء إنّه «شطر الشيء» إذ كان ذلك الشيء الذي ينسب إلى أنّه «شطر» أنقص من ذلك التامّ الذي إليه ينسب فيقال إنّه «شطره». وهذه الحمّى التي تسمّى «شطر الغبّ» هي أزيد في الرداءة كثيراً من حمّى الغبّ، فضلاً عن ألّا تكون «شطراً» منها في عدد الأعراض الذي كان يعرض فيها أو في قوّة جملة العلّة. فالأولى كان بحسب هذا أن تسمّى الغبّ «شطر» هذه الحمّى، لا أن تسمّى هذه الحمّى «شطر الغبّ».
فما أدري ما دعا الواضع الأوّل لهذا الاسم إلى تسمية هذه الحمّى به، ومن تهيّأ له فرانح فهو قادر أن يبحث عن أمر هذا الاسم عن شيء. وإن وقع الطالب
له منه على الحقيقة، لم يمكنه أن يعلم علماً يقيناً أنّه قد وقف عليه، وهو هل المعنى الذي ذهب إليه الذين وضعوا هذا الاسم هو المعنى الذي قاله أغاثينس أو غيره. وذلك أنّه قد يمكن أن يكونوا، لمّا رأوا حمّى الغبّ تنوب في اليوم الثالث وتقلع، ورأوا هذه الحمّى المجانبة للغبّ فيها إحدى هاتين الحالتين وليس فيها الحال الأخرى، سمّوها «شطر الغبّ»، وذلك أنّ هذه الحمّى أن تنوب في الثالث وليس لها أن تقلع. ويمكن أن يكون إنّما سمّوها بهذا الاسم لأنّه ليس يكون في ابتداء نوبتها نافض، ومع ذلك أيضاً فلأنّه ليس يكون سكونها باستفراغ، ولأنّه ليس يخلو †…† البدن أيضاً فيها في اليوم الثاني من النوبة.
ويمكن أن يقول في هذا أشياء كثيرة غير ما قلت من يصرف فطنته إلى ما لا ينتفع به ويدع الأمور التي ينتفع بها من علم الطبّ.
(٦) قال أبقراط: فأمّا الحمّى الليليّة فليست بالقتّالة جدّاً، وهي طويلة. وأمّا الحمّى النهاريّة فأطول منها، وربّما مالت في بعض الأبدان إلى السلّ.
قال جالينوس: أبقراط أيضاً يصف الآن حال كلّ واحدة من الحمّيات التي عدّدها تعديداً مطلقاً في ابتداء كلامه في سلامتها وخبثها. فلمّا كان قد قال في ذلك التعديد: «إنّ الحمّيات منها دائمة، ومنها ما يأخذ بالنهار ويفتر بالليل أو يأخذ بلليل ويفتر بالنهار»، ثمّ وصف حال الحمّيات الدائمة، ثمّ وصف بعدها حال الربع وحال الحمّى المجانبة للغبّ، صار الآن إلى صفة الحمّيات التي تنوب بالنهار 〈وتفتر بالليل والتي تنوب بالليل وتفتر بالنهار〉، وسمّى إحداهما «نهاريّة»
والأخرى «ليليّة». وأمّا التي تنوب بالليل فسمّاها «ليليّة»، وأمّا التي تنوب بالنهار فسمّاها «نهاريّة». والشيء الذي كان مدح به الحمّى الليليّة قد ذمّها به، وذلك أنّه لم يطلق قوله فيقول: «إنّ الحمّى الليليّة ليست بقتّالة»، لكنّه ألحق فيه «جدّاً». فإن كانت هذه الحمّى «ليست بقتّالة جدّاً»، فبيّن أنّها قتّالة على كلّ حال، وإن كانت هذه الخصلة فيها ضعيفة. فأمّا الحمّى النهاريّة فلم يقتصر على أن ينسبها إلى أنّها «أطول»، حتّى ينسبها إلى أنّها «ربّما مالت إلى السلّ». فيجب من هذا أن يكون من هذا الوجه أيضاً أردأ من تلك.
ورداءة هذه الحمّى من وجهين: أحدهما أنّها كانت تنوب في الوقت الذي من شأن البدن أن يكون إلى أن يتحلّل ويسخف وتتّسع مسامّه أقرب منه إلى أن ينقبض ويتكاثف، وجب أن يكون أخبث وأردأ. والوجه الثاني أنّ الوقت الذي يدبّر فيه ما يحتاج إليه من التدبير وقت مكروه، وذلك أنّ الطبيب يضطرّ إلى أن يدبّر المريض بما يحتاج إليه من التدبير في الوقت الذي كان ينبغي أن ينام فيه المريض. ولذلك ينتقض بدنه على طول الأيّام ويصير إلى حال السلّ، لأنّه بين حالتين، بين ألّا ينام بالليل فيكون لا يستوفي نومه، وبين أن ينام بالنهار فيكون عيشه بعيش الخفاش أشبه منه بعيش الناس.
(٧) قال أبقراط: وأمّا السبع فطويلة وليست بقتّالة. وأمّا التسع فهي أطول منها وليست أيضاً بقتّالة.
قال جالينوس: إنّه ما يحسن بك ألّا تصدّق أبقراط، إذ كان قد يدلّ بكلامه هذا أنّه إنّما كتب هذا بعد أن رآه. ولا ينبغي أيضاً أن تتكذّب فتقول إنّك أنت أيضاً قد رأيتَ ذلك، وأنت لم تره. وإنّما ينبغي أن تتفقّد هذا بعناية وتختبر حقيقته بالتجربة وتحذر أن يعرض لك شيء شبيه بما عرض لكثير من الناس، وذلك أنّهم رأوا إنساناً قد اتّفق له أن حمّ في يوم من الأيّام، ثمّ حمّ ثانيةً في اليوم السابع من ذلك، ثمّ ثالثةً في اليوم السابع من الثاني، وظنّوا بأنّ هذا الدور دور حمّى سباعيّة.
فإنّه قد يمكن أن يكون هذا بالاتّفاق، ويمكن أن يكون من قبل مشابهة التدبير. وذلك أنّه قد يكون من المريض ألّا يكون مرضه يسكن عنه السكون الصحيح، لكن يبقى في بدنه من مرضه بقايا. فإذا لم يتحفّظ من هذه حاله في تدبيره، فكثيراً ما يعرض له أن يحمّ في السادس من اليوم الذي فارقته الحمّى، وكثيراً ما يعرض له أن يحمّ في اليوم السابع، وربّما حمّ في الثامن، وربّما حمّ في غيره من الأيّام، ثمّ تسكن عنه تلك الحمّى، ويظنّ أنّه قد تخلّص منها تخلّصاً صحيحاً. فتدبير مثل ذلك التدبير الأوّل فتعود حاله إلى الحالة الأولى في عدد مساوي العدد الأوّل من الأيّام بسبب البقايا التي بقيت في بدنه من مرضه. ويمكن أن يكون هذا مراراً كثيرة إذا كانت الخميرة التي تبقى من المرض متساوية، وقد كان المريض يتدبّر بتدبير واحد. وليس هذا دور المرض الصحيح متى كان تدبير المريض التدبير الصحيح وكانت الحمّى تعاود في وقت واحد، كما قد نرى ذلك يكون في الربع.
(٨) قال أبقراط: فأمّا الغبّ الخالصة فسريعة البحران وليست بقتّالة.
قال جالينوس: قد قلت قبيل إنّ «الغبّ الخالصة» بالجملة هي التي نوبتها قليلة المدّة. وأمّا الأشياء التي توجد في أكثر الحالات مع هذه الحمّى فقد وصفناها كلّها في كتابنا في أصناف الحمّيات وفي كتابنا في البحران.
(٩) قال أبقراط: وأمّا الحمّى الخماسيّة فأردأ الحمّيات كلّها، وذلك أنّها تكون قبل حدوث السلّ وبعد حدوثه، فتقتل.
قال جالينوس: أمّا حمّى أصحاب «السلّ» فالحمّى اللازقة الدقيقة التي تكون في نفس الأعضاء الأصليّة، وهي التي سمّوها اليونانيّون «أقطيقوس». إنّ هذه الحمّى حمّى ليس لها سكون في وقت من الأوقات. وقد وصفت لك طبيعة هذه الحمّى كلّها مع طبائع سائر الحمّيات في كتابي في أصناف الحمّيات.
لكنّي قد رأيت في بعض أصحاب السلّ تُركَّب مع هذه الحمّى حمّى أخرى من الحمّيات التي لها أدوار، إمّا غبّاً وإمّا في كلّ يوم. وأمّا أبقراط فيذكر أنّه تكون معها «الحمّى التي تنوب في الخامس»، وليكن الأمر عندك ما قلت لك قبيل في الحمّى التي تنوب في السابع وفي الحمّى التي تنوب في التاسع هو قولي لك في هذا الحمّى.
(١٠) قال أبقراط: ولكلّ واحدة من هذه الحمّيات جهة ونظام ونوائب، من ذلك أنّ الحمّى الدائمة قد تأخذ منذ ابتدائها بقوّة وتكون في غايتها من الشدّة والصعوبة،
ثمّ إنّها نحو وقت البحران ومع وقت البحران تخفّ، وربّما ابتدأت وهي ليّنة مدفونة، ثمّ إنّها تتفاقم وتستصعب في كلّ يوم وتلتهب غاية التهابها نحو البحران، وربّما ابتدأت بلين وهدوء، ثمّ تزيّدت واستصعبت إلى مدّة ما فبلغت منتهاها، ثمّ أخذت في النقص ودام ذلك بها إلى وقت البحران ونحو البحران. وهذه الأشياء قد تكون في كلّ حمّى وكلّ مرض.
قال جالينوس: أمّا «جهات الحمّيات» وضروبها فربّما عنوا بها حالاتها في السلامة والخبث وربّما عنوا بها أصنافها. وأمّا «نظام» الحمّى فيعنون بها طبيعتها وضروبها.
وقد بيّن عن نفسه ممّا أتى به بعد أنّه إنّما أراد أن يصف أصناف كلّ واحدة من الحمّيات التي ذكر، من ذلك أنّه قال: «إنّ الحمّى الدائمة ربّما ابتدأت وهي على أشدّ ما تكون، ثمّ خفّت» قليلاً قليلاً إلى أن يأتي فيها «البحران»، «وربّما ابتدأت وهي خفيفة ضعيفة، ثمّ تزيّدت» قليلاً قليلاً إلى وقت «البحران»، فكان «اشتغالها» في ذلك الوقت، والحركة في كلّ واحدة من هاتين الحمّيتين مضادّة للحركة في الأخرى. وفيها ضرب آخر ثالث مركّب من الضربين الأوّلين، وهو أن «تبتدئ الحمّى بسكون وهدوء ولين، ثمّ تتزيّد» قليلاً قليلاً إلى أن تستتمّ غاية شدّتها، ثمّ «لا تزال تنتقص» إلى أن تنقضي الانقضاء التامّ.
وقد ظنّ قوم بأبقراط أنّه يعني بهذه الضروب الثلاثة ضروب الحمّى المطبقة، ولم يفهموا ما قاله في آخر هذا الكلام من أنّ «هذه الأشياء قد تكون في كلّ
حمّى وفي كلّ مرض». فليس إذاً في الحمّيات المطبقة تكون هذه الضروب الثلاثة في قوله، لكنّها قد تكون في جميع الحمّيات الأخر، دائمة كانت أو مفارقة، وحادّة كانت أو مزمنة، وفي كلّ مرض غير الحمّى، حادّاً كان أو مزمناً. والأعراض كلّها أيضاً على هذا القياس تكون حركتها.
فاعْرِفْ ذلك في السلّ من الوجع: فإنّ الوجع ربّما ابتدأ وهو على أشدّ ما يكون، ثمّ ينقص ويسكن قليلاً قليلاً إلى أن ينقضي الانقضاء التامّ، وربّما «ابتدأ وهو ساكن خفيف»، ثمّ تزيّد قليلاً قليلاً إلى أن يبلغ إلى غاية شدّته، ثمّ انقضى انقضاء سريعاً، وربّما كان تنقّصه بعد بلوغه منتهاه على حسب تزيّده كان في زمان مساوٍ لزمانه.
(١١) قال أبقراط: فينبغي أن يكون تقديرك للغذاء بعد نظرك من هذه الوجوه.
قال جالينوس: إنّ أبقراط يريد منك أن تتقدّم فتتعرّف أمر حركة الأمراض كيما «تقدّر الغذاء» فيها على حسب ما يوافق كلّ واحد منها. فإنّ أبقراط إنّما يأمر أن يكون تقديرنا للغذاء دائماً بعد نظرنا في منتهى المرض متى يكون. وبذلك أمر في كتابه في تدبير الأمراض الحادّة وفي كتاب الفصول. وتقدر أن تتعلّم كيف ينبغي لك أن تتقدّم فتتعرّف هذه الضروب من الأمراض التي ذكر من كتابي في تفسير كتاب تقدمة المعرفة ومن كتابي في البحران. وقد ذكر أبقراط جمل تلك الأشياء التي تتعرّف منها هذا في هذه المقالة من كتابه في أوّل كلام فسّرناه في هذه المقالة في كتابنا.
(١٢) قال أبقراط: وللأمراض علامات أخر كثيرة ذوات خطر نظيرة لهذه قد وصفنا بعضها في بعض الكتب وبعضها سنصفها. فينبغي أن تنظر في تلك العلامات وتتدبّرها وتختبر بها أمر المرض في كلّ واحد من أصحاب هذه الأمراض هل هو حادّ سليم أو حادّ قتّال، أو طويل سليم أو طويل قتّال، ومن ينبغي أن تنيله شيئاً أو لا تنيله، ومتى وكم وما الشيء الذي ينبغي أن تنيله.
قال جالينوس: إنّ أبقراط قد تقدّم فوصف أشياء كثيرة منها ينبغي أن تكون تقدمة المعرفة، إلّا أنّه وإن كان الأمر كذلك، فإنّه يقول «إنّ للأمراض أعلاماً أخر»، منها قد «وصفها في بعض كتبه»، يعني في كتاب تقدمة المعرفة، ومنها «ما هو على صفته» فيما بعد.
(١٣) قال أبقراط: والأمراض التي تنوب في الأزواج يكون بحرانها في الأزواج، والأمراض التي تكون نوائبها في الأفراد يكون بحرانها في الأفراد.
قال جالينوس: قد قلنا مراراً كثيرة إنّ «البحران» إنّما يكون في أوقات «النوائب»، وذلك لشيئين: أحدهما أنّ الأخلاط في أوقات النوائب تتحرّك حركة شديدة حتّى كأنّها تغلي غلياناً، فبتلك الحركة والغليان تنبعث بالرعاف أو بالعرق أو بالقيء أو بالاختلاف أو بالدم الذي يجري من أفواه العروق التي تنفتح من أسفل أو بالطمث في النساء.
والسبب الآخر أنّ في ذلك الوقت تقصد الطبيعة لاستفراغ تلك الأخلاط، وذلك أيضاً لشيئين: أحدهما أنّ الأخلاط في ذلك الوقت تثقلها وتؤذيها فتهيّج لتدفعها وتستفرغها. والسبب الآخر أنّ الأخلاط في ذلك الوقت تكون ذائبة، وإذ كانت كذلك، فهي أحرى بأن يكون تميّزها أسرع وأسهل، ودفع الرديء منها أمكن وأهون.
(١٤) قال أبقراط: وأوّل أدوار البحرانات التي تكون في الأزواج هو الرابع، ثمّ السادس، ثمّ الرابع عشر، ثمّ العشرون، ثمّ الرابع والعشرون، ثمّ الثلاثون، ثمّ الأربعون، ثمّ الستّون، ثمّ الثمانون، ثمّ المائة والعشرون. وأوّل أدوار البحرانات التي تكون في الأفراد الثالث، ثمّ الخامس، ثمّ السابع، ثمّ التاسع، ثمّ الحادي عشر، ثمّ السابع عشر، ثمّ الواحد والعشرون، ثمّ السابع والعشرون، ثمّ الأحد والثلاثون.
قال جالينوس: لست أرى أنّه استعمل اسم «الدور» في هذا الموضع على حقيقته، وذلك أنّه إنّما عدّد الأيّام أنفسها [التي] على الولاء كلّها التي تكون فيها البحرانات. وأمّا في كتاب تقدمة المعرفة فوصف الأدوار التي تكون على حمّيات أربعة أربعة على حقائقها، فيشبه أن يكون في وقت ما كتب هذا كان بعد في الطلب والبحث عن علم أيّام البحران.
وقال: أمّا أوّل أيّام البحران من «الأزواج اليوم الرابع، وبعده السادس»، ثمّ من بعد «السادس» قد نجد في أكثر النسخ «الثامن والعاشر»، ونجد في بعض النسخ
من بعد «السادس» «الرابع عشر ثمّ العشرون»، ثمّ من بعد «العشرين» في بعض النسخ «الرابع والعشرون»، وفي بعضها لم يذكر هذا اليوم، ولكنّه جعل بعده «الثلاثين»، «ثمّ الأربعين، ثمّ الستّين، ثمّ الثمانين، ثمّ المائة والعشرين». وقال إنّ أوّل أيّام البحران من «الأفراد اليوم الثالث» منذ أوّل المرض، «ثمّ الخامس، ثمّ السابع، ثمّ التاسع، ثمّ الحادي عشر، ثمّ السابع عشر، ثمّ الواحد والعشرون، ثمّ السابع والعشرون، ثمّ الواحد والثلاثون».
وقد بيّنت في كتابي في أيّام البحران أنّ أقوى أيّام البحران الأيّام التي يجري حسابها على «أدوار» الأربعة الأربعة وعلى «أدوار» السبعة السبعة، وأنّ الأيّام التي تقع بينها من أيّام البحران أضعف من تلك. وقد وصفت في ذلك الكتاب السبب الموجب بحدوث البحران في تلك الأيّام التي تقع بين الأيّام التي يجري حسابها على «الأدوار».
وذكره ما ذكر من «الأفراد» كلّه صواب، وأمّا «الأزواج» فقد أحسن من أسقط من عددها ذكر «الثامن والعاشر»، لأنّ هذين اليومين ليس هما بتّة من أيّام البحران.
(١٥) قال أبقراط: وينبغي أن يعلم أنّه إن كان البحران في غير هذه الأيّام التي ذكرت، فإنّ المرض يعاود، وربّما آلت حال صاحبه إلى الهلاك.
قال جالينوس: قد بيّنت في ذلك الكتاب، أعني كتاب أيّام البحران، أنّ البحران المحمود الصحيح إنّما يكون في هذه الأيّام التي ذكرت قبيل. فأمّا
الأمراض التي «يكون بحرانها في غير هذه الأيّام» فكلّها غير مأمون أن «يعاود» منها ما، إذا عاود، «قتل».
(١٦) قال أبقراط: وينبغي أن تتدبّر وتعلم أنّ في هذه الأوقات يكون البحران إلى السلامة، أو إلى الهلاك، أو إلى الميل إلى الحال التي هي أجود، أو إلى الحال التي هي أردأ.
قال جالينوس: قد دلّك أبقراط في هذا الكلام على المعنى الذي يدلّ عليه اسم «البحران». وتقدر أن تصفه بقول وجيز فتقول إنّه تغيّر سريع يحدث للمرض يميل بالمريض إلى أحد الوجهين. وقد جرّد القول وبيّن أنّ التغيير الحادث للمرض يكون على أربعة أوجه: «إمّا إلى السلامة الثابتة، وإمّا إلى الهلاك التامّ، وإمّا ميل إلى الحال التي هي أجود، وإمّا ميل إلى الحال التي هي أردأ». وبيّن أنّ ذلك الميل ينبغي أن يفهم ميلاً ذا قدر، إلّا أنّ أبقراط لم يستبن ذلك فعلّمه، فإنّ ذلك داخل في المعنى العامّ الذي يدلّ عليه اسم «البحران».
(١٧) قال أبقراط: فأمّا الحمّيات المخلطة والربع والخمس والسبع والتسع فينبغي أن تنظر في أيّ الأدوار يكون بحرانها.
قال جالينوس: قد دلّك أبقراط بهذا القول أنّه في وقت ما كتب هذا أيضاً قد كان بعد في البحث والطلب عن هذا المعنى. وما تلك حاله في كتاب تقدمة المعرفة، لكنّك تجده في ذلك الكتاب قد علم وصحّ عنده أنّ «بحران» هذه الأمراض وغيرها يكون في تلك الأيّام التي ذكر. «والحمّى المخلطة»، وإن كانت
نوائبها الجزئيّة ليس تجري على نظام، لكنّ تقدمة المعرفة «بالبحران» الكائن فيها إنّما تكون بالعلامات التي تظهر في أيّام البحران.
وأمّا الحمّيات التي تقلع أدوارها حتّى ينقّى البدن منها مثل الغبّ «والربع» فقد وصفت معنى جهله كثير من الأطبّاء، وقد بلَوتُه واستخبرته دائماً في المرضى فوجدته صحيحاً قائماً: وهو أنّه لا ينبغي أن تحسب الأيّام متواليةً، لكنّها إنّما ينبغي أن تحسب عدد النوائب، كما قال أبقراط في الغبّ الخالصة في كتاب الفصول: «إنّ الغبّ الخالصة أطول ما، يكون يأتي فيها البحران في سبعة أدوار». وكما أنّ هذه الحمّى تنقضي في سبعة أدوار، كذلك على هذا القياس يكون انقضاء حمّى أخرى في تسعة أدوار وانقضاء أخرى في أحد عشر دوراً، وكذلك يجري الأمر على الولاء على حساب أيّام البحران. والأمر في «الربع» أيضاً جارٍ على هذا القياس، فقد قال أبقراط في كتاب تقدمة المعرفة: «إنّ سكون حمّى الربع أيضاً يكون على هذا النظام».
وقد أصاب أوديمس الفيلسوف ثلاث حمّيات ربع، فتقدّمت فحكمت عليه بهذا الطريق من العلم أنّ إحدى تلك الحمّيات الثلاث التي كانت تنوب في أيّام سمّيتها له تسكن عنه أوّلاً بعد «أدوار» حدّدتها له، فسكنت عنه في ذلك الوقت. ثمّ حكمت في الحمّى الثانية أنّها تنقضي في يوم حدّدته، ثمّ في الثالثة، فكان الأمر على ما تقدّمت فحكمت به. فقال فيّ قوم إنّي إنّما قلت ذلك من طريق
تكهّن، لا من علم الطبّ، على أنّهم يرون المتكهّنين لم يصدقوا قطّ في حكم تقدّموا فحكموا به برومية خاصّة، وإنّي لم أجرّب غيرهم ممّن في سائر المدن. وأمّا أنا فبتوفيق اللّه ما أخطأت قطّ في حكم تقدّمت فحكمت به.
وأنت أيضاً، أيّها القارئ لكتابي، إن رضيتَ نفسك فيما وصفته من أمر البحرانات، فإنّك ستصير بإذن اللّه إلى حال تستحقّ معها أن تنسب إلى أبقراط وصناعته. إلّا أنّ هذا الكلام منّي في هذا الموضع جرى على غير الغرض الذي قصدت له، فأنا راجع إلى تفسير هذا الكلام الذي قصدت لتفسيره.
فأقول إنّ أبقراط، كما شرح الكلام في أيّام البحران، وأنا على صفتها، بتسوّقه على آخرها في كتاب تقدمة المعرفة، كذلك شرح أمر الأدوار. ولم يذكر بتّة في موضع من مواضع «الدور الخماسيّ» ولا «السباعيّ» ولا «التساعيّ»، لا في كتاب تقدمة المعرفة ولا في كتاب الفصول، على أنّه قال في كتاب تقدمة المعرفة: «إنّ سكون حمّى الربع أيضاً يكون على هذا النظام»، وقال في كتاب الفصول: «إنّ حمّى الغبّ الخالصة يكون فيها البحران في سبعة أدوار»، وقد كان قادر أن يحكم بمثل هذا الحكم في «الحمّى الخماسيّة والسباعيّة والتساعيّة» فيقول: «إنّ سكون الحمّى الرباعيّة والخماسيّة والسباعيّة والتساعيّة يكون على هذا النظام».
في ذكر المرضى الذين وُصفت حالاتهم في المقالة الأولى من كتاب إفيذيميا:
إنّ الأبلغ عندي في إيضاح ما أريد شرحه ممّا وصف من حال أولائك المرضى وفي إيجاز القول فيه أن أقدّم قبل ذكر واحد 〈واحد〉 منهم كلاماً عامّاً في جمعهم.
فأقول إنّي قد بيّنت في كتابي في طريق الحيلة للبرء وفي غيره من كتبي أنّ استخراج ما يطلب ويبحث عنه من الأمور يكون على وجهين: أحدهما يكون بالقياس، فيوصل به إلى معرفة النوع الكلّيّ العامّ لجميع الأشياء الجزئيّة، والآخر يكون بالتجربة للأشياء الجزئيّة، حتّى يوصل بها إلى الأمر العامّ الكلّيّ. وإنّ جميع المعاني التي بها تقوم وتتمّ كلّ صناعة كلّها كلّيّة، فأمّا الأعمال التي يعملها كلّ واحد من أصحاب الصناعات فإنّما تكون في الأشياء الجزئيّة التي لا تنقسم. وإنّ الذي قد استخرج أوّلاً ووصف على الأمر العامّ قد يحتاج إلى الارتياض في تلك الأشياء الجزئيّة، وإنّه قد ينتفع بتصحيح تلك الأمور الكلّيّة التي قد استخرجت وتأكيدها بالأشياء الجزئيّة. وينتفع بها أيضاً في تفهّم ما يقصد المتفهّم لفهمه، إذ كانت تقوم له مقام المثال فتدلّه على الأمر العامّيّ الذي يشار له إليه.
ولذلك لم أقتصر في الكتب التي وصفتها على صفة الأمور الكلّيّة، حتّى وصّلت معها الأمور الجزئيّة، فأضفت إلى كلّ معنى كلّيّ قصدت بسببه كلاماً من كلام أبقراط في كتبه، وخاصّة من كتاب إفيذيميا، وصف فيه ما حدث لمريض مريض من المرضى الذين شاهدهم منذ أوّل مرضهم إلى آخره. فقد اقتصصت في كتابي في رداءة التنفّس أقاصيص جميع المرضى الذين ذكر أبقراط
في كتاب إفيذيميا أنّهم تنفّسوا تنفّساً رديئاً، واقتصصت في كتابي في أيّام البحران أقاصيص جميع المرضى الذين وصف أبقراط أنّه أتاهم البحران، وعلى هذا المثال اقتصصت أمورهم في سائر كتبي. ولذلك قد كان يستغني بما وصفته في تلك الكتب من كان قصده المبادرة إلى أعمال الطبّ، حتّى لا يحتاج معه إلى أكثر من ذلك من الشرح والتفسير، إلّا أنّه لمّا كان في خلال تلك الأقاصيص كلام غامض رأيت أنّ الأجود إذاً أن أجعل التفسير أيضاً.
وإن أنا وصفت أمر طبيعة كلّ واحد من تلك الأعراض التي ذكر أبقراط أنّه حدثت في كلّ واحد من تلك الأمراض حتّى يستقصيها على آخرها، أو وصفت الأسباب التي يكون حدوث كلّ واحد من تلك الأعراض منها، احتجت إلى نقل إلى هذا الكتاب كلّ ما وصفته في جميع كتبي، واضطرّني الأمر إلى أن أضع في كلّ مريض من هؤلاء المرضى مقالة بأسرها. فإن أنا اقتصرت على أن أجعل أقاصيص هؤلاء المرضى مثالات لتلك الأحكام الكلّيّة التي حكم بها في كتاب تقدمة المعرفة، وأرشدت المتعلّم في جميع ما يحتاج إلى تعلّمه إلى الكتب التي قد وصفتها، رجوت أن يكون كلامي كلاماً وجيزاً.
قصّة فيلسقس:
(١٨) قال أبقراط: فيلسقس الذي كان يسكن عند السور لزم الفراش منذ أوّل يوم، وكانت حمّاه فيه حادّة. وعرق في الليل فلم يجد راحة. ثمّ اشتدّ جميع ما كان به في اليوم الثاني، ثمّ حُقِن نحو العشاء فخفّ بعض الخفّ، وبات ليلته ساكناً.
ولبث في اليوم الثالث منذ أوّله إلى وقت انتصاف النهار كأنّه لا حمّى به. فلمّا كان نحو العشاء هاجت به حمّى حادّة مع عرق وعطش وجفوف في اللسان، ثمّ بال بولاً أسود. وبات ثقيلاً، ولم ينم ليلته، ولم يزل في تخليط وهذيان. ثمّ اشتدّ كلّ ما كان به في الرابع، وبال بولاً أسود، ثمّ كان في الليل أخفّ، وكان بوله أحسن لوناً. فلمّا كان في الخامس نحو انتصاف النهار قطر من منخريه دم يسير صرف. وبال بولاً فيه أشياء متعلّقة مختلفة الأشكال، بعضها مستديرة وبعضها مذواة متشتّتة، ولم تكن تلك الأثفال ترسب. وعولج بشيافة فخرجت منه رياح قليلة ضعيفة. وكان نومه فيها يسيراً، وتكلّم كلاماً كثيراً هذياناً. وكان جميع أطرافه باردة لا تسخن بتّة. وبال بولاً أسود، ونام نوماً يسيراً نحو الصبح. ثمّ أسكت، وعرق عرقاً بارداً، واخضرّت أطرافه نحو انتصاف النهار. ومات في اليوم السادس. وكان نفس هذا في مرضه كلّه كنفس المنتبه متفاوتاً عظيماً، وكان طحاله ورم ورماً مستديراً، وكان يعرق في مرضه كلّه عرقاً بارداً، وكانت حمّاه تنوب في الأزواج.
قال جالينوس: إنّ الحافظ للمعاني الكلّيّة التي وصفتها في كتاب البحران يعلم من أمر هذا المريض أنّه قد تبيّن فيه في اليوم الثالث أنّ الموت حال. وذلك أنّه حمّ «منذ أوّل يوم حمّى حادّة»، ثمّ ظهر بعدها «عرق» فلم تنقص به «الحمّى»، لكنّه بات «بليلة صعبة»، «واشتدّ» أيضاً «كلّ ما كان به في اليوم الثاني»، «ثمّ بال في الثالثة بولاً أسود».
وقد كان الأمر الذي كان «في اليوم الأوّل» شاهداً رديئاً، وذلك من قبل أنّ «الأشياء التي يكون بها البحران، إذا كانت فلم يكن بها بحران، فإنّها ربّما دلّت على موت، وربّما دلّت على أنّ البحران يعسر». أمّا دلالتها على الموت فمتى ظهر بعدها شيء من الأعراض والعلامات التي تدلّ على الموت، وأمّا دلالتها على أنّ البحران يعسر فمتى لم يظهر شيء من العلامات الدالّة على الموت وبقيت العلامات التي تدلّ على أنّ الأخلاط لم تنضج.
إلّا أنّ فيلسقس هذا ظهرت فيه علامة تدلّ على الموت بعد «العرق» الذي كان فلم تنقص به «الحمّى»: «إنّه بال في اليوم الثالث بولاً أسود» مع ما أصابه من «العطش وجفوف اللسان والثقل في ليلته كلّها والأرق والاختلاط». ثمّ من بعد ذلك كان هذا، لمّا كان «اليوم الرابع اشتدّ كلّ ما كان به، وبال» أيضاً «بولاً أسود».
وينبغي أن تكون قد حفظتَ عنّي أنّه إذا كان في الرابع مثل ما يكون في الثالث من الأعراض الصعبة والعلامات الرديئة في مرض حادّ، فينبغي أن تتوقّع سرعة حدوث البحران. وإن كانت الحمّى تنوب وتشتدّ في الأزواج، فينبغي أن تتوقّع حدوث البحران في الأزواج، وإن كانت تنوب في الأفراد، توقّعتَه في الأفراد، وفي الوقت الذي يكون فيه البحران فيه يكون الموت في الأمراض القتّالة.
ولذلك «مات» فيلسقس «في اليوم السادس»، وإنّ نوائب حمّاه كانت تكون في الأزواج. وقد قال ذلك أبقراط في آخر اقتصاصه ما اقتصّ من أمر هذا
المريض حين قال: «وكان نفس هذا في مرضه كلّه كنفس المنتبه متفاوتاً عظيماً، وكان طحاله ورم ورماً مستديراً، وكان يعرق في مرضه كلّه عرقاً بارداً، وكانت حمّاه تنوب في الأزواج».
ولو كان مريض آخر قد ظهر فيه من الأعراض والعلامات ما ظهر في فيلسقس، ثمّ كانت قوّته أقوى من قوّة فيلسقس، وكانت الأعراض والعلامات التي ظهرت فيه أقلّ رداءة ودلالة على الموت من الأعراض والعلامات التي ظهرت في فيلسقس، لَما كان بالذي «يموت في السادس»، ولكنّه كان يموت في الثامن. فأمّا فيلسقس فلمّا كان يولّد «في اليوم الثالث والرابع بول أسود»، دلّ ذلك دلالة بيّنة على شدّة خبث مرضه، وعلى ذلك أيضاً دلّ «العرق البارد الذي يعرقه في مرضه كلّه».
ثمّ حقّق ما كان يتوقّع له من الهلاك الوحيّ «الدم الذي قطر من منخريه في اليوم الخامس»، وخاصّة لمّا كان ألحق في صفة ذلك الدم أنّه كان «صرفاً»، فقال هذا القول: «فلمّا كان في الخامس نحو انتصاف النهار قطر من منخريه دم يسير صرف». وإذا قال أبقراط «براز صرف» أو «قيء صرف»، فإنّما يعني الشيء الذي لا يخالطه غيره إذا كان يخرج بالبراز وبالقيء، المرار الأصفر محضاً لا يشوبه شيء أو المرار الأسود أو المرار الأخضر الزنجاريّ. فأمّا في ذكره «للدم» فإن فهمنا عنه من قوله «صرف» الدم الذي لا يخالطه شيء، وهو الأحمر الصادق الحمرة — فإنّ هذا اللون هو اللون الخاصّ للدم —، فهمنا عنه باطلاً. وذلك أنّه لا «يقطر من المنخرين» في حال من الأحوال دم أحمر صادق الحمرة في مرض
قتّال، لكنّ «الدم الذي يقطر» في ذلك المرض يكون أسود، فخليق أن يكون إنّما عنى بقوله «صرفاً» في هذا الموضع هذا الدم الأسود، وإنّما أراد «بالصرف» أيّ شديد السوداء.
وقد كان تبيّن من أمر هذا المريض في اليوم الثالث بياناً واضحاً أنّ مرضه مرض قتّال، لكنّه لم يكن يبيّن بعد متى يموت. فلمّا دام «البول الأسود» في اليوم الرابع وكانت «الحمّى تنوب في الأزواج»، فإنّه كان بين أمرين: بين أن تكون سنّه وقوّته محتملين للبقاء فيكون خليقاً أن يبقى إلى الثامن، وبين أن يكون على خلاف ذلك فيموت في السادس. لكنّ ما كان ظهر في اليوم الخامس بعد الذي كان ظهر «الدم الصرف الذي قطر من المنخرين» مع «العرق البارد» الذي ذكر أنّه «كان يعرقه في مرضه كلّه» وجب أن يتوقّع له ألّا يقوى على احتمال نوبة الحمّى الكائنة في اليوم السادس.
فهذه الأشياء كلّها نجدها موافقة للأحكام الكلّيّة التي حكمنا بها في أيّام البحران وفي البول والعرق وأعراض البحران، وما ذكر أيضاً من أمر النفس واختلاط العقل موافق للحكم الكلّيّ الذي حكم به في هذا. وذلك أنّه قال في كتاب تقدمة المعرفة هذا القول: «فأمّا النفس فمتى كان متواتراً، دلّ على التهاب في المواضع التي من فوق الحجاب، ومتى كان عظيماً وكان فيما بين الأنفاس مدّة طويلة، دلّ على اختلاط العقل». ثمّ قال في هذا الكلام إنّه أصاب فيلسقس «اختلاط في عقله»، فلمّا لم يذكر في اقتصاصه حال ما عرض له في نفسه من التغيّر، ألحق في آخر الاقتصاص أن قال: «وكان نفس هذا في مرضه كلّه كنفس المنتبه متفاوتاً عظيماً». وبيّن أنّه لا فرق بين قوله «متفاوت» وبين قوله «كانت فيما بين الأنفاس مدّة طويلة».
وأمّا قوله «كنفس المنتبه» فعنى به «كنفس المتذكّر المنتبه عن سهو». فقد بيّنت في كتابي في رداءة التنفّس أنّ «النفس» يصير «متفاوتاً عظيماً» بسبب فساد الذهن، لأنّ المريض في تلك الحال كأنّه يسهو عن أفعال وينساها، حتّى لا يكاد أن يدري متى ينبغي أن يمسك عنها ولا متى ينبغي أن يأخذ منها.
(١٩) قال أبقراط: سالينس الذي كان يسكن على الصخرة الملساء بالقرب من آل أوالقيس اشتغلت به حمّى من تعب وشرب ورياضة في غير وقتها. وبدأ به وجع في قطنه وثقل في رأسه وتمدّد في رقبته. وأسهله بطنه في أوّل يوم مراراً صرفاً عليه زبد مشبّع اللون كثيراً، وبال بولاً أسود فيه ثفل راسب أسود. وأصابه عطش ويبس في اللسان، ولم ينم ليلته أصلاً. ثمّ كانت في اليوم الثاني حمّاه حادّة وإسهاله أكثر وأرقّ وعليه الزبد، وكان بوله أيضاً أسود. وبات ليلته تلك ثقيلاً، وخلّط تخليطاً يسيراً. فلمّا كان في اليوم الثالث هاج به واشتدّ كلّ ما كان به. وأصابه تمدّد فيما دون الشراسيف من الجانبين مستطيل إلى ناحية السرّة شبيه بالخالي. وجاء منه براز رقيق مائل إلى السواد، وبال بولاً كدراً أسود. ولم ينم ليلته تلك أصلاً، وتكلّم كلاماً كثيراً معه ضحك وغناء وما كان يستطيع أن يمسك. وكان في الرابع على شبيه بتلك الحال. فلمّا كان في الخامس جاء منه براز من جنس المرار صرف دسم وبول رقيق ذو مستشفّ، وقليل ما كان يفهم. ثمّ إنّه في السادس عرق رأسه وما يليه عرقاً يسيراً، وبردت أطرافه واخضرّت، وأصابه قلق وتضرّب شديد، ولم ينطلق بطنه
البتّة، واحتبس بوله، وكانت حمّاه حادّة. فلمّا كان في اليوم السابع أسكت، وكانت أطرافه لا تسخن بتّة، ولم يبل أصلاً. ثمّ إنّه في اليوم الثامن عرق بدنه كلّه عرقاً بارداً، وخرجت فيه بعد العرق آثار حمر مستديرة صغار ناتئة بمنزلة البثور التي تخرج في الوجه، وكانت تبقى فلا تسكن. وخرج منه بتهييج يسير براز رقيق كأنّه غير منهضم كثير مع ألم، وبال بوجع بولاً لذّاعاً. وما كانت أطرافه تكاد تسخن إلّا سخونة يسيرة، وكان نومه نوماً خفيفاً سباتيّاً، وبقي على سكاته، وكان بوله رقيقاً ذا مستشفّ. ثمّ كانت حاله في التاسع شبيهة بتلك الحال. ثمّ صار في العاشر لا يقبل الشرب، وحدث له سبات ونوم خفيف. وخرج منه شبيه بالبراز الأوّل، وبال بولاً كثيراً دفعة إلى الثخن، وكان إذا لبث رسب فيه ثفل شبيه بسويق الجريش أبيض، وبردت أيضاً أطرافه. فلمّا كان في الحادي عشر مات. وكان نفس هذا منذ أوّل مرضه إلى آخره نفساً متفاوتاً عظيماً، وكان به فيما دون الشراسيف اختلاج دائم. وكانت سنّه نحو العشرين.
قال جالينوس: إنّ أبقراط ذكر في صفة هذا المريض «سنّه»، ولم يذكر ذلك في صفة المريض الأوّل.
وما حدث من موت المريض الأوّل في اليوم السادس قد كان واجباً إن كانت ظهرت فيه في المرض الحادّ الذي أصابه أعراض قتّالة ودلائل دالّة على الهلاك الأوّلَ منذ أوّل مرضه ودامت واتّصلت. وأمّا هذا المريض فإنّه وإن كانت حاله قد كانت شبيهة بحال المريض الأوّل منذ أوّل مرضه، لكنّه قد بقي إلى اليوم «الحادي
عشر» بفضل قوّة كانت فيه. وقد دلّ على ذلك أبقراط بذكر «سنّه»، ويجوز أن يكون قد كان فضل تلك القوّة فيه من وجوه أخر.
وذكر أبقراط بتركه السنّ في اقتصاصه حال المريض الأوّل، وهو فيلسقس، أنّ ذلك الرجل قد كانت سنّه السنّ التي قد تجاوزت المقدار من السنّ التي تكون منها القوّة قويّة. ولو أنّ مريضاً آخر ظهر فيه منذ أوّل مرضه من الأعراض والدلائل ما ظهر في هذا المريض، ثمّ لم تكن قوّته بالقويّة، لكان سيموت في اليوم السابع.
وقد كان هذا المريض أيضاً شارف الموت في اليوم السابع، ويدلّك على ذلك قول أبقراط: «إنّه لمّا كان اليوم السابع أسكت، وكانت أطرافه لا تسخن بتّة، ولم يبل أصلاً». فقد دلّك هذا على أنّه قد كان أشرف على الموت، لكنّه لمّا كانت قوّته قويّة، قوي على احتمال المرض إلى يوم البحران الذي بعد السابع، وهو «الحادي عشر».
وإلّا فإنّ المريض بحسب ما كان ظهر فيه في اليوم «الثالث والرابع» من الدلائل والأعراض التي هي في غاية الرداءة قد كان يجب أن يموت في السابع، إذ كانت نوائب مرضه في الأيّام الأفراد أزيد. وقد دلّ على ذلك أبقراط بقوله: «فلمّا كان في اليوم الثالث هاج واشتدّ به كلّ ما كان به»، ثمّ قال بعد هذا: «وكان في الرابع على شبيه بتلك الحال».
فلمّا قوي، كما قلت، على احتمال مرضه إلى أن جاوز السابع بفضل قوّة، حدثت له في اليوم الثامن مع «العرق» تلك «الآثار الحمر المستديرة الصغار الناتئة» من قبل أنّ طبيعته قد كانت بعد تقاوم المرض مجاهدة فتدفع نحو الجلد بعض الفضل من تلك الأخلاط الرديئة التي كانت في بدنه. ولذلك لم يمت في اليوم التاسع، لكن بقي إلى الحادي عشر. فإنّه لو كان لم يحدث في اليوم الثامن
من هذا الذي حدث أو شبهه شيء، لقد كان يجب أن يموت في التاسع، إذ كانت حاله قد كانت في اليوم السابع الحال التي وصف.
ولمّا كان هذا المريض قد «اختلط عقله» في مرضه، ألحق أبقراط في آخر اقتصاصه فيه أنّ «نفسه كان نفساً متفاوتاً عظيماً في مرضه كلّه». وذكر أيضاً أنّه «كان فيه اختلاج دائم فيما دون الشراسيف». وقد قال في كتابه في تقدمة المعرفة إنّ هذا الاختلاج يدلّ على اضطراب أو على اختلاط في العقل.
ويشبه أن يكون حدث بهذا المريض ورم في حجابه، ومن قبل ذلك قال في وصفه لحاله في اليوم الثالث: «وأصابه تمدّد فيما دون الشراسيف من الجانبين مستطيل إلى ناحية السرّة شبيه بالخالي». يعني «الشبيه بالخالي» «الشبيهة بالفارغ»، أيْ ليس معه الغلظ والنبور الذي يكون إذا كان في الأعضاء التي «فيما دون الشراسيف» ورم. فإنّه متى انجذب الموضع الذي «دون الشراسيف» إلى فوق بالورم الحادث في الحجاب لاتّصاله به، فإنّه «يتمدّد» من غير نبور.
وقد قال أيضاً في أوّل اقتصاصه إنّه أصاب هذا المريض «وجع في قطنه وثقل في رأسه وتمدّد في رقبته». وهذه الأعراض، متى كان المرض يؤول إلى الحال التي هي أردأ، تدلّ على «اختلاط» يحدث في «العقل». ولو كانت هذه الأعراض حدثت مع «أرق» من غير «ثقل في الرأس»، لقد كان هذا المريض ستؤول حاله إلى البرسام. لكنّ ذلك «الثقل» الذي عرض «في الرأس»، لمّا كان يدلّ على أنّ في الرأس أخلاطاً كثيرة مجتمّة ليست بالحارّة ولا بالقريبة من طبيعة المرار — ولولا ذلك لكان سيصيبه أرق —، دلّ على أنّ ذلك المريض تؤول حاله إلى
«السبات». وسنشرح أمر هذه الحال التي تجمع فيها «السبات واختلاط العقل» في تفسيرنا لأوّل قول قاله أبقراط في كتابه في تقدمة الأنباء.
والأجود فيما أحسب أن ألحق في قولي هذا معنى قد وصفته مراراً كثيرة في غير هذا الكتاب، وهو أنّ من ابتدأت به الحمّى من سبب ظاهر، ثمّ لم يكن في بدنه شيء مهيّئ لحدوث مرض، فإنّ «حمّاه» تلك تكون حمّى يوم.
وقد كانت ستكون «حمّى» سالينس هذا حمّى يوم، إذ كانت إنّما أصابته الحمّى «من تعب وشرب ورياضة في غير وقتها»، لولا أنّه قد كان شيء في بدنه يتقدّم فيهيّئ لإحداث المرض به. ويقدر أن يتعرّف ذلك من الأعراض التي حدثت به في اليوم الأوّل والثاني من مرضه. فإنّه لمّا قال: «إنّه اشتغلت به حمّى» — ومن عادة أبقراط، إذا قال «اشتغلت حمّى»، أن يدلّ على أنّها في غاية الشدّة —، ثمّ قال بعد: «وأسهله بطنه في أوّل يوم مراراً صرفاً عليه زبد مشبّع اللون كثيراً»، ثمّ قال بعد هذا: «وأصابه عطش ويبس في اللسان، ولم ينم ليلته أصلاً»، فدلّ ذلك على أنّه ظهر لسالينس هذا أعراض كثيرة قتّالة ودلائل تدلّ على الموت منذ أوّل يوم من مرضه، حتّى يقدر من رآها أن يفهم ويعلم أنّ «التعب والشرب والرياضة» إنّما كانت أسباباً بادئة متحرّكة لمرض سالينس.
وإنّ أولى الأشياء بالأسباب الظاهرة، إذ كانت إنّما تُظهر أذىً كان كامن في البدن قد كان سيمرضه. ولو لم تتقدّم تلك الأسباب أسباباً بادئة محرّكة، فأمّا متى كانت تلك الأسباب أسباباً متقدّمة منذ مدّة طويلة، فإنّها عند ذلك تستحقّ أن تسمّى أسباباً بقول مطلق.
وقد يمكن أن يكون سالينس هذا لبث زماناً طويلاً يتدبّر هذا التدبير، فكان تولّد ذلك المرض الذي حدث به عن ذلك التدبير. وذلك أنّه متى كان إنسان يتعب تعباً شديداً، وينضب فيما يعالجه «التعب» الذي يبلغ به الإعياء، «ويشرب» شراباً كثيراً، «ويرتاض في غير الأوقات» التي ينبغي أن يرتاض فيها — وذلك يكون إمّا بعد الطعام وإمّا وقد تأخّر انهضام الطعام من قبل أن يستحكم استحالة الغذاء إلى الدم —، فإنّه من قبل هذا التدبير يجتمع فيه فضل من المرار من قبل التعب وفضل نيّ غير نضيج من قبل «الشرب والرياضة في غير وقتها». وأصعب ما يكون من الأمراض ما يكون وقد اجتمع في البدن من هذين الخلطين فضل كثير.
(٢٠) قال أبقراط: إيروفون أصابته حمّى حادّة، وأسهله بطنه في أوّل الأمر شيئاً يسيراً من طريق الزحير، ثمّ أسهله بعد ذلك شيئاً رقيقاً إلى الكثرة ما هو من جنس المرار، ولم يكن يجيؤه نوم، وكان بوله بولاً أسود رقيقاً. فلمّا كان في اليوم الخامس منذ أوّله أصابه صمم، وهاج واشتدّ كلّ ما كان به، وورم طحاله، وحدث له تمدّد فيما دون الشراسيف، وأسهله بطنه شيئاً يسيراً أسود، واختلط عقله. ثمّ إنّه في السادس هذى، وأصابه في الليل عرق وبرد، وبات يهذي. ثمّ إنّه في السابع أصابه برد في أطرافه وظاهر بدنه وعطش، وبقي على اختلاطه، ثمّ إنّه في الليل عقل ونام. ثمّ إنّه في الثامن حمّ، ونقص ورم طحاله، وفهم جميع أمره، وأصابه أوّلاً وجع في حالبيه من جانب الطحال، ثمّ أصابه وجع في ساقيه كلتيهما، وبات ليلته تلك خفيفاً،
وبال بولاً حسناً وكان فيه ثفل راسب يسير. فلمّا كان في اليوم التاسع عرق، وأصابه بحران، وسكنت عنه الحمّى. فلمّا كان اليوم الخامس من ذلك اليوم عاودته الحمّى، وورم طحاله على المكان، وأصابته حمّى حادّة، وعاوده الصمم. ثمّ إنّه في اليوم الثالث من بعد معاودة الحمّى نقص ورم طحاله وصممه، وأصابه وجع في رجليه، فلمّا كان في الليل عرق. وتمّ له البحران في اليوم السابع عشر. ولم يختلط عقله من بعد معاودة الحمّى إيّاه.
قال جالينوس: لقد كان تخلّص هذا المريض من مرضه عجباً، وقد كان من رأى هذا المريض في الأيّام الأُول من مرضه يتوهّم عليه أنّه يموت معدوداً. وذلك أنّه بال «بولاً أسود» وانقطع اختلاف «المرار» الذي كان به فأعقبه «صمم»، فدلّ ذلك على أنّ ذلك المرار تصاعد إلى رأسه. وإذا كان ذلك كذلك، فمن الواجب حدث له «اختلاط العقل».
فأمّا «البول الأسود» الذي باله هذا المريض، وهو دليل رديء، فلم يظهر دليل محمود معادل له خلا أنّ «الطحال ورم في اليوم الخامس» من قبل أنّه قبل شيئاً من ذلك الخلط الذي كان في بدن ذلك المريض. ثمّ إنّ ذلك الفضل في اليوم الثامن انحدر من «الطحال» إلى «الرجلين» «فتنقّص ورم الطحال»، وحدث لذلك المريض من انحدار ذلك الفضل إلى الرجلين «أوّلاً وجع في الحالب» الأيسر، فإنّ هذا المحاذي للطحال، ثمّ في «الساقين كلتيهما».
ثمّ من بعد هذه الأعراض فبات ذلك المريض «ليلته خفيف» البدن، «وبال بولاً أحسن» لوناً وفيه «ثفل راسب» أبيض «يسير». ثمّ إنّه في اليوم الذي بعد هذا، وكان اليوم التاسع، أصابه «بحران بعرق». وهذا يدلّك على مبلغ قوّة انتقال
الأخلاط المؤذية إلى أسفل والنضج الذي ظهر في البول، لكنّه وإن كان الأمر كذلك، فإنّه لم يبلغ من قوّة ما وصفنا أن يكون به تخلّص ذلك المريض التامّ من مرضه «بالعرق» الذي عرقه في اليوم الرابع عشر، إذا حسبتَ الأيّام جملة.
فالرصد الذي رصد في أيّام البحران يوجد محفوظاً في هذا المريض أيضاً.
قصّة امرأة فيلينس:
(٢١) قال أبقراط: بثاسس امرأة فيلينس ولدت ابنة، وكان خروج دم النفاس منها على الأمر الطبيعيّ، وكانت حالها في سائر أمرها حال خفّ. فلمّا كان اليوم الرابع عشر منذ يوم ولادها اشتغلت بها حمّى مع نافض في ابتدائها وجع في الفؤاد والجانب الأيمن ممّا دون الشراسيف وأوجاع الأرحام، وانقطع الدم. فاحتملت بعض ما كانت تحتمل فخفّ ما كانت تجد ممّا ذكرت، وبقي بها وجع في الرأس والرقبة والقطن، ولم يكن يجيؤها نوم، وكانت أطرافها باردة، وكان بها عطش واحتراق في البطن. وما كان ينحدر منها إلّا اليسير، وكان بولها أوّل الأمر بولاً رقيقاً غير ملوّن. فلمّا كان في اليوم السادس اختلط عقلها في الليل اختلاطاً كثيراً، ثمّ عقلت وفهمت. فلمّا كان في اليوم السابع أصابها عطش، واختلفت مراراً مشبّع اللون. فلمّا كان في الثامن أصابها نافض وحمّى حادّة وتشنّج شديد مع وجع، وهذت هذياناً كثيراً وكانت تتوثّب، فاحتملت بشيافة فخرج منها ثفل كثير وجرى منها مرار، ولم يكن يجيؤها النوم. وأصابها في التاسع تشنّج. ثمّ إنّها في العاشر عقلت
قليلاً، وعاودها حفظها حتّى كان لا يغيب عنها شيء، ثمّ لم تلبث أن اختلط عقلها من الرأس. وكانت تبول مع تشنّج بولاً كثيراً دفعة في مرار قليلة بعد أن تذكّر، وكان بولها بولاً ثخيناً أبيض مثل ما يكون البول إذا رسب فيه ثفل، ثمّ حرّك حتّى يثور وكان يلبث موضوعاً مدّة طويلة فلا يصفو، وكان شبيهاً في لونه وثخنه ببول الدوابّ. وكلّ بول رأيته لها كذا كانت حاله. فلمّا كان نحو اليوم الرابع عشر أصابها اختلاج في بدنها كلّه، وتكلّمت كلاماً كثيراً، وكانت تعقل قليلاً، ثمّ لا يلبث أن يختلط عقلها. فلمّا كان في اليوم السابع عشر أسكتت. فلمّا كان في اليوم العشرين ماتت.
قال جالينوس: إنّ انتفاعك بهذه الصفة يكون من جهتين: أحدهما عامّ لهذا المريض وللمرضى الذين ذكروا قبله ويذكرون بعده، وهذا أمر أيّام البحران. والوجه الآخر خاصّ لهذا المريض، وهو أنّ هذه المرأة، لمّا «احتبس عنها دم النفاس»، حدث عليها من ذلك المرض والموت.
وكان «موتها في يوم العشرين» إذ كانت حالها في اليوم «الرابع عشر» وفي اليوم «السابع عشر» كانت أردأ منها في سائر أيّام مرضها.
وأمّا قوله «احتملت» فمتى أضاف إليه ذكر «الشيافة»، فمعنى مفهوم معروف، وإذا لم يسمّ شيئاً، فينبغي أن يفهم عنه إمّا الشيافة وإمّا الفرزجة على ما فهم قوم. وبيّن أنّ الفرزجة التي تستعمل في هذا الموضع فرزجة مسكّنة للوجع مانعة من حدوث الورم.
وينبغي أن تعلم هذا وتحفظه من أمر جميع النساء اللواتي احتبس عنهنّ دم النفاس: أنّ منهنّ من أصابتها شدّة شديدة وخطر عظيم حتّى أشرفن على الموت أو مَتنَ، ومنهنّ عدد قليل لم ينلهنّ من الأذى إلّا أمر يسير جدّاً. والسبب في ذلك أنّ أكثرهنّ يحدث به ورم في الرحم، ومنهنّ من يحدث به مع ذلك ورم في الكبد.
والدم أيضاً الذي يحتبس وينقطع استفراغه مختلف في حاله، وذلك أنّه في بعض النساء يكون الغالب عليه المرّة الصفراء أو المرّة السوداء، وفي بعضهنّ يكون الغالب عليه المائيّة أو البلغم، وفي بعضهنّ تكون حال ذلك الدم حالاً أمثل وأصلح قليلاً. وليس يمكن أن يكون ذلك الدم في وقت من الأوقات بالحال التي لا يذمّ معها أصلاً، وذلك أنّ أجوده قد نفد في غذاء الطفل المحمول.
وممّا يدلّ على طبيعة ذلك الدم الأعراض التي تحدث عند احتباسه [و]في وقت النفاس، كالحال الآن في هذه المرأة التي كلامنا فيها. وإنّ «النافض والحمّى الحادّة والعطش والمرار الذي جرى مع البراز واختلاط العقل والأرق» فأعراض تدلّ على غلبة الصفراء. فأمّا «الاختلاج والتشنّج والبول الشبيه ببول الدوابّ» فمن الأعراض التي تدلّ على غلبة الخلط النيّ الغليظ، وهذه هي أردأ ما يكون من الأمراض، أعني الأمراض التي يكون الغالب فيها على البدن هذان الخلطان معاً. وقد بيّنّا أنّ الحمّى التي يقال لها «المجانبة للغبّ» إنّما تكون عن هذين الخلطين. فهذا هو السبب في أن كان مرض هذه المرأة مرضاً ذا خطر.
فأمّا الأمر في عاقبة ذلك المرض، هل تتخلّص منه أو تموت، فقد يمكنك أن تستدلّ عليه منذ أوّل الأمر بالأعراض والدلائل التي ظهرت. فينبغي أن نتدبّر أمرها لتكون في ذلك رياضة الناظر فيه.
فأقول إنّه قال في اليوم الأوّل، وهو اليوم الرابع عشر من اليوم الذي ولدت فيه تلك المرأة، «اشتغلت بها حمّى ونافض». وقد علمنا أنّه متى قال في «الحمّى» إنّها «اشتغلت»، فإنّه يشير إلى أنّها حمّى في غاية الحرارة والناريّة، إلّا أنّ هذا بعد ليس هو يوجب لا محالة الهلاك. وكذلك أيضاً لا يوجبه «الوجع» الذي ذكر أنّه «عرض لها في فؤادها»، وهو يعني «بالفؤاد» فم المعدة، ولا «أوجاع الأرحام» أيضاً توجب ذلك، ولا «الوجع» الذي ذكر أنّه أصابها «في الجانب الأيمن ممّا دون الشراسيف»، وقال بعد هذا: «إنّه لم يكن يجيؤها النوم».
والاستدلال على رداءة ذلك المرض يتزيّد ويقوى من جميع هذه الدلائل، إلّا لم يتبيّن لنا منها أنّ الموت حادث لا محالة. وكذلك أيضاً ليس يوجب الموت ما كان بهذه المرأة من «العطش»، ولا أنّ بولها كان «بولاً رقيقاً غير ملوّن»، وذلك أنّ هذا البول إنّما يدلّ على أنّ المرض يحتاج إلى مدّة طويلة من الزمان حتّى ينضج، فأمّا على أنّ الموت حادث لا محالة فليس يدلّ. وقال: «إنّ أطرافها كانت باردة»، وهذا الدليل من الدلائل التي هي غاية القوّة من الدلالة على الهلاك، إذ كان في أوّل المرض مع حمّى شديدة القوّة.
ولو كنت أعلم أيّ مقدار كان مقدار قوّة هذه المرأة، لقد كنت أقدر أن أحكم بشيء في أمر مدّة مرضها أيضاً من هذه الأعراض التي تقدّم ذكرها، وأن أعلم هل كان في تخلّصها من مرضها مطمع، ولو يسير ضعيف، لكنّ هذا لا يتبيّن. ولكنّ الذي ينبغي أن تحفظه وتتمسّك به ويكون حاضراً لذهنك عند تفقّد
أمور المرضى هو أن تضيف إلى الأعراض التي تدلّ على الهلاك الشريطة التي تُشترط وتُحدّ من مقدار القوّة. فإنّك إذا سلكتَ هذا الطريق، قدرتَ أن تحكم حكماً صحيحاً حريزاً وثيقاً.
فأمّا هذه المرأة فدلّ ما عرض لها في اليوم الرابع عشر من «الاختلاج في بدنها كلّها واختلاط العقل» على أنّ الموت نازل بها إمّا في اليوم السابع عشر، وإمّا في اليوم العشرين، بحسب طبيعة أيّام البحران. فكان الأمران جميعاً قد كانا، وذلك أنّ هذه المرأة «أسكتت» في اليوم السابع عشر «وماتت في اليوم العشرين».
قصّة امرأة إبيقراطاس:
(٢٢) قال أبقراط: أمّا امرأة إبيقراطاس التي مرضت في منزل أرخيجاطس، لمّا حضر ولادها، اعتراها نافض شديد، ولم تكن تسخن كما ذكروا، وبقيت على ذلك يومها ومن الغد. فلمّا كان في اليوم الثالث ولدت ابنة، وكان جميع أمورها على ما ينبغي. فلمّا كان في اليوم الثاني من بعد ولادها أصابتها حمّى حادّة ووجع في الفؤاد وفي الأرحام. فاحتملت بعض ما تحتمل فخفّ عنها ما وجدت من ذلك، وبقي بها وجع في الرأس والقطن والرقبة، ولم يكن يجيؤها النوم. وكان يسهلها بطنها شيئاً يسيراً من جنس المرار رقيقاً صرفاً، وكان بولها بولاً رقيقاً يضرب إلى السواد. ثمّ إنّها في اليوم السادس من اليوم الذي اشتغلت بها فيه الحمّى اختلط عقلها في الليل. ثمّ إنّها في السابع هاج واشتدّ بها كلّ ما كان بها، وأصابها أرق
لذّاع مالح دائماً. فلمّا كان نحو السابع والعشرين أقلعت عنها الحمّى، وظهر في البول ثفل راسب، إلّا أنّها كانت تجد من الوجع شيئاً في الجنب. فلمّا كان في اليوم الرابع والثلاثين اشتغلت بها حمّى، واستطلق بطنها فجاء منها مرار. فلمّا كان في يوم الأربعين قاءت مراراً يسيراً، وأتاها البحران التامّ. وأقلعت عنها الحمّى في يوم الثمانين.
قال جالينوس: ذكر أنّه لمّا قرب «وقت ولاد» هذه المرأة، أصابها «نافض» من غير حمّى، واستثنى في قوله «كما ذكروا». وإنّما فعل ذلك لأنّ هذا كان عنده أمراً منكراً بديعاً، وذلك أنّ جميع القدماء إلّا الخطاء كانوا يرون أنّه لا بدّ من أن يتبع كلّ «نافض» ورعدة تحدث من غير سبب من خارج «حمّى». ومن ذلك أنّك تجد في صدر الكتاب الذي عنوانه «المقالة الأولى من كتاب أبقراط في الأمراض» مكتوباً أنّه لا بدّ من أن «تتبع النافض حمّى».
فأمّا أنا فقد بيّنت أنّ هذا النافض الذي لا تتبعه حمّى يتولّد من أخلاط باردة نيّة، وأنّه من قبل هذا صار في زماننا يحدث أكثر ممّا كان يحدث في الزمن الأوّل، وذلك أنّ من غلب عليه في جملة تدبيره الخفض والدعة، وكان يستعمل مع ذلك الحمّام بعد تناول الطعام، اجتمع في بدنه من ذلك الخلط الذي ذكرت شيئاً كثيراً.
ويشبه أن يكون قد كان في بدن امرأة إبيقراطاس من هذا الفضل شيء كثير. وممّا يدلّك على ذلك أنّه قال: «أصابها في اليوم الأوّل نافض من غير أن تسخن»، يعني من غير أن تحمّ، وأصابها «من غد» ذلك اليوم «على مثال» ما أصابها في اليوم الأوّل.
ثمّ «ولدت» في اليوم الثالث، ولعلّ «ولادها» قد كان تقدّم الوقت الصحيح الذي كان ينبغي أن يكون فيه بشدّة ذلك «النافض» وجبره. وممّا يدلّك على ذلك أنّه «في اليوم الثاني من بعد ولادها» أصابها فيما ذكر «وجع في فؤادها»، يعني فم معدتها، وأصابها أيضاً «وجع الأرحام».
ثمّ قال: «إنّها احتملت بعض ما تحتمل فخفّت». وقد قلت فيما تقدّم إنّه يمكن أن يفهم أنّ ذلك الشيء الذي «تحتمل» شيافة، ويمكن أن يفهم فرزجة، من أنّه من بعد عدّد أعراض تعرض في الأمراض الحادّة، منها «وجع الرأس والرقبة والقطن، ومنها الأرق والبراز الصرف»، فدلّ ذلك على أنّ الغالب كان في بدن تلك المرأة لم يكن الخلط النيّ فقط، لكن قد كان معه المرار الأصفر غالباً.
ولمّا كان «البول رقيقاً»، وجب ضرورة أن يطول المرض. وقال أيضاً: «إنّ البول كان يضرب إلى السواد»، وذلك كان دليلاً على الجهد واضطراب الحال التي كانت فيها. وبقيت هذه المدّة إلى اليوم الحادي عشر، ولم يتبيّن من أمرها هل تسلم، وذلك أنّه لم يكن إلى تلك الغاية دليل بيّن يتوقّع المتوقّع إمّا سلامة وإمّا موتاً. فلمّا كان في اليوم الحادي عشر ظهرت علامة تدلّ على السلامة، وهي التي قال فيها: «فلمّا كان في الحادي عشر بالت بولاً أحسن قليلاً وفيه الثفل الراسب، فكانت حالها حال خفّ أزيد».
فلمّا كان نضج الأخلاط لم يبتدئ إلّا بعد مدّة طويلة، وجب ضرورة أن يطول ذلك المرض. ولذلك أصابها «البحران» الأوّل يوم الأربعين، فصارت به إلى حال يؤمن عليها فيها الموت، ثمّ بقيت تتشكّى إلى يوم الثمانين. فلمّا كان في يوم الثمانين «أتاها البحران التامّ». وهذا ممّا فيه شهادة وتنبيه على أنّ يوم الأربعين ويوم الثمانين هما يوما البحران. وأوّل القول بأنّ أيّام البحران تحسب على حساب أسابيع تامّة قول باطل لا يرى كذلك في التجربة، لأنّه لو كان ذلك القول حقّاً، لكان البحران إمّا يأتي في اليوم الثاني والأربعين والثالث والستّين والرابع والثمانين، لا في يوم الأربعين والستّين والثمانين.
قصّة قلاانقطيدس:
(٢٣) قال أبقراط: قلاانقطيدس المريض الذي كان يسكن فوق هيكل إيرقليس اشتغلت به حمّى مختلطة. وكان به وجع منذ أوّل مرضه في رأسه وفي جنبه الأيسر، وكانت به أوجاع في سائر أعضائه على طريق ألم الإعياء. وكانت حمّاه تهيّج به في أوقات مختلفة على غير نظام. وكان العرق ربّما كان، وربّما لم يكن، فربّما كانت نوائب حمّاه أكثر ما تظهر في أيّام البحران خاصّة. فلمّا كان نحو اليوم الرابع والعشرين أصابه وجع في كفّيه، وقاء مراراً أحمر صالح القدر، ثمّ قاء بعد قليل مراراً في لون الزنجار، وخفّ جميع ما كان به. فلمّا كان نحو الثلاثين ابتدأ به رعاف من المنخرين كليهما، ولم يزل يكون في أوقات مختلفة مختلطة قليلاً قليلاً
إلى أن تمّ البحران. ولم يذهب عن هذا الرجل في مدّة علّته كلّها الشهوة، ولا كان به عطش ولا أرق، وكان بوله رقيقاً، إلّا أنّه لم يكن غير ملوّن. فلمّا كان نحو الأربعين بال بولاً يضرب إلى اللون الأحمر القانئ، وفيه ثفل راسب كثير باللون الأحمر القانئ، وخفّ. وصار بوله بعد ذلك يختلف فيكون مرّة فيه ثفل راسب ومرّة لا يكون فيه. فلمّا كان في الستّين ظهر في البول ثفل راسب كثير أبيض أملس، وخفّ جميع ما كان به، وصارت حمّاه تفارقه، ثمّ عاد بوله فصار رقيقاً، إلّا أنّه كان حسن اللون. وأقلعت عنه الحمّى في يوم السبعين، وأمسكت عنه عشرة أيّام. فلمّا كان في يوم الثمانين أصابه نافض، وأخذته حمّى حادّة، وعرق عرقاً كثيراً، وظهر في بوله ثفل راسب لونه لون الأحمر القانئ أملس، وأصابه بحران تامّ.
قال جالينوس: «إنّه اشتغلت بقلاانقطيدس حمّى»، يعني أنّه كانت حمّى شديدة. ثمّ قال إنّها كانت «مخلطة»، يعني أنّه لم يكن لها في دورها نظام، لكنّها كانت في المثل مرّة تنوب في اليوم الثالث أو في الرابع، ومرّة في اليوم الثاني أو في الخامس أو في السادس.
وكانت فيه علامات محمودة لازمة دائمة، وهي «شهوة الطعام والنوم وقلّة العطش والبول الذي ليس بعديم اللون». فإنّ أبقراط قد وصف أنّه كانت فيه هذه الدلائل بقوله: «ولم يذهب عن هذا الرجل في مدّة علّته كلّها الشهوة، ولا كان به عطش ولا أرق، وكان بوله، وإن كان رقيقاً، فإنّه لم يكن غير ملوّن».
وقد دلّت هذه الأشياء التي ذكرت أيضاً على أنّ الخلط الغالب كان في بدن ذلك الرجل لم يكن بالحارّ القريب من طبيعة المرار، وذلك أنّ المرار، متى غلب على البدن، كثر «العطش» وحدث «الأرق وقلّة شهوة الطعام».
ولو كان بول هذا الرجل ما كان عليه من «حسن اللون» ودوامه على تلك الحال كان معتدلاً في قوامه، لَما كان يطول مرضه، لكنّه كان خليقاً بأن ينقضي في يوم الأربعين. وكذلك أيضاً لو كانت فيه غمامة محمودة، لكان مرضه سيسكن عنه أسرع. فلمّا كان «بوله رقيقاً» ودام على تلك الحال، احتاج مرضه إلى مدّة طويلة من الزمان حتّى ينضج.
قال: «فلمّا كان نحو الأربعين بال بولاً يضرب إلى اللون الأحمر القانئ، وفيه ثفل راسب كثير». وقد قال هذا القول في كتاب تقدمة المعرفة: «إنّه ينذر من المرض مدّة أطول» من مدّة المرض الذي يكون فيه في البول ثفل راسب أبيض، إلّا أنّه يدلّ منه على «سلامة دلالةً قويّةً».
قال: «فلمّا كان من بعد الأربعين صار بوله مختلفاً، فيكون فيه مرّة ثفل راسب ومرّة لا يكون فيه»، وذلك موافق لِما كانت عليه «نوائب الحمّى من الاختلاف والاختلاط». فإنّ تلك النوائب إنّما كان اختلافها واختلاطها اختلاف الأخلاط المولّدة لها والنضج الذي كان يظهر في البول مرّة. وخلافه أخرى كان يدلّ على أنّ بعض تلك الأخلاط قد نضج وبعضها لم ينضج بعد. وممّا يدلّك على ذلك أنّه قال: «فلمّا كان في الستّين ظهر في البول ثفل راسب كثير أبيض أملس»، ثمّ أتبع ذلك بأن قال: «وخفّ جميع ما كان به، وصارت حمّاه مفارقة»، إلّا أنّه لمّا قال بعد: «ثمّ عاد بوله فصار رقيقاً، إلّا أنّه كان حسن اللون»، دلّ على أنّه قد
كانت بقيت من تلك الأخلاط أخلاط لم تنضج. فلمّا نضجت تلك الأخلاط قليلاً قليلاً حتّى استثبت النضج، كان «البحران التامّ» في اليوم الثمانين: «أصابه نافض، وأخذته حمّى حادّة، وعرق عرقاً كثيراً، وظهر في بوله ثفل راسب لونه اللون الأحمر القانئ أملس، وأصابه بحران تامّ».
وينبغي أن تنتبه من هذا الموضع وتحفظ 〈من〉 أمر «ملاسة الثفل الراسب في البول» أنّ قوّتها في الدلالة قوّة عظيمة جدّاً. فإنّه قد ذكر أنّه كان الثفل الراسب في بعض من مات فضلاً عن غيره أبيض، لكنّه كان خشناً. فقد قال في صفته لحال سالينس في هذه المقالة هذا القول: «وبال بولاً كثيراً دفعة إلى الثخن ما هو، إذا لبث، رسب فيه ثفل شبيه بالسويق الجريش أبيض»، على أنّ ذلك المريض، أعني سالينس، مات في يوم الحادي عشر، وكان بوله ذلك البول الذي وصف في يوم العاشر.
وينبغي أن تنتبه أيضاً وتحفظ من أمر دور أيّام البحران أنّ البحران المتقدّم كان في هذا المريض، أعني قلاانقطيدس، في يوم الستّين، لا في اليوم الثالث والستّين، ثمّ كان بعد البحران التامّ في يوم الثمانين، لا في اليوم الرابع والثمانين. فإنّ ذلك دليل على أنّ الأسابيع الثلاثة، إذا اجتمعت، لم يتمّ منها أحد وعشرون، لكنّها تنقضي في يوم العشرين.
قصّة ماطن:
(٢٤) قال أبقراط: ماطن اشتغلت به حمّى، وأصابه ثقل في قطنه مع وجع. وشرب في اليوم الثاني ماء كثيراً فخرج من بطنه خروجاً حسناً. ثمّ أصابه في اليوم الثالث ثقل في رأسه، وخرج منه براز رقيق من جنس المرار يضرب إلى الحمرة القانئة. فلمّا كان في الرابع اشتدّت علّته، وسال من منخره الأيمن دم مرّتين قليلاً قليلاً. وبات ليلته ثقيلاً، وكان برازه شبيهاً بما وصفت أنّه كان في الثالث، وبال بولاً يضرب إلى السواد، وكان فيه ثفل متعلّق يضرب إلى السواد متشتّت، وكان لا يرسب. فلمّا كان في الخامس جرى من منخره الأيسر دم غزير صرف، وعرق وأصابه بحران، إلّا أنّه بقي بعد البحران آرقاً، وكان يهذي، وكان بوله بولاً رقيقاً يضرب إلى السواد. فصُبّ على رأسه ماء حارّ كثير، فنام وعقل. ولم يعاود هذا الرجل مرضه، لكنّه أصابه رعاف مراراً كثيرة من بعد البحران.
قال جالينوس: إنّ قصّة هذا المريض يشهد على صحّة هذا القول العامّ الذي قيل: «إنّ سيلان الدم الغزير، إذا كان من المنخرين، يكون به التخلّص من المرض في أكثر الأمر». فإنّك ترى هذا المريض إنّما أتاه «البحران» وخلص «بالرعاف» فقط، على أنّه قد كانت ظهرت فيه دلائل غير بعيدة من الخطر، من ذلك أنّه قال: «إنّه بال في اليوم الرابع بولاً يضرب إلى السواد»، ثمّ أردف ذلك بأن قال: «وكان فيه ثفل متعلّق يضرب إلى السواد متشتّت، وكان لا يرسب». وفي اليوم الخامس
أيضاً بعد أن «رعف، وعرق، وأصابه البحران». قد كان على حال بوله، كما قال، «رقيقاً يضرب إلى السواد، وكان به أرق، وكان يهذي».
وعلّمك في مثل هذه الحال علاجاً من أقوى العلاج وأبلغه، وهو «صبّ الماء الحارّ الكثير على الرأس». وقد قال في كتابه في تدبير الأمراض الحادّة إنّه ينبغي أن يحذر الحمّام والماء الحارّ «أصحاب سيلان الدم، إلّا أن يكون بأقلّ ممّا يحتاج إليه». وهذا الدم الذي جرى من هذا الرجل قد كان أقلّ ممّا يحتاج إليه، إذ كان «بقي بعد به أرق، وكان يهذي».
وقال أيضاً في كتاب الفصول قولاً عامّيّاً: «إنّ الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ يجب أن تستفرغ من المواضع التي هي إليها أميل بالأعضاء التي تصلح لاستفراغها». فكان في هذا الذي كان من أمر هذا المريض شاهد على صحّة ذلك القول.
وينبغي أن تكون حافظاً أيضاً من أمر هذا المريض أنّه في اقتصاصه حاله في اليوم الثالث قال إنّه أصابه في ذلك اليوم «ثقل في رأسه»، فدلّ ذلك على أنّ الفضل مال إلى ناحية الرأس وثقّله.
وتحفظ أيضاً أنّ «الرعاف» ابتدأ به في اليوم الرابع إذ كان يوم بحران، ثمّ رعف «الرعاف غزيراً وعرق في اليوم الخامس» فاستتمّ فيه «البحران». وقد شرحت هذه الأشياء الشرح البالغ في كتابي في أيّام البحران.
وأمّا قوله في آخر اقتصاصه أمر هذا المريض «إنّه لم يعاود هذا الرجل مرضه، لكنّه أصابه رعاف مراراً كثيرة من بعد البحران» فإنّه قاله من قبل أنّ هذا المريض أتاه البحران من غير أن ظهرت في البول علامة النضج. وقد علمنا في هذه المقالة أنّ «النضج يدلّ على سرعة البحران ووثاقة الصحّة». «وأمّا الأشياء النيّة التي لم تنضج التي تؤول إلى خروج رديء فتدلّ إمّا على أنّه لا يكون بحران، وإمّا على أوجاع، وإمّا على طول من المرض، وإمّا على موت، وإمّا على عودة من المرض». فأمّا في هذا المريض فقد كانت الأخلاط بعد نيّة لم تنضج، لكنّها لم تمل فيه إلى خروج رديء.
فقد علّمنا أبقراط من أمر الخروج أنّ أحمده ما كان بطريق الاستفراغ، ثمّ الثاني بعده ما كان من أبعد المواضع من موضع العلّة وفي أسافل البدن.
قصّة إراسينس:
(٢٥) قال أبقراط: إنّ إراسينس الذي كان يسكن عند قناة بووطس اشتغلت به حمّى من بعد عشاء تعشّاه، وبات ليلته مضطرباً. ثمّ كان في النهار من ذلك اليوم الأوّل ساكناً هادئاً، ثمّ بات ليلته وجعاً. ثمّ اشتدّ في نهار اليوم الثاني جميع ما كان به، ثمّ اختلط عقله في الليل. ثمّ ثقل جدّاً في نهار اليوم الرابع. فلمّا كان في الليل لم ينم نوماً يعتدّ به، ولم يزل في أحلام مرّة وأفكار مرّة. وحاله تزيّدت رداءةً إلى أن
افتضت حاله إلى أعراض شديدة عظيمة الخطر، وعرض له تفزّع وخبث نفس. فلمّا كان في نهار اليوم الخامس منذ أوّله هدأ وعقل جميع أمره. فلمّا كان قبل نصف النهار بكثير جنّ حتّى كان لا يستطيع أن يمسك، وبردت أطرافه، واخضرّت، واحتبس بوله، ومات نحو مغيب الشمس. وكانت الحمّى تعرض لهذا الرجل دائماً مع عرق، وكان جنباه ممّا دون الشراسيف مشرفين، وكان فيهما تمدّد مع وجع. وكان بوله أسود، وكانت فيه أثفال متعلّقة مستديرة، ولم تكن ترسب، وكان ينحدر من بطنه براز. وكان به عطش دائم وليس بالشديد، وأصابه تشنّج شديد مع عرق عند الموت.
قال جالينوس: إن كان يعرض دائماً لإراسينس هذا «في مرضه كلّه عرق» لا يكون به فرج، وكان «جنباه ممّا دون الشراسيف» بالحال الرديئة التي وصفها، «وكان بوله أسود»، فأيّ مطمع كان في سلامته مع هذه الحال؟ فلعلّ ظانّاً يظنّ بحسب هذا أنّ ذكر حال هذا الرجل كان باطلاً، لأنّ كلّ من عرف حاله علم أنّ الموت حال به.
وأنا أقول إنّه خليق أن يكون إنّما وصف أمر هذا المريض ليجعله مثالاً لسرعة الموت فيمن يأتيه الموت بسرعة. وممّا يصحّح ذلك أنّه لمّا تقدّم فقال في كتاب تقدمة المعرفة: «أيّ البحران يأتي في الحمّيات في عداد بأعيانها من الأيّام سلم منها من سلم أو عطب منها من عطب»، ثمّ قال: «إنّ أسلم الحمّيات التي تظهر
فيها أوثق العلامات تنقضي في اليوم الرابع أو قبله»، أتبع ذلك بأن قال: «وأخبث الحمّيات التي تظهر فيها أردأ العلامات تقتل في اليوم الرابع أو قبله». إلّا أنّ إراسينس هذا، على أنّ جميع الأعراض التي عرضت فيه كانت أعراض رديئة، قد بقي إلى اليوم الخامس، وذلك لأنّ حاله كانت في اليوم الأوّل من مرضه حالاً خفيفة. فقد قال في صفة حاله في ذلك اليوم بهذا القول بهذا اللفظ: «ثمّ كان في النهار من ذلك اليوم الأوّل ساكناً هادئاً»، فيصير اليوم الخامس منذ أوّل أمره الذي «مات» فيه هو اليوم الرابع إذا ما لم يحسب اليوم الأوّل.
قصّة قريطن:
(٢٦) قال أبقراط: قريطن بثاسس أصابه وجع شديد في قدمه، فكان ابتدأ به من إبهامه، وهو يمشي برجليه ويتصرّف. فلزم الفراش، وأصابه من يومه قشعريرة وكرب، وسخن سخونة يسيرة، فلمّا كان في الليل اختلط عقله. ثمّ أصابه في اليوم الثاني ورم في قدمه كلّه، وأصابه حول الكعب حمرة مع تمدّد، وظهرت به هناك نفّاخات صغار سود. وعرضت له حمّى حادّة، وجنّ، وانطلق بطنه فجاء منه مرار صرف. ومات في اليوم الثاني منذ أوّل مرضه.
قال جالينوس: هذا المريض كان حقيقاً بأن يذكر بسرعة ما نزل به من الهلاك. ولو كان وصف الطريق الذي كان به موته، لقد كان حينئذ ذكره ينفع المنفعة التامّة.
فأمّا الآن فالذي يظهر بحسب ما وصف أنّه كان في بدنه امتلاء كثير. وإنّ الطبيعة قصدت أن تدفع ذلك الفضل الذي كان في بدنه من الأعضاء الشريفة إلى الرجل. فلمّا لم يحتمل ذلك العضو قبول جميع ذلك الفضل، تراجع ما بقي من ذلك الفضل فصعد إلى الرأس، وكان رديئاً خبيثاً فأحدث «اختلاط عقل» شبيهاً بالجنون. وممّا يدلّك على رداءة ذلك الفضل وخبثه أنّه ظهر على المكان «حول الكعب نفّاخات سود».
وإنّي لأعجب كيف لم يفصد أبقراط هذا الرجل منذ أوّل مرضه، ولكنّه يشبه أن يكون إنّما شاهد أبقراط أكثر هؤلاء المرضى الذين وصف حالاتهم بعد أن تمكّنت منهم أمراضهم.
قصّة قلازومينس:
(٢٧) قال أبقراط: قلازومينس الذي كان عند بئر فرينيخيدس اشتغلت به حمّى، وأصابه وجع في رأسه ورقبته وقطنه منذ أوّل مرضه. وأصابه على المكان صمم، ولم يكن يجيؤه النوم. وأخذته حمّى حادّة، ونفر الموضع الذي دون الشراسيف مع ورم ليس بالعظيم وتمدّد، وكان يجد في لسانه جفوفاً. فلمّا كان في اليوم الرابع في الليل اختلط عقله. واشتدّ وجعه في الخامس. فلمّا كان في السادس اشتدّ جميع ما كان به. ثمّ لمّا كان نحو الحادي عشر خفّ قليلاً. ولم يزل ينحدر من بطنه منذ أوّل مرضه إلى الرابع عشر أشياء رقيقة كثيرة بلون الماء، وكانت حاله فيما يخرج منه بالبراز حالاً أخفّ، ثمّ اعتقل بطنه. ولم يزل بوله رقيقاً، إلّا أنّه كان
حسن اللون كثيراً، وكان فيه ثفل متعلّق متشتّت، وكان لا يرسب. فلمّا كان نحو السادس عشر بال بولاً أثخن قليلاً، وكان فيه ثفل راسب يسير، وخفّ قليلاً، وكان عقله أمثل. فلمّا كان في اليوم السابع عشر بال أيضاً بولاً رقيقاً، وظهر عند أذنيه كلتيهما ورم مع وجع لم يكن يجيؤه معه نوم، وكان يهذي، وكان به وجع في رجليه. فلمّا كان في العشرين أقلعت عنه الحمّى، وأصابه بحران، إلّا أنّه لم يعرق، وكان يفهم جميع أمره. فلمّا كان نحو السابع والعشرين أصابه وجع شديد في وركه الأيسر وسكن عنه سريعاً. فأمّا الأورام التي كانت عند أذنيه فلم تكن تسكن ولا تتقيّح، إلّا أنّها كانت توجعه. فلمّا كان نحو الواحد والثلاثين أصابه ذرب فاختلف شيئاً كثيراً مائيّاً مع شيء شبيه بما يخرج في سحج الأمعاء، وبال بولاً ثخيناً، وسكنت الأورام التي كانت عند أذنيه. فلمّا كان في يوم الأربعين أصابه وجع في عينه اليمنى، ولم يكن يبصر بها إلّا بصراً ضعيفاً، وبرئ.
قال جالينوس: إنّ في قصّة هذا المريض لمعانٍ عامّيّة 〈مثالات〉 ليست باليسيرة وشاهداً على صحّتها. وإنّا نبتدئ بذكر «البول» الذي قال فيه في اقتصاصه حال ذلك المريض في اليوم الحادي عشر: «إنّه لم يزل بوله رقيقاً، إلّا أنّه كان حسن اللون كثيراً، وكان فيه ثفل متعلّق متشتّت، وكان لا يرسب». ولمّا وصف أيضاً تغيّر البول الذي حدث في اليوم «السادس عشر»، دلّ كلامه ذلك على أنّ البول كان منذ أوّل المرض بالصفة التي وصف أوّلاً وبقي على ذلك إلى اليوم السادس عشر، وكان أوّل تغيّره في ذلك اليوم، وذلك أنّه قال: «فلمّا كان نحو
السادس عشر بال بولاً ثخيناً قليلاً، وكان فيه ثفل راسب يسير». فتبيّن أنّ ذلك «البول الرقيق الحسن اللون» كان بحسن لونه يدلّ على أنّ ذلك المريض سيسلم من مرضه، وبرقّته يدلّ على أنّ مرضه يحتاج إلى مدّة طويلة حتّى ينضج.
ولم يكن ذلك المرض من نوع واحد من الأخلاط، لكنّه من أنواع شتّى. وممّا يدلّك على ذلك أنّه حين تقدّم فذكر تغيّر البول الحادث في السادس عشر قال: «فلمّا كان في اليوم السابع عشر بال أيضاً بولاً رقيقاً»، وذلك أنّه كان في ذلك اليوم بعينه «ظهر به عند أذنيه ورم». ولو كان ذلك الورم حدث بعقب بول نضيج، لقد كان البحران سيتمّ في يوم العشرين، لأنّ اليوم السابع عشر منذر بيوم العشرين. فلمّا لم يكن الأمر كذلك، كان بيوم العشرين بحران، إلّا أنّه لم يكن تامّاً ولا صحيحاً وثيقاً، لكنّ تلك «الأورام التي ظهرت عند الأذنين» بقيت وطال لبثها. وممّا يدلّك على ذلك أنّه قال في صفته للحال في اليوم السابع والعشرين هذا القول: «فأمّا الأورام التي كانت عند أذنيه فلم تكن تسكن ولا تتقيّح، إلّا أنّها كانت توجعه».
فلمّا «أصاب» ذلك المريض «الذرب نحو اليوم الواحد والثلاثين» مع خروج ما خرج من «الشيء الشبيه بما يخرج من صاحب سحج الأمعاء»، يعني الخراطة، وذلك أنّه يدلّ على حدّة تلك الأخلاط المحرّكة للاختلاف، «وبال» مع ذلك «البول الثخين، سكنت تلك الأورام التي كانت عند أذنيه». ولمّا تمادت به الأيّام، وهو على هذا الطريق، كان خروجه التامّ من مرضه في يوم الأربعين.
فينبغي أن تنتبه وتحفظ في أمثال هذه البحرانات أنّه ليس البحران الأخير فقط كان على حساب أدوار أيّام البحران، لكنّ البحرانات أيضاً التي كانت فيما بين أوّل المرض وانقضائه. فإنّ البحرانات الناقصة أيضاً في جميع المرضى، فضلاً على هذا المريض، إنّما تراها كانت في أيّام البحران، وكذلك أيضاً دلائل البحران التي ظهرت
في جميع هؤلاء المرضى. من ذلك أنّ هذا المريض «ظهرت به الأورام عند الأذنين» في اليوم السابع عشر، «وعرض له الذرب» في اليوم الواحد والثلاثين، وابتدأ به «وجع الورك الأيمن» في اليوم السابع والعشرين. فدفعت الطبيعة في ذلك اليوم الفضل إلى أسفل، إلّا أنّها لم تكن بعد قويت على أن تُنفذه فتُخرجه من البطن كما قويت من بعد أن جازت أربعة أيّام من ذلك اليوم. وقد وصفنا قبيل أنّ في يوم العشرين أيضاً قد كان بحران ناقص، ففي هذا دليل على أنّ الأشياء التي تظهر عياناً في المرضى تشهد على صحّة أدوار أيّام البحران.
قصّة امرأة دروميادس:
(٢٨) قال أبقراط: امرأة دروميادس ولدت بنتاً، وكان جميع أمرها في اليوم الأوّل على ما ينبغي. فلمّا كان في الثاني أصابها نافض وحمّى حادّة. وابتدأ بها منذ أوّل يوم من مرضها وجع فيما دون الشراسيف، وكان بها كرب وقلق، ولم تنم ليلتها ولا في الليلة التي بعدها. وكان نفسها نفساً متفاوتاً عظيماً، وانجذب ما دون الشراسيف على المكان إلى فوق. ثمّ إنّها في اليوم الثاني من اليوم الذي أصابها فيه النافض انحدر من بطنها براز على ما ينبغي، وبالت بولاً أبيض ثخيناً كدراً منثوراً، كما يكون في البول إذا حرّك حتّى يتثوّر [و]بعد أن يكون قد سكن وصفا، وكان يلبث موضوعاً مدّة طويلة فلا يسكن ويصفو. ولم تنم ليلتها تلك. فلمّا كان في اليوم الثالث نحو انتصاف النهار أصابها نافض وحمّى حادّة، وكان بولها شبيهاً بما وصفت، وكذلك الوجع فيما دون الشراسيف والكرب، وباتت ثقيلة ولم تنم، وعرق
بدنها كلّه عرقاً بارداً دائماً، ثمّ إنّها عادت سريعاً فسخنت. فلمّا كان في الرابع خفّ قليلاً ما كانت تجده فيما دون الشراسيف، وأصابها ثقل في الرأس مع وجع، وأسبتت، وقطر من منخريها دم يسير، وأصابها جفوف في لسانها وعطش، وبالت بولاً يسيراً رقيقاً دهنيّاً، ونامت نوماً يسيراً. وأصابها في الخامس عطش وكرب، وكان بولها شبيهاً بما وصفت، ولم ينحدر من بطنها شيء. فلمّا كان نحو انتصاف النهار اختلط عقلها اختلاطاً شديداً، ثمّ عاودها عقلها سريعاً ففهمت قليلاً وكانت لا تزال تنتبه، ثمّ تسبت، وعرض لها برد. وكان نومها بالليل يسيراً، واختلط عقلها. فلمّا كان في اليوم السادس منذ أوّله أصابها نافض، ولم تلبث أن سخنت، ولم تزل أطرافها باردة في مرضها كلّه، وعقلها يختلط، ونفسها عظيم متفاوت، ثمّ من بعد قليل ابتدأ بها تشنّج من رأسها، ولم تلبث أن ماتت.
قال جالينوس: هذه المرأة تبيّن من أمرها في اليوم الأوّل أنّ مرضها مرض «حادّ». فلمّا كان اليوم الثاني وظهرت فيه دلائل من الأعراض التي ظهرت في «البول»، فإنّ الذي تأتي تلك الدلائل قد كان أحرى بأن يتوقّع لها الموت سريعاً، لأنّ هذا «البول المنثور الذي لا يتميّز ويسكن بتّة» بول رديء قويّ الرداءة. وبقي أيضاً ذلك «البول» وتلك الأعراض كلّها في اليوم الثالث، فصحّحت توقّع الموت. فلمّا حدث في اليوم الرابع «قطرة من المنخرين» وصار «البول دهنيّاً»، وجب أن «تموت» في السادس. وذكر أيضاً في هذه المرأة أنّه «كان نفسها نفساً عظيماً متفاوتاً»، فقال «إنّ عقلها اختلط».
قصّة الرجل الذي تعشّى وهو محموم:
(٢٩) قال أبقراط: رجل كان قد سخن بدنه، فتعشّى وشرب فضل شرب، فتقيّأ جميع ما كان زرده. وأصابته في الليل حمّى حادّة ووجع في جنبه الأيمن فيما دون الشراسيف والتهاب هناك كالخالي من داخل، وبات ليلته مثقّلاً. وكان بوله منذ أوّل مرضه أحمر قانئاً فيه غلظ، وكان يلبث موضوعاً ولا يسكن ويصفو، وكان به في لسانه جفوف، ولم يكن بشديد العطش. وكانت حمّاه حادّة، وكانت به أوجاع في جميع أعضائه. فلمّا كان في الخامس بال بولاً أملس دهنيّاً ليس بالكثير، وكانت حمّاه فيه حادّة. فلمّا كان في اليوم السادس نحو العشاء اختلط عقله اختلاطاً كثيراً، ولم ينم أصلاً بالليل. فلمّا كان في اليوم السابع اشتدّ جميع ما كان به، وكان بوله على مثل ما ذكرت، وتكلّم كلاماً كثيراً ولم يكن يملك نفسه، وانحدر من بطنه بتهيّج شيء رقيق منثور مع حيّات، وبات ليلته وجعاً. وأصابه في السحر نافض وحمّى حادّة. وعرق عرقاً حارّاً، وظنّ من شاهده أنّ الحمّى قد أقلعت عنه. ولم ينم كثير نوم، وبعد النوم برد، وتبزّق. فلمّا كان نحو العشاء اختلط عقله اختلاطاً كثيراً، ثمّ تقيّأ بعد قليل شيئاً أسود يسيراً من جنس
المرار. فلمّا كان في التاسع عرض له برد، وهذى هذياناً كثيراً، ولم ينم، وأصابه وجع في رجليه، وكان كلّ ما تكلّم به هذياناً. فلمّا كان في الحادي عشر مات.
قال جالينوس: إنّ أوّل ما تستفيده وتتبيّن من هذه القصّة أنّه ينبغي منذ أوّل ما يبتدئ مرض من الأمراض أن تتحرّى وتحفظ ولا تتهاون به وتدع التحفّظ في التدبير، وإن رأيتَ مرض يسيراً خفيفاً. فقد نرى أنّ هذا الرجل «تعشّى» عشاء في غير وقته، وذلك أن «تعشّى وقد بدأت به حمّى»، على أنّ تلك الحمّى قد كانت حمّى يسيرة — فقد أشار إلى ذلك أبقراط بقوله «كان قد سخن» — فناله من تناوله ذلك الطعام في غير وقته ضرر.
وقال أيضاً: «إنّه شرب فضل شرب»، وذلك أنّه لم يعلم أنّ الذي كان به كان ابتداء مرض عظيم، فبالواجب «تقيّأ ما كان زرده، وأصابته حمّى حادّة» مع أعراض لا يستهان بمثلها، وبال «بولاً ثخيناً لا يصفو».
فلمّا كان في اليوم الخامس تبيّن أمره بياناً واضحاً أنّه يموت «بالبول الدهنيّ» الذي تقدّم من بعد الأعراض التي تقدّم ذكرها. وقال أيضاً إنّه بال ذلك «البول» في اليوم السابع. «ومات» هذا أيضاً في يوم من أيّام البحران، وهو اليوم الحادي عشر.
قصّة المرأة الحامل التي حمّت:
(٣٠) قال أبقراط: المرأة المريضة التي كانت على شطّ البحر كانت حاملاً منذ ثلاثة أشهر اشتغلت بها حمّى، وابتدأ بها وجع في قطنها منذ أوّل مرضها. فلمّا
كان في اليوم الثالث أصابها وجع في رقبتها ورأسها وترقوتها ويدها اليمنى. وعاجلها استمساك اللسان، وبطلت يدها اليمنى مع التشنّج على طريق الفالج، وكانت كلّ ما تكلّمت به هذياناً. وباتت ليلتها تلك ثقيلة ولم تنم، واستطلق بطنها فجاء منها مرار صرف يسير. فلمّا كان في اليوم الرابع انطلق لسانها، وانحلّ اعتقاله، وبقي بها ذلك التشنّج في تلك المواضع التي ذكرت والأوجاع، وحدث بها ورم فيما دون الشراسيف مع وجع. ولم تكن تنام، واختلط عقلها أصلاً، وكان بطنها مستطلقاً، وكان بولها رقيقاً غير حسن اللون. وكانت حمّاها في اليوم الخامس حادّة، وكانت تجد وجعاً فيما دون الشراسيف، وكان عقلها مختلطاً أصلاً، واختلفت مراراً. وعرقت في الليل، وأقلعت عنها الحمّى. فلمّا كان في السادس عقلت وفهمت جميع أمرها، إلّا أنّه بقي بها وجع في الترقوة اليسرى، وكان بها عطش، وكان بولها رقيقاً، ولم تنم. فلمّا كان في السابع أصابها ارتعاش، وسبتت قليلاً، واختلط عقلها، ودامت بها أوجاع في الترقوة. فأمّا سائر حالاتها فكانت أخفّ، وكانت تعقل وتفهم جميع أمرها، وأمسكت عنها الحمّى وبقيت منها. فلمّا كان في الحادي عشر عاودتها، وأصابها نافض، واشتغلت بها حمّى. فلمّا كان نحو الرابع عشر قاءت مراراً أحمر إلى الكثرة ما هو، وعرقت، وأقلعت عنها الحمّى، وتمّ لها البحران.
قال جالينوس: ما كانت هذه المرأة لتسلم من مثل هذه الأعراض لولا أنّها شابّة قويّة، لأنّ جميع هذه الأعراض التي ذكر أعراض في غاية الخطر. وإنّي لأعجب كيف لم يذكر أبقراط شيئاً من أمر سنّ هذه المرأة. وينبغي لك أن تنتبه على هذا الذي قال وتحفظه، كيما تعلم أنّه قد يجوز أن تسلم في الندرة واحدة من الحوامل من مثل هذه الأمراض من غير أن تُسقط طفلها.
وينبغي أن تحفظ هذا أيضاً أنّ الجنين الذي قد أتت عليه «ثلاثة أشهر» أو أربعة أحمل وأبعد من قبول الآفات ثَمّ من سائر الأجنّة. وتعلّم أبقراط بهذا فقال في كتاب الفصول: «ينبغي أن تسقى الحامل الدواء، إذا كانت الأخلاط في بدنها هائجة، منذ تأتي على الجنين أربعة أشهر وإلى أن تأتي عليه سبعة أشهر، ويكون التقدّم على هذا أقلّ. وأمّا ما كان أصغر من ذلك أو أكبر منه فينبغي أن يتوقّى عليه».
فأمّا الجنين الذي هو أصغر فإنّ الرباطات التي يتّصل بها من الرحم ضعيفة وبدنه أيضاً كلّه ليّن رخو. فأمّا الجنين الذي قد قارب أن يتولّد فلعظمه احتاج إلى غذاء كثير، فإذا عدم ذلك في الأمراض الحادّة، وكثيراً ما يعرض له ذلك فيها، عطب. ولذلك إصابة تدبير المرأة التي في بطنها جنين عظيم وبها مرض حادّ التدبيرَ الذي ينبغي من أصعب الأمور، وذلك أنّك إن قلّلتَ غذاءها ولطّفتَه، كما يفعل بالمرأة التي ليست حاملاً، هلك الجنين، فإن جُدتَ بالتدبير نحو الجنين فزِدتَ في الغذاء وغلّظتَه، لم يؤمن على الحامل نفسها العطب. ولذلك صار الطفل الذي قد أتى عليه «ثلاثة أشهر» أو أربعة أحرى أن يسلم من غيره.
فأمّا في هذه «المرأة» التي كلامنا فيها، على أنّ «بولها» كان في مرضها «رقيقاً غير حسن اللون»، فإنّها قد تخلّصت على حال لقوّة طبيعتها. وهي التي أحدثت «العرق» في الليلة الخامسة فسكّنت به «الحمّى»، إلّا أنّه لم يكن يمكن أن يكون بها البحران صحيحاً حريزاً، والمرض كان لم ينضج بعد. ولذلك بقيت بها أعراض كثيرة من أعراض المرض في الأيّام التي بعد الخامس إلى اليوم الحادي عشر.
ثمّ «عاود» المرض في ذلك اليوم مع «النافض»، وأتى «البحران» بعد «القيء وعرق على التمام»، وذلك أنّ الأعراض التي حدثت منذ أوّل اليوم الخامس إلى الحادي عشر إنّما كانت أعراضاً بجنس العصب، لا بجنس العروق. وممّا يدلّك على ذلك أنّه قال: «أصابها في السابع ارتعاش، وأسبتت قليلاً، واختلط عقلها».
وأمّا الأخلاط التي كانت في العروق فكانت حالها تتزيّد صلاحاً وتنضج من بعد البحران الذي كان في اليوم الخامس. وممّا يدلّك على ذلك أنّه لمّا وصف حال «البول» في السادس، قال «إنّه كان رقيقاً» فقط، ولم يقل، كما قال قبل، «إنّه كان غير حسن اللون». فينبغي أن تحفظ هذا إذ كان ممّا ينتفع به. وتحفظ أيضاً من أمر اليوم الخامس أنّه يكون فيه بحران ذو خطر. وممّا يصحّح ذلك عندك أنّه قد ذكر قبل مريضاً آخر أتاه البحران في الخامس برعاف، وذكر في هذه «المرأة» التي كلامنا فيها أنّه أتاها «البحران» في الخامس «بعرق»، على أنّ مرضهما جميعاً لم يكن ينضج في ذلك اليوم بعد، ولذلك لم يكن البحران تامّاً.
قصّة ماليديا:
(٣١) قال أبقراط: ماليديا المريضة التي كانت عند هيكل إيرا ابتدأ بها وجع شديد في رأسها ورقبتها وصدرها، وأخذتها على المكان حمّى حادّة، وبدا من الطمث شيء يسير، فكانت أوجاع تلك المواضع كلّها دائمة. فلمّا كان في السادس أصابها سبات وكرب واقشعرار وحمرة في الوجنتين، واختلط عقلها قليلاً. فلمّا كان في السابع عرقت، وأقلعت عنها الحمّى ولم تزل ساكنة عنها والأوجاع باقية بها، ثمّ عاودتها الحمّى، وكان نومها يسيراً. وكان بولها في مرضها كلّه حسن اللون، إلّا أنّه كان رقيقاً، وكان برازها رقيقاً من جنس المرار لذّاعاً. ثمّ ظهر في بولها ثفل راسب أبيض أملس. وعرقت، وتمّ لها البحران في الحادي عشر.
قال جالينوس: إنّ أبقراط لم يصف في اقتصاصه أمر هذه المرأة حال بولها في أوّل اقتصاصه، ثمّ إنّه قال في آخر اقتصاصه: «إنّ بولها كان في مرضها كلّها حسن اللون، إلّا أنّه كان رقيقاً». وليس يمكن أن يكون «الرقيق» الصحيح من «حسن اللون» على الحال الطبيعيّة، لأنّ البول «الحسن اللون» هو البول الذي معه من اللون الأصفر «الرقيق» مقدار معتدل، والبول الذي هو في غاية الرقّة أبيض. وإنّما ينبغي أن يفهم أنّه كان مع بول هذه المرأة من «حسن اللون مع الرقّة» هذا هو معنى قوله «وكان بولها في مرضها كلّه حسن اللون، إلّا أنّه كان رقيقاً».
وقد ظهر لك أيضاً من أمر هذه المرأة أنّها تخلّصت بفضل قوّة كانت في طبيعتها.